الكتاب: إعراب القرآن وبيانه المؤلف: محيي الدين بن أحمد مصطفى درويش (المتوفى: 1403هـ) الناشر: دار الإرشاد للشئون الجامعية - حمص - سورية، (دار اليمامة - دمشق - بيروت)، (دار ابن كثير - دمشق - بيروت) الطبعة: الرابعة، 1415 هـ عدد المجلدات: 10   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير] ---------- إعراب القرآن وبيانه محيي الدين درويش الكتاب: إعراب القرآن وبيانه المؤلف: محيي الدين بن أحمد مصطفى درويش (المتوفى: 1403هـ) الناشر: دار الإرشاد للشئون الجامعية - حمص - سورية، (دار اليمامة - دمشق - بيروت)، (دار ابن كثير - دمشق - بيروت) الطبعة: الرابعة، 1415 هـ عدد المجلدات: 10   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير] ـ[إعراب القرآن وبيانه]ـ المؤلف: محيي الدين درويش الناشر: دار الإرشاد للشئون الجامعية - حمص - سورية، (دار اليمامة - دمشق - بيروت) ، (دار ابن كثير - دمشق - بيروت) الطبعة: الرابعة، 1415 هـ عدد الأجزاء: 10 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير] ترجمة المؤلف (*) محيي الدين درويش (1326 - 1403 هـ = 1908 - 1982 م) محيي الدين بن أحمد مصطفى درويش. ولد في مدينة حمص (سورية) ، وفيها توفي. عاش في سورية. تلقى علومه في مدارس حمص، حيث كانت في ذلك الوقت عبارة عن كتاتيب يتلقى فيها طلاب العلم القرآن الكريم وعلومه، ظهرت نجابته فأنهى دراسته للقرآن الكريم وهو في سن العاشرة؛ مما أهله للالتحاق بمدرسة دار المعلمين العليا في دمشق. عمل مدرسًا للأدب العربي في مدارس حمص التجهيزية بعد أن اختارته وزارة المعارف لهذا العمل في عام 1932م، وفي عام 1963 م أصدر مجلة «الخمائل الأدبية» التي كانت متنفس الأدباء والشعراء داخل القطر السوري وخارجه، وكان قد رأس تحرير عدد من الجرائد. كان عضوًا في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية. من أعماله: - إعراب القرآن وبيانه - دار ابن كثير - دمشق 1988 - تحقيق «ديوان ديك الجن» بالاشتراك - مطابع الفجر - حمص 1960 - الرواد الأوائل للشعر في مدينة حمص - مجلة العمران العددان (27 و28) - حمص مارس 1969 - نشرت له مجلة الخمائل عددًا من المقالات منها: * الشريف الرضي في غزله - العدد (21) - سبتمبر 1962 * الصور الفنية المقتبسة من القرآن - العدد (14) - يناير 1963 * أبو العلاء المعري في رسالة الغفران - في عشر حلقات منذ عام 1964. الإنتاج الشعري: - أورد له كتاب «الحركة الشعرية المعاصرة في حمص» العديد من النماذج الشعرية - أورد له كتاب «من أعلام حمص» نماذج من شعره - نشرت له مجلة «الرسالة» عددًا من القصائد منها: * «بقية حلم» - العدد (166) - القاهرة سبتمبر 1936، * «مساء القرية» - العدد (173) - القاهرة أكتوبر 1936 - نشرت له مجلة الخمائل عددًا من القصائد منها: * «اليتيم» - العددان (25 و26) - حمص ديسمبر 1964. مصادر الدراسة: 1 - أدهم آل جندي: أعلام الأدب والفن (جـ 2) - مطبعة الاتحاد - دمشق 1958. 2 - عبد القادر عياش: معجم المؤلفين السوريين في القرن العشرين - دار الفكر - دمشق 1985. 3 - عبد المعين الملوحي: بلدي الصغير الحبيب حمص - غرفة التجارة والصناعة - حمص 2002. 4 - محمد غازي التدمري: الحركة الشعرية المعاصرة في حمص1900 - 1956 - مطبعة سورية - دمشق 1980. : من أعلام حمص (جـ 1) - دار المعارف - حمص 1999. 5 - لقاء أجراه الباحث أحمد هواش مع عبد المعين الملوحي أحد تلاميذ المترجم له - حمص 2003   (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: الترجمة ليست في المطبوع بل نسختها من معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين [المجلد الاول] مقدمة أما بعد حمد الله على آلائه، والصلاة والسلام على خاتمة رسله وأنبيائه، فهذا كتاب «اعراب القرآن وبيانه» ، أتيح له أن يظهر بعد أن طال احتجابه، وكثر طلابه، ولعله أول كتاب جمع البيان فأوعى، ورسم لشداة الآداب السبيل الأقوم والأسنى، ولست أدل به لأنه عن أئمة البيان مقتبس، وفيه لمن رام البيان نعم الملتمس، ولن أتحدث عنه فهو أولى بالحديث عن نفسه، والمسك ما قد شف عنه ذاته ... لا ما غدا ينعته بائعه وقد جعلته بعدد أجزاء القرآن الكريم، ليسهل تناوله فلا يحتاج مقتنيه إلى كتاب في الإعراب والبيان، وقد قطعت جهيزة قول كلّ خطيب بعد الآن. محيي الدين الدرويش جمادى الأولى 1400 حمص نيسان 1980 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 أعوذ بالله من الشيطان الرجيم اللغة: (أعوذ) : أعتصم وأمتنع (الشيطان) : إمّا أن يكون على وزن فعلان من شاط يشيط بقلب ابن آدم أي مال به وأهلكه، وإمّا أن يكون على وزن فيعال من شطن أي بعد كأنه بعد عن الخير أو بعد غوره في الشّر. (الرجيم) : فعيل بمعنى مفعول والمرجوم في اللّغة: المطرود الملعون أو فعيل بمعنى فاعل أي يرجم غيره بالإغواء والتضليل وإلقاء النفس في المتالف. الإعراب: (أعوذ) فعل مضارع مرفوع وهو فعل معتل أجوف لأن عين الفعل واو والأصل أعوذ على وزن أفعل فاستثقلت الضمة على الواو فنقلت الى العين فصارت أعوذ وهذه علّة ما كان من هذا الباب وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره: أنا. (بالله) : جار ومجرور متعلقان بأعوذ (من الشيطان) جار ومجرور متعلقان بأعوذ أيضا ومن لابتداء الغاية كما أن إلى لمنتهى الغاية فإذا قلت: لزيد من الحائط إلى الحائط فقد بيّنت به طرفي ماله، وإذا قال الرجل: لزيد عليّ من واحد الى عشرة فجائز أن يكون عليه ثمانية إذا أخرجت الحدّين وجائز أن يكون عليه عشرة إذا ادخلت الحدّين معا، وجائز أن يكون عليه تسعة إذا أدخلت حدّا وأخرجت حدّا. (الرجيم) نعت حقيقي للشيطان وجملة الاستعاذة ابتدائية لا محل لها من الإعراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) سورة الفاتحة مكّيّة وهي سبع آيات [سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7) اللغة: (اسم) اختلف علماء اللغة في اشتقاق الاسم فذهب البصريّون إلى أنه من السّموّ وهو العلوّ وذهب الكوفيون إلى أنه مشتق من السّمة وهي العلامة وكلاهما صحيح من جهة المعنى وفيه خمس لغات: اسم بكسر الهمزة، واسم بضمها، وسم بكسر السين، وسم بضمها، وسمى بوزن هدى، هذا والاسم هو واحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون فإذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة تفاديا للابتداء بالسّاكن لسلامة لغتهم من كل لكنة وإذا وقعت في درج الكلام لم تفتقر إلى شيء. (الله) علم لا يطلق إلا على المعبود بحقّ خاص لا يشركه فيه غيره وهو مرتجل غير مشتق عند الأكثرين واليه ذهب سيبويه في أحد قوليه فلا يجوز حذف الألف واللام منه وقيل: هو مشتق وإليه ذهب سيبويه أيضا ولهم في اشتقاقه قولان: آ- ان أصله إلاه على وزن فعال من قولهم: أله الرّجل يأله إلاهة أي عبد عبادة ثم حذفوا الهمزة تخفيفا لكثرة وروده واستعماله ثم أدخلت الألف واللام للتعظيم ودفع الشّيوع الذي ذهبوا إليه من تسمية أصنامهم وما يعبدونه آلهة من دون الله. ب- أن أصله لاه ثم أدخلت الألف واللام عليه واشتقاقه من لاه يليه إذا تستر كأنّه، سبحانه، يسمّى بذلك لاستتاره واحتجابه عن إدراك الأبصار وما أجمل قول الشريف الرّضي الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 «تاهت العقلاء في ذاته تعالى وصفاته، لاحتجابها بأنوار العظمة. وتحيّروا أيضا في لفظ الجلالة كأنه انعكس إليه من تلك الأنوار أشعة بهرت أعين المستبصرين، فاختلفوا: أسريانيّ هو أم عربي؟ اسم أو صفة؟ مشتقّ وممّ اشتقاقه؟ وما أصله؟ أو غير مشتق؟ علم أو غير علم؟» . (الرَّحْمنِ) : صيغة فعلان في اللغة تدل على وصف فعليّ فيه معنى المبالغة للصفات الطارئة كعطشان وغرثان. (الرَّحِيمِ) صيغة فعيل تدل على وصف فعليّ فيه معنى المبالغة للصفات الدائمة الثابتة ولهذا لا يستغنى بأحد الوصفين عن الآخر. الإعراب: (بِسْمِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف والباء هنا للاستعانة أو للالصاق، وتقدير المحذوف أبتديء فالجار والمجرور في محل نصب مفعول به مقدم أو ابتدائي فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف وكلاهما جيد و (اللَّهِ) مضاف اليه و (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) صفتان لله تعالى وجملة البسملة ابتدائية لا محلّ لها من الإعراب. البلاغة: في البسملة طائفة من فنون البلاغة: آ- الأولى في متعلق بسم الله أن يكون فعلا مضارعا لأنه الأصل في العمل والتمسّك بالأصل أولى ولأنه يفيد التجدّد الاستمراري وإنما حذف لكثرة دوران المتعلق به على الألسنة وإذا كان المتعلق به اسما فإنه يفيد الديمومة والثبوت كأنما الابتداء باسم الله حتم دائم في كل ما نمارسه من عمل ونردده من قول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 ب- الإيجاز بإضافة العام إلى الخاص ويسمى إيجاز قصر. ح- إذا جعلنا الباء للاستعانة فيكون في الكلام استعارة مكنية تبعية لتشبيهها بارتباط يصل بين المستعين والمستعان به وإذا جعلنا الباء للالصاق فيكون في الكلام مجاز علاقته المحلية نحو مررت بزيد أي يمكان يقرب منه لا يزيد نفسه. الفوائد: في البسملة فوائد لا يجوز الجهل بها ومنها: آ- اعلم أن البسملة آية من سورة الحمد وآية من أوائل كل سورة عند الشافعي وليست آية في كل ذلك عند مالك وعند أبي حنيفة وأحمد بن حنبل هي آية من أول الفاتحة وليست آية في غير ذلك، والاحتجاج لذلك مبسوط في كتب الفقه والتفسير فارجع إليها. ب- لم يوصف بالرحمن في العربية بالألف واللام إلا الله تعالى، وقد نعتت العرب مسيلمة الكذاب به مضافا فقالوا: رحمان اليمامة. قال شاعر منهم يمدح مسيلمة: سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا ... وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا ح- تكتب بسم الله بغير ألف في البسملة خاصة استغناء عنها بباء الاستعانة بخلاف قوله تعالى: «اقرأ باسم ربك الذي خلق» . د- تحذف الألف من الرحمن لدخول الألف واللام عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 هـ- يقال لمن قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ: مبسمل وهو ضرب من النحت اللغوي وقد ورد ذلك في شعر لعمر بن أبي ربيعة: لقد بسملت ليلى غداة لقيتها ... فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمل ومثل بسمل حوقل إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله وهيلل إذا قال: لا إله إلا الله وسبحل إذا قال: سبحان الله وحمدل إذا قال: الحمد لله وحيصل وحيعل إذا قال: حي على الصلاة وحي على الفلاح وجعفل إذا قال: جعلت فداك. هذا والنحت عند العرب خاص بالنسبة أي أنهم يأخذون اسمين فينحتون منهما اسما واحدا فينسبون إليه كقولهم: حضرميّ وعبقسيّ وعبشيّ نسبة إلى حضرموت وعبد القيس وعبد شمس على أن الفراء ذكر عن بعض العرب: معي عشرة فأحد هنّ لي أي صيرهنّ أحد عشر، وقال الفراء: معنى اللهمّ: يا الله أمّنا بخير أي اقصدنا بخير فكثرت في كلام العرب ونحت العرب من اسمين فقيل عن الصّلدم إنه من الصّلد والصّدم ومنه بلحارث لبني الحارث ولعل الحقّلد وهو السّيء الخلق والثقيل الروح منحوت من الحقد والثقل ونحتوا من فعل وحرف فقالوا: الأزليّ وهو منحوت من لم يزل، ونحتوا من اسم وحرف فقالوا: من من لا شيء تلاشى ونحتوا من حرفين فقال الخليل: إن كلمة (لن) منحوتة من لا وأن وانها تضمّنت بعد تركيبها معنى لم يكن في أصليها مجتمعين وانما أوردنا هذه الأقوال، لا لأنها قاطعة فهي موضع خلاف كما رأيت، ولكننا استأنسنا بها لتتوافر هم المشتغلين باللّغة على النحت ففيه ثروة جديدة للغتنا وتسهيل لكثير من التعابير الحديثة التي نفتقر إليها، فالنحت من أبرز الظواهو في اللغات الأجنبية الحديثة بفضل ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 يلحق بالأصل من لواحق سابقة أو لاحقة، أو بفضل ما يعطونه للغتهم من مرونة حين يؤلفون كلمة جديدة من اسمين أو صفتين أو فعلين حى إذا تألفت الكلمة، وأعطت مدلولا خاصا سارت على الأفواه كل مسير، ومن أمثلة ذلك في اللغة الفرنسية قولهم المؤلف من فعل واسم- للمنديل المعد لتنشيف الأيدي وقولهم المؤلف من فعلين:- للإذن المكتوب للمرور وقولهم المؤلف من اسمين: لنوع من طير صغير وغيرها. وكانت قريش قبل البعثة تكتب في أول كتبها: «باسمك اللهمّ» وكان أميّة بن أبي الصّلت أول من كتب باسمك اللهم إلى أن جاء الإسلام ونزلت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وروى محمد بن سعد في طبقاته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب كما تكتب قريش: باسمك اللهم حتى نزل قوله تعالى: «وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها» فكتب: باسم الله حتى نزل قوله تعالى: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ» فكتب باسم الله الرحمن حتى نزل قوله تعالى: «إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» فكتب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 اللغة: (الْحَمْدُ) : الثناء بالجميل والنداء عليه باللسان، والشكر هو الثناء على النعمة خاصة فبينهما عموم وخصوص (رَبِّ) الرب: هو السيّد والمالك والثّابت والمعبود والمصلح وزاد بعضهم الصّاحب مستدلا بقوله: فدنا له رب الكلاب بكفّه ... بيض رهاف ريشهنّ مقزّع والمربي: الذي يسوس من يربيه ويدبره فهو اسم فاعل حذفت ألفه كما قيل: بارّ وبرّ وقيل: مصدر وصف به ويقيّد بالاضافة نحو رب الدّار من ربّه يربّه وقيل: هو صفة مشبّهة مصوغة من فعل متعدّ فلا بد من تقديره لازما بالنقل الى فعل بالضم (الْعالَمِينَ) جمع عالم بفتح اللام وجمع جمع المذكر السالم العاقل تغليبا والمراد به جميع الكائنات ولذلك أدرجه النّحاة فيما ألحق بجمع المذكر والنّكتة فيه هي أن هذا اللفظ لا يطلق عند العرب على كل كائن وموجود كالحجر والتراب وإنما يطلقونه على كل جملة متمايزة لأفرادها صفات تقربها من العاقل الذي جمعت جمعه وان لم تكن منه فيقال: عالم الإنسان، وعالم الحيوان وعالم النبات والعالم لا واحد له من لفظه ولا من غير لفظه لأنه جمع لأشياء مختلفة (الدِّينِ) : الجزاء ويوم الدّين: يوم الجزاء ومنه قول العرب: «كما تدين تدان» وقول الشاعر: ولم يبق سوى العدوا ... ن دناهم كما دانوا والدّين ايضا: الطاعة كقوله تعالى «في دين الملك» ، والدّين أيضا: الملّة قال المثقّب العبديّ: تقول إذا درأت لها وضيني ... أهذا دينه أبدا وديني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 (الصِّراطَ) : الطّريق الواضح والمنهاج، قال جرير: أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوجّ الموارد مستقيم وفي الصراط أربع لغات: السّراط بالسّين من سرط الشيء إذا بلعه وسمي الطريق سراطا لجريان الناس فيه كما يجري الشيء المبتلع والصراط وبالزاي خالصة وبإشمام الصاد الزاي وكل هذه اللغات قد قرىء به ويذكّر ويؤنّث وتذكيره أكثر. الإعراب: (الْحَمْدُ) مبتدأ (لِلَّهِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (رَبِّ) : صفة لله أو بدل منه (الْعالَمِينَ) مضاف إليه مجرور وعلامة جره الياء نيابه عن الكسرة لأنه ملحق بجمع المذكّر السالم (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) صفتان لله تعالى ايضا (مالِكِ) صفة رابعة لله وقرىء ملك وبينهما فرق دقيق وهو أن المالك هو ذو الملك بكسر الميم والملك ذو الملك بضمّها قال أهل النحو: إن ملكا أمدح من مالك وذلك ان المالك قد يكون غير ملك ولا يكون الملك إلا مالكا وجمع الملك أملاك وملوك وجمع المالك ملاك ومالكون (يَوْمِ الدِّينِ) مضاف إليه (إِيَّاكَ) ضمير منفصل في محل نصب مفعول به مقدّم للاختصاص (نَعْبُدُ) فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره نحن (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) عطف على إياك نعبد ونستعين فعل مضارع مرفوع وهو معتلّ أجوف والأصل فيه نستعون فاستثقلت الكسرة على الواو فنقلت الى العين فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها فصار نستعين (اهْدِنَا) فعل أمر مبني على حذف العلّة وهو هنا بمعنى الدّعاء ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت (الصِّراطَ) مفعول به ثان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 أو منصوب بنزع الخافض لأنّ هدى لا تتعدى إلا الى مفعول واحد وتتعدى الى الثاني باللام كقوله تعالى: «يهدي للتي هي أقوم» أو بإلى كقوله تعالى «وإنك لتهدى الى صراط مستقيم» ولكن غلب عليها الاتّساع فعداها بعضهم إلى اثنين وقد نظم بعض الظرفاء أبياتا ضمّنها الأفعال التي تتعدى الى واحد والى الثاني بحرف جر وهي: تعدى من الافعال طورا بنفسه ... وحينا بحرف الجر للثان ما ترى دعا في الندا سمّى كذا كنى ... وزوجه واستغفر اختار غيرا أمرت صدقت الوعد كلت وزنته ... عفا وهدى منّى كذا سأل اذكرا ومجموعها ستة عشر فعلا (الْمُسْتَقِيمَ) صفة للصراط وهو معتلّ وعين الفعل فيه واو والأصل مستقوم فاستثقلت الكسرة على الواو فنقلت الى القاف فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها (صِراطَ) بدل مطابق من الصراط (الَّذِينَ) اسم موصول مضاف اليه في محل جر (أَنْعَمْتَ) فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير رفع متحرك والتاء ضمير متصل في محل رفع فاعل وجملة أنعمت لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (عَلَيْهِمْ) جار ومجرور متعلقان بأنعمت (غَيْرِ) بدل من الضّمير في عليهم أو من الذين أو نعت للذين وسيأتي بحث مسهب عن غير في باب الفوائد (الْمَغْضُوبِ) مضاف اليه (عَلَيْهِمْ) جار ومجرور في محل رفع نائب فاعل للمغضوب لأنه اسم مفعول (وَلَا) الواو حرف عطف ولا زائدة لتأكيد معنى النفي وهو ما في غير من معنى النفي وهذه الزيادة مطّردة (الضَّالِّينَ) معطوفة على المغضوب عليهم مجرور وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 البلاغة: اشتملت هذه السورة، على قصرها، على أفانين متعددة من البلاغة ندرجها فيما يلي: 1- جملة الحمد لله خبر لكنها استعملت لإنشاء الحمد وفائدة الجملة الاسمية ديمومة الحمد واستمراره وثباته. 2- في قوله إياك نعبد وإياك نستعين فنّ التّقديم فقد قدّم الضمير لحصر العبادة والاستعانة بالله وحده، وقدمت العبادة على الاستعانة لأن الاستعانة ثمرتها وإعادة إياك مع الفعل الثاني تفيد أن كلّا من العبادة والاستعانة مقصود بالذات فلا يستلزم كل منهما الآخر ولأن الكاف التي مع إيّا هي الكاف التي كانت تتصل بالفعل أعني بقوله نعبد لو كانت مؤخرة بعد الفعل وهي كناية عن اسم المخاطب المنصوب بالفعل فكثّرت بإيّا متقدمة وكان الأفصح إعادتها مع كل فعل. 3- وفي قوله لله فن الاختصاص للدلالة على أن جميع المحامد مختصة به وكذلك بالاضافة في قوله مالك يوم الدين لزوال المالكين والأملاك عن سواه في ذلك اليوم. 4- وفي هذه السورة فن الالتفات من لفظ الغيبة الى لفظ الخطاب ومن لفظ الخطاب الى لفظ الغيبة والغرض من هذا الفن التّطرية لنشاط الذهن جريا على أساليبهم، ولأنه لما أثنى على الله بما هو أهل له وأجرى عليه تلك الصفات العظيمة ساغ له أن يطلب الاستعانة منه بعد أن مهد لذلك بما يبرر المطالبة وهو، تعالى، خليق بالاستجابة، وللاشعار بأن اولى ما يلجأ اليه العباد لطلب ما يحتاجون اليه هو عبادته تعالى والاعتراف له بصفات الألوهية، البالغة، وقال «صراط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الذين أنعمت عليهم» فأصرح الخطاب لما ذكر النّعمة ثم قال: غير المغضوب عليهم فزوى لفظ الغضب عنه تحنّنا ولطفا وهذا غاية ما يصل اليه البيان، وهذه مراتب الالتفات في هذه السورة: آ- عدل عن الغيبة الى الخطاب بقوله: إياك نعبد وإياك نستعين بعد قوله: الحمد لله رب العالمين لأن الحمد دون العبادة في المرتبة ألا تراك تحسد نظيرك ولا تعبده فلما كانت الحال بهذه المثابة استعمل لفظ الحمد لتوسطه مع الغيبة في الخبر ولم يقل الحمد لك. ب- ولما صار الى العبادة وهي قصارى الطاعات قال: «إياك نعبد وإياك نستعين» فخاطب بالعبادة إصراحا بها، وتقرّبا منه عزّ وجلّ بالانتهاء الى عدد محدود منها. ح- وعلى نحو من ذلك جاء آخر السّورة فقال: «صراط الذين أنعمت عليهم» فأصرح الخطاب لما ذكر النعمة ثم قال: «غير المغضوب عليهم عطفا على الأول، لأن الأول موضع التقرّب من الله بذكر نعمه وآلائه فلما صار إلى ذكر الغضب جاء باللفظ منحرفا عن ذكر الغاضب فأسند إليه النعمة لفظا وزوى عنه لفظ الغضب تحنّنا ولطفا. د- وأتى بنون الجمع في قوله: «نعبد» و «نستعين» والمتكلم واحد لأنه ورد في الشّريعة أنه من باع أجناسا مختلفة صفقة واحدة ثم ظهر للمشتري في بعضها عيب فهو مخيّر بين ردّ الجميع أو إمساكه وليس له تبعيض الصّفقة، بردّ المعيب وإبقاء السّليم، وهنا لما رأى العابد أن عبادته ناقصة معيبة لم يعرضها على الله مفردة بل جنح الى ضمّ عبادة جميع العابدين إليها وعرض الجميع صفقة كاملة راجيا قبول عبادته في ضمنها لأنّ الجميع لا يردّ البتّة، إذ بعضه مقبول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وردّ المعيب، وابقاء السليم تبعيض للصفقة وقد نهى سبحانه عباده عنه، وهو لا يليق بكرمه العظيم، وفضله العميم فبقي قبول الجميع. 5- وعلى ذكر استهلال القرآن بالفاتحة نذكر هذا الفنّ في الفاتحة، وهو براعة الاستهلال، وهو من أرقّ فنون البلاغة وأرشقها، وحدّه أن يبتدىء المتكلم كلامه بما يشير الى الغرض المقصود من غير تصريح بل بإشارة لطيفة، وإيماءة بعيدة أو قريبة، والاستهلال في الأصل: هو رفع الصوت، وسمي الهلال هلالا لأن الناس يرفعون أصواتهم عند رؤيته ومن أمثلته في الشعر قول أبي تمام في مطلع قصيدته: «فتح عمورية» : السّيف أصدق أنباء من الكتب ... في حدّه الحدّ بين الجدّ والّلعب فقد استهلّ قصيدته بذكر السيف وفيه إيماءة قريبة جدا الى الموضوع الذي نظمت القصيدة بصدده وقد اشتهر ابو الطيب ببراعة مطالعه ومن روائعها قوله: أتراها لكثرة العشّاق ... تحسب الدّمع خلقة في المآقي فقد ألمع الى موضوع قصيدته وهو الغزل برشاقة زادها ابتكار المعنى في حسبان الدمع خلقة في المآقي حسنا وجمالا. 6- الاستعارة التّصريحيّة في قوله: «اهدنا الصراط المستقيم» فقد شبه الدين الحق بالصراط المستقيم الذي ليس به أدقّ انحراف قد يخرجه عن حدود الاستقامة لأن الخط المستقيم هو أقصر بعد بين نقطتين ووجه الشبه بينهما أن الله سبحانه وإن كان متعاليا عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الأمكنة لكن العبد الطالب الوصول لا بد له من قطع المسافات، ومس الآفات، ليكرم الوصول والموافاة. 7- التفسير بعد الإبهام وذلك في قوله تعالى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» . 8- التسجيع في الرحيم والمستقيم وفي «نستعين» و «الضالين» والتسجيع هو اتفاق الكلمتين في الوزن والرّويّ. الفوائد: انطوت هذه السورة على فوائد لا تحصى وسنورد ما تهم معرفته منها: 1- الألف واللام في الحمد للجنس على الأصح لأن حقيقة المحامد ثابتة لله تعالى. 2- وسميت هذه السورة «الفاتحة» لأنها أول القرآن وبراعة استهلاله وتسمى أمّ الكتاب لانطوائها على المثل السامية وهي مكية على الأصح ومن أسمائها السبع المثاني والوافية، والكافية والشافية، والرّقية، والكنز والأساس وغيرها. 3- غير: لفظ غير مذكر مفرد أبدا إلا أنه إذا أريد به مؤنّث جاز تأنيث فعله المسند اليه تقول قامت غير هند وأنت تعني امرأة وهي في الأصل صفة بمعنى اسم الفاعل وهو مغاير ولذلك لا تتعرف بالاضافة، وقد يستثنى بها حملا على إلّا كما يوصف بإلا حملا عليها وهي من الألفاظ الملازمة للاضافة لفظا أو تقديرا فادخال الألف واللام عليها خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 4- آخر الفاتحة «ولا الضّالّين» وأما لفظ آمين فليس منها ولا من القرآن مطلقا وهو اسم بمعنى استجب ويسنّ ختم الفاتحة به وفيه لغتان: المدّ والتقصير قال ابو نواس في المد: صلى الإله على لوط وشيعته ... أبا عبيدة قل بالله: آمينا وقال آخر في القصر: تباعد مني فطحل إذ دعوته ... أمين فزاد الله ما بيننا بعدا 5- قد يقال: إن المؤمنين مهتدون فما معنى طلبها؟ والجواب ان المطلوب هو الثبات على الهدى أو زيادته وليس في كون بعض الناس لم يهتدوا ما يخرجه عن أن يكون هدى فالشمس شمس وإن لم يرها الضّرير، والعسل عسل، وان لم يجد طعمه المرور، فالخيبة كل الخيبة لمن عطش والماء زاخر، ولمن بقي في الظلمة والبدر زاهر، وخبث والطّيب حاضر. 6- الأرجح أن الفاتحة هي أول سورة كاملة نزلت وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجعلها أول القرآن وانعقد على ذلك الإجماع ونزول أول سورة العلق وهو «اقرأ باسم ربك الذي خلق» يعتبر بمثابة تمهيد للوحي المجمل والمفصّل فلا ينافي كونها أول سورة من القرآن وذكر السيوطي في الإتقان: أن أول ما نزل من آي القرآن اقرأ باسم ربك، ويا أيها المدثر وسورة الفاتحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 (2) سورة البقرة مدنيّة وهي مائتان وست وثمانون آية [سورة البقرة (2) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) اللغة: (الم) : الحروف التي ابتدئ بها كثير من السور هي على الأرجح اسماء للسور المبتدأة بها أما ماهيتها والحكمة منها فقد اختلفت في ذلك الآراء، وتشعبت المقاصد، حتى ليتعذّر إن لم نقل يستحيل على الباحث أن يستوفيها ويمكننا أن نصنف هذه الآراء إلى صنفين: 1- انها من المتشابه به الذي نفوض الأمر فيه إلى الله ويسعنا في ذلك ما وسع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم، قال هؤلاء: ليس من الدين في شيء أن يتنطّع متنطّع فيخترع ما يشاء من العلل، التي قلّما يسلم مخترعها من الزّلل. 2- انها كغيرها من الكلام الوارد في القرآن فيجب أن نتكلم بها ونسبر اغوارها ونكتنه المعاني المندرجة في مطاويها عملا بقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 تعالى: «أفلا يتدبرون القرآن» ؟ وعلى هذا الرأي نرجح أن معناها التحدي والارهاص بأن هذا القرآن مؤلف من نفس الحروف التي ينظم بها العرب أشعارهم، ويؤلفون خطبهم وأسجاعهم وهم مع ذلك عاجزون عن الإتيان بمثله أو محاكاته وهذا تفسير يتمشى مع إعجاز القرآن الذي تميز به، وتقول دائرة المعارف الاسلامية في بحثها عن القرآن ما خلاصته: إن العلماء تعبوا كثيرا في فهم المقصود من هذه الحروف وقد وردت هذه الحروف في تسع وعشرين سورة كلها من العهد المكّيّ إلا ابتداء سورتي البقرة وآل عمران فقد وردا في العهد المدني وجملة الحروف التي تكررت في هذه الابتداءات أربعة عشر حرفا. وقد اعجبنا بحث كتبه الدكتور زكي مبارك في كتابه «النثر الفني» فأحببنا أن نقتبس منه ما يروق قال صاحب النثر الفني ما خلاصته: كنت أتحدث عن فواتح السور مع المسيو بلا نشو فعرض علي تأويلا جديرا بالاعتبار، جديرا بالدرس والتحقيق وفحواه: ان الحروف: الم. الر. حم. طسم هي الحروف:.. التي توجد في بعض المواطن من:- فهي ليست إلا إشارات وبيانات موسيقية يشار الى الحانها بحرف أو حرفين أو ثلاثة فهي رموز صوتية فليس من المستبعد أن تكون فواتح السور إشارات صوتية لتوجيه الترتيل، ولعل ما أورده الدكتور زكي مبارك يتصل اتصالا قريبا أو بعيدا بما أوردناه من معنى التحدي وقرع العصا للمكابرين الذين سبروا أغوار القرآن وأدركوا بفطرتهم البلاغية ما يتميز به من بيان، وللسيوطي في كتابه الممتع «الإتقان» رأي يؤيد ما ذهبنا إليه إذ قال: انه أريد مفاجأة العرب، وهم أهل الفصاحة والبلاغة، برموز وإشارات لا عهد لهم بها ليزداد التفاتهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وتتنبه أذهانهم ونفوسهم (رَيْبَ) : الريب: الشّكّ وقلق النّفس واضطرابها وفي الحديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» هذا وللريب في اللغة ثلاثة معان أحدها: الشك وهو المراد هنا، وثانيها التهمة قال جميل: بثينة قالت: يا جميل اربتني ... فقلت: كلانا يا بثين ريب وثالثها الحاجة قال: قضينا من تهامة كل ريب ... وخيبر ثم أجمعنا السيوفا (يُنْفِقُونَ) نفق الشيء ونقد بمعنى واحد وكل ما جاء مما فاؤه نون وعينه فاء دالّ على معنى النّفاد والخروج والذهاب يقال: نفث الشيء من فيه: رمى به ونفث في العقد ومن أقوالهم: «لا بد للمصدور أن ينفث» و «هذه نفثة مصدور» ونفق الحمار: مات والتقصّي في هذا الباب، يضيق عنه صدر هذا الكتاب وهو من عجائب ما تميّزت به لغتنا الشريفة وسيأتيك الكثير من أمثاله في هذا الكتاب العجيب (الْمُفْلِحُونَ) الفائزون ببغيتهم الذين انفتحت أمامهم وجوه الظفر وكل ما جاء ممّا فاؤه فاء وعينه لام دال على معنى الانفتاح والشّقّ نحو فلق وفلح. الإعراب: (الم) كلمة أريد لفظها دون معناها في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف أي هذه ألم (ذلِكَ) اسم اشارة في محل رفع مبتدأ واللام للبعد والكاف للخطاب (الْكِتابُ) خبر ذلك وهو اولى من جعله بدلا من اسم الاشارة لأنه قصد به الإخبار بأنه الكتاب المقدس المستحق لهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الاسم تدعيما للتّحدّي، والجملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب على أنه يجوز جعله بدلا من اسم الاشارة فتكون جملة لا ريب فيه خبرا لاسم الاشارة (لا رَيْبَ فِيهِ) لا نافية للجنس وريب اسمها المبني على الفتح في محل نصب اسم لا والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبرها والجملة خبر لذلك أو حال من الكتاب (هُدىً) خبر ثالث لذلك (لِلْمُتَّقِينَ) جار ومجرور متعلقان بهدى لأنه مصدر ولك أن تجعله صفة لهدى (الَّذِينَ) اسم موصول في محل جر صفة للمتقين (يُؤْمِنُونَ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون لأنه من الافعال الخمسة والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (بِالْغَيْبِ) جار ومجرور متعلقان بيؤمنون (وَيُقِيمُونَ) الجملة عطف على جملة يؤمنون داخلة في حيّز الصّلة (الصَّلاةَ) مفعول به (وَمِمَّا) الواو حرف عطف ومما جار ومجرور متعلقان بينفقون (رَزَقْناهُمْ) فعل ماض وفاعل ومفعول به وجملة رزقناهم لا محل لها من الإعراب لأنها صلة ما والعائد محذوف أي رزقناهم إياه (يُنْفِقُونَ) فعل مضارع مرفوع معطوف على يقيمون داخل في حيز الصلة أيضا (وَالَّذِينَ) الواو حرف عطف واسم الموصول معطوف على الموصول الأول مندرج معه في سلك المتقين (يُؤْمِنُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (بِما) الجار والمجرور متعلقان بيؤمنون (أُنْزِلَ) فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه تقديره هو يعود على ما اي القرآن والجملة لا محل لها من الإعراب لانها صلة الموصول (إِلَيْكَ) الجار والمجرور متعلقان بأنزل (وَما) الواو حرف عطف وما عطف على بما أنزل إليك وجملة (أُنْزِلَ) لا محل لها لانها صلة الموصول (مِنْ قَبْلِكَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال وهو اولى من تعليقها بأنزل (وَبِالْآخِرَةِ) الواو حرف عطف والجار والمجرور متعلقان بيوقنون (هُمْ) ضمير منفصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 في محل رفع مبتدأ (يُوقِنُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعله والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية وهي «ومما رزقناهم ينفقون» وسيأتي سر المخالفة بين الجملتين في باب البلاغة (أُولئِكَ) اسم اشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ والكاف للخطاب (عَلى هُدىً) جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لأولئك (مِنْ رَبِّهِمْ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لهدى والجملة استئنافية لا محل لها (وَأُولئِكَ هُمُ) أولئك مبتدأ، وهم ضمير فصل أو عماد لا محل له (الْمُفْلِحُونَ) خبر أولئك ولك أن تعرب هم مبتدأ والمفلحون خبره والجملة الاسمية خبر أولئك. البلاغة: في هذه الآيات فنون عديدة نوردها فيما يلي: 1- التعريف: في تعريف الكتاب بالألف واللّام تفخيما لأمره وهو في الأصل مصدر قال تعالى: «كتاب الله عليكم» . 2- التقديم: فقد قدم الريب على الجار والمجرور لأنه اولى بالذكر استعدادا لصورته حتى تتجسّد أمام السّامع. 3- وضع المصدر هدى موضع الوصف المشتق الذي هو هاد وذلك أوغل في التعبير عن ديمومته واستمراره. 4- المجاز المرسل: في قوله «هدى للمتقين» وعلاقته اعتبار ما يئول اليه أي الصّائرين الى التقوى. 5- الإيجاز: في ذكر المتقين لأن الوقاية اسم جامع لكل ما تجب الوقاية منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 6- الاستعارة التّصريحية التّبعيّة في قوله: «على هدى» تشبيها لحال المتقين بحال من اعتلى صهوة جواده فحذف المشبه واستعيرت كلمة على الدالة على الاستعلاء لبيان أنّ شيئا تفوق واستعلى على ما بعدها حقيقة نحو: زيد على السطح أو حكما نحو: عليه دين فالدين للزومه وتحمله كأنه ركب عليه وتحمله، والدقة فيه أن الاستعارة بالحرف، ويقال في إجرائها: شبه مطلق ارتباط بين هدى ومهدي بمطلق ارتباط بين مستعل ومستعلى عليه بجامع التمكن في كل منها فسرى التشبيه من الكليات الى الجزئيات ثم استعيرت على وهي من جزئيات المشبه به لجزئي من جزئيات المشبه على طريق الاستعارة التصريحية التبعية ومثل الآية الكريمة قوله: لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوما على الآباء نتكل فتأمل هذا البحث فانه من الدقة والحسن بمكان، وسيرد في القرآن الكريم نماذج منه كالسحر الحلال. 7- التكرار في قوله: «يؤمنون بالغيب» و «يؤمنون بما انزل إليك» وفي تكرار اسم الموصول وإن كان الموصوف واحدا، وقد يكون الموصوف مختلفا فهو تكرار للفظ دون المعنى. وفائدته الترسيخ في الذهن، والتأثير في العاطفة ويكثر في الشعر. 8- الحذف في قوله «الم» أي هذه الم و «هدى» أي هو هدى فحذف المبتدأ وفي قوله «ينفقون» أي المال فحذف المفعول به وقد استهوى الإنفاق في سبيل المحامد والمآثر نفوس شعراء العرب وما أجمل قول دعبل: قالت سلامة: اين المال؟ قلت لها: ... المال ويحك لاقى الحمد فاصطحبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 9- حسن التقسيم وهو فن من فنون البلاغة فحواه استيعاب المتكلم جميع اقسام المعنى الذي هو آخذ فيه بحيث لا يغادر منه شيئا فقد استوعبت هذه الآيات جميع الأوصاف المحمودة، والعبادات التي يعكف عليها المؤمنون لأن العبادات كلها تنحصر في نوعين: بدنية ومالية، ولا بد من استيفائهما لتكون العبادات كلها مقبولة وما أجمل الحديث الشريف القائل: «يقول العبد مالي مالي وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس» وقوله: مالي مالي مفعول به لفعل محذوف أي أحبّ مالي والثاني تأكيد للأول. [سورة البقرة (2) : الآيات 6 الى 7] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) اللغة : (سَواءٌ) اسم بمعنى الاستواء أجري مجرى المصادر فلذلك لا يثنّى ولا يجمع قالوا: هما وهم سواء فإذا أرادوا لفظ المثنّى قالوا: سيّان وإن شئت قلت سواءان وفي الجمع هم أسواء وأيضا على غير القياس: هم سواس وسواسية أي متساويان ومتساوون والسّواء: العدل الوسط بين حدّين يقال: ضرب سواءه أي وسطه وجئته في سواء النهار أي في منتصفه، وإذا كانت سواء بعد همزة التّسوية فلا بدّ من أم اسمين كانت الكلمتان، أم فعلين وإذا كان بعدها فعلان بغير همزة التّسوية عطف الثاني بأو، نحو: سواء عليّ قمت أو قعدت وإذا كان بعدها مصدران عطف الثاني بالواو أو بأو، نحو سواء عليّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 قيامك وقعودك. وقيامك أو قعودك (غِشاوَةٌ) فعالة من غشاه أو غشيه إذا غطّاه وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعسامة ويجوز في الغين الكسر والضّمّ والفتح. الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ) إنّ واسمها وجملة (كَفَرُوا) من الفعل والفاعل لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (سَواءٌ) خبر مقدم أو خبر إنّ (عَلَيْهِمْ) جار ومجرور متعلقان بسواء (أَأَنْذَرْتَهُمْ) همزة الاستفهام بمعنى التسوية وهي والفعل بعدها في تأويل مصدر مبتدأ مؤخّر أو فاعل نسواء الذي أجري مجرى المصادر والجملة خبر إنّ (أَمْ) عاطفة متصلة وسيأتي حكمها في باب الفوائد (لَمْ تُنْذِرْهُمْ) لم: حرف نفي وقلب وجزم وتنذرهم فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به والجملة معطوفة على جملة أأنذرتهم (لا) نافية (يُؤْمِنُونَ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل وجملة لا يؤمنون خبر بعد خبر ولك أن تجعلها تفسيرية لا محل لها من الإعراب (خَتَمَ) فعل ماض (اللَّهُ) فاعل (عَلى قُلُوبِهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بختم (وَعَلى سَمْعِهِمْ) عطف على قوله على قلوبهم (وَعَلى أَبْصارِهِمْ) الواو استئنافية والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم (غِشاوَةٌ) مبتدأ مؤخر (وَلَهُمْ) الواو حرف عطف والجار والمجرور متعلقان بمحذوف (عَذابٌ) مبتدأ مؤخر (عَظِيمٌ) نعت لعذاب والجملة معطوفة على الجملة السابقة. البلاغة: 1- في إسناد الختم الى القلوب استعارة تمثيلية فقد شبّهت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 قلوبهم في نبوّها عن الحقّ وعدم الإصغاء إليه بحال قلوب ختم الله عليها وهي قلوب البهائم وهو تشبيه معقول بمحسوس أو هو مجاز عقليّ وهو باب واسع عند العرب يقولون: سال بهم الوادي إذا هلكوا وطارت بفلان العنقاء إذا طالت غيبته. 2- وحدّ السمع لوحدة المسموع دون القلوب والابصار لتنوّع المدركات والمرئيات. 3- تنكير العذاب هنا فيه إشارة الى أنه نوع منه مجهول الكمّ والكيف ووصفه بعظيم لدفع الإيهام بقلّته وندرته، والتأكيد بأنه بالغ حد العظمة. الفوائد: 1- همزة التسوية هي الواقعة بين سواء وبعد ما أبالي وما أدري وليت شعري وضابطها: أنها الهمزة التي تدخل على جملة يصح حلول المصدر محلها كما تقدم. 2- أم: لها حالان: آ- متصلة وهي منحصرة في نوعين وذلك لأنها إما أن تتقدّم عليها همزة التسوية كما في الآية أو همزة يطلب بها التّعيين نحو: أزيد في الدّار أم عمرو؟ وسميت متصلة لأن ما قبلها وما بعدها لا يستغنى بأحدهما عن الآخر وتسمى أيضا معادلة لمعادلتها الهمزة في النوع الأول إذ كلتاهما تفيد التسوية. ب- منقطعة وهي المسبوقة بالخبر المحض نحو قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 «تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه» وسميت منقطعة لانقطاع ما بعدها عما قبلها فكل منهما كلام مستقل لا ارتباط له بالآخر. [سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 10] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) اللغة: (النَّاسِ) اسم جمع لا واحد له من لفظه ومادّته عند سيبويه والفراء همزة ونون وسين، وحذفت همزته شذوذا وأصله أناس وقد نطق القرآن بهذا الأصل قال تعالى: «يوم ندعو كلّ أناس بإمامهم» ، وذهب الكسائيّ الى أن مادته نون وواو وسين مشتقّ من النّوس وهو الحركة يقال: ناس ينوس نوسا والنّوس تذبذب الشيء في الهواء ومنه نوس القرط في الأذن وسمّي أبو نواس بذلك لأن ذؤابتين كاتنا تنوسان عند أذنيه واسمه الحقيقي الحسن بن هانيء، وإنما أطلنا في هذا البحث لأن بعض المعاجم الحديثة خلط في أصله فأورده في مادة أنس وبعضها أورده في مادة نوس وأضاعوا بذلك الطالب والمراجع في متاهات لا منافذ منها. (يُخادِعُونَ) الخداع في الأصل: الإخفاء ومنه الأخدعان وهما عرقان مستبطنان في العنق ومنه أيضا المخدع وهو داخل البيت ثم أطلق على اظهار غير ما في النفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 (يَشْعُرُونَ) الشعور: ادراك الشيء من وجه يدقّ ويخفى وهو مشتق من الشعر لدقته، وقيل هو الإدراك بالحاسة فهو مشتقّ من الشعّار وهو ثوب يلي الجسد ومشاعر الإنسان: حواسّه وشعر بالأمر من بابيّ نصر وكرم: علم به وفطن له، ومنه يسمى الشاعر شاعرا لفطنته ودقة معرفته. والتحقيق أنّ الشعور إدراك ما دقّ من حسّيّ وعقليّ. (مَرَضٌ) : المرض: مصدر مرض ويطلق في اللغة على الضّعف والفتور وقالوا: المرض في القلب: الفتور عن الحق، وفي البدن فتور الأعضاء، وفي العين فتور النظر وهو جميل يتغنّى به الشعراء قال: مرضي من مريضة الأجفان ... علّلاني بذكرها علّلاني ويطلق المرض فيراد به الظّلمة قال: في ليلة مرضت من كلّ ناحية ... فما يحس بها نجم ولا قمر الإعراب: (وَمِنَ النَّاسِ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لذكر المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم فقد افتتح سبحانه، بذكر المتقين ثم ثنّى بالكافرين ظاهرا وباطنا، وثلّث بالمنافقين، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (مِنَ) اسم موصول في محل رفع مبتدأ مؤخّر ويجوز أن تكون من نكرة موصوفة في محل رفع مبتدأ مؤخر كأنه قيل: ومن الناس ناس وسيأتي بحثها (يَقُولُ) فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر فيه تقديره هو والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب صلة لمن إذا كانت موصولة وصفة لها إذا كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 نكرة موصوفة (آمَنَّا) فعل وفاعل والجملة الفعلية في محل نصب مقول للقول (بِاللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بآمنا (وَبِالْيَوْمِ) عطف على بالله (الْآخِرِ) نعت لليوم (وَما) الواو حاليّة وما نافية حجازية تعمل عمل ليس (هُمْ) ضمير منفصل في محل رفع اسم ما (بِمُؤْمِنِينَ) الباء حرف جر زائد للتوكيد لأنه ليس في القرآن حرف جر زائد ولكنه الاصطلاح النحوي جرى على ذلك فهو عند البلاغيين حرف لا يستغنى عنه والجملة الاسمية في محل نصب على الحال (يُخادِعُونَ) فعل مضارع وعلامة رفعه ثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو فاعل والجملة الفعلية مستأنفة كأنه قيل: لم يتظاهرون بالايمان؟ فقيل: يخادعون ويحتمل أن تكون حالية من الضمير المستكنّ في يقول، أي مخادعين الله والذين آمنوا (اللَّهَ) مفعول به ليخادعون (وَالَّذِينَ) عطف على الله (آمَنُوا) الجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَما) الواو حالية وما نافية (يَخْدَعُونَ) فعل مضارع مرفوع وعلامه رفعه ثبوت النون والواو فاعل (إِلَّا) أداة حصر (أَنْفُسَهُمْ) مفعول به والهاء ضمير متصل في محل جر بالاضافة (وَما) الواو عاطفة أو استئنافية وما نافية (يَشْعُرُونَ) فعل مضارع مرفوع والجملة عطف على جملة وما يخدعون أو مستأنفة (فِي قُلُوبِهِمْ) الجار والمجرور خبر مقدم (مَرَضٌ) مبتدأ مؤخر (فَزادَهُمُ) الفاء حرف عطف وزاد فعل ماض والهاء مفعول به والجملة عطف على ما تعلق به الخبر ويحتمل أن تكون الفاء استئنافية وجملة زادهم الله دعائية لا محل لها (اللَّهُ) فاعل زادهم (مَرَضاً) مفعول به ثان وزاد يستعمل لازما ومتعديا لاثنين ثانيهما غير الأول (وَلَهُمْ) الواو عاطفة أو استئنافية والجار والمجرور خبر مقدم (عَذابٌ) مبتدأ مؤخر (أَلِيمٌ) صفة لعذاب (بِما) الباء حرف جر للسببية وما اسم موصول في محل جر بالباء (كانُوا) كان واسمها (يَكْذِبُونَ) فعل مضارع وفاعل والجملة خبر كانوا وجملة كان واسمها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وخبرها لا محل لها لأنها صلة الموصول ويجوز أن تكون مصدرية والمعنى على الأول بالذي يكذبونه وعلى الثاني بسبب كونهم يكذبون والجار والمجرور صفة ثانية لعذاب أو مصدر أي بسبب كونهم يكذبون. البلاغة: 1- المشاكلة في قولهم يخادعون الله لأن المفاعلة تقتضي المشاركة في المعنى وقد أطلق عليه تعالى مقابلا لما ذكره من خداع المنافقين كمقابلة المكر بمكرهم ومن أمثلة هذا الفنّ في الشعر قول بعضهم: قالوا: التمس شيئا فجد لك طبخه ... قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا 2- المجاز: في الخداع المنسوب اليه لتعاطيهم أفعال المخادع ظنا منهم أنهم يستطيعون ذلك لصدق نفيه ولذلك قال: وما يخدعون إلا أنفسهم. 3- الاستعارة التصريحية في قوله: في قلوبهم مرض حيث استعير المرض لما ران على قلوبهم من جهل وسوء عقيدة وما الى ذلك من ضروب الجهالات المؤدية الى المتالف. الفوائد: 1- تأتي من نكرة موصوفة في موضع يختص بالنكرة كقول سويد بن أبي كاهل: ربّ من أنضجت غيظا قلبه ... لو تمنّى لي موتا لم يطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 2- ما الحجازية هي العاملة عمل ليس وإنما سميت حجازية لأن التنزيل جاء بلغة أهل الحجاز وأحكامها مبسوطة في كتب النحو. [سورة البقرة (2) : الآيات 11 الى 13] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) اللغة: (الفساد) : خروج الشيء عن حال استقامته ونقيضه الصلاح، والفساد في الأرض: تهييج الحروب، وإثارة الفتن، والإخلال بمعايش الناس. (السُّفَهاءُ) : جمع سفيه وهو المنسوب للسّفه والسّفه: خفّة رأي وسخافة يقتضيهما نقصان العقل، ويقابله الحلم يقال سفه بكسر الفاء وضمّها. الإعراب: (وَإِذا) الواو استئنافية والجملة بعدها مستأنفة لا محل لها ويجوز أن تكون الواو عاطفة والجملة بعدها معطوفة على جملة يكذبون فتكون في موضع نصب عطفا على خبر كان والمعطوف على الخبر خبر فهي بهذه المثابة جزء من السبب الذي استحقوا به العذاب الأليم وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه (قِيلَ) فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه تقديره يعود على الله تعالى وفي هذا التعبير بحث هام سيأتي في باب الفوائد وجملة قيل في محل جرّ بإضافة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الظرف إليها (لَهُمْ) الجار والمجرور متعلقان بقيل (لا) الناهية الجازمة (تُفْسِدُوا) فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو فاعل (فِي الْأَرْضِ) الجار والمجرور متعلقان بتفسدوا (قالُوا) فعل وفاعل والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم (إِنَّما) كافة ومكفوفة (نَحْنُ) مبتدأ (مُصْلِحُونَ) خبر نحن مرفوع وعلامة رفعه الواو لأنه جمع مذكر سالم والجملة في محل نصب مقول القول (أَلا) حرف تنبيه يستفتح بها الكلام (إِنَّهُمْ) إن حرف مشبه بالفعل والهاء اسمها (هُمُ) ضمير فصل أو عماد لا محل له من الإعراب ولك أن تعرب هم مبتدأ (الْمُفْسِدُونَ) خبره والجملة الاسمية في محل رفع خبر إن (وَلكِنْ) الواو عاطفة ولكن مخففة من الثقيلة لمجرد الاستدراك (لا) نافية (يَشْعُرُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة معطوفة على ما تقدم (وَإِذا قِيلَ) الواو استئنافية أو عاطفة وقد تقدم الكلام عنها وجملة فيل الفعلية في محل جر بإضافة الظرف إليها (لَهُمْ) الجار والمجرور متعلقان بقيل وجملة قيل في محل جر بإضافة الظرف إليها (آمِنُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو والجملة لا محل لها لأنها مفسرة ونائب الفاعل مصدر وهو القول وقد أضمر لأن الجملة بعده تفسرة والتقدير: وإذا قيل لهم قول هو آمنوا لأن الأمر والنهي قول وقد منع النحاة أن تكون الجملة قائمة مقام الفاعل لأن الجملة لا تكون فاعلا فلا تقوم مقامه (كَما) الجار والمجرور نعت لمصدر محذوف والتقدير آمنوا إيمانا كإيمان الناس، واختار سيبويه أن يكون في محل نصب على الحال سواء أكانت الكاف حرفا أم اسما بمعنى مثل وصاحب الحال هو المصدر المفهوم من الفعل المتقدم وما مصدرية (آمَنَ النَّاسُ) فعل وفاعله (قالُوا) فعل وفاعل وإذا متعلقة بقالوا والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (أَنُؤْمِنُ) الهمزة للاستفهام الإنكاري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ونؤمن فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره نحن (كَما) تقدم إعرابها قريبا (آمَنَ السُّفَهاءُ) فعل وفاعل (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) تقدم إعراب نظير هذه الجملة قريبا. البلاغة: 1- في الآية خروج الاستفهام من معناه الأصلي وهو طلب العلم إلى أغراض أخرى تفهم من مضمون الكلام وتفصيله في علم المعاني ومردّ ذلك الى الذوق السليم وقد صدق فولتير حيث يقول: «ذوقك أستاذك» . 2- التغاير: وهو فنّ يكاد يكون من المرقص فقد وردت في الفاصلة الأولى «لا يشعرون» ووردت في الفاصلة الثانية «لا يعلمون» لسرّ عجيب لا يدركه إلا الملهمون وتفصيل ذلك: أن أمر الديانة، والوقوف على أن المؤمنين هم على الحقّ وأما المنافقون فهم على الباطل، هو أمر يحتاج الى بعد نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر العلم والمعرفة وأما النفاق وما فيه من البغي المؤدي الى اشتجار الفتنة، واستبحار الفساد في الأرض، فأمر دنيويّ مبنيّ على العادات، وهو معلوم عند الناس، بل هو بمثابة المحسوس عندهم فلذلك قال فيه: لا يشعرون وأيضا فإنه لما ذكر السّفه في الآية الثانية وهو جهل مطبق كان ذكر العلم أكثر ملاءمة فقال: لا يعلمون وهذا من الدقائق فتنبّه له. الفوائد: 1- نائب فاعل قيل: يقدره النحاة ضميرا لمصدره وجملة النهي مفسرة لذلك الظرف وقيل الظرف نائب الفاعل فالجملة في محل نصب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 واختلفوا في وقوع الجملة فاعلا أو نائب فاعل والوجه أن الجملة التي يراد بها لفظها يحكم لها بحكم المفردات ولهذا تقع مبتدأ نحو لا حول ولا قوة كنز من كنوز الجنة وفي المثل: زعموا مطيّة الكذب ولهذا لم يحتج الخبر الى رابط. 2- (أَلا) قيل: هي حرف بسيط يفتتح به الكلام وينبّه على أن ما بعده متحقّق لا محالة، وقيل: هي حرف مركب من همزة الاستفهام وحرف النفي، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقا وأختها (أما) التي هي من مقدمات اليمين على حدّ قوله: أما والذي بكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمر [سورة البقرة (2) : الآيات 14 الى 15] وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) اللغة: (الطّغيان) مصدر طغى طغيانا بضم الطاء وكسرها، ولام طغى قيل: ياء وقيل: واو ومعناها مجاوزة الحدّ. (يَعْمَهُونَ) العمه: التردد والتحير وهو قريب من العمى إلا أنّ بينهما عموما وخصوصا لأن العمى يطلق على ذهاب نور العين وعلى الخطأ في الرأي والعمه لا يطلق إلا على الخطأ في الرأي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الإعراب: (وَإِذا) عطف على ما تقدّم وقد تكرر إعراب إذا فيقاس على ما تقدّم (لَقُوا) أصله لقيوا وهو فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة استثقلت الضمة على الياء فحذفت ونقلت حركتها الى القاف والواو فاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (الَّذِينَ) اسم موصول مفعول به (آمَنُوا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (قالُوا) فعل وفاعل والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم (آمَنَّا) فعل وفاعل والجملة الفعلية مقول القول (وَإِذا) عطف على وإذا المتقدمة (خَلَوْا) فعل ماض مبني على الضم المقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والواو فاعل والجملة في محل جر باضافة الظرف إليها (إِلى شَياطِينِهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بخلوا والى معناها انتهاء الغاية وسيأتي بحثها في باب الفوائد (قالُوا) فعل ماض والجملة لا محل لها من الإعراب (إِنَّا) إن حرف مشبه بالفعل ونا ضمير متصل في محل نصب اسمها (مَعَكُمْ) مع ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر إن والكاف مضاف اليه وجملة إنا معكم اسمية في محل نصب مقول القول (إِنَّما) كافة ومكفوفة (نَحْنُ) ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (مُسْتَهْزِؤُنَ) خبر نحن مرفوع وعلامة رفعه الواو لأنه جمع مذكر سالم والجملة الاسمية تأكيد لجملة إنا معكم فهي داخلة في حيّز مقول القول ولك أن تجعلها مستأنفة لا محل لها مبنية على سؤال نشأ من ادعاء المعيّة كأنه قيل لهم عند قولهم: إنا معكم فما بالكم تشايعون المؤمنين بكلمة الايمان؟ فقالوا: إنما نحن مستهزئون أو انها تعليلية للمعيّة (اللَّهُ) مبتدأ (يَسْتَهْزِئُ) فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا يعود على الله والجملة الفعلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 خبر (بِهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بيستهزىء (وَيَمُدُّهُمْ) الواو عاطفة ويمدهم فعل مضارع مرفوع عطفا على يستهزىء والفاعل مستتر تقديره هو والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به (فِي طُغْيانِهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بيمدهم (يَعْمَهُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة الفعلية في محل نصب على الحال من الضمير في يمدهم. البلاغة: انطوت هاتان الآيتان على فنون عديدة من فنون البلاغة نوجزها فيما يلي: 1- المفارقة بين الجمل فقد خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية وهي جملة آمنا وخاطبوا شياطينهم بالجملة الاسمية وهي جملة إنا معكم وذلك لأن الجملة الاسمية أثبت من الجملة الفعلية فإيمانهم قصير المدى لا يعدو تحريك اللسان، أو مدة التقائهم بالمؤمنين وركونهم الى شياطينهم دائم الاستمرار والتجدد وهو أعلق بنفوسهم، وأكثر ارتباطا بما رسخ فيها. 2- المخالفة بين جملة مستهزئون وجملة يستهزىء لأن هزء الله بهم متجدد وقتا بعد وقت، وحالا بعد حال، يوقعهم في متاهات الحيرة والارتباك زيادة في التنكيل بهم. 3- المشاكلة: فقد ثبت أن الاستهزاء ضرب من العبث واللهو وهما لا يليقان بالله تعالى، وهو منزه عنهما ولكنه سمّى جزاء الاستهزاء استهزاء فهي مشاكلة لفظية لا أقل ولا أكثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 4- الفصل الواجب في قوله: «الله يستهزىء بهم» لأن في عطفها على شيء من الجمل السابقة مانعا قويا لأنها تدخل عندئذ في حيز مقول المنافقين والحال أن استهزاء الله بهم وخذلانه إياهم ثابتان مستمران سواء خلوا الى شياطينهم أم لا فالجملة مستأنفة على كل حال لأنها مظنّة سؤال ينشأ فيقال ما مصير أمرهم؟ ما عقبى حالهم؟ فيستأنف جوابا عن هذا السؤال. الفوائد: ذكر النحاة معاني لإلى الجارة أحدها الانتهاء وهو الأصل فيها وثانيها المعية كقوله تعالى: «مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ» أي مع الله وثالثها التبيين وهي المبينة لفاعلية مجرورها بعد ما يفيد حبا أو بغضا من فعل تعجب أو اسم تفضيل نحو: «رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ» ورابعها مرادفة اللام نحو «وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ» وخامسها موافقة (في) كقول النابغة الذبياني: فلا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطليّ به القار أجرب وسادسها موافقة (عند) كقول أبي كبير الهذلي: أم لا سبيل الى الشباب وذكره ... أشهى إليّ من الرحيق السّلسل وسابعها التوكيد كقراءة بعضهم: «أفئدة من الناس تهوى إليهم» بفتح الواو في تهوى على تضمين تهوى معنى تميل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 [سورة البقرة (2) : الآيات 16 الى 17] أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) الإعراب: (أُولئِكَ) اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ (الَّذِينَ) خبر أولئك (اشْتَرَوُا) فعل ماض مبني على الضم المقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والواو فاعل (الضَّلالَةَ) مفعول به (بِالْهُدى) الجار والمجرور متعلقان باشتروا والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (فَما) الفاء حرف للعطف مع التعقيب وما نافية (رَبِحَتْ) فعل ماض والتاء تاء التأنيث الساكنة (تِجارَتُهُمْ) فاعل ربحت (وَما) الواو عاطفة وما نافية (كانُوا) كان فعل ماض ناقص والواو اسمها (مُهْتَدِينَ) خبرها وعلامة نصبه الياء لأنه جمع مذكر سالم (مَثَلُهُمْ) مبتدأ (كَمَثَلِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مثلهم أو الكاف اسم بمعنى مثل خبر ومثل مضاف اليه (الَّذِي) اسم موصول في محل جر بالاضافة (اسْتَوْقَدَ) فعل ماض مبني على الفتح بمعنى أوقد وهي استفعل بمعنى أفعل ومثله أجاب واستجاب، وأخلف واستخلف والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو وجملة استوقد لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول واستعمل الذي في موضع الذين ولذلك قال فيما بعد: «بنورهم» (ناراً) مفعول به، وجملة مثلهم مستأنفة مسوقة لضرب المثل لحال المنافقين الذين اشتروا الضلالة بالهدى استحضارا للصورة ورفعا للأستار عن الحقائق (فَلَمَّا) الفاء حرف عطف ولما ظرف بمعنى حين متضمن معنى الشرط وقيل: هي حرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وجوب لوجوب وسماها ابن هشام رابطة (أَضاءَتْ) فعل ماض والتاء تاء التأنيث الساكنة والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي (ما) اسم موصول بمعنى المكان مفعول به (حَوْلَهُ) ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة ما وزعم بعض اللغويين أن أضاء فعل لازم فيتعيّن أن تكون ما زائدة أي أضاءت حوله (ذَهَبَ اللَّهُ) فعل وفاعل والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم (بِنُورِهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بذهب (وَتَرَكَهُمْ) فعل ماض وفاعل مستتر فيه جوازا ومفعول به أول (فِي ظُلُماتٍ) الجار والمجرور في موضع المفعول الثاني لتركهم (لا) نافية (يُبْصِرُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة في موضع نصب على الحال المؤكدة لأن من كان في الظلمة لا يبصر. البلاغة: في هاتين الآيتين من فنون البلاغة ما تضيق عنه الصحف وسنحاول تلخيص هذه الفنون: 1- الاستعارة التصريحية الترشيحية والمعنى اختاروا واستبدلوا وقرينة الاستعارة الضلالة ثم رشح لهذه الاستعارة بقوله: فما ربحت تجارتهم فأسند الربح الى التجارة فالمستعار منه الذي هو الشراء رشّح لفظي الربح والتجارة للاستعارة لما بين الشراء والربح من الملاءمة، والترشيح هو أن يبرز المجاز في صورة الحقيقة ثم يحكم عليه ببعض أوصاف الحقيقة فينضاف مجاز الى مجاز ومن ذلك قول حميدة بنت النعمان بن بشير: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ؟؟ بكى الخزّ من روح وأنكر جلده ... وعجّت عجيجا من جذام المطارف ؟؟ فد أقامت الخز مقام شخص حين باشر روحا بكى من عدم ملاءمته بقولها: وأنكر جلده ثم زادت في ترشيح المجاز بقولها: وعجّت أي صاحت مطارف الخز من قبيلة روح هذا وهي قبيلة جذام ومعنى البيت ان روحا وقبيلته جذام لا يصلح لهم لباس الخز ومطارفه لأنهم لا عادة لهم بذلك فكنى عنهم بما كنى في البيت. 2- الفرق بين اشتروا واستبدلوا من وجهين: ا- ان الاستبدال لا يكون شراء إلا إذا كان فيه فائدة يقصدها المستبدل منه سواء كانت حقيقية أم وهمية. ب- ان الشراء يكون بين متبايعين بخلاف الاستبدال فاذا أخذت ثوبا من ثيابك بدل آخر يقال: انك استبدلت ثوبا بثوب فالمعنى الذي تؤدي إليه الآية أن أولئك القوم اختاروا الضلالة على الهدى لفائدة لهم بإزائها يعتقدون الحصول عليها من الناس فهو معاوضة بين طرفين يقصد بها الربح وهذا هو معنى الاشتراء ومثلهما البيع والابتياع ولا يؤديه مطلق الاستبدال، إذا عرفت هذا أدركت السرّ في اختيار اشتروا على استبدلوا، وتبينت أن القرآن وهو أعلى درج البلاغة لا يختار لفظا على لفظ من شأنه أن يقوم مقامه إلا لحكمة في ذلك، وخصوصية لا توجد في غيره. 3- التتميم في قوله: «وما كانوا مهتدين» وحدّه أن يأتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 في الكلام كلمة أو كلام إذا طرح منه نقص معناه في ذاته أو في صفاته أو لزيادة حسنة فقوله: «وما كانوا مهتدين» تتميم لما تقدّم أفاد بأنهم ضالون في جميع ما يتعاطونه من عمل. 4- التشبيه التمثيلي: في قوله: «مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم» وحقيقة التشبيه التمثيلي أن يكون وجه الشبه فيه صورة منتزعة من متعدّد أي أن حال المنافقين في نفاقهم وإظهارهم خلاف ما يسترونه من كفر كحال الذي استوقد نارا ليستضيء بها ثم انطفأت فلم يعد يبصر شيئا، وهكذا يبدو لك أن التشبيه التمثيلي يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين، ويريك للمعاني المتمثلة بالأوهام شبها في الأشخاص الماثلة وينطق لك الأخرس ويعطيك البيان من الأعجم ويريك الحياة في الجماد، ويجعل الشيء قريبا بعيدا، ومن أمثلته في الشعر قول بشار: كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه فقد شبّه ثوران النقع المنعقد فوق الرؤوس والسيوف المتلاحمة فيه أثناء الحرب بالليل الأسود البهيم تتهاوى فيه الكواكب، وتتساقط الشهب وقول أبي تمام يصف الربيع: يا صاحبيّ تقصّيا نظريكما ... تريا وجوه الأرض كيف تصوّر تريا نهارا مشمسا قد شابه ... زهر الربا فكأنما هو مقمر شبه النهار المشمس في الروض البهي المكلل بالأزاهير بالليل المقمر الساجي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 5- المخالفة بين الضميرين فقد وحد الضمير في استوقد وحوله نظرا الى جانب اللفظ لأن المنافقين كلهم على قول واحد وفعل واحد، وأما رعاية جانب المعنى في (بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ) فلكون المقام تقبيح أحوالهم وبيان ذاتهم وضلالهم فاثبات الحكم لكل فرد منهم واقع. 6- مراعاة النظير: وهو فن يعرف عند علماء البلاغة بالتناسب والائتلاف وحدّه أن يجمع المتكلم بين أمر وما يناسبه مع إلغاء ذكر التضادّ لتخرج المطابقة وهي هنا في ذكر الضوء والنور والسرّ في ذكر النور مع أن السياق يقتضي أن يقول بضوئهم مقابل أضاءت هو أن الضوء فيه دلالة على الزيادة فلو قال بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نورا والغرض هو إزالة النور عنهم رأسا وطمسه أصلا ويؤكد هذا المعنى أنه قال ذهب بنورهم ولم يقل: أذهب نورهم والفرق بينهما أن معنى أذهبه أزاله وجعله ذاهبا ومعنى ذهب به استصحبه ومضى به معه والغرض إفادة أنه لم يبق مطمع في عودة ذلك النور إليهم بالكلية إذ لو قيل: أذهب الله نورهم ربما كان يتوهم أنه إنما أذهب عنهم النور وبقي هو معهم فربما عوضهم بدل ما فاتهم فلما قال: ذهب الله بنورهم كان ذلك حسما وانقطاعا لمادة الاطماع من حصولهم على أي خير لهم أو منهم وهذا من أسمى ما يصل إليه البيان وقد تعلق ابن الرومي بأهداب هذه البلاغة حين قال في وصف العنب الرّازقيّ: لم يبق منه وهج الحرور ... إلّا ضياء في ظروف نور فجعل ماء العنب ضوءا لأنه أشد توهّجا وأكثر لألاء من قشره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الذي هو بمثابة نور يصون ذلك الضوء ويحفظه فما أبرع ابن الرومي في اقتباسه. الفوائد: 1- لكاف التشبيه ثلاث حالات: آ- يتعيّن أن تكون اسما وهي ما إذا كانت خبرا أو فاعلا أو مفعولا أو مجرورة بحرف أو إضافة كما تقدم في الآية وكقول أبي الطيب: وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا ب- يتعين أن تكون حرفا وهي الواقعة صلة للموصول. ج- يجوز فيها الأمران فيما عدا ذلك وسيأتي المزيد من بحث الكاف في هذا الكتاب. 2- ترك: في الأصل بمعنى طرح وخلّى فيتعدّى لواحد وقد يتضمن معنى التصيير فيتعدّى لاثنين. [سورة البقرة (2) : الآيات 18 الى 20] صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 اللغة: (صُمٌّ) جمع أصمّ وهو الذي لا يسمع، يقال: صمّ يصمّ بفتح الصاد فيهما أي ثقل السمع منه وقيل: أصله السّدّ وصست القارورة أي سددتها. (بُكْمٌ) : جمع أبكم وهو الذي لا يتكلم أي الأخرس. (عُمْيٌ) جمع أعمى والعمى ظلمة في العين تمنع من إدراك المبصرات والفعل منها على وزن عمي على فعل بكسر العين واسم الفاعل على أعمى وهو قياس الآفات والعاهات. (صيّب) : هو المطر الذي يصوب أي ينزل وأصله صيوب اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء. (السّماء) كلّ ما علاك فأظلّك فهو سماء والسماء مؤنث وقد يذكّر. قال: فلو رفع السماء إليه قوما ... لحقنا بالسماء مع السحاب الإعراب: (صُمٌّ) خبر لمبتدأ محذوف أي هم صم والجملة مستأنفة (بُكْمٌ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 خبر ثان (عُمْيٌ) خبر ثالث وهذه الأخبار وإن تباينت في اللفظ متحدة في المدلول والمعنى لأن مآلها الى عدم قبول الحقّ (فَهُمْ) الفاء عاطفة وهم مبتدأ (لا يَرْجِعُونَ) لا نافية ويرجعون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة خبر هم والجملة عطف على هم صم أي لا يعودون الى الهدى والمعنى أن مشاعرهم انتقضت بناها التي بنيت عليها للاحساس والإدراك (أَوْ) حرف عطف للتفضيل أي أن الناظرين في حالهم منهم من يشبّههم بحال المستوقد ومنهم من يشبّههم بأصحاب صيب (كَصَيِّبٍ) الجار والمجرور معطوفان على كمثل ولا بد من تقدير مضاف أي كأصحاب صيب بدليل يجعلون أصابعهم في آذانهم (مِنَ السَّماءِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لصيب (فِيهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (ظُلُماتٌ) مبتدأ مؤخر (وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) معطوفان على ظلمات (يَجْعَلُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة مستأنفة مسوقة للإجابة عن سؤال مقدر كأنه قيل: فكيف حالهم مع ذلك الرعد؟ فقيل يجعلون (أَصابِعَهُمْ) مفعول به (فِي آذانِهِمْ) الجار والمجرور في موضع المفعول الثاني ليجعلون (مِنَ الصَّواعِقِ) الجار والمجرور متعلقان بيجعلون، ومن سببية وانظر الفوائد (حَذَرَ الْمَوْتِ) مفعول لأجله (وَاللَّهُ) الواو اعتراضية والله مبتدأ (مُحِيطٌ) خبر (بِالْكافِرِينَ) الجار والمجرور متعلقان بمحيط والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها معترضة بين جملتين من قصّة واحدة وهما: يجعلون أصابعهم ويكاد البرق (يَكادُ) فعل مضارع مرفوع من أفعال المقاربة التي تعمل عمل كان وفيها لغتان: فعل وفعل ولذلك يقال كدت بكسر الكاف وكدت بضمها (الْبَرْقُ) اسم يكاد المرفوع (يَخْطَفُ) فعل مضارع مرفوع وفاعل مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على البرق وجملة يخطف خبر يكاد وخبر هذه الأفعال لا يكون إلا فعلا مضارعا وجملة يكاد مستأنفة كأنها جواب قائل يقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فكيف حالهم مع ذلك البرق فقيل: يكاد (أَبْصارَهُمْ) مفعول به والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة (كُلَّما) كلّ منصوب على الظرفية الزمانية وقد سرت الظرفية الى كل من إضافتها لما المصدرية الظرفية وما مع مدخولها (أَضاءَ) في تأويل مصدر في محل جر بالإضافة وقيل: ما نكرة موصوفة ومعناها الوقت والعائد محذوف تقديره كل وقت أضاء لهم فيه فجملة أضاء في الأول لا محل لها لأنها صلة الموصول الحرفي وفي الثاني محلها الجر على الصفة وكلما برأسها متضمنة معنى الشرط والعامل فيها جوابها (لَهُمْ) الجار والمجرور متعلقان بأضاء (مَشَوْا) فعل ماض مبني على الضم المقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والواو فاعل وجملة مشوا فيه لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم (فِيهِ) الجار والمجرور متعلقان بمشوا (وَإِذا) الواو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه (أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ) فعل ماض مبنى على الفتح والفاعل مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على البرق والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها وعليهم متعلقان بأظلم (قامُوا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم (وَلَوْ) الواو استئنافية ولو: شرطية وعبارة سيبويه انها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره وهي أحسن من قول النحويين إنها حرف امتناع لامتناع وستأتي مباحث طريفة عنها في هذا الكتاب (شاءَ اللَّهُ) فعل وفاعل ومفعول المشيئة محذوف وهذا الحذف سائغ في كلام العرب يكادون لا يذكرون مفعول شاء إلا في الأمر المستغرب كقول الخريمي: فلو شئت أن أبكي دما لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع فأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول شئت لأنه شيء مستغرب فحسن ذكره ومثل شاء أراد في هذا الحكم (لَذَهَبَ) اللام واقعة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 جواب لو وذهب فعل ماض مبني على الفتح وفاعله مستتر فيه جوازا تقديره هو (بِسَمْعِهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بذهب (وَأَبْصارِهِمْ) عطف على يسمعهم (إِنَّ) حرف مشبه بالفعل (اللَّهُ) اسمها المنصوب (عَلى كُلِّ) الجار والمجرور متعلقان بقدير (شَيْءٍ) مضاف اليه (قَدِيرٌ) خبر إنّ وجملة لذهب لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم وجملة إن الله تعليلية لا محل لها من الإعراب. البلاغة: 1- الاستعارة التصريحية فقد شبههم بالصم والبكم والعمي وطوى ذكر المشبه واعتبره بعض علماء البلاغة في حكم المذكور فهو عندهم تشبيه بليغ وارد في كلامهم كثيرا. قال شاعرهم: صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم دفنوا ولكن بلغاء المحققين يتناسون المشبّه ويضربون عن توهمه صفحا. قال أبو تمام يمدح خالد بن يزيد الشيبانيّ: ويصعد حتى يظنّ الجهول ... بأنّ له حاجة في السماء فقد استعار الصعود من العلوّ الحسيّ للعلوّ المعنوي على طريق الاستعارة التصريحية ثم بنى عليه ما يبنى على العلو في المكان ترشيحا وتتميما للمبالغة ولم يذكر المشبّه. 2- التشبيه التمثيلي المتكرر فقد شبّه سبحانه المنافقين وإظهارهم الايمان وإبطانهم الكفر بمن استوقد نارا ثم انقطعت وذلك من ثلاثة أوجه: آ- أن مستوقد النار يستضيء بنورها، وتذهب عنه وحشة الظلمة فإذا انطفأت ذهبت الاستضاءة وانتفى الانتفاع والاهتداء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ب- أن مستوقد النار إذا لم يمدها بالوقود ذهب ضوءها كذلك المنافق إذا لم يستدم الايمان ذهب إيمانه. ج- ان مستوقد النار المستضيء بها هو في ظلمة ربداء من نفسه فاذا ذهبت النار بقي في ظلمتين: ظلمة الليل وظلمة نفسه ثم شبّه الدّين بالصيّب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر وما يتعلق به من تشبيه الكفار بالظلمات وما في ذلك من الوعد والوعيد بالبرق والرعد وما يصيب الكفرة من الفتن والبلايا بالصواعق. 3- وإنما أفرد الرعد والبرق وظاهر الكلام وسياقه يستوجبان جمعهما كما جمع ظلمات ولأن الجمع أبلغ من الإفراد على حدّ قول البحتري: يا عارضا متلفّعا ببروده ... يختال بين بروقه ورعوده نقول إنما جنح القرآن إلى الإفراد لنكتة هامة وهي أن البرق والرعد لما كانا في الأصل مصدرين والمصادر لا تجمع يقال رعدت السماء رعدا، وبرقت برقا، روعي حكم الأصل بأن ترك جمعهما وإن أريد معنى الجمع وهذه النكتة ذهل عنها البحتري، ولا يخفى أن من بين الألفاظ ما يعذب مفرده ويقبح جمعه وبالعكس وسيأتي ذلك كله في مواطنه من هذا الكتاب العجيب. 4- المجاز المرسل في قوله: «يجعلون أصابعهم في آذانهم» لأن الإصبع ليست هي التي تجعل في الأذن فذكر الأصابع وأراد الأنامل وعلاقته الكلية والمجاز هنا أبلغ من الحقيقة ولذلك عدل عنها إليه وجمع الأصابع لأنه لم يرد أصبعا معينة لأن الحالة حالة دهش وحيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 فأية أصبع اتفق لهم أن يسدوا بها آذانهم فعلوا غير معرّجين على ترتيب معتاد أو تعيين مفترض. الفوائد: زعم قاضي القضاة تاج الدين محمد بن عبد الرحمن بن عقيل شارح ألفية ابن مالك في النحو أن من الصواعق متعلقان بحذر الموت وفي ذلك تقديم معمول المصدر، قال ابن عقيل: إن الذي حمله على ذلك أنه لو علّقه بيجعلون لكان في موضع المفعول لأجله ويلزم على ذلك تعدّد المفعول لأجله من غير عطف وذلك ممتنع عند النحاة وأجاب عن هذا الاعتراض أن المفعول لأجله الأول تعليل للجعل مطلقا، والثاني تعليل له مقيدا بالأول والمطلق والمقيّد متغايران فالمعلّل متعدّد في المعنى وإن اتحد في اللفظ، وقد استدرك ابن هشام في مغني اللبيب على ابن عقيل، فارجع اليه إن شئت ففيه متعة وفائدة. [سورة البقرة (2) : الآيات 21 الى 22] يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) اللغة: أندادا جمع ندّ بكسر النون وهو المثل ولا يقال إلا للمثل المخالف المناوىء. قال جرير: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 أتيما تجعلون إليّ ندّا ... وما تيم لذي حسب نديد الإعراب: (يا أَيُّهَا) يا حرف نداء للمتوسط ولم يقع النداء في القرآن بغيرها من أدوات النداء وأي: منادى نكرة مقصودة مبنيّ على الضم في محل نصب (النَّاسُ) بدل من أي على اللفظ (اعْبُدُوا) فعل أمر مبني على حذف النون لأن مضارعه من الأفعال الخمسة والواو فاعل (رَبَّكُمُ) : مفعول به والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة (الَّذِي) اسم موصول نعت لربكم (خَلَقَكُمْ) فعل ماض والكاف مفعول والفاعل مستتر تقديره هو (وَالَّذِينَ) الواو حرف عطف والذين اسم موصول معطوف على الكاف أي وخلق الذين (مِنْ قَبْلِكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف لا محل له من الإعراب لأنه صلة الموصول (لَعَلَّكُمْ) لعل حرف ترجّ ونصب والكاف اسمها (تَتَّقُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة الفعلية خبر لعل وجملة لعلكم تتقون لا محل لها لأن موقعها مما قبلها موقع الجزاء من الشرط ويجوز أن تعرب حالية أي حال كونكم مترجين للتقوى طامعين فيها (الَّذِي) اسم موصول في محل نصب صفة ثانية لربكم (جَعَلَ) فعل ماض والفاعل ضمير مستتر فيه تقديره هو والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (لَكُمُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لفراشا ثم تقدمت (الْأَرْضَ) مفعول جعل الأول إن كانت من الجعل بمعنى التعبير (فِراشاً) مفعول به ثان وان كانت من الجعل بمعنى الخلق فتكون فراشا حالا مؤوّلة (وَالسَّماءَ) عطف على قوله الأرض (بِناءً) عطف على فراشا (وَأَنْزَلَ) الواو حرف عطف وأنزل عطف على قوله جعل (مِنَ السَّماءِ) جار ومجرور متعلقان بأنزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 (ماءً) مفعول أنزل (فَأَخْرَجَ) عطف على أنزل (بِهِ) جار ومجرور متعلقان بأخرج (مِنَ الثَّمَراتِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة وتقدمت (رِزْقاً) مفعول به (لَكُمُ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ثانية لرزقا (فَلا) الفاء تعليلية ولا: ناهية (تَجْعَلُوا) فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والجملة تعليلية لا محلّ لها بمثابة الاستئنافية والمعنى أن هذا النهي متسبّب عن إيجاد هذه الآيات الباهرة (لِلَّهِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف في موضع المفعول الثاني لتجعلوا (أَنْداداً) مفعول تجعلوا الأول (وَأَنْتُمْ) الواو حالية وأنتم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (تَعْلَمُونَ) فعل مضارع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والجملة الفعلية في محل رفع خبر أنتم والجملة الاسمية في موضع نصب على الحال. الفوائد: 1- اضطرب كلام النحاة في إعراب الاسم المعرف بالألف واللام بعد يا أيها فقال معظمهم: إنه صفة وحجتهم أن كلا من حرف النداء وأل أداة تعريف وهم يكرهون أداتين لمؤدّى واحد فأقحمت أي لتكون هي المنادى ظاهرا والمحلّى بأل صفة لها ويرد بأنه جامد مثل يا أيها الرجل ويجاب بأنه وإن كان جامدا لكنه في حكم المشتقّ أي المتصف بالرجولية والذي نراه أنه يقال في أن أي أو أية منادى وها حرف تنبيه وما فيه أل بدل من المنادى إذا كان جامدا وإلّا أعرب نعتا. 2- إنما سميت الأرض أرضا لأنها تتأرض ما في بطنها يعني تأكل ما فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 3- إذا ورد الترجّي في كلام الله تعالى ففيه ثلاثة تأويلات: آ- إن لعلّ على بابها من الترجّي والاطماع ولكنه بالنسبة الى المخاطبين وقد نص على هذا التأويل سيبويه في كتابه والزمخشري في كشافّه. ب- إن لعلّ للتعليل أي اعبدوا ربكم لكي تتقوا نصّ عليه قطرب واختاره الطبري في تفسيره الكبير. ج- انها للتعرض للشيء كأنه قيل: افعلوا ذلك متعرضين لأن تتقوا نص عليه أبو البقاء واختاره المهدويّ في تفسيره الممتع. 4- إذا تقدم النعت على المنعوت أعرب حالا وساغ لذلك أن يكون صاحب الحال نكرة مع أنه محكوم عليه أن يكون معرفة لأن الحكم على المجهول لا يفيد في الغالب وعليه قول الشاعر: لميّة موحشا طلل ... يلوح كأنه خلل [سورة البقرة (2) : الآيات 23 الى 24] وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 اللغة: (السورة) الطائفة من القرآن التي أقلّها ثلاث آيات، ومن معانيها المرتبة الرفيعة قال النابغة الذبياني: ألم تر أنّ الله أعطاك سورة ... ترى كلّ ملك دونها يتذبذب (وَقُودُهَا) بفتح الواو وهو ما توقد به النار من حطب وغيره وأما بضمها فهو مصدر وقد، وكذا يقال فيما جاء على هذا الوزن كالوضوء والطهور والسحور. الإعراب: (وَإِنْ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق للرد على من ارتابوا في القرآن تعنتا ولجاجا وإن شرطية تجزم فعلين (كُنْتُمْ) كان فعل ماض ناقص والتاء اسمها والفعل الناقص في محل جزم فعل الشرط (فِي رَيْبٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر كنتم (مِمَّا) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لريب وما موصولة (نَزَّلْنا) فعل ماض مبني على السكون ونا ضمير في محل رفع فاعل والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (عَلى عَبْدِنا) الجار والمجرور متعلقان بنزلنا والعائد محذوف أي نزلناه ولم يقل أنزلناه لأن القرآن نزل منجّما على سبيل التدريج (فَأْتُوا) الفاء رابطة لجواب الشرط لأن الجملة طلبية لا تصلح لتكون شرطا وأتوا فعل أمر مبني على حذف النون لأن مضارعه من الأفعال الخمسة والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل والجملة في محل جزم جواب الشرط (بِسُورَةٍ) الجار والمجرور متعلقان بأتوا (مِنْ مِثْلِهِ) متعلقان بحسب عودة الضمير فهو إما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 أن يعود على القرآن فهما متعلقان بمحذوف صفة لسورة وإما أن يعود على عبدنا فهما متعلقان بقوله: فأتوا والمعنى على الأول يتناول عدة أمور: آ- فأتوا بسورة من مثله في حسن النظم وبديع الوصف وروعة الأسلوب وإيجازه. ب- فأتوا بسورة من مثله في غيبوبة أخباره وأحاديثه عن الماضين وتحدثه عما يكون. ج- فأتوا بسورة من مثله فيما انطوى عليه من أمر ونهي ووعد ووعيد وبشارة وإنذار، وحكم وأمثال. د- فأتوا بسورة من مثله في صدقه وصيانته من التحريف والتبديل وغير ذلك من خصائصه. هـ- فأتوا بسورة من مثله في منطوياته البعيدة، وأحكامه المتمشية مع تطورات الأزمنة، وتقدم العلوم، ومواكبته للحضارة الانسانية في مختلف ظروفها وأحوالها. والمعنى على الثاني يتناول عدة أمور أيضا: آ- فأتوا من مثل الرسول أي من أمّيّ لا يحسن الكتابة على الفطرة الأصلية. ب- فأتوا من مثل الرسول أي من رسول لم يدارس العلماء، ولم يجالس الحكماء، ولم يتعاط أخبار الأولين، ولم يؤثر ذلك عنه بحال من الأحوال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ج- فأتوا من مثل الرسول أي من كل رجل كما تحسبونه في زعمكم شاعر أو مجنون وكلا المعنيين كما ترى، حسن جميل. (وَادْعُوا) عطف على قوله: فأتوا والواو فاعل (شُهَداءَكُمْ) مفعول به لادعوا والكاف في محل جر بالاضافة (مِنْ دُونِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بادعوا والمعنى: وادعوا من دون الله شهداءكم، والشهداء: إما جمع شهيد للمبالغة كعليم وعلماء وإما جمع شاهد كشاعر وشعراء ويحتمل أن يتعلقا بمحذوف حال من قوله شهداءكم والتقدير منفردين عن الله تعالى أو مغايرين لله (إِنْ) شرطية وانظر بحثا هاما عنها في باب الفوائد (كُنْتُمْ) كان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها (صادِقِينَ) خبرها وجواب الشرط أي فافعلوا ذلك (فَإِنْ) الفاء استئنافية وإن شرطية (لَمْ) حرف نفي وقلب وجزم (تَفْعَلُوا) فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون (وَلَنْ) الواو اعتراضية ولن حرف نفي ونصب واستقبال (تَفْعَلُوا) فعل مضارع منصوب بلن وعلامة نصبه حذف النون والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها معترضة بين الشرط وجوابه (فَاتَّقُوا) الفاء رابطة لجواب الشرط واتقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (النَّارَ) مفعول به (الَّتِي) اسم موصول في محل نصب صفة للنار (وَقُودُهَا) مبتدأ مرفوع والهاء ضمير متصل في محل جر بالاضافة (النَّاسُ) خبر (وَالْحِجارَةُ) عطف على الناس والجملة الاسمية لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (أُعِدَّتْ) فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي (لِلْكافِرِينَ) الجار والمجرور متعلقان بأعدت والجملة الفعلية في محل نصب حال لازمة من النار وإنما قلنا لازمة ردا على بعض المعربين كأبي حيان وابن عطية فقد جعلا الجملة استئنافية تفاديا لجعلها حالية من النار لأن المعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 يصير فاتقوا النار في حال إعدادها للكافرين بينما هي معدة لهم اتقوها أم لم يتقوها ولكن اضافة لازمة تدفع هذه المظنّة. البلاغة: 1- إيجاز القصر في قوله: «فاتقوا النار» والإيجاز هو جمع المعاني الكثيرة تحت اللفظ القليل مع الإبانة والإفصاح. 2- إيجاز الحذف في قوله «فاتقوا النار» أيضا وإيجاز الحذف يكون بحذف كلمة أو جمالة أو أكثر مع قرينة تعين المحذوف لأن من اتقى النار عصم نفسه عن جميع الموبقات التي يطول تعدادها. وترك المكابرة والمعاندة. 3- الاعتراض: في قوله: «ولن تفعلوا» وهو يأتي في الكلام الأغراض كثيرة، والغرض هنا التأكيد بأن ذلك غير متاح لهم ولو جهدوا وتضافرت هممهم عليه ومن روائعه قول عوف بن محلم الخزاعي: إن الثمانين، وبلغتها، ... قد أحوجت سمعي الى ترجمان فقوله: وبلغتها اعتراض بين اسم ان وخبرها وفائدتها الدعاء للمخاطب بأن يمتدّ عمره إلى الثمانين مع التنصل من مسؤولية عدم السمع بسبب كبر السنّ ووقر السمع وقول المتنبي جميل للغاية: وخفوق قلب لو رأيت جحيمه- يا جنّتي- لظننت فيه جهنّما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 والاعتراض في قوله: يا جنتي وقول أبي نواس وقد عشق الأمين: قد هام قلبي ولا أقول بمن ... أخاف من لا يخاف من أحد إذا تفكّرت في هواي له ... مسست رأسي هل طار عن جسدي؟ إني- على ما ذكرت من فرقي- لآمل أن أناله بيدي والاعتراض في قوله: على ما ذكرت من فرقي وفيه مالا يكتنه حسنه. الفوائد: 1- فشل محاولات التحدي: دعا القرآن قريشا الى أن تحاول محاكاة القرآن تحديا لها في مواطن كثيرة أبرزها الآية التي نحن بصددها ويظهر أنها حاولت أن تردّ على هذا التحدي فعجزت عن هذا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم تنقطع الرغبة في تقليد القرآن بعد حياته، فقد حاول مسيلمة الكذاب الذي ظهر باليمامة في بني حنيفة وطليحة بن خويلد الذي تنبّأ في بني أسد والأسود العنسي الذي تنبّأ في اليمن وسجاح التي ظهرت في بني تغلب ولا سبيل الى الجزم بأن الكلام الذي جاء به هؤلاء منسوب إليهم حقيقة بل نرجّح أنه من تخيّل القصّاص المتأخرين، فمن هذا الكلام المتهافت الذي نسب الى مسيلمة انه كان يقول: «يا ضفدع بنت ضفدعين، نقّي ما نقين، نصفك في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدّرين، ولا الشارب تمنعين» وواضح تماما أن هذا الهراء ليس من لغة الجاهلين في شيء، ومع هذا فقد خدع عنه الجاحظ، أو هو يسخر منه حين يقول: «ولا أدري ما الذي هيّج مسيلمة حتى ساء رأيه في الضفدع» وأما وحي الأسود العنسي- كما يقول- فكان ينزل به عليه- على زعمه- ملك أسماه: ذا ضمار وكان رجلا فصيحا يجيد سجع الكهّان وقد ضاع كلامه ولم يصلنا منه شيء، وأما وحي طلحة فقد كان ينزل به عليه- فيما يزعم- ملك سمّاه ذا النون ثم عدل عن ذي النون وقال لا بل هو جبريل ولم يعرف شيء عن قرآنه المزعوم وأما سجاح فقد ادّعت قرآنا إلا أن وحيها صمت حين لقيت مسيلمة وتزوجته ذلك الزواج الماجن المضحك، الذي تذكر مخازيه كتب الأدب والتاريخ، وذكر ابن قيّم الجوزيّة والباقلّاني أن عبد الله بن المقفع عند ما انتهى الى قوله تعالى: «حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور» الى قوله: «وقيل بعدا للقوم الظالمين» عدل عن إنشاء قرآنه وقال: هذا لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله، وترك المعارضة وأحرق ما كان اختلقه، ويقول الباقلّاني: إن قوما أدعوا أن ابن المقفع عارض القرآن في كتابه «الدرّة اليتيمة» ولكنه لم يجد فيما أنشأ ابن المقفع في هذا الكتاب ما يصح أن يكون تقليدا للقرآن. وكان شاعرنا العظيم أبو الطيب المتنبي قد تنبأ- فيما يقول الرواة- في بادية السماوة وأنشأ كلاما سماه قرآنا منه قوله: «والنجم السيّار، والفلك الدوّار، والليل والنهار، إن الكافرين لفي أخطار امض على سننك، واقف من كان قبلك من المرسلين، فإن الله قامع بك زيغ من ألحد في دينه، وضلّ عن سبيله» إلا أن المتنبي عدل عن هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 المحاولة، على أننا نشك كثيرا في هذه الروايات لأن المتنبي كان أحصف من أن ينسب الى نفسه مثل هذا الهراء ولأسباب أخرى لا مجال لبحثها الآن. ومن الذين اتهموا أيضا بهذه التهمة أبو العلاء المعري في كتابه «الفصول والغايات، في محاذاة السّور والآيات» ومما ورد في هذا الكتاب «سبحانك مؤبّد الآباد، هل للمنية نسب إلى الرّقاد؟ لا أتخيل إذا انتبهت أحدا من الأموات، إذا هجعت لقيني قريب عهد بالمنية، ومن فقدت منذ أزمان، أسألهم فيجيبون وأحاورهم فيتكلمون كأنهم بحبل الحياة معلّقون، لو صدق الرقاد لسكنت الى ما يخبر عنه سكان القبور ولكن الهجعة كثيرة الكذاب» وقد ذكر مصطفى صادق الرافعي من أدبائنا المحدثين في كتابه الممتع: «إعجاز القرآن» ما نصه: «وتلك ولا ريب فرية على المعري أراده بها عدوّ حاذق لأن الرجل أبصر بنفسه وبطبقة الكلام الذي يعارضه» أما الدكتور طه حسين فقد ذكر في كتابه «مع أبي العلاء في سجنه» ما خلاصته: هل أراد أبو العلاء إلى معارضة القرآن في الفصول والغايات كما ظن بعض القدماء؟ نعم ولا، نعم إن فهمنا من المعارضة مجرد التأثر والمحاكاة، ولا إن فهمنا من المعارضة أن أبا العلاء قد نظر الى القرآن على أنه مثل أعلى في الفن الأدبي فتأثّره وجدّ في تقليده كما يتأثر كل أديب بما يعجب به من المثل الفنية العليا، ذلك شيء لا شك فيه فأيسر نظر في كتاب «الفصول والغايات» يشعرك بأن أبا العلاء حاول أن يقلد قصار السور وطوالها وليس المهم أنه وفق في هذا التقليد أو لم يوفق بل من المحقق أن التوفيق لم يقدر له، كما لم يقدر لغيره» . 2- نصّ النحاة والأصوليون على أن إن الشرطية لا يعلّق عليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 إلا مشكوك فيه فلا تقول: إن غربت الشمس آتك بل إذا غربت آتيك وان إذا يعلق عليها المشكوك فيه والمعلوم والشك على الله محال فكيف جاءت هنا؟ والجواب أن الخصائص الإلهية لا تدخل في أوضاع العربية بل هي مبنية على خصائص الخلق، وهذا منزّل منزلة كلامهم فيما بينهم كأنه قيل: إن العادة بين الناس الشك في أمر الإله والرسول والمعاد وليس ذلك ما وقع القطع به في الذهن إلا بعد قيام النظر وقيام الأدلة. [سورة البقرة (2) : آية 25] وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25) اللغة: (وَبَشِّرِ) : البشارة: الإخبار بما يظهر سرور المخبر به ومنه البشرة لظاهر الجلد، وتباشير الصبح: ما ظهر من أوائل ضوئه، ولهذا التفسير اللغوي بحث فقهي طريف. قال الفقهاء: إذا قال لعبده: أيّكم بشّرني بقدوم فلان فهو حرّ فبشروه فرادى أعتق أولهم لأنه هو الذي أظهر سروره بخبره دون الباقين ولو قال مكان بشرني: أخبرني عتقوا جميعا لأنهم جميعا أخبروه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الإعراب: (وَبَشِّرِ) الواو عاطفة عطفت وصف جملة ثواب المؤمن على وصف جملة عقاب الكافر وفاعل بشر ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت (الَّذِينَ) اسم موصول في محل نصب مفعول به (آمَنُوا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَعَمِلُوا) عطف على آمنوا داخل في حيز الصلة والواو فاعل (الصَّالِحاتِ) مفعول به منصوب وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم (أَنَّ) حرف مشبه بالفعل تنصب الاسم وترفع الخبر وهي مع مدخولها في موضع نصب بنزع الخافض وسيأتي بحثه في باب الفوائد (لَهُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر أن المقدم (جَنَّاتٍ) اسمها المؤخّر وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم (تَجْرِي) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء منع من ظهورها الثقل (مِنْ تَحْتِهَا) الجار والمجرور متعلقان بتجري (الْأَنْهارُ) فاعل مرفوع (كُلَّما) ظرف زمان متضمن معنى الشرط وما مصدرية أو نكرة مقصودة وقد تقدم القول فيها قريبا (رُزِقُوا) فعل ماض مبني للمجهول والواو ضمير متصل في محل رفع نائب فاعل والجملة الفعلية لا محل لها أو في محل جر على الصفة أي كل وقت رزقوا فيه (مِنْها) الجار والمجرور متعلقان برزقوا (مِنْ ثَمَرَةٍ) الجار والمجرور بدل اشتمال من قوله منها ومثاله: أكلت من بستانك من الرمان شيئا حمدتك، فموقع من ثمرة موقع قولك من الرمان (رِزْقاً) مفعول به ثان لرزقوا والمفعول الأول هو نائب الفاعل الذي هو الواو ويبعد أن يكون رزقا مصدرا منصوبا على المفعولية المطلقة، وجملة كلما رزقوا صفة ثانية لجنات أو حالية ولك أن تجعلها مستأنفة لا محل لها من الإعراب (قالُوا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 شرط غير جازم (هذَا) اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ (الَّذِي) اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول (رُزِقْنا) فعل ماض مبني للمجهول ونا ضمير متصل في محل رفع نائب فاعل وجملة رزقنا لا محل لها لأنها صلة الموصول والعائد محذوف أي رزقناه (مِنْ قَبْلُ) من حرف جر لابتداء الغاية وقيل ظرف مبني على الضم لانقطاعه عن الإضافة لفظا لا معنى في محل جر بمن والجار والمجرور متعلقان برزقنا أو بمحذوف حال (وَأُتُوا) الواو استئنافية وأتوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل (بِهِ) الجار والمجرور متعلقان بأتوا والجملة مستأنفة مسوقة للاخبار عن هذا الذي رزقوه (مُتَشابِهاً) حال أي مشبها للثمر الذي كانوا يألفونه في الدنيا لأن الإنسان بالمألوف آنس، وإليه أميل، وقيل يشبه بعضه بعضا في اللون وإن تباين في الطعم والمعنى الأول أرجح بدليل ما تقدم وهو قوله: «هذا الذي رزقنا من قبل» (وَلَهُمْ) الواو حرف عطف ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم (فِيها) جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (أَزْواجٌ) مبتدأ مؤخّر والزوج ما يكون معه آخر فيقال زوج للمرأة والرجل وأما الزوجة بالتاء فقليل وقال الفراء: انها لغة (مُطَهَّرَةٌ) نعت لأزواج (وَهُمْ) الواو حرف عطف وهم مبتدأ (فِيها) الجار والمجرور متعلقان بخالدون (خالِدُونَ) خبر هم. البلاغة: 1- المجاز المرسل في قوله تجري من تحتها الأنهار والعلاقة المحلية هذا إذا كان النهر مجرى الماء كما قال بعض علماء اللغة أما إذا كان بمعنى الماء في المجرى فلا مجاز فيه وفيه لغتان فتح الهاء وسكونها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 2- التشبيه البليغ في قوله: هذا الذي رزقنا من قبل وسمي بليغا لأن أداة التشبيه فيه محذوفة فتساوى طرفا التشبيه في المرتبة ومن أمثلته قول أبي العلاء يصف ليلة: ليلتي هذه عروس من الزنج عليها قلائد من جمان الفوائد: 1- قد يحذف الجار سماعا فينتصب المجرور بعد حذفه تشبيها له بالمفعول به ومنه قول جرير: تمرّون الديار ولم تعوجوا ... كلامكم عليّ إذن حرام أي تمرون بالديار، ويقاس سقوط حرف الجر قبل أن المصدرية وأن المشبّهة بالفعل المفتوحة الهمزة. 2- جمع غير العاقل يجوز وصفه بالجمع المناسب قال تعالى: «جنات معروشات» ويجوز في غير القرآن معروشة وجمع التكسير الدال على العقلاء يجوز وصفه أيضا بالمفرد المؤنث ويجوز وصفه بالجمع كما في الآية وهو «أزواج مطهرة» ويجوز في غير القرآن مطهرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 [سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 27] إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) اللغة: (يَسْتَحْيِي) الحياء: تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من تخوّف ما يعاب به ويذمّ. ومن أقوال العرب: «فلان أحيا من مخدّرة» وقالت ليلى: وأحيا حياء من فتاة حييّة ... وأشجع من ليث بخفّان حادر (البعوض) الحيوان العضوض المعروف واشتقاقه من البعض وهو القطع ومنه بعض الشيء لأنه قطعة منه. (النقض) : الفسخ وفك الترتيب. الإعراب: (إِنَّ) حرف مشبه بالفعل (اللَّهَ) اسمها المنصوب (لا) نافية (يَسْتَحْيِي) فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على الله والجملة الفعلية في محل رفع خبر إن (أَنْ يَضْرِبَ) أن حرف مصدري ونصب ويضرب فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا وأن وما بعدها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به إن كان يستحيي يتعدّ بنفسه أو في محل نصب بنزع الخافض وقد تقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 بحثه قريبا (مَثَلًا) مفعول به ليضرب (ما) فيها أقوال عديدة أرجحها فيما نرى أنها الإبهامية وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة زادته شيوعا وعموما وإبهاما تقول: أعطني كتابا ما تريد أي كتاب شئت وتعرب صفة للاسم قبلها (بَعُوضَةً) بدل من مثلا (فَما) الفاء عاطفة وما اسم موصول في محل نصب معطوف على بعوضة (فَوْقَها) ظرف مكان متعلق بمحذوف لا محل له من الإعراب لأنه صلة الموصول المراد: فما تجاوزها في المعنى الذي ضربت فيه مثلا وهو القلّة والحقارة أو فما تجاوزها في الحجم كأنه قصد بذلك ردّ ما استهجنوه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت لأنهما أكبر من البعوضة تقول: فلان لا يبالي أن يبخل بنصف درهم فما فوقه تريد الدرهم والدرهمين وجميل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه مسلم عن ابراهيم عن الأسود قال: دخل شباب قريش على عائشة رضي الله عنها وهي بمنى وهم يضحكون فقالت: ما يضحككم؟ قالوا: خرّ على طنب فسطاط فكادت عنقه أو عينه أن تذهب فقالت: لا تضحكوا إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه خطيئة. يحتمل فيما عدا الشوكة وتجاوزها في القلة ويحتمل ما هو أشد من الشوكة وأوجع (فَأَمَّا) الفاء استئنافية وأما حرف شرط وتفصيل (الَّذِينَ) اسم موصول في محل رفع مبتدأ (آمَنُوا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الذين (فَيَعْلَمُونَ) الفاء: رابطة لجواب الشرط ويعلمون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل وجملة يعلمون في محل رفع خبر الذين (أَنَّهُ) أنّ: حرف مشبه بالفعل والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها (الْحَقُّ) خبرها وان وما في حيزها سدت مسدّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 مفعولي يعلمون (مِنْ رَبِّهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (وَأَمَّا) الواو حرف عطف واما حرف شرط وتفصيل (الَّذِينَ) اسم موصول في محل رفع مبتدأ (كَفَرُوا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها صلة الموصول (فَيَقُولُونَ) الفاء: رابطة لجواب الشرط ويقولون: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والجملة خبر الموصول (ماذا) اسم استفهام في محل نصب مفعول به مقدم لأراد أو ما اسم استفهام وذا اسم موصول- هنا خاصة- في محل رفع خبر ما والجملة في محل نصب مقول القول وعلى الوجه الأول تعرب جملة أراد مقولا للقول (أَرادَ) فعل ماض مبني على الفتح (اللَّهَ) فاعل أراد (بِهذا) الجار والمجرور متعلقان بأراد (مَثَلًا) تمييز مؤكد أو حال من اسم الاشارة أي ممثلا به أو من الفاعل أي ممثلا (يُضِلُّ) فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر فيه جوازا تقديره هو والجملة الفعلية مستأنفة جارية مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدرتين بأمّا وقيل: في محل نصب صفة مثلا والمعنى: مثلا يفترق الناس به إلى ضالين ومهتدين (بِهِ) الجار والمجرور متعلقان بيضل (كَثِيراً) مفعول به (وَيَهْدِي) عطف على يضل (بِهِ) الجار والمجرور متعلقان بيهدي (كَثِيراً) مفعول به (وَما يُضِلُّ) الواو حالية أو استئنافية وما نافية (بِهِ) الجار والمجرور متعلقان بيضل (إِلَّا) أداة حصر (الْفاسِقِينَ) مفعول به والجملة لا محل لها من الإعراب أو حالية (الَّذِينَ) اسم موصول في محل جر لأنه صفة للفاسقين (يَنْقُضُونَ) فعل مضارع مرفوع والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (عَهْدَ اللَّهِ) مفعول به ومضاف إليه (مِنْ بَعْدِ) الجار والمجرور متعلقان بينقضون (مِيثاقِهِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 مضاف اليه والضمير يعود على اسم الله أو على العهد وسيأتي تفسير طريف في الميثاق في باب الفوائد (وَيَقْطَعُونَ) عطف على قوله ينقضون (ما) اسم موصول في محل نصب مفعول به (أَمَرَ) فعل ماض مبني على الفتح (اللَّهِ) فاعل أمر (بِهِ) جار ومجرور متعلقان بأمر (أَنْ يُوصَلَ) أن حرف مصدري ونصب ويوصل فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هو وأن وما في حيزها في تأويل مصدر بدل من الضمير في به والمعنى ويقطعون ما أمر الله بوصله، أو مفعول لأجله والتقدير كراهية أن يوصل أو لئلا يوصل (وَيُفْسِدُونَ) عطف على يقطعون (فِي الْأَرْضِ) الجار والمجرور متعلقان بيفسدون (أُولئِكَ) اسم اشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ (هُمُ) ضمير فصل أو عماد لا محل له (الْخاسِرُونَ) خبر أولئك ولك أن تعرب هم مبتدأ والخاسرون خبره والجملة الاسمية في محل رفع خبر أولئك. البلاغة: 1- التمثيل: عني العرب بالتمثيل عناية كبيرة وذكر علماء البلاغة له مظهرين: آ- أحدهما أن يظهر المعنى ابتداء في صورة التمثيل. ب- وثانيهما: ما يجيء في أعقاب المعاني لإيضاحها وتقريرها في النفوس وهو على الحالين يكسو المعاني بهجة وجمالا ويرفع من أقدارها، ويبعث فيها الحركة والحياة، ويجسدها للقارىء حتى ليكاد يتقرّاها بلمس، وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 والحشرات. ومن أروع ما صنف العرب في ذلك كتاب كليلة ودمنة الذي قيل إنه ترجمه عن الفارسية عبد الله بن المقفع وفي الفرنسية قصص لافونتين. وعن الحسن وقتادة: لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه، وضرب للمشركين بهما المثل ضحكت اليهود، وقالت: ما يشبه هذا كلام الله فأنزل الله سبحانه الآية، ومما يرجّح أنها أنزلت فيهم انها اشتملت على نقض العهد وهو من أبرز سماتهم. وأدبنا العربي حافل بضرب الأمثال بمختلف الهوامّ وسائر الحشرات قال شاعرهم: وإنّي لألقى من ذوي الضغن منهم ... وما أصبحت تشكو من الوجد ساهره كما لقيت ذات الصفا من خليلها ... وما انفكت الأمثال في الناس سائره وذات الصفاحية تقول الأسطورة العربية: انها كانت قتلت قرابة حليفها فتواثقا بالله على أنها تدي ذلك القتيل الى آخر تلك الأسطورة الممتعة. 2- الاستعارة المكنية وذلك في قوله: «ينقضون عهد الله» فقد شبه العهد بالحبل المبرم ثم حذف المشبه به ورمز إليه بشيء من خصائصه أو لوازمه وهو النقض لأنه إحدى حالتي الحبل وهما النقض والإبرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 3- المقابلة: وهي تعدّد الطباق في الكلام، فقد طابق بين يضل ويهدي وبين يقطعون ويوصل. الفوائد: 1- (أمّا) حرف شرط وتفصيل وقد تبدل ميمها الأولى ياء استثقالا للتضعيف كقول عمرو بن أبي ربيعة: رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت ... فيضحي وأيما بالعشيّ فيخصر ويفصل بين أما والفاء الجوابية بواحد من ستة: آ- المبتدأ: كالآية الآنفة الذكر. ب- الخبر: نحو: أما في الدار فعلي. ج- جملة الشرط كقوله تعالى: «فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان» . د- اسم معمول لمحذوف كقوله تعالى: «وأما ثمود فهديناهم» . هـ- اسم منصوب لفظا أو محلّا بالجواب نحو قوله تعالى: «فأما اليتيم فلا تقهر» . وظرف معمول لأما لما فيها من معنى الفعل الذي نابت عنه نحو: أما اليوم فإني ذاهب. هذا وتكون أما للتوكيد والشرط فتنوب عن مهما نحو: اما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، والتقدير مهما يكن من شيء. وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 تنوب الواو عن أما فيقال وبعد، وهذا الاستعمال شائع في الخطب والمكاتبات والى ذلك أشار الشاعر بقوله: لقد علمت قيس بن عيلان أنني ... إذا قلت: أما بعد أني خطيبها 2- ماذا: فيها وجهان: آ- أن تكون ذا مركبة مع ما مجهولتين اسما واحدا للاستفهام وتعرب حسب موقعها. ب- أن تكون ذا اسما موصولا بمعنى الذي فتكون خبرا لما الاستفهامية ويظهر أثر ذلك في جوابه ولهذا أوردنا الوجهين معا في الإعراب وقد قرىء قوله تعالى: «يسألونك ماذا ينفقون؟ قل العفو» بنصب العفو ورفعه على التقديرين وقال لبيد: ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضى أم ضلال وباطل فقد روي أنحب مرفوعا على البدلية من ذا على الوجه الثاني ولو قال أنحبا على البدلية من ماذا كلها المنصوبة على المفعولية ليحاول لجاز. [سورة البقرة (2) : الآيات 28 الى 29] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 اللغة: (اسْتَوى) : اعتدل واستقام وانتصب كالسهم المرسل. (فَسَوَّاهُنَّ) : خلقهنّ أو صيرهنّ. الإعراب: (كَيْفَ) : اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب على الحال ومعنى الاستفهام هنا: التوبيخ (تَكْفُرُونَ) : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل (بِاللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بتكفرون (وَكُنْتُمْ) : الواو. حالية وقد مقدرة بعدها على القاعدة المقررة وهي إن الفعل الماضي إذا وقع جملة حالية فلا بد من قد ظاهرة أو مقدرة وكان واسمها (أَمْواتاً) خبر كان المنصوب والجملة الفعلية في محل نصب على الحال (فَأَحْياكُمْ) الفاء حرف عطف وأحيا فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف والفاعل ضمير مستتر تقديره هو والكاف مفعول به (ثُمَّ) حرف عطف للترتيب مع التراخي (يُمِيتُكُمْ) فعل مضارع مرفوع والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود على الله (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) عطف أيضا وإنما عطف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 بثم للتراخي الممتدّ بين الحالين (ثُمَّ) حرف عطف أيضا (إِلَيْهِ) جار ومجرور متعلقان بترجعون (تُرْجَعُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة معطوفة (هُوَ) ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (الَّذِي) اسم موصول في محل رفع خبر (خَلَقَ) فعل ماض مبني على الفتح وفاعله ضمير مستتر تقديره هو (لَكُمْ) جار ومجرور متعلقان بخلق (ما) اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به (فِي الْأَرْضِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له من الإعراب لأنه صلة الموصول (جَمِيعاً) حال من المفعول به الذي هو ما خلافا لمن أعربه من المفسرين توكيدا لما ولو كان ذلك لقيل جميعه (ثُمَّ) حرف عطف للترتيب مع التراخي (اسْتَوى) فعل ماض معطوف على خلق (إِلَى السَّماءِ) جار ومجرور متعلقان باستوى (فَسَوَّاهُنَّ) الفاء حرف عطف وسوى فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف والفاعل ضمير مستتر تقديره هو والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به (سَبْعَ سَماواتٍ) حال إذا كانت سوّى بمعنى الخلق المجرد لأنه دل على العدد المجرد ومثله قوله تعالى: «فتمّ ميقات ربه أربعين ليلة» أو على البدلية من الضمير في فسواهن، وإذا كانت سوّى بمعنى صيّر كانت مفعولا ثانيا وأنكر أبو حيان هذا الإعراب ولا مسوغ لانكاره (وَهُوَ) الواو استئنافية وهو مبتدأ (بِكُلِّ شَيْءٍ) الجار والمجرور متعلقان بعليم (عَلِيمٌ) خبر هو. الفوائد: كيف: اسم مبني على الفتح وأكثر ما تستعمل استفهاما ومحلها من الإعراب إما خبر لما بعدها إن وقعت قبل ما لا يستغنى عنها نحو: كيف أنت؟ وكيف كنت، وإما مفعول ثان لظن وأخواتها نحو: كيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 تظن الأمر وإما نصب على الحال مما بعدها إذا وقعت قبل ما يستغني عنها نحو. كيف جاء أخوك؟ أي على أية حال جاء؟ وإما نصب على المفعولية المطلقة نحو «ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل» . [سورة البقرة (2) : آية 30] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) الإعراب: (وَإِذْ) الواو استئنافية وإذ: ظرف لما مضى من الزمن في محل نصب مفعول به لفعل محذوف تقديره اذكر وهذا الإعراب هو الغالب على إذ المذكورة في أوائل القصص في القرآن واختاره الزمخشري وابن عطية وغيرهما من المعربين وقد ردّه أبو حيّان والكرخي ولعلّ من الممتع أن نورد نصا طريفا لأبي حيان بهذا الصدد قال: «وليس بشيء لأن فيه إخراج إذ عن بابها وهو أنه لا يتصرّف فيه بغير الظرفية أو بإضافة الظرف الزماني إليها» وردّ عليه ابن هشام بما تراه مفصّلا في باب الفوائد ومضى أبو حيان يقول: «والذي تقتضيه العربية نصبه بقوله: قالوا أتجعل أي وقت قول الله للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة قالوا: أتجعل كما تقول في الكلام: إذ جئتني أكرمتك أي وقت مجيئك أكرمتك وإذ قلت لي كذا قلت لك كذا فانظر الى هذا الوجه السهل الواضح كيف لم يوفق أكثر الناس الى القول به وارتكبوا في دهياء، وخبطوا خبط عشواء» (قالَ) فعل ماض والجملة الفعلية في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 محل جر باضافة الظرف إليها (رَبُّكَ) فاعل (لِلْمَلائِكَةِ) : الجار والمجرور متعلقان بقال (إِنِّي) إن حرف مشبه بالفعل والياء اسمها (جاعِلٌ) خبرها (فِي الْأَرْضِ) الجار والمجرور متعلقان بجاعل إذا كانت بمعنى خالق وفي محل نصب مفعول به ثان إذا كانت اسم فاعل من الجعل بمعنى التّصيير وجملة اني جاعل في محل نصب مقول القول (خَلِيفَةً) مفعول به لجاعل لأنه اسم فاعل (قالُوا) : فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة والواو فاعل والجملة لا محل لها لأنها استئنافية (أَتَجْعَلُ) الهمزة للاستفهام التعجبي المجرّد كأنهم يطلبون استكناه ما خفي عليهم من الحكمة الباهرة، وتجعل فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت (فِيها) جار ومجرور لك أن تعلقهما بجعل إذا كانت بمعنى الخلق وأن تجعلهما في موضع المفعول الثاني المقدم إذا كانت بمعنى التصيير (يُفْسِدُ) فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره هو والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (فِيها) جار ومجرور متعلقان بيفسد (وَيَسْفِكُ) فعل مضارع معطوف على يفسد داخل حيّز الصلة (الدِّماءَ) مفعول به (وَنَحْنُ) الواو حالية ونحن ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (نُسَبِّحُ) فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره نحن والجملة الفعلية في محل رفع خبر نحن (بِحَمْدِكَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي متلبّسين بحمدك (وَنُقَدِّسُ) فعل مضارع معطوف على نسبح (لَكَ) جار ومجرور متعلقان بنقدس وجعلها بعضهم زائدة والكاف مفعول لنقدس، (قالَ) فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو والجملة مستأنفة (إِنِّي) ان واسمها (أَعْلَمُ) فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر تقديره أنا والجملة خبر انّ (ما) اسم موصول في محل نصب مفعول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 به (لا) نافية (تَعْلَمُونَ) فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول وجملة إني أعلم الاسمية في محل نصب مقول القول. البلاغة: في الاستفهام الوارد في قوله: أتجعل، خروج لمعناه الأصلي عن موضوعه فهو للتعجب كما اخترنا في الإعراب وقيل: هي للاسترشاد أي أتجعل فيها من يفسد كمن كان فيها من قبل، وقيل استفهموا عن أحوال أنفسهم أي أتجعل فيها مفسدا ونحن مقيمون على طاعتك لا نفتر عنها طرفة عين، وقال آخرون هي للايجاب، والواقع أن كل لفظ استفهام ورد في كتاب الله تعالى لا بخلو من أحد الوجوه الستة الآتية: 1- التوبيخ، 2- التعجب، 3- التسوية، 4- الإيجاب، 5- الأمر، 6- التقرير. أما الاستفهام الصريح فلا يقع من الله تعالى في القرآن لأن المستفهم متعلّم ما ليس عنده والله عالم بالأشياء قبل كونها، فالتوبيخ نحو: «أذهبتم طيباتكم» والتقرير: «أأنت قلت للناس» ؟ والتسوية نحو: «سواء عليهم أأنذرتهم» والإيجاب نحو: «أتجعل فيها من يفسد فيها» ، والأمر نحو: «أأسلمتم» فعلى هذا يعرف ما جاء في كتاب الله فاعرف مواضعه وتدبر. الفوائد: 1- إذ ظرف للزمن الماضي ولا تقع بعدها إلا الجملة وقد تحذف الجملة ويعوض عنها بالتنوين ويسمى تنوين العوض نحو: «ويومئذ يفرح المؤمنون» والأصل يوم إذ غلبت الروم يفرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 المؤمنون فحذت جملة غلبت الروم وجيء بالتنوين عوضا عنها فالتقى ساكنان: ذال والتنوين فكسرت الذال على أصل التقاء الساكنين ويتلخص إعرابها بخمسة أوجه: آ- أن تكون ظرفا نحو: «فقد نصره الله إذا أخرجه الذين كفروا» . ب- أن تكون مفعولا به: وهو الغالب على إذ المذكورة في أوائل التنزيل. ج- أن تكون بدلا من المفعول نحو: «واذكر في الكتاب مريم إذا انتبذت» فإذ بدل اشتمال من مريم. د- أن يضاف إليها اسم زمان صالح للاستغناء عنه نحو: «يومئذ تحدث أخبارها» . هـ- وترد إذ للمفاجأة وتقع بعد بينا وبينما. قال الشاعر: استقدر الله خيرا وارضينّ به ... فبينما العسر إذ دارت مياسير وعند ما تكون إذ للمفاجأة ماذا يكون إعرابها؟ عندئذ يكون الأرجح اعتبارها حرفا للمفاجأة. 2- هذا وقد اختلفت الأقوال كثيرا في معرفة الكيفية التي عرف الملائكة أن ذرية آدم يفسدون في الأرض وأقرب ما رأيناه فيها الى المنطق أنهم علموا ذلك من لفظ خليفة قالوا: الخليفة هو الذي يحكم بين الخصوم، والخصم إما أن يكون ظالما أو مظلوما ومتى حصل التظالم بينهم حصل الفساد في الأرض واستشرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 [سورة البقرة (2) : الآيات 31 الى 33] وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) اللغة: (آدَمَ) : اسم علم أعجمي كآذر وعابر وعاذر وهو ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وأخطأ من زعم أنه مشتق من الأدمة أي السمرة أو من أديم الأرض أي وجهها لأن الاشتقاق من خصائص العربية. وللإمام الطبري زعم لا نعلم كيف صدر عنه وهو أنه فعل رباعيّ سمّي به ومن هذا الخطأ محاولتهم اشتقاق يعقوب من العقب وإبليس من الإبلاس، وإذن يحق لنا أن نتساءل: لم منعت هذه الأعلام من الصرف لولا العلمية والعجمة؟ فتنبّه لهذا الفصل. الإعراب: (وَعَلَّمَ) الواو حرف عطف وعلم فعل ماض مبني على الفتح وفاعله ضمير مستتر فيه تقديره هو يعود على الله، والجملة معطوفة على جمل محذوفة تقديرها: فجعل في الأرض خليفة وسماه آدم (آدَمَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 مفعول به أول (الْأَسْماءَ) مفعول به ثان (كُلَّها) تأكيد للأسماء (ثُمَّ) حرف عطف للترتيب مع التراخي (عَرَضَهُمْ) عطف على جملة وعلّم أي وعرض المسميات أو ألقاها في قلوبهم وغلب العقلاء على غير العقلاء وتلك سنة من سنن العرب في كلامهم (عَلَى الْمَلائِكَةِ) جار ومجرور متعلقان بعرضهم (فَقالَ) عطف على جملة عرضهم (أَنْبِئُونِي) فعل أمر والمقصود من الأمر هنا التعجيز وهو مبني على حذف النون لأن مضارعه من الأفعال الخمسة والواو فاعل والنون للوقاية والياء ضمير متصل في محل نصب مفعول به (بِأَسْماءِ) الجار والمجرور في موضع المفعول الثاني (هؤُلاءِ) اسم الاشارة مبني على الكسر في محل جر بالاضافة (إِنْ) حرف شرط جازم (كُنْتُمْ) فعل ماض ناقص والتاء اسمها (صادِقِينَ) خبرها وكنتم في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف تقديره فأنبئوني، (قالُوا) فعل وفاعل (سُبْحانَكَ) مفعول مطلق وهو مصدر لا يكاد يستعمل إلا مضافا منصوب بإضمار فعله كمعاذ الله (لا) نافية للجنس من أخوات إن المشبهة بالفعل (عِلْمَ) اسمها المبني على الفتح (لَنا) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لا (إِلَّا) أداة حصر (ما) مصدرية أو اسم موصول وهي مع مدخولها أو هي وحدها في موضع الرفع على البدلية من محل لا واسمها نحو لا إله إلا الله وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه (عَلَّمْتَنا) فعل وفاعل ومفعول والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (إِنَّكَ) ان واسمها (أَنْتَ) ضمير فصل أو عماد لا محل لها (الْعَلِيمُ) خبر إن الأول (الْحَكِيمُ) خبر إن الثاني ويجوز أن تعرب أنت مبتدأ خبراه العليم الحكيم والجملة الاسمية في محل رفع خبر إن (قالَ) فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو والجملة ابتدائية لا محل لها (يا آدَمُ) ياء حرف نداء للمتوسط وآدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 منادى مفرد علم مبني على الضم (أَنْبِئْهُمْ) فعل أمر مبني على السكون وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول (بِأَسْمائِهِمْ) في موضع المفعول الثاني (فَلَمَّا) الفاء عاطفة على جملة محذوفة والتقدير: فأنبأهم بأسمائهم فلما أنبأهم وحذفت الجملة لوضوح المعنى ولما ظرفية بمعنى حين أو رابطة متضمنة معنى الشرط على كل حال (أَنْبَأَهُمْ) الجملة في محل جر باضافة الظرف إليها إن جعلت لما ظرفية أو معطوفة إن كانت للربط (بِأَسْمائِهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بأنبأهم (قالَ) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (أَلَمْ) الهمزة للاستفهام التقريري والهمزة إذا دخلت على النفي أفادت التقرير ولم حرف نفي وقلب وجزم (أَقُلْ) فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله ضمير مستتر فيه تقديره أنا (لَكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بأقل (إِنِّي) ان واسمها (أَعْلَمُ) فعل مضارع مرفوع والجملة الفعلية خبر إن وجملة إن وما في حيزها في محل نصب مقول القول (غَيْبَ السَّماواتِ) مفعول اعلم (وَالْأَرْضِ) عطف على السموات (وَأَعْلَمُ) عطف على أعلم الأولى (ما) اسم موصول في محل نصب مفعول به (تُبْدُونَ) فعل مضارع مرفوع وجملة تبدون لا محل لها لأنها صلة (وَما) عطف على ما الأولى (كُنْتُمْ) كان واسمها (تَكْتُمُونَ) الجملة الفعلية في محل نصب خبر كنتم. البلاغة: الطباق بين السموات والأرض وبين تبدون وتكتمون. هذا وإن الطباق من الألفاظ التي خالفت مضمونها ولذلك سماه بعضهم التضاد والتكافؤ وهو الجمع بين معنيين متضادين ولا مناسبة بين معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 المطابقة لغة واصطلاحا فإنها في اللغة الموافقة. يقال: طابقت بين الشيئين إذا جعلت أحدهما على حذو الآخر. وابن الأثير يعجب لأنه لا يعرف من أين اشتقت هذه التسمية إذ لا مناسبة بين الاسم ومسمّاه، وقدامة يسميه التكافؤ، ولا فرق بين أن يكون التقابل حقيقيا أو اعتباريا أو تقابل السلب والإيجاب. ومن طباق السلب قول السوءل: وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول فقد طابق بين ننكر وهو إيجاب، وبين ولا ينكرون وهو سلب ويصبح الطباق مقابلة حين يؤتى بمعنيين أو أكثر ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب كقول البحتري: فإذا حاربوا أذلوا عزيزا ... وإذا سالموا أعزّوا ذليلا وما زال الناس يعجبون من جمع البحتري بين ثلاث مطابقات في قوله: وأمة كان قبح الجور يشحطها ... دهرا فأصبح حسن العدل يرضيها حتى جاء أبو الطيب فزاد عليه مع عذوبة اللفظ ورشاقة الصنعة وطابق بين خمسة وخمسة: أزورهم وسود الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 فقد طابق بين الزيارة والانثناء وبين السواد والبياض وبين الليل والصبح وبين يشفع ويغري وبين لي وبي. [سورة البقرة (2) : الآيات 34 الى 36] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) اللغة: (إِبْلِيسَ) اختلف فيه أهو مشتق أم لا؟ والصحيح انه علم أعجميّ ولهذا لم ينصرف للعلمية العجمية ولو كان مشتقا من الإبلاس أي اليأس لا نصرف وقد تقدمت الاشارة الى ذلك. (رَغَداً) يقال: رغد العيش بالضم رغادة اتسع ولان فهو رغيد ورغد بالكسر رغدا بفتحتين فهو راغد. (فَأَزَلَّهُمَا) يحتمل معنيين أولهما: أظهر زلّتهما وثانيهما أبعدهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الإعراب: (وَإِذْ) الواو حرف عطف وإذ ظرف لما مضى من الزمن (قُلْنا) : فعل وفاعل والجملة الفعلية في محل جرّ بإضافة الظرف إليها (لِلْمَلائِكَةِ) جار ومجرور متعلقان بقلنا (اسْجُدُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول (لِآدَمَ) جار ومجرور متعلقان باسجدوا (فَسَجَدُوا) الفاء عاطفة وسجدوا فعل وفاعل (إِلَّا) أداة استثناء (إِبْلِيسَ) مستثنى بإلا متصل إن كان إبليس في الأصل من الملائكة وقبل منقطع لأنه ليس منهم (أَبى) فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف والجملة الفعلية في محل نصب على الحال أي حال كونه رافضا للأمر مستكبرا له كافرا به (وَاسْتَكْبَرَ) الواو حرف عطف واستكبر فعل ماض معطوف على أبى (وَكانَ) الواو حرف عطف وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره هو (مِنَ الْكافِرِينَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر كان (وَقُلْنا) الواو حرف عطف وقلنا فعل وفاعل معطوف على قلنا واختلاف الزّمانين ليس علة مانعة من عطف الفعل على الفعل (يا آدَمُ) يا حرف نداء للمتوسط وآدم منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب (اسْكُنْ) فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت (أَنْتَ) تأكيد للفاعل المستتر في اسكن (وَزَوْجُكَ) الواو حرف عطف وزوجك معطوف على الضمير المستكن في اسكن وحسن عطف الظاهر على الضمير توكيده بالضمير المنفصل (الْجَنَّةَ) مفعول به على السعة (وَكُلا) الواو حرف عطف وكلا فعل أمر مبني على حذف النون لأن مضارعه من الأفعال الخمسة والألف ضمير متصل في محل رفع فاعل (مِنْها) الجار والمجرور متعلقان بكلا (رَغَداً) صفة لمصدر محذوف أي أكلا رغدا فهو مفعول مطلق ويجوز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 أن يعرب حالا مؤوّلة بالمشتق أي راغدين هانئين (حَيْثُ) ظرف مكان مبني على الضم متعلق بكلا وقد أطلق لهما الأكل والرغد في الجنة حتى يقطع عليهما منافذ العذر إذا خطرت لهما شجرة واحدة معينة وفي أشجار الجنة الكثيرة مندوحة عنها (شِئْتُما) الجملة الفعلية في محل جر بإضافة ظرف المكان إليها (وَلا تَقْرَبا) الواو حرف عطف ولا ناهية وتقربا فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والألف فاعل (هذِهِ) اسم اشارة في محل نصب مفعول به (الشَّجَرَةَ) بدل من اسم الاشارة (فَتَكُونا) الفاء فاء السببية وتكونا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية والألف ضمير متصل في محل رفع اسم تكونا (مِنَ الظَّالِمِينَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر تكونا (فَأَزَلَّهُمَا) الفاء عاطفة على محذوف مقدر يقتضيه سياق الكلام أي فأكلا من الشجرة عينها وأزلهما فعل ماض مبني على الفتح والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به والميم والألف حرفان دالّان على التثنية (الشَّيْطانُ) فاعل أزلّ (عَنْها) الجار والمجرور متعلقان بأزلهما أو بمحذوف حال (فَأَخْرَجَهُما) عطف على أزلهما (مِمَّا) جار ومجرور متعلقان بأخرجهما (كانا) فعل ماض ناقص والألف اسمها (فِيهِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كانا (وَقُلْنَا) معطوف على ما تقدم وجملة كان لا محل لها لأنها صلة الموصول (اهْبِطُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة مقول القول (بَعْضُكُمْ) مبتدأ (لِبَعْضٍ) متعلق بقوله (عَدُوٌّ) وهو خبر المبتدأ أو متعلق بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لعدو وتقدمت عليه. وجملة بعضكم إلخ جملة اسمية في محل نصب حال أي متعادين (وَلَكُمْ) الواو حرف عطف ولكم متعلقان بمحذوف خبر مقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 (فِي الْأَرْضِ) متعلقان بالاستقرار الذي تعلق به الخبر أو بمحذوف حال (مُسْتَقَرٌّ) مبتدأ مؤخر (وَمَتاعٌ) عطف على مستقر (إِلى حِينٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمتاع أي ممتد الى يوم القيامة. الفوائد: (أَبى) من الأفعال الواجبة التي معناها النفي ولهذا يفرغ ما بعد إلا معها كما يفرغ الفعل المنفي قال تعالى: «ويأبى الله إلا أن يتم نوره» ولا يجوز ضربت إلا زيدا على أن يكون استثناء مفرغا لأن إلا لا تدخل في الواجب. [سورة البقرة (2) : الآيات 37 الى 38] فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) الإعراب: (فَتَلَقَّى) الفاء استئنافية وتلقى فعل ماض مبني على الفتح المقدّر (آدَمُ) فاعل (مِنْ رَبِّهِ) الجار والمجرور متعلقان بتلقّى (كَلِماتٍ) مفعول به ونصب بالكسرة لأنه جمع مؤنث سالم (فَتابَ) الفاء حرف عطف على محذوف يقتضيه المقام أي فقالها فتاب (عَلَيْهِ) متعلقان بتاب (إِنَّهُ) ان واسمها (هُوَ) ضمير فصل أو عماد لا محل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 نه ويجوز أن يكون مبتدأ (التَّوَّابُ) خبر ان الاول (الرَّحِيمُ) خبر إن الثاني ويجوز أن يكونا خبرين لهو والجملة الاسمية خبر لأن (قُلْنَا) فعل وفاعل (اهْبِطُوا) الجملة الفعلية مقول القول (مِنْها) متعلقان باهبطوا (جَمِيعاً) حال من الواو وجملة قلنا اهبطوا تابعة لجملة وقلنا اهبطوا تأكيدا لها ولتناط بها زيادة جديدة (فَإِمَّا) الفاء عاطفة وإن شرطية وما زائدة للتأكيد (يَأْتِيَنَّكُمْ) فعل الشرط مجزوم وبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به (مِنِّي) الجار والمجرور متعلقان بيأتينكم (هُدىً) فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدّرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين (فَمَنْ) الفاء رابطة لجواب الشرط ومن اسم شرط جازم في محلّ مبتدأ (تَبِعَ) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاعل مستتر تقديره هو (هُدايَ) مفعول تبع وعلامة نصبه الفتحة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم المضافة الى هدى والفاء ومدخولها في محل جزم جواب الشرط (فَلا) الفاء رابطة لجواب الشرط وهو من ولا نافية (خَوْفٌ) مبتدأ وساغ الابتداء به وهو نكرة لتقدم النفي عليه وهو أحد مسوّغات الابتداء بالنكرة (عَلَيْهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر خوف ولك أن تعمل لا عمل ليس فيكون خوف اسمها وعليهم خبرها (وَلا) عطف على لا الأولى و (هُمْ) مبتدأ أو اسم لا العاملة عمل ليس (يَحْزَنُونَ) الجملة الفعلية في محل رفع أو نصب خبرهم أو خبر لا وجملة فعل الشرط وجوابه خبر من. الفوائد: الراجح عند النحاة أن اسم الشرط إذا وقع مبتدأ وذلك إذا وقع بعده فعل لازم نحو: من يذهب أذهب معه، أو فعل متعدّ استوفى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 مفعوله نحو: «من يعمل سوءا يجز به» فالخبر هو جملة فعل الشرط وهناك من النحاة من يجعل جملة الجواب هي الخبر ومنهم من يجعل الخبر جملة فعل الشرط وجوابه معا وهذا ما وقع اختيارنا عليه. [سورة البقرة (2) : الآيات 39 الى 41] وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) اللغة: (إِسْرائِيلَ) : اختلفوا فيه والأصح أنه علم أعجمي ولهذا منع من الصرف وهو مركب تركيب الاضافة فإن إسرا هو العبد بالعبرية وإيل هو الله وقد تصرّفت العرب فيه بلغات أصحها لغة القرآن، وهو لقب ليعقوب وقرأ أبو جعفر والأعمش إسرائيل بياء بعد الألف من غير همز وروي عن ورش اسرائل بهمزة بعد الألف دون ياء واسرال بألف محضة بين الراء واللام وتروى قراءة عن نافع: اسرائين ابدلوا من اللام نونا كأصيلان، هذا وتتعاقب اللام والنون في كلمات مسموعة منها: عنوان الكتاب وعلوانه وأبّنت وأبّلته إذا أثنيت عليه بعد موته وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الإعراب: (وَالَّذِينَ) الواو حرف عطف والذين مبتدأ والجملة معطوفة على قوله في الآية السابقة فمن تبع هداي لأنها قسيمه وكان مقتضى التقسيم أن يقول: ومن لم يتبع هداي، ولكنه عدل عنه ليبرز القسيم مسجلا عليه الكفر (كَفَرُوا) الجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَكَذَّبُوا) معطوف على كفروا داخل في حيّز الصلة (بِآياتِنا) الجار والمجرور متعلقان بكذبوا (أُولئِكَ) اسم اشارة مبتدأ ثان (أَصْحابُ النَّارِ) خبر أولئك والجملة الاسمية خبر الذين (هُمْ) ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (فِيها) الجار والمجرور متعلقان بخالدون (خالِدُونَ) خبرهم والجملة الاسمية في محل رفع خبر ثان للمبتدأ الذي هو أولئك ويحتمل أن تكون في محل نصب على الحال وأعربها بعضهم مفسرة لا محل لها لقوله: «أولئك أصحاب النار» لبيان أن صحبتهم للنار ليست لمجرد الاقتران بل هي للديمومة والخلود وهو إعراب سائغ وجميل (يا بَنِي) يا حرف نداء وبني منادى مضاف وعلامة نصبه الياء نيابه عن الفتحة لأنه ملحق بجمع المذكر السالم وقد تغيّر بناء مفرده وأصل ابن واويّ والبنوّة دليل عليه وقيل: أصله يائيّ لأنه مشتق من البناء وهو وضع الشيء على الشيء والابن فرع عن الأب فهو موضوع عليه وجمع جمع تكسير فقالوا أبناء وجمع جمع سلامة فقالوا بنون (إِسْرائِيلَ) مضاف اليه مجرور وعلامة جرّه الفتحة نيابة على الكسرة لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة (اذْكُرُوا) فعل أمر مبني على حذف النون لاتصاله بواو الجماعة والواو فاعل (نِعْمَتِيَ) مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم والياء مضاف اليه (الَّتِي) اسم موصول في محل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 نصب نعت لنعمتي (أَنْعَمْتُ) فعل وفاعل (عَلَيْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بأنعمت وجملة أنعمت لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَأَوْفُوا) عطف على اذكروا (بِعَهْدِي) الجار والمجرور متعلقان بأوفوا (أُوفِ) فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب (بِعَهْدِكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بأوف (وَإِيَّايَ) الواو عطف وإياي ضمير منفصل في محل نصب مفعول به مقدم لا رهبوا مقدّر لاستيفاء فارهبون مفعوله وهو الياء المقدرة والأصل فارهبوني (فَارْهَبُونِ) الفاء في هذا التركيب الذي تكرّر في القرآن كثيرا فيها قولان: أحدهما أنها جواب مقدّر تقديره تنبّهوا أو نحوه كقولك: الكتاب فخذ، أي تنبّه فخذ الكتاب ثم قدم المفعول إصلاحا للّفظ لئلا تقع الفاء صدرا، وثانيهما: أنها زائدة (وَآمِنُوا) عطف على ما تقدم (بِما) الجار والمجرور متعلقان بآمنوا (أَنْزَلْتُ) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (مُصَدِّقاً) حال من اسم الموصول (لِما) اللام حرف جر مقويّة للتعدية وما اسم موصول مبني على السكون في محل جر باللام والجار والمجرور متعلقان بمصدقا (مَعَكُمْ) ظرف مكان متعلق بمحذوف لا محلّ له من الإعراب لأنه صلة الموصول (وَلا) الواو حرف عطف ولا ناهية (تَكُونُوا) فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو اسمها (أَوَّلَ) خبر تكونوا (كافِرٍ) مضاف اليه (بِهِ) متعلقان بكافر (وَلا تَشْتَرُوا) عطف على ولا تكونوا (بِآياتِي) الجار والمجرور متعلقان بتشتروا (ثَمَناً) مفعول به لتشتروا (قَلِيلًا) صفة (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) تقدم اعراب هذا التركيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 البلاغة: في قوله تعالى: «أوف بعهدكم» فن يقال له التعطف وفحواه إعادة اللفظة بعينها في الجملة من الكلام ويسميه بعضهم فن المشاركة، ويدخل في عموم العهد عهد الله الذي أخذه عليهم وعلى البشر كافة وهو التدبّر، ووزن كل ما يعرض لهم في حياتهم بميزان العقل والنظر وهو ميزان لا يطيش، لا بميزان الهوى والغرور وهو ميزان طائش. الفوائد: انطوت هذه الآيات الآنفة على فوائد متعددة ندرجها فيما يلي: 1- مقتضى القياس أن يقول: أول كافرين به ليطابق الواو في قوله: تكونوا ولكنه عدل عن ذلك لأسباب هي: آ- أنه على حذف الموصوف والتقدير أول فريق كافر به. ب- النكرة المضاف إليها اسم التفضيل يجب افرادها نحو: أنت أفضل رجل وأنتما أفضل رجل وأنتم أفضل رجل. 2- نحو قوله: «واياي فارهبون» هو من باب الاشتغال وايا فيه منصوبة بفعل محذوف يفسره المذكور ولا يصح أن يكون الضمير مفعولا مقدما للفعل الذي يليه لأن الفعل نصب الضمير الذي بعد نون الوقاية والمحذوف للتخفيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 [سورة البقرة (2) : الآيات 42 الى 43] وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) اللغة: (وَلا تَلْبِسُوا) يقال: لبست الشيء بالشيء: خلطته به والمصدر اللّبس بفتح اللام المشددة. الإعراب: (وَلا تَلْبِسُوا) الواو حرف عطف ولا ناهية وتلبسوا: فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو فاعل (الْحَقَّ) مفعول به (بِالْباطِلِ) الجار والمجرور متعلقان بتلبسوا والباء للملابسة أو للاستعانة (وَتَكْتُمُوا) : الواو عاطفة وتكتموا فعل مضارع مجزوم عطفا على تلبسوا داخلة تحت حكم النهي ولك أن تجعلها للمعية وتكتموا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعدها وهي مسبوقة بالنهي (الْحَقَّ) مفعول به (وَأَنْتُمْ) الواو حالية وأنتم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (تَعْلَمُونَ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل وجملة تعلمون الفعلية خبر أنتم وجملة وأنتم تعلمون الاسمية حالية (وَأَقِيمُوا) الواو عاطفة وأقيموا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (الصَّلاةَ) مفعول به (وَآتُوا الزَّكاةَ) عطف على أقيموا الصلاة (وَارْكَعُوا) عطف أيضا (مَعَ) ظرف ظرف مكان متعلق باركعوا (الرَّاكِعِينَ) مضاف اليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 [سورة البقرة (2) : الآيات 44 الى 46] أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) اللغة: (بِالْبِرِّ) البر بكسر الباء الصلة والطاعة والصلاح والصدق والبر بفتح الباء الصحراء والبر بضمها القمح والواحدة برّة. (الْخاشِعِينَ) الخشوع: الخضوع والذل ومن مجاز هذه المادة أرض خاشعة أي متطامنة وخشعت الجبال وخشعت دونه الابصار. الإعراب: (أَتَأْمُرُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاريّ بل تجاوز هنا الإنكار الى التوبيخ والتقريع والتعجب من حال هؤلاء اليهود لأنه ليس هناك أقبح في العقول من أن يأمر الإنسان غيره بخير وهو لا بأتيه، وتأمرون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل (النَّاسَ) مفعول به (بِالْبِرِّ) الجار والمجرور متعلقان بتأمرون (وَتَنْسَوْنَ) عطف على تأمرون (أَنْفُسَكُمْ) مفعول به (وَأَنْتُمْ) الواو واو الحال وأنتم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (تَتْلُونَ) فعل مضارع مرفوع وعلامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 رفعه ثبوت النون وجملة تتلون الفعلية خبر أنتم وجملة وأنتم الاسمية حالية من فاعل تنسون (الْكِتابَ) مفعول به (أَفَلا) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء حرف عطف ولا نافية (تَعْقِلُونَ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل وسيأتي سر هذا التركيب (وَاسْتَعِينُوا) عطف على ما تقدم (بِالصَّبْرِ) جار ومجرور متعلقان باستعينوا (وَالصَّلاةِ) عطف على الصبر (وَإِنَّها) الواو حالية وان واسمها (لَكَبِيرَةٌ) اللام هي المزحلقة وكبيرة خبر إن (إِلَّا) أداة حصر (عَلَى الْخاشِعِينَ) الجار والمجرور متعلقان بكبيرة فهو استثناء مفرّغ لأن ما قبل إلا ليس فيه ما يتعلق بكبيرة لتستثنى منه فهو كقولك هو كبير عليّ ولأن الكلام مؤول بالنفي أي وإنها لا تخف ولا تسهل إلا على الخاشعين فتنبه لهذا فإنه من الدقائق (الَّذِينَ) اسم موصول مبني على الفتح في محل جر صفة للخاشعين (يَظُنُّونَ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (أَنَّهُمْ) ان واسمها (مُلاقُوا) خبرها (رَبِّهِمْ) مضاف اليه وإن وما في حيزها سدت مفعولي يظنون (وَأَنَّهُمْ) عطف على انهم (إِلَيْهِ) جار ومجرور متعلقان براجعون (راجِعُونَ) خبر انهم. البلاغة: في قوله: وأنتم تتلون الكتاب فقد صدّر الكلام بالضمير زيادة في المبالغة وتسجيلا للتبكيت والتوبيخ عليهم بعد أن عبّر عن تركهم فعلهم البر بالنسيان زيادة في مبالغة الترك أي فكأن البرّ لا يخالج نفوسهم ولا يدور لهم في خلد لأن نسيان الشيء يترتب عليه تركه أو استعمال السبب في المسبب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الفوائد: 1- القاعدة في العربية أن ضمير الغائب لا يعود على غير الأقرب إلا بدليل وقد كان مقتضى الظاهر أن يعود الضمير في قوله: انها على الصلاة لأنها الأقرب جريا على مقتضى الظاهر وكف عن خبر الأول لعلم المخاطب بأن الأول داخل ضمنا فيما دخل فيه الآخر وهو مطرّد في كلامهم. قال الانصاري: نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والأمر مختلف أراد نحن راضون وأنت بما عندك راض فكف عن خبر الأول إذ قام دليل على معناه. ومنه قول الآخر: إن شرخ الشباب والشعر الأسود ما لم يعاص كان جنونا وقيل يعود على المصدر المفهوم من قوله واستعينوا أي الاستعانة. 2- إذا اجتمعت همزة الاستفهام وحرف العطف ففيها مذهبان: آ- مذهب سيبويه وهو أن الهمزة في نية التأخير عن حرف العطف ولما كان لها صدر الكلام قدمت عليه وذلك بخلاف هل. ب- مذهب الزمخشري وهو أن الواو والفاء وثم بعد الهمزة واقعة موقعها وليس في الأمر تقديم ولا تأخير ويجعل بين الهمزة وحرف العطف جملة مقدرة يصح العطف عليها وتلائم سياق الكلام فيقدر هنا: أتفعلون فلا تعقلون ولا نرى مرجحا لأحد المذهبين على الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 3- اللام المزحلقة: هي لام الابتداء زحلقت الى الخبر لدخول إن عليها وقد تزحلق الى الاسم نحو: «إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرا» . [سورة البقرة (2) : الآيات 47 الى 48] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) اللغة: (عَدْلٌ) بفتح العين وهو الفداء لأنه معادل للمفديّ قيمة وقدرا وإن لم يكن من جنسه، وبكسر العين هو المساوي في الجنس والجرم ويقال: عدل وعديل. الإعراب: (يا) حرف نداء للمتوسط (بَنِي إِسْرائِيلَ) منادى مضاف وقد تقدم القول فيها قريبا (اذْكُرُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (نِعْمَتِيَ) مفعول به (الَّتِي) اسم موصول في محل نصب صفة لنعمتي (أَنْعَمْتُ) فعل وفاعل والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (عَلَيْكُمْ) جار ومجرور متعلقان بأنعمت وقد تقدمت هذه الجملة بنصها وإنما أعيدت للتوكيد وقرع العصا وتنبيه أذهانهم الكليلة عن سماع الخير (وَأَنِّي) الواو حرف عطف وان واسمها عطف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 على نعمتي فهي في محل نصب ولذلك فتح همزتها (فَضَّلْتُكُمْ) الجملة في محل رفع خبر أني (عَلَى الْعالَمِينَ) جار ومجرور متعلقان بفضّلتكم وال في العالمين للعهد لا للجنس لئلا يلتزم تفضيلهم على جميع الناس والمراد على عالمي زمانهم (وَاتَّقُوا) الواو حرف عطف واتقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (يَوْماً) مفعول به على حذف مضاف أي عذاب يوم أو هول يوم ويجوز نصبه على الظرفية والمفعول به محذوف تقديره اتقوا العذاب يوما (لا) نافية (تَجْزِي) فعل مضارع (نَفْسٌ) فاعل تجزي والجملة الفعلية في محل نصب صفة ليوما (عَنْ نَفْسٍ) الجار والمجرور متعلقان بتجزي (شَيْئاً) مفعول به ويجوز أن يكون انتصابه على المصدر أي لا تجزي شيئا من الجزاء فيه وفيه إشارة الى القلة والضآلة (وَلا) الواو حرف عطف ولا نافية (يُقْبَلُ) فعل مضارع مبني للمجهول (مِنْها) جار ومجرور متعلقان بتقبل (شَفاعَةٌ) نائب فاعل (وَلا) عطف على ما تقدم (يُؤْخَذُ) فعل مضارع مبني للمجهول (مِنْها) جار ومجرور متعلقان بيؤخذ (عَدْلٌ) نائب فاعل (وَلا) عطف أيضا (هُمْ) ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (يُنْصَرُونَ) فعل مضارع مبني للمجهول والواو ضمير متصل في محل رفع نائب فاعل والجملة الفعلية خبرهم. البلاغة: أتى بالجملة المعطوفة الأخيرة وهي «ولا هم ينصرون» اسمية مع أن الجمل التي قبلها فعلية للمبالغة والدلالة على الثبات والدّيمومة أي أنهم غير منصورين دائما ولا عبرة بما يصادفونه من نجاح مؤقت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 [سورة البقرة (2) : آية 49] وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) اللغة: (يَسُومُونَكُمْ) من سامه خسفا إذا أولاه ظلما. قال عمرو بن كلثوم: إذا الملك سام الناس خسفا ... أبينا أن نقرّ الذّلّ فينا وأصله من سام السلعة إذا طلبها. (بَلاءٌ) محنة واختبار. الإعراب: (وَإِذْ) الواو عاطفة، وإذ: ظرف لما مضى من الزّمن متعلق بأذكر مقدرة وقد تقدم القول فيها (نَجَّيْناكُمْ) فعل ماض مبني على السكون ونا ضمير متصل في محل رفع فاعل والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) الجار والمجرور متعلقان بنجيناكم وفرعون مضاف اليه وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة وفرعون يطلق على كل من ملك العمالقة بمصر كقيصر لملك الروم وكسرى لملك الفرس (يَسُومُونَكُمْ) الجملة في محل نصب على الحال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ويحتمل أن تكون مستأنفة (سُوءَ الْعَذابِ) مفعول به ثان لأن سام يتعدى لاثنين ويحتمل أن تكون منصوبة على المصدرية فهي صفة لمصدر محذوف أي يسومونكم سوما سوء العذاب (يُذَبِّحُونَ) الجملة تفسيرية لا محل لها ولك أن تجعلها بدلا من جملة يسومونكم (أَبْناءَكُمْ) مفعول به (وَيَسْتَحْيُونَ) عطف على يذبحون والاستحياء: الاستبقاء (نِساءَكُمْ) مفعول يستحيون والنساء جمع نسوة ونسوة جمع امرأة من حيث المعنى وقيل النسوة والنساء جمعان لامرأة على المعنى (وَفِي ذلِكُمْ) الواو مستأنفة والجار والمجرور خبر مقدم (بَلاءٌ) مبتدأ مؤخر (مِنْ رَبِّكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لبلاء (عَظِيمٌ) صفة ثانية لبلاء. [سورة البقرة (2) : الآيات 50 الى 52] وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) اللغة: (واعَدْنا) ووعدنا بمعنى واحد وليس هو من باب المفاعلة التي تقتضي المشاركة مثل قولك: عافاه الله وعاقبت اللص. (مُوسى) علم أعجمي لا ينصرف وهو في الأصل مركب والأصل موشى بالشين المعجمة لأن الماء بالعبرية يقال له مو والشجر يقال له شا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 فعربته العرب وقالوا: موسى، أما موسى الحلق المعروفة فهي مشتقة من ماس يميس إذا تبختر في مشيته وقلبت الياء واوا لأنها وقعت بعد ضم كموقن لأن الموسى تتحرك عند الحلق بها وقيل: هي مشتقة من اوسيت رأسه إذا حلقته والموسى تذكّر وتؤنث وتجمع على مواسي وموسيات. الإعراب: (وَإِذْ) تقدم إعرابها كثيرا (فَرَقْنا) فعل وفاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (بِكُمُ) الجار والمجرور متعلقان بفرقنا أو بمحذوف حال أي فصلناه ملتبسا بكم والمعنى أن فرق البحر حصل بدخولكم إياه (الْبَحْرَ) مفعول به (فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا) عطف أيضا (آلَ فِرْعَوْنَ) مفعول به وفرعون مضاف اليه (وَأَنْتُمْ) ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (تَنْظُرُونَ) الجملة الفعلية في محل رفع خبر أنتم والجملة الاسمية في محل نصب على الحال من الكاف في أنجيناكم (وَإِذْ) عطف على وإذا الأولى (واعَدْنا) الجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (مُوسى) مفعول به أول (أَرْبَعِينَ) مفعول به ثان ولا يجوز أن ينصب على الظرفية لفساد المعنى إذ ليس وعده في أربعين ليلة وعلامة نصبه الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم (لَيْلَةً) تمييز ملفوظ والعامل في هذا النوع اسم العدد قبله (ثُمَّ) حرف عطف للترتيب مع التراخي (اتَّخَذْتُمُ) معطوف على واعدنا (الْعِجْلَ) مفعول به أول والمفعول الثاني محذوف لأنه مفهوم من سياق الكلام أي إليها (مِنْ بَعْدِهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (وَأَنْتُمْ) الواو حالية وأنتم مبتدأ (ظالِمُونَ) خبره والجملة الاسمية في محل نصب على الحال (ثُمَّ عَفَوْنا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 عطف على ما تقدم (عَنْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بعفونا (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال والاشارة الى المصدر المفهوم من اتخذ أي من بعد ذلك الاتخاذ (لَعَلَّكُمْ) لعل واسمها (تَشْكُرُونَ) الجملة الفعلية في محل رفع خبر لعل وجملة الرجاء حالية. [سورة البقرة (2) : الآيات 53 الى 54] وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) اللغة: (لِقَوْمِهِ) : القوم: اسم جمع لا واحد له من لفظه وإنما واحده امرؤ وقياسه أن لا يجمع وشذّ جمعه قالوا: أقوام وجمع جمعه قالوا: أقاويم قيل: يختص بالرجال قال تعالى: «لا يسخر قوم من قوم ... .. ولا نساء من نساء» وقال زهير: وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء وقيل: لا يختص بالرجال بل يطلق على الرجال والنساء قال تعالى: «إنا أرسلنا نوحا الى قومه» والقول الأول أصوب واندراج النساء في القوم هنا على سبيل الاتساع وتغليب الرجال على النساء وسمّوا قوما لأنهم يقومون بالأمور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 (بارِئِكُمْ) : البارئ: الخالق يقال: برأ الله الخلق، أي خلقهم وأصل مادة برأ يدل على انفصال شيء وتميّزه عنه يقال: برأ المريض من مرضه إذا زال عنه المرض وانفصل، وبرىء المدين من دينه إذا زال عنه الدّين وسقط، ومنه البارئ في أوصاف الله تعالى لأنه الذي أخرج الخلق من العدم وفصلهم عنه الى الوجود. الإعراب: (وَإِذْ) تقدم القول فيها (آتَيْنا) فعل وفاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (مُوسَى) مفعول به أول (الْكِتابَ) مفعول به ثان (وَالْفُرْقانَ) الواو حرف عطف والفرقان معطوف على الكتاب والمراد بالكتاب التوراة والفرقان ما يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلالة عطف عليه وان كان المعنى واحدا (لَعَلَّكُمْ) لعل واسمها (تَهْتَدُونَ) الجملة الفعلية خبر لعل وجملة الرجاء حالية (وَإِذْ قالَ مُوسى) عطف على ما تقدم (لِقَوْمِهِ) الجار والمجرور متعلقان بقال (يا قَوْمِ) يا حرف نداء وقوم منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة (إِنَّكُمْ) إن واسمها (ظَلَمْتُمْ) الجملة الفعلية خبر إن (أَنْفُسَكُمْ) مفعول به (بِاتِّخاذِكُمُ) الجار والمجرور متعلقان بظلمتم والباء للسببية أي بسبب اتخاذكم (الْعِجْلَ) مفعول به للمصدر: اتخاذ (فَتُوبُوا) الفاء تعليلية لأن الظلم سبب التوبة وتوبوا فعل أمر مبني على حذف النون (إِلى بارِئِكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بتوبوا (فَاقْتُلُوا) الفاء للعطف والتعقيب (أَنْفُسَكُمْ) مفعول به وسيأتي معنى القتل في باب البلاغة (ذلِكُمْ) اسم إشارة مبتدأ (خَيْرٌ) خبر (لَكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بخير لأنه اسم تفضيل على غير القياس إذا القياس أخير ومثله شر والقياس أشر (عِنْدَ) ظرف متعلق بمحذوف حال (بارِئِكُمْ) مضاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 إليه (فَتابَ) الفاء عاطفة على محذوف والتقدير ففعلتم ما أمركم فتاب (عَلَيْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بتاب (إِنَّهُ) إن واسمها (هُوَ) ضمير فصل أو عماد لا محل له (التَّوَّابُ) خبر ان الاول (الرَّحِيمُ) خبر إن الثاني أو هو مبتدأ خبراه التواب الرحيم والجملة الاسمية خبر إن. البلاغة: 1- في قوله تعالى: «فاقتلوا أنفسكم» مجاز مرسل علاقته اعتبار ما يئول إليه أي أسلموها للقتل تطهيرا لها أي لينفذ هذا الحكم الصادر وهذا أحد الأقوال في القتل وقيل المراد بقتل الأنفس تذليلها وكبح جماحها فإن القتل يرد بمعنى التذليل ومنه قول حسان بن ثابت في وصف الخمر: إن التي ناولتني فرددتها ... قتلت، قتلت، فهاتها لم تقتل أراد مزجها بالماء لتذهب سورتها. 2- الالتفات في قوله: «فتاب عليكم» والالتفات هنا من التكلم الذي يتطلبه سياق الكلام إذ كان مقتضى المقام أن يقول: فوفقتكم فتبت عليكم. [سورة البقرة (2) : الآيات 55 الى 56] وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الإعراب: (وَإِذْ) تقدم القول فيها (قُلْتُمْ) فعل وفاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (يا) حرف نداء للمتوسط (مُوسى) منادى مفرد علم (لَنْ) حرف نفي ونصب واستقبال (نُؤْمِنَ) فعل مضارع منصوب بلن، وفاعله ضمير مستتر تقديره نحن، والجملة مقول القول (لَكَ) الجار والمجرور متعلقان بنؤمن (حَتَّى) حرف غاية وجر (نَرَى) فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد حتى (اللَّهَ) مفعول به (جَهْرَةً) مفعول مطلق لأنها مصدر جهر أي قرأ بصوت عال فهي بمثابة الذي يرى بالعين ويجوز أن تعرب نصبا على الحال أي جاهرين بالرؤية (فَأَخَذَتْكُمُ) الفاء عاطفة وأخذتكم فعل ماض والتاء تاء التأنيث الساكنة والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به مقدم (الصَّاعِقَةُ) فاعل والجملة معطوفة على قلتم (وَأَنْتُمْ) الواو حالية وأنتم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (تَنْظُرُونَ) فعل مضارع والواو فاعل وجملة تنظرون خبر أنتم وجملة أنتم تنظرون في محل نصب حال (ثُمَّ) حرف عطف للترتيب والتراخي (بَعَثْناكُمْ) فعل ماض وفاعل ومفعول به (مِنْ بَعْدِ) الجار والمجرور متعلقان ببعثناكم (مَوْتِكُمْ) مضاف إليه (لَعَلَّكُمْ) لعل واسمها وجملة (تَشْكُرُونَ) خبرها وجملة بعثناكم عطف على جملة فأخذتكم. [سورة البقرة (2) : آية 57] وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 اللغة: (الغمام) : السحاب الأبيض. (وَظَلَّلْنا) جعلناه يظلّلكم. (الْمَنَّ) : نبات خاص يستعمل طعاما ويسمى الترنجبين. (السَّلْوى) : طير معروف يسمى السمانى بضم السين وفتح النون بعدها ألف مقصورة ويعرف في بلاد الشام بالفرّي. الإعراب: (وَظَلَّلْنا) الواو عاطفة وظللنا فعل وفاعل (عَلَيْكُمُ) جار ومجرور متعلقان بظللنا (الْغَمامَ) مفعول به وهذه الجملة متصلة بما قبلها في سياق الذكرى منفصلة عنها في الوقوع فإن التظليل استمر إلى دخولهم أرض الميعاد ولولا أن ساق الله إليهم الغمام يظلّلهم في التّيه لسفعتهم الشمس ولفحت وجوههم ولا معنى لوصف الغمام بالرقيق كما قال كثير من المفسرين بل السياق يقتضي كثافته إذ لا يحصل الظل الظليل الذي يفيده حرف التظليل إلا بحساب كثيف يمنع حر الشمس ووهجها (وَأَنْزَلْنا) عطف على وظلّلنا (عَلَيْكُمُ) جار ومجرور متعلقان بأنزلنا (الْمَنَّ) مفعول به (وَالسَّلْوى) عطف على المن (كُلُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وجملة كلوا في محل نصب مقول القول أي وقلنا: كلوا (مِنْ طَيِّباتِ) جار ومجرور متعلقان بكلوا (ما) اسم موصول في محل جر بالاضافة (رَزَقْناكُمْ) فعل وفاعل ومفعول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَما) الواو حرف عطف وما نافية (ظَلَمُونا) فعل وفاعل ومفعول والجملة معطوفة على محذوف يقتضيه سياق الكلام والتقدير فظلموا أنفسهم بكفران تلك النعمة السابغة (وَلكِنْ) الواو حالية ولكن حرف استدراك أهمل لتخفيف نونه (كانُوا) كان واسمها (أَنْفُسَهُمْ) مفعول به مقدّم ليظلمون (يَظْلِمُونَ) فعل مضارع والواو فاعل والجملة الفعلية خبر كانوا وجملة لكن وما في حيزها في محل نصب على الحال. [سورة البقرة (2) : آية 58] وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) اللغة: (الْقَرْيَةَ) مشتقة من قريت أي جمعت لجمعها أهلها تقول: قريت الماء في الحوض أي جمعته واختلف في القرية فقيل: هي بيت المقدس وقيل: هي أريحا وهي قرية بغور الأردن. (حِطَّةٌ) : فعلة بكسر الحاء من الحطّ. الإعراب: (وَإِذْ) تقدم القول فيها (قُلْنَا) فعل وفاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (ادْخُلُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة في محل نصب مقول القول (هذِهِ) الهاء حرف تنبيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وذه اسم إشارة في محل نصب على المفعولية اتساعا (الْقَرْيَةَ) بدل من اسم الاشارة (فَكُلُوا) الفاء حرف عطف وكلوا عطف على ادخلوا (مِنْها) الجار والمجرور متعلقان بكلوا (حَيْثُ) ظرف مكان مبنى على الضم متعلق بمحذوف حال أي متنقلين (شِئْتُمْ) فعل وفاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (رَغَداً) مفعول مطلق أو حال (وَادْخُلُوا) عطف على ادخلوا (الْبابَ) مفعول به على السعة (سُجَّداً) حال أي متواضعين متطامين كحال الساجد (وَقُولُوا) عطف على وادخلوا (حِطَّةٌ) خبر لمبتدأ محذوف أي مسألتنا حطة أو أمرنا خطة والجملة الاسمية مقول القول والأصل فيها النصب لأن معناها حط عنا ذنوبنا ولكنه عدل الى الرفع للدلالة على ديمومة الحط والثبات عليه (نَغْفِرْ) فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب (لَكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بنغفر (خَطاياكُمْ) مفعول به (وَسَنَزِيدُ) الواو استئنافية ونزيد فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره نحن (الْمُحْسِنِينَ) مفعول به. الفوائد: كل ما كان من ظروف المكان محدودا غير مشتق لا يجوز نصبه على الظرفية بل يجب جرّه بفي نحو جلست في الدار وأقمت في البلد وصليت في المسجد، إلا إذا وقع بعد دخل ونزل وسكن فيجوز نصبه على الظرفية أو على نزع الخافض والصحيح أنه منصوب على المفعولية اتّساعا. [سورة البقرة (2) : آية 59] فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 اللغة: (الرجز) بكسر الراء وسكون الجيم: العذاب. الإعراب: (فَبَدَّلَ) الفاء استئنافية وبدل فعل ماض (الَّذِينَ) اسم موصول فاعل وجملة (ظَلَمُوا) لا محل لها لأنها صلة الموصول (قَوْلًا) مفعول به (غَيْرَ) صفة لقولا (الَّذِي) اسم موصول مضاف اليه (قِيلَ) فعل ماض مبني للمجهول (لَهُمْ) الجار والمجرور متعلقان بقيل (فَأَنْزَلْنا) الفاء حرف عطف وأنزلنا عطف على الجملة السابقة (عَلَى الَّذِينَ) جار ومجرور متعلقان بأنزلنا (ظَلَمُوا) الجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (رِجْزاً) مفعول به (مِنَ السَّماءِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لرجزا أو بأنزلنا (بِما) الباء حرف جر وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالباء أي بسبب فسقهم (كانُوا) كان واسمها وجملة (يَفْسُقُونَ) خبرها. البلاغة: في هذه الآية ضرب من البلاغة دقيق المسلك وهو وضع الظاهر موضع المضمر زيادة في تقبيح أمرهم وقد رمقه البحتري في مطلع سينيته فقال: صنت نفسي عما يدنّس نفسي ... وترفعت عن جدا كلّ جبس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 فلم يقل يدنسها وإنما وضع الظاهر موضع المضمر لهذا الغرض الجليل. [سورة البقرة (2) : آية 60] وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) اللغة: (تَعْثَوْا) يقال عثا يعثوا وعثي يعثى أي أفسد. الإعراب: (وَإِذِ) تقدم القول فيها (اسْتَسْقى) فعل ماض (مُوسى) فاعل (لِقَوْمِهِ) جار ومجرور متعلقان باستسقى (فَقُلْنَا) الفاء عاطفة وقلنا: فعل وفاعل (اضْرِبْ) فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والجملة في محل نصب مقول القول (بِعَصاكَ) الجار والمجرور متعلقان باضرب (الْحَجَرَ) مفعول به (فَانْفَجَرَتْ) الفاء هي الفصيحة وسيأتي الحديث عنها في الفوائد وانفجرت فعل ماض والتاء تاء التأنيث الساكنة أي فامتثل الأمر فضرب أو فإن ضربت فقد انفجرت (مِنْهُ) الجار والمجرور متعلقان بانفجرت (اثْنَتا عَشْرَةَ) فاعل انفجرت وعلامة رفعه الألف لأنه ملحق بالمثنى وعشرة جزء العدد المركب مبني على الفتح دائما (عَيْناً) تمييز ملفوظ (قَدْ) حرف تحقيق (عَلِمَ) فعل ماض مبني على الفتح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 (كُلُّ أُناسٍ) فاعل (مَشْرَبَهُمْ) مفعول به والجملة لا محل لها لأنها مستأنفة (كُلُوا وَاشْرَبُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل واشربوا عطف على كلوا (مِنْ رِزْقِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بأي الفعلين شئت (وَلا تَعْثَوْا) الواو عاطفة ولا ناهية وتعثوا فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل (فِي الْأَرْضِ) جار ومجرور متعلقان بتعثوا وجملة كلوا واشربوا: مقول قول محذوف وقد تقدم نظيره (مُفْسِدِينَ) حال وعلامة نصبه الياء لأنه جمع مذكر سالم. الفوائد: الفاء الفصيحة: سميت بذلك لأنها أفصحت عن مقدر ذلك لأنه لما ذكر عقب الأمر بالضرب الانفجار دل على أن المطلوب بالأمر الانفجار فلذا حذف الضرب على تقدير فضربه دلالة على أن المأمور التزم الأمر أي أن المحذوف قد يكون جملة هي السبب المذكور فسميت فصيحة من باب المجاز العقلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 [سورة البقرة (2) : آية 61] وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) اللغة: (البقل) : كل ما تنبته الأرض من النّجم مما لا ساق له وجمعه بقول. (القثّاء) : معروف والواحدة قثاءة بكسر القاف وضمها والهمزة أصلية لأن الفعل اقثأت الأرض أي كثر قثاؤها. (الفوم) : الحنطة وقيل الثوم ولعله أرجح بدليل قراءة ابن مسعود «وثومها» . (الْمَسْكَنَةُ) مصدر ميمي من السكون والخزي لأن المسكين قليل الحركة والنهوض لما به من الفقر والمسكين مفعيل مبالغة منه قالوا: ولا يوجد يهودي غني النفس. (باؤُ) : رجعوا. الإعراب: (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى) تقدم اعرابها قريبا (لَنْ نَصْبِرَ) لن حرف نفي ونصب واستقبال ونصبر فعل مضارع منصوب بلن وفاعله ضمير مستتر وجوبا تقديره نحن (عَلى طَعامٍ) الجار والمجرور متعلقان بنصبر (واحِدٍ) صفة لطعام (فَادْعُ) الفاء استئنافية وادع فعل أمر مبني على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 حذف حرف العلة وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت (لَنا) جار ومجرور متعلقان بادع (رَبَّكَ) مفعول به (يُخْرِجْ) فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب (لَنا) جار ومجرور متعلقان بيخرج (مِمَّا) جار ومجرور متعلقان بيخرج (تُنْبِتُ) فعل مضارع (الْأَرْضُ) فاعل وجملة تنبت الأرض لا محل لها لأنها صلة الموصول (مِنْ بَقْلِها) الجار والمجرور بدل بإعادة الجار أو بمحذوف حال من الضمير المحذوف وهو العائد على الموصول أي تنبته (وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها) أسماء معطوفة على بقلها (قالَ) فعل ماض مبني على الفتح وفاعله ضمير مستتر تقديره هو والجملة استئنافية (أَتَسْتَبْدِلُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري مع التوبيخ وجملة أتستبدلون مقول القول (الَّذِي) اسم موصول مفعول به (هُوَ) مبتدأ (أَدْنى) خبر والجملة الاسمية لا محل لها من الإعراب لأنها صلة (بِالَّذِي) الجار والمجرور متعلقان بتستبدلون (هُوَ) مبتدأ (خَيْرٌ) خبر (اهْبِطُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة مقول قول محذوف أي قلنا (مِصْراً) مفعول به بمعنى انزلوا (فَإِنَّ) الفاء تعليلية وإن حرف مشبه بالفعل (لَكُمْ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر إن المقدم (ما) اسم موصول في محل نصب اسم إن وجملة (سَأَلْتُمْ) لا محل لها من الإعراب لأنها صلة (وَضُرِبَتْ) الواو استئنافية وضربت فعل ماض مبني للمجهول والتاء تاء التأنيث الساكنة (عَلَيْهِمُ) جار ومجرور متعلقان بضربت (الذِّلَّةُ) نائب فاعل ضربت (وَالْمَسْكَنَةُ) عطف على الذّلة (وَباؤُ) عطف على ضربت (بِغَضَبٍ) جار ومجرور متعلقان بباءوا (مِنَ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لغضب (ذلِكَ) اسم إشارة مبتدأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 (بِأَنَّهُمْ) الباء حرف جر وان واسمها، وان ما في حيزها في محل جر بالباء أي ذلك كله بسبب كفرهم والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر والجملة استئنافية لا محل لها (كانُوا) كان واسمها والجملة خبر ان (يَكْفُرُونَ) الجملة الفعلية خبر كانوا (بِآياتِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بيكفرون (وَيَقْتُلُونَ) عطف على يكفرون (النَّبِيِّينَ) مفعول به (بِغَيْرِ الْحَقِّ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي حالة كونهم ظالمين متنكرين للحق في اعتقادهم ولو أنصفوا لاعترفوا بالواقع (ذلِكَ) اسم الاشارة مبتدأ (بِما عَصَوْا) الباء حرف جر وما مصدرية مؤولة مع الفعل بمصدر مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر ذلك (وَكانُوا) عطف على عصوا وكان واسمها (يَعْتَدُونَ) جملة فعلية في محل نصب خبر كانوا. البلاغة: الكناية في ضرب الذلة والمسكنة وهي كناية عن نسبة أراد أن يثبت ديمومة الذلة والمسكنة عليهم فكنى بضربها عليهم كما يضرب البناء وقد رمق الشعراء سماء هذه الكناية فقال الفرزدق بهجو جرير: ضربت عليك العنكبوت بنسجها ... وقضى عليك به الكتاب المنزل الفوائد: الباء مع الابدال تدخل على المتروك لا على المأتيّ به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 [سورة البقرة (2) : آية 62] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) اللغة: (هادُوا) تهوّدوا يقال: هاد يهود وتهوّد ويتهوّد إذا دخل في اليهودية وهو هائد والجمع هود. (النَّصارى) جمع نصران ونصرانيّ، يقال: رجل نصران ونصرانيّ وامرأة نصرانة ونصرانيّة والياء في نصرانيّ للمبالغة سمّوا بذلك لأنهم نصروا السيد المسيح أو لأنهم كانوا معه في قرية يقال لها: نصران أو ناصرة فسموا باسمها قال سيبويه: لا يستعمل في الكلام إلا مع ياء النسب. (الصَّابِئِينَ) : جمع صابىء من صبأ فلان إذا خرج من الدين والصابئة قوم كانوا يعبدون النجوم ومنهم أبو اسحق الصابىء الكاتب الشاعر المشهور. الإعراب: (إِنَّ) حرف مشبه بالفعل (الَّذِينَ) اسم موصول اسمها (آمَنُوا) الجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (وَالَّذِينَ) عطف على الذين الأولى وجملة (هادُوا) لا محل لها وجملة إن وما تلاها مستأنفة (وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ) عطف على اسم ان (مَنْ) اسم موصول بدل من اسم إن وجملة (آمَنَ) صلة الموصول لك أن تجعلها شرطية في محل رفع مبتدأ (بِاللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بآمن (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) عطف على الله (وَعَمِلَ) عطف على آمن (صالِحاً) مفعول به لعمل أو مفعول مطلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 أي عمل عملا صالحا (فَلَهُمْ) الفاء جيء بها لتضمن الموصول معنى الشرط أو رابطة لجواب الشرط ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (أَجْرُهُمْ) مبتدأ مؤخر والجملة خبر إن إذا جعلنا من موصولة أو في محل جزم جواب الشرط إذا جعلناها شرطية والجملة بكاملها في محل رفع خبر إن (عِنْدَ رَبِّهِمْ) الظرف متعلق بمحذوف حال أي مستحقا أو مستقرا (وَلا خَوْفٌ) الواو عاطفة ولا نافية وخوف مبتدأ ساغ الابتداء به لتقدم النفي عليه (عَلَيْهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر خوف (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) عطف على ما تقدم وقد تقدم إعراب نظيرها تماما. [سورة البقرة (2) : الآيات 63 الى 64] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) اللغة: (الطُّورَ) : من جبال فلسطين ويطلق على كل جبل كما في القاموس. الإعراب: (وَإِذْ أَخَذْنا) تقدم اعراب نظائرها وجملة أخذنا في محل جر بإضافة الظرف إليها (مِيثاقَكُمْ) مفعول به (وَرَفَعْنا) عطف على أخذنا (فَوْقَكُمُ) الظرف متعلق برفعنا (الطُّورَ) مفعول به (خُذُوا) فعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة مقول قول محذوف أي قلنا: خذوا وجملة القول حالية والتقدير قائلين خذوا (ما) اسم موصول مفعول خذوا وجملة (آتَيْناكُمْ) لا محل لها من الإعراب لأنها صلة ما (بِقُوَّةٍ) الجار والمجرور في محل نصب حال والمعنى خذوا ما آتيناكم حال كونكم عازمين على الجد والعمل (وَاذْكُرُوا) عطف على خذوا (ما) اسم موصول مفعول اذكروا (فِيهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول (لَعَلَّكُمْ) لعل واسمها وجملة (تَتَّقُونَ) خبرها (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) عطف يفيد التراخي إشعارا بأن هناك امتثالا للأمر ثم إعراضا عنه (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الجار والمجرور متعلقان بتوليتم (فَلَوْلا) الفاء عاطفة ولولا حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط (فَضْلُ اللَّهِ) مبتدأ خبره محذوف تقديره موجود (عَلَيْكُمْ) جار ومجرور متعلقان بفضل (وَرَحْمَتُهُ) عطف على فضل (لَكُنْتُمْ) اللام واقعة في جواب لولا وكان واسمها (مِنَ الْخاسِرِينَ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كنتم والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم. الفوائد: (لولا) حرف امتناع لوجود وتختصّ بالجملة الاسمية والاسم الواقع بعدها مبتدأ خبره واجب الحذف لدلالة الكلام عليه وسدّ جواب لولا مسده في حصول الفائدة وحكم اللام في جوابها أن الكلام إن كان مثبتا فالكثير دخول اللام كما في هذه الآية ونظائرها وإن كان منفيا فإن كان حرف النفي ما فالكثير فيه حذف اللام ويقلّ الإتيان بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 قال المتنبي: لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرا وحنا سبلا وإن كان حرف النفي غير ما فترك اللام واجب. قال عمر بن أبي ربيعة: عوجي علينا ربة الهودج ... لو لاك في ذا العام لم أحجج لئلا يتوالى لامان ومثل لولا في جميع أحكامها لو ما. [سورة البقرة (2) : الآيات 65 الى 66] وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) اللغة: (السَّبْتِ) : في الأصل مصدر سبت أي قطع العمل وهو إما مأخوذ من السبوت الذي هو الراحة والدّعة وإما من السّبت وهو القطع لأن الأشياء فيه سبتت وتمّ خلقها ثم سمي به هذا اليوم من الآسبوع (خاسِئِينَ) : مبعدين مطرودين من الخسوء وهو الصّغار والطرد. (نَكالًا) : النكال: المنع والنكل اسم للقيد من الحديد وسمي العقاب نكالا لأنه يمنع غير المعاقب أن يفعل فعله ويمنع المعاقب أن يعود إلى فعله الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الإعراب: (وَلَقَدْ) الواو استئنافية واللام جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق (عَلِمْتُمُ) فعل وفاعل (الَّذِينَ) اسم موصول مفعول به (اعْتَدَوْا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (مِنْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير في اعتدوا (فِي السَّبْتِ) والجار والمجرور متعلقان باعتدوا لأنه ظرف الاعتداء وقيامهم بصيد السمك وقد نهوا عنه (فَقُلْنا) الفاء عاطفة وقلنا: فعل وفاعل والجملة معطوفة على جملة اعتدوا (لَهُمْ) جار ومجرور متعلقان بقلنا (كُونُوا) فعل أمر ناقص مبني على حذف النون والواو اسمها (قِرَدَةً) خبرها (خاسِئِينَ) خبر ثان ولا مانع من جعلها صفة وقيل كلاهما خبر وانهما نزلا منزلة الكلمة الواحدة وهو قول جيد (فَجَعَلْناها) الجملة معطوفة على ما تقدم (نَكالًا) مفعول جعلنا الثاني وانما أتى الضمير في جعلناها لأنه يعود على المسخة المفهومة من مطاوي الكلام (لِما) اللام حرف جر وما اسم موصول في محل جر باللام والجار والمجرور صفة لنكالا (بَيْنَ يَدَيْها) الظرف معلق بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول (وَما) عطف على ما (خَلْفَها) ظرف متعلق بمحذوف صلة ما الثانية (وَمَوْعِظَةً) عطف على نكالا (لِلْمُتَّقِينَ) الجار والمجرور صفة لموعظة. الفوائد: للمفسرين كلام طويل في قصة هذا الاعتداء وخلاصتها أنه تعالى حرّم العمل عليهم وصبد الحيتان في يوم السبت، فكان يكثر ظهورها فيه وتذهب بذهابه فتحيلوا في صيده بأنواع الحيل كحفر حفيرة أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 ربط الحيتان فإذا مضى السبت أخذوه ثم كثر ذلك حتى صار ديدنا لهم إلى آخر تلك القصة الممتعة التي تصور طبيعة اليهود وتفننهم في الكيد. [سورة البقرة (2) : آية 67] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) الإعراب: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) : تكرر إعراب نظائرها (إِنَّ اللَّهَ) إن واسمها وجملة (يَأْمُرُكُمْ) خبرها (إِنَّ) حرف مصدريّ ونصب (تَذْبَحُوا) فعل مضارع منصوب بأن، وان وما في حيّزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي بأن تذبحوا بقرة (بَقَرَةً) مفعول به (قالُوا) : فعل وفاعل (أَتَتَّخِذُنا) الهمزة للاستفهام الاستنكاري وتتخذنا: فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول (هُزُواً) مفعول به ثان والجملة الفعلية مقول القول (قالَ) فعل ماض وفاعله هو وجملة (أَعُوذُ بِاللَّهِ) مقول القول (أَنْ أَكُونَ) أن وما في حيزها مصدر منصوب بنزع الخافض أي من أن أكون واسم أكون مستتر تقديره أنا (مِنَ الْجاهِلِينَ) خبرها. [سورة البقرة (2) : آية 68] قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 اللغة: (الفارض) : المسنّة لأنها فرضت سنّها أي قطعتها وبلغت آخرها. (البكر) الفتية الصغيرة. (العوان) النصف في السنّ والجمع عون بضم العين وسكون الواو وقال الكسائي. العوان: التي قد كان لها زوج ومنه قيل: حرب عوان. الإعراب: (قالُوا) فعل وفاعل (ادْعُ) فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والجملة مقول القول (لَنا) جار ومجرور متعلقان بادع (رَبَّكَ) مفعول به (يُبَيِّنْ) فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب (لَنا) جار ومجرور متعلقان بيبين (ما) اسم استفهام في محل رفع مبتدأ (هِيَ) ضمير منفصل في محل رفع خبر والجملة الاسمية في محل نصب مفعول يبين (قالَ) فعل ماض (إِنَّهُ) ان واسمها وكسرت همزة إن لسبقها بالقول وجملة (يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ) خبر إن وجملة ان وما في حيزها مقول القول (لا) نافية (فارِضٌ) صفة بقرة (وَلا بِكْرٌ) عطف على ما تقدم وإذا وصفت النكرة بما دخل عليه لا كررت وكذلك الخبر والحال (عَوانٌ) صفة أيضا لبقرة (بَيْنَ ذلِكَ) الظرف متعلق بمحذوف صفة لعوان وذلك مضاف إليه وقد نابت الاشارة عن الشيئين حيث وقعت مشارا بها الى الفارض والبكر معا ومثله قول عبد الله بن الزبعرى يوم أحد قبل إسلامه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 إن للخير وللشرّ مدى ... وكلا ذلك وجه وقبل (فَافْعَلُوا) الفاء هي الفصيحة وافعلوا فعل وفاعل (ما) اسم موصول مفعول به وجملة (تُؤْمَرُونَ) صلة الموصول والعائد محذوف أي به وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية أي فافعلوا أمركم ويكون المصدر بمعنى المفعول أي مأموركم. [سورة البقرة (2) : الآيات 69 الى 71] قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) اللغة: (فاقِعٌ) : شديد الصفرة يقال في التوكيد أصفر فاقع كما يقال: أسود حالك وأبيض يقق وأحمر قان وأخضر ناضر. (لا ذَلُولٌ) لم تذلل للحراثة وإثارة الأرض. (الشية) بكسر الشين: العلامة والمراد لا لمعة فيها من لون آخر سوى الصفرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الإعراب: (قالُوا) فعل وفاعل (ادْعُ) فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة مقول القول (لَنا) جار ومجرور متعلقان بادع (رَبَّكَ) مفعول به (يُبَيِّنْ) جواب الطلب (لَنا) متعلقان بيبين (ما) اسم استفهام مبتدأ (لَوْنُها) خبر والجملة في محل نصب مفعول (قالَ) فعل ماض (إِنَّهُ) ان واسمها وجملة (يَقُولُ) خبرها (إِنَّها بَقَرَةٌ) ان واسمها وخبرها والجملة مقول القول (صَفْراءُ) نعت لبقرة (فاقِعٌ) صفة ثانية (لَوْنُها) فاعل فاقع ويجوز أن يكون فاقع خبرا مقدّما ولونها مبتدأ مؤخر والجملة صفة ثانية لبقرة وكلاهما جيد (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به والجملة صفة ثالثة لبقرة (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) تقدم إعرابها بحروفه فجدّد به عهدا (إِنَّ) حرف مشبه بالفعل (الْبَقَرَ) اسمها والجملة تعليل للسؤال لا محل لها (تَشابَهَ) فعل ماض وفاعله هو والجملة خبر إن (عَلَيْنا) جار ومجرور متعلقان بتشابه (وَإِنَّا) الواو حرف عطف وان واسمها (إِنَّ) حرف شرط جازم (شاءَ) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط (اللَّهُ) فاعل وجواب إن محذوف تقديره اهتدينا (لَمُهْتَدُونَ) اللام المزحلقة ومهتدون خبر إن (قالَ) فعل ماض (إِنَّهُ يَقُولُ) ان واسمها وجملة يقول خبرها (إِنَّها بَقَرَةٌ) تقدم إعراب نظيرها تماما (لا) نافية (ذَلُولٌ) صفة بقرة (تُثِيرُ الْأَرْضَ) الجملة الفعلية في محل رفع صفة ثانية والمقصود نفي اثارتها للارض (وَلا) الواو حرف عطف ولا مزيدة لتأكيد الأولى لأن المعنى لا ذلول تثير وتسقي على أن الفعلين صفتان لذلول فكأنه قيل لا ذلول صفتها انها مثيرة وساقية فالنفي مسلط على الموصوف وصفته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 ونرجىء القول في هذا التركيب العجيب الى باب الفوائد (تَسْقِي الْحَرْثَ) فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به (مُسَلَّمَةٌ) صفة ثالثة أي سلمها الله من العيوب (لا) نافية للجنس من أخوات إن (شِيَةَ) اسمها المبني على الفتح (فِيها) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر والجملة صفة رابعة (قالُوا) فعل وفاعل (الْآنَ) ظرف زمان متعلق بجئت (جِئْتَ) جملة جئت مقول القول (بِالْحَقِّ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي متلبسا بالحق (فَذَبَحُوها) معطوف على محذوف يتطلبه السياق أي فطلبوها فوجدوها وذبحوها ولك أن تجعل الفاء فصيحة أي فلما حصلت لهم هذه البقرة الجامعة لأشتات هذا الوصف ذبحوها (وَما) الواو عاطفة وما نافية (كادُوا) كاد واسمها لأنها من أفعال المقاربة العاملة عمل كان وجملة (يَفْعَلُونَ) خبر كادوا. البلاغة: 1- في هذه الآيات المتقدمة فن التكرير وهو داخل في باب الاطناب كأنهم يكررون السؤال استكناها لحقيقة البقرة وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم» . 2- أسرار كاد في العربية كثيرة فهي تدخل على الفعل لإفادة معنى المقاربة في الخبر فإذا دخلت عليها النفي لم تكن إلا لنفي الخبر كأنك قلت: إذا أخرج يده يكاد لا يراها فكاد هذه إذا استعملت بلفظ الإيجاب كان الفعل غير واقع وإذا اقترن بها حرف النفي كان الفعل بعدها قد وقع ولهذا اختلف في معنى الكيدودة هنا وعلى كل حال هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 صورة مجسدة لطبائع اليهود ولجوئهم الى اللجاج والمكابرة، فقد فعلوا الذبح بعد لجاج طويل وتعنت ما عليه مزيد. الفوائد: 1- احتدم الخلاف بين المعربين حول قوله ولا تسقي الحرث فقد شجر الخلاف بين أبي حاتم وأبي البقاء من جهة وبين الزمخشري وأبي حيان من جهة ثانية وقد اخترنا في الإعراب أسهل الأوجه وأقربها الى المنطق. 2- الآن: ظرف زمان يقتضي الحال ويخلص المضارع وهو لازم للظرفية لا يتصرّف وبني لتضمنه معنى الاشارة كأنك قلت: هذا الوقت، واختلف في حرف التعريف الداخل عليه فقيل هو لمحض التعريف الحضوري وقيل: هو حرف زائد لازم. [سورة البقرة (2) : الآيات 72 الى 73] وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) اللغة: (ادّارأتم) : تدافعتم لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضا أي يدفعه ويزحمه والمعنى. اتهم بعضكم بعضا لطمس معالم الجريمة ودرء الشبهة عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الإعراب: (وَإِذْ) عطف على القصة الآنفة ونزولهما على ترتيب وجودهما فيكون أنه تعالى قد أمرهم بذبح البقرة فذبحوها وهم لا يعلمون ما وراء ذلك الأمر ثم وقع بعد ذلك أمر القتل فأظهر لهم سبحانه ما كان قد أخفاه من الحكمة (قَتَلْتُمْ) الجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (نَفْساً) مفعول به (فَادَّارَأْتُمْ) عطف على قتلتم (فِيها) جار ومجرور متعلقان بادارأتم (وَاللَّهُ) الواو اعتراضية والله مبتدأ (مُخْرِجٌ) خبر والجملة لا محل لها لأنها اعتراضية (ما) اسم موصول مفعول به لمخرج لأنه اسم فاعل (كُنْتُمْ) كان واسمها (تَكْتُمُونَ) جملة فعلية في محل نصب خبر كنتم والجملة لا محل لها لأنها صلة ما (فَقُلْنا) عطف (اضْرِبُوهُ) فعل أمر مبني على حذف النون وواو الجماعة فاعل والهاء مفعول به والجملة مقول القول (بِبَعْضِها) جار ومجرور متعلقان باضربوه (كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى) جار ومجرور في محل نصب مفعول مطلق مقدم لأنه في الأصل وصف للمصدر والتقدير يحيي الله الموتى إحياء مثل ذلك الإحياء (وَيُرِيكُمْ) عطف على يحيي والكاف مفعول به أول (آياتِهِ) مفعول به ثان (لَعَلَّكُمْ) لعل واسمها (تَعْقِلُونَ) الجملة في محل رفع خبر لعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 [سورة البقرة (2) : آية 74] ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) الإعراب: (ثُمَّ) حرف عطف للتراخي واستبعاد القسوة من بعد ما ذكر من موجبات الليونة للقلوب (قَسَتْ) فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والتاء تاء التأنيث الساكنة (قُلُوبُكُمْ) فاعل (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) جار ومجرور متعلقان بقست وذلك مضاف إليه (فَهِيَ) الفاء عاطفة وهي مبتدأ (كَالْحِجارَةِ) الكاف اسم بمعنى مثل خبر والحجارة مضاف إليه ولك أن تجعلها جارة والجار والمجرور خبر هي (أَوْ) حرف عطف للتخيير أو للابهام أو للتنويع (أَشَدُّ) معطوف على الكاف إذا كانت اسما أو على كالحجارة لأن الجار والمجرور في موضع رفع (قَسْوَةً) تمييز وكان القياس أن يقول: أقسى لأن اسم التفضيل يأتي من الثلاثي المستوفي شروطه ولكنه عدل عن ذلك لأن سياق القصة يقتضي العدول الى الإسهاب وزيادة التهويل بذكر لفظ الشّدّة (وَإِنَّ) الواو استئنافية وإن حرف مشبه (مِنَ الْحِجارَةِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها المقدم (لَما) اللام هي المزحلقة وما اسم موصول في محل نصب اسمها المؤخر (يَتَفَجَّرُ) فعل مضارع مرفوع والجملة صلة لا محل لها (مِنْهُ) جار ومجرور متعلقان بيتفجر (الْأَنْهارُ) فاعل يتفجر (وَإِنَّ) عطف على أن الأولى (مِنْها) جار ومجرور خبر مقدم (لَما) اللام المزحلقة وما اسم موصول اسم ان المؤخر (يَشَّقَّقُ) فعل مضارع مرفوع (فَيَخْرُجُ) عطف على يشقق (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ) عطف على ما تقدم (مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) الجار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 والمجرور متعلقان بيهبط بمثابة التعليل له (وَمَا) الواو استئنافية وما نافية حجازية تعمل عمل ليس (اللَّهِ) اسمها المرفوع (بِغافِلٍ) الباء حرف جر زائد وغافل مجرور لفظا بالباء منصوب محلا على أنه خبر ما (عَمَّا) جار ومجرور متعلقان بغافل (تَعْمَلُونَ) الجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول. البلاغة: 1- التشبيه المرسل فقد شبه قلوبهم في نبوّها عن الحق، وتجافيها مع أحكامه بالحجارة القاسية ثم ترقى في التشبيه، فجعل الحجارة أكثر لينا من قلوبهم. 2- الاستعارة المكنية التبعية في قوله تعالى: «ثم قست قلوبكم» تشبيها لحال القلوب في عدم الاعتبار والاتعاظ بما هو ماثل أمامها، ناطق بلسان الحال، بالحجارة النابية التي من خصائصها القسوة والصلابة. 3- المجاز العقلي في إسناد الخشية إلى الحجارة وهو كثير في ألسنة العرب. الفوائد: (ما الحجازية) سميت حجازية لأنها تعمل عمل ليس في لغة أهل الحجاز، وهي نافية مهملة في لغة تميم ويشترط لاعمالها أربعة شروط: آ- أن لا يتقدم خبرها على اسمها وإلا أهملت وفي أمثالهم: ما مسئيء من أعتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 ب- أن لا يتقدم معمول خبرها على اسمها وإلا أهملت نحو: ما بك أنا منتصر. ج- أن لا تراد بعدها إن وإلا بطل عملها كقوله: بني غدانة ما إن أنتم ذهب ... ولا صريف ولكن أنتم الخزف د- أن لا ينتقض نفيها بإلا وإلا بطل عملها نحو: «وما محمد إلا رسول» . [سورة البقرة (2) : آية 75] أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) اللغة: (الطمع) تعلق النفس بإدراك أمر تعلقا قويا فهو أشد من الرجاء يقال: طمع يطمع طمعا وطماعية وطماعية. قال المتنبي: إلام طماعية العاذل ... ولا رأي في الحبّ للعاقل الإعراب: (أَفَتَطْمَعُونَ) الهمزة للاستفهام والمراد به النهي أو الاستنكار وقد تقدم بحث دخول الهمزة على حروف العطف والمعنى: لا تطمعوا في إقناع هؤلاء العتاة الجفاة القاسية قلوبهم (أَنْ يُؤْمِنُوا) أن وما بعدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض (لَكُمْ) جار ومجرور متعلق بيؤمنوا على تضمين يؤمنوا معنى الانقياد (وَقَدْ) الواو حالية وقد حرف تحقيق (كانَ) فعل ماض ناقص (فَرِيقٌ) اسمها (مِنْهُمْ) جار ومجرور صفة لفريق (يَسْمَعُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وجملة يسمعون خبر كان (كَلامَ اللَّهِ) مفعول به (ثُمَّ) حرف عطف للتراخي (يُحَرِّفُونَهُ) عطف على يسمعون (مِنْ بَعْدِ) الجار والمجرور متعلقان بيحرفونه (ما) مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالاضافة (عَقَلُوهُ) فعل وفاعل ومفعول به (وَهُمْ) الواو حالية وهم مبتدأ (يَعْلَمُونَ) الجملة في موضع رفع خبرهم والجملة الاسمية في موضع نصب على الحال أي والحال أنهم عالمون بكفرهم وعنادهم وافترائهم. [سورة البقرة (2) : الآيات 76 الى 77] وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) الإعراب: (وَإِذا) الواو استئنافية أو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه متعلّق بجوابه (لَقُوا) فعل ماض مبني على الفتح والواو فاعل وجملة لقوا فعلية لا محل لها من الإعراب لإضافة الظرف إليها (الَّذِينَ) اسم موصول مفعول به (آمَنُوا) فعل وفاعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (قالُوا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم (آمَنَّا) فعل وفاعل والجملة في محل نصب مقول القول (وَإِذا) عطف على وإذا الأولى (خَلا بَعْضُهُمْ) فعل وفاعل والجملة في محل جر باضافة الظرف إليها (إِلى بَعْضٍ) جار ومجرور متعلقان بخلا (قالُوا) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (أَتُحَدِّثُونَهُمْ) الهمزة للاستفهام الانكاري وتحدثونهم فعل وفاعل ومفعول به والجملة في محل نصب مقول القول (بِما) جار ومجرور متعلقان بتحدثونهم (فَتَحَ اللَّهُ) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (عَلَيْكُمْ) جار ومجرور متعلقان بفتح (لِيُحَاجُّوكُمْ) اللام هي لام العاقبة أو الصيرورة لا للتعليل في المعنى لأنهم لم يقصدوا ذلك وإنما كان المآل والعاقبة له ولكنها مثل لام التعليل في العمل ويحاجوكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام العاقبة أو الصيرورة واللام ومجرورها متعلقان بتحدثونهم (بِهِ) الجار والمجرور متعلقان بيحاجوكم (عِنْدَ رَبِّكُمْ) الظرف متعلق بمحذوف حال (أَفَلا تَعْقِلُونَ) تقدم حكم همزة الاستفهام إذا دخلت على حرف العطف كثيرا (أَوَلا) الهمزة للاستفهام التقريري ومعناه حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف ولا يخلو من التوبيخ والواو عاطفة وهي بنية التقديم على الهمزة وانما أخرت لقوة الهمزة ولا نافية (يَعْلَمُونَ) معطوف على فعل محذوف والمعنى أيلومونهم على التحدث بما ذكر ولا يعلمون (أَنَّ اللَّهَ) ان واسمها وما بعدها سدت مسد مفعولي يعلمون ولذلك فتحت همزتها (يَعْلَمُ) فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره هو والجملة في محل رفع خبر أن (ما) اسم موصول أو مصدرية وهي على كل مع مدخولها مفعول يعلم (يُسِرُّونَ) الجملة لا محل لها على كل حال (وَما يُعْلِنُونَ) عطف عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 [سورة البقرة (2) : الآيات 78 الى 79] وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) اللغة: (أُمِّيُّونَ) : لا يحسنون الكتابة والقراءة والمفرد أمي نسبة الى الأم لأنه ليس من شعل النساء عندهم أو إلى الأمة وهي القامة والخلقة كأن الذي لا يكتب ولا يقرأ قائم على الفطرة والجبلة أو الى الأمة لأنها ساذجة قبل أن تعرف المعارف. (أَمانِيَّ) جمع أمنية بتشديد الياء وتخفيفها وهي في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه ويحدس به ولذلك تطلق على الكذب والمراد أنهم لا يعلمون الكتاب إلا كما حدسوه أو تخيلوه في هواجسهم من أنهم شعب الله المختار وأن الله يعفو عنهم وان آباءهم الأنبياء يشفعون لهم وما ذلك كله إلا أكاذيب منمقة لفقها لهم أحبارهم فتناقلوها من دون تمحيص أو رويّة. (الويل) مصدر لا فعل له من لفظه ولم يجيء من هذه المادة التي فاؤها واو وعينها ياء إلا ويل وويح وويس وويب ولا يثنى ولا يجمع وقيل: يجمع على ويلات قال امرؤ القيس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة ... فقالت: لك الويلات إنك مرجلي وإذا أضيف فالأحسن فيه النصب على المفعولية المطلقة لأنه مصدر لفعل أماته العرب وإذا لم يضيف فالأحسن فيه الرفع على الابتداء وساغ الابتداء لتضمنه معنى خاصا والويل معناه الفضيحة والحسرة وقال الخليل: شدة الشر، وقال غيره الويل: الهلكة. الإعراب: (وَمِنْهُمْ) الواو حرف عطف ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (أُمِّيُّونَ) مبتدأ مؤخر (لا) نافية (يَعْلَمُونَ) فعل مضارع والواو فاعل (الْكِتابَ) مفعول به وجملة لا يعلمون صفة أميون (إِلَّا) أداة استثناء (أَمانِيَّ) مستثنى بإلا وهو استثناء منقطع لأن الأماني ليست مندرجة تحت مدلول الكتاب ولهذا وجب نصبه رغم تقدم النفي وإنما يكون ذلك كذلك في كل موضع حسن أن يوضع فيه مكان إلا لكن فيعلم حينئذ انقطاع معنى الثاني عن معنى الاول (وَإِنْ) الواو حالية وإن نافية (هُمْ) مبتدأ (إِلَّا) أداة حصر لتقدم النفي، (يَظُنُّونَ) فعل مضارع وفاعل والجملة فعلية خبرهم (فَوَيْلٌ) الفاء استئنافية وويل مبتدأ ساغ الابتداء به لتضمنه معنى الدعاء والتهويل (لِلَّذِينَ) الجار والمجرور خبر ويل (يَكْتُبُونَ) فعل مضارع وفاعل والجملة صلة الموصول (الْكِتابَ) مفعول به (بِأَيْدِيهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بيكتبون (ثُمَّ يَقُولُونَ) عطف على يكتبون (هذا) مبتدأ (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الجار والمجرور خبر والجملة الاسمية مقول القول (لِيَشْتَرُوا) اللام لام التعليل ويشتروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام التعليل والواو فاعل (بِهِ) الجار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 والمجرور متعلقان بيشتروا (ثَمَناً) مفعول به (قَلِيلًا) صفة (فَوَيْلٌ) تقدم إعرابها وكررها للتأكيد (لَهُمْ) الجار والمجرور خبر ويل (مِمَّا) الجار والمجرور متعلقان بويل (كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة ما (وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) عطف على ما تقدم وقد سبق اعرابها. البلاغة: (الاطناب) بذكر أيديهم فقد ذكرها والكتابة لا تكون إلا بها لتصوير الحالة في النفس كما وقعت، وتجسيبها أمام السامع حتى يكاد يكون مشاهدا لها ولتسجيل الأمر عليهم كما تقول لمن ينكر معرفته ما كتب ووقع: أنت كتبته بيمينك. [سورة البقرة (2) : الآيات 80 الى 82] وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) الإعراب: (وَقالُوا) الواو استئنافية قالوا: فعل وفاعل (لَنْ) حرف نقي ونصب واستقبال (تَمَسَّنَا) فعل مضارع منصوب بلن ونا ضمير متصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 في محل نصب مفعول به (النَّارُ) فاعل والجملة فعلية في محل نصب مقول القول (إِلَّا) أداة حصر (أَيَّاماً) نصب على الظرفية الزمانية متعلق بتمسنا (مَعْدُودَةً) صفة لأياما (قُلْ) فعل أمر وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت والجملة استئنافية (أَتَّخَذْتُمْ) حذفت همزة الوصل المتصلة بالماضي الخماسي لاجتماع همزتين والجملة في محل نصب مقول القول (عِنْدَ اللَّهِ) ظرف متعلق باتخذتم (عَهْداً) مفعول به (فَلَنْ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدّر والتقدير ان اتخذتم عند الله عهدا فلن (يُخْلِفَ) فعل مضارع منصوب بلن (اللَّهِ) فاعل (عَهْدَهُ) مفعول به (أَمْ) حرف عطف معادل للاستفهام فهي متصلة ويحتمل أن تكون منقطعة بمعنى بل وكلاهما يفيد معنى التقرير والتوبيخ (تَقُولُونَ) عطف على ما قبله (عَلَى اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بتقولون (ما) اسم موصول مفعول تقولون (لا) نافية (تَعْلَمُونَ) فعل مضارع والواو فاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (بَلى) حرف جواب يثبت ما بعد حرف النفي (مَنْ) اسم شرط جازم مبتدأ (كَسَبَ) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره هو (سَيِّئَةً) مفعول به (وَأَحاطَتْ) عطف على كسب (بِهِ) الجار والمجرور متعلقان بأحاطت (خَطِيئَتُهُ) فاعل أحاطت (فَأُولئِكَ) الفاء رابطة لجواب الشرط واسم الاشارة مبتدأ (أَصْحابُ النَّارِ) خبره (هُمْ) مبتدأ (فِيها) متعلق بخالدون (خالِدُونَ) خبر هم والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط الجازم (وَالَّذِينَ) الواو عاطفة والذين اسم موصول مبتدأ (آمَنُوا) فعل وفاعل والجملة صلة الموصول (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) عطف على آمنوا (أُولئِكَ) مبتدأ أيضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) خبر أولئك والجملة الاسمية خبر الذين (هُمْ) مبتدأ (فِيها) الجار والمجرور متعلقان بخالدون (خالِدُونَ) خبرهم والجملة الاسمية خبر ثان لاسم الموصول. الفوائد: (بَلى) حرف جواب مثل نعم والفرق بينهما أن بلى تختص بوقوعها بعد النفي لتجعله إثباتا أما نعم ومثلها أجل فان الجواب بهما يتبع ما قبلهما في إثباته ونفيه فإن قلت لرجل: أليس لي عليك ألف درهم؟ فإن قال: بلى، لزمه ذلك وإن قال: نعم لم يلزمه ومن أحرف الجواب إي وجير. [سورة البقرة (2) : آية 83] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) الإعراب: (وَإِذْ أَخَذْنا) تقدم إعرابه كثيرا (مِيثاقَ) مفعول به (بَنِي) مضاف إليه مجرور وعلامة جرّه الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم (إِسْرائِيلَ) مضاف اليه وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة لأنه علم أعجمي (لا) نافية (تَعْبُدُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 (إِلَّا) أداة حصر (اللَّهَ) مفعول به والجملة لا محل لها لأنها مفسرة والخبر بمعنى النهي أي (وَبِالْوالِدَيْنِ) الواو حرف عطف على موضع ان المحذوفة في لا تعبدون إلا الله فكان معنى الكلام وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا تعبدوا إلا الله وأحسنوا بالوالدين بالوالدين الجار والمجرور ومتعلقان بفعل المصدر أي وأحسنوا بالوالدين (إِحْساناً) مفعول مطلق لفعل محذوف (وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) عطف على الوالدين (وَقُولُوا) عطف ولكن لا بد من تقدير محذوف أي وقلنا قولوا (لِلنَّاسِ) متعلق بالفعل المحذوف (حُسْناً) صفة لمفعول مطلق محذوف أو قولا حسنا (وَأَقِيمُوا) عطف أيضا على ما تقدم (الصَّلاةَ) مفعول به (وَآتُوا الزَّكاةَ) عطف على أقيموا الصلاة (ثُمَّ) حرف عطف عطفت على محذوف أي فقبلتم الميثاق (تَوَلَّيْتُمْ) فعل وفاعل (إِلَّا) أداة استثناء لأن الكلام تام موجب (قَلِيلًا) مستثنى بإلا (مِنْكُمْ) الجار والمجرور صفة لقليلا (وَأَنْتُمْ) الواو حالية وأنتم مبتدأ (مُعْرِضُونَ) خبر والجملة الاسمية في محل نصب على الحال. البلاغة: 1- جملة لا تعبدون خبر معناه النهي وهو أبلغ من التصريح به. 2- الالتفات: من الغيبة الى الخطاب في قوله: «لا تعبدون» ومن خطاب بني إسرائيل القدامى الى خطاب الحاضرين منهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. [سورة البقرة (2) : الآيات 84 الى 85] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 اللغة: (تَظاهَرُونَ) تتعاونون وحذفت احدى التاءين وأصل المظاهرة المعاونة مشتقة من الظهر لأن بعضهم يقوي بعضا فيكون له كالظهر (تُفادُوهُمْ) تنقذوهم من الأسر بالمال. الإعراب: (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) تقدم إعراب هذه الجملة قريبا (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) خبر معناه النهي أيضا وقد تقدم اعراب هذه الجملة (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) عطف على ما تقدم أي اعترفتم على أنفسكم بعد التراخي وطول الأمد (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) ثم حرف عطف وأقررتم فعل وفاعل (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) تقدم إعرابها (ثُمَّ) حرف عطف للتراخي (أَنْتُمْ) مبتدأ (هؤُلاءِ) اسم اشارة في محل نصب على الذم بفعل محذوف تقديره أذمّ وقيل في محل نصب منادى محذوف منه حرف النداء (تَقْتُلُونَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 فعل مضارع والواو فاعل وجملة تقتلون خبر أنتم (أَنْفُسَكُمْ) مفعول به وقيل: اسم الاشارة هو الخبر وجملة تقتلون حال وقد قالت العرب: ها أنت ذا قائما وإنما أخبر عن الضمير باسم الاشارة في اللفظ وكأنه قال: أنت الحاضر (وَتُخْرِجُونَ) عطف على تقتلون (فَرِيقاً) مفعول به (مِنْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لفريقا (مِنْ دِيارِهِمْ) متعلقان بتخرجون (تَظاهَرُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة في محل نصب حال من الواو أي متعاونين عليهم (عَلَيْهِمْ) جار ومجرور متعلقان بتظاهرون (بِالْإِثْمِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال والمعنى تظاهرون عليهم حال كونهم ملتبسين بالإثم (وَالْعُدْوانِ) عطف على الإثم وهذه الآية عجب في صدق تصويرها لحقيقة هؤلاء الذين نشاهد اليوم مصداقا لها (وَإِنْ) الواو استئنافية وإن شرطية (يَأْتُوكُمْ) فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والكاف مفعول به (أُسارى) حال (تُفادُوهُمْ) جواب الشرط مجزوم (وَهُوَ) الواو حالية وهو مبتدأ وهو المسمى بضمير الشأن وسيأتي الحديث عنه (مُحَرَّمٌ) خبر مقدم (عَلَيْكُمْ) جار ومجرور متعلقان بمحرم (إِخْراجُهُمْ) مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية في محل رفع خبر لضمير الشأن ويجوز أن يعرب قوله محرم خبر هو وإخراجهم نائب فاعل لمحرم لأنه اسم مفعول (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) تقدم إعراب نظيرها (فَما) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدر كأنه قيل إن شئتم أن تعرفوا جزاء من يفعل وما نافية (جَزاءُ) مبتدأ (مِنْ) اسم موصول في محل جر بالاضافة (يَفْعَلُ) فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو والجملة صلة الموصول (ذلِكَ) اسم الاشارة مفعول به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 (مِنْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي حال كونه منكم (إِلَّا) أداة حصر (خِزْيٌ) خبر جزاء لأنه استثناء مفرع (فِي الْحَياةِ) الجار والمجرور صفة لخزي (الدُّنْيا) صفة للحياة (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) الواو استئنافية والظرف معلق بيردون (يُرَدُّونَ) الجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب لأنها مستأنفة (إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) الجار والمجرور متعلقان بيردون (وَمَا) الواو استئنافية وما نافية حجازية تعمل عمل ليس (اللَّهُ) اسمها المرفوع (بِغافِلٍ) الباء حرف جر زائد وغافل خبر ما محلا (عَمَّا) الجار والمجرور متعلقان بتعملون (تَعْمَلُونَ) الجملة الفعلية صلة الموصول. [سورة البقرة (2) : آية 86] أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) الإعراب: (أُولئِكَ) اسم الاشارة مبتدأ (الَّذِينَ) اسم موصول خبر (اشْتَرَوُا) الجملة الفعلية لا محل لها لانها صلة الموصول (الْحَياةَ) مفعول به (الدُّنْيا) صفة للحياة (بِالْآخِرَةِ) الجار والمجرور متعلقان باشتروا (فَلا) الفاء الفصيحة ولا نافية (يُخَفَّفُ) فعل مضارع مبني للمجهول والجملة خبر ثان لاسم الاشارة (عَنْهُمُ) الجار والمجرور متعلقان بيخفف (الْعَذابُ) نائب فاعل (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) الواو عاطفة على ما تقدم ولا نافية وهم مبتدأ وجملة ينصرون خبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 البلاغة: الاستعارة المكنية التبعية في شراء الحياة الدنيا بالآخرة وقد تقدم نظيرها. [سورة البقرة (2) : آية 87] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) اللغة: (قَفَّيْنا) اتبعنا والمادة كلها تدل على التبعية، والقفا كل تابع وهو مؤخر العنق ومنه قافية الشعر لأنها تتبع البيت (عِيسَى) : علم أعجمي وهو بالسريانية ايشوع وليس مشتقا من العيس وهو بياض يخالطه شقرة. (مَرْيَمَ) علم أعجمي ولهذا منع من الصرف. والمريم في اللغة العربية من النساء كالزير من الرجال والزّير هو الذي يخالط النساء ويمازحهن بغير شر او به. الإعراب: (وَلَقَدْ) الواو حرف عطف واللام جواب قسم محذوف وقد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 حرف تحقيق (آتَيْنا) فعل وفاعل (مُوسَى) مفعول به أول (الْكِتابَ) مفعول به ثان (وَقَفَّيْنا) عطف على آتينا (مِنْ بَعْدِهِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (بِالرُّسُلِ) جار ومجرور متعلقان بقفينا (وَآتَيْنا) عطف على ما تقدم (عِيسَى) مفعول به أول (ابْنَ) بدل أو صفة (مَرْيَمَ) مضاف اليه (الْبَيِّناتِ) مفعول به ثان وعلامة نصبه الكسرة لأنه جمع مؤنث سالم (وَأَيَّدْناهُ) عطف على ما تقدم (بِرُوحِ الْقُدُسِ) الجار والمجرور متعلقان بأيدناه (أَفَكُلَّما) الهمزة للاستفهام والفاء عاطفة وكلما ظرف زمان متضمن معنى الشرط (جاءَكُمْ) فعل ماض ومفعول به مقدّم (رَسُولٌ) فاعل جاء والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (بِما) الباء حرف جر وما اسم موصول مجرور بالباء محلا والجار والمجرور متعلقان بجاءكم (لا) نافية (تَهْوى) فعل مضارع (أَنْفُسُكُمُ) فاعل والجملة لا محل لها لانها صلة (اسْتَكْبَرْتُمْ) فعل ماض وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (فَفَرِيقاً) الفاء عاطفة وفريقا مفعول به مقدّم (كَذَّبْتُمْ) فعل (وَفَرِيقاً) الواو عاطفة وفريقا مفعول مقدم لتقتلون (تَقْتُلُونَ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل. [سورة البقرة (2) : آية 88] وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) اللغة: (غُلْفٌ) : جمع أغلف وهو في الأصل الذي لم يختن أي لا يعي ولا يفهم والمعنى هي مغشّاة بأغطية لا يدري أحد ما وراءها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 الإعراب: (وَقالُوا) الواو استئنافية وقالوا فعل ماض وفاعل (قُلُوبُنا) مبتدأ ونا مضاف اليه (غُلْفٌ) خبر قلوبنا والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول (بَلْ) حرف عطف وإضراب (لَعَنَهُمُ اللَّهُ) فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل (بِكُفْرِهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بلعنهم أي بسبب كفرهم (فَقَلِيلًا) الفاء استئنافية وقليلا نعت لمصدر محذوف أي يؤمنون إيمانا قليلا (ما) نكرة مبهمة صفة لقليلا (يُؤْمِنُونَ) فعل مضارع مرفوع. [سورة البقرة (2) : الآيات 89 الى 90] وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) اللغة: (يَسْتَفْتِحُونَ) : يستنصرون وفتح الله على نبيّه نصره وهنا ناحية طريفة من وصف اليهود، فقد كانوا يستنصرون الكافرين إذا قاتلوهم قائلين: اللهم انصرنا بالنبي المذكور عندنا في التوراة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الإعراب: (وَلَمَّا) الواو استئنافية ولما ظرفية بمعنى حين أو هي حرف لمجرد الربط وهي متضمنة معنى الشرط (جاءَهُمْ) فعل ومفعول به (كِتابٌ) فاعل (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف نعت لكتاب والجملة في محل جر بإضافة الظروف إليها إذا أعربنا لما ظرفية أو لا محل لها إذا كانت رابطة وجواب لما محذوف تقديره كذبوا أو نحوه (مُصَدِّقٌ) نعت لكتاب أيضا (لَمَّا) اللام حرف جر وما اسم موصول في محل جر باللام والجار والمجرور متعلقان بمصدق (مَعَهُمْ) مفعول به ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة (وَكانُوا) الواو حرف عطف والمعطوف هو الجواب المحذوف وكان واسمها (مِنْ قَبْلُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (يَسْتَفْتِحُونَ) فعل مضارع والواو فاعل والجملة فعلية في محل نصب خبر كانوا (عَلَى الَّذِينَ) جار ومجرور متعلقان بيستفتحون (كَفَرُوا) فعل وفاعل والجملة لا محل لأنها صلة الموصول (فَلَمَّا) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة (جاءَهُمْ) تقدم اعرابها (ما) اسم موصول فاعل (عَرَفُوا) فعل وفاعل والجملة صلة الموصول (كَفَرُوا بِهِ) جملة فعلية لا محل لها من الإعراب لأنها جواب لما (فَلَعْنَةُ) الفاء للتعليل ولعنة مبتدأ والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها في حكم الاستئنافية (اللَّهِ) مضاف اليه (عَلَى الْكافِرِينَ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لعنة والمعنى أن لعنة الله متسببة عما تقدم (بِئْسَمَا) بئس فعل ماض لانشاء الذم وما نكرة تامة بمعنى شيء في محل نصب على التمييز وهي مفسرة لفاعل بئس بمعنى بئس شيئا (اشْتَرَوْا) فعل وفاعل والجملة صفة لما (بِهِ) الجار والمجرور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 متعلقان باشتروا (أَنْفُسَهُمْ) مفعول به (أَنْ يَكْفُرُوا) أن وما في حيزها في تأويل مصدر مبتدأ لأنه المخصوص بالذم وجملة بئس هي الخبر المقدم (بِما) الباء حرف جر وما اسم موصول في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان بيكفروا (أَنْزَلَ اللَّهُ) فعل وفاعل والجملة صلة الموصول (بَغْياً) مفعول لأجله وهو علة اشتروا أو علة يكفروا (أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ) أن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي بغوا لانزال الله (مِنْ فَضْلِهِ) الجار والمجرور متعلقان بينزل أيضا (عَلى مَنْ يَشاءُ) جار ومجرور متعلقان بينزل ويشاء فعل وفاعله مستتر (مِنْ عِبادِهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال مبنية لمن يشاء (فَباؤُ بِغَضَبٍ) الفاء حرف عطف وباءوا فعل وفاعل والجار والمجرور متعلقان بباءوا (عَلى غَضَبٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لغضب أو مترادف (وَلِلْكافِرِينَ) الواو استئنافية وللكافرين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (عَذابٌ) مبتدأ مؤخر (مُهِينٌ) صفة لعذاب. الفوائد: 1- (ما) المتصلة بنعم وبئس من أفعال المدح والذم اختلف فيها النحاة والأكثر أنها نكرة تامة بمعنى شيء فتكون موضع نصب على التمييز وقيل هي موصولة فتكون هي الفاعل. 2- المخصوص بالمدح والذّم يعرب مبتدأ والجملة الفعلية قبله خبر ولك أن تعربه خبرا لمبتدأ محذوف واجب الحذف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 [سورة البقرة (2) : آية 91] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) الإعراب: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا) تقدم اعراب نظائرها وجملة آمنوا في محل نصب مقول القول (بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) الباء حرف جر وما اسم موصول في محل جر بالباء وجملة أنزل الله لا محل لها (قالُوا) الجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم (نُؤْمِنُ) الجملة في محل نصب مقول القول (بِما أَنْزَلَ) الجار والمجرور متعلقان بنؤمن (عَلَيْنا) جار ومجرور متعلقان بأنزل (وَيَكْفُرُونَ) الواو حالية (بِما) الجار والمجرور متعلقان بيكفرون (وَراءَهُ) ظرف متعلق بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول (وَهُوَ الْحَقُّ) الواو حالية وهو مبتدأ والحق خبره وجملة المبتدأ والخبر في محل نصب على الحال (مُصَدِّقاً) حال مؤكدة لأن تصديق القرآن لازم لا ينتقل (لِما) الجار والمجرور متعلقان بمصدقا (مَعَهُمْ) ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة ما (قُلْ) فعل أمر (فَلِمَ) الفاء هي الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدر أي إن كانت دعواكم صحيحة فلم تقتلون واللام حرف جر وما اسم استفهام في محل جر باللام أي لأي شيء وحذفت الألف من ما فرقا بينها وبين ما الخبرية والجار والمجرور متعلقان بتقتلون (تَقْتُلُونَ) فعل مضارع (أَنْبِياءَ اللَّهِ) مفعول به (مِنْ قَبْلُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ان شرطية وكنتم كان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وجملة تقتلون خبرها وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه أي فلم تقتلون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الفوائد: 1- (وراء) من الظروف المتوسطة التصرف وهو ظرف مكان والمشهور أنه بمعنى خلف وقد يكون بمعنى أمام فهو من الأضداد. 2- إذا سبق ما الاستفهامية حرف جر حذفت ألفها ونزلت الكلمتان منزلة الكلمة الواحدة فتقول: إلام، علام، حتام، لم. بم، حتّام، عمّ، فيم، ممّ. [سورة البقرة (2) : الآيات 92 الى 93] وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) الإعراب: (وَلَقَدْ) الواو استئنافية واللام جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق (جاءَكُمْ مُوسى) فعل ومفعول به مقدم وفاعل الكلام مستأنف مسوق للاعتراض عليهم بقتل الأنبياء مع ادعائهم بأنهم يؤمنون بالتوراة والتوراة لا تسوغ ذلك بحال (بِالْبَيِّناتِ) جار ومجرور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 متعلقان بجاءكم (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي واتخذتم فعل وفاعل والعجل مفعول به (مِنْ بَعْدِهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) الواو حالية وأنتم مبتدأ وظالمون خبره والجملة نصب على الحال (وَإِذْ) تقدم إعرابها (أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) فعل ماض وفاعل ومفعول به والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (وَرَفَعْنا) عطف على أخذنا ولك أن تعربها حالية (فَوْقَكُمُ) ظرف مكان متعلق برفعنا (الطُّورَ) مفعول به (خُذُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة مقول قول محذوف وجملة القول نصب على الحال أي قائلين لكم (ما) اسم موصول مفعول به (آتَيْناكُمْ) فعل وفاعل ومفعول به والجملة صلة (بِقُوَّةٍ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (وَاسْمَعُوا) عطف على ما تقدم (قالُوا) فعل وفاعل والجملة مستأنفة مسوقة لذكر سماعهم وعصيانهم في وقت واحد وتلك طبيعة مركوزة في اليهود (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) الجملتان مقول للقول (وَأُشْرِبُوا) الواو حالية أو عاطفة واشربوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل (فِي قُلُوبِهِمُ) جار ومجرور متعلقان باشربوا (الْعِجْلَ) مفعول به ثان على تقدير مضاف أي حب العجل (بِكُفْرِهِمْ) جار ومجرور متعلقان بأشربوا والباء للسببية أي بسبب كفرهم (قُلْ) فعل أمر وفاعله ضمير مستتر والجملة مستأنفة (بِئْسَما) تقدم اعرابها قريبا (يَأْمُرُكُمْ) فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به والجملة لا محل لها (بِهِ) جار ومجرور متعلقان بيأمركم (إِيمانُكُمْ) فاعل (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط وفعله والجواب محذوف فلم فعلتم ذلك وكان واسمها ومؤمنين خبرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 البلاغة: (التشبيه البليغ) أي جعلت قلوبهم لتمكّن حب العجل منها كأنها تشرب ومثله قول زهير: فصحوت عنها بعد حبّ داخل ... والحبّ يشربه فؤادك دائما وانما عبر عن حبّ العجل بالشرب دون الأكل لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل الى باطنها والطعام لا يتغلغل فيها. [سورة البقرة (2) : الآيات 94 الى 95] قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) الإعراب: (قُلْ) فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والجملة مستأنفة مسوقة للدخول في فن آخر من أراجيفهم التي يحيكونها (إِنْ) شرطية تجزم فعلين (كانَتْ) فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط (لَكُمُ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كانت لمقدم (الدَّارُ) اسمها المؤخر (الْآخِرَةُ) نعت للدار (عِنْدَ اللَّهِ) ظرف مكان متعلق بخالصة (خالِصَةً) حال من الدار أي سالمة (مِنْ دُونِ النَّاسِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال مؤكدة للحال لأن دون تستعمل للاختصاص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 يقال: هذا لي دونك أو من دونك أي لا حق لك فيه (فَتَمَنَّوُا) الفاء واقعة في جواب الشرط لأن الكلام طلبي وتمنوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة في محل جزم جواب الشرط (الْمَوْتَ) مفعول به (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) تكرر اعرابها وجواب الشرط محذوف أي فتمنوا الموت (وَلَنْ) الواو استئنافية ولن حرف نفي ونصب واستقبال (يَتَمَنَّوْهُ) فعل مضارع منصوب بلن وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به (أَبَداً) ظرف زمان متعلق بيتمنوه (بِما) الجار والمجرور متعلقان بيتمنوه أيضا (قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) جملة فعلية لا محل لها من الإعراب لأنها صلة ما والعائد محذوف أي قدمته أيديهم (وَاللَّهُ عَلِيمٌ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة (بِالظَّالِمِينَ) الجار والمجرور متعلقان بعليم. البلاغة: في قوله: «فتمنوا الموت» خروج الأمر عن معناه الأصلي الى معنى التعجيز لأن ذلك ليس من سماتهم ولا من ظواهرهم المألوفة وتمنى الموت من شأن المقربين الأبرار لأن من أيقن بالشهادة اشتاق إليها. وبكى حنينا إليها وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه كان يطوف بين الصفين في غلالة فقال ابنه الحسن: ما هذا بزي المحاربين فقال: يا بني لا يبالي أبوك سقط أم سقط عليه الموت، ولما احتضر خالد بن الوليد بكى فقيل له: ما يبكيك؟ قال: والله ما أبالي إشفاقا من الموت ولكن لأني حضرت كذا وكذا معركة ثم أموت هكذا كما تموت العنز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 فلا نامت أعين الجبناء، وعن حذيفة أنه كان يتمنى الموت فلما احتضر قال حبيب: جاء على فاقة لا أفلح من ندم يعني على التمني. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لو تمنّوا الموت لغصّ كل انسان بريقه فمات مكانه وما بقي على وجه الأرض يهودي» . [سورة البقرة (2) : آية 96] وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) اللغة: (زحزح) : يستعمل متعديا ولازما وتكرار الحروف بمثابة تكرار العمل. الإعراب: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ) الواو عاطفة واللام جواب لقسم محذوف وتجدنهم فعل مضارع مبني على الفتح وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت والهاء مفعوله الأول (أَحْرَصَ النَّاسِ) مفعوله الثاني (عَلى حَياةٍ) الجار والمجرور متعلقان بأحرص (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) الواو عاطفة والعطف هنا محمول على المعنى والتقدير أحرص من الذين أشركوا ولكنه حذف «أحرص» للتخصيص بعد التعميم (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) فعل مضارع وفاعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 والجملة حالية أو استئنافية لا محل لها (لَوْ يُعَمَّرُ) لو مصدرية غير عاملة أي يود التعمير وهي خاصة بفعل الودادة وهي والفعل بعدها في تأويل مصدر مفعول يود أي يود التعمير ويعمر فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر فيه جوازا تقديره هو (أَلْفَ سَنَةٍ) ظرف زمان متعلق بيعمر (وَما هُوَ) الواو حالية وما نافية حجازية وهو اسمها (بِمُزَحْزِحِهِ) الباء حرف جر زائد ومزحزحه مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما (مِنَ الْعَذابِ) الجار والمجرور متعلقان بمزحزحه (أَنْ يُعَمَّرَ) ان وما في حيزها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل لمزحزحه لأنه اسم فاعل والضمير في قوله وما هو راجع الى أحدهم وقيل هو لما دل عليه يعمر من مصدر أي وما التعمير بمزحزحه ويكون قوله أن يعمر بدلا منه وكلاهما جيد (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) الواو استئنافية ويجوز في ما أن تكون موصولة أو مصدرية. البلاغة: 1- الإيجاز في الآية ففي تنكير حياة فائدة عجيبة فحواها أنّ الحريص لا بد أن يكون حيا، وحرصه لا يكون على الحياة الماضية والراهنة فانهما حاصلتان بل على الحياة المستقبلة ولما لم يكن الحرص متعلقا بالحياة على الإطلاق بل بالحياة في بعض الأحوال وجب التنكير وفي الحذف توبيخ عظيم لليهود لأن الذين لا يؤمنون بالمعاد ولا يعرفون الا الحياة الدنيا لا يستبعد حرصهم عليها فإذا زاد أهل الكتاب عليهم في الحرص وهم مقرون بالبعث والجزاء كانوا أحرى باللوم والتوبيخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 2- الكناية في قوله (أَلْفَ سَنَةٍ) وهي كناية عن الكثرة فليس المراد خصوص الألف. [سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 98] قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) الإعراب: (قُلْ) فعل أمر وفاعله أنت (مَنْ) اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وجملة قل مستأنفة مسوقة لبيان نمط آخر من أنماط لجاجهم وعنادهم (كانَ) فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط واسمها يعود على من (عَدُوًّا) خبرها (لِجِبْرِيلَ) اللام حرف جر وجبريل اسم مجرور باللام وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة لأنه علم أعجميّ والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لعدوا (فَإِنَّهُ) الفاء عاطفة على جواب الشرط المحذوف بمثابة التعليل له والتقدير فليمت غيظا أو فلا موجب لعداوته ولا يصح أن يكون قوله فإنه هو الجواب لأن جواب الشرط لا بد أن يكون فيه ضمير يعود عليه فلا يصح أن تقول من يكرمني فزيد قائم وان واسمها ولأن فعل التنزيل متحقق المعنى والجزاء لا يكون الا مستقبلا (نَزَّلَهُ) فعل وفاعل مستتر ومفعول به والضمير يعود على القرآن وفي إضماره على ما لم يسبق ذكره تفخيم لشأن صاحبه كأنه يدل على نفسه وجملة نزله خبر كأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 (عَلى قَلْبِكَ) الجار والمجرور متعلقان بنزله (بِإِذْنِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (مُصَدِّقاً) حال ثانية (لِما) الجار والمجرور متعلقان بمصدقا (بَيْنَ يَدَيْهِ) الظرف متعلق بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول (وَهُدىً وَبُشْرى) معطوفان على مصدقا (لِلْمُؤْمِنِينَ) الجار والمجرور متعلقان ببشرى أو بمحذوف صفة وخبر من فعل الشرط والجواب المحذوف (مَنْ) اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ (كانَ) فعل ماض ناقص واسمها مستتر يعود على من (عَدُوًّا) خبر كان (لِلَّهِ) متعلقان بمحذوف صفة لعدو (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) عطف (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) الجملة معطوفة على جواب الشرط وقد تقدم تقرير ذلك. الفوائد: العرب إذا نطقت بالأعجمي تصرفت فيه وجبر معناه عبد، وايل هو الله فهو بمنزلة عبد الله ومعنى ميكال أو ميكائيل عبيد الله فكأنه أصغر منزلة من جبريل. [سورة البقرة (2) : الآيات 99 الى 101] وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 اللغة: (نبذ) : لهذا الفعل خصائص عجيبة فهو في الأصل بمعنى الطّرح يقال: نبذ الشيء من يده أي طرحه ورمى به، وصبي منبوذ ونهي عن المنابذة في البيع وهي أن تقول: انبذ إليّ المتاع أو أنبذه إليك. ومن مجاز هذا الفعل قولهم: نبذ أمري وراء ظهره إذا لم يعمل به ومنه قوله تعالى: «نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم» قالوا: ويتعيّن أن يكون نبذ من أفعال التحويل أو التصيير لدلالتها على الانتقال من حالة الى حالة أخرى وعلى هذا فكتاب الله مفعول به أول ووراء ظهورهم مفعول به ثان ويبعد بل يتعذر جعله ظرفا لنبذ لأن الظرف لا بد أن يكون حاويا لفاعل العامل فيه والنابذون غير كائنين وراء ظهورهم على أن بعض النحاة لا يشترطون وجود الفاعل والمفعول في الظرف وقال ابن حجر في شرح المنهاج: ولك أن تقول: إن للقاعدة وجها وجيها لأن ظرف المكان من الحسيات فاذا جعل ظرفا لفعل حسي متعد لزم كون الفاعل والمفعول فيه لأن الفعل المذكور لا يتحقق إلا بوجودهما بخلاف الفعل المعنوي فانه أجنبي من الظرف الحسي فاكتفى بما هو لازم له لكل تقدير وهو الفاعل فقط وللفقهاء أحكام في التشريع مستندة الى هذا الخلاف الطويل، فتدبر هذا الفصل فانه وإن طال بعض الطول فهو كالحسن غير مملول. الإعراب: (وَلَقَدْ) الواو استئنافية واللام جواب لقسم محذوف وقد حرف تحقيق (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) فعل وفاعل والجار والمجرور متعلقان بأنزلنا (آياتٍ) مفعول به منصوب وعلامة نصبه الكسرة لأنه جمع مؤنث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 سالم (بَيِّناتٍ) صفة (وَما) الواو عاطفة وما نافية (يَكْفُرُ بِها) فعل مضارع مرفوع والجار والمجرور متعلقان به (إِلَّا) أداة حصر (الْفاسِقُونَ) فاعل يكفر (أَوَكُلَّما) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على محذوف تقديره اكفروا بالآيات البينات أو أن الأصل تقديم العاطف على حرف الاستفهام وإنما قدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام وكلما ظرف زمان متضمن معنى الشرط وقد تقدم اعرابها (عاهَدُوا) فعل وفاعل (عَهْداً) مفعول به وعاهدوا بمعنى أعطوا والمفعول الأول محذوف أي اعطوا الله عهدا ويجوز أن نعرب عهدا مفعولا مطلقا (نَبَذَهُ) فعل ومفعول به مقدم (فَرِيقٌ) فاعل (مِنْهُمْ) الجار والمجرور صفة لفريق (بَلْ) حرف إضراب وعطف (أَكْثَرُهُمْ) مبتدأ (لا يُؤْمِنُونَ) لا نافية وجملة لا يؤمنون خبر أكثرهم والجملة الاسمية عطف على الجملة السابقة (وَلَمَّا) الواو عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة (جاءَهُمْ) فعل ومفعول به (رَسُولٌ) فاعل وجملة جاءهم في محل جر باضافة الظرف إليها أو لا محل لها (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الجار والمجرور صفة لرسول (مُصَدِّقٌ) صفة ثانية (لَمَّا) جار ومجرور متعلقان بمصدق (مَعَهُمْ) ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة للموصول (نَبَذَ فَرِيقٌ) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (مِنَ الَّذِينَ) الجار والمجرور صفة لفريق (أُوتُوا الْكِتابَ) فعل ماض ونائب فاعل ومفعول به ثان (كِتابَ اللَّهِ) مفعول نبذ (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) مفعول ثان لنبذ لتضمنه معنى جعل أو ظرف مكان متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني وقد تقدم القول فيه (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) كأن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها وجملة كأنهم حالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 [سورة البقرة (2) : آية 102] وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) اللغة: (هارُوتَ وَمارُوتَ) : علمان أعجميان بدليل منع الصرف ولو كانا من الهرت والمرت أي الكسر كما زعم بعضهم لا نصرفا وقد نسجت حولهما أساطير طريفة يرجع إليها في المطوّلات. (خَلاقٍ) : بفتح الخاء أي نصيب. (بابل) : مدينة قديمة والمنع من الصرف للعلمية والعجمة وتقع أنقاضها على الفرات قرب الحلة شرقي بغداد. الإعراب: (وَاتَّبَعُوا) الواو عاطفة واتبعوا فعل ماض وفاعل (ما) اسم موصول مفعول اتبعوا (تَتْلُوا الشَّياطِينُ) فعل مضارع وفاعل والجملة صلة الموصول (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) الجار والمجرور متعلقان بتتلو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وسليمان مضاف اليه وعلامة جره الفتحة لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة وزيادة الألف والنون موقوفة على معرفة الاشتقاق (وَما كَفَرَ) الواو حالية أو استئنافية وما نافية (سُلَيْمانَ) فاعل كفر (وَلكِنَّ) الواو عاطفة ولكن حرف استدراك مشبه بالفعل (الشَّياطِينُ) اسم لكن (كَفَرُوا) الجملة الفعلية خبر لكن (يُعَلِّمُونَ) فعل مضارع والواو فاعل والجملة حالية أو خبر ثان (النَّاسَ) مفعول به أول (السِّحْرَ) مفعول به ثان (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) الواو حرف عطف وما اسم موصول معطوف على السحر وجملة أنزل صلة ما والجار والمجرور متعلقان بأنزل (بِبابِلَ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (هارُوتَ وَمارُوتَ) بدل من الملكين (وَما) الواو استئنافية وما نافية (يُعَلِّمانِ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والألف فاعل (مِنْ أَحَدٍ) من حرف جر زائد وأحد مجرور لفظا منصوب محلا لأنه مفعول يعلمان (حَتَّى) حرف غاية وجر ومن الغريب أن يزعم أبو البقاء أنها تأتي بمعنى إلا ولم ترد في اللغة بهذا المعنى (يَقُولا) فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى (إِنَّما) كافة ومكفوفة (نَحْنُ) مبتدأ (فِتْنَةٌ) خبر والجملة الاسمية في محل نصب مقول للقول (فَلا تَكْفُرْ) الفاء هي الفصيحة ولا ناهية وتكفر فعل مضارع مجزوم بلا، أي إذا شئت اتباع الطريق السويّ فلا تكفر بتعلمه (فَيَتَعَلَّمُونَ) الفاء استئنافية وقال سيبويه هي عاطفة (مِنْهُما) جار ومجرور متعلقان بيتعلمون (ما) اسم موصول مفعول به (يُفَرِّقُونَ) الجملة صلة ما (بِهِ) جار ومجرور متعلقان بيفرقون (بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) الظرف متعلق بيفرقون أيضا (وَما) الواو حالية وما حجازية (هُمْ) اسمها (بِضارِّينَ) الباء حرف جر زائد وضارين مجرور لفظا خبر ما محلا (بِهِ) جار ومجرور متعلقان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 بضارين (مِنْ أَحَدٍ) من حرف جر زائد، أحد مجرور لفظا منصوب محلا لأنه مفعول ضارين وهو اسم فاعل (إِلَّا) أداة حصر (بِإِذْنِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر الفاعل لضارين أو من المفعول به الذي هو أحد (وَيَتَعَلَّمُونَ) عطف على ما سبق (ما) اسم موصول مفعول به (يَضُرُّهُمْ) الجملة صلة ما (وَلا يَنْفَعُهُمْ) عطف على الصلة (وَلَقَدْ) الواو استئنافية مسوقة للشروع في بيان حالهم بعد تعلم السحر واللام جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق (عَلِمُوا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم (لَمَنِ) اللام لام الابتداء وتفيد التأكيد ومن اسم موصول مبتدأ وجملة (اشْتَراهُ) لا محل لها (ما) نافية أو حجازية (لَهُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم أو خبر ما (فِي الْآخِرَةِ) الجار والمجرور في محل نصب حال (مِنْ) حرف جر زائد (خَلاقٍ) اسم مجرور بمن لفظا مبتدأ مؤخر أو اسم ما والجملة في محل رفع خبر من والجملة كلها في حيز النصب وقد سدت مفعولي علموا المعلقة عن العمل (وَلَبِئْسَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وبئس فعل ماض جامد لانشاء الذّمّ (ما) نكرة بمعنى شيء في محل نصب على التمييز مفسرة لفاعل بئس أي شيئا (شَرَوْا) فعل وفاعل والجملة صفة (بِهِ) جار ومجرور متعلقان بشروا (أَنْفُسَهُمْ) مفعول به (لَوْ) شرطية (كانُوا) كان واسمها وجملة (يُعَلِّمُونَ) خبرها وجواب لو محذوف أي لما أقدموا على ما اجترحوه من عمل مغاير. البلاغة: في هذه الآية فن رفيع من فنون البلاغة وهو تنزيل العالم منزلة الجاهل فإن صدر الآية يدل على ثبوت العلم في أنه لا نفع لهم في اشتراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 كتب السحر والشعوذة واختيارها على كتب الله وآخر الآية ينفي عنهم العلم فإن لو تدل على امتناع الثاني لامتناع الاول إلا أن نفي العلم عنهم لأمر خطابي نظرا الى أنهم لا يعملون على مقتضى العلم ولكن في ذلك مبالغة من حيث الاشارة الى أن علمهم بعدم الثواب كاف في الامتناع فكيف العلم بالذم والرداءة. [سورة البقرة (2) : الآيات 103 الى 104] وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) اللغة: (راعِنا) : راقبنا وتأنّ بنا حتى نفهمه، روي أن المسلمين كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ألقى عليهم شيئا من العلم راعنا، وكانت لليهود كلمة عبرانية يتسابّون بها وهي «راعنا» قيل: معناها: اسمع لا سمعت فلما سمعوا قول المؤمنين راعنا افترصوا ذلك وخاطبوا الرسول، ولما سمعها سعد بن معاذ منهم وكان يعرف العبرية قال: يا أعداء الله عليكم لعنة الله والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله لأضربنّ عنقه فقالوا: أولستم تقولونها فنزلت الآية. (انْظُرْنا) أنسئنا وأمهلنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 الإعراب: (وَلَوْ) الواو استئنافية أو عاطفة ولو شرطية ولسيبويه في تسميتها اسم طريف وهو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره (أَنَّهُمْ) أن واسمها (آمَنُوا) فعل ماض وفاعل والجملة الفعلية خبر ان وان واسمها وخبرها في تأويل مصدر مبتدأ خبره محذوف أي لو أن إيمانهم ثابت وقيل في محل رفع فاعل لفعل محذوف أي لو ثبت إيمانهم (وَاتَّقَوْا) عطف على آمنوا (لَمَثُوبَةٌ) اللام للابتداء وقيل هي واقعة في جواب لو وقد أو ثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب لو للدلالة على الثبوت والديمومة للمثوبة ومثوبة مبتدأ أو ساغ الابتداء بالنكرة لأنها وصفت (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الجار والمجرور صفة لمثوبة (خَيْرٌ) خبر مثوبة (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) تقدم إعرابها وجواب لو محذوف دلّ عليه ما قبله أي لأثيبوا (يا أَيُّهَا) يا حرف نداء وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب والهاء للتنبيه (الَّذِينَ) بدل من أيها (آمَنُوا) فعل وفاعل والجملة صلة الموصول (لا) ناهية (تَقُولُوا) فعل مضارع مجزوم بلا (راعِنا) فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت ونا مفعول به وذلك في الأصل والمراد بها هنا الحكاية فتعرب كلمة أريد بها لفظها دون معناها في محل نصب مفعول به (وَقُولُوا) عطف على لا تقولوا (انْظُرْنا) في الأصل فعل أمر ونا مفعوله والمراد بها هنا الحكاية (وَاسْمَعُوا) الواو عاطفة واسمعوا معطوفة على لو والمفعول به محذوف أي اسمعوا ما يكلمكم به الرسول ويلقي عليكم من المسائل المؤدية الى فلا حكم (وَلِلْكافِرِينَ) الواو استئنافية مسوقة للاجمال بعد التفصيل والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (عَذابٌ) مبتدأ مؤخر (أَلِيمٌ) نعت لعذاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 البلاغة: ألمعت الآية الى فن من أجلّ فنون البلاغة وأكثرها استقطابا للمقاصد السامية والمثل الرفيعة وهو فن التهذيب أي ترداد النظر فيما يكتبه الكاتب وينظمه الشاعر، فقد خلصت من الإيهام ودلت على آداب المخاطبة ليكون الكلام بريئا من المطاعن، بعيدا عن الملاحن.. [سورة البقرة (2) : آية 105] ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) اللغة: (اختص) فعل متعدّ يقال خصّه بكذا واختصّه وخصّصه وأخصّه فاختصّ به وجميع ما فاؤه خاء وعينه صاد يدل على الاجتماع والتكاثر والانضمام كخصب المكان وأخصب أي وقع فيه الخصب وهو اجتماع النبت وتكاثره وخاصر المرأة قبض على خاصرتها قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت: ثم خاصرتها الى القبة الخضر ... اء تمشي في مرمر مسنون وخصف الأوراق: اتبع بعضها ببعض وهم خصوم وخصاء ولا يكون ذلك إلا في اجتماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الإعراب: (ما) نافية (يَوَدُّ) فعل مضارع مرفوع (الَّذِينَ كَفَرُوا) فاعل يود وجملة كفروا صلة (مِنْ) حرف جر (أَهْلِ الْكِتابِ) مجرور بمن والجار والمجرور في محل نصب على الحال (وَلَا الْمُشْرِكِينَ) عطف على أهل الكتاب ودخلت لا للتأكيد ولو كانت في غير القرآن لجاز حذفها (أَنْ يُنَزَّلَ) أن وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول يود وينزل مبني للمجهول (عَلَيْكُمْ) جار ومجرور متعلقان بينزل (مِنْ) حرف جر زائد (خَيْرٍ) مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه نائب فاعل (مِنْ رَبِّكُمْ) صفة لخير (وَاللَّهُ) الواو استئنافية والله مبتدأ (يَخْتَصُّ) فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو والجملة خبر الله (بِرَحْمَتِهِ) جار ومجرور متعلقان بيختص (مِنْ) اسم موصول مفعول به (يَشاءُ) الجملة صلة الموصول (وَاللَّهُ) الواو عاطفة والله مبتدأ (ذُو الْفَضْلِ) خبر وعلامة رفعه الواو لأنه من الأسماء الخمسة (الْعَظِيمِ) نعت للفضل. [سورة البقرة (2) : الآيات 106 الى 107] ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) اللغة: (النسخ) الإزالة والنقل يقال: نسخت الريح الأثر أي أزالته ونسخت الكتاب أي نقلته وتفيد معنى طروء حال أحسن وجميع ما فاؤه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 نون وعينه سين يدل على التجدد والتبدل وطروء الأحسن أو الذهاب والانتقال فمن ذلك نسأ الشيء والأمر: أخّره وأنسأ الله أجلك أخره وأطاله ونسب: تغزّل ووصف المرأة بأوصاف ملائمة لمفاتنها وهذا من أعاجيب لغتنا العربية فتأمله فإنه مما ابتدعناه لأول مرة ومعنى الآية عجيب أيضا أي أن كل آية نذهب بها على ما تقتضيه الحكمة من إزالة لفظها أو حكمها أو كليهما معا نأتي بخير منها. الإعراب: (ما) اسم شرط جازم في محل مفعول به مقدم لننسخ (نَنْسَخْ) فعل الشرط مجزوم (مِنْ آيَةٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لاسم الشرط واسم الشرط ليس معرفة فلا يجوز أن يكون الجار والمجرور حالا منه والمعنى أي شيء ننسخ من الآيات فهو مفرد وقع موقع الجمع وهذا مطرد بعد الشرط لما فيه من معنى العموم وعلى هذا يخرج كل ما جاء من هذا التركيب كقوله: ما يفتح الله للناس من رحمة، وما بكم من نعمة فمن الله، وأجاز بعضهم أن تكون من آية في موضع نصب على التمييز والمميّز ما وليس ببعيد أيضا وأعربها ابن هشام في موضع نصب على الحال وليس ببعيد أيضا (أَوْ) حرف عطف (نُنْسِها) معطوف على ننسخ وقد سهّلت الهمزة فلم يظهر السكون والأصل ننسئها أي نرجئها والهاء مفعول به (نَأْتِ) جواب الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة (بِخَيْرٍ) الجار والمجرور متعلقان بنأت (مِنْها) جار ومجرور متعلقان بخير لأنها اسم تفضيل (أَوْ مِثْلِها) عطف على بآية (أَلَمْ) الهمزة للاستفهام التقديري ولم حرف نفي وقلب وجزم (تَعْلَمْ) فعل مضارع مجزوم بلم (أَنَّ اللَّهَ) أن واسمها (عَلى كُلِّ شَيْءٍ) الجار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 والمجرور متعلقان بقدير (قَدِيرٌ) خبر أن وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تعلم (أَلَمْ تَعْلَمْ) تقرير ثان (أَنَّ اللَّهَ) أن واسمها (لَهُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (مُلْكُ السَّماواتِ) مبتدأ مؤخر (وَالْأَرْضِ) عطف على السموات (وَما لَكُمْ) الواو عاطفة وما نافية ولكم خبر مقدم (مِنْ دُونِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (مِنْ وَلِيٍّ) من حرف جر زائد وولي مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ مؤخر (وَلا نَصِيرٍ) عطف على ولي. [سورة البقرة (2) : آية 108] أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) الإعراب: (أَمْ) عاطفة منقطعة بمعنى بل (تُرِيدُونَ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل (أَنْ تَسْئَلُوا) أن وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول تريدون (رَسُولَكُمْ) مفعول به لتسألوا (كَما سُئِلَ مُوسى) الكاف حرف جر وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مفعول مطلق أو حال وموسى نائب فاعل سئل (مِنْ قَبْلُ) جار ومجرور متعلقان بسئل (وَمَنْ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ (يَتَبَدَّلِ) فعل الشرط (الْكُفْرَ) مفعول به (بِالْإِيمانِ) جار ومجرور متعلقان بيتبدل وهو المتروك (فَقَدْ) الفاء رابطة لجواب الشرط وقد حرف تحقيق (ضَلَّ) فعل ماض وفاعله هو (سَواءَ السَّبِيلِ) مفعوله والجملة في محل جزم جواب الشرط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 [سورة البقرة (2) : آية 109] وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) الإعراب: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) فعل وفاعل والجار والمجرور صفة لكثير (لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) لو مصدرية وهي مؤوّلة مع ما بعدها بمصدر مفعول ود، يردونكم فعل وفاعل ومفعول أول (مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ) جار ومجرور متعلقان بيردون وايمانكم مضاف إليه (كُفَّاراً) مفعول ثان ليردونكم (حَسَداً) مفعول لأجله (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بود على معنى أنهم تمنوا أن ترتدوا عن دينكم وتمنيهم ذلك من عند أنفسهم لا من قبل الجنوح الى الحق لأنهم ودوا ذلك من بعد ما تبين لهم أنكم على الحق ويؤكده قوله فيما بعد «تلك أمانيهم» (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) الجار والمجرور متعلقان بود وما مصدرية مؤولة مع الفعل بعدها بمصدر مضاف لبعد والحق فاعل تبين (فَاعْفُوا) الفاء هي الفصيحة واعفوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (وَاصْفَحُوا) عطف على فاعفوا (حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) حتى حرف غاية وجر ويأتي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والله فاعل وبأمره الجار والمجرور متعلقان بيأتي (إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إن واسمها وقدير خبرها والجار والمجرور متعلقان بقدير وجملة إن الله استئنافية أو بمثابة التعليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 [سورة البقرة (2) : آية 110] وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) الإعراب: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) الواو استئنافية وأقيموا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والصلاة مفعول به (وَآتُوا الزَّكاةَ) عطف على ما تقدم (وَما تُقَدِّمُوا) الواو استئنافية وما اسم شرط جازم في محل نصب مفعول به مقدم وتقدموا فعل الشرط والواو فاعل (لِأَنْفُسِكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بتقدموا (مِنْ خَيْرٍ) الجار والمجرور صفة لاسم الشرط أو تمييز كما تقدم (تَجِدُوهُ) جواب الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به (عِنْدَ اللَّهِ) الظرف متعلق بتجدوه أو بمحذوف حال (إِنَّ اللَّهَ) إن واسمها (بِما تَعْمَلُونَ) الجار والمجرور متعلقان ببصير (بَصِيرٌ) خبر إن وجملة إن وما تلاها مستأنفة أو تعليلية. [سورة البقرة (2) : الآيات 111 الى 112] وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) الإعراب: (وَقالُوا) عطف على ودّ والضمير لأهل الكتاب من اليهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 والنصارى (لَنْ) حرف نفي ونصب واستقبال (يَدْخُلَ) فعل مضارع منصوب بلن (الْجَنَّةَ) مفعول به على السعة (إِلَّا) أداة حصر (مَنْ) اسم موصول فاعل (كانَ) فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره هو (هُوداً) خبرها (أَوْ نَصارى) عطف على هودا (تِلْكَ) اسم اشارة مبتدأ (أَمانِيُّهُمْ) خبر والجملة الاسمية لا محل لها لأنها اعتراض بين قوله وقالوا وبين قوله قل هاتوا برهانكم (قُلْ) فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة مستأنفة (هاتُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (بُرْهانَكُمْ) مفعول به (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) شرط وفعله والجواب محذوف والتقدير فهاتوا برهانكم (بَلى) حرف جواب لاثبات ما نفوه من دخول غيرهم الجنة (مَنْ) اسم شرط جازم مبتدأ (أَسْلَمَ وَجْهَهُ) فعل الشرط (لِلَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بأسلم (وَهُوَ) الواو للحال وهو مبتدأ (مُحْسِنٌ) خبره والجملة في محل نصب على الحال (فَلَهُ أَجْرُهُ) الفاء رابطة والجار والمجرور خبر مقدم وأجره مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط (عِنْدَ رَبِّهِ) الظرف متعلق بمحذوف حال (وَلا خَوْفٌ) الواو عاطفة ولا نافية وخوف مبتدأ ساغ الابتداء به لتقدم النفي عليه (عَلَيْهِمْ) الجار والمجرور خبر خوف (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) عطف على ما تقدم. الفوائد: اختلف اللغويون في نون البرهان فقال قوم: زائدة لأنه مشتق من البرة وهو القطع وذلك لأنه دليل يفيد العلم القطعيّ ومنه البرهة للقطعة الطويلة من الزمن فوزنه فعلان وقال آخرون: انها أصلية لأنه من برهن يبرهن برهنة والبرهنة البيان فوزنه فعلال وعلى هذا فبرهان إذا كان علما لرجل يجوز صرفه ومنعه حسب الاعتبارين الآنفين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 البلاغة: (جمع الأماني) في حين ما تمنّوه لا يعدو كونه أمنية واحدة وهي دخول الجنة لسرّ عجيب في صناعة البيان وهو انها لشدة تمنيهم لهذه الأمنية وتأصلها في نفوسهم جمعت وأنها بمثابة أمان توزعت في كل قلب فلم تترك فراغا لغيرها. [سورة البقرة (2) : آية 113] وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) الإعراب: (وَقالَتِ الْيَهُودُ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان حالة من حالات الجهالة المتأصلة في نفوسهم، روي أنّ وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم وضلل كل فريق صاحبه (لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) ليس فعل ماض ناقص ووزنها فعل بكسر العين وهو بناء نادر في الثلاثي اليائيّ العين والنصارى اسمها وعلى شيء خبرها والجملة مقول القول (وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) عطف على الجملة الأولى (وَهُمْ) الواو حالية وهم مبتدأ (يَتْلُونَ) فعل مضارع وفاعل والجملة خبرهم والجملة الاسمية في محل نصب على الحال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 (الْكِتابَ) مفعول به (كَذلِكَ) الجار والمجرور في محل نصب نعت لمفعول مطلق محذوف أي قالوا قولا مثل ذلك ولك أن تعرب الجار والمجرور في محل نصب على الحال (قالَ الَّذِينَ) فعل وفاعل (لا يَعْلَمُونَ) لا نافية ويعلمون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) صفة لمصدر محذوف والمعنى مثل قول اليهود والنصارى (فَاللَّهُ) الفاء استئنافية والله مبتدأ (يَحْكُمُ) فعل مضارع وفاعله هو والجملة خبر الله (بَيْنَهُمْ) ظرف متعلق بيحكم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) الظرف متعلق بمحذوف حال (فِيما) جار ومجرور متعلقان بيحكم (كانُوا) كان واسمها والجملة صلة الموصول (فِيهِ) جار ومجرور متعلقان بيختلفون (يَخْتَلِفُونَ) الجملة الفعلية خبر كانوا. [سورة البقرة (2) : الآيات 114 الى 115] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) اللغة: (المساجد) : جمع مسجد وهو اسم مكان للسجود وكان من حقّه أن يأتي على مفعل بفتح العين لأن عين مضارعه مضمومة ولكنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 سمع بالكسر شذوذا كما شذّت ألفاظ جاءت بالكسر مع أنها مصوغة من مضموم العين في المضارع وهي المطلع والمغرب والمشرق والمسجد والمنسك والمجزر والمنبت والمسقط والمفرق والمسكن ويجوز فيها الفتح ولكن السماع أفصح. الإعراب: (وَمَنْ) الواو استئنافية ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ ومعناه النفي (أَظْلَمُ) خبر من (مِمَّنْ) جار ومجرور متعلقان بأظلم (مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ) فعل ماض وفاعل مستتر يعود على من ومساجد الله مفعول به والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (أَنْ يُذْكَرَ) أن وما في حيّزها في تأويل مصدر مفعول ثان لمنع ولك أن تعرب المصدر مفعولا لأجله أي كراهة أن يذكر فيها اسمه (فِيهَا) جار ومجرور متعلقان بيذكر (اسْمُهُ) نائب فاعل ولك أن تعرب المصدر بدل اشتمال من مساجد الله لأنها تشتمل على الذكر (وَسَعى) عطف على منع (فِي خَرابِها) الجار والمجرور متعلقان بسعى (أُولئِكَ) اسم اشارة مبتدأ والجملة مستأنفة (ما) نافية (كانَ) فعل ماض ناقص (لَهُمْ) خبر مقدم لكان (أَنْ يَدْخُلُوها) المصدر المؤول من أن وما في حيزها اسم كان المؤخر (إِلَّا) أداة حصر (خائِفِينَ) حال من فاعل يدخلوها (لَهُمْ) الجار والمجرور خبر مقدم (فِي الدُّنْيا) جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (خِزْيٌ) مبتدأ مؤخر والجملة لا محل لها لأنها استئنافية (وَلَهُمْ) الواو عاطفة لهم خبر مقدم (فِي الْآخِرَةِ) الجار والمجرور في محل نصب حال (عَذابٌ) مبتدأ مؤخر (عَظِيمٌ) نعت لعذاب (وَلِلَّهِ) الواو عاطفة والجار والمجرور خبر مقدم (الْمَشْرِقُ) مبتدأ مؤخر (وَالْمَغْرِبُ) عطف على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 المشرق (فَأَيْنَما) الفاء استئنافية وأينما اسم شرط جازم في محل نصب ظرف مكان متعلق بما بعده (تُوَلُّوا) فعل الشرط (فَثَمَّ) الفاء رابطة لجواب الشرط وثم ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم (وَجْهُ اللَّهِ) مبتدأ مؤخر والجملة في محل جزم جواب الشرط (إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) إن واسمها وخبراها. الفوائد: (ثم) : بفتح التاء ويقال للمؤنث ثمة إشارة للمكان البعيد ولا يجران الا بمن والى. [سورة البقرة (2) : الآيات 116 الى 117] وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) اللغة: (اتَّخَذَ) : من أفعال التحويل التي تنصب مفعولين وأخواتها تخذ وصير وردّ وترك وجعل وهب وقد أثيرت معركة طريفة حول اتخذ فقد استدرك ابن هشام على الجوهري صاحب الصحاح فقال: «وقول الجوهريّ في اتّخذ أنه افتعل من الأخذ وهم وإنما التاء أصل وهو من تخذ كاتبع من تبع» ويعتمد ابن هشام في تخطئته للجوهري على أنه لو كان من أخذ لوجب أن يقال: أيتخذ لأن الضابط في ذلك انك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 تقول في افتعل من الإزار ايتزر بابدال الهمزة ياء تحتانية ولا يجوز ابدال هذه الياء التحتانية تاء فوقانية وإدغامها في التاء لأن هذه الياء بدل من همزة وليست أصلية، وقد استدرك آخرون على ابن هشام فقالوا: إن الإقدام على تغليط الجوهري ليس بالهين فيجوز أن يكون ذلك مذهبا له، ولا يقال: الجوهري ليس من أرباب المذاهب مع أن الظاهر يساعده فما قاله الجوهري وجه والوجه الثاني ما ذكره ابن هشام. الإعراب: (وَقالُوا) الواو حرف عطف وقالوا فعل وفاعل (اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) فعل وفاعل ومفعول به والجملة مقول القول (سُبْحانَهُ) مفعول مطلق لفعل محذوف والجملة معترضة للتنزيه (بَلْ) حرف عطف وإضراب (لَهُ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (ما) اسم موصول مبتدأ مؤخر (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول (كُلٌّ) مبتدأ ساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم والتنوين في كل عوض عن كلمة أي كل فرد من أفراد المخلوقات (لَهُ) جار ومجرور متعلقان بقانتون أي خاضعون منقادون وقد غلب في الملكية ما لا يعقل فقال ما في السموات لأن المراد تسخيرها له التسخير الطبيعي الذي لا يشترط فيه الاختيار ولا التسخير الشرعي المعبر عنه بالتكليف الذي يفعله الكاسب باختياره ويستوي في التسخير الطبيعي العاقل وغيره ولكنه في غير العاقل أظهر ولما ذكر القنوت له تعالى جمعه جمعا مذكرا سالما فغلب فيه العقلاء لأن من شأن القنوت أن يكون من العاقل الذي يشعر بموجبه ويفعله باختياره وإن كان لغير العاقل قنوت يليق به (قانِتُونَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 خبر كل (بَدِيعُ السَّماواتِ) خبر لمبتدأ محذوف وهو من باب إضافة الصفة المشبهة الى فاعلها والأصل بديع سمواته (وَالْأَرْضِ) عطف على السموات (وَإِذا) ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه (قَضى أَمْراً) الجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (فَإِنَّما) الفاء رابطة وإنما كافة (يَقُولُ لَهُ) الجار والمجرور متعلقان بيقول والجملة لا محل لها (كُنْ) فعل أمر من كان التامة بمعنى حدث (فَيَكُونُ) الفاء استئنافية ويكون فعل مضارع تام مرفوع أي فهو يحدث وجملة كن مقول القول. البلاغة: (المجاز العقلي) في إسناد الفعل أو ما في معناه الى غير ما هو له لعلاقة مع قرينة مانعة من الإسناد وهو يدرك بالعقل ومن أمثلته البديعة في الشعر قول المتنبي: كلّما أثبت الزمان قناة ... ركب المرء في القناة سنانا وقد يلتبس بالاستعارة والفرق بينهما قصد التشبيه أو عدمه كما هو مقرر في كتب البلاغة. [سورة البقرة (2) : الآيات 118 الى 119] وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 الإعراب: (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الواو استئنافية وقال فعل ماض والذين فاعل وجملة لا يعلمون صلة الموصول (لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ) لولا حرف تحضيض بمعنى هلّا ويكلمنا الله فعل ومفعول به مقدم وفاعل (أَوْ) حرف عطف (تَأْتِينا) عطف على يكلمنا (آيَةٌ) فاعل (كَذلِكَ) الجار والمجرور صفة لمفعول مطلق محذوف أو حال وقد تقدم بحثه (قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فعل وفاعل ومن قبلهم صلة الموصول (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) بدل من كذلك (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) فعل وفاعل (قَدْ) حرف تحقيق (بَيَّنَّا الْآياتِ) فعل وفاعل والآيات مفعول به وعلامة نصبه الكسرة (لِقَوْمٍ) الجار والمجرور متعلقان ببينا (يُوقِنُونَ) الجملة صفة لقوم (إِنَّا) إن واسمها (أَرْسَلْناكَ) فعل وفاعل ومفعول به (بِالْحَقِّ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال ملتبسا به ومصاحبا له وجملة أرسلناك خبرها (بَشِيراً) حال أيضا (وَنَذِيراً) عطف على بشيرا (وَلا تُسْئَلُ) الواو استئنافية على الأرجح ولا نافية وتسأل فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره أنت (عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) جار ومجرور متعلقان بتسأل. [سورة البقرة (2) : الآيات 120 الى 121] وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الإعراب: (وَلَنْ) الواو استئنافية ولن حرف نفي ونصب واستقبال (تَرْضى) فعل مضارع منصوب بلن (عَنْكَ) الجار والمجرور متعلقان بترضى (الْيَهُودُ) فاعل (وَلَا النَّصارى) عطف على اليهود (حَتَّى) حرف غاية وجر (تَتَّبِعَ) فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد حتى (مِلَّتَهُمْ) مفعول به والفاعل مستتر تقديره أنت (قُلْ) فعل أمر مبني على السكون والجملة مستأنفة (إِنَّ) حرف مشبه بالفعل (هُدَى اللَّهِ) اسمها والجملة في محل نصب مقول القول (هُوَ) مبتدأ (الْهُدى) خبره والجملة الاسمية خبر إن (وَلَئِنِ) الواو استئنافية واللام موطئة للقسم وإن حرف شرط جازم (اتَّبَعْتَ) فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط والتاء فاعل (أَهْواءَهُمْ) مفعول به وجواب الشرط محذوف دلّ عليه جواب القسم (بَعْدَ) ظرف (الَّذِي) اسم موصول في محل جر بالاضافة والظرف متعلق باتبعت وجملة (جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) لا محل لها لأنها صلة الموصول ومن العلم في محل نصب حال (ما لَكَ) ما نافية ولك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (مِنَ اللَّهِ) جار ومجرور متعلقان بولي (مِنْ وَلِيٍّ) من حرف جر زائد وولي مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه مبتدأ مؤخر (وَلا نَصِيرٍ) عطف على ولي (الَّذِينَ) اسم موصول مبتدأ (آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) فعل وفاعل ومفعولا آتينا وجملة آتيناهم لا محل لها لأنها صلة الموصول (يَتْلُونَهُ) فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعله والهاء مفعول به والجملة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 خبر الذين (حَقَّ تِلاوَتِهِ) مفعول مطلق (أُولئِكَ) اسم إشارة مبتدأ (يُؤْمِنُونَ بِهِ) الجملة خبر أولئك، وجملة أولئك يؤمنون به خبر بعد خبر (وَمَنْ) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم مبتدأ (يَكْفُرْ) فعل الشرط (بِهِ) جار ومجرور متعلقان بيكفر (فَأُولئِكَ) الفاء رابطة واسم الاشارة مبتدأ (هُمُ) مبتدأ ثان (الْخاسِرُونَ) خبر هم والجملة الاسمية خبر أولئك ويحتمل أن يكون هم ضمير فصل أو عماد لا محل له. الفوائد: إذا اجتمع شرط وقسم استغني بجواب المتقدّم منهما عن جواب المتأخر لشدة الاعتناء بالمتقدم ما لم يتقدم عليهما مبتدأ فحينئذ يترجح جانب الشرط. [سورة البقرة (2) : الآيات 122 الى 123] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) الإعراب: (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) يا حرف نداء للمتوسط وبني منادى مضاف وإسرائيل مضاف اليه وقد تقدم اعراب نظيره (اذْكُرُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (نِعْمَتِيَ) مفعول به والجملة مستأنفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 مسوقة للتذكير بالنعم التي أسبغها الله على بني إسرائيل وجحدوا بها (الَّتِي) اسم موصول صفة (أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) الجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَأَنِّي) اني وما بعدها عطف على نعمتي أي وتفضيلي إياكم على عالمي زمانكم (فَضَّلْتُكُمْ) فعل وفاعل ومفعول والجملة خبر اني (عَلَى الْعالَمِينَ) جار ومجرور متعلقان بفضلكم (وَاتَّقُوا) الواو حرف عطف واتقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (يَوْماً) مفعول به على حذف مضاف أي خافوا عذابه (لا تَجْزِي) لا نافية وتجزى فعل مضارع مرفوع (نَفْسٌ) فاعل (عَنْ نَفْسٍ) الجار والمجرور متعلقان بتجزي (شَيْئاً) مفعول به أو مفعول مطلق والجملة الفعلية صفة ليوما (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ) عطف على ما تقدم وعدل نائب فاعل (وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) عطف أيضا (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) عطف أيضا وهم مبتدأ وجملة ينصرون خبر والواو نائب فاعل. [سورة البقرة (2) : آية 124] وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) اللغة: (إِبْراهِيمَ) : معناه في السريانية أب رحيم. الإعراب: (وَإِذِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للتأسّي بما جرى للماضين مما يدل الى التوحيد ويزع عن الشرك وإذا ظرف لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 مضى من الزمان في محل نصب بفعل محذوف تقديره اذكر (ابْتَلى) فعل ماض (إِبْراهِيمَ) مفعول به مقدم (رَبُّهُ) فاعل مؤخر وجملة ابتلى في محل جر باضافة الظرف إليها (بِكَلِماتٍ) جار ومجرور متعلقان بابتلى (فَأَتَمَّهُنَّ) معطوف على ابتلى ومعنى الإتمام أداؤهن أحسن تأدية من غير تفريط أو توان والمراد بالكلمات ما أوحي اليه من أوامر ونواه (قالَ) فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو والجملة مفسرة لا محل لها (إِنِّي) ان واسمها (جاعِلُكَ) خبرها والجملة مقول القول (لِلنَّاسِ) جار ومجرور متعلقان بجاعلك ولك أن تعلقه بمحذوف في محل نصب حال لأن كان في الأصل صفة لإماما (إِماماً) مفعول جاعلك الثاني، أما المفعول الثاني فهو الكاف لأنه من إضافة اسم الفاعل الى مفعوله (قالَ) فعل ماض وفاعله هو (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) الواو عاطفة والجار والمجرور عطف على الكاف كأنه قال وجاعل بعض ذريتي كما يقال لك سأكرمك فتقول: وأخي هذا ما أعربه الكثيرون. وفي النفس منه شيء فالأولى في رأينا أن يتعلقا بمحذوف والتقدير: واجعل من ذريتي إماما (قالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) عهدي فاعل والظالمين مفعول به. البلاغة: في هذه الآية فن طريف من فنونهم يقال له: فنّ المراجعة وهو أن يحكي المتكلم مراجعة في القول جرت بينه وبين محاور في الحديث أو بين اثنين غيره بأوجز عبارة، وأبلغ اشارة، وأرشق محاورة، مع عذوبة اللفظ وجزالته، وسهولة السبك، انظر الى هذه القطعة من الكلام التي عدة ألفاظها ثلاث عشرة لفظة كيف جمعت معاني الكلام من الخبر والاستخبار، والأمر والنهي والوعد والوعيد وهذا هو التفصيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 1- الخبر في قوله: «إني جاعلك» وهو في الحقيقة وعد باستخلافه على الناس. ب- الاستخبار في ضمن الخبر لأنه فرع عليه إذ الخبر يصير استخبارا بتصدير ما يدلّ على الاستفهام. ج- الأمر في قوله: «ومن ذريتي» فإن معناه الطلب لذريته ما وعد به من الاستخلاف، فكأنه قال: رب وافعل ذلك لبعض ذريتي وكل طلب أمر لكنه إذا كان من الله سبحانه أوجب حسن الأدب أن يسمى دعاء ولا يطلق عليه لفظ الأمر وإن كان أمرا في أصل الوعد. د- النهي وهو في ضمن الأمر لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده فكأن معناه ولا تحرم بعض ذريتي ذلك. هـ- الوعد تقدم بيانه في الخبر. والوعيد في قوله: «لا ينال عهدي الظالمين» فإن حاصل ذلك أن الظالمين من ذريتك لا ينالهم استخلافي وحرمان ذلك غاية الوعيد. ومن شواهد هذا الفن الشعرية قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي: بيننا ينعتني ابصرنني ... دون قيد الميل يعدو بي الأغر قالت الكبرى: ترى من ذا الفتى؟ ... قالت الوسطى لها: هذا عمر قالت الصغرى وقد تيمتها ... قد عرفناه وهل يخفى القمر؟ وفي هذه الأبيات نكتتان بليغتان تدلان على قوة عارضة الشاعر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 صاحب الفستق المقشر، كما يسمون شعره، ومعرفته بوضع الكلام مواضعه وهما: 1- أن قوافي الأبيات لو أطلقت لكانت كلها مرفوعة. 2- انه جعل التي عرفته من جملة البنات وعرّفت به وشبهته تشبيها يدل على شغفها بحبه هي الصغرى منه ليدل على أنه فتيّ السن بدليل الالتزام إذ الفتية من النساء لا تميل إلا الى الفتى من الرجال غالبا ليدمج في ذلك عذره بالصّبوة وأنه إنما كان منه ذلك في أيام الشبيبة. 3- ونكتة ثالثة تربو على جميع ما تقدم وهي في التذييل الذي أخرجه مخرج المثل السائر حيث قال في الحكاية عنها: وهل يخفى القمر ولا يحسب أحد أن الصغرى مالت إليه لغرارتها وضعف عقلها وتقاصره عن التمييز وقلة التجربة، ذلك أنه أخبر عن الكبرى أنها ما كانت تعرفه وقد راقها وشغفها حبا حين رأته حتى لم تتمالك عن التساؤل عنه، أو أنها عارفة به وإنما سألت عنه تغطية لأمرها وتعمية فيه من باب تجاهل العارف، إما إظهارا لفرط التّولّه والتّدلّه في الحب أو لأنها كانت تنتظر أن تجاب باسمه فتلتذ بسمعه، أما الوسطى فقد صرحت باسمه لأن منزلتها في رجاحة العقل وحصافته ورصانة اللب ونزاهته دون منزلة الكبرى فلما سترت الكبرى نفسها بالسؤال عنه لما يقتضيه عقلها صرحت الوسطى باسمه ومعرفته بالنسبة وأبانت الصغرى عما في نفسها منه بوصفها له بصفة تدل على عظم مكانته من قلبها لمكان سنها من الأختين وهذا من عجائب ما يسمع في هذا الباب ولا نحب أن نختم بحث هذا الفن قبل أن نورد بعض الشواهد فمن شواهده قول ديك الجن واسمه عبد السلام بن رغبان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 مرّت فقلت لها: تحية مغرم ... ماذا عليك من السلام؟ فسلمي قالت: بمن تعني؟ فطرفك شاهد ... بنحول جسم قلت: بالمتكلّم فتضاحكت، فبكيت قالت: لا ترع ... فلربّ مثل هواك بالمتبسّم قلت: اتفقنا في الهوى فزيارة ... أو موعدا قبل الزيارة قدّمي فتبسمت خجلا وقالت: يا فتى ... لو لم أدعك تنام بي لم تحلم وللبحتري واسمه الوليد: ونديم حلو الشمائل كالد ... ينار محض النّجار عذب المصفّى بتّ أسقيه صفوة الرّاح حتى ... وضع الكأس مائلا يتكفّا قلت: عبد العزيز تفديك نفسي ... قال: لبيك قلت: لبيك ألفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 هاكها قال: هاتها قلت: خذها ... قال: لا أستطيعها ثمّ أغفى وحسبنا ما تقدم. [سورة البقرة (2) : آية 125] وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) اللغة: (مَثابَةً) : مباءة ومرجعا للحجاج يتفرقون عنه ثمّ يثوبون إليه فهو من ثاب يثوب أي رجع وقيل: هو من الثواب الذي هو الجزاء ويجوز أن يكون مصدرا ميميا أو اسم مكان والهاء فيه إما للمبالغة كعلّامة ونسّابة لكثرة من يثوب إليه أو لتأنيث المصدر كمقامة أو لتأنيث البقعة. الإعراب: (وَإِذْ) تقدم كثيرا اعراب نظائره (جَعَلْنَا) فعل وفاعل والجملة في محل جر باضافة الظرف إليها (الْبَيْتَ) مفعول جعلنا الاول (مَثابَةً) مفعول جعلنا الثاني (لِلنَّاسِ) متعلق بمحذوف صفة لمثابة (وَأَمْناً) عطف على مثابة (وَاتَّخِذُوا) الواو عاطفة واتخذوا فعل أمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة مقول القول محذوف معطوف على جعلنا (مِنْ مَقامِ) الجار والمجرور متعلقان باتخذوا (إِبْراهِيمَ) مضاف اليه مجرور بالفتحة لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة (مُصَلًّى) مفعول اتخذوا ومن للابتداء كأنه قيل: اتخذوا مصلّى بادئين من هذا المكان ولا داعي لما تكلفه المعربون من أوجه لا يستقيم واحد منها (وَعَهِدْنا) فعل وفاعل (إِلى إِبْراهِيمَ) متعلق بعهدنا (وَإِسْماعِيلَ) عطف على ابراهيم وهو علم أعجمي أيضا وفيه لغتان اللام والنون (أَنْ) الأظهر فيها أنها تفسيرية بمعنى أي لأنها واقعة بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه (طَهِّرا) فعل أمر مبني على حذف النون والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها مفسرة ويجوز أن تكون مصدرية والمصدر المؤول في موضع نصب بنزع الخافض (بَيْتِيَ) مفعول به (لِلطَّائِفِينَ) متعلق بطهرا (وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) عطف على الطائفين ولما كان الركّع والسجود بمثابة واحدة لأن الركوع والسجود يؤلفان الصلاة أسقط حرف العطف ونزلهما منزلة الكلمة الواحدة ولو عطف السجود بالواو لأوهم أنهما عبادتان منفصلتان. [سورة البقرة (2) : آية 126] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) الإعراب: (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) تقدم اعرابها (رَبِّ) منادى محذوف منه حرف النداء وهو مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة (اجْعَلْ) فعل أمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وفاعله أنت (هذا) اسم إشارة مفعول به أول (بَلَداً) مفعول به ثان (آمِناً) صفة (وَارْزُقْ أَهْلَهُ) عطف على اجعل وأهله مفعول به (مِنَ الثَّمَراتِ) متعلق بارزق (مِنَ) اسم موصول بدل من أهله (آمَنَ) الجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (مِنْهُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (بِاللَّهِ) متعلقان بآمن (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) عطف على الله (قالَ) فعل ماض والجملة استئنافية لا محل لها (وَمَنْ) اسم موصول معطوف على من الأولى (كَفَرَ) الجملة لا محل لها لأنها صلة (فَأُمَتِّعُهُ) الفاء رابطة لتضمن الموصول معنى الشرط وأمتعه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به (قَلِيلًا) مفعول مطلق (ثُمَّ) حرف عطف (أَضْطَرُّهُ) عطف على أمتعه (إِلى عَذابِ النَّارِ) متعلق باضطره (وَبِئْسَ) الواو استئنافية وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذّم (الْمَصِيرُ) فاعل بئس والمخصوص بالذم محذوف تقديره مصيره. [سورة البقرة (2) : آية 127] وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) الإعراب: (وَإِذْ) الواو عاطفة على ما تقدم وإذ ظرف لما مضى من الزمن وقد تقدم بحثها (يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ) فعل مضارع وفاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (الْقَواعِدَ) مفعول به (مِنَ الْبَيْتِ) الجار والمجرور في موضع نصب على الحال ومعنى الرفع هنا البناء (إِسْماعِيلُ) عطف على ابراهيم (رَبَّنا) منادى مضاف محذوف منه حرف النداء ولا بد من تقدير قول محذوف أي يقولان ربنا ويكثر حذف الحال إذا كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 قولا أغنى عنه المقول (تَقَبَّلْ) فعل أمر معناه الدعاء (مِنَّا) الجار والمجرور متعلقان بتقبل (إِنَّكَ) إن واسمها (أَنْتَ) ضمير متصل لا محل له من الإعراب أو مبتدأ (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) خبران لإن أو لأنت والجملة الاسمية خبر إن. [سورة البقرة (2) : الآيات 128 الى 129] رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) اللغة: (يُزَكِّيهِمْ) : يطهرهم ويصفّي نفوسهم من الحوبات والآثام. الإعراب: (رَبَّنا) منادى مضاف وقد تقدم إعرابه (وَاجْعَلْنا) عطف على ما تقدّم (مُسْلِمَيْنِ) مفعول به ثان (لَكَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف نعت مسلمين (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا) الواو عاطفة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف دلّ عليه المذكور أي واجعل من ذريتنا (أُمَّةً) مفعول به أول للفعل المحذوف ومن ذريتنا هو المفعول الثاني (مُسْلِمَةً) نعت (لَكَ) نعت ثان لأمة (وَأَرِنا) الواو عاطفة وأر فعل أمر مبني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 على حذف حرف العلة والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به أول (مَناسِكَنا) مفعول به ثان (وَتُبْ عَلَيْنا) عطف أيضا (إِنَّكَ) ان واسمها (أَنْتَ) ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (التَّوَّابُ) خبر أول (الرَّحِيمُ) خبر ثان والجملة الاسمية خبر إن ولك أن تعرب الضمير ضمير فصل لا محلّ له من الإعراب والتواب الرحيم خبران لأن (رَبَّنا) منادى مضاف (وَابْعَثْ) عطف على ما تقدم (فِيهِمْ) متعلقان بابعث (رَسُولًا) مفعول به (مِنْهُمْ) صفة لرسولا (يَتْلُوا) الجملة إما صفة ثانية وإما حال لأن رسولا وصف بقوله منهم (عَلَيْهِمْ) متعلقان بيتلو (آياتِكَ) مفعول يتلو (وَيُعَلِّمُهُمُ) عطف على يتلو والهاء مفعول به أول (الْكِتابَ) مفعول به ثان (وَالْحِكْمَةَ) عطف على الكتاب (وَيُزَكِّيهِمْ) عطف على يعلمهم (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تقدم اعرابها قبل قليل. [سورة البقرة (2) : آية 130] وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) اللغة: رغب عن الشيء: مال عنه وكرهه. ورغب فيه: أراده ومال اليه وأحبه. السفه: الخفة والمراد به هنا امتهان النفس. الإعراب: (وَمَنْ يَرْغَبُ) الواو استئنافية ومن: اسم استفهام معناه النفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 والإنكار في محل رفع مبتدأ وجملة يرغب خبره (عَنْ مِلَّةِ) الجار والمجرور متعلقان بيرغب (إِبْراهِيمَ) مضاف اليه وعلامة جره الفتحة لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة (إِلَّا) أداة حصر (مَنْ) اسم موصول في محل رفع بدل من الضمير في يرغب لأن الكلام غير موجب أو نصب على الاستثناء (سَفِهَ نَفْسَهُ) سفه فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول ونفسه منصوب بنزع الخافض أي سفه في نفسه وقيل: إن سفه يتعدى بنفسه كما حكى ثعلب والمبرّد فهو مفعول سفه يقال سفه نفسه: أي امتهنها وقيل: هي نصب على التمييز ولكن فيه تعريف التمييز وهو لا يكون إلا شذوذا فلا يجوز حمل القرآن عليه (وَلَقَدِ) الواو استئنافية واللام جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق (اصْطَفَيْناهُ) فعل ماض وفاعل ومفعول به (فِي الدُّنْيا) الجار والمجرور متعلقان باصطفيناه (وَإِنَّهُ) الواو حالية وان واسمها (فِي الْآخِرَةِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (لَمِنَ الصَّالِحِينَ) اللام المزحلقة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر ان. [سورة البقرة (2) : الآيات 131 الى 132] إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) الإعراب: (إِذْ) إن أضفنا الآيات بعضها الى بعض فالظرف متعلق باصطفيناه والأسهل أن نجري على النسق المتبع في القرآن وقد ألفناه فيها وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 تعليقه بمضمر أي اذكر (قالَ) الجملة الفعلية في محل جر باضافة الظرف إليها (لَهُ) الجار والمجرور متعلقان بقال (رَبُّهُ) فاعل قال والهاء ضمير متصل في محل جر بالاضافة (أَسْلِمْ) فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول (قالَ) فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو (أَسْلَمْتُ) الجملة الفعلية في محل نصب مقول القول (لِرَبِّ) جار ومجرور متعلقان بأسلمت (الْعالَمِينَ) مضاف اليه وعلامة جره الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم (وَوَصَّى) الواو عاطفة ووصى فعل ماض (بِها) الجار والمجرور متعلقان بوصي (إِبْراهِيمُ) فاعل وصى (بَنِيهِ) مفعول به منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم والهاء ضمير متصل في محل جر بالاضافة (وَيَعْقُوبُ) معطوف على ابراهيم داخل في حكمه (يا بَنِيَّ) منادى مضاف على إضمار القول أي قائلين فالجملة حالية (إِنَّ اللَّهَ) إن واسمها (اصْطَفى) الجملة الفعلية في محل رفع خبر إن وفاعل اصطفى مستتر تقديره هو (لَكُمُ) الجار والمجرور متعلقان باصطفى (الدِّينَ) مفعول به (فَلا تَمُوتُنَّ) الفاء الفصيحة وسيأتي معناها أي إذا عرفتم هذا ولا ناهية وتموتن: فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون والنون المشددة للتوكيد وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والأصل تموتوننّ (إِلَّا) أداة حصر (وَأَنْتُمْ) الواو حالية وأنتم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (مُسْلِمُونَ) خبر والجملة الاسمية في محل نصب حال. الفوائد: 1- يلحق بجمع المذكر السالم في إعرابه ما ورد عن العرب مجموعا جمع المذكر السالم غير مستوف لشروطه نحو: أولي وأهلين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وعالمين ووابلين وأرضين وبنين وعشرين الى تسعين وسنين وبابه وهو كل ثلاثي حذفت لامه وعوّض عنها هاء التأنيث نحو عضين وعزين وثبين ومئين وظبين ونحوها ومفردها سنة وعضة وعزة وثبة ومائة وظبة ويلحق به ما سمّي من الأسماء المجموعة جمع المذكر السالم مثل عليّين وسجّين وغيرها. 2- كيفية اجراء الفعل المؤكد الذي تتوالى فيه النونات إذا جزم أن يقال فيه: أصل تموتنّ تموتوننّ النون الأولى علامة الرفع والثانية والثالثة نون التوكيد الثقيلة فاجتمعت ثلاثة أمثال فحذفت نون الرفع للجزم لأن نون التوكيد الثقيلة أولى بالبقاء باعتبارها دالة على معنى مستقبل فالتقى ساكنان: الواو والنون الأولى المدغمة فحذفت الواو لالتقاء الساكنين وبقيت الضمة تدل عليها وهكذا كل ما جاء من نظائره. البلاغة: في النهي عن الموت أو الأمر به نكتة بلاغية رائعة فهو في حدّ ذاته ليس بمنهي عنه ولا مأمور به لأنه من الأمور التي لا تدخل في الارادة الانسانية ولكنه نهى عنه هنا لإظهار أن الموت على خلاف الإسلام هو موت لا خير فيه وانه ليس بموت السعداء وكذلك الأمر بالموت تقول مت وأنت شهيد لا تريد الأمر بموته ولكن مت الميتة التي تورثك خلود الذكر في الدنيا والجنة والحياة الراغدة في الآخرة وقد تشبث أبو الطيب المتنبي بهذه النكتة فقال: عش عزيزا أو مت وأنت كريم ... بين طعن القنا وخفق البنود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 [سورة البقرة (2) : آية 133] أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) الإعراب: (أَمْ) يجوز فيها أن تكون متصلة عاطفة على محذوف مقدّر كأنه قيل: أتدعون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء وحضورا؟ ويجوز أن تكون منقطعة بمعنى بل أي لم تكونوا حاضرين عند ما حضر يعقوب الموت والشهداء الحضور جمع شاهد ويجوز أن تكون لمجرد الاستفهام بمعنى الهمزة (كُنْتُمْ) كان واسمها (شُهَداءَ) خبرها (إِذْ) ظرف لما مضى متعلق بشهداء (حَضَرَ) فعل ماض والجملة في محل جر باضافة الظرف إليها (يَعْقُوبَ) مفعول به مقدم (الْمَوْتُ) فاعل مؤخر (إِذْ) ظرف بدل من إذ الاولى (قالَ) فعل ماض وفاعله مستتر والجملة فعلية في محل جر باضافة الظرف إليها (لِبَنِيهِ) جار ومجرور متعلقان بقال (ما تَعْبُدُونَ) ما اسم استفهام في محل نصب مفعول به مقدم لتعبدون وتعبدون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والجملة في محل نصب مقول القول (مِنْ بَعْدِي) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (قالُوا) فعل وفاعل والجملة استئنافية (نَعْبُدُ إِلهَكَ) الجملة في محل نصب مقول القول (وَإِلهَ آبائِكَ) عطف على إلهك (إِبْراهِيمَ) بدل من آبائك (وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) عطف على ابراهيم (إِلهاً) بدل من إلهك أو حال موطئة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 أو نصب على الاختصاص لنفي ما قد يخطر على البال من تعدد الإله فأتى به لدفع التوهم (واحِداً) صفة (وَنَحْنُ) الواو اما عاطفة وما بعدها وهو جزء الجواب معطوف على الجزء الاول ومن الجزأين يتألف الجواب وإما اعتراضية وإما حالية نحن مبتدأ (لَهُ) جار ومجرور متعلقان بمسلمون (مُسْلِمُونَ) خبر نحن. البلاغة: في قوله تعالى: (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ) الآية، فنّ من فنون البلاغة يسمى الاطراد وهو أن يطرد للمتكلم أسماء الآباء المخاطب مرتبة على حكم ترتيبها في الميلاد فقد تجاوز جدهم الأدنى الى جدهم الأعلى لكونه المبتدأ بالملة المتبعة وفيه أيضا فنّ المساواة لأن ألفاظ هذا المعنى لا فضل فيها عنه ولا تقصير وفيه أيضا حسن البيان لأن فيها بيانا عن الدين بأحسن بيان لا يتوقف أحد في فهمه وفيها أيضا فن الاحتراس لأنه لو وقف عند آبائك لاختلت صحة المعنى لأن مطلق الآباء يتناول من الأب الأدنى الى آدم وفي آباء يعقوب عليه السلام من لا يجب اتباع ملته فاحترس بذكر البدل عما يرد على المبدل منه لو كان وقع الاختصار عليه فتأمل واعجب. [سورة البقرة (2) : الآيات 134 الى 135] تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 اللغة: (حَنِيفاً) من الحنف بفتحتين وهو الميل وأصله في القدمين وقد تستعمل في اليدين والحاء والنون إذا وقعتا في أول الفعل دلّ على الميل والانعطاف ومنه الحنين الى الوطن أي الميل اليه والنزوع نحوه وحنا عليه أي أعطف ومال وحنق عليه: التصق بطنه بظهره من الألم. الإعراب: (تِلْكَ أُمَّةٌ) مبتدأ وخبر (قَدْ خَلَتْ) الجملة صفة لأمة (لَها) الجار والمجرور خبر مقدم (ما) مبتدأ مؤخر (كَسَبَتْ) الجملة لا محل لها لأنها صلة ما الموصولية، (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) عطف على الجملة السابقة (وَلا تُسْئَلُونَ) الواو استئنافية وتسألون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل والجملة مستأنفة (عَمَّا) الجار والمجرور متعلقان بتسألون (كانُوا) الجملة صلة ما (يَعْمَلُونَ) الجملة الفعلية خبر كانوا (وَقالُوا) الواو استئنافية وقالوا فعل وفاعل (كُونُوا هُوداً) كان واسمها وخبرها والجملة في محل نصب مقول القول (أَوْ) حرف عطف ومعنى أو هنا التفصيل وهذا من اللف والنشر والسامع يرد الى كل فريق قوله (نَصارى) عطف على هودا (تَهْتَدُوا) فعل مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للطلب (قُلْ) فعل أمر والجملة مستأنفة (بَلْ) حرف إضراب وعطف (مِلَّةَ) مفعول به لفعل محذوف أي نتبع أو منصوب على الإغراء بتقدير الزموا (إِبْراهِيمَ) مضاف إليه (حَنِيفاً) حال من ابراهيم (وَما) الواو عاطفة وما نافية (كانَ) فعل ماض ناقص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 واسمها ضمير مستتر تقديره هو (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها. [سورة البقرة (2) : آية 136] قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) اللغة: (الْأَسْباطِ) : جمع سبط بكسر السين وهو ولد البنت مقابل الحفيد الذي هو ولد الابن. الإعراب: (قُولُوا) فعل أمر مبني على حذف النون لأن مضارعه من الأفعال الخمسة والواو فاعل (آمَنَّا) فعل وفاعل والجملة في محل نصب مقول القول (بِاللَّهِ) جار ومجرور متعلقان بآمنا (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) عطف على الله وجملة أنزل إلينا صلة ما الموصولية (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) عطف أيضا (وَما) عطف أيضا (أُوتِيَ) الجملة صلة ما (مُوسى) نائب فاعل (وَعِيسى) عطف على موسى (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) عطف أيضا (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) الجملة الفعلية حالية ومنهم صفة لأحد (وَنَحْنُ) الواو حالية ونحن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 مبتدأ (لَهُ) جار ومجرور متعلقان بمسلمون (مُسْلِمُونَ) خبر نحن والجملة في محل نصب على الحال. البلاغة: النكرة الواقعة في سياق النفي تفيد العموم لفظا حتى يتنزّل المفرد منها بمنزلة الجمع في تناوله الآحاد، ولذلك صح دخول بين عليه وهي لا تكون إلا بين شيئين. [سورة البقرة (2) : آية 137] فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) اللغة: (الشقاق) بكسر الشين: الخلاف لأن كل واحد من المتشاقّين يكون في شق غير شق صاحبه وله في اللغة ثلاثة معان لا تخرج عن المفهوم الأول والثاني العداوة وهي وليدة الخلاف والثالث الضلال وهو سمة المتنازعين والمتشاقّين لأنهم يذهبون مع أهوائهم ومن غريب أمر الشين والقاف أنهما إذا وقعتا فاء للكلمة وعينا لها دلتا على هذا المعنى أو ما يقرب منه فالشّقّ: الصدع والاشتقاق شق الكلمة من الكلمة وهذا مما لم نسبق الى استخراجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 الإعراب: (فَإِنْ آمَنُوا) الفاء استئنافية وان حرف شرط جازم وآمنوا فعل ماض مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط (بِمِثْلِ) جار ومجرور متعلقان بآمنوا (ما) اسم موصول في محل جر بالاضافة (آمَنْتُمْ) الجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الموصول (فَقَدِ) الفاء رابطة لجواب الشرط وقد حرف تحقيق (اهْتَدَوْا) فعل ماض وفاعل والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط (وَإِنْ تَوَلَّوْا) عطف على فإن آمنوا (فَإِنَّما) الفاء رابطة وانما كافة ومكفوفة (هُمْ) مبتدأ (فِي شِقاقٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر هم (فَسَيَكْفِيكَهُمُ) الفاء عاطفة للتعقيب وفائدة التعقيب الاشعار بأن الكفاية تأتي عقيب شقاقهم والسين حرف استقبال وهي أقرب في التنفيس من سوف أي في المستقبل القريب ويكفي فعل مضارع مرفوع والكاف مفعول به أول والهاء مفعول به ثان (اللَّهُ) فاعل (وَهُوَ) الواو استئنافية وهو مبتدأ (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) خبران وتعدد الخبر جائز. [سورة البقرة (2) : الآيات 138 الى 139] صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) اللغة: (صِبْغَةَ) : بكسر الصاد مصدر هيئة من صبغ والمراد بها هنا الدين وسمّي صبغة لظهور أثره على معتنقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الإعراب: (صِبْغَةَ اللَّهِ) مصدر مؤكد فهو مفعول مطلق لفعل محذوف، وفيها إشارة الى ما أوجده الله في الناس من بدائه العقول (وَمَنْ) الواو عاطفة ومن اسم استفهام وقد خرج الاستفهام هنا الى معنى النفي في محل رفع مبتدأ (أَحْسَنُ) خبر (مِنَ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بأحسن (صِبْغَةَ) تمييز (وَنَحْنُ) الواو عاطفة ونحن مبتدأ (لَهُ) الجار والمجرور متعلقان بعابدون (عابِدُونَ) خبر نحن (قُلْ) فعل أمر وفاعله أنت (أَتُحَاجُّونَنا) الهمزة للاستفهام الانكاري وتحاجون فعل مضارع والواو فاعل والضمير المشترك في محل نصب مفعول (فِي اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بتحاجوننا (وَهُوَ) الواو حالية وهو مبتدأ (رَبُّنا) خبر والجملة الاسمية في محل نصب على الحال (وَرَبُّكُمْ) عطف على ربنا (وَلَنا) الواو عاطفة ولنا الجار والمجرور خبر مقدم (أَعْمالُنا) مبتدأ مؤخر والجملة حالية (وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) عطف على الجملة السابقة (وَنَحْنُ) الواو حالية ونحن مبتدأ (لَهُ) الجار والمجرور متعلقان بمخلصون (مُخْلِصُونَ) خبر نحن والجملة حالية أيضا. البلاغة: في قوله: صبغة الله استعارة تصريحية شبّه الدين الاسلامي بالصبغة وحذف المشبه وأبقى المشبه به وقد تشبث بالمعنى واللفظ أعشى همدان حيث قال: وكل أناس لهم صبغة ... وصبغة همدان خير الصّبغ صبغنا على ذاك أولادنا ... فأكرم بصبغتنا في الصّبغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 [سورة البقرة (2) : آية 140] أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) الإعراب: (أَمْ) عاطفة متصلة معادلة للهمزة أو منقطعة بمعنى بل (تَقُولُونَ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل (إِنَّ إِبْراهِيمَ) إن واسمها (وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ) أسماء منسوقة على إبراهيم والجملة في محل نصب مقول القول (كانُوا) كان واسمها (هُوداً) خبر كان (أَوْ) عاطفة (نَصارى) معطوف على هودا والجملة الفعلية في محل رفع خبر إن (قُلْ) فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت (أَأَنْتُمْ) الهمزة للاستفهام الانكاري وأنتم مبتدأ (أَعْلَمُ) خبر (أَمِ اللَّهُ) عطف على أنتم (وَمَنْ) الواو استئنافية ومن اسم استفهام مبتدأ (أَظْلَمُ) خبر (مِمَّنْ) الجار والمجرور متعلقان بأظلم والجملة مستأنفة مسوقة للتعريض بكتمانهم شهادة الله وهذا ديدن اليهود دائما (كَتَمَ) فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (شَهادَةً) مفعول به (عِنْدَهُ) الظرف متعلق بمحذوف صفة لشهادة (مِنَ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة ثانية لشهادة تقول: هذه شهادة مني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 لفلان إذا شهدت له ولك أن تعلقها بكتم ولا بدّ لك حينئذ من تقدير مضاف أي من كتم من عباد الله شهادة عنده (وَمَا) الواو عاطفة أو استئنافية وما نافية حجازية تعمل عمل ليس (اللَّهُ) اسمها (بِغافِلٍ) الباء حرف جر زائد وغافل مجرور بالباء لفظا في محل نصب خبر ما (عَمَّا) الجار والمجرور متعلقان بغافل (تَعْمَلُونَ) فعل مضارع وفاعل والجملة صلة ما. [سورة البقرة (2) : الآيات 141 الى 142] تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141) سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) الإعراب: (تِلْكَ) اسم إشارة في محل رفع مبتدأ (أُمَّةٌ) خبر (قَدْ) حرف تحقيق (خَلَتْ) فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والتاء تاء التأنيث الساكنة والفاعل مستتر تقديره هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 والجملة الفعلية صفة لأمة (لَها) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (ما) اسم موصول مبتدأ مؤخر (كَسَبَتْ) الجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة ما (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) عطف على الجملة قبلها (وَلا) الواو عاطفة ولا نافية (تُسْئَلُونَ) فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل (عَمَّا) الجار والمجرور متعلقان بتسألون (كانُوا) كان واسمها (يَعْمَلُونَ) الجملة الفعلية خبر كانوا والجملة معطوفة على ما قبلها (سَيَقُولُ) السين حرف استقبال ويقول فعل مضارع مرفوع (السُّفَهاءُ) فاعل (مِنَ النَّاسِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من السفهاء والقائلون هم اليهود الموسومون بخفة الأحلام والجملة مستأنفة مسوقة للدلالة على استمرار غيهم وسفههم (ما) اسم استفهام مبتدأ (وَلَّاهُمْ) فعل وفاعل مستتر ومفعول به والجملة خبر ما والجملة كلها مقول القول (عَنْ قِبْلَتِهِمُ) متعلقان بولاهم (الَّتِي) اسم موصول في محل جر صفة لقبلتهم (كانُوا) كان واسمها والجملة صلة التي (عَلَيْها) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر كانوا، أي عاكفين عليها في الصلاة وهي بيت المقدس (قُلْ) فعل أمر، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت (لِلَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (الْمَشْرِقُ) مبتدأ مؤخر (وَالْمَغْرِبُ) عطف على المشرق (يَهْدِي) فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله تعالى (مِنَ) اسم موصول مفعول يهدي، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول (يَشاءُ) فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره هو، والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (إِلى صِراطٍ) الجار والمجرور متعلقان بيهدي (مُسْتَقِيمٍ) صفة لصراط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 [سورة البقرة (2) : آية 143] وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) اللغة: (وَسَطاً) : خيارا عدولا مزكّين بالعلم والعمل، ويستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما كان الخيار وسطا لأن الخلل إنما يتسرب الى الأطراف وتبقى الأوساط محمية. وقد رمق أبو تمام سماء هذا المعنى فقال: كانت هي الوسط المحميّ فاكتنفت ... بها الحوادث حتى أصبحت طرفا الإعراب: (وَكَذلِكَ) الواو استئنافية والكاف حرف جر، واسم الاشارة في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف أي مثل ذلك الجعل جعلناكم (جَعَلْناكُمْ) فعل وفاعل ومفعول به أول لجعلنا (أُمَّةً) : مفعول جعلنا الثاني (وَسَطاً) صفة لأمة (لِتَكُونُوا) : اللام لام التعليل، وتكونوا فعل مضارع ناقص منصوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 بأن مضمرة جوازا بعد لام التعليل والجار والمجرور في محل نصب مفعول لأجله، والواو اسمها (شُهَداءَ) خبرها (عَلَى النَّاسِ) الجار والمجرور متعلقان بشهداء (وَيَكُونَ) عطف على تكونوا (الرَّسُولُ) اسم يكون (عَلَيْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بشهيدا (شَهِيداً) خبر يكون (وَما) الواو عاطفة، وما نافية (جَعَلْنَا) فعل وفاعل (الْقِبْلَةَ) مفعول جعلنا الاول (الَّتِي) اسم موصول في محل نصب مفعول جعلنا الثاني (كُنْتَ) كان واسمها (عَلَيْها) الجار والمجرور خبر كنت، والجملة لا محل لها لأنها صلة التي، وسيأتي مزيد من اعراب هذه الآية في باب الفوائد. (إِلَّا) أداة حصر (لِنَعْلَمَ) اللام لام التعليل، ونعلم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن، وموضع لنعلم مفعول لأجله فهو استثناء مفرّغ من أعمّ العلل (مَنْ) اسم موصول في موضع نصب مفعول نعلم (يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) الجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الموصول، والرسول مفعول به (مِمَّنْ) الجار والمجرور متعلقان بنعلم المضمّنة معنى نميّز (يَنْقَلِبُ) الجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الموصول (عَلى عَقِبَيْهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، أي مرتدا على عقبيه (وَإِنْ) الواو حالية، وإن مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف، أي والحال أنها (كانَتْ) فعل ماض ناقص، واسمها ضمير مستتر تقديره التولية إليها، والجملة الفعلية خبر إن، وجملة إن وما في حيزها في موضع نصب على الحال (لَكَبِيرَةً) اللام هي الفارقة، وكبيرة: خبر كانت (إِلَّا) أداة استثناء (عَلَى الَّذِينَ) الجار والمجرور في موضع نصب على الاستثناء، والمستثنى منه محذوف تقديره: وإن كانت لكبيرة على الناس إلا على الناس الذين هداهم الله، ولك أن تجعل «إلا» أداة حصر لأن الكلام غير تام أو لتضمنه معنى النفي فيتعلق الجار والمجرور بكبيرة (هَدَى اللَّهُ) الجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الذين (وَما) الواو عاطفة، وما نافية (كانَ اللَّهُ) كان واسمها (لِيُضِيعَ) اللام لام الجحود وهي مسبوقة بكون منفي، ويضيع فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد لام الجحود، وخبر كان محذوف تقديره مريدا، والجار والمجرور متعلقان بالخبر المحذوف (إِيمانَكُمْ) مفعول به (إِنَّ اللَّهَ) ان واسمها (بِالنَّاسِ) الجار والمجرور متعلقان برؤوف أو رحيم (لَرَؤُفٌ) اللام هي المزحلقة، ورؤوف خبر إن الأول (رَحِيمٌ) خبر إنّ الثاني، وجملة إن وما في حيزها لا محلّ لها لأنها تعليلية. البلاغة: 1- التورية في قوله: «وسطا» فالمعنى القريب الظاهر للوسط هو التوسط مع ما يعضده من توسط قبلة المسلمين، ومعناه البعيد المراد هو الخيار كما تقدم في باب اللغة. 2- الكناية في الوسط أيضا عن غاية العدالة كأنه الميزان الذي لا يحابي ولا يميل مع أحد. 3- المجاز المرسل في قوله: «على عقبيه» والعلاقة هي المصير والمآل، فليس ثمة أسمج ولا أقبح من رؤية الإنسان معكوس الخلقة، مخالفا للمألوف المعتاد. 4- التقديم والتأخير: فقد قدم «شهداء» على صلته وهي «على الناس» ، وأخر «شهيدا» عن صلته وهي «عليكم» لأن المنّة عليهم في الجانبين ففي الاول بثبوت كونهم شهداء، وفي الثاني بثبوت كونهم مشهودا لهم بالتزكية، والمقدم دائما هو الأهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الفوائد: 1- لا مندوحة لنا عن إيراد بعض الأقوال الجديرة بالاهتمام، فقد أورد العلماء خمسة أعاريب لهذه الآية يضيق المجال عن إيرادها وقد أوردنا ما اخترناه منها واختاره الزمخشري، واختار الجلال أن تكون «القبلة» المفعول الثاني مقدما و «التي كنت عليها» هو المفعول الأول محتجا بأن التصيير هو الانتقال من حال الى حال، فالمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني، ألا ترى أنك تقول: جعلت الطين خزفا. واختاره أبو حيان. وقيل «القبلة» هي المفعول الأول و «التي كنت عليها» صفة، أما المفعول الثاني فهو محذوف تقديره منسوخا أو نحوه. لمحة تاريخية: فقد اتفق الجميع على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الى صخرة بيد المقدس بعد الهجرة مدة، ثم أمر بالصلاة إلى الكعبة، وإنما اختلفوا في قبلته بمكة هل كانت الكعبة أو بيت المقدس، والمرويّ عن أئمة أهل البيت أنها كانت بيت المقدس، ثم لا يخفى أن الجعل في الآية مركب لا بسيط، وقوله تعالى: «التي كنت عليها» ثاني مفعوليه كما نص عليه أكثر المفسرين، وأما القائلون بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة الى الكعبة، فالجعل عندهم يحتمل أن يكون منسوخا باعتبار الصلاة بالمدينة مدة الى بيت المقدس، وأن يكون جعلا ناسخا باعتبار الصلاة بمكة، وقال الرازي: إن قوله تعالى «التي كنت عليها» ليس نعتا للقبلة وإنما هو ثاني مفعولي جعلنا، هذا وسميت الكعبة كعبة لتربيعها وسيأتي مزيد بحث بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 2- إذا خففت «إنّ» دخلت على الجملتين الفعلية والاسمية، فان دخلت على الاسمية جاز إعمالها وإهمالها، والأكثر الإهمال. وإن دخلت على الفعلية وجب إهمالها، والأكثر أن يكون الفعل ماضيا ناسخا، لأن العرب لما أخرجوها عن وضعها الاصلي بدخولها على الفعل أرادوا أن يكون ذلك الفعل من أفعال المبتدأ والخبر لئلا يزول عنها وضعها كليا كما ترى في الآية، ولا بد من دخول «لام» بعدها تسمى اللام الفارقة للفرق بينها وبين «إن» النافية. 3- لام الجحود أي لام الإنكار، هي الواقعة بعد كون ماض منفيّ، وخبر كان مختلف فيه فقيل: هو محذوف يقدّر بحسب المقام وتتعلق به لام الجحود مع المصدر المجرور بها، لأن «أن» المصدرية تضمر بعدها وجوبا، وقيل الجار والمجرور في محل الخبر، وهذا أسهل ولكن الاول أشهر وأضبط لاستقامة الخبر. [سورة البقرة (2) : آية 144] قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) اللغة: (شَطْرَ) للشطر في كلام العرب وجهان: فأحدهما النصف، ومن ذلك قولهم «شاطرتك مالي» . والوجه الآخر: القصد، يقال: «خذ شطر زيد» أي قصده، وهو المراد هنا، ومنه قولهم: «حلبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 الدهر أشطره» أي مرّ بي خيره وشره، ومنه سميّ الشاطر وهو من أعيا أهله خبثا. الإعراب: (قَدْ) هنا للتكثير بقرينة ذكر التقلب، والتكثير بالنسبة الى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فهو محال على الله تعالى (نَرى) فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير مستتر تقديره نحن (تَقَلُّبَ) مفعول به (وَجْهِكَ) مضاف اليه (فِي السَّماءِ) الجار والمجرور متعلقان بتقلب لأنه مصدر (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ) الفاء عاطفة للتعليل، واللام موطّئة للقسم، ونولينك: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن، والكاف مفعول به أول (قِبْلَةً) مفعول به ثان ويجوز نصبها على نزع الخافض (تَرْضاها) فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت، و «ها» مفعول به. والجملة صفة لقبلة، وجملة فلنولينك لا محل لها لأنها تعليلية (فَوَلِّ) الفاء هي الفصيحة، وول فعل أمر مبني على حذف حرف العلة. وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت (وَجْهِكَ) مفعول به، والكاف ضمير متصل في محل جر بالاضافة (شَطْرَ الْمَسْجِدِ) مفعول فيه ظرف مكان متعلق بولّ، والمسجد مضاف اليه (الْحَرامِ) صفة للمسجد وجملة فولّ لا محل لها.. (وَحَيْثُ ما) الواو استئنافية، وحيثما اسم شرط جازم في محل نصب على الظرفية متعلق بمحذوف خير كنتم المقدم (كُنْتُمْ) كان فعل ماض ناقص واسمها، والجملة في محل جزم فعل الشرط، وكان القياس أن تكون في محل جر بالاضافة لولا المانع وهو كونها من عوامل الافعال (فَوَلُّوا) الفاء رابطة للجواب لأنه طلبي، وولوا: فعل أمر مبني على حذف النون لأن مضارعه من الافعال الخمسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 والواو فاعل والجملة في محل جزم جواب الشرط (وُجُوهَكُمْ) مفعول به (شَطْرَهُ) ظرف مكان متعلق بولوا (وَإِنَّ الَّذِينَ) الواو استئنافية، وان واسمها (أُوتُوا الْكِتابَ) الجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول، والكتاب مفعول ثان لأوتوا، والأول هو النائب للفاعل وهو الواو (لَيَعْلَمُونَ) اللام هي المزحلقة، وجملة يعلمون خبر إن (أَنَّهُ الْحَقُّ) أن واسمها وخبرها، وقد سدت مسد مفعولي يعلمون (مِنْ رَبِّهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (وَمَا) الواو استئنافية، وما نافية حجازية تعمل عمل ليس (اللَّهُ) اسم ما (بِغافِلٍ) الباء حرف جر زائد، وغافل مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما (عَمَّا) الجار والمجرور متعلقان بغافل (يَعْمَلُونَ) الجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة ما. الفوائد: 1- (حَيْثُ ما) اسم شرط جازم محله النصب على الظرفية المكانية، وأصله حيث، وزيدت ما فكان اسما جازما، و «حيث» ظرف مكان مبني على الضم، وهو مضاف الى الجمل، فهو يقتضي جر ما بعده، وما اقتضى الجر لا يقتضي الجزم فلما وصلت ب (ما) زال عنها معنى الاضافة كما تقدم. 2- لمحة تاريخية: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم توجّه الى الكعبة وكان ذلك في رجب قبل موقعة بدر بشهرين ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمسجد سلمة، وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر أو العصر فتحول في الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 واستقبل القبلة، وحوّل الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فسمي المسجد مسجد القبلتين، والحكمة في ذلك واضحة بل هي أروع ما تصل اليه المعاملة الانسانية التي تستهدف قبل كل شيء استمالة القلوب وتلين العواطف، بيد أن ذلك لم يجد شيئا في ازالة التحجر الذي ران على قلوب اليهود، وقد علل القرآن هذا التحجر بالآية التالية: [سورة البقرة (2) : آية 145] وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الإعراب: (وَلَئِنْ) الواو استئنافية، واللام موطّئة للقسم، وإن شرطية (أَتَيْتَ) فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعل (الَّذِينَ) اسم موصول في محل نصب مفعول به (أُوتُوا الْكِتابَ) فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل، والكتاب مفعول أوتوا الثاني (بِكُلِّ آيَةٍ) الجار والمجرور متعلقان بأتيت (ما) نافية (تَبِعُوا) فعل ماض وفاعل (قِبْلَتَكَ) مفعول به، والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم، وقد أغنت عن جواب الشرط لتقدم القسم، وإذا اجتمع شرط وقسم فالجواب للمتقدم منهما (وَما) الواو عاطفة، وما نافية حجازية (أَنْتَ) اسم ما (بِتابِعٍ) الباء حرف جر زائد، وتابع مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما (قِبْلَتَهُمْ) مفعول به لاسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 الفاعل تابع، وهذه الجملة معطوفة على ما سبق (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) الجملة عطف على سابقتها (وَلَئِنْ) الواو استئنافية، ولئن تقدم إعرابها (اتَّبَعْتَ) فعل وفاعل (أَهْواءَهُمْ) مفعول به (مِنْ بَعْدِ) الجار والمجرور متعلقان باتبعت (ما) اسم موصول في محل جر بالاضافة (جاءَكَ) الجملة لا محلّ لها لأنها صلة ما (مِنَ الْعِلْمِ) الجار والمجرور في موضع نصب على الحال (إِنَّكَ) ان واسمها (إِذاً) حرف جواب وجزاء، وهي مهملة جيء بها لتوكيد القسم (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) اللام هي المزحلقة، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر إن، وجملة إن وما في حيزها لا محلّ لها لأنها جواب القسم ولذلك لم ترتبط بالفاء. [سورة البقرة (2) : الآيات 146 الى 147] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) اللغة: (الامتراء) : الشك، وقد يساور الغافلين سؤال وهو: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يشك في أن الحق من ربه حتى نهي عن الشك؟ والجواب: إن ذلك هو الكلام الذي تخرجه العرب مخرج الأمر أو النهي للمخاطب والمراد به غيره. الإعراب: (الَّذِينَ) اسم موصول مبتدأ (آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) فعل وفاعل ومفعول به، والكتاب مفعول به ثان لآتيناهم والجملة الفعلية لا محل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 لها لأنها صلة الذين (يَعْرِفُونَهُ) فعل مضارع وفاعله ومفعوله، وجملة يعرفونه خبر الذين (كَما) الكاف حرف جر، وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف هو المفعول المطلق (يَعْرِفُونَ) الجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الموصول الحرفي وهو ما المصدرية (أَبْناءَهُمْ) مفعول به (وَإِنَّ فَرِيقاً) الواو حالية، وان واسمها، والجملة نصب على الحال، ولك أن تجعل الواو استئنافية فتكون الجملة مستأنفة لتقرير حالتهم (مِنْهُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لفريقا (لَيَكْتُمُونَ) اللام هي المزحلقة، ويكتمون فعل وفاعل (الْحَقَّ) مفعول به، والجملة في محل رفع خبر إن (وَهُمْ) الواو حالية، وهم مبتدأ (يَعْلَمُونَ) الجملة الفعلية خبر هم، والجملة بعد الواو في محل نصب على الحال (الْحَقُّ) مبتدأ (مِنْ رَبِّكَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر والجملة استئنافية، (فَلا) الفاء استئنافية ولا ناهية (تَكُونَنَّ) جملة تكونن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم بلا الناهية، واسم تكونن ضمير مستتر تقديره أنت (مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر. [سورة البقرة (2) : آية 148] وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) اللغة: ِجْهَةٌ) بضم الواو وكسرها وهي الجهة التي تتجه إليها، يقال: ضلّ وجهة أمره أي جهته، والجهة مثلثة الجيم والكسر أشهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 الإعراب: َ لِكُلٍّ) الواو استئنافية، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدمِ جْهَةٌ) مبتدأ مؤخرُوَ) مبتدأُوَلِّيها) خبر، والجملة الاسمية صفة لوجهةَاسْتَبِقُوا) الفاء هي الفصيحة، أي إذا أردتم معرفة الأصوب فاستبقوا، واستبقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل لْخَيْراتِ) منصوب بنزع الخافض لأن استبق لازم، أي الى الخيرات، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط مقدرَيْنَ ما) اسم شرط جازم منصوب على الظرفية المكانية، وهو متعلق بمحذوف خبر تكونوا المقدمَ كُونُوا) فعل مضارع مجزوم لأنه فعل الشرط والواو اسمها وجملة تكونوا استئنافيةَأْتِ) جواب الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلةِكُمُ) جار ومجرور متعلقان بيأت للَّهُ) فاعلَ مِيعاً) حالِ نَّ اللَّهَ) ان واسمهاَلى كُلِّ شَيْءٍ) الجار والمجرور متعلقان بقديرَدِيرٌ) خبر إن، والجملة تعليلية لا محل لها. [سورة البقرة (2) : آية 149] وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) الإعراب: (وَمِنْ حَيْثُ) : الواو استئنافية، والجار والمجرور ظاهرهما أنهما متعلقان بول، ولكن فيه إعمال ما بعد الفاء فيما قبلها وهو ممتنع، غير أن المعنى متوقف على هذا الظاهر، فالأولى تعليقهما بفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 محذوف يفسره فولّ أي ولّ وجهك من حيث خرجت (خَرَجْتَ) فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بالاضافة (فَوَلِّ) الفاء رابطة لما في «حيث» من رائحة الشرط، وولّ فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، والجملة لا محل لها لأنها مفسرة (وَجْهَكَ) مفعول به (شَطْرَ الْمَسْجِدِ) ظرف مكان متعلق بولّ، والمسجد مضاف اليه (الْحَرامِ) صفة (وَإِنَّهُ) الواو عاطفة أو حالية، وان واسمها (لَلْحَقُّ) اللام هي المزحلقة، والحق خبر إنّ (مِنْ رَبِّكَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) تقدم إعرابه. [سورة البقرة (2) : الآيات 150 الى 151] وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) الإعراب: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) تقدم اعرابها وهي تأكيد ثان، وكرر الكلام لتشديد أمر القبلة وإماطة الشبهة بعد أن طرأ النسخ على القبلة التي هي بيت المقدس (وَحَيْثُ ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) تأكيد ثالث لئلا تبقى للمعاندين حجة في نظرهم ينفذون منها أو ثغرة يتسرّبون الى الإرجاف عن طريقها (لِئَلَّا) اللام هي لام التعليل وأن المدغمة بلا النافية حرف مصدري ونصب (يَكُونَ) فعل مضارع ناقص منصوب بأن والجار والمجرور «اللام والمصدر المؤول» متعلقان بولوا (لِلنَّاسِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر يكون المقدم. (عَلَيْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لحجة فلما تقدمت الصفة على الموصوف أعربت حالا كما هي القاعدة (حُجَّةٌ) اسم يكون المرفوع المؤخر (إِلَّا) أداة استثناء (الَّذِينَ) مستثنى متصل من الناس (ظَلَمُوا) الجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (مِنْهُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (فَلا) الفاء هي الفصيحة أي إذا عرفتم ذلك ورسخت حقيقته في نفوسكم ولا ناهية (تَخْشَوْهُمْ) فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به (وَاخْشَوْنِي) الواو عاطفة واخشوا فعل أمر مبني على حذف النون لأن مضارعه من الافعال الخمسة والنون للوقاية والواو فاعل والياء مفعول به (وَلِأُتِمَّ) عطف على لئلا يكون فهو علة ثانية (نِعْمَتِي) مفعول به والياء مضاف إليه (عَلَيْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بأتمّ (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الواو عاطفة ولعل واسمها، وجملة تهتدون خبرها (كَما أَرْسَلْنا) الكاف حرف جر وما مصدرية وأرسلنا فعل وفاعل والكاف ومجرورها المصدر المؤول في موضع نصب على المفعول المطلق وأعربه سيبويه حالا (فِيكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بأرسلنا (رَسُولًا) مفعول به (مِنْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة (يَتْلُوا) الجملة الفعلية صفة ثانية لرسولا (عَلَيْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بيتلو (آياتِنا) مفعول به ونا مضاف اليه (وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 الفعلان المضارعان معطوفان على يتلو (الْكِتابَ) مفعول به (وَالْحِكْمَةَ) عطف على الكتاب (وَيُعَلِّمُكُمُ) معطوف على ما تقدم والكاف مفعول به أول (ما) اسم موصول مفعول به ثان (لَمْ) حرف نفي وقلب وجزم (تَكُونُوا) فعل مضارع ناقص مجزوم بلم والواو اسمها والجملة الفعلية صلة ما (تَعْلَمُونَ) الجملة الفعلية خبر تكونوا. [سورة البقرة (2) : الآيات 152 الى 154] فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) الإعراب: (فَاذْكُرُونِي) الفاء هي الفصيحة أي إذا شئتم الاهتداء الى محجّة الصواب فاذكروني، واذكروني: فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به (أَذْكُرْكُمْ) فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب والفاعل ضمير مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به (وَاشْكُرُوا) عطف على اذكروني، وشكر يتعدى بنفسه تارة وتارة بحرف الجر على حد سواء (لِي) جار ومجرور متعلقان باشكروا (وَلا) الواو حرف عطف ولا ناهية (تَكْفُرُونِ) فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء المحذوفة لمناسبة فواصل الآي مفعول به والكسرة دليل عليها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها كثيرا (اسْتَعِينُوا) فعل أمر مبني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 على حذف النون والواو فاعل (بِالصَّبْرِ) الجار والمجرور متعلقان باستعينوا (وَالصَّلاةِ) عطف على الصبر (إِنَّ اللَّهَ) ان واسمها (مَعَ الصَّابِرِينَ) مع ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر والصابرين مضاف اليه. وجملة ان وما في حيزها اسمية لا محل لها لأنها تعليلية (وَلا تَقُولُوا) الواو عاطفة على ما تقدم ولا ناهية وتقولوا فعل مضارع مجزوم بلا (لِمَنْ) الجار والمجرور متعلقان بتقولوا وجملة (يُقْتَلُ) صلة الموصول لا محل لها (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بيقتل (أَمْواتٌ) خبر لمبتدأ محذوف أي هم أموات والجملة الاسمية مقول القول (بَلْ) حرف إضراب وعطف (أَحْياءٌ) خبر لمبتدأ محذوف والجملة معطوفة على جملة هم أموات (وَلكِنْ) الواو حالية ولكن مخففة من الثقيلة فهي لمجرد الاستدراك (لا) نافية (تَشْعُرُونَ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون لأنه من الافعال الخمسة والجملة نصب على الحال. البلاغة: 1- الإيجاز في الآية الاخيرة وهو إيجاز الحذف فقد حذف المبتدأ لأهمية ذكر الخبر لأنهم ما كانوا يتصورون أنهم أحياء ففند سبحانه هذه البدائية العجيلة تصويرا رشيقا. 2- الطباق بين أموات وأحياء في الآية هو طباق رشيق لا تكلف فيه. [سورة البقرة (2) : الآيات 155 الى 157] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 اللغة: (البلاء) : الاختبار والامتحان. الإعراب: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) الواو استئنافية واللام موطّئة للقسم ونبلونّ فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر وجوبا تقديره نحن والكاف مفعول به (بِشَيْءٍ) الجار والمجرور متعلقان بنبلونكم (مِنَ الْخَوْفِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لشيء، وجملة نبلونكم لا محل لها لأنها جواب قسم محذوف وطّأت له اللام وقد اقترنت بنون التوكيد الثقيلة لأنه مضارع مثبت مستقبل متصل بلامه (وَالْجُوعِ) عطف على الخوف (وَنَقْصٍ) عطف أيضا (مِنَ الْأَمْوالِ) الجار والمجرور متعلقان بنقص لأنه مصدر نقص، أو بمحذوف صفة لنقص لأنه نكرة (وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ) معطوفان على الأموال وجملة القسم وجوابه مستأنفة مسوقة لاختبار أحوالهم ومدى صبرهم على البلاء واستسلامهم للقضاء بشيء من الخوف والجوع (وَبَشِّرِ) الواو عاطفة وبشر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت (الصَّابِرِينَ) مفعول به وجملة بشر معطوفة على ولنبلونكم ولا تقل إنه فعل طلبي فكلاهما مضمونه طلبي، فهو من باب عطف المضمون على المضمون، أي أن الابتلاء حاصل وقت البلاء ووقت البشارة (الَّذِينَ) صفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 للصابرين (إِذا) ظرف لما يستقبل من الزمن متعلق بجوابه وهو قالوا (أَصابَتْهُمْ) الجملة في محل جر بالاضافة (مُصِيبَةٌ) فاعل وجملة الشرط وجوابه لا محل لها لأنها صلة الموصول (قالُوا) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (إِنَّا) ان واسمها (لِلَّهِ) الجار والمجرور متعلقان براجعون (وَإِنَّا إِلَيْهِ) عطف على جملة انا الله (راجِعُونَ) خبر إن (أُولئِكَ) اسم الاشارة مبتدأ (عَلَيْهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (صَلَواتٌ) مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر اسم الاشارة (مِنْ رَبِّهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لصلوات (وَرَحْمَةٌ) عطف على صلوات وجملة الاشارة وما بعدها مستأنفة مسوقة لبيان ما بشروا به (وَأُولئِكَ) الواو عاطفة وأولئك مبتدأ (هُمُ) مبتدأ ثان أو ضمير فصل لا محل له (الْمُهْتَدُونَ) خبر «هم» أو خبر أولئك والجملة خبر أولئك. [سورة البقرة (2) : آية 158] إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) اللغة: (الصَّفا) : جبل بمكة، وأصل معنى الصفا أنه جمع صفاة أي الصخرة الملساء. وألفها منقلبة عن واو (الْمَرْوَةَ) جبل بمكة أيضا. وأصل معنى المروة الحجارة الرخوة وقيل: التي فيها صلابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 قال أبو ذؤيب: حتى كأنّي للحوادث مروة ... بصفا المشقّر كلّ يوم تقرع (الشعائر) : جمع شعيرة وهي العلامة. (حَجَّ) : قصد. (اعْتَمَرَ) : زار البيت المعظم على الوجه المشروع. ثم صار الحج والعمرة علمين لقصد البيت وزيارته. (لا جناح) الجناح: الميل الى المأثم، ثم أطلق على الإثم، يقال: جنح الى الشيء أي مال اليه، ومنه جنح الليل أي ميله بظلمته، وجنح الطائر وجناحه. الإعراب: (إِنَّ الصَّفا) إن واسمها (وَالْمَرْوَةَ) عطف على الصفا (مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر إن والجملة ابتدائية لا محل لها (فَمَنْ) الفاء استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ (حَجَّ الْبَيْتَ) حج فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله مستتر يعود على من والبيت مفعول به (أَوِ اعْتَمَرَ) أو حرف عطف واعتمر فعل ماض معطوف على حج (فَلا جُناحَ) الفاء رابطة لجواب الشرط لأنه جملة اسمية ولا نافية للجنس وجناح اسمها المبني على الفتح (عَلَيْهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لا (أَنْ يَطَّوَّفَ) أن المصدرية وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي في أن يطوف (بِهِما) الجار والمجرور متعلقان بيطوف. وجملة فلا جناح عليه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 محل جزم جواب الشرط وجملة فعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر من (وَمَنْ تَطَوَّعَ) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وتطوع فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره هو (خَيْراً) صفة لمصدر محذوف فهو مفعول مطلق أي يتطوع تطوعا خيرا. ولك أن تعربه منصوبا بنزع الخافض أي بخير، واختار سيبويه أن يعرب حالا من المصدر المقدر معرفة، ولو لم يكن سيبويه قائله لخطّأته (فَإِنَّ اللَّهَ) الفاء رابطة لجواب الشرط وإن واسمها (شاكِرٌ عَلِيمٌ) خبر ان لإن وجملة فإن الله في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من. [سورة البقرة (2) : الآيات 159 الى 160] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ) إن واسمها (يَكْتُمُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل، والجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الموصول، وجملة إن وما في حيّزها مستأنفة مسوقة لبيان حكم من كتم شيئا من أحكام الدين بصورة عامة، وقد نزلت في حقّ اليهود الذين يجمجمون حبا للجدل والمكابرة، وخصوص السبب لا يمنع من عموم الحكم (ما) مفعول يكتمون (أَنْزَلْنا) فعل وفاعل والعائد محذوف أي أنزلناه، والجملة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 لا محل لها لأنها صلة الموصول (مِنَ الْبَيِّناتِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، أي حالة كونها مبينة شاهدة بالحقائق. وقد ألمعت الآية الى محاولة اليهود إخفاء بعض الآيات الدّالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو التي تصوّر عيوبهم وآثامهم التي يرتكبونها (وَالْهُدى) عطف على البينات (مِنْ بَعْدِ) الجار والمجرور متعلقان بيكتمون (ما بَيَّنَّاهُ) ما مصدرية وبيناه فعل وفاعل ومفعول. والمصدر المؤول في محل جر بالاضافة أي من بعد تبيانه (لِلنَّاسِ) الجار والمجرور متعلقان ببيناه (فِي الْكِتابِ) الجار والمجرور متعلقان ببيناه أيضا. وتعلق جار بفعل واحد عند اختلاف المعنى واللفظ جائز. ولك أن تعلق «في الكتاب» بمحذوف حال من المفعول به أي كائنا في الكتاب (أُولئِكَ) اسم الاشارة مبتدأ (يَلْعَنُهُمُ) فعل مضارع والهاء مفعوله (اللَّهُ) فاعله والجملة الفعلية خبر اسم الاشارة (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) عطف على الجملة السابقة، وجملة الاشارة الاسمية في محل رفع خبر إن (إِلَّا) أداة استثناء (الَّذِينَ) مستثنى من المفعول به أي الهاء في يلعنهم (تابُوا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة (وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) عطف على تابوا (فَأُولئِكَ) الفاء رابطة، لأن في الموصول رائحة الشرط، واسم الاشارة مبتدأ (أَتُوبُ) فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا، وجملة أتوب خبر اسم الاشارة وجملة الاشارة استئنافية (عَلَيْهِمْ) متعلقان بأتوب (وَأَنَا) الواو عاطفة وأنا مبتدأ (التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) خبر ان لأنا والجملة معطوفة. البلاغة: 1- التكرير في ذكر اللعن، والغاية منه التأكيد في الذم. 2- الالتفات في قوله «يلعنهم الله» وكان السياق يقتضي بأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 يقول نلعنهم، ولكنه التفت الى الغائب للدلالة على إظهار السخط عليهم، وليكون الكلام أوغل في إنزال اللعن عليهم، وإلحاق الطرد بهم. [سورة البقرة (2) : الآيات 161 الى 163] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ) إن واسمها (كَفَرُوا) فعل وفاعل والجملة صلة الموصول لا محل لها (وَماتُوا) الواو عاطفة، وجملة ماتوا عطف على جملة كفروا (وَهُمْ) الواو حالية وهم مبتدأ (كُفَّارٌ) خبر «هم» والجملة في محل نصب على الحال (أُولئِكَ) اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ (عَلَيْهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم (لَعْنَةُ اللَّهِ) مبتدأ مؤخر (وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ) عطف على الله، والجملة الاسمية خبر أولئك وجملة أولئك وما في حيزها خبر إن وجملة ان وما في حيزها مستأنفة مسوقة لبيان مصير القسم الثاني من الكاتبين، وقد بيّن مصير من تاب في الاستثناء (أَجْمَعِينَ) تأكيد (خالِدِينَ) حال من الضمير في عليهم (فِيها) الجار والمجرور متعلقان بخالدين، والضمير يعود على النار التي أضمرت للتخويف والتهويل. ويجوز أن يعود على اللعنة مجازا، والعلاقة المحلية (لا يُخَفَّفُ) لا نافية ويخفف فعل مضارع مبني للمجهول (عَنْهُمُ) جار ومجرور متعلقان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 بيخفف (الْعَذابُ) نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل نصب حال ثانية للذين كفروا من الضمير المستكنّ في خالدين فهي حال متداخلة (وَلا) الواو عاطفة ولا نافية (هُمْ) مبتدأ (يُنْظَرُونَ) فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل، أي لا يمهلون ولا يؤجلون، والجملة الفعلية خبر «هم» والجملة الاسمية عطف على جملة لا يخفف (وَإِلهُكُمْ) الواو استئنافية وما بعدها جملة مستأنفة لا محل لها مسوقة للرد على كفار قريش الذين قالوا: يا محمد صف لنا ربك، وإلهكم مبتدأ (إِلهٌ) خبر (واحِدٌ) صفة لإله (لا) نافية للجنس (إِلهٌ) اسمها مبني على الفتح في محل نصب (إِلَّا) أداة حصر (هُوَ) بدل من محل لا واسمها لأن محلها الرفع على الابتداء، أو بدل من الضمير المستكنّ في الخبر المحذوف. وسيأتي مزيد من أقوال النحاة والمفسرين في إعراب كلمة الشهادة ترويضا للذهن (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) خبر ان لمبتدأ محذوف تقديره هو. الفوائد: خاض علماء النحو والمفسرون كثيرا في اعراب «لا إله إلا الله» وهي كلمة الشهادة واتفقوا على أن خبر لا محذوف أي لنا، أو في الوجود، أو نحو ذلك. وسنورد لك خلاصة مفيدة لما قالوه لأهميته: الزمخشري: صنف جزءا لطيفا في إعراب كلمة الشهادة، فبعد أن أورد ما اتفقوا عليه من حذف خبر لا قال: «هكذا قالوا، والصواب أنه كلام تام ولا حذف، وأن الأصل: الله إله مبتدأ وخبر، كما تقول: زيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 منطلق، ثم جيء بأداة الحصر وقدّم الخبر على الاسم وركب مع لا كما ركب المبتدأ معها في نحو لا رجل في الدار، ويكون «الله» مبتدأ مؤخرا و «وإله» خبرا مقدما، وعلى هذا تخريج نظائره نحو: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا عليّ» . الزمخشري أيضا: وقال الزمخشري في المفصّل بصدد كلامه عن خبر لا النافية للجنس: «وقد يحذفه الحجازيون كثيرا فيقولون: لا أهل ولا مال ولا بأس ولا فتى إلا عليّ ولا سيف إلا ذو الفقار، ومنه كلمة الشهادة، ومعناها: لا إله في الوجود إلا الله، وبنو تميم لا يثبتونه في كلامهم أصلا» . ابن يعيش: وقال شارح المفصّل موفق الدين بن يعيش: «اعلم أنهم يحذفون خبر لا من: لا رجل ولا غلام ولا حول ولا قوة وفي كلمة الشهادة نحو: لا إله إلا الله، والمعنى: لا رجل ولا غلام ولا حول ولا قوة لنا، وكذلك لا إله في الوجود إلّا الله، ولا أهل لك ولا مال لك ولا بأس عليك، ولا فتى في الوجود إلا عليّ ولا سيف في الوجود إلا ذو الفقار، فالخبر الجار مع المجرور وهو محذوف، ولا يصح أن يكون الخبر «الله» في قولك لا إله إلا الله، وذلك لأمرين: آ- انه معرفة و «لا» لا تعمل في معرفة. ب- أن اسم «لا» هنا عام وقولك إلا الله خاص، والخاص لا يكون خبرا عن العام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 ونظيره: الحيوان انسان، فانه ممتنع لأن في الحيوان ما ليس بانسان، وقولك: الإنسان حيوان، جائز لأن الإنسان حيوان حقيقة وليس في الإنسان ما ليس بحيوان، ويجوز اظهار الخبر نحو: لا رجل أفضل منك ولا أحد خير منك، هذا مذهب أهل الحجاز وأما بنو تميم فلا يجيزون تقديم خبر «لا» البتة ويقولون: هو من الأصول المرفوضة، ويتأوّلون ما ورد من ذلك، فيقولون في قولهم: لا رجل أفضل منك: ان «أفضل» نعت لرجل على الموضع، وكذلك «خير منك» نعت لأحد على الموضع. البدر الدماميني: وتعقّب البدر الدّماميني الزّمخشريّ في حاشيته على المغني فقال: «ولا يخفى ضعف هذا القول، يعني قول الزمخشري، وانه يلزم منه ان الخبر يبنى مع لا، ولا يبنى معها إلا المبتدأ. ثم لو كان كذلك لم يجز نصب الاسم العظيم وقد جوزوه» . الصلاح الصفدي: وأورد الصلاح الصفديّ في الغيث المسجم بحثا طريفا قال فيه: «ومن حذف الخبر قولك: لا إله إلا الله، «فإله» اسمها والخبر محذوف قدّره النحاة في الوجود أو لنا، هكذا أعربوه» . الرازي: وأورد الامام فخر الدين الرازي إشكالا على إعراب الصفدي فقال: هذا النفي عام متفرّق وتقييده بالوجود تخصيص له، ولنا أكثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 تخصيصا. وإذا كان كذلك لم يبق النفي عاما، وحينئذ لا يكون هذا القول إقرارا بالوحدانية على الإطلاق. الصلاح الصفدي أيضا: وأجاب الصلاح الصفدي بقوله: «إنّا لا نسلّم تقييده بالوجود إذا كان تخصيصا لا يبقى على العموم المراد من النفي، لأن المراد نفي الآلهة في الخارج إلا الله تعالى، على معنى أن نفي وجودها مستلزم لنفي ذاتها، كأنه قال: لا إله يوجد إلا الله. وعلى هذا يبقى النفي عاما بالمعنى المراد منه» . السّمين: وقال الشهاب الحلبي المعروف ب السمين: «قوله: إلا هو رفع على أنه بدل من اسم لا على المحل، إذ محله الرفع على الابتداء أو هو بدل من لا وما عملت فيه، لأنها وما بعدها في محل رفع بالابتداء» . أبو حيّان: ومضى السمين يقول: واستشكل أبو حيّان كونه بدلا من إله، لأنه لا يمكن تكرير العامل، لا تقول: لا رجل إلا زيد والذي يظهر لي أنه ليس بدلا من إله، ولا من رجل في قولك لا رجل إلا زيد، إنما هو بدل من الضمير المستكنّ في الخبر المحذوف. فإذا قلنا: لا رجل إلا زيد، والتقدير لا رجل كائن أو موجود إلا زيد. فزيد بدل من الضمير المستكن في الخبر لا من رجل، وليس بدلا من موضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 اسم لا، وإنما هو بدل مرفوع من ضمير مرفوع، تقدير ذلك الضمير هو عائد على اسم لا. ابن هشام: وقال ابن هشام: «وقول بعضهم في «لا إله إلا الله» : إن اسم الله سبحانه خبر لا التبرئة أي النافية للجنس يردّه أنها لا تعمل إلا في نكرة منفية، واسم الله تعالى معرفة موجبة، نعم يصح أن يقال: إنه خبر ل «لا» مع اسمها فانهما في موضع رفع بالابتداء عند سيبويه» . ثم أطال ابن هشام في الرد على الزمخشري مما لا يتسع له صدر هذا الكتاب. الشيخ مصطفى الغلاييني: وقال الشيخ مصطفى الغلاييني من أدباء بيروت المحدثين: «قوله تعالى: لا إله إلا الله، أي: لا إله موجود، والله إما بدل من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، وإما بدل من محل لا واسمها. ويجوز في غير الآية نصبه على الاستثناء» . [سورة البقرة (2) : آية 164] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 اللغة: (الْفُلْكِ) : السفن. ويكون واحدا كقوله تعالى: «في الفلك المشحون» ، وهو حينئذ مذكر. ويكون جمعا كما في الآية بدليل قوله: «التي تجري في البحر» ، وكل ذلك بلفظ واحد. وقد خبط فيه صاحب المنجد خبطا عجيبا، فجعله يذكّر ويؤنّث. وعبارته: «الفلك: السفينة تؤنث وتذكر» . ومنشأ الخبط أنه لم يتأمل- وهو ينقل عبارة القاموس نقلا عشوائيا- أن التذكير خاص بالمفرد، أما التأنيث فطارىء عليه لجمعه جمع تكسير. ونصّ عبارة القاموس: «والفلك بالضم السفينة، ويذكّر، وهو للواحد والجميع، أو الفلك التي هي جمع تكسير للفلك التي هي واحد، وليست كجنب التي هي واحد وجمع، وأمثاله، لأن فعلا وفعلا يشتركان في الشيء الواحد كالعرب والعرب» . فإن قيل: ان جمع التكسير لا بد فيه من تغيّر، فالجواب أن تغيّره مقدّر، فالضمة في حال كونه جمعا كالضمة في حمر وبدن، وفي حال كونه مفردا كالضمة في قفل. على أن ابن برّي استدرك فقال: «إنك إذا جعلت الفلك واحدا فهو مذكر لا غير، وإن جعلته جمعا فهو مؤنث لا غير» فتأمل هذا الفصل، فله على كل الفصول الفضل. (الرِّياحِ) : جمع ريح. وياء الريح والرياح من واو، والأصل روح ورواح، وانما قلبت ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، وهو ابدال مطّرد ولذلك لما زال موجب قلبها رجعت الى أصلها، فقيل: أرواح. قالت ميسون بنت بحدل: لبيت تخفق الأرواح فيه ... أحبّ إليّ من قصر منيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 ويغلب عليها الخير في الجمع، والشرّ في المفرد. وقد لحن في هذه اللفظة عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، فاستعمل الأرياح في شعره، وقال أبو حاتم له: إن الأرياح لا يجوز. فقال عمارة: ألا تسمع قولهم: رياح؟ فقال له أبو حاتم: هذا خلاف ذلك. فقال له: صدقت ورجع. قلنا: ولكن ورد جمع الأرياح في القاموس للفيروزباديّ ونصّ عبارته: «والريح مؤنثة وجمعها أرياح وأرواح ورياح وريح كعنب وجمع الجمع أرواح وأراييح» . ونقل صاحب المنجد عبارته بنصها تقريبا. الإعراب: (إِنَّ) حرف مشبه بالفعل (فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر إن المقدم (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) عطف على خلق السموات (وَالْفُلْكِ) عطف أيضا (الَّتِي) صفة للفلك (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) الجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الموصول (بِما) الباء حرف جر وما اسم موصول في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، ولك أن تجعل ما مصدرية، فتتعلق مع المصدر المؤوّل المجرور بها بتجري بأسباب نفع الناس (يَنْفَعُ النَّاسَ) الجملة الفعلية لا محل لها لانها صلة ما على كل حال (وَما) عطف على ما الاولى (أَنْزَلَ اللَّهُ) الجملة صلة ما (مِنَ السَّماءِ) الجار والمجرور متعلقان بأنزل (مِنْ ماءٍ) الجار والمجرور بدل من قوله من السماء بدل اشتمال ولا يرد عليه تعليق حرفين متحدين بعامل واحد فإن الممنوع من ذلك أن يتحدا معا من غير عطف ولا ابدال (فَأَحْيا) عطف على فأنزل (بِهِ) الجار والمجرور متعلقان بأحيا (الْأَرْضِ) مفعول به (بَعْدَ مَوْتِها) الظرف متعلق بمحذوف حال (وَبَثَّ) عطف على أنزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 أو أحيا (فِيها) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) الجار والمجرور متعلقان ببث (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) عطف على «خلق» (وَالسَّحابِ) عطف أيضا (الْمُسَخَّرِ) صفة للسحاب (بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) الظرف متعلق بمسخر لأنه اسم مفعول (لَآياتٍ) اللام هي المزحلقة وآيات اسم ان المؤخر (لِقَوْمٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لآيات (يَعْقِلُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة الفعلية صفة لقوم. وهذه الآية حثّ صريح على وجوب التأمل والتدبر وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها» أي لم يعتبر بها. فالآية جملة مستأنفة مسوقة للحث على النظر والاعتبار بباهر الحكمة. [سورة البقرة (2) : آية 165] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) اللغة: (أَنْداداً) النّدّ: المثل، والمراد هنا الأصنام أو كل ما سولت لهم أنفسهم عبادته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 الإعراب: (وَمِنَ النَّاسِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان أن بعض الناس لم يعتقد الوحدانية بعد أن ثبت بالدليل القاطع، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (مِنَ) اسم موصول في محل رفع مبتدأ مؤخر أو نكرة موصوفة في محل رفع مبتدأ مؤخر (يَتَّخِذُ) الجملة الفعلية لا محل لها لانها صلة الموصول أو صفة ل «من» وفاعل يتخذ ضمير مستتر تقديره هو يعود على لفظ من (مِنْ دُونِ اللَّهِ) جار ومجرور متعلقان بيتخذ (أَنْداداً) مفعول به (يُحِبُّونَهُمْ) فعل مضارع مرفوع وفاعل ومفعول به والجملة الفعلية صفة لأندادا أو حال من الضمير المستكن في يتخذ (كَحُبِّ اللَّهِ) الكاف ومجرورها في موضع نصب صفة لمصدر محذوف فهو مفعول مطلق، ويجوز إعرابه حالا وقد رجحه سيبويه والمصدر مضاف الى مفعوله (وَالَّذِينَ) الواو استئنافية أو حالية واسم الموصول مبتدأ (آمَنُوا) فعل وفاعله. والجملة صلة الموصول (أَشَدُّ) خبر الموصول (حُبًّا) تمييز (لِلَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بحبا (وَلَوْ) الواو استئنافية ولو شرطية غير جازمة (يَرَى) فعل مضارع (الَّذِينَ) فاعل (ظَلَمُوا) الجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها (إِذْ) ظرف لما مضى من الزمن متعلق بيرى (يَرَوْنَ) الجملة الفعلية في محل جر باضافة الظرف اليه والواو فاعل (الْعَذابَ) مفعول به أول والمفعول الثاني محذوف تقديره نازلا بهم وقت رؤيتهم (أَنَّ الْقُوَّةَ) ان واسمها (لِلَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر. وان وما بعدها سدت مسد مفعولي يرى (جَمِيعاً) حال (وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) عطف على ما تقدم، وجواب لو محذوف أي لرأيت عجبا ولكان منهم مالا يدخل تحت الوصف من الندامة والحسرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 البلاغة: الإيجاز في الآية وذلك بحذف جواب لو كما تقدم وهو كثير شائع في كلامهم وورد في القرآن كثيرا، وقد تعلّق بأهداب هذه البلاغة أبو تمام الطائي حين قال في قصيدته «فتح عمورية» : لو يعلم الكفر كم من أعصر كمنت ... له المنيّة بين السّمر والقضب وتقديره لو يعلم الكفر ذلك لأخذ أهبته واحتاط لنفسه وهيهات. الفوائد: (دُونِ) ظرف للمكان وهو نقيض فوق، نحو هو دونه أي أحط منه رتبة أو منزلة، ويأتي بمعنى أمام نحو: الشيء دونك أي أمامك، وبمعنى وراء نحو: قعد دون الصف، أي وراءه، وقد يأتي بمعنى رديء وخسيس فلا يكون ظرفا، نحو: هذا شيء دون، وهو حينئذ يتصرف في وجوه الإعراب. ويأتي بمعنى غير كما في الآية، وأكثر ما يستعمل حينئذ مجرورا بمن. [سورة البقرة (2) : الآيات 166 الى 167] إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 الإعراب: (إِذْ) ظرف لما مضى من الزمن وهي مع مدخولها بدل من إذ المتقدمة في الآية السابقة (تَبَرَّأَ الَّذِينَ) فعل ماض وفاعل (اتُّبِعُوا) فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل، والجملة صلة الموصول، وجملة تبرأ في محل جر باضافة الظرف إليها وهم الرؤساء (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) الجار والمجرور متعلقان بتبرأ واتبعوا فعل ماض مبني للمعلوم والواو فاعل وهم الاتباع والجملة صلة (وَرَأَوُا) الواو حالية أو عاطفة ورأوا فعل وفاعل (الْعَذابَ) مفعول به والجملة حالية بتقدير قد، أي تبرءوا منهم في حال رؤيتهم العذاب، أو معطوفة على جملة تبرأ (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) عطف على ما تقدم (وَقالَ) الواو عاطفة وقال فعل ماض (الَّذِينَ) فاعل (اتَّبَعُوا) الجملة صلة الموصول واتبعوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل (لَوْ) شرطية غير جازمة متضمنة معنى التمني (أَنَّ لَنا كَرَّةً) ان وخبرها المقدم واسمها المؤخر وان وما في حيزها مقول القول (فَنَتَبَرَّأَ) الفاء هي السببية ونتبرأ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية المسبوقة بالتمني الذي تضمنته لو وفاعله ضمير مستتر تقديره نحن (مِنْهُمْ) الجار والمجرور متعلقان بنتبرأ (كَما) الكاف مع مجرورها في موضع نصب مفعول مطلق وما مصدرية (تَبَرَّؤُا) فعل ماض وفاعل (مِنَّا) جار ومجرور متعلقان بتبرءوا (كَذلِكَ) الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف أي اراءة مثل تلك الإراءة. واختار سيبويه النصب على الحال وهو صحيح (يُرِيهِمُ) فعل مضارع والرؤية هنا تحتمل أن تكون بصرية فتتعدى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 لمفعولين أولهما الضمير والثاني أعمالهم وتحتمل أن تكون قلبية ولعله أرجح فتتعدى لثلاثة (اللَّهُ) فاعل (أَعْمالَهُمْ) مفعول به ثان (حَسَراتٍ) مفعول به ثالث أو حال (عَلَيْهِمْ) متعلقان بمحذوف صفة لحسرات (وَما) الواو عاطفة وما حجازية (هُمْ) اسم ما الحجازية (بِخارِجِينَ) الباء حرف جر زائد وخارجين مجرور لفظا منصوب خبر ما محلا (مِنَ النَّارِ) الجار والمجرور متعلقان بخارجين. البلاغة: 1- في الآية فن اللفّ والنشر المشوش، وهو ذكر متعدد على وجه التفصيل أو الإجمال، ثم ذكر ما لكل واحد وردّه الى ما هو له، فتبرؤ بعضهم من بعض راجع لقوله: إذ تبرأ، وإراءتهم شدة العذاب راجع لقوله: ورأوا العذاب، والمراد أنه أراهم هذين الامرين عقوبة لهم على اتخاذهم الأنداد لله، فكما عاقبهم على عقائدهم عاقبهم على أعمالهم. ولهذا الفن فروع متعددة مبسوطة في كتب البلاغة، ومنه في الشعر قول أبي فراس الحمداني: وشادن قال لي لمّا رأى سقمي ... وضعف جسمي والدّمع الذي انسجما أخذت دمعك من خدّي وجسمك من ... خصري وسقمك من طرفي الذي سقما 2- في قوله: إذ تبرأ الذين اتبعوا.. الآية، فنّ يقال له فنّ الترصيع، وهو أن يكون الكلام مسجوعا، وهو في الآية في موضعين، وقد كثر في القرآن، وأما في الشعر فمنه قول أبي الطيب المتنبي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 في تاجه قمر في ثوبه بشر ... في درعه أسد تدمى أظافره وقال أبو تمام: تدبير معتصم بالله منتقم ... لله مرتغب في الله مرتقب 3- في قوله: «وتقطعت بهم الأسباب» مجاز مرسل علاقته السببية، فان السبب في الأصل الحبل الذي يرتقى به الى ما هو عال ثم أطلق على كل ما يتوصل به الى شيء، مادة كان أم معنى. ولك أن تجعله من باب الاستعارة التصريحية، فقد شبه الأعمال التي كانوا يمارسونها في الدنيا بالأسباب التي يتشبّث بها الإنسان للنجاة. ثم حذف المشبّه وأبقى المشبّه به. قال زهير بن أبي سلمى: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... وإن يرق أسباب السماء بسلم 4- فن الحذف، فقد حذف جواب لو الشرطية وهو مقدر في الآية تقديره- لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف. الفوائد: كل اسم كان واحده على وزن «فعلة» مفتوح الاول ساكن الثاني، فإن جمعه على فعلات بفتح الفاء والعين، مثل شهوة وتمرة وجمعهما شهوات وتمرات، متحركة الثواني من حروفها. فأما إذا كان وصفا فإنك تدع ثانيه ساكنا مثل ضخمة وعبلة، فتجمعها على ضخمات وعبلات، بإسكان الثواني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 [سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 169] يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) اللغة: (الخطوات) بضمتين: جمع خطوة، وهي ما بين يدي الخاطي. ومن غريب أمر الخاء والطاء أنهما إذا وقعتا فاء وعينا للكلمة دلّ ذلك على الأثر، فأثر الخطوة معروف، ولهذا قالوا: اتبع خطواته، كأنما أثّر عليه فتبعه. والخطأ في الرأي والمسألة واضح الأثر، ومن أمثالهم: «مع الخواطئ سهم صائب» . والخطب: المصاب وهو بيّن الأثر، وقل مثل هذا في الخطل أي السفاهة، وهو استرخاء الأذنين أو السفاهة، وسمي الشاعر الأموي الأخطل. وهذا كله اكتشفناه بعد التقصي والتمعن فتدبره. الإعراب: (يا أَيُّهَا النَّاسُ) يا حرف نداء للمتوسط، وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب والهاء للتنبيه، والناس بدل من أي (كُلُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (مِمَّا) الجار والمجرور متعلقان بكلوا (فِي الْأَرْضِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول (حَلالًا) مفعول به لكلوا أو حال من «ما» (طَيِّباً) صفة. وسيأتي بحث طريف عنها (وَلا) الواو عاطفة ولا ناهية (تَتَّبِعُوا) فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل (خُطُواتِ) مفعول به وعلامة نصبه الكسرة لأنه جمع مؤنث سالم (الشَّيْطانِ) مضاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 اليه (إِنَّهُ) إن واسمها (لَكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، لأنه في الأصل صفة لعدو وقد تقدمت (عَدُوٌّ) خبر إن المرفوع (مُبِينٌ) صفة لعدو وجملة النداء وما تلاه مستأنفة مسوقة لبيان مواطن الحل والحرمة، وان ذلك منوط بالله تعالى. وجملة إنه وما تلاها لا محل لها لأنها تعليل للنهي عن اتباع خطوات الشيطان في ذلك (إِنَّما) كافة ومكفوفة ملغاة (يَأْمُرُكُمْ) فعل وفاعل مستتر يعود على الشيطان ومفعول به (بِالسُّوءِ) الجار والمجرور متعلقان بيأمركم والجملة مستأنفة مسوقة لبيان عداوة الشيطان وفضح أهدافها (وَالْفَحْشاءِ) عطف على قوله بالسوء (وَأَنْ تَقُولُوا) المصدر المنسبك من أن وما في حيزها معطوف على السوء أيضا (عَلَى اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بتقولوا (ما) اسم موصول مفعول تقولوا (لا) نافية (تَعْلَمُونَ) فعل مضارع مرفوع وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة ما. البلاغة: الاستعارة التبعية في أمر الشيطان ردا على سؤال قد يرد على الخاطر، وهو: كيف يكون الشيطان آمرا والله تعالى يقول: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان؟ فقد شبه تزيين الشيطان لهم وتحريضه إياهم على الشر، وتأريث نار الشهوات في النفوس بأمر الآمر فهي استعارة تصريحية تبعية، والواقع أن أمر الشيطان هو عبارة عن الخوالج التي تساورنا وتحدونا الى اجتراح السيئات. الفوائد: اختلف المعربون والفقهاء في معنى هذه الصفة أي طيبا فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 بعضهم هي صفة مؤكدة، لأن معنى طيبا وحلالا واحد، وأخذ مالك به وقال آخرون هي صفة مخصصة، لأن معناه مغاير لمعنى الحلال، وهو المستلذ، وبه أخذ الشافعي. ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر وكل ما هو خبيث. [سورة البقرة (2) : آية 170] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) الإعراب: (وَإِذا) الواو استئنافية وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متعلق بقالوا (قِيلَ) فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو والجملة مستأنفة مسوقة لبيان رسوخهم في الغي وإمعانهم في الضلال (لَهُمُ) الجار والمجرور متعلقان بقيل (اتَّبِعُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة الفعلية مقول القول (ما) اسم موصول في محل نصب مفعول به (أَنْزَلَ اللَّهُ) الجملة لا محل لها لأنها صلة ما (قالُوا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (بَلْ) حرف إضراب وعطف وكل إضراب في القرآن يراد به الانتقال من قصة الى قصة إلا في هذه الآية وفي آية أخرى ستأتي (نَتَّبِعُ) فعل مضارع وفاعله نحن، والجملة معطوفة على جملة مقدرة أي لا نتبع ما أنزل الله بل نتبع (ما) اسم موصول مفعول به (أَلْفَيْنا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (عَلَيْهِ) جار ومجرور في موضع نصب مفعول ألفينا الثاني (آباءَنا) مفعول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ألفينا الأول. ومعنى ألفينا وجدنا (أَوَلَوْ) الهمزة للاستفهام الانكاري، والواو حالية والجملة حالية مسوقة لاستنكار اتباع آبائهم في كل حالة حتى في الحالة التي لا مساغ للعاقل أن يتعها ويجنح إليها وهي عدم تلبسهم بعدم العقول وانتفاء الهداية. ولو شرطية لا تحتاج الى جواب في مثل هذا التركيب لأن القصد منها تعميم الأحوال، ولذلك لا يجوز حذف الواو الداخلة عليها تنبيها على أن ما بعدها ليس مناسبا لما قبلها (كانَ آباؤُهُمْ) كان واسمها (لا) نافية (يَعْقِلُونَ) فعل مضارع وفاعله والجملة المنفية خبر كان (شَيْئاً) مفعول به أو مفعول مطلق (وَلا يَهْتَدُونَ) الجملة معطوفة على جملة لا يعقلون. البلاغة: الالتفات في قوله: لهم.. من الخطاب الى الغيبة تسجيلا للنداء على ضلالهم، لأنه ليس ثمة أضلّ من المقلد تقليدا أعمى، يتبع غيره في المواطن التي توبقه وترديه، وينساق من غير تفكير ولا روية. [سورة البقرة (2) : آية 171] وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) اللغة: (يَنْعِقُ) النّعيق: هو التصويت مطلقا. قال الأخطل: فانعق بضأنك يا جرير فإنّما ... منّتك أمّك في الخلاء ضلالا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 ويقال: نعق المؤذن وسمعت نعقة المؤذن، وأما صوت الغراب فهو النغيق بالغين المعجمة. الإعراب: (وَمَثَلُ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لضرب المثل للكافرين في عبادتهم للأصنام، وقد شغلت هذه الآية المعربين والمفسرين، واختلفوا فيها اختلافا كثيرا وتبلغ الأوجه التي أوردوها أربعة نختار منها واحدا ونورد في باب البلاغة تفصيلها لأنها تكاد تكون متساوية الرجحان، ومثل مبتدأ (الَّذِينَ) مضاف اليه (كَفَرُوا) فعل وفاعل والجملة صلة الموصول، ولا بد من تقدير مضاف قبل الموصول أي مثل داعيهم الى الايمان أي مثل داعي الذين كفروا، بمعنى ان من يحاول هدايتهم بمثابة من يخاطب مالا يسمع، وإن سمع فهو لا يعقل شيئا مما يسمعه (كَمَثَلِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر (الَّذِي) اسم موصول مضاف اليه (يَنْعِقُ) فعل مضارع وفاعله هو، والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (بِما) الجار والمجرور متعلقان بينعق (لا يَسْمَعُ) لا نافية ويسمع فعل مضارع والجملة الفعلية صلة ما (إِلَّا) أداة حصر (دُعاءً) مفعول به (وَنِداءً) عطف على دعاء (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) أخبار ثلاثة لمبتدأ محذوف أي هم (فَهُمْ) الفاء عاطفة وهم مبتدأ (لا يَعْقِلُونَ) الجملة الفعلية المنفية خبرهم. البلاغة: في هذه الآية فنون عديدة منها: 1- التشبيه التمثيلي فقد شبه من يدعو الكافرين الى الايمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 رغم لجاجتهم ومكابرتهم بمن ينعق بالبهائم التي لا تسمع إلا التصويت بها والزجر لها، فهو تشبيه صورة بصورة أو تشبيه متعدّد بمتعدّد، ويمكن اختصار الاوجه التي أوردها علماء البيان والنحو بما يلي: أ- ان المثل مضروب لتشبيه الداعي والكافر بالناعق والمنعوق به. ب- إن المثل مضروب لتشبيه الكافر في دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له بالغنم المنعوق بها. ج- ان المثل مضروب لتشبيه الكافر في دعائه الأصنام بالناعق على الغنم. 2- الاستعارة التصريحية في تشبيه الكافرين بالصم البكم العمي وحذف المشبه وإبقاء المشبه به. 3- الإيجاز في حذف مضاف تقديره: مثل داعي الذين كفروا، ولم يصرح بالداعي وهو الرسول تمشيا مع الأدب الرفيع في حسن التلطف بالخطاب، والتهذيب الذي يجب أن يتسم به الشعراء والكتّاب. [سورة البقرة (2) : الآيات 172 الى 173] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 اللغة: (الاهلال) : سبق القول إنه رفع الصوت عند مباشرة أمر من الأمور، وقد كان دينهم في جاهليتهم أن يرفعوا أصواتهم عند مباشرتهم هذه الأمور كالذبح وغيره فيقولون: باسم اللات والعزّى. (باغٍ) : ظالم. (عادٍ) : معتد على غيره. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها فجدّد به عهدا، وجملة النداء وما بعده مستأنفة تمهيدا للشروع في بيان أنواع من المحرمات بعد ما أمر سبحانه بأكل الطيبات (كُلُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (مِنْ طَيِّباتِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة للمفعول المحذوف ليذهب السامع في تقديره أيّ مذهب تصبو اليه نفسه ومعنى من الجارّة هنا التبعيض أي كلوا بعضها فما أكثر الطيبات المتاحة لنا (ما) اسم موصول في محل جر بالاضافة (رَزَقْناكُمْ) فعل وفاعل ومفعول به والجملة صلة الموصول (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) معطوف على كلوا، ولله جار ومجرور متعلقان باشكروا، وسيأتي بحث عنه في باب الفوائد (إِنْ) شرطية تجزم فعلين (كُنْتُمْ) فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها (إِيَّاهُ) ضمير منفصل مفعول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 مقدم لتعبدون (تَعْبُدُونَ) الجملة الفعلية في محل نصب خبر كنتم وجملة جواب الشرط محذوفة دل عليها ما قبلها أي فاشكروا (إِنَّما) كافة ومكفوفة (حَرَّمَ) فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى (عَلَيْكُمُ) الجار والمجرور متعلقان بحرم (الْمَيْتَةَ) مفعول به (وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) معطوفان على الميتة (وَما) الواو حرف عطف وما اسم موصول منصوب عطفا على ما تقدم (أُهِلَّ) فعل ماض مبني للمجهول (بِهِ) جار ومجرور قام مقام نائب الفاعل (لِغَيْرِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال والجملة صلة الموصول (فَمَنِ) الفاء الفصيحة أي إذا كانت هناك حالات اضطرار ألجأته الى أكل شيء مما حرم، والجملة بعدها لا محل لها لأنها جواب شرط مقدر غير جازم، ومن اسم شرط جازم مبتدأ (اضْطُرَّ) فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط ونائب الفاعل مستتر تقديره هو يعود على المضطر (غَيْرَ) حال من «من» فكأنه قيل: اضطرّ لا باغيا ولا عاديا فهو له حلال (باغٍ) مضاف اليه وعلامة جره الكسرة المقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين (وَلا عادٍ) عطف على غير باغ (فَلا) الفاء رابطة لجواب الشرط لأنه جملة اسمية ولا نافية للجنس (إِثْمَ) اسمها المبني على الفتح (عَلَيْهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبرها، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر من على الأصح (إِنَّ اللَّهَ) إن واسمها (غَفُورٌ رَحِيمٌ) خبران لإن وجملة إن وما في حيزها لا محل لها لأنها تعليلية. البلاغة: 1- اشتملت هاتان الآيتان على ايجازين جميلين بالحذف، وهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 حذف مفعول كلوا كما تقدم، وحذف جواب إن الشرطية أي فاشكروه وحذف جواب الشرط شائع في كلام العرب. 2- التقديم في تقديم إياه لإفادة الاختصاص، لأنه سبحانه مختص بأن يعبدوه. 3- الالتفات من ضمير المتكلم الى الغيبة، وسياق الكلام يقتضي أن يقول: واشكرونا، ولكنه التفت الى الغيبة لعظم الاهتمام به سبحانه. وفيه تلميح الى الحديث النبوي وهو: «يقول الله تعالى: إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري» . وقد درج علماء البلاغة على تعريف الالتفات بأنه إنما يستعمل في الكلام للتفنن والانتقال من أسلوب الى أسلوب تطرية لنشاط السامع، وهو تعريف جميل، لأن النفس تسأم الكلام الجاري على نسق رتيب. ولكن يرد على هذا التعريف أن التطرية لا تكون إلا بعد حدوث الملل، ولا ملل في تلاوة القرآن، فلا بد أن يكون هناك أمر وراء الانتقال من أسلوب الى أسلوب، بيد أن ذلك لا يمكن تحديده، لأن الفنّ جمال، وسر الجمال في عدم تحديده، لأنه بعيد المنال، وقد أريناك عند الكلام على الفاتحة أسرارا تكمن وراء السطور، وهنا عدل عن التكلم الى الغيبة كما تقدم، وليصرح باسم الله، وفي ذلك من حوافز الشكر ما فيه. نموذج شعري: وما دمنا في صدد أسرار الالتفات يحسن بنا أن نورد للقارىء مثالا شعريا لأبي تمام الطائي ليقيس طلابنا ومتأدبونا على منواله، قال يمدح أبا دلف العجليّ ويصف فيها ركبا يسيرون في المهامة البعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ليتخلص الى التنويه بجود الممدوح، ولا يفوتك ما فيها من تشخيص وتجسيد: وركب يساقون الركاب زجاجة ... من السّير لم تقصد لها كفّ قاطب ففد أكلوا منها الغوارب بالسّرى ... وصارت لهم أشباحهم كالغوارب يصرّف مسراها جذيل مشارق ... إذا آبه هم عذيق مغارب يرى بالكعاب الزّود طلعة ثائر ... وبالعرمس الوجناء غرةّ آئب كأنّ بها ضغنا على كلّ جانب ... من الأرض أو شوقا الى كلّ جانب إذا العيس لاقت بي أبا دلف فقد ... تقطّع ما بيني وبين النوائب فقال في الأول: يصرف مسراها، مخاطبة للغائب جريا على الأسلوب المتقدم في وصف الركب، ثم قال بعد ذلك: إذا العيس لاقت بي، فعدل الى خطاب نفسه لأنه لما صار الى مشافهة الممدوح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 والتصريح باسمه خاطب عند ذلك نفسه مبشرا لها بالبعد عن المكاره والقرب من الرغائب، وهذا من السحر الحلال وان من البيان لسحرا.. الفوائد: (شكر) فعل متعد ولكنه قد يستعمل كاللازم فيكتفي بالفاعل إذا أريد به مجرّد حدوث الفعل، ويستعمل متعديا مباشرة الى مفعول به واحد، قال تعالى: «ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك» ، ويتعدى الى مفعولين كقول عبد الله بن الزبير: سأشكر عمرا ما تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت والمفعولان هما: عمرا وأيادي، جمع يد وهي النعمة. وقد يتعدى باللام الى مفعول به واحد كما في الآية هنا. [سورة البقرة (2) : الآيات 174 الى 176] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ) إن واسمها، والجملة مستأنفة مسوقة لسرد قصة رؤساء اليهود وأحبارهم الذين كانوا يصيبون من عامتهم الهدايا والمآكل، وكانوا يمنون أنفسهم بأن يكون النبي المنتظر الموصوف عندهم في التوراة منهم، أشفقوا على ذهاب ما كان يترادف عليهم من نعماء، مما يؤدي بالتالي الى زوال رئاستهم فعمدوا الى كتمان أمره (يَكْتُمُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الموصول (ما) اسم موصول مفعول به ليكتمون (أَنْزَلَ اللَّهُ) فعل وفاعل والجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة ما (مِنَ الْكِتابِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف العائد على الموصول تقديره: ما أنزله الله حال كونه من الكتاب (وَيَشْتَرُونَ) الواو عاطفة ويشترون جملة معطوفة على جملة أنزل الله (بِهِ) الجار والمجرور متعلقان بيشترون (ثَمَناً) مفعول به (قَلِيلًا) صفة (أُولئِكَ) اسم الاشارة مبتدأ (ما) نافية (يَأْكُلُونَ) فعل مضارع مرفوع والجملة خبر اسم الاشارة (فِي بُطُونِهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بيأكلون لأنها ظروف للأكل (إِلَّا) أداة حصر (النَّارَ) مفعول به. وجملة أولئك ما يأكلون خبر إن (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ) الواو عاطفة والجملة معطوفة على جملة ما يأكلون (يَوْمَ الْقِيامَةِ) الظرف متعلق بيكلمهم (وَلا يُزَكِّيهِمْ) الجملة عطف على جملة لا يكلمهم الله (وَلَهُمْ) الواو حرف عطف والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (عَذابٌ) مبتدأ مؤخر (أَلِيمٌ) صفة (أُولئِكَ) اسم الاشارة مبتدأ (الَّذِينَ) اسم موصول خبر (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) الجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الموصول، وقد تقدمت بحروفها (وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ) عطف على الضلالة بالهدى، والمتروك ما دخلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 عليه الباء (فَما) الفاء الفصيحة كأنها أفصحت عن مصيرهم العجيب، وما نكرة تامة بمعنى شيء للتعجب في محل رفع مبتدأ على الأصح، وإنما قلنا على الأصح دفعا لما تخبط به النحاة من أوجه لا طائل تحتها إلا التكلف، (أَصْبَرَهُمْ) فعل ماض جامد لإنشاء التعجب وفاعله ضمير مستتر وجوبا هنا خاصة والهاء مفعول به، والجملة الفعلية خبر ما (عَلَى النَّارِ) الجار والمجرور متعلقان بأصبرهم (ذلِكَ) اسم الاشارة مبتدأ (بِأَنَّ اللَّهَ) الباء حرف جر، وأن وما في حيزها في محل جر بالباء والجار ومجروره خبر اسم الاشارة، ومعنى الباء السببية، وأن واسمها (نَزَّلَ الْكِتابَ) فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله تعالى والكتاب مفعول به والجملة الفعلية خبر أن، أي ذلك العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب (بِالْحَقِّ) الجار والمجرور متعلقان بنزل أو بمحذوف حال (وَإِنَّ الَّذِينَ) الواو عاطفة أو حالية وإن واسمها (اخْتَلَفُوا) الجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الموصول (فِي الْكِتابِ) الجار والمجرور متعلقان باختلفوا (لَفِي شِقاقٍ) اللام هي المزحلقة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر إن (بَعِيدٍ) صفة. البلاغة: 1- الاستعارة التصريحية في اشتراء الضلالة بالهدى، وقد تقدمت الآية بحروفها. 2- المجاز المرسل في أكل النار، والعلاقة هي السببية، فقد جعل ما هو سبب للنار نارا. 3- التعريض: في عدم تكليم الله إياهم بحرمانهم حال أهل الجنة وتزكيتهم بكلامه تعالى. والتعريض ضرب من الكناية، لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الكناية إذا كانت عرضية مسوقة لأجل موصوف غير مذكور كان المناسب أن يطلق عليها اسم التعريض. ومن طريف هذا الفنّ قول أبي الطيب المتنبي وهو يرمق سماء القرآن العالية: أبا المسك هل في الكأس فضل أناله ... فإني أغني منذ حين وتشرب يخاطب كافورا الاخشيديّ فيقول: مديحي إياك يطربك كما يطرب الغناء الشارب، فقد حان أن تسقيني من فضل كأسك. 4- المقابلة في المطابقة بين الضلالة والهدى وبين العذاب والمغفرة. والمقابلة فن دقيق المسلك لا يسلكه إلا خبير بأساليب الكلام، وإلا كان تكلفا ممقوتا. وقد بلغ أبو الطيب فيه الغاية بقوله: أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي فقد طابق بين أزور وأنثني وبين سواد وبياض وبين الليل والصبح وبين يشفع ويغري وبين لي وبي. ومنه قول ابن زيدون: سرّان في خاطر الظلماء يكتمنا ... حتى يكاد لسان الصبح يفشينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 [سورة البقرة (2) : آية 177] لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) اللغة: (ابْنَ السَّبِيلِ) : المسافر وإنما قيل له: ابن السبيل لملازمته الطريق. كما يقال لطبر الماء ابن الماء لملازمته إياه، وللرجل الذي أتت عليه الدهور ابن الأيام والليالي. الإعراب: (لَيْسَ) فعل ماض جامد ناقص، وإنما جمّدت لأن لفظها لفظ المضيّ، ومعناها نفي الحال، فلم يتكلف لها بناء آخر، فاستعملت على لفظ واحد، ولأنها خالفت بقية الافعال في أنها وضعت سالبة للمعنى. والافعال ليس من أصلها أن توضع لسلب المعنى، وإنما توضع لإيجابه، فتنزّلت منزلة الحرف فجمدت ولم تتصرّف. والدليل على أنها فعل اتصال الضمائر المرفوعة بها كاتصالها ببقية الافعال. وأصلها في الوزن ليس على وزن فعل بكسر العين، ولولا إلزام ياء ليس السكون حتى صارت في حكم ياء ليت لوجب في حكم التصريف قلبها ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فيكون اللفظ بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 يصير «لاس» كما تقول هاب في الماضي من لفظ الهيبة (الْبِرَّ) خبر ليس المقدم (أَنْ تُوَلُّوا) أن حرف مصدري ونصب، وتولوا فعل مضارع منصوب بأن والمصدر المنسبك من أن وما في حيّزها اسم ليس المؤخر، وقرىء برفع البر على أنه اسم ليس وان تولوا خبرها (وُجُوهَكُمْ) مفعول به (قِبَلَ) ظرف مكان متعلق بتولوا (الْمَشْرِقِ) مضاف اليه (وَالْمَغْرِبِ) عطف على المشرق (وَلكِنَّ) الواو حرف عطف ولكن حرف مشبه بالفعل (الْبِرَّ) اسمها (مَنْ آمَنَ) من اسم موصول خبر لكن، ولا بد من تأويل حذف المضاف، أي بر من آمن، ويسكن أن يقال: لا حذف وإنما جعل البر نفس من آمن للمبالغة، وجملة آمن صلة لا محل لها (بِاللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بآمن (وَالْيَوْمِ) عطف على الله (الْآخِرِ) صفة (وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) عطف أيضا على الله (وَآتَى) فعل ماض معطوف على آمن داخل في حيّز الصلة وفاعله ضمير مستتر تقديره هو (الْمالَ) مفعول به (عَلى حُبِّهِ) الجار والمجرور في موضع نصب على الحال، والمصدر مضاف الى مفعوله، أي مع حبه (ذَوِي الْقُرْبى) مفعول آتى وعلامة نصبه الياء لأنه جمع ذي بمعنى صاحب. والقربى مضاف إليه، (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ) كلها معطوفة على ذوي (وَفِي الرِّقابِ) الجار والمجرور معطوف أيضا، أي وآتى المال في فكّها من الأسر أو إعتاقها (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) عطف على آتى المال (وَالْمُوفُونَ) عطف على «من آمن» ولك أن تعربه خبرا لمبتدأ محذوف لبعده، أي هم الموفون (بِعَهْدِهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بالموفون لأنه جمع مو في وهو اسم فاعل من أوفى (إِذا) ظرف متعلق بالموفون (عاهَدُوا) فعل وفاعل والجملة الفعلية في محل جر بالاضافة لوقوعها بعد الظرف (وَالصَّابِرِينَ) كان سياق الكلام أن يكون منسوفا على ما تقدم، ولكنه قطعه عن العطف ونصبه على المدح بفعل محذوف تقديره أمدح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 إشعارا بفضل الصبر وتنويها بذلك الفضل (فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) الجار والمجرور متعلقان بالصابرين وهما مصدران جاءا على وزن فعلاء وليس لهما أفعل، أو هما اسمان للمصدر بمعنى البؤس والضرّ، يقعان على المذكر والمؤنث، ومثلهما أشأم من قول زهير بن أبي سلمى يصف الحرب: فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم يعني: فتنتج لكم غلمان شؤم (وَحِينَ الْبَأْسِ) ظرف زمان متعلق بالصابرين والبأس مضاف إليه، وهو شدة القتال في سبيل الله (أُولئِكَ) اسم إشارة مبتدأ (الَّذِينَ) اسم موصول خبر (صَدَقُوا) الجملة من الفعل والفاعل لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَأُولئِكَ) الواو استئنافية أو عاطفة وأولئك مبتدأ (هُمُ) ضمير فصل أو عماد لا محل له أو مبتدأ نان (الْمُتَّقُونَ) خبر أولئك، أو هم، والجملة الاسمية خبر أولئك. البلاغة: في هذه الآية فنون شتى من البلاغة منها: 1- فنّ الإيجاز بحذف المضاف في قوله: ولكن البر من آمن، أو فن المبالغة إذا جعلناه نفس البر. 2- المجاز المرسل في قوله: «وفي الرقاب» والعلاقة الجزئية بذكر الجزء وإرادة الكل. 3- قطع التابع عن المتبوع وضابطه أنه إذا ذكرت صفات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 للمدح أو الذم خولف في الإعراب تفننا في الكلام واجتلابا للانتباه بأن ما وصف به الموصوف أو ما أسند إليه من صفات جدير بأن يستوجب الاهتمام، لأن تغيير المألوف المعتاد يدل على زيادة ترغيب في استماع المذكور ومزيد اهتمام بشأنه. والآية مثال لقطع التابع عن المتبوع في حال المدح، وأما مثاله في حال الذم فهو قوله تعالى في سورة تبّت (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) فقد نصب حمالة على الذم وهي في الحقيقة وصف لامرأته وسيأتي. [سورة البقرة (2) : الآيات 178 الى 179] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) اللغة: (كُتِبَ) : فرض، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جرّ الذّيول الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها (كُتِبَ) فعل ماض مبني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 للمجهول (عَلَيْكُمُ) الجار والمجرور متعلقان بكتب (الْقِصاصُ) نائب فاعل (فِي الْقَتْلى) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال. ولك أن تعلقهما بالقصاص. وجملة النداء وما تلاه مستأنفة مسوقة لبيان حكم القصاص في عرف الشرع (الْحُرُّ) مبتدأ (بِالْحُرِّ) متعلقان بمحذوف خبر (وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) عطف على ما تقدم والجملة الاسمية لا محل لها لأنها مفسرة (وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) عطف أيضا (فَمَنْ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن بعض التفاصيل التي تخطر على البال، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ (عُفِيَ) فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط (لَهُ) الجار والمجرور متعلقان بعفي (مِنْ أَخِيهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي حالة كونه من دم أخيه (شَيْءٌ) نائب فاعل عفي (فَاتِّباعٌ) الفاء رابطة لجواب الشرط لأنه جملة اسمية، واتباع مبتدأ خبره محذوف مقدم عليه، أي فعليه اتباع. والجملة في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر من (بِالْمَعْرُوفِ) الجار والمجرور متعلقان باتباع (وَأَداءٌ) عطف على اتباع (إِلَيْهِ) متعلقان بأداء (بِإِحْسانٍ) متعلقان بمحذوف حال (ذلِكَ) اسم الاشارة مبتدأ (تَخْفِيفٌ) خبر (مِنْ رَبِّكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة والجملة مستأنفة (وَرَحْمَةٌ) عطف على تخفيف (فَمَنْ) الفاء الفصيحة ومن شرطية مبتدأ (اعْتَدى) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط (بَعْدَ ذلِكَ) الظرف متعلق باعتدى (فَلَهُ) الفاء رابطة لجواب الشرط لأنه جملة اسمية، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (عَذابٌ) مبتدأ مؤخر (أَلِيمٌ) صفة لعذاب، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر من (وَلَكُمْ) الواو استئنافية وما بعدها جملة مستأنفة مسوقة لبيان الحكمة في مشروعية القصاص، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (فِي الْقِصاصِ) الجار والمجرور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 متعلقان بمحذوف حال (حَياةٌ) مبتدأ مؤخر (يا) حرف نداء (أُولِي الْأَلْبابِ) منادى مضاف منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والألباب مضاف إليه (لَعَلَّكُمْ) لعل واسمها (تَتَّقُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة في محل رفع خبر لعل وجملة الرجاء حال. البلاغة: في آية القصاص سموّ بياني منقطع النظير لأنها تنطوي على فنون عديدة ندرجها فيما يلي: 1- الإيجاز: فقد كان العرب يتباهون بقولهم: «القتل أنفى للقتل» فجاءت آية القرآن وهي «في القصاص حياة» أكثر إيجازا وأرشق تعبيرا لأنها أربع كلمات وهي «في، ال، قصاص، حياة» وقول العرب ست وهي «ال، قتل، أنفى، وضميره لأنه اسم مشتق، اللام، قتل» ولأن حروفها الملفوظة الثابتة وقفا ووصلا أحد عشر حرفا وحروف قول العرب أربعة عشر حرفا. 2- المجاز المرسل في قوله: «في القصاص حياة» فقد جعل ما هو تفويت للحياة وذهاب بها ظرفا لها إذ القصاص مزجرة قوية عن إقدام الناس على القتل، فارتفع بسببه القتل عن الناس، وارتفاع سبب الموت ديمومة للحياة السابقة. 3- تعريف القصاص وتنكير الحياة، أي انه كان لكم في هذا الجنس من القصاص حياة عظيمة لا تدركون كنهها، لأن القاتل يرتدع عن القتل فتصان بذلك حياة الابرياء، ويزدجر البغاة، ومن ركزت في نفوسهم طبيعة الاجرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 4- تعجيل الترغيب والتشويق بذكر الحياة وبها يتنسم السامع رائحة الحياة وطيبها وحلاوتها لأنها أتت نتيجة حتمية للقصاص بعكس كلمة العرب التي تبتدئ بذكر الموت وقد رمق أبو الطيب سماء هذا المعنى ببيته الخالد: إلف هذا الهواء أوقع في الأنفس أنّ الحمام مرّ المذاق 5- الطباق بين الحياة والموت للمفارقة بين الضّدّين ولا يظهر حسن الضدّ إلا الضد على حد قول صاحب اليتيمة متغزلا: فالوجه مثل الصّبح مبيضّ ... والفرع مثل الليل مسودّ ضدّان لما استجمعا حسنا ... والضّدّ يظهر حسنه الضدّ وقد جاء القصاص في الآية، وهو في الأصل تعبير عن الموت محلا لضده وهو الحياة. 6- التنكير في الحياة يدل على أن في هذا الجنس البشري نوعا من الحياة يتميّز عن غيره ولا يستطيع الوصف أن يبلغه، لأنهم كانوا يقتلون الجماعة بالواحد فتهيج الفتنة وتستشري بينهم، ففي شرع القصاص سلامة ومنجاة من هذا كله. 7- التعميم الذي يتجاوز التخصيص، فليس القتل وحده سبب القصاص ولكن ينتظم فيه جميع الجروح والشّجاج، لأن الجارح إذا علم أنه إذا جرح جرح صار ذلك سببا لبقاء الجارح والمجروح، وربما أفضت الجراحة الى الموت، فيقتصّ من الجارح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 8- ليس في قول العرب كلمة يجتمع فيها حرفان متحركان إلا في موضع واحد، بل كلها أسباب خفيفة أكثرها متوالية، وذلك ينقص من سلامة الكلمة وجريانها على اللسان، بخلاف آية القرآن 9- المقصود الاصلي الذي هو الحياة مصرّح به في الآية، ومدلول عليه بالالتزام في كلمة العرب. 10- الاطراد في الآية دون قولهم إذ يوجد قتل لا ينفي القتل بل يكون أدعى له، كالقتل ظلما. وإنما يطرد إذا كان على وجه القصاص وهو مشتق من اطرد الماء وهو جريه من غير توقف. 11- خلو الآية مما يكره من لفظ القتل وما يجسده من سيل الدماء وتمزّق الاشلاء. 12- خلوّ الآية من التكرار مع التقارب واتحاد المعنى والتئامه. 13- خلوّ الآية من تكرار قلقلة القاف. 14- شمول الآية لحكم الجرح في الأطراف. 15- المبالغة في القصاص ظرف للحياة، ففيه جعل نقيض الشيء منبعا له، فكأنه يحيط به تفاديا لفواته. [سورة البقرة (2) : الآيات 180 الى 182] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 اللغة: (الجنف) بفتحتين: مصدر جنف كفرح أي مال عن الحقّ وانحرف به. الإعراب: (كُتِبَ) : فعل ماض مبني للمجهول (عَلَيْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بكتب والجملة مستأنفة لا محل لها (إِذا) ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب المحذوف أي فليوص (حَضَرَ) فعل ماض مبني على الفتح (أَحَدَكُمُ) مفعول به مقدم (الْمَوْتُ) فاعل مؤخر والجملة الفعلية في محل جر بالاضافة (إِنْ) حرف شرط جازم يجزم فعلين (تَرَكَ) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله ضمير مستتر تقديره هو (خَيْراً) مفعول به أي مالا، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب إذا المحذوف أي فليوص (الْوَصِيَّةُ) نائب فاعل لكتب وجاز تذكير الفعل لأن الوصية مؤنث مجازي ولوجود الفاصل بينهما (لِلْوالِدَيْنِ) جار ومجرور متعلقان بالوصية (وَالْأَقْرَبِينَ) عطف على قوله للوالدين (بِالْمَعْرُوفِ) أي بالعدل والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، أي عادلا غير جائر فلا يوصي للغني ويدع الفقير (حَقًّا) مصدر مفعول مطلق مؤكد لمضمون الجملة قبله، وهي كتب عليكم الوصية. وقيل: هو مصدر مبين للنوع بدليل قوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 (عَلَى الْمُتَّقِينَ) الجار والمجرور متعلقان بحقا والمصدر المؤكد لا يعمل ولا يزيد على ما قبله معنى (فَمَنْ) الفاء استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لذكر حكم يتعلق بالأوصياء والشهود، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ (بَدَّلَهُ) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) بعد ظرف زمان، وما مصدرية منسبكة مع الفعل بعدها بمصدر مضاف إليه أي بعد سماعه إياه وتحققه منه، والضمير يعود على الحكم (فَإِنَّما) الفاء رابطة لجواب الشرط وانما كافة ومكفوفة (إِثْمُهُ) مبتدأ (عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر وجملة يبدلونه لا محل لها لأنها صلة الموصول، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر من (إِنَّ اللَّهَ) ان واسمها (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) خبران لإن، والجملة مستأنفة مسوقة لوعيد المبدّل (فَمَنْ) الفاء استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لوعيد المنحرف عن الحق، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ (خافَ) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله هو يعود على من، ومعنى الخوف هنا التوقع، كقولك: أخاف أن ترسل السماء مطرها، تريد التوقع والظن الذي يقوم مقام العلم (مِنْ مُوصٍ) الجار والمجرور متعلقان بقوله: جنفا لأنه مصدر (جَنَفاً) مفعول به (أَوْ) حرف عطف (إِثْماً) عطف على قوله جنفا (فَأَصْلَحَ) الفاء حرف عطف وأصلح فعل ماض معطوف على خاف، وفاعله ضمير مستتر تقديره هو (بَيْنَهُمْ) ظرف مكان متعلق بأصلح أي بين الموصي والموصى إليهم (فَلا) الفاء رابطة لجواب الشرط ولا نافية للجنس (إِثْمَ) اسم لا المبني على الفتح (عَلَيْهِ) الجار والمجرور متعلقا بمحذوف خبر لا، والجملة المرتبطة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر من (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ان واسمها وخبراها، والجملة تعليل لرفع الإثم لا محل لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 البلاغة: 1- إقامة الظاهر مقام المضمر لزيادة الاهتمام بشأنه، ولو جرى على نسق الكلام السابق لقال: فإنما إثمه عليه وعلى من يبدله. وذلك للتشهير والمناداة بفضائح المبدلين. 2- المجاز المرسل في قوله: خاف. فقد جاءت بمعنى الظن والتوقع، والعلاقة في هذا المجاز السببية، لأنه تعبير عن السبب بالمسبب. [سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 185] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 اللغة: (الصِّيامُ) في اللغة الإمساك عن الطعام والشراب والكلام والنكاح والسير، وله مصدران: صوم وصيام، وصامت الريح: ركدت، وصامت الشمس: كبدت أي كانت في كبد السماء، وصامت الدّابّة: أمسكت عن الجري، قال النابغة الذبياني: خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما أي ممسكة عن الجري ثم خصّصه الإسلام بالمعنى المعروف له. (رمضان) : في الأصل مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء، فأضيف إليه وجعل علما ومنع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون، والمناسبة بين معناه وعبادة الصائم واضحة والعرب يضيفون لفظ شهر الى كل من أسماء الشهر المبتدئة براء كربيع ورمضان ولم يستثن من ذلك سوى رجب فلا يضيفون اليه لفظ شهر وقد نظم بعضهم ذلك فقال: ولا تضف شهرا الى اسم شهر ... إلّا لما أوّله الرّا فادر واستثن منه رجبا فيمتنع ... لأنه فيما رووه قد سمع والمسألة على كل حال خلافية فعليك بالأحوط. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها (كُتِبَ) فعل ماض مبني على الفتح وهو مبني للمجهول أي فرض (عَلَيْكُمُ) الجار والمجرور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 متعلقان بكتب (الصِّيامُ) نائب فاعل كتب (كَما كُتِبَ) تقدم إعرابها، والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف أو حال كما اختاره سيبويه (عَلَى الَّذِينَ) الجار والمجرور متعلقان بكتب (مِنْ قَبْلِكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول وجملة النداء وما تلاها مستأنفة مسوقة لبيان مشروعية الصيام (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) جملة الرجاء حالية وجملة تتقون خبر لعل (أَيَّاماً) ظرف متعلق بالصيام في الظاهر ولكن فيه فصلا بين المصدر وصلته، وقد منع النحاة ذلك، ولهذا نرجح نصبه بفعل محذوف يدل عليه ما قبله والتقدير صوموا أياما (مَعْدُوداتٍ) صفة للأيام وعلامة نصبه الكسرة لأنه جمع مؤنث سالم، والتنوين يفيد القلة تسهيلا على المكلفين (فَمَنْ) الفاء الفصيحة ومن اسم شرط جازم مبتدأ (كانَ) فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط واسمها ضمير مستتر تقديره هو (مِنْكُمْ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (مَرِيضاً) خبر كان (أَوْ) حرف عطف (عَلى سَفَرٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف معطوف على «مريضا» والاستعلاء جميل هنا أي مستعليا على السفر مليا به، فهو حال أيضا (فَعِدَّةٌ) الفاء رابطة لجواب الشرط وعدة مبتدأ خبره محذوف أي فعليه عدة، أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره فالحكم عدة، والجملة الاسمية المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر من (مِنْ أَيَّامٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لعدة (أُخَرَ) صفة لايام وعلامة جره الفتحة لانه ممنوع من الصرف، وسيأتي حكمه في باب الفوائد (وَعَلَى الَّذِينَ) الواو عاطفة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (يُطِيقُونَهُ) فعل مضارع والواو فاعل والهاء مفعول به والجملة لا محل لها لانها صلة الموصول أي يتكلفونه بجهد ومشقة (فِدْيَةٌ) مبتدأ مؤخر (طَعامُ مِسْكِينٍ) بدل مطابق من فدية ومسكين مضاف اليه (فَمَنْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 الفاء استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ (تَطَوَّعَ) فعل ماض وهو فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره هو (خَيْراً) منصوب بنزع الخافض أي بالزيادة على القدر المذكور في الفدية، ولك أن تعربه صفة لمصدر محذوف فهو مفعول مطلق نابت عنه صفته أي تطوعا خيرا (فَهُوَ) الفاء رابطة لجواب الشرط لانه جملة اسمية، وهو مبتدأ (خَيْرٌ) خبر (لَهُ) الجار والمجرور متعلقان بخير لانه اسم تفضيل ورد على غير القياس، والجملة الاسمية المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَأَنْ تَصُومُوا) الواو استئنافية مسوقة لتقرير الافضلية، وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مبتدأ (خَيْرٌ) خبره (لَكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بخير (أَنْ) شرطية (كُنْتُمْ) فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها (تَعْلَمُونَ) الجملة الفعلية في محل نصب خبر كنتم، وجواب الشرط محذوف، وقد تقدمت نماذج له، والجملة الشرطية تفسيرية للخبرية كأنه قال: شرع لكم هذه الاحكام جميعها إيثارا لخيركم، فإن شئتم الخير فافعلوها ولا تخلوا بها (شَهْرُ رَمَضانَ) خبر لمبتدأ محذوف ورمضان مضاف اليه (الَّذِي) صفة لشهر (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) الجملة الفعلية لا محل لها لانها صلة الموصول، والقرآن نائب فاعل (هُدىً) حال أي هاديا (لِلنَّاسِ) الجار والمجرور متعلقان بهدى أو صفة لهدى (وَبَيِّناتٍ) عطف على هدى فهو حال أيضا (مِنَ الْهُدى) صفة لبينات (وَالْفُرْقانِ) عطف على الهدى، أي الفارق بين الحق والباطل (فَمَنْ) الفاء الفصيحة أي إذا شئتم معرفة حكم التشريع فيه، ومن اسم شرط جازم مبتدأ (شَهِدَ) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله مستتر يعود على من (مِنْكُمُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (الشَّهْرَ) منصوب على الظرفية ولا يكون مفعولا به لانه المقيم والمسافر كلاهما شاهد للشهر (فَلْيَصُمْهُ) الفاء رابطة لجواب الشرط لان الجملة طلبية واللام لام الأمر ويصم فعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 مضارع مجزوم باللام والهاء ضمير الظرف ولا ينصب على الظرفية ولا يجوز أن يكون مفعولا به فهو منصوب بنزع الخافض أي فليصم فيه والجملة الطلبية في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَمَنْ) الواو عاطفة من اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ (كانَ) فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط واسمها ضمير مستتر تقديره هو (مَرِيضاً) خبر كان (أَوْ عَلى سَفَرٍ) عطف على «مريضا» وقد تقدم القول به فجدد به عهدا (فَعِدَّةٌ) الفاء رابطة لجواب الشرط وعدة مبتدأ خبره محذوف أي فعليه عدة، والجملة في محل جزم جواب الشرط (مِنْ أَيَّامٍ) متعلقان بمحذوف صفة لعدة (أُخَرَ) صفة لايام مجرور بالفتح لانه ممنوع من الصرف وسيأتي حكمه (يُرِيدُ اللَّهُ) فعل مضارع وفاعله والجملة لا محل لها لانها تعليل كما سيأتي في باب البلاغة (بِكُمُ) الجار والمجرور متعلقان بيريد (الْيُسْرَ) مفعول به (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) الجملة عطف على سابقتها (وَلِتُكْمِلُوا) الواو عاطفة واللام لام التعليل، تكلموا فعل مضارع منصوب بأن المضمرة بعدها واللام ومجرورها متعلقان بفعل محذوف أي شرع (الْعِدَّةَ) مفعول به (وَلِتُكَبِّرُوا) عطف على قوله لتكملوا (اللَّهُ) نصب لفظ الجلالة على نزع الخافض أي لله ولك أن تعربه مفعولا به على تضمين تكبروا معنى تحمدوا والدليل عليه قوله (عَلى ما هَداكُمْ) فالتعدي بالاستعلاء لا يكون إلا للحمد وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بعلى، والجار والمجرور متعلقان بتكبروا أي على هدايته إياكم (وَلَعَلَّكُمْ) عطف على ما تقدم ولعل واسمها (تَشْكُرُونَ) الجملة خبر لعل. البلاغة: اللف والنشر، في قوله تعالى «يريد الله بكم اليسر» إلخ.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وهو يبدو هنا كأخذة السحر لا يملك معه البليغ أن يأخذ أو يدع وقلّ من ينتبه له، فقوله: «لتكملوا العدة» علة للأمر بمراعاة العدة، وقوله: «ولتكبروا الله» علة للأمر بالقضاء، وقوله: «ولعلكم تشكرون» علة للترخيص والتيسير، وقد تقدم القول فيه، ونزيده بسطا فنقول: انه ضربان: أولهما أن يكون النشر على ترتيب اللف، وثانيهما أن يكون على غير ترتيب اللف، ويعتمد فيه على ذكاء السامع وذوقه، وسيأتي منه ما يخلب العقول. الفوائد: (أُخَرَ) تكون على نوعين: - جمع أخرى تأنيث آخر وهي اسم تفضيل لا ينصرف لعلتين هما الوصفية والعدل، ومعنى العدل أنه عدل عن الالف واللام، وذلك أنها اسم تفضيل ولاسم التفضيل ثلاث حالات: آ- مقترن بأل. ب- مقترن بمن الجارة. ج- مضاف. ولما كانت أخر لم تقترن بشيء وليست مضافة قدر عدلها عن الالف واللام. - جمع أخرى بمعنى آخرة وهي منصرفة لفقدان علة العدل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 مناقشة لا بد منها: اختلف المفسرون في تأويل قوله تعالى: «وعلى الذين يطيقونه» إلخ اختلافا شديدا لا يتسع المجال للاسهاب فيه، فنقتبس ما قالوه بطريق الإلماع، ثم ندلي بما عنّ لنا والله الملهم الى السّداد. القول بالنسخ: فمنهم من قال: ان الحكم فيها منسوخ بالآية بعدها «فمن شهد منكم الشهر فليصمه» والرخصة فيها للمريض والمسافر، وهو ما اختاره الامام الطّبري في تفسيره الكبير ونقله الزمخشري في كشافه وأبو حيان في البحر، مع التصريح بأن هذا قول أكثر المفسرين، على أن الامام الطّبري نقل كذلك قول من قالوا، لم ينسخ ذلك وهو حكم مثبت من لدن نزلت هذه الاية الى قيام الساعة. رأي ابن كثير: واحترز ابن كثير فقال بعد تلخيص أقوال المفسرين قبله: فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بايجاب الصيام عليه، وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام فله أن يفطر ولاقضاء عليه لأنه ليست له حال يصير إليها ويتمكن من القضاء. الزمخشري متردّد: وتردد الزمخشري بين القول بالنسخ وبين أن يكون تأويل الاية على تقدير: «ومن يتكلفونه على جهد منهم وعسر، وهم الشيوخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 والعجائز، وحكم هؤلاء الإفطار والفدية» وهو على هذا الوجه غير منسوخ. ومشكلة زيادة لا: على أن القائلين بعدم النسخ ذهبوا في تأويل الآية مذاهب شتى، فمنهم من صرح بأنها على تقدير حذف «لا» النافية، وهي مرادة، ونقلوا عن ابن عباس قوله: «لا رخصة الا للذي لا يطيق الصوم» ، وعن عطاء: «هو الكبير الذي لا يستطيع بجهد ولا بشيء من الجهد، وأما من استطاع بجهد فليصم ولا عذر له في تركه» ، وقال ابو حيان في البحر: «وجوز بعضهم أن تكون «لا» محذوفة فيكون الفعل منفيا وتقديره: «وعلى الذين لا يطيقونه» حذف «لا» وهي مرادة. أبو حيان يخطّىء القائلين بالحذف: واستطرد أبو حيان معقبا فقال: «وتقدير «لا» خطأ. لانه مكان اليأس، وعلى ذلك درج الجلال» . الفقهاء لا يختلفون في جواز الفطر للشيخ والمريض: ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في جواز الفطر والفدية للشيخ الهرم والمريض الذي لا يرجى برؤه، لكنهم اختلفوا في المرضع والحامل قياسا على الشيخ الهرم فالإمام الشافعي قال بالفدية قياسا على الشيخ الهرم، وأوجب عليهما القضاء مع الفدية أما الامام أبو حنيفة فأوجب على الحامل والمرضع- إذا خافتا على الوليد- القضاء لا الفدية، وأبطل القياس على الشيخ الهرم لانه لا يجب عليه القضاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 نستبعد حذف لا: على أننا نستبعد أن تكون لا محذوفة هنا وهي مرادة، فالآية من آيات التشريع والأحكام، والفعل فيها مثبت، وتأويلها على تقدير «لا» محذوفة ينقض الإثبات بالنفي ولو كانت الفدية على من لا يطيقونه لأخذ حرف النفي مكانه في نص الحكم الشرعي، ولم يدع لنا مجالا للاختلاف على تأويله بين النقيضين من اثبات ونفي أما الطاقة فهي في العربية أقصى الجهد ونهاية الاحتمال واستعمال القرآن الطاقة اسما وفعلا يؤذن بأنها مما يستنفد الجهد وطاقة الاحتمال، كما تشهد بذلك آياتها الثلاث، وكلها من سورة البقرة. 1- «قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده» . 2- «ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به» . 3- «وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين» . فندرك أن الأمر في احتمال الصوم إذا جاوز الطاقة، وخرج الى ما لا يطاق سقط التكليف لانه لا تكليف شرعا بما لا يطاق، والله سبحانه لا يكلف نفسا الا وسعها. 3- قد يشرب العرب لفظا معنى لفظ، فيعطى حكمه ويسمى ذلك تضمينا، كما ضمن «لتكبدوا» معنى «تحمدوا» ومنه قول الفرزدق: كيف تراني قالبا مجني؟ ... قد قتل الله زيادا عنّي فضمن «قتل» معنى «صرف» «الصرف» وذلك كثير في كلامهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 [سورة البقرة (2) : الآيات 186 الى 187] وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) اللغة: (الرفث) بفتحتين: كلام يقع وقت الجماع بين الرجال والنساء، يستقبح ذكره في وقت آخر، وأطلق على الجماع للزومه له غالبا، وفي المصباح: «رفث في منطقه رفثا من باب طلب، ويرفث بالكسر لغة. والرفث: النكاح لقوله تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث الى نسائكم» . وفي الأساس واللسان: وقيل: الرفث بالفرج الجماع، وباللسان المواعدة للجماع، وبالعين الغمز للجماع. والأصل في تعدية الرفث بالباء، وانما جاءت تعدية في الآية بإلى لتضمينه معنى الإفضاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 (تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) : تخونون أنفسكم وتنقصونها حظها من الخير، واشتقاق الاختيان من الخيانة كالاكتساب من الكسب وفيه زيادة وشدّة. الإعراب: (وَإِذا) الواو استئنافية والجملة استئنافية مسوقة لبيان أنه سبحانه يجيب كل من دعاه (سَأَلَكَ) فعل ماض والكاف مفعوله (عِبادِي) فاعل والجملة في محل جر بالاضافة (عَنِّي) الجار والمجرور متعلقان بسألك (فَإِنِّي) الفاء رابطة لجواب وان واسمها (قَرِيبٌ) خبرها والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (أُجِيبُ) فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر تقديره أنا والجملة الفعلية خبر ثان (دَعْوَةَ) مفعول به (الدَّاعِ) مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة المقدرة على الياء المحذوفة، وقد جرت عادة القراء على إسقاط الياء من الداع ودعاني لأنها لم تثبت لها صورة عندهم في المصحف، فمن القراء من أسقطها تبعا للرسم وقفا ووصلا، ومنهم من أثبتها في الحين ومنهم من أثبتها وصلا وحذفها وقفا (إِذا) الظرف متعلق بأجيب (دَعانِ) الجملة في محل جر بالاضافة (فَلْيَسْتَجِيبُوا) الفاء الفصيحة واللام لام الأمر ويستجيبوا فعل مضارع مجزوم بلام الأمر أي فليطلبوا إجابتي لأن السين والتاء في استفعل للطلب، والمعنى فليستجيبوا إلي بالطاعة، يقال منه: استجبت له واستجبته بمعنى أجبته قال: وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 (لِي) الجار والمجرور متعلقان بيستجيبوا (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) عطف على قوله فليستجيبوا لي (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) لعلّ واسمها، وجملة الرجاء حالية (أُحِلَّ) فعل ماض مبني للمجهول (لَكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بأحل (لَيْلَةَ الصِّيامِ) الظرف ظاهر الكلام أنه متعلق بأحل، وقد أعربه الكثيرون كذلك، وفيه أن الإحلال ثابت قبل ذلك الوقت، فالأولى تقديره بمحذوف مدلول عليه بلفظ الرفث، أي أن ترفثوا، ولم نعلقه بالرفث لأن فيه تقديم معمول الصلة المفهومة من ال على الموصول (الرَّفَثُ) نائب فاعل لأحل (إِلى نِسائِكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بالرفث وجملة أحل وما تلاها مستأنفة مسوقة لإزالة اللبس. وإيضاح ذلك أنه كان في مستهل الأمر إذا أفطر الرجل حلّ له الطعام والشراب والجماع الى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد قلبها. فإذا صلاها أو رقد حرم عليه ذلك الى الليلة القابلة. ثم إن عمر بن الخطاب واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله إني أعتذر الى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة، وأخبره بما فعل، فقال عليه الصلاة والسلام: ما كنت جديرا بذلك يا عمر. فنزلت (هُنَّ) ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (لِباسٌ) خبر (لَكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لباس والجملة مفسرة لا محل لها لبيان سبب الإحلال (وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ) عطف على سابقتها (عَلِمَ اللَّهُ) الجملة تعليل لسبب نزول الآية (أَنَّكُمْ) أن واسمها (كُنْتُمْ) فعل ماض ناقص والتاء اسمها (تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) الجملة الفعلية خبر كنتم. وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي علم (وَعَفا عَنْكُمْ) عطف على جملة علم الله (فَالْآنَ) عطف على محذوف مقدر أي فتبتم فتاب عليكم والآن ظرف زمان متعلق بباشروهنّ (بَاشِرُوهُنَّ) فعل أمر وفاعل ومفعول به (وَابْتَغُوا) عطف على باشروهن (ما) اسم موصول في محل نصب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 مفعول به (كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة ما (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) الواو استئنافية مسوقة لتعميم الحكم، نزلت في صرمة بن قبس، وذلك أنه كان يعمل في أرض له وهو صائم، فلما أمسى رجع الى أهله فقال: هل عندك من طعام؟ فقالت: لا، وأخذت تصنع له طعاما، فأخذه النوم من التعب، فكره أن يأكل خوفا من الله، فأصبح صائما مجهودا في عمله مكدودا، فلم يكد ينتصف النهار حتى غشي عليه، فلما أفاق أتى الى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما وقع، فنزلت الآية (حَتَّى) حرف غاية وجر (يَتَبَيَّنَ) فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى، والمصدر المنسبك من أن والفعل متعلقان بكلوا (لَكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بيتبين (الْخَيْطُ) فاعل (الْأَبْيَضُ) صفة، وهو أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود (مِنَ الْخَيْطِ) الجار والمجرور متعلقان بيتبين، وجاز تعليق الحرفين بفعل واحد وإن اتحد لفظاهما لاختلاف معنييهما (الْأَسْوَدِ) صفة (مِنَ الْفَجْرِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، أي حال كون الأبيض هو الفجر. روى البخاري ومسلم عن عدي ابن حاتم قال: لما نزلت عمدت الى عقال أسود وعقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي، وجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فقال: إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار. وسيأتي مزيد بيان لذلك في باب البلاغة. (ثُمَّ أَتِمُّوا) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي، وأتموا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (الصِّيامِ) مفعول به (إِلَى اللَّيْلِ) الجار والمجرور متعلقان بأتموا (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ) الواو عاطفة، ولا ناهية، وتباشروهن فعل مضارع مجزوم بلا (وَأَنْتُمْ) الواو للحال، وأنتم مبتدأ (عاكِفُونَ) خبر (فِي الْمَساجِدِ) جار ومجرور متعلقان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 بعاكفون والجملة الاسمية حالية (تِلْكَ) اسم إشارة مبتدأ (حُدُودُ اللَّهِ) خبر ومضاف إليه وجملة تلك استئنافية (فَلا تَقْرَبُوها) الفاء الفصيحة، ولا ناهية، وتقربوها فعل مضارع مجزوم بلا، أي إذا شئتم السلامة بأنفسكم فانتهوا ولا تقربوها، فقد كان بعضهم يخرج وهو معتكف ويجامع امرأته ويعود والجملة استئنافية (كَذلِكَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف مفعول مطلق أو حال (يُبَيِّنُ اللَّهُ) فعل مضارع وفاعله (آياتِهِ) مفعول به والجملة استئنافية (لِلنَّاسِ) الجار والمجرور متعلقان بيبين (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) لعل واسمها، وجملة يتقون خبرها، وجملة الرجاء حالية. البلاغة: 1- الكناية في قوله: «هن لباس لكم وأنتم لباس لهن» لأن اللباس ما يكون بجسم الإنسان، والرجل والمرأة إذ يشتمل كل واحد منهما على الآخر ويعتنقان يشبهان اللباس المشتمل عليهما. قال النابغة الجعدي: إذا ما الضجيع ثنى عطفها ... تثنت عليه فكانت لباسا نماذج من الكناية: وقد تقدم ذكر الكناية ونزيد هنا الموضوع بسطا فنقول: إن الغرض من الكناية تنزيه اللسان عما لا يليق ذكره، والكناية عنه بأرشق لفظ، ولكل كناية غرض، والأغراض لا عداد لها، ولهذا كان غور الكناية لا يسبر فمن أمتعها قول الشريف الرضيّ: برد السّوار لها فأحميت القلائد بالعناق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 أي أنه لما برد سوارها، آخر الليل، علمت أن نسمة الفجر طلعت، فأحميت قلائدها بالعناق كي تصير القلائد مكذبة لما أشار إليه السوار من طلوع الفجر المؤذن بالفراق، فعدل عن التصريح بذلك الى برد السوار لينقل الذهن الى هبوب نسمة الفجر المؤذنة بالفراق والداعية له، وقد اشتهرت الكناية في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام تصوّنا منه وترفعا، فمما جاء من هذا الديباج قوله: «إن امرأة كانت فيمن كان قبلنا، وكان لها ابن عمّ يحبها فراودها عن نفسها، فامتنعت عليه، حتى إذا أصابتها شدة فجاءت إليه تسأله فراودها، فمكنته من نفسها، فلما قعد منها مقعد الرجل من المرأة قالت له: لا يحلّ لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فقام عنها وتركها» وهذه كناية واقعة موقعها. ومن ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «رويدك سوقك بالقوارير» يريد بذلك النساء فكنّى عنهن بالقوارير، وذلك أنه كان في بعض أسفاره، وغلام أسود اسمه أنجشة يحدو فقال له: يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير. ومن الكناية أيضا في هذه الآية قوله: «فالآن باشروهن» والمباشرة في قول الجمهور الجماع، وقيل الجماع فما دونه. وهو مشتقّ من تلاصق البشرتين، فيدخل فيه المعانقة والملامسة. 2- التشبيه البليغ فقد شبه أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق بالخيط الأبيض الممدود، وما يمتدّ من غبش الليل بالخيط الأسود الممدود، وهو تشبيه مألوف كثيرا. ولو لم يذكر من الفجر لكان استعارة تصريحية، ولكن ذكر المشبّه أعاده الى التشبيه البليغ المحذوف الأداة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 3- الطباق لأنه طابق بين الأبيض والأسود، أما ذكر بقية الألوان فيسمى تدبيجا كقول أبي تمام: تردّى ثياب الموت حمرا فما دجا ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر الفوائد: «حتّى» في الكلام على ثلاثة أنواع: 1- تكون لانتهاء الغاية، فتجر الأسماء على معنى، كقوله تعالى: سلام هي حتى مطلع الفجر» وتنصب الافعال بأن مضمرة بعدها كالآية. 2- وتكون عاطفة. 3- وتكون حرف ابتداء يبتدأ بها الكلام كقول المتنبي: هو الجد حتى تفضل العين أختها ... وحتى يكون اليوم لليوم سيد فرفع الفعلين بعدها لأنها ابتدائية. وسيأتي مزيد من أبحاث (حَتَّى) التي لا تنتهي، فقد كان الفراء يقول عند احتضاره: أموت وفي قلبي شيء من حتى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 [سورة البقرة (2) : آية 188] وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) اللغة: (تُدْلُوا بِها) تلقوا بها، وأدلى الدلو أرسلها في البئر، وسقى أرضه بالدّالية وبالدوالي وهي النواعير، ودلّى شيئا في مهواة وتدلّى هو بنفسه ودلّى برجليه من السرير ودلّاه بحبل من سطح أو جبل. قال الفرزدق: هما دلّتاني من ثمانين قامة ... كما انقضّ باز أقتم الرّيش كاسره والدوالي: عنب أسود غير حالك، ولا أدري علام استند صاحب المنجد في زعمه: إنها مولّدة. هذا وقد تقصيت كل ما فاؤه دال وعينه لام فاذا به يفيد معنى التّدلّي والانملاس، ومنه الدلج وهو السّرى بالليل، ولا يخفى ما فيه من الانملاس، ودلف الشيخ مشى فوق الدّبيب كأنه يتدلى من مكان عال. وهذا من العجب بمكان. الإعراب: (وَلا تَأْكُلُوا) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير حكم آخر يتعلق بالأموال وطرق اكتسابها، ولا ناهية، وتأكلوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل (أَمْوالَكُمْ) مفعول به (بَيْنَكُمْ) ظرف متعلق بمحذوف حال من أموالكم، أي لا تأكلوها كائنة بينكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 (بِالْباطِلِ) الجار والمجرور متعلقان بتأكلوا أي لا تتناولوها بسبب باطل (وَتُدْلُوا) الواو عاطفة، وتدلوا فعل مضارع معطوف على تأكلوا داخل في حيز النهي، ولك أن تجعلها للمغية، وتدلوا منصوب بأن مضمرة بعدها (بِها) الجار والمجرور متعلقان بتدلوا (إِلَى الْحُكَّامِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي لاجئين متحاكمين (لِتَأْكُلُوا) اللام للتعليل، وتأكلوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والواو فاعل والجار والمجرور في محل نصب مفعول لأجله (فَرِيقاً) مفعول به (مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة (بِالْإِثْمِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، أي متشبثين بما يستوجب الإثم من شهادة الزور واليمين الكاذبة (وَأَنْتُمْ) الواو حالية، وأنتم ضمير منفصل مبتدأ (تَعْلَمُونَ) فعل مضارع مرفوع، وفاعل، والجملة خبر، والجملة بعد واو الحال حالية. [سورة البقرة (2) : آية 189] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) اللغة: (مَواقِيتُ) : جمع ميقات، وأصله موقات قلبت الواو ياء لكسر ما قبلها، وهي معالم يوقّت الناس بها شئون معايشهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 الإعراب: (يَسْئَلُونَكَ) فعل مضارع مرفوع، وفاعل، ومفعول به، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان الحكمة في اختلاف الأهلة، بعد أن ألحفوا في السؤال عن ذلك. روي أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاريّ قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يمتلىء ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ، لا يكون على حال واحدة؟ فجاءت الآية بالحكم الشامل الحاسم. والحكمة المنوخاة من تطور الهلال لتوقيت المعايش واتساقها على نمط واحد باهر، والهلال مفرد وجمع، باختلاف زمانه، ويجمع قياسا على أهلّة، وهو مقيس في فعال المضعّف، نحو: عنان وأعنّة، وزمام وأزمّة، وسنان وأسنّة. (عَنِ الْأَهِلَّةِ) الجار والمجرور متعلقان بيسألونك (قُلْ) فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة استئنافية (هِيَ مَواقِيتُ) جملة اسمية من مبتدأ وخبر في محل نصب مقول القول (لِلنَّاسِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمواقيت (وَالْحَجِّ) عطف على الناس (وَلَيْسَ) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة للاستطراد، وسيأتي ذكره، أو كأنه تعكيس في سؤالهم، وإن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره، وليس فعل ماض ناقص (الْبِرُّ) اسم ليس (بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ) الباء حرف جر زائد في خبر ليس، وأن وما بعدها في تأويل مصدر خبر ليس، والبيوت مفعول به (مِنْ ظُهُورِها) الجار والمجرور متعلقان بتأتوا (وَلكِنَّ) الواو عاطفة، ولكن حرف للاستدراك مشبه بالفعل (الْبِرُّ) اسمها المنصوب، ولا بد من تقدير محذوف ليتسق الكلام، كأنه قيل: إن ما تفعلونه من استقصاء في السؤال ليس برا، ولكن البر (مِنْ) اسم موصول خبر لكن، ولا من حذف مضاف، أي برّ من (اتَّقى) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 الجملة صلة الموصول لا محل لها (وَأْتُوا) الواو عاطفة، وعطف الإنشاء على الخبر جائز، فقد تقدمت جملتان خبريتان وهما: ليس البر، ولكن البر من اتقى، وعطف عليها جملتان إنشائيتان وهما: وأتوا البيوت، واتقوا الله (الْبُيُوتَ) مفعول به (مِنْ أَبْوابِها) الجار والمجرور متعلقان بأتوا (وَاتَّقُوا اللَّهَ) الجملة عطف على الجملة الأمرية (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لعل واسمها، وجملة تفلحون خبرها، وجملة الرجاء حالية. البلاغة: «الاستطراد» وهو فن دقيق متشعب، يجنح اليه المتكلم في غرض من أغراض القول يخيل إليك انه مستمر فيه، ثم يخرج منه الى غيره لمناسبة بينهما، ثم يرجع الى الاول، فقد ذكر عن الأهلة واختلافها أنها مواقيت للحج، وأن مثلهم في السؤال كمثل من يترك باب البيت ويدخل من ظهره، فقد كان ناس من الأنصار إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطا- أي بستانا- ولا دارا ولا فسطاطا من باب، فاذا كان من أهل المدر نقب نقبا في ظهر بيته، منه يدخل ويخرج، أو يتخذ سلما فيه يصعد، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء، فقيل لهم ذلك. ومن جميل هذا الفن قول عبد المطلب: لنا نفوس لنيل المجد عاشقة ... فان تسلّت أسلناها على الأسل لا ينزل المجد إلا في منازلنا ... كالنوم ليس له مأوى سوى المقل الفوائد: اختلف علماء البلاغة في السؤال: أهو سؤال عن السبب أم عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 الحكمة؟ واختار الزمخشري والراغب والقاضي البيضاوي أنه سؤال عن الحكمة كما يدل عليه الجواب إخراجا للكلام على مقتضى الظاهر لأنه الأصل، واختار السّكّاكيّ أنه سؤال عن السبب، لأن الحكمة ظاهرة لا تستحق السؤال عنها، والجواب من الأسلوب الحكيم. وقد أطال كل فريق في الاحتجاج لما يدعيه، وانتهى بهم الأمر الى التراشق بقوارص الكلام، مما لا يتسع له المقام فلله درّ رجال التراث عندنا، ما أشدّ تقصّيهم وأكثر تنقيبهم. [سورة البقرة (2) : الآيات 190 الى 192] وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) اللغة: «ثقفتموهم» : وجدتموهم، وثقف الشيء: أخذه أو ظفر به أو أدركه، وثقفت العلم والصناعة في أوحى مدة إذا أسرعت أخذه، وغلام ثقف لقف، وقد ثقف ثقافة بفتح الثاء، والثاء والقاف تدلان على معنى الأخذ على وجه الغلبة إذا اجتمعتا في أول الكلمة، فالثقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 معروف ينوء به صاحبه لأنه يغلبه وينوءه، وأثقله المرض غلبه، والثقال بفتح الثاء: المرأة العظيمة الكفل، الثقيلة التصرف. قال الراعي: ثقال إذا راد النساء فريدة ... صناع فقد صادت لدى الغوانيا وثقب الشيء بالمثقب، وثقب اللّآل الدرة وثقبن البراقع لعيونهن. قال المثقب العبدي: أرين محاسنا وكننّ أخرى ... وثقّبن الوصاوص للعيون الإعراب: (وَقاتِلُوا) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان أحكام القتال، وهي أول آية نزلت في المقاتلة في المدينة لإعلاء كلمة الله. وقاتلوا فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بقاتلوا (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) اسم الموصول مفعول به، وجملة يقاتلونكم صلة (وَلا تَعْتَدُوا) الواو عاطفة، ولا ناهية، وتعتدوا فعل مضارع مجزوم بلا، والواو فاعل (إِنَّ اللَّهَ) إن واسمها (لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) لا نافية، ويحب فعل مضارع مرفوع، والفاعل مستتر يعود على الله، والمعتدين مفعول به، وجملة لا يحب المعتدين خبر إن، وجملة إن وماتلاها تعليلية (وَاقْتُلُوهُمْ) عطف أيضا، وكرر الأمر بقتلهم للتأكيد (حَيْثُ) ظرف مكان مبني على الضم متعلق باقتلوهم (ثَقِفْتُمُوهُمْ) فعل وفاعل ومفعول به، والميم علامة جمع الذكور وقد أشبعت بالواو الزائدة، والجملة الفعلية في محل جر بالاضافة (وَأَخْرِجُوهُمْ) عطف على اقتلوهم (مِنْ حَيْثُ) أدخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 حرف الجر على حيث، ولا يجر إلا بها وبالباء، والجار والمجرور متعلقان بأخرجوهم (أَخْرَجُوكُمْ) فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل جر بالإضافة (وَالْفِتْنَةُ) الواو اعتراضية والفتنة مبتدأ (أَشَدُّ) خبر (مِنَ الْقَتْلِ) الجار والمجرور متعلقان بأشدّ، والجملة اعتراضية لا محل لها جارية مجرى المثل كما سيأتي (فَإِنْ) الفاء استئنافية، وإن شرطية (قاتَلُوكُمْ) فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعل، والكاف مفعول به، والفعل في محل جزم فعل الشرط (فَاقْتُلُوهُمْ) الفاء رابطة لجواب الشرط، واقتلوهم فعل أمر وفاعل ومفعول به، وجملة فاقتلوهم في محل جزم جواب الشرط (كَذلِكَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (جَزاءُ الْكافِرِينَ) مبتدأ مؤخر والجملة استئنافية (فَإِنِ) الفاء استئنافية، وان شرطية (انْتَهَوْا) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط (فَإِنِ) الفاء رابطة لجواب الشرط، وانّ حرف مشبه بالفعل (اللَّهَ) اسم إن (غَفُورٌ رَحِيمٌ) خبران لإن. البلاغة: في قوله تعالى: «والفتنة أشد من القتل» فن إرسال المثل، فهي جملة مسوقة مساق المثل، لأن الإخراج من الوطن هو الفتنة التي ما بعدها فتنة، وقيل لبعضهم: ما أشدّ من الموت؟ قال: الذي يتمنّى معه الموت، والإخراج من الوطن بمثابة إخراج الروح من الجسم. قال ابن الرومي: فقد ألفته النفس حتى كأنه ... لها جسد إن بان غودر هالكا ولعل زعيم الشعراء المبدعين فيه أبو الطيب المتنبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 ولو أردنا الاقتباس لضاق بنا المجال وحسبك أن ترجع الى ديوانه لتجد ما يستهويك. [سورة البقرة (2) : الآيات 193 الى 194] وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) الإعراب: (وَقاتِلُوهُمْ) الواو حرف عطف، وقاتلوهم فعل أمر وفاعل ومفعول به. أمرهم بالقتال تفاديا لطروء الفتنة، وهي الإخراج من الوطن (حَتَّى) حرف غاية وجر، والمراد به هنا التعليل (لا) نافية (تَكُونَ) فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى، وهي هنا تامة، والجار والمجرور متعلقان بقاتلوهم، و (فِتْنَةٌ) فاعل تكون (وَيَكُونَ) عطف على تكون وهي هنا ناقصة (الدِّينُ) اسمها (لِلَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبرها، ولا يبعد أن تكون تامة أيضا، فيكون الدين فاعلا والجار والمجرور متعلقين بمحذوف حال، أي خالصا لله (فَإِنِ) الفاء استئنافية، وإن شرطية (انْتَهَوْا) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط (فَلا) الفاء رابطة لجواب الشرط، ولا نافية للجنس (عُدْوانَ) اسمها المبنى على الفتح (إِلَّا) أداة حصر (عَلَى الظَّالِمِينَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لا والجملة في محل جزم جواب الشرط (الشَّهْرُ الْحَرامُ) الشهر مبتدأ، والحرام صفة (بِالشَّهْرِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر، ولا بد من حذف مضاف، أي هتك حرمة الشهر الحرام، وهو ذو القعدة من السنة السابعة للهجرة وبهتك حرمة الشهر الحرام وهو ذو القعدة من السنة السادسة فقد قاتلوكم عام الحديبية، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء في ذي القعدة من السنة السابعة وكراهيتهم القتال فيه: هذا الشهر مقابل بهذا الشهر وهتكه بهتكه وجزاء كل شرّ شرّ مثله (الْحَرامُ) صفة والجملة استئنافية (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) الواو عاطفة، والحرمات مبتدأ، وقصاص خبر (فَمَنِ) الفاء الفصيحة، ومن شرطية مبتدأ (اعْتَدى) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط (عَلَيْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان باعتدى (فَاعْتَدُوا) الفاء رابطة لجواب الشرط واعتدوا فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة في محل جزم جواب الشرط، والجملة الواقعة بعد الفاء الفصيحة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (عَلَيْهِ) الجار والمجرور متعلقان بقوله فاعتدوا (بِمِثْلِ) الجار والمجرور متعلقان باعتدوا أو بمحذوف حال (مَا) مصدرية (اعْتَدى) فعل ماض، والمصدر المنسبك من ما واعتدى مضاف إليه أي بمثل اعتدائه (عَلَيْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان باعتدى (وَاتَّقُوا اللَّهَ) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة للتحذير من المبالغة في الانتقام، لأن النفس مفطورة على حب المبالغة في الانتقام، واتقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل، ولفظ الجلالة مفعول به (وَاعْلَمُوا) عطف على اتقوا (أَنَّ اللَّهَ) ان واسمها (مَعَ الْمُتَّقِينَ) مع ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 والمتقين مضاف إليه، وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي اعلموا. [سورة البقرة (2) : آية 195] وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) اللغة: (التهلكة) : من نوادر المصادر وليس فيما يجري على القياس، وفي القاموس: إنه مثلث اللام. واقتصر الجوهري في صحاحه والرازي في مختاره على تثليث لام مهلك، وأما التهلكة فهي بضم اللام. الإعراب: (وَأَنْفِقُوا) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة للأمر بالجهاد بالمال بعد الأمر به بالنفس، وأنفقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بأنفقوا (وَلا تُلْقُوا) الواو عاطفة، ولا ناهية، وتلقوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل (بِأَيْدِيكُمْ) الباء مزيدة، مثلها في أعطى بيده للمنقاد، لأن ألقى فعل يتعدّى بنفسه، وقيل ضمّن تلقوا معنى فعل يتعدّى بالباء، أي لا تفضوا بأيديكم، وقيل: المفعول الثاني محذوف تقديره ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم (إِلَى التَّهْلُكَةِ) الجار والمجرور متعلقان بتلقوا (وَأَحْسِنُوا) الواو عاطفة، وأحسنوا فعل أمر وفاعل (إِنَّ اللَّهَ) إن واسمها (يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وجملة يحب المحسنين خبر إن، وجملة إن وما في حيزها تعليلية لا محل لها. البلاغة: المجاز المرسل في الأيدي، والمراد بها الأنفس، لأن البطش والحركة يكون بها، فهي مجاز مرسل علاقته الجزئية، من إطلاق الجزء وإرادة الكل، أو السببية، لأن اليد سبب الحركة كما تقدم. لمحة تاريخية: اختلف المفسرون في معنى إلقاء الأيدي الى التهلكة، وأقرب ما يقال فيها: إن رجلا من المهاجرين حمل على صف العدوّ فصاح به الناس: ألقى بيده الى التهلكة. فقال أبو أيوب الأنصاري: نحن أعلم بهذه الآية، إنما أنزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصرناه، وشهدنا معه المشاهد، وآثرناه على أهلينا وأموالنا وأولادنا، فلما وضعت الحرب أوزارها رجعنا الى أهلينا وأولادنا وأموالنا نصلحها ونقيم فيها، فكانت التهلكة، الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد. وقال آخرون في تفسير هذه الآية: ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة، بالإسراف وتضييع وجه المعاش، أو بالكفّ عن الغزو والإنفاق فيه، فإن ذلك مما يقوي العدوّ ويسلطهم عليكم. وعن أسلم أبي عمران قال: غزونا المدينة- يريد القسطنطينية- وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد قال: فصففنا صفيّن لم أر صفيّن قط أعرض ولا أطول منهما، والروم ملصقون ظهورهم بحائط المدينة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 قال: فحمل رجل منا على العدوّ فقال الناس: مه، لا إله إلا الله، يلقي بيده الى التهلكة. قال أبو أيوب الأنصاري: إنما تتأولون هذه الآية هكذا، إن حمل رجل يقاتل يلتمس الشهادة، إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنّا لما نصر الله نبيه وأظهر الإسلام قلنا بيننا: إنا قد تركنا أهلنا وأموالنا أن نقيم فيها ونصلحها، فأنزل الله الخبر من السماء، قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى استشهد ودفن بالقسطنطينية، قلت: وهذه الغزوة غير الغزوة المشهورة التي مات فيها أبو أيوب، وقد غزاها يزيد بن معاوية بعد ذلك سنة تسع وأربعين للهجرة، ومعه جماعة من سادات الصحابة. ثمّ غزاها يزيد سنة اثنين وخمسين، وهي التي مات فيها أبو أيوب، وقبره هناك الى الآن وقد شيد عليه مسجد شهير. وإنما أطلنا في هذا الصّدد لأنه يناسب حالتنا الراهنة، وحالة كل أمة تتخلف عن الجهاد، وتهمل تعبئة الإمكانيات، وحشد الطاقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 [سورة البقرة (2) : آية 196] وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) اللغة: (الْعُمْرَةَ) في الحج معروفة، وقد اعتمر، وأصله من الزيارة. قال الزجاج: معنى العمرة في العمل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة فقط، والفرق بين الحج والعمرة أن العمرة تكون للانسان في السنة كلها، والحج وقت واحد في السنة، وأحكامها في علم الفقه، والجمع: عمر وعمرات. (أُحْصِرْتُمْ) منعتم، يقال: أحصر فلان إذا منعه أمر من خوف أو مرض أو عجز. قال ابن ميادة: وما هجر ليلى أن تكون تباعدت ... عليك ولا أن أحصرتك شغول (اسْتَيْسَرَ) تيسّر، يقال: يسر الأمر واستيسر. (الْهَدْيِ) : يطلق على الحيوان الذي يسوقه الحاجّ أو المعتمر هدية لأهل الحرم. وفي المختار: قرىء «حتى يبلغ الهدي محلّه» مخفّفا ومشدّدا. والواحدة هدية وهديّة، ويقال: ما أحسن هديته أي سيرته، وكانوا يقسمون بها في أيمانهم. قال العلاء ابن حذيفة الغنوي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 يقولون من هذا الغريب بأرضنا ... أما والهدايا إنني لغريب (مَحِلَّهُ) : اسم مكان من حل يحل، أي صار ذبحه حلالا. وكسرت الحاء لأن عين مضارعه مكسورة. الإعراب: (وَأَتِمُّوا) الواو عاطفة، وأتموا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (الْحَجَّ) مفعول به (وَالْعُمْرَةَ) معطوف على الحج (لِلَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، أي خالصا لوجهه، ولك أن تعلقهما بأتموا فتكون اللام هي لام المفعول لأجله، وقد اقتبس الشعراء هذا التعبير الجميل وصرفوه الى مناحي التغزل، فقال ذو الرمّة وأبدع: تمام الحجّ أن تقف المطايا ... على خرقاء واضعة اللثام جعل الوقوف على خرقاء، وهي محبوبته من بني عامر، كبعض مناسك الحج التي لا ندحة عن إتمامها (فَإِنْ) الفاء الفصيحة، وإن شرطية (أُحْصِرْتُمْ) فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط (فَمَا) الفاء رابطة، وما اسم موصول في محل رفع مبتدأ خبره محذوف، أي فعليكم ما استيسر والجملة جزم جواب الشرط (اسْتَيْسَرَ) فعل ماض، وفاعله مستتر، والجملة لا محل لها لأنها صلة ما (مِنَ الْهَدْيِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، أي كائنا من الهدي (وَلا) الواو حرف عطف، ولا ناهية (تَحْلِقُوا) فعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 مضارع مجزوم بلا والواو فاعل (رُؤُسَكُمْ) مفعول به (حَتَّى يَبْلُغَ) حتى حرف غاية وجر والجار والمجرور متعلقان بتحلقوا ويبلغ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة (الْهَدْيِ) فاعل (مَحِلَّهُ) مفعول به (فَمَنْ) الفاء استئنافية، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ (كانَ) فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط، واسمها ضمير مستتر يعود على من (مِنْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (مَرِيضاً) خبر كان (أَوْ) حرف عطف (بِهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (أَذىً) مبتدأ مؤخر وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين (مِنْ رَأْسِهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لأذى (فَفِدْيَةٌ) الفاء رابطة لجواب الشرط، وفدية مبتدأ محذوف الخبر أي فعليه فدية والجملة جواب الشرط (مِنْ صِيامٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لفدية (أَوْ) حرف عطف (صَدَقَةٍ) عطف على صيام (أَوْ) حرف عطف (نُسُكٍ) معطوف على صيام وفعل الشرط وجوابه خبر من (فَإِذا) الفاء استئنافية وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن (أَمِنْتُمْ) الجملة الفعلية في محل جر بالإضافة. (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) الفاء جواب إذا ومن اسم شرط جازم مبتدأ وتمتع فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، وبالعمرة متعلقان بتمتع، والى الحج متعلقان بمحذوف، أي واستمر تمتعه وانتفاعه بالمحظورات الى الحج (فَمَا) الفاء رابطة لجواب الشرط وما اسم موصول مبتدأ خبره محذوف، أي فعليه ما (اسْتَيْسَرَ) فعل في محل جزم جواب الشرط (مِنَ الْهَدْيِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (فَمَنْ) الفاء استئنافية ومن شرطية مبتدأ (لَمْ يَجِدْ) لم حرف نفي وقلب وجزم، ويجد فعل مضارع مجزوم بلم، والفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 المجزوم هو فعل الشرط، وفاعله ضمير مستتر يعود على من، ومفعوله محذوف لظهور المعنى، والتقدير فمن لم يجد ما استيسر من الهدي (فَصِيامُ) الفاء رابطة لجواب الشرط، وصيام مبتدأ محذوف الخبر، أي فعليه فصيام، والجملة في محل جزم جواب الشرط (ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) مضاف إليه (فِي الْحَجِّ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (وَسَبْعَةٍ) عطف على ثلاثة (إِذا رَجَعْتُمْ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن، وجملة رجعتم في محل جر بالإضافة (تِلْكَ) اسم الإشارة مبتدأ (عَشَرَةٌ) خبر (كامِلَةٌ) صفة (ذلِكَ) اسم الإشارة مبتدأ (لِمَنْ) اللام حرف جر، ومن اسم موصول في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر (لَمْ يَكُنْ) لم حرف نفي وقلب وجزم، ويكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم (أَهْلُهُ) اسمها، وجملة لم يكن لا محل لها لأنها صلة اسم الموصول (حاضِرِي) خبر يكن (الْمَسْجِدِ) مضاف إليه (الْحَرامِ) صفة (وَاتَّقُوا اللَّهَ) الواو استئنافية، واتقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل، ولفظ الجلالة مفعول به (وَاعْلَمُوا) عطف على اتقوا (أَنَّ اللَّهَ) ان واسمها (شَدِيدُ الْعِقابِ) خبر أنّ، وأنّ وما في حيزها سدت مسد مفعولي اعلموا. البلاغة: في هذه الآية فنّ بياني رفيع دقيق المأخذ، ويسميه علماء البلاغة التكرير، وحدّه هو أن يدل اللفظ على المعنى مرددا، وهو في الآية بقوله تعالى: «تلك عشرة كاملة» بعد ثلاثة وسبعة تنوب مناب قوله ثلاثة وسبعة مرتين، ثم قال كاملة، وذلك توكيد ثالث، والأمر إذا صدر من الآمر على المأمور بلفظ التكرير ولم يكن موقتا بوقت معيّن كان في ذلك إهابة الى المبادرة لامتثال الأمر والانصياع للحكم على الفور من غير ريث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 ولا إبطاء، ومن ثم وجب صوم الأيام السبعة عند الرجوع فورا، فتفطّن لها فإنها من الأسرار. وسترد للتكرير أمثلة في القرآن الكريم توضحه تمام الإيضاح وقد رمق الشعراء سماء القرآن فقال أبو تمام مادحا: نهوض بثقل العبء مضطلع به ... وإن عظمت فيه الخطوب وجلّت والثقل هو العبء، وإنما كره للمبالغة. وقال البحتري متغزلا: ويوم تثنّت للوداع وسلّمت ... بعينين موصول بلحظهما السحر توهمتها ألوى بأجفانها الكرى ... كرى النوم أو مالت بأعطافها الخمر فقد أراد تشبيه طرفها لفتوره بالنائم، فكرر المعنى فيه على طريق المضاف والمضاف إليه، وهو قوله «كرى النوم» تأكيدا له وزيادة في بيانه، أو ليزيل كل وهم قد يساور السامع. قال المبرّد وأحسن: «ذكر ذلك ليدل على انقضاء العدد لئلا يتوهم متوهّم أنه قد بقي بعد ذكر السبعة شيء آخر» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 [سورة البقرة (2) : آية 197] الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197) اللغة: (الفسوق) : يقال فسق عن أمر الله أي خرج، وفسقت الرّطبة عن قشرها، والفأرة عن جحرها، ومن غريب الفاء والسين أن اجتماعهما فاء وعينا للكلمة يدلّ على استكراه في معنى الكلمة، وهذا أمر عجيب تميّزت به لغتنا على سائر اللغات. فمن ذلك فسأ الثّوب أي شقّه، وأنت تكره أن يفسأ لك أحد ثوبك، وفسىء بكسر السين خرج صدره ودخل ظهره، وتلك صورة مستكرهة منبوّة، وفسخ العقد نقضه، وما أحسب أحدا يرضى أن يفسخ له عقد، والفسل المسترذل المستوخم، قال الفرزدق: فلا تقبلوا منهم أباعر تشترى ... بوكس ولا سودا تصحّ فسولها الإعراب: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) مبتدأ وخبر، ومعلومات صفة لأشهر، والأشهر المعلومات: شوّال وذو القعدة وعشر ذي الحجة عند أبي حنيفة، وعند الشافعي: تسع ذي الحجة وليلة يوم النحر، وعند مالك: ذو الحجة كله في أحد أقواله، نزّل بعض الشهر منزلة الشهر كله، تقول: رأيتك سنة كذا وإنما وقعت الرؤية في ساعة من السنة لا كلها، والجملة مستأنفة لا محل لها (فَمَنْ) الفاء الفصيحة لأنها جاءت بمثابة إجابة بالتفصيل لمن استوضح عن المجمل، ومن اسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 شرط جازم مبتدأ (فَرَضَ) فعل الشرط، وفاعله هو (فِيهِنَّ) الجار والمجرور متعلقان بفرض (الْحَجُّ) مفعول به، أي على نفسه (فَلا رَفَثَ) الفاء رابطة لجواب، ولا نافية للجنس، ورفث اسمها، وقد تقدم معنى الرفث (وَلا فُسُوقَ) عطف على قوله فلا رفث (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) عطف أيضا، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لا، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَما) الواو استئنافية، وما اسم شرط جازم في محل نصب مفعول به مقدم لتفعلوا (تَفْعَلُوا) فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف النون (مِنْ خَيْرٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (يَعْلَمْهُ اللَّهُ) جواب الشرط، والهاء مفعول به، والله فاعل (وَتَزَوَّدُوا) الواو استئنافية، وتزودوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (فَإِنَّ) الفاء تعليلية، وإن حرف مشبه بالفعل (خَيْرَ الزَّادِ) اسم ان ومضاف إليه (التَّقْوى) خبرها، والجملة لا محل لها (وَاتَّقُونِ) الواو عاطفة، واتقون فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة والمدلول عليها بالكسرة مفعول به (يا أُولِي الْأَلْبابِ) يا أداة نداء، وأولي الألباب منادى مضاف وعلامة نصبه الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والألباب مضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة تزودوا. البلاغة: 1- في هذه الآية ضرب من النهي عجيب، وذلك أن المنهيّ عنه يتوقف مقياسه على حسب موقعه، بحيث يعتبر غير مستحقّ للنهي فيما لو وقع في غير ذلك الموقع، وتخصيص الحجّ بالنهي عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 الرفث والفسوق والجدال فيه يشعر بأن هذه الأعمال في غير الحجّ، وإن كانت منهيا عنها وقبيحة، إلا أن ذلك القبح الثابت لها في غير الحج كلا قبح بالنسبة لوقوعها في الحجّ، فاجتنابها متحتّم على كل حال، ولكن اجتنابها في الحجّ أمر فوق الاجتناب. وللنهي في لغتنا العربية فروع وشعاب لا يكاد يسبر لها غور، ومن ذلك أن تنهى عن أمر هو في الحقيقة ممدوح ومحمود، ولكنه يوبق صاحبه إذا بلغه، وقد فطن شاعر الخلود المتنبي الى هذه الأسرار عند ما نهى صاحبيه أن يبلغا سيف الدولة مديحه فيه فيزداد اندفاعا ويرمي بنفسه في المخاطر الموبقة، قال وقد سما ما شاء: فلا تبلغاه ما أقول فإنّه ... شجاع متى بذكر له الطعن يشتق فهو لم يقصد من التماسه من صاحبيه أن يكتما عن سيف الدولة ما سمعاه من صفات أعماله، وطعان فرسانه، رفقا به وحذرا أن يدفعه الشوق الى التطويح بنفسه في المخاطر. ويشبهه الى حدّ ما قول كثيّر صاحب عزة: فلا تذكراه الحاجبيّة إنّه ... متى تذكراه الحاجبيّة يحزن 2- التشبيه البليغ، فقد شبه التقوى بالزاد بجامع التقوية وشدّ الأسر والامتناع. 3- الإطناب في قوله: «يا أولي الألباب» فإن الأمر بالتقوى ليس خاصا بأولي الألباب وحدهم، ولا يتوجّه الكلام إليهم دون غيرهم بصدد الحث عليها، لأن كل إنسان مأمور بالتقوى، ويسمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 هذا ذكر الخاص بعد العام للتنبيه على فضل الخاص على العام وأرجحيته، وإنما يتفاضل الناس بالألباب التي هي العقول، وقد رمق المتنبي سماء هذا المعنى فقال: لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الإنسان 4- استعمل القرآن الألباب مجموعة فلم يأت بها مفردة لأنها من الألفاظ التي يسمج مفردها ويعذوذب جمعها، وهذا خاصة كامنة في لغتنا. [سورة البقرة (2) : الآيات 198 الى 199] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) اللغة: (أَفَضْتُمْ) : دفعتم أنفسكم وسرتم للخروج منها، والإفاضة دفع بكثرة من أفضت الماء إذا صببته بكثرة، وفي المصباح: «وأفاض الناس من عرفات دفعوا منها، وكل دفعة إفاضة. وأفاضوا من منى الى مكة يوم النحر رجعوا إليها، ومنه طواف الإفاضة أي طواف الرجوع من منى الى مكة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 (عَرَفاتٍ) : علم للموقف واستدل سيبويه على علميته بقوله: «هذه عرفات مباركا فيها» بنصب «مباركا» على الحال ولو كان نكرة لجرى عليه صفة، وبأنه لو كان نكرة لدخلت عليه الألف واللام، وهي لا تدخل. وسيأتي حكم إعرابه في الفوائد. (الْمَشْعَرِ) : جبل في آخر المزدلفة يقال له قزح وسمي مشعرا من الشعار وهو العلامة. الإعراب: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) ليس فعل ماض ناقص وعليكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها المقدم وجناح اسم ليس المؤخر (أَنْ) حرف مصدري ونصب (تَبْتَغُوا) فعل مضارع منصوب بأن وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل وان وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي: في أن تبتغوا، والجار والمجرور صفة لجناح (فَضْلًا) مفعول به (مِنْ رَبِّكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بتبتغوا أو بمحذوف صفة لفضلا (فَإِذا) الفاء استئنافية، وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متعلق بالجواب (أَفَضْتُمْ) فعل وفاعل والجملة في محل جر بالإضافة (مِنْ عَرَفاتٍ) الجار والمجرور متعلقان بأفضتم (فَاذْكُرُوا) الفاء رابطة لجواب الشرط واذكروا فعل أمر وفاعل، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (اللَّهَ) مفعول به (عِنْدَ الْمَشْعَرِ) الظرف متعلق باذكروا (الْحَرامِ) صفة للمشعر، ولك أن تعلق الظرف بمحذوف حال أي: كائنين عند المشعر الحرام (وَاذْكُرُوهُ) الواو عاطفة وكررها للتوكيد. واذكروه فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به (كَما هَداكُمْ) الكاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 حرف جر وما مصدرية، وهي مع مجرورها في محل نصب مفعول مطلق أو حال، أي: اذكروه ذكرا حسنا، أو اذكروه مثل هدايته إياكم وجملة هداكم لا محل لها لأنها واقعة بعد موصول حرفي (وَإِنْ) الواو حالية وإن مخففة من الثقيلة وقد تقدم حكمها إذا خففت، وإن الأكثر إهمالها (كُنْتُمْ) كان الناقصة واسمها (مِنْ قَبْلِهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (لَمِنَ الضَّالِّينَ) اللام هي الفارقة، ومن الضالين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كنتم. (ثُمَّ) حرف عطف للترتيب مع التراخي (أَفِيضُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (مِنْ حَيْثُ) الجار والمجرور متعلقان بأفيضوا وقد تقدم القول في حيث (أَفاضَ النَّاسُ) فعل وفاعل والجملة في محل جر بالإضافة (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) الواو عاطفة واستغفروا الله فعل وفاعل ومفعول به (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ان واسمها وخبراها، والجملة تعليلية لا محل لها. الفوائد: يعرب عرفات إعراب الجمع المؤنث السالم، ومثله جميع ما سمّي به كأذرعات، وهذا هو الفصيح فيها. وأجاز بعضهم أن تعرب إعراب مالا ينصرف، وقيل: يعرب إعراب الجمع المؤنث السالم غير أنه لا ينون. وقد روي قول امرئ القيس بالأوجه الثلاثة: تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 [سورة البقرة (2) : الآيات 200 الى 202] فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) اللغة: (المناسك) : جمع منسك، بفتح السين وكسرها، وهو مصدر ميمي أو اسم مكان، والأول أرجح، أي عبادات حجكم. الإعراب: (فَإِذا) الفاء استئنافية وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه (قَضَيْتُمْ) فعل وفاعل والجملة في محل جر بالاضافة (مَناسِكَكُمْ) مفعول به والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة (فَاذْكُرُوا اللَّهَ) الفاء رابطة لجواب الشرط واذكروا الله: فعل أمر وفاعل ومفعول، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (كَذِكْرِكُمْ) الكاف مع مجرورها في محل نصب مفعول مطلق أي: اذكروا الله ذكرا مماثلا لذكركم آباءكم، أو حال (آباءَكُمْ) مفعول به للمصدر المضاف لفاعله (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) هذا العطف مما يشكل على المعرب، وفيه أقوال يضيع الطالب في متاهاتها. ولما كانت الأقوال التي أوردها النحاة والمفسرون متساوية الرجحان رأينا تلخيصها على وجه مبسط قريب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 1- «أشدّ» معطوفة على الكاف، أي كذكركم أو ذكر قوم أشد منهم ذكرا. 2- أشدّ معطوفة على آبائكم فهي منصوبة بمعنى أو أشد من ذكر آبائكم. 3- أشدّ معطوفة على نفس الذكر، ولا بد من حمل الكلام عندئذ على المجاز العقلي من باب قولهم: شعر شاعر، وجن جنونه، ونحوهما. ويبقى على هذه الأوجه أمر أكثر إشكالا، وهو أن اسم التفضيل يضاف الى ما بعده إذا كان من جنس ما قبله، كقولك: ذكرك أشدّ ذكر ووجهك أحسن وجه، وإذا نصب ما بعده على التمييز كان ما بعده غير الذي قبله، كقولك: عليّ أجمل وجها، فالجمال للوجه لا لعلي ولو قلت: زيد أكرم أبا لكان زيد من الأبناء، ولو قلت: زيد أكرم أب لكان زيد من الآباء. 4- وأخيرا وجه لجأ إليه أبو البقاء العكبري بعد أن أعيته الحيل فقال: وعندي أن الكلام محمول على المعنى، والتقدير: أو كونوا أشد ذكرا لله منكم لآبائكم. ودل على هذا المعنى قوله تعالى: «فاذكروا الله» . أي كونوا ذاكريه. وبعد أن أورد أبو حيّان هذه الوجوه وصفها كلها بالضعف وقال: «وقد ساغ لنا حمل الآية على معنى أنهم أمروا بأن يذكروا الله ذكرا يماثل ذكر آبائهم أو أشد، وذلك بتوضيح واضح ذهلوا عنه، وهو أن يكون «أشدّ» منصوبا على الحال وهو نعت لقوله: «ذكرا» لو تأخر، فلما تقدم انتصب على الحال، كقولهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 لمية موحشا طلل ... يلوح كأنه خلل فلو تأخر لكان: لميّة طلل موحش، وكذلك لو تأخر هذا لكان «أو ذكرا أشد» يعني من ذكركم آباءكم، ويكون إذ ذاك «أو ذكرا أشد» معطوفا على محل الكاف من كذكركم» . قلنا: ولعله أقرب الى المنطق وأدناه الى الفهم، وقد اكتفى به بعض المفسرين المتأخرين في حواشيهم المطوّلة. (فَمِنَ النَّاسِ) الفاء استئنافية والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (مَنْ) اسم موصول مبتدأ مؤخّر (يَقُولُ) فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره هو يعود على من، وقد روعي لفظ «من» وهو مفرد، ولو روعي معناه لقال: يقولون، والجملة المستأنفة لا محل لها وهي مسوقة لبيان حال الكافرين وحال المؤمنين والفرق بين المطلبين وجملة «يقول» صلة من. (رَبَّنا) منادى مضاف منصوب وقد حذف حرف النداء (آتِنا) فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، والفاعل مستتر تقديره أنت، وضمير المتكلم المجموع مفعول آت الأول والمفعول الثاني محذوف أي نصيبنا و (فِي الدُّنْيا) جار ومجرور متعلقان بآتنا (وَما) الواو حالية وما نافية (لَهُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم (فِي الْآخِرَةِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (مِنْ خَلاقٍ) من حرف جر زائد وخلاق مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه مبتدأ مؤخر (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) عطف على الجملة السابقة، وقد تقدم إعرابها، وصرح هنا بالمفعول الثاني ترغيبا وتعليما (وَقِنا) الواو عاطفة و «ق» فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وضمير الجمع مفعول «ق» الأول (عَذابَ النَّارِ) مفعول «ق» الثاني (أُولئِكَ) اسم الإشارة مبتدأ (لَهُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم (نَصِيبٌ) مبتدأ مؤخر والجملة خبر اسم الإشارة، والجملة مستأنفة لبيان حال الفريق الثاني، لأن حال الفريق الأول تقدم ذكره بقوله «وما له في الآخرة من خلاق» (مِمَّا) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لنصيب (كَسَبُوا) فعل ماض وفاعل والجملة صلة الموصول «ما» (وَاللَّهُ) الواو مستأنفة والله مبتدأ (سَرِيعُ الْحِسابِ) خبره. والجملة المستأنفة مسوقة لبيان قدرته تعالى على محاسبة جميع الخلائق في أقل من لمح البصر. البلاغة: وردت في أحد الأعاريب لقوله: «أشد ذكرا» إشارة الى المجاز العقلي، وقد سبق بحثه، ونزيد هذا المجاز بسطا فنقول: إسناد الذكر الى الذكر مستحيل ولكنه ملابسة له أصبح كأنه شخص عاقل أجنبيّ عنه يقوم به، وجميل قول أبي تمام: تكاد عطاياه يجنّ جنونها ... إذا لم يعوّذها بنغمة طالب فقد أسند الجنون الى مصدره، والسرّ فيه ما أوضحناه من الملابسة الشديدة التي تجعل غير العاقل عاقلا لشدة وقوعه منه، ويكاد الطلاب يلتبس عليهم الفرق بينه وبين الاستعارة المكنية مع أنه ليس فيه مشابهة مقصودة. وقال أبو فراس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 سيذكرني قومي إذا جدّ جدهم ... وفي الليلة الظّلماء يفتقد البدر ولأبي الطيب مقطوعة وردت على نمط المجاز العقلي، وهي من جيد الشعر: صحب الناس قبلنا ذا الزمانا ... وعناهم من أمره ما عنانا وتولوا بغصّة كلّهم منه وإن سرّ بعضهم أحيانا ربما تحسن الصّنيع لياليه ولكن تكدّر الإحسانا كلما أنبت الزمان قناة ... ركب المرء في القناة سنانا الفوائد: تزاد «من» الجارة في الفاعل والمفعول به والمبتدأ بشرط أن تسبق بنفي أو نهي أو استفهام وأن يكون مجرورها نكرة وعندئذ تطرد الزيادة، وسيأتي المزيد من أمثلتها. [سورة البقرة (2) : آية 203] وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 اللغة: (تُحْشَرُونَ) : تجمعون، والحاء والشين إذا وقعتا فاء وعينا للكلمة دلّتا على معنى الجمع والامتلاء والحشد، وهذا ما تقصيناه وحشدنا له كل ما وصلت إليه أيدينا من مظانّ اللغة ومراجعها المطولة، ومنه الحشّاش أي جامع الحشيش أو شاري الحشيشة، وهي نبات تستخرج منه مادة مسكرة، والحشمة: الحياء، وهي تدل على أن المرء جمع نفسه كيلا تبدر منه بادرة. ومنه الحشم أي الخدم المجتمعون. الإعراب: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ) الواو عاطفة واذكروا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ومفعول به (فِي أَيَّامٍ) الجار والمجرور متعلقان باذكروا (مَعْدُوداتٍ) صفة لأيام، وهي أيام التشريق الثلاثة، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر وهو مذهب الشافعي، أو يوم النحر ويومان بعده وهو مذهب أبي حنيفة (فَمَنْ) الفاء استئنافية ومن شرطية مبتدأ (تَعَجَّلَ) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط (فِي يَوْمَيْنِ) الجار والمجرور متعلقان بتعجل (فَلا إِثْمَ) الفاء رابطة ولا نافية للجنس وإثم اسمها المبني على الفتح (عَلَيْهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لا والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) تقدم إعرابها والجملة معطوفة (لِمَنِ اتَّقى) اللام حرف جر ومن اسم موصول في محل جرّ باللام والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، أي ذلك التّخيير. ونفي الإثم عن المتعجّل والمتأخر كائن لمن اتقى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 (وَاتَّقُوا اللَّهَ) الواو عاطفة واتقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ولفظ الجلالة مفعول به (وَاعْلَمُوا) عطف على اتقوا (أَنَّكُمْ) ان واسمها (إِلَيْهِ) الجار والمجرور متعلقان بتحشرون (تُحْشَرُونَ) فعل مضارع وفاعل والجملة الفعلية خبر أن، وأن وما بعدها في تأويل مصدر سدت مسد مفعولي اعلموا. [سورة البقرة (2) : الآيات 204 الى 206] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) اللغة: (أَلَدُّ الْخِصامِ) الألدّ: صفة مشبّهة، والّلدد: شدة الجدال، وتركت فلانا يتلدّد أي يتلفّت يمينا وشمالا من حيرته فما يستقرّ على حال، فهي كلمة متحرّكة تمثّل صورة مركبّة، والخصام: مصدر خاصم، قاله الخليل، وقال الزجاج: الخصام: جمع خصم كصعب وصعاب، وضخم وضخام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 الإعراب: (وَمِنَ النَّاسِ) الواو عاطفة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم والجملة منسوقة على جملة فمن الناس إلخ (مِنَ) اسم موصول مبتدأ مؤخر (يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) فعل مضارع ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (فِي الْحَياةِ) الجار والمجرور متعلقان «بقوله» أو يعجبك، فعلى الأول يكون القول صادرا في الحياة، وعلى الثاني يكون الإعجاب صادرا فيها (الدُّنْيا) صفة للحياة (وَيُشْهِدُ) الواو استئنافية أو عاطفة ويشهد فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو (اللَّهَ) لفظ الجلالة مفعول به (عَلى ما) الجار والمجرور متعلقان بيشهد (فِي قَلْبِهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول أي من مدلول القول (وَهُوَ) الواو حالية وهو مبتدأ (أَلَدُّ الْخِصامِ) خبر (وَإِذا) الواو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متعلق بالجواب (تَوَلَّى) فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو والجملة في محل جر بالإضافة (سَعى) فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (فِي الْأَرْضِ) الجار والمجرور متعلقان بسعى (لِيُفْسِدَ فِيها) اللام للتعليل ويفسد فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بيفسد (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) عطف على ليفسد (وَاللَّهُ) الواو استئنافية والله مبتدأ (لا) نافية (يُحِبُّ الْفَسادَ) فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو أي الله تعالى والفساد مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر الله (وَإِذا قِيلَ) الواو عاطفة على قوله يعجبك، ولك أن تجعلها استئنافية، وإذا ظرف لما يستقبل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 الزمن وجملة قيل في محل جر بالإضافة (لَهُ) الجار والمجرور متعلقان بقيل (اتَّقِ اللَّهَ) اتق فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت ولفظ الجلالة مفعول به، والجملة مقول القول (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ) فعل ماض وتاء التأنيث الساكنة والهاء مفعول به والعزة فاعله والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (بِالْإِثْمِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي ملتبسة، وتكون الباء للمصاحبة. ويجوز أن يتعلقان بأخذته، فتكون الباء لمجرد التعدية (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) الفاء الفصيحة كأنه أجاب عن مصيره وحسبه خبر مقدم وجهنم مبتدأ مؤخر (وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) الواو واو القسم واللام واقعة في جواب القسم أي والله، وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والمهاد فاعله والمخصوص بالذم محذوف أي هي، والجملة جواب قسم لا محل لها. [سورة البقرة (2) : الآيات 207 الى 209] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) اللغة: (يَشْرِي) : يبيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 (السلم) : الاستسلام وهو بكسر السين وفتحها. (كَافَّةً) : من الكفّ كأنهم كفّوا عن أن يشذ واحد منهم. الإعراب: (وَمِنَ النَّاسِ) الواو عاطفة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (مِنَ) مبتدأ مؤخر والجملة معطوفة على قوله: «فمن الناس» لاستيفاء أقسامهم (يَشْرِي نَفْسَهُ) فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به والجملة صلة الموصول (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ) مفعول لأجله وما بعده مضاف اليه (وَاللَّهُ) الواو استئنافية والله مبتدأ (رَؤُفٌ) خبر (بِالْعِبادِ) الجار والمجرور متعلقان برءوف (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعراب نظائرها (ادْخُلُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (فِي السِّلْمِ) الجار والمجرور متعلقان بادخلوا والجملة استئنافية (كَافَّةً) حال من الواو في ادخلوا ومن السلم لأنه يذكر ويؤنث (وَلا) الواو عاطفة ولا ناهية (تَتَّبِعُوا) فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل (خُطُواتِ الشَّيْطانِ) مفعول به ومضاف إليه (إِنَّهُ) ان واسمها (لَكُمْ) جار ومجرور متعلقان بعدو (عَدُوٌّ) خبر (مُبِينٌ) صفة والجملة تعليلية لا محل لها. (فَإِنْ زَلَلْتُمْ) الفاء استئنافية، وإن شرطية، وزللتم فعل ماض وفاعله وهو في محل جزم فعل الشرط (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) الجار والمجرور متعلقان بزللتم وما مصدرية مؤولة مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالإضافة وجاءتكم البينات فعل ومفعول به وفاعل (فَاعْلَمُوا) الفاء رابطة لجواب الشرط واعلموا فعل أمر مبني على حذف النون والواو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 فاعل والجملة في محل جزم جواب الشرط (أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أن واسمها وخبراها سدت مسد مفعولي اعلموا. [سورة البقرة (2) : الآيات 210 الى 211] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) اللغة: (الظّلل) : جمع ظلّة بضم الظاء، وهي كل ما أظلّك، مثل ظلال جمع ظلّ. (الْغَمامِ) : السحاب الأبيض الرقيق، وهو مظنّة الرحمة، ويغطي السماء ويغيّر لونها. ومن عجيب أمر الغين والميم أنهما إذا وقعتا فاء وعينا للكلمة دلتا على معنى التغطية وحجب الشيء وإخفائه، ومنه غمد السيف أي قرابه الذي يخفيه، وتغمّد الله فلانا برحمته ستره، وغمره الماء غطاه، وأرض غمقة تغمرها الأنداء، وعن عمر بن الخطاب: «إن الأردنّ أرض غمقة وإن الجابية أرض نزهة» ، وغم الهلال اختفى. وهذا من الأعاجيب. الإعراب: (هَلْ) حرف استفهام معناه الإنكار والتوبيخ (يَنْظُرُونَ) فعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 مضارع مرفوع والواو فاعل ومعناه ينتظرون، أو ينظرون من النظر (إِلَّا) أداة حصر (أَنْ يَأْتِيَهُمُ) أن حرف مصدري ونصب وهي وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول ينظرون، والجملة مستأنفة مسوقة لتوبيخ المحجمين عن الإسلام أو الزّالون المخطئون (اللَّهُ) فاعل يأتيهم (فِي ظُلَلٍ) الجار والمجرور متعلقان بيأتيهم (مِنَ الْغَمامِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لظلل (وَالْمَلائِكَةُ) الواو عاطفة والملائكة عطف على الله (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) عطف على يأتيهم داخل في حيز الانتظار، ولك أن تجعلها جملة مستأنفة (وَإِلَى اللَّهِ) الواو عاطفة والجار والمجرور متعلقان بترجع (تُرْجَعُ) فعل مضارع مبني للمجهول (الْأُمُورُ) نائب فاعل (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) سل فعل أمر مبني على السكون وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت وبني مفعول به منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم وإسرائيل مضاف إليه وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف والجملة استئنافية (كَمْ آتَيْناهُمْ) كم اسم استفهام في محل نصب مفعول به ثان لآتيناهم وآتيناهم فعل وفاعل ومفعول به أول وجملة آتيناهم في موضع المفعول الثاني لسل لأنها معلقة عن العمل عاملة في المعنى. وإنما علقت «سل» وليست من أفعال القلوب لأن السؤال سبب العلم فأجري السبب مجرى المسبب في ذلك. وأجاز بعضهم أن تكون كم خبرية وفي ذلك اقتطاع للجملة التي هي فيها (مِنْ آيَةٍ) تمييز كم الاستفهامية وإذا فصل بينها وبين مميزها فالأحسن أن يؤتى ب «من» . واختلف في «من» فقيل: هي زائدة، واختاروا في حواشي المغني أن تكون بيانية والتمييز محذوف. ومن آية: متعلقان بالفعل. وسيرد المزيد من هذا البحث في باب الفوائد (بَيِّنَةٍ) صفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وجملة «سل بني إسرائيل» مستأنفة للتنديد ببني إسرائيل الذين يكفرون بنعمة الله ويبدلونها (وَمَنْ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لزيادة التقريع وإقامة الحجة عليهم، ومن شرطية في محل رفع مبتدأ (يُبَدِّلْ) فعل الشرط (نِعْمَةَ اللَّهِ) مفعول به (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالاضافة، وجاءته فعل ماض ومفعول به، وفاعله ضمير مستتر تقديره هي (فَإِنَّ اللَّهَ) الفاء رابطة لجواب الشرط وإن واسمها (شَدِيدُ الْعِقابِ) خبرها وجملة ان وما بعدها في محل جزم جواب الشرط الجازم. البلاغة: في قوله تعالى «في ظلل من الغمام» مجاز مرسل علاقته السببية، لأن الغمام مظنّة الرحمة أو العذاب وسببهما، فمنه تهطل الأمطار، وقد تنشأ السيول المتلفة الجارفة، وتنزل الصواعق المهلكة. الفوائد: أورد ابن هشام فصلا في إعراب هذه الآية فلخصه فيهما يلي لأهميته: «قوله تعالى: «سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية» إن قدرت «من» زائدة ف «كم» مبتدأ أو مفعول ل «آتينا» مقدرا بعده، وإن قدرتها بيانا ل «كم» كما هي بيان ل «ما» في «ما ننسخ من آية» لم يجز واحد من الوجهين لعدم الراجع حينئذ الى كم، وإنما هي مفعول ثان مقدم مثل: «أعشرين درهما أعطيتك» وجوز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 الزمخشري في: كم أن تكون خبرية، أي أن ما سبق كله بناء على أن «كم» اسم استفهام. وهذا مقابله ثم قال: «ولم يذكر النحويون أن كم الخبرية تعلق العامل عن العمل، وجوز بعضهم زيادة «من» وإنما تزاد بعد الاستفهام ب «هل» خاصة، وقد يكون تجويزه ذلك على قول من لا يشترط كون الكلام غير موجب مطلقا، أو على قول من يشترطه في غير باب التمييز، ويرى أنها في: «رطل من زيت» و «خاتم من حديد» زائدة لا مثبتة «اه» . هذا وتأتي كم على قسمين: استفهامية وخبرية، وسيرد الكثير من أبحاثهما في هذا الكتاب. [سورة البقرة (2) : آية 212] زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) الإعراب: (زُيِّنَ) فعل ماض مبني للمجهول (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) الجار والمجرور متعلقان بزين، وجملة كفروا صلة الموصول لا محل لها (الْحَياةُ) نائب فاعل (الدُّنْيا) صفة للحياة والجملة مستأنفة مسوقة للتنديد بمن جعلوا الدنيا وما فيها من متع خلوب هدفهم فيها (وَيَسْخَرُونَ) معطوفة على جملة زين، ويحتمل أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف، أي وهم يسخرون فيكون من عطف الاسمية على الفعلية، للإشعار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 بأنه أتى بالأولى فعلية دلالة على التجدد والحدوث (مِنَ الَّذِينَ) الجار والمجرور متعلقان بيسخرون (آمَنُوا) فعل وفاعل والجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الذين (وَالَّذِينَ) الواو عاطفة والذين مبتدأ (اتَّقَوْا) الجملة صلة الموصول (فَوْقَهُمْ) ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر الذين (يَوْمَ الْقِيامَةِ) متعلق بما تعلق به الظرف (وَاللَّهُ) الواو استئنافية والله مبتدأ (يَرْزُقُ) فعل مضارع وفاعله مستتر يعود على الله لفظ الجلالة والجملة خبر لفظ الجلالة الله (مِنَ) اسم موصول مفعول به (يَشاءُ) فعل مضارع والجملة صلة من (بِغَيْرِ حِسابٍ) الجار والمجرور متعلقان بيرزق. البلاغة: في هذه الآية مفارقة في الجمل، فقد عبر عن زينة الحياة الدنيا في نظر الذين كفروا وعن سخريتهم من المؤمنين بالفعلية إشارة الى الحدوث، وإن ذلك أمر طارئ لا يلبث أن يزول بصوارف متعددة. أما استعلاء الذين اتقوا عليهم فهو أمر ثابت الدّيمومة لا يطرأ عليه أي تبديل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 [سورة البقرة (2) : آية 213] كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) الإعراب: (كانَ النَّاسُ أُمَّةً) كان واسمها وخبرها (واحِدَةً) صفة (فَبَعَثَ) الفاء عاطفة على جملة مقدرة اختصارا وإيجازا، أي كان الناس متفقين على الحق فاختلفوا فبعث. والكلام مستأنف مسوق للدلالة على كيفية الاختلاف السائد بين الناس والزيغ المؤدي الى التفريق بينهم، وذلك بدلالة ما بعده وبعث فعل ماض (اللَّهُ) فاعل (النَّبِيِّينَ) مفعول به (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) حالان والثاني معطوف على الأول (وَأَنْزَلَ) عطف على فبعث (مَعَهُمُ) ظرف زمان متعلق بمحذوف حال من «الكتاب» أي وأنزل الكتاب مصاحبا لهم وقت الإنزال (الْكِتابَ) مفعول به (بِالْحَقِّ) جار ومجرور متعلقان بأنزل والباء للملابسة، أي أي أنزله إنزالا ملتبسا بالحق (لِيَحْكُمَ) اللام للتعليل ويحكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ولام التعليل ومجرورها المؤول متعلقان بأنزل أيضا (بَيْنَ النَّاسِ) الظرف المكاني متعلق بيحكم، والناس مضاف إليه (فِيمَا) الجار والمجرور متعلقان بيحكم (اخْتَلَفُوا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة «ما» الموصولية (فِيهِ) الجار والمجرور متعلقان باختلفوا (وَمَا) الواو عاطفة وما نافية (اخْتَلَفَ) فعل ماض (فِيهِ) الجار والمجرور متعلقان باختلف (إِلَّا) أداة حصر (الَّذِينَ) فاعل اختلف (أُوتُوهُ) فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل هو المفعول الاول والهاء مفعول به ثان (مِنْ بَعْدِ) الجار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 والمجرور متعلقان باختلف (مَا) مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مضاف إليه، أي من بعد مجيء البينات (جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) فعل ومفعول به مقدم والبينات فاعل مؤخر (بَغْياً) مفعول لأجله، أي حسدا منهم، وقيل: حال مؤولة، وليس ببعيد (بَيْنَهُمْ) الظرف المكاني متعلق بمحذوف صفة لبغيا (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) الفاء عاطفة وهدى فعل ماض والله فاعل والذين وصلتها مفعول به (لِمَا) الجار والمجرور متعلقان بهدى وما موصولية (اخْتَلَفُوا) فعل وفاعل والجملة صلة ما (فِيهِ) الجار والمجرور متعلقان باختلفوا (مِنَ الْحَقِّ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من «ما» (بِإِذْنِهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من الذين آمنوا، أي: مأذونا لهم فهو حال من المفعول به (وَاللَّهُ) الواو استئنافية والله مبتدأ (يَهْدِي) فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى، والجملة في محل رفع خبر الله (مِنْ) اسم موصول مفعول به (يَشاءُ) الجملة صلة الموصول لا محل لها (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الجار والمجرور متعلقان بيهدي ومستقيم صفة. البلاغة: في هذه الآية الكريمة فن القلب، وهو شائع في كلامهم، ومثل له السّكاكي والزمخشري والجوهري بقوله تعالى: «ويوم يعرض الذين كفروا على النار» والأصل فيه: ويوم تعرض النار على الذين كفروا. كما مثلوا في الشعر بقول عروة بن الورد: فديت بنفسه نفسي وما لي ... وما آلوك إلا ما أطيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 والأصل فديت نفسه بنفسي، فالمفدي نفس المحبوب، والمفدي به نفس الشاعر، لا العكس كما هو ظاهر البيت، وبقول المتنبي: وعذلت أهل العشق حتى ذقته ... فعجبت كيف يموت من لا يعشق لأن أصله كيف لا يموت من يعشق، والصواب خلافه. وأن المراد أنه صار يرى أن لا سبب للموت سوى العشق. وفي الآية التي نحن بصددها قال أبو جعفر الطبري: «وإنما معنى ذلك: فهدى الله الذين آمنوا للحق فيما اختلف فيه من كتاب الله الذين أوتوه، والله تبارك وتعالى إنما خاطبهم بمنطق العرب، ومثل له أبو جعفر بقول النابغة الجعدي: كانت فريضة ما تقول كما ... كان الزّناء فريضة الرجم وإنما الرجم فريضة الزنا. [سورة البقرة (2) : آية 214] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) اللغة: (زُلْزِلُوا) أزعجوا إزعاجا شديدا شبيها بالزلزلة بما أصابهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 من الهول والفزع. وتكرير الزاي واللام إشعار بتكرير الإزعاج مرّة بعد مرة. وقد ألمع ابن جنّي في كتاب الخصائص الى هذا الباب وسماه قوة اللفظ لقوة المعنى، كما ذكره ابن الأثير في كتاب المثل السائر. وخلاصة ما قرراه أن اللفظ إذا كان على وزن ثم نقل الى وزن آخر أكثر منه فلا بد من أن يتضمن من المعنى أكثر من الذي تضمنه، فاخشوشن تدل على زيادة الخشونة أكثر من خشن، واعذوذب الماء تدل على زيادة العذوبة أكثر من عذب، وسيأتي الكثير من الأمثلة في هذا الكتاب. (حَسِبْتُمْ) حسبت زيدا قائما أحسبه من باب تعب، أي بكسر السين في الماضي وفتحها في المضارع، في لغة جميع العرب، إلا بني كنانة، فانهم يكسرون سين المضارع مع كسر سين الماضي أيضا على غير قياس، حسبانا بالكسر، بمعنى ظننته. وحسبت المال حسبا من باب قتل، أي بفتح السين في الماضي وضمها في المضارع، أحصيته عددا وفي المصدر أيضا، وحسبانا بالضم. الإعراب: (أَمْ) عاطفة منقطعة مقدرة ببل، وهمزة الاستفهام محذوفة، والمعنى: بل أحسبتم، والاستفهام للتوبيخ والإنكار (حَسِبْتُمْ) فعل وفاعل (أَنْ تَدْخُلُوا) أن حرف مصدري ونصب وتدخلوا فعل مضارع منصوب بأن وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل (الْجَنَّةَ) مفعول به على السعة، وأن وما بعدها في تأويل مصدر سد مسد مفعولي حسبتم (وَلَمَّا) الواو حالية ولما حرف نفي جازم (يَأْتِكُمْ) فعل مضارع مجزوم بلما وعلامة جزمه حذف حرف العلة والكاف مفعول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 يأتكم (مَثَلُ) فاعل يأتكم (الَّذِينَ) مضاف إليه (خَلَوْا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة الذين (مِنْ قَبْلِكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بخلوا (مَسَّتْهُمُ) مسّ فعل ماض والتاء تاء التأنيث الساكنة والهاء مفعول به (الْبَأْساءُ) فاعل (وَالضَّرَّاءُ) عطف على البأساء، والجملة مستأنفة لا محل لها، كأن قائلا قال: كيف كان ذلك المثل وما هي ما هيته؟ فقيل: مستهم البأساء، ولك أن تجعلها تفسيرية، وعلى كل حال لا محل لها من الإعراب (وَزُلْزِلُوا) الواو عاطفة وزلزلوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل والجملة معطوفة على مستهم (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) حتى حرف غاية وجر ويقول فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والرسول فاعل (وَالَّذِينَ) عطف على الرسول (آمَنُوا) الجملة لا محل لها لأنها صلة الذين (مَعَهُ) الظرف المكاني متعلق بآمنوا (مَتى نَصْرُ اللَّهِ) متى اسم استفهام في محل نصب ظرف على الظرفية الزمانية والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم ونصر الله مبتدأ مؤخر والجملة في محل نصب مقول القول (أَلا) أداة استفتاح وتنبيه (إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) ان واسمها وخبرها والجملة مستأنفة. [سورة البقرة (2) : آية 215] يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 الإعراب: (يَسْئَلُونَكَ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والكاف مفعول به (ماذا) تقدّم القول في ماذا فيجوز أن نعربها اسم استفهام في محل نصب مفعول به مقدم لينفقون، ويجوز إعراب ما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وذا اسم موصول في محل رفع خبر والجملة في محل نصب مفعول مقدم لينفقون، وجملة يسألونك مستأنفة مسوقة للاستفهام عن المال المنفق ومصرفه. قالوا: والسائل عمرو بن الجموح، وكان شيخا ذا مال، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ماذا ينفق؟ وعلى من ينفق؟ وهذا كله في صدقة التطوع (يُنْفِقُونَ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والجملة في محل نصب مفعول ثان ليسألونك (قُلْ) فعل أمر وفاعله والجملة مستأنفة مسوقة لبيان الجواب عن السؤال، (ما أَنْفَقْتُمْ) ما شرطية في محل نصب مفعول به مقدم لأنفقتم وأنفقتم فعل في محل جزم فعل الشرط وفاعل، والجملة مقول القول (مِنْ خَيْرٍ) الجار والمجرور في محل نصب حال (فَلِلْوالِدَيْنِ) الفاء رابطة لجواب الشرط والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف أي فهو للوالدين، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط (وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) كلها معطوفة على الوالدين (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) تقدم إعرابها في الآية السابقة. الفوائد: قاعدة عامة لإعراب أدوات الشرط: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 «من، ما، مهما» : إن كان فعل الشرط يطلب مفعولا به فهي منصوبة محلا على المفعولية، وإن كان لازما أو متعديا استوفى مفعوله فهي مرفوعة محلا على الابتداء. «حيثما» في محل نصب ظرف زمان. «متى، أيان، أين، أنى» في محل نصب ظرف زمان. «كيفما» في محل نصب حال من فاعل الشرط. «أي» بحسب ما تضاف إليه. [سورة البقرة (2) : آية 216] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) الإعراب: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) كتب فعل مبني للمجهول وعليكم متعلقان بكتب، والقتال نائب فاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان مشروعية القتال. ومعنى كتب فرض، والفرض إما عين إذا دخل العدو البلاد، وإما فرض كفاية إذا كان العدو ببلاده (وَهُوَ) الواو حالية وهو مبتدأ (كُرْهٌ) خبر (لَكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بكره، والجملة الاسمية بعد واو الحال في محل نصب على الحال (وَعَسى) الواو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 استئنافية وعسى فعل ماض جامد لانشاء التّرجّي وهي هنا تامة، وذلك مطرد في عسى واخلولق وأوشك إذا وليتها أن (أَنْ تَكْرَهُوا) أن وما في حيزها في تأويل مصدر فاعل عسى (شَيْئاً) مفعول به (وَهُوَ) الواو حالية وهو مبتدأ (خَيْرٌ) خبر (لَكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بخير والجملة الاسمية بعد الواو في محل نصب حال. وهنا مشكلة نعرض لها في باب الفوائد (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) تقدم إعرابها (وَاللَّهُ) الواو استئنافية والله مبتدأ (يَعْلَمُ) فعل مضارع وفاعل مستتر والجملة خبر المبتدأ (وَأَنْتُمْ) الواو عاطفة وأنتم مبتدأ (لا تَعْلَمُونَ) لا نافية وتعلمون فعل مضارع والواو فاعل والجملة خبر أنتم. البلاغة: في الآية الطباق بين الحب والكره وبين كره وشرّ، ويسمى حينئذ مقابلة وقد تقدم بحثها. الفوائد: يشكل في الآية مجيء الحال من النكرة بغير شرط من شروطها المعروفة، ولذلك جنح بعض المعربين الى إعراب الجملة وهي «وهو خير لكم» صفة لشيئا، وإنما دخلت الواو على الجملة الواقعة صفة لأن صورتها صورة الحال، فكما تدخل الواو عليها حالية تدخل عليها صفة، وذلك ما أجازه الزمخشري في قوله تعالى: «وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم» وسترد في مكانها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 [سورة البقرة (2) : الآيات 217 الى 218] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) اعراب: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مسوقة لبيان حكم القتال في الشهر الحرام، وهو رجب، ويسألونك فعل وفاعل ومفعول به، والجار والمجرور متعلقان بيسألونك، والحرام صفة (قِتالٍ) بدل اشتمال من الشهر (فِيهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لقتال، ووجهه أن السؤال عن الشهر لم يكن إلا باعتبار ما وقع فيه من القتال، والمعنى يسألونك عن القتال في الشهر الحرام. وأنشد سيبويه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدّما (قُلْ) فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت يا محمد والجملة مستأنفة (قِتالٍ) مبتدأ، وساغ الابتداء به وهو نكرة لأنه وصف (فِيهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر (كَبِيرٌ) صفة للقتال (وَصَدٌّ) عطف على قتال فهو مبتدأ وساغ الابتداء به لأنه مندرج لما عطف عليه من معارف (عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بصد (وَكُفْرٌ بِهِ) عطف على صد، والجار والمجرور متعلقان بكفر (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) عطف على سبيل الله أي وعن المسجد الحرام (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ) عطف على صد (أَكْبَرُ) خبر ما تقدم جميعه وجملتها أربعة وأخبر عنها بأكبر لأنه اسم تفضيل يستوي فيه الواحد والأكثر إذا كان مجردا من الألف واللام ومن الإضافة (عِنْدَ اللَّهِ) الظرف المكاني متعلق بأكبر (وَالْفِتْنَةُ) الواو استئنافية والفتنة مبتدأ (أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) خبر والجملة لا محل لها، ويمكن إعراب الواو حالية فتكون الجملة نصبا على الحال، ومن القتل الجار والمجرور متعلقان بأكبر (وَلا يَزالُونَ) الواو عاطفة ولا يزالون فعل مضارع ناقص من أخوات كان والواو اسمها (يُقاتِلُونَكُمْ) فعل مضارع وفاعل ومفعول به والجملة خبر يزالون (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ) حتى حرف غاية وجر أو للتعليل، ويردوكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى (عَنْ دِينِكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بيردوكم (إِنِ) شرطية (اسْتَطاعُوا) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والواو فاعل وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله، أي يردّوكم (وَمَنْ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ (يَرْتَدِدْ) فعل الشرط (مِنْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (عَنْ دِينِهِ) الجار والمجرور متعلقان بيرتدد (فَيَمُتْ) الفاء عاطفة ويمت فعل مضارع مجزوم عطفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 على يرتدد (وَهُوَ) الواو حالية وهو مبتدأ (كافِرٌ) خبر والجملة الاسمية في محل نصب حال (فَأُولئِكَ) الفاء رابطة لجواب الشرط وأولئك اسم إشارة مبتدأ (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) فعل وفاعل والجملة خبر أولئك، وجملة الاشارة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (فِي الدُّنْيا) الجار والمجرور متعلقان بحبطت (وَالْآخِرَةِ) عطف على الدنيا (وَأُولئِكَ) الواو عاطفة وأولئك مبتدأ (أَصْحابُ النَّارِ) خبر (هُمْ) ضمير منفصل مبتدأ (فِيها) الجار والمجرور متعلقان بقوله خالدون (خالِدُونَ) خبر وجملة هم فيها خالدون في محل نصب حال (إِنَّ الَّذِينَ) ان واسمها (آمَنُوا) الجملة لا محل لها لأنها صلة الذين (وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) عطف على ما تقدم (أُولئِكَ) اسم الاشارة مبتدأ (يَرْجُونَ) فعل مضارع وفاعل والجملة خبر أولئك (رَحْمَتَ اللَّهِ) مفعول به، وجملة الاشارة جملة اسمية في محل رفع خبر إن (وَاللَّهُ) الواو استئنافية والله مبتدأ (غَفُورٌ رَحِيمٌ) خبر ان لله. [سورة البقرة (2) : الآيات 219 الى 220] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 اللغة: (الْخَمْرِ) : سمّيت الخمر بالمصدر من خمره خمرا إذا ستره للمبالغة في تضييعها للعقول وسترها وإخفائها. وقيل: إنما سميت الخمر خمرا لأنها تركت حتى أدركت، يقال: اختمر العجين أي بلغ إدراكه، وقيل: إنما سميت الخمر خمرا لأنها تخالط العقل، من المخامرة وهي المخالطة، وهذه المعاني الثلاثة متقاربة موجودة في الخمر، وهذا موجز لبعض أسماء الخمر التي هي صفات: الشمول: لأنها تشمل القوم بريحها. المشمولة: التي أبرزت للشمال. الرحيق: صفوة الخمر التي ليس فيها غش. الخندريس: القديمة منها. الحمّيا: الشديدة منها. العقار: بضم العين لأنها عاقرت الدّزّ. الراح: لأن شاربها يرتاح لها أو التي يستطيب ريحها، ويقال: بل التي يجد بها روحا. وقد جمع ابن الرومي معاني الراح بقوله: والله ما أدري لأية علّة ... يدعونها في الراح باسم الراح ألريحها أم روحها تحت الحشا ... أم لارتياح نديمها المرتاح المدامة: التي أديمت في مكانها حتى سكنت حركتها. المعتقة: التي أديمت في مكانها حتى عتقت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 القهوة: هي التي تقهي صاحبها، أي تذهب بشهوة طعامه. السلاف: التي تحلب عصيرها من غير عصر. الصهباء: لأنها تترجح بين الحمرة والشقرة. الكميت: بضم الكاف لما فيها من سواد وحمرة. القرقف: لبرودتها. وغير ذلك. (الْمَيْسِرِ) : مصدر ميمي من يسر كالموعد والمرجع، يقال: يسرته: إذا قمرته، وقمره: غلبه بالقمار. قال الشاعر: قالت: أنا قمرته ... قلت: اسكتي فهو قمر واشتقاق الميسر إما من اليسر لأن فيه أخذ المال بيسر من غير كدّ وتعب، وإما من اليسار أي الغنى لأنه سبب له. وقد تفنّن البشر، الى اليوم، في ألعاب الميسر المحرمة عقلا وشرعا لأنها مفسدة ما بعدها مفسدة. قال أديب إسحق من شعراء العصر الحديث: لكل نقيصة في الناس عار ... وشرّ معايب المرء القمار (الْعَفْوَ) : الزيادة عن الحاجة. الإعراب: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) فعل وفاعل ومفعول به والجار والمجرور متعلقان بيسألونك والميسر معطوف على الخمر والجملة مستأنفة مسوقة لبيان تحريم الخمر والميسر لما فيهما من مفاسد اجتماعية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 ضارة (قُلْ) فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والجملة مستأنفة أيضا (فِيهِما) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم (إِثْمٌ) مبتدأ مؤخر (كَبِيرٌ) صفة لإثم، والجملة الاسمية مقول القول (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) عطف على إثم، وللناس جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (وَإِثْمُهُما) الواو عاطفة وإثم مبتدأ والهاء مضاف إليه، والميم والألف حرفان دالّان على التثنية (أَكْبَرُ) خبر (مِنْ نَفْعِهِما) الجار والمجرور متعلقان بأكبر (وَيَسْئَلُونَكَ) عطف على يسألونك (ماذا يُنْفِقُونَ) تكرّر إعرابها فجدّد به عهدا (قُلْ) فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة مستأنفة (الْعَفْوَ) مفعول به لفعل محذوف تقديره أنفقوا والجملة مقول القول (كَذلِكَ يُبَيِّنُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف مفعول مطلق أو حال، ويبين فعل مضارع مرفوع (اللَّهُ) فاعل يبين (لَكُمُ) الجار والمجرور متعلقان بيبين (الْآياتِ) مفعول به (لَعَلَّكُمْ) لعل واسمها (تَتَفَكَّرُونَ) فعل مضارع وفاعل والجملة خبر لعل وجملة الرجاء حالية وجملة كذلك يبين إلخ مستأنفة (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الجار والمجرور متعلقان بتتفكرون أو بيبين فالمعنى على الأول: فيما هو صلاحكم في الدارين وعلى الثاني يبين لكم الآيات فيما ينفعكم في الدارين (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) تقدم إعرابها (قُلْ) فعل أمر وفاعل مستتر والجملة مستأنفة (إِصْلاحٌ) مبتدأ وسوغ الابتداء به وصفه بالجار والمجرور (لَهُمْ) الجار والمجرور صفة لإصلاح (خَيْرٌ) خبر إصلاح والجملة الاسمية مقول القول (وَإِنْ) الواو استئنافية وإن شرطية (تُخالِطُوهُمْ) فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به أي تحسنوا معاشرتهم بالمخالطة والمعاشرة الطيبة (فَإِخْوانُكُمْ) الفاء رابطة لجواب الشرط وإخوانكم خبر لمبتدأ محذوف أي فهم إخوانكم، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 الشرط. ولا بد من تقدير محذوف أي فلكم ذلك ثم علل ذلك بقوله: فهم إخوانكم (وَاللَّهُ) الواو استئنافية والواو مبتدأ (يَعْلَمُ) الجملة خبر المبتدأ وفاعل يعلم ضمير مستتر يعود على الله تعالى (الْمُفْسِدَ) مفعول به (مِنَ الْمُصْلِحِ) الجار والمجرور متعلقان بيعلم لتضمنه معنى يميز (وَلَوْ) الواو استئنافية ولو شرطية (شاءَ اللَّهُ) فعل وفاعل، ومفعول المشيئة محذوف تقديره إعناتكم (لَأَعْنَتَكُمْ) اللام واقعة في جواب لو وأعنتكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وجملة لأعنتكم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (إِنَّ اللَّهَ) إن واسمها (عَزِيزٌ حَكِيمٌ) خبر إن، والجملة لا محل لها لأنها بمثابة التعليل. الفوائد: لمحة تاريخية أدبية: نزلت في الخمر أربع آيات: 1- الأولى نزلت في مكة وهي: «ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا» فكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم. 2- والثانية نزلت في المدينة فقد أتى عمر بن الخطاب ومعاذ ابن جبل وجماعة من الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر فانها مذهبة للعقل مسلبة للمال؟ فتركها قوم لقوله: «قل فيهما إثم كبير» . 3- والثالثة أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما ودعا إليه ناسا فشربوا وسكروا، وحضرت صلاة المغرب، فقدموا أحدهم ليصلي بهم، فقرأ: «قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون» بحذف «لا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 النافية، فأنزل الله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون» فقلّ من يشربها. 4- والرابعة أن عتبان بن مالك دعا قوما فيهم سعد بن أبي وقاص الى طعام وشراب، فأكلوا وشربوا الخمر حتى أخذت منهم، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا الأشعار، حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار، فضربه أنصاري بلحي بعير فشجه، فانطلق سعد الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الأنصاري، فقال عمر: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا، فأنزل الله تعالى: «إنما الخمر والميسر» الى قوله «فهل أنتم منتهون» فقال عمر: انتهينا يا رب. [سورة البقرة (2) : آية 221] وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) الإعراب: (وَلا) الواو استئنافية ولا ناهية (تَنْكِحُوا) بفتح التاء مضارع نكح مجزوم بلا والواو فاعل (الْمُشْرِكاتِ) مفعول به وعلامة نصبه الكسرة لأنه جمع مؤنث سالم (حَتَّى يُؤْمِنَّ) حتى حرف غاية وجر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ويؤمن فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة وهو في محل نصب بأن مضمرة بعد حتى ونون النسوة فاعل والجار والمجرور من حتى والمصدر المؤول متعلقان بتنكحوا (وَلَأَمَةٌ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان الفرق بين المؤمنة والمشركة واللام للابتداء وأمة مبتدأ، وساغ الابتداء بالنكرة لوصفها (مُؤْمِنَةٌ) صفة لأمة (خَيْرٌ) خبر (مِنْ مُشْرِكَةٍ) الجار والمجرور متعلقان بخير (وَلَوْ) الواو للحال ولو شرطية بمعنى إن (أَعْجَبَتْكُمْ) فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هي يعود على الأمة والكاف مفعول به، وجملة أعجبتكم خبر لكان المحذوفة هي واسمها بعد لو، وجملة لو أعجبتكم حالية والمعنى ولأمة مؤمنة خير من مشركة حال كونها قد أعجبتكم لجمالها ومالها، وسيأتي مزيد بيان لذلك في باب الفوائد (وَلا) الواو عاطفة ولا ناهية (تَنْكِحُوا) بضم التاء مضارع أنكح مجزوم بلا والواو فاعل (الْمُشْرِكِينَ) مفعول به (حَتَّى يُؤْمِنُوا) حتى حرف غاية وجر ويؤمنوا فعل مضارع مجزوم بأن مضمرة بعد حتى (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) تقدم إعراب مثيلتها (أُولئِكَ) اسم الإشارة مبتدأ (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) الجملة خبر اسم الاشارة والجملة مستأنفة مسوقة لبيان الحكمة في ذلك، ولك أن تجعلها مفسرة. وعلى كل حال لا محل لها (وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ) عطف على ما تقدم (وَالْمَغْفِرَةِ) عطف على الجنة (بِإِذْنِهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي آذنا بذلك (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ) عطف على يدعو وآياته مفعول به وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة (لِلنَّاسِ) الجار والمجرور متعلقان بيبين (لَعَلَّهُمْ) لعل واسمها (يَتَذَكَّرُونَ) الجملة الفعلية خبر لعل، وجملة الرجاء حالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 الفوائد: يطرد حذف كان واسمها وبقاء خبرها بعد إن ولو الشرطيتين، وسيرد تفصيل ذلك في مواضعه. لمحة تاريخية: في هذه الآية تهذيب رفيع وتعاليم إنسانية رائعة وشجب للتمييز العنصري واللوني، قيل: نزلت هذه الآية في عبد الله ابن رواحة، وقد كانت عنده أمة سوداء فغضب عليها يوما فلطها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال له النبي: وما هي يا عبد الله؟ قال: هي تشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وتصوم رمضان وتحسن الوضوء وتصلّي قال: هذه مؤمنة قال عبد الله: فوالذي بعثك بالحقّ لأعتقنّها ولأتزوّجنّها ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا: أتنكح أمة وعرضوا عليه حرّة مشركة فنزلت. [سورة البقرة (2) : الآيات 222 الى 223] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 اللغة: (الْمَحِيضِ) مصدر ميمي أو اسم زمان، والحيض: سيلان الدم. والتفصيل فيه مبسوط في كتب الفقه. الإعراب: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) كلام معطوف على الأحكام المتقدمة ويلاحظ أنه صدر السؤال بالواو ثلاث مرات وجاء مجردا منها أربع مرات، لأن ما جاء مقترنا بالواو حدث السؤال عنه في وقت واحد فحسن عطفه بالواو، أما حيث تختلف الأزمنة في السؤال فقد جاء الكلام مجردا من الواو تنبيها على انقطاع المدد وتفاوتها. وهذا من أسرار القرآن ومعاجزة البديعة. وعن المحيض متعلقان بيسألونك (قُلْ) فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة مستأنفة (هُوَ) مبتدأ (أَذىً) خبر والجملة الاسمية مقول القول (فَاعْتَزِلُوا) الفاء الفصيحة أي إذا شئتم معرفة حكمه فاعتزلوا، والجملة بعدها لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم (النِّساءَ) مفعول به (فِي الْمَحِيضِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي متلبّسات بالمحيض (فَإِذا) الفاء عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه (تَطَهَّرْنَ) فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة والنون ضمير متصل في محل رفع فاعل وجملة تطهرن في محل جر بالإضافة (فَأْتُوهُنَّ) الفاء رابطة لجواب إذا وأتوهن فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (مِنْ حَيْثُ) من حرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 جر وحيث ظرف مكان مبني على الضم في محل جر بمن والجار والمجرور متعلقان بأتوهن (أَمَرَكُمُ اللَّهُ) فعل ماض ومفعول به وفاعل والجملة في محل جر بالاضافة (إِنَّ اللَّهَ) إن واسمها (يُحِبُّ) فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى والجملة في محل رفع خبر إن (التَّوَّابِينَ) مفعول به وجملة إن وما تلاها تعليلية لا محل لها (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) عطف على جملة يحب التوابين (نِساؤُكُمْ) مبتدأ (حَرْثٌ) خبر (لَكُمْ) الجار والمجرور صفة لحرث (فَأْتُوا) الفاء استئنافية وأتوا: فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (حَرْثَكُمْ) مفعول به. والجملتان الاسمية والفعلية مستأنفتان مسوقتان لبيان الحكم في هذه المسألة الاجتماعية، فقد اعتزل المسلمون نساءهم عملا بظاهر آية المحيض، فأخرجوهن من البيوت، فقال ناس من الأعراب: يا رسول الله البرد شديد والثياب قليلة، فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت، وإن استأثرنا بها هلكت الحيّض! فقال: إنما أمرتكم أن تعتزلوا مجامعتهنّ، ولم تؤمروا بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم. ثم إن اليهود جريا على عادتهم في المكابرة واللجاج وإحداث التفرقة والبلبلة أخذوا يروّجون أقوالا لا حقيقة لها. منها قولهم: من أتى امرأته في قبلها من جهة دبرها جاء الولد أحول، فنزلت الآية الثانية والثالثة تسهيلا على العباد وتوفيرا للذتهم، كما سيأتي في باب البلاغة (أَنَّى شِئْتُمْ) مفعول فيه ظرف مكان متعلق بأتوا، وجملة شئتم في محل جر بالإضافة (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) عطف على ما تقدم (وَاتَّقُوا اللَّهَ) عطف أيضا (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) عطف آخر، وأن وما في حيزها سدّت مسد مفعولي اعلموا، وملاقوه خبر أن وعلامة رفعه الواو لأنه جمع مذكر سالم (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) عطف آخر على ما تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 البلاغة: 1- التشبيه البليغ: فقد شبّه النساء بالحرث أولا لما بين ما يلقى في أرحامهن من النّطف وبين البذور من المشابهة، ووجه الشبه أن كلا منهما مادة ما يحصل منه. 2- الكناية، فقد كنّى بإتيان الحرث في أية كيفية عن إتيان المرأة في الكيفية التي يشاؤها المرء من غير حظر ولا حرج ما دام المأتى واحدا وهو موضع الحرث. [سورة البقرة (2) : الآيات 224 الى 225] وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) اللغة: (عُرْضَةً) العرضة بالضم: الشيء الذي ينصب ويعرض، ويقال: هو عرضة لكذا، أي قوي عليه، وهو عرضة للناس، أي: لا يزالون يقعون فيه، وجعلته عرضة كذا، أي نصبته. أي لا تجعلوا الله كالغرض المنصوب للرماة، فكلما أردتم الامتناع من شيء- ولو كان خيرا- تتوصلون الى ذلك بالحلف (اللغو) الساقط الذي لا يؤبه له ولا يعتدّ به من كلام وغيره، والمراد به هنا ما يسيق اليه اللسان من غير قصد الحلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 الإعراب: (وَلا تَجْعَلُوا) الواو استئنافية مسوقة لمعالجة مشكلة اجتماعية خطيرة، وهي جعل اسم الله معرضا لايمانكم تبتذلونه بكثرة الحلف به. أو لا تجعلوه برزخا حاجزا بأن تحلفوا به، فذلك لأن العرضة إما بمعنى فاعل وإما بمعنى مفعول، ولا ناهية وتجعلوا فعل مضارع مجزوم بها (اللَّهَ) مفعول به أول لتجعلوا (عُرْضَةً) مفعول به ثان (لِأَيْمانِكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بعرضة (أَنْ تَبَرُّوا) أن وما في حيزها مصدر مؤول مفعول لأجله أو بدل (وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) عطف على أن تبروا وبين ظرف متعلق بتصلحوا (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، والله مبتدأ وسميع عليم خبراه (لا) نافية (يُؤاخِذُكُمُ) فعل مضارع ومفعول به (اللَّهُ) فاعله والجملة مستأنفة (بِاللَّغْوِ) الجار والمجرور متعلقان بيؤاخذكم (فِي أَيْمانِكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (وَلكِنْ) الواو عاطفة ولكن مهملة للاستدراك (يُؤاخِذُكُمُ) فعل مضارع ومفعول به (بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بيؤاخذكم وما مصدرية أو اسم موصول وقلوبكم فاعل (وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وغفور حليم خبراه. [سورة البقرة (2) : الآيات 226 الى 228] لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 اللغة: (يُؤْلُونَ) : يقسمون، والإيلاء من المرأة أن يقول: والله لا أقربك أربعة أشهر فصاعدا وفي هذا الفعل مباحث تتعلق بعلم الفقه يرجع إليها في مظانّها. (فاؤُ) رجعوا. (التربص) الانتظار والتأنّي، قال: تربّص بها ريب المنون لعلها ... تطلّق يوما أو يموت حليلها (قروء) جمع قرء، وهو الطهر، كما ذهب إليه الشافعي. أو الحيض كما ذهب إليه أبو حنيفة. وخلاف الفقهاء عند الاحتمال اللغوي جميل جدا. فمن إطلاقه على الطهر قول الأعشى: أفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشدّ لأقصاها عظيم عزائكا مورثة مالا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 أي أطهارهن. ومن إطلاقه على الحيض قول النبي صلى الله عليه وسلم: «دعي الصلاة أيام أقرائك» . الإعراب: (لِلَّذِينَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم (يُؤْلُونَ) فعل مضارع والواو فاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (مِنْ نِسائِهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بيؤلون، وحق تعدية فعل الإيلاء ب «على» ولكنه ضمنه معنى البعد لأن المقسمين يبعدون عن نسائهم نسائهم (تَرَبُّصُ) مبتدأ مؤخر و (أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) أربعة أشهر مضاف إليه، والكلام مستأنف لإتمام التشريع (فَإِنْ فاؤُ) الفاء استئنافية وإن شرطية وفاءوا فعل ماض مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الفاء رابطة لجواب الشرط وإن واسمها وخبراها وجملة إنّ وما تلاها في محل جزم جواب الشرط (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) الواو عاطفة وإن شرطية وعزموا فعل ماض مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط والطلاق منصوب بنزع الخافض لأن عزم يتعدى ب «على» وجواب الشرط محذوف تقديره فليوقعوه (فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الفاء عاطفة على الجواب المحذوف بمثابة التعليل، وان واسمها وخبراها (وَالْمُطَلَّقاتُ) الواو استئنافية والمطلقات مبتدأ (يَتَرَبَّصْنَ) فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة والنون فاعل، وجملة يتربصن خبر المطلقات، والجملة المستأنفة لا محل لها مسوقة لبيان أحكام الطلاق (بِأَنْفُسِهِنَّ) الجار والمجرور متعلقان بيتربصن، ومعنى الباء السببية أي من أجل أنفسهن، لأن نفوس النساء طوامح الى الرجال فهن أدرى بقمع شرّتها (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) قال المعربون مفعول به ليتربصن، وأرى أن النصب على الظرفية الزمانية أرجح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 ويتعلق الظرف بيتربصن أي: مدة ثلاثة قروء (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ) الواو عاطفة ولا نافية ويحل فعل مضارع معطوف على يتربصن (أَنْ يَكْتُمْنَ) أن حرف مصدري ونصب ويكتمن فعل مضارع مبني على السكون في محل نصب بأن ونون النسوة فاعل وأن وما في حيزها في تأويل مصدر فاعل يحل (ما) اسم موصول في محل نصب مفعول به (خَلَقَ اللَّهُ) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (فِي أَرْحامِهِنَّ) الجار والمجرور متعلقان بخلق (أَنْ) شرطية (كُنَّ) فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط ونون النسوة ضمير متصل في محل رفع اسم كان (يُؤْمِنَّ) خبر كن وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله أي فلا يجرؤن على ذلك (بِاللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بيؤمن (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) عطف على الله لفظ الجلالة (وَبُعُولَتُهُنَّ) الواو عاطفة وبعولتهن مبتدأ (أَحَقُّ) خبر (بِرَدِّهِنَّ) الجار والمجرور متعلقان بأحق (فِي ذلِكَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي حالة كون الرّدّ في مدة ذلك التربّص (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) أن حرف شرط جازم، أرادوا فعل ماض مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف تقديره: فبعولتهن أحق بردهن، والواو فاعل، إصلاحا مفعول به (وَلَهُنَّ) الواو عاطفة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) مثل مبتدأ مؤخر واسم الموصول مضاف اليه وعليهن صلة الموصول وبالمعروف جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي كائنا في الوجه الذي لا ينكر في الشرع والعادة. وتفصيل هذه الأحكام في كتب الفقه (وَلِلرِّجالِ) الواو عاطفة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (عَلَيْهِنَّ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه تقدم على موصوفه (دَرَجَةٌ) مبتدأ مؤخر (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وعزيز حكيم خبراه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 الفوائد: لوحظ أنه أضاف الثلاثة الى قروء، وهي من جموع الكثرة، لأنه لما جمع المطلقات وكان الواجب على كل منهن ثلاثة أقراء جمع القروء جمع كثرة ليتناسق الكلام، أو أنه من باب الاتساع، ووضع أحد الجمعين في موضع الآخر، للنكتة المشار إليها آنفا. [سورة البقرة (2) : آية 229] الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) الإعراب: (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة لبيان عدد الطلاق الجائز (فَإِمْساكٌ) الفاء الفصيحة كأنه قيل: إذا علمتم كيفية التطليق فعليكم أحد الأمرين. وإمساك مبتدأ خبره محذوف أي فعليكم إمساكهن. وإنما قدرنا الخبر قبله لتسويغ الابتداء بالنكرة (بِمَعْرُوفٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لإمساك (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) أو حرف عطف وتسريح عطف على إمساك والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لتسريح. والمراد بالإحسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 استمرار إيصال المعروف أو تأدية جميع حقوقها المالية لرأب الصدع الذي أحدثه الطلاق (وَلا) الواو استئنافية أو عاطفة ولا نافية (يَحِلُّ) فعل مضارع مرفوع (لَكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بيحل (أَنْ تَأْخُذُوا) أن وما بعدها في تأويل مصدر فاعل يحل (مِمَّا) الجار والمجرور متعلقان بتأخذوا أو بمحذوف حال (آتَيْتُمُوهُنَّ) الجملة صلة الموصولة والواو بعد الميم التي هي لجمع الذكور لإشباع ضمة الميم (شَيْئاً) مفعول به (إِلَّا أَنْ يَخافا) إلا أداة حصر لتقدم النفي أو استثناء، وأن والفعل بعدها في تأويل مصدر، وقد اختلف في إعراب هذا المصدر اختلافا شديدا، فالظاهر أنه نصب على الحال، أي إلا خائفين، ويشكل عليه أن سيبويه منع في كتابه وقوع أن والفعل حالا، نصّ على ذلك في آخر باب «هذا باب ما يختار فيه الرفع» . وعلى هذا لا مندوحة عن الرجوع الى الوجه الثاني من أوجه الاستثناء وهو أن يكون الكلام تاما منفيا فننصبه على الاستثناء من المفعول به، وهو «شيئا» . كأنه قيل: ولا يحل لكم أن تأخذوا بسبب من الأسباب إلا بسبب خوف عدم إقامة حدود الله، فذلك هو الذي يبيح لكم الأخذ. ويكون حرف العلة قد حذف مع «أن» وهو جائز في العربية، فتأمل وتدبّر (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ) أن وما في حيزها في موضع نصب مفعول يخافا، وحدود الله مفعول به ولا نافية (فَإِنْ خِفْتُمْ) الفاء استئنافية وإن شرطية وخفتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والتاء فاعل (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ) أن وما بعدها في موضع نصب مفعول به لخفتم (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) الفاء رابطة لجواب الشرط ولا نافية للجنس وجناح اسمها وعليهما جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لا (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الجار والمجرور موضع نصب على الحال وجملة افتدت صلة الموصول والجار والمجرور متعلقان بافتدت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وجملة فلا جناح في محل جزم جواب الشرط (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) تلك اسم الاشارة مبتدأ وحدود الله خبره (فَلا تَعْتَدُوها) الفاء الفصيحة أي إذا عرفتم هذه الأحكام فلا تتجاوزوها، والجملة بعدها لا محل لها من الإعراب. وجملة «تلك حدود الله» مستأنفة ولا ناهية وتعتدوها فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والهاء مفعول به (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لذكر الوعيد بعد النهي عن تعديها، ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويتعد فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وحدود الله مفعول به (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الفاء رابطة لجواب الشرط وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ ثان والظالمون خبره، والمبتدأ الثاني وخبره خبر الأول أو هم ضمير فصل لا محل لها والظالمون خبر أولئك. والجملة في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» . [سورة البقرة (2) : الآيات 230 الى 231] فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 اللغة: (ضِراراً) مصدر بمعنى الإضرار، كان الرجل يطلق المرأة ويتركها حتى يقرب انقضاء عدتها ثم يراجعها لا لرغبة فيها بل ليطوّل عليها العدة فنهي عنه والتفاصيل في كتب الفقه. الإعراب: (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ) الفاء استئنافية أو عاطفة وإن شرطية وطلقها فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والهاء مفعول به والفاء رابطة لجواب الشرط ولا نافية وتحل فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره هي أي المطلقة والجار والمجرور متعلقان بتحل والجملة في محل جزم جواب الشرط (مِنْ بَعْدُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي كائنة بعد الطلقتين الاثنتين (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) حتى حرف غاية وجر وتنكح فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والجار والمجرور متعلقان بتحل وزوجا مفعول به وغيره صفة (فَإِنْ طَلَّقَها) الجملة مستأنفة وقد تقدمت والفاعل مستتر يعود على الزوج الثاني (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) الفاء رابطة ولا نافية للجنس وجناح اسمها المبني على الفتح وعليهما الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبرها وجملة فلا جناح جواب شرط وأن وما في حيزها مصدر منصوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 بنزع الخافض أي في التراجع والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، والضمير يعود على الزوجة والزوج الأول (إِنْ ظَنَّا) إن شرطية وظنا فعل ماض مبني على الفتح والألف فاعل وهو فعل الشرط وجوابه محذوف دل عليه ما قبله (أَنْ يُقِيما) أن وما في حيزها مصدر منصوب مفعوليّ ظنّا والألف فاعل (حُدُودَ اللَّهِ) مفعول به (وَتِلْكَ) الواو استئنافية وتلك مبتدأ (حُدُودَ اللَّهِ) خبر (يُبَيِّنُها) فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله تعالى والهاء مفعول به والجملة في محل رفع خبر ثان أو حال (لِقَوْمٍ) الجار والمجرور متعلقان بنبينها (يَعْلَمُونَ) الجملة صفة لقوم (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتتمة بيان أحكام الطلاق. وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب وجملة طلقتم النساء في محل جر بالاضافة والنساء مفعول طلقتم (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) الفاء عاطفة وبلغن فعل ماض مبني على السكون ونون النسوة فاعل وأجلهن مفعول به (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) الفاء رابطة لجواب الشرط وأمسكوهن فعل أمر وفاعل ومفعول به والجار والمجرور متعلقان بأمسكوهن (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) الجملة معطوفة على سابقتها (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) الواو عاطفة ولا ناهية وتمسكوهن فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به والنون علامة التأنيث، وضرارا مفعول لأجله أو مفعول مطلق أو مصدر في موضع الحال، والأوجه الثلاثة متساوية الرجحان (لِتَعْتَدُوا) اللام للتعليل وتعتدوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان ب «ضرارا» فيكون بمثابة علة للعلة كما تقول: «ضربت ابني تأديبا لينتفع» ولا يسوغ جعله علة ثانية لئلا يتعدد المفعول لأجله، ومعنى الاعتداء الظلم بمجاوزة الحدود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 المبينة (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ ويفعل فعل الشرط والفاعل هو وذلك مفعول به (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) الفاء رابطة لجواب الشرط، وقد حرف تحقيق وظلم فعل ماض وفاعله هو ونفسه مفعول به والجملة في محل جزم جواب الشرط. وفعل الشرط وجوابه خبر «من» (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً) الواو حرف عطف أو استئناف ولا ناهية وتتخذوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وآيات الله مفعول به أول وهزوا مفعول به ثان للتتخذوا أي مهزوءا بها (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) الواو حرف عطف واذكروا فعل أمر وفاعل ونعمة الله مفعول به وعليكم متعلقان بنعمة (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) الواو عاطفة وما اسم موصول معطوف على نعمة وجملة أنزل صلة «ما» وعليكم متعلقان بأنزل، ومن الكتاب الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، والحكمة عطف على الكتاب (يَعِظُكُمْ بِهِ) فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره هو والكاف مفعول به والجملة حال، والجار والمجرور متعلقان بيعظكم (وَاتَّقُوا اللَّهَ) الواو حرف عطف، اتقوا عطف على اذكروا (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) عطف على ما تقدم وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي اعلموا. [سورة البقرة (2) : آية 232] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 اللغة: (تَعْضُلُوهُنَّ) العضل هو الحبس والتضييق، ومنه عضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج. وقد رمق ابن هرمة سماء القرآن فأخذ اللفظة أخذا رشيقا بقوله: وإن قصائدي لك فاصطنعني ... عقائل قد عضلن عن النكاح شبه القصائد بالنساء ورشح ذلك بالعضل وهو المنع من النكاح. وللعين مع الضاد إذا وقعنا فاء وعينا للكلمة سر غريب، فهما تفيدان عندئذ معنى الحبس والشدة، ومنه سيف عضب: أي شديد قاطع، والعضد معروف وهو أشد عضو في الإنسان. وهذا من أغرب ما تميزت به لغتنا العربية. الإعراب: (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) الواو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متعلق بالجواب وجملة طلقتم النساء: في محل جر بإضافة الظرف إليها. والنساء مفعول به (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) الفاء عاطفة وبلغن فعل ماض مبني على السكون والنون فاعل وأجلهنّ أي عدتهنّ مفعول به والجملة عطف على جملة طلقتم (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) الفاء رابطة ولا ناهية وتعضلوهن فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والهاء مفعول به والجملة لا محل لها لأنها جواب إذا (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ) أن وما بعدها مصدر منصوب بنزع الخافض أي من النكاح. وارتأى أبو حيان أن يكون المصدر في موضع نصب على البدل من الضمير، بدل اشتمال، ولا بأس بما ارتآه. وأزواجهن مفعول به (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) إذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 بتعضلوهن أو بينكحن. وجملة تراضوا في محل جر بالإضافة، وبينهم ظرف متعلق بتراضوا وبالمعروف متعلقان بمحذوف حال من فاعل تراضوا أو صفة لمصدر محذوف، أي تراضيا كائنا بالمعروف، ولا مانع من تعليقهما بتراضوا أي تراضوا بما يحسن في الدين والمروءة (ذلِكَ) اسم الاشارة مبتدأ والإشارة لجميع ما فصله من الأحكام (يُوعَظُ بِهِ) فعل مضارع مبني للمجهول والجار والمجرور متعلقان بيوعظ وجملة يوعظ به خبر لاسم الاشارة وجملة الاشارة مستأنفة (مَنْ كانَ) من اسم موصول في محل رفع نائب فاعل يوعظ وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره هو والجملة صلة (مِنْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الجملة الفعلية في محل نصب خبر كان (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) ذلكم: مبتدأ وأزكى خبره ولكم جار ومجرور متعلقان بأزكى أو أظهر والجملة استئنافية (وَاللَّهُ يَعْلَمُ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة يعلم خبر (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الواو حرف عطف وأنتم مبتدأ ولا نافية وجملة لا تعلمون خبر أنتم. البلاغة: في الآية مجاز مرسل طريف وهو قوله تعالى: (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ) فتسمية المطلقين لهن بالأزواج مجاز مرسل علاقته اعتبار ما كان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 [سورة البقرة (2) : آية 233] وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) اللغة: (الحول) السنة لأنها تحول أي تمضي والجمع حئول بضم الحاء وأحوال، وهذه امرأة لا تضع إلا تحاويل ولا تلد إلا تحاويل، أي تلد سنة وسنة لا تلد، وحوليات زهير أي قصائده المطوّلة التي يستغرق في نظمها حولا كاملا. (تُضَارَّ) مضارع ضارّ بتشديد الراء ولذلك فتح آخره كما سيأتي. (الفصال) بكسر الفاء: الفطام قبل الحولين، وفصلت الأم رضيعها فطمته، وهذا زمن فصاله كما يقال زمن فطامه. الإعراب: (وَالْوالِداتُ) الواو عاطفة أو استئنافية والجملة معطوفة أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 مستأنفة مسوقة لإتمام هذه الأحكام والوالدات مبتدأ (يُرْضِعْنَ) فعل مضارع مبني على السكون والنون فاعل (أَوْلادَهُنَّ) مفعول به والجملة خبر للوالدات (حَوْلَيْنِ) ظرف زمان متعلق بيرضعن (كامِلَيْنِ) صفة لأنه ما يتسامح به، تقول: أقمت عند فلان حولين ولم تستكملهما (لِمَنْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف تقديره ذلك الحكم لمن والجملة مستأنفة (أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) جملة أراد لا محل لها لأنها صلة من، وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول به فتكون «من» واقعة على الأم. كأنه قيل: لمن أراد أن يتم الرضاعة من الوالدات. ويجوز أن يعلق الجار والمجرور بيرضعن، فتكون واقعة على الأب، كأنه قيل: لأجل من أراد أن يتم الرضاعة من الآباء (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) الواو عاطفة وعلى المولود متعلقان بمحذوف خبر مقدم وله جار ومجرور في محل رفع على أنه نائب فاعل للمولود لأنه اسم مفعول. ورزقهن مبتدأ مؤخر وكسوتهن عطف عليه. وبالمعروف متعلقان بمحذوف حال (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) الجملة تفسيرية لا محل لها ولا نافية وتكلف فعل مضارع مبني للمجهول ونفس نائب فاعل وإلا أداة حصر ووسعها مفعول به ثان. وكلّف بتشديد اللام فعل يتعدى لاثنين، قال عروة: يكلفني عمي ثلاثين ناقة ... ومالي يا عفراء غير ثمان فالياء مفعول أول وثلاثين مفعول ثان (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) لا ناهية وتضار فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه السكون، ونابت الفتحة لخفتها في المضعف، والفعل مبني للمجهول، وقرىء في السبع برفع تضارّ، على أن «لا» نافية. ووالدة نائب فاعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 والجار والمجرور متعلقان بتضار والجملة حالية (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) عطف على ما تقدم والباء فيهما للسببية، أي وأضيف الولد إليها تارة وإليه تارة أخرى، بمثابة استعطاف لكل من الوالدين ومناشدتما بأن يتعهداه ويعملا على استصلاحه، فلا يكون سببا لإلحاق الضر بهما، ولذلك جعلها بعض الحذاق من معربي القرآن زائدة ولا داعي لدعوى الزيادة. (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) الواو عاطفة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومثل ذلك مبتدأ مؤخر (فَإِنْ أَرادا فِصالًا) الفاء استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لاستقصاء الحكم في هذه المسألة الاجتماعية. وإن شرطية وأرادا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والألف فاعل وفصالا مفعول به (عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لفصالا ومنهما صفة لتراض وتشاور عطف على تراض (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) الفاء رابطة لجواب الشرط ولا نافية للجنس وجناح اسمها وعليهما خبرها والجملة جواب الشرط (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) الواو عاطفة وإن شرطية وأردتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والتاء فاعل وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول به لأردتم وأولادكم مفعول به ثان لتسترضعوا والمفعول الأول محذوف والمعنى أن تسترضعوا المراضع أولادكم، نصّ على هذا الإعراب سيبويه وعلق الشهاب على البيضاوي بأن أرضع يتعدى الى مفعول واحد، فإن زيدت فيه السين والتاء صار متعديا لاثنين، وجرى الزمخشري أيضا على ذلك. وقيل إنما يتعدى للثاني بحرف جر، فيكون أولادكم منصوبا بنزع الخافض، ويكون الجار والمجرور موضع المفعول الثاني، قال الزجاج والتقدير: أن تسترضعوا لأولادكم غير الوالدة. (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) تقدم إعرابها (إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 خافض لشرطه منصوب بجوابه المحذوف وجملة سلمتم في محل جر بالإضافة، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة آتيتم لا محل لها لأنها صلة الموصول، وبالمعروف الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (وَاتَّقُوا اللَّهَ) الواو استئنافية. وجملة «اتقوا الله» من الفعل والفاعل والمفعول به مستأنفة مسوقة للمبالغة في المحافظة على ما شرع في أمر الأطفال والمراضع وعدم التفريط بحقوقهم (وَاعْلَمُوا) عطف على واتقوا (أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أن وما بعدها سدت مسد مفعولي اعلموا وجملة تعملون صلة ما، وبصير خبر أن. الفوائد: الفعل المضعف إذا جزم أو بني على السكون جاز فيه ثلاث لغات: 1- الفتح مطلقا، وعندنا أنه الأولى لخفته على اللسان. 2- الكسر مطلقا، كأنهم شبهوه بالتقاء الساكنين. 3- الاتباع لحركة الفاء وروي قول جرير باللغات الثلاث: فغضّ الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا [سورة البقرة (2) : الآيات 234 الى 237] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 اللغة: (يُتَوَفَّوْنَ) بالبناء للمجهول أي تقبض أرواحهم بالموت، وهو مأخوذ من توفّيت الدّين إذا قبضته. والمتوفّي هو الله، والمتوفّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 بالفتح هو العبد. ويحكى أن أبا الأسود الدّؤليّ كان يمشي خلف جنازة فقال له رجل: من المتوفي؟ بكسر الفاء. فقال: الله تعالى. وكان أحد الأسباب الباعثة لعلي بن أبي طالب على وضع النحو. (المقتر) الضّيّق الرزق. الإعراب: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) اضطرب كلام المفسرين والمعربين وأئمة اللغة في إعراب هذا التركيب البليغ، وأدلى كل واحد منهم بحجة، وحشد كل ما لديه، لإثبات ما ارتآه. ولهذا تعذّر على المعرب المفاضلة والترجيح، وسنلخص ما رأيناه أقرب الى الصواب منها: رأي سيبويه: وهو إعراب «الذين» مبتدأ خبره محذوف، أي فيما يتلى عليكم حكمهم. وسيرد مثله في القرآن الكريم، ومنه «والسارق والسارقة» . وجملة «يتربصن» تفسيرية للحكم المتلوّ لا محل لها. رأي الزمخشري: وهو «الذين» مبتدأ على تقدير حذف المضاف، أراد: وأزواج الذين يتوفون منكم، وخبره جملة يتربصن. رأي المبرّد: وهو جعل جملة «يتربصن» خبرا لمبتدأ محذوف والتقدير: أزواجهم يتربصن، والجملة الاسمية خبر «الذين» ، والرابط هو الضمير، أي النون في «يتربصن» ، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان حكم آخر. منكم: الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (وَيَذَرُونَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 عطف على يتوفون (أَزْواجاً) مفعول به (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) فعل مضارع مبني على السكون وقد مر إعراب الجملة فيما تقدم (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) ظرف زمان متعلق بيتربصن (وَعَشْراً) عطف على أربعة. وذكر العدد لأنه أراد عشر ليال، والأيام داخلة معها، ولا تراهم أبدا يستعملون التذكير تقول: صمت عشرا وسرت عشرا، قال: أشوقا ولمّا يمض لي غير ليلة ... فكيف إذا جدّ المطيّ بنا عشرا (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) الفاء استئنافية، وإذا ظرف مستقبل متعلق بالجواب، وبلغن فعل وفاعل، وأجلهن مفعول به، وللجملة الفعلية في محل جر بالإضافة (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) الفاء رابطة للجواب، ولا نافية للجنس وجناح اسمها، وعليكم متعلقان بمحذوف خبرها والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال وجملة فعلن صلة الموصول، وفي أنفسهن جار ومجرور متعلقان بفعلن وبالمعروف الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي متلبسات بالمعروف (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ والجار والمجرور متعلقان بخبير وجملة تعملون صلة الموصول وخبير خبر لفظ الجلالة (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ) تقدم إعرابها والواو عاطفة (مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) أو حرف عطف وجملة أكننتم عطف على عرّضتم وفي أنفسكم متعلقان بأكننتم (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) الجملة بمثابة التعليل لا محل لها وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي علم، وجملة ستذكرونهن خبر أن (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) الواو عاطفة على محذوف وقع عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 الاستدراك، أي فاذكروهن. و «لكن» مخففة مهملة ولا ناهية وتواعدوهن فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والهاء مفعول أول وسرا مفعوله الثاني، لأن السر معناه هنا النكاح. ويجوز أن يعرب حالا مؤولة أي مستخفين عن الناس، أو منصوبا بنزع الخافض أي في السر، ويجوز أيضا أن يعرب مفعولا مطلقا أي مواعدة سرا. والوجه هو الأول، وإنما ألمعنا الى هذه الوجوه لأن بعضهم قال: إن فعل المواعدة لا يتعدى الى مفعولين، والعرب كثيرا ما يستعملون السر بمعنى النكاح قال الأعشى: ولا تقربن من جارة إنّ سرها ... عليك حرام فانكحن أو تأبدا وتأبدا فعل أمر وألفه منقلبة عن نون التوكيد أي: انفر من الأنيس أيها المخاطب (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً) إلا أداة استثناء وأن مصدرية وتقولوا فعل مضارع منصوب بأن وأن وما بعدها مصدر في محل نصب على الاستثناء من «سرا» وقولا مفعول مطلق ومعروفا صفة (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) الواو حرف عطف ولا ناهية وتعزموا فعل مضارع مجزوم بلا وعقدة النكاح منصوب بنزع الخافض أي: على عقدة النكاح (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) حرف غاية وجر ويبلغ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والكتاب فاعل وأجله مفعول به والجار والمجرور متعلقان بتعزموا (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) الواو عاطفة واعلموا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وأن واسمها وجملة يعلم خبر أن، وأن وما دخلت عليه سدت مسد مفعولي اعلموا، وما اسم موصول مفعول به، وفي أنفسكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة ما أي استقر في أنفسكم (فَاحْذَرُوهُ) الفاء الفصيحة أي إذا علمتم ذلك فاحذروه (وَاعْلَمُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) الواو عاطفة واعلموا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وأن واسمها وخبراها سدت مسد مفعولي اعلموا (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ) الجملة استئنافية (إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) إن شرطية وطلقتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وجواب الشرط محذوف أي فلا تعطوهن المهر والجملة استئنافية (ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) ما مصدرية ظرفية زمانية أو شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتمسوهن فعل مضارع مجزوم بلم (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) الظاهر أنها عاطفة وتفرضوا عطف على تمسوهن، ولكن يشكل على ذلك أمران، أولهما أن المعنى يصير: لا جناح عليكم فيما يتعلق بمهور النساء إن طلقتموهن في مدة انتفاء أحد هذين الأمرين، مع أنه إذا انتفى الفرض دون المسيس لزم مهر المثل، وإذا انتفى المسيس دون الفرض لزم نصف المسمّى، فكيف يصح نفي الجناح عند انتفاء أحد الأمرين؟ وثانيهما أن المطلقات المفروض لهن قد ذكرن ثانيا بقوله تعالى: «وإن طلقتموهن» الآية، وترك ذكر الممسوسات لما تقدّم من المفهوم، ولو كان تفرضوا مجزوما لكانت المسوسات والمفروض لهن مستويات في الذكر، وقد تولى ابن الحاجب الجواب على الإشكال الأول بمنع كون المعنى مدة انتفاء أحدهما، بل مدة لم يكن واحد منهما وذلك بنفيهما جميعا، لأنه نكرة في سياق النفي الصريح بخلاف الأول فإنه لا ينفي إلا أحدهما. وأجاب بعضهم عن الثاني بأن ذكر المفروض لهن إنما كان لتعيين النصف لهن لا لبيان أن لهن شيئا في الجملة. وعلى كل حال فالأولى جعل أو بمعنى إلى وتفرضوا منصوب بأن التي بمعنى إلّا أو إلى فتأمل هذا الفصل، وحاصل ما تقدم أن الجزم عطفا على تمسّوهن يؤدي لاختلاف الآيتين نسقا، وعدم التخالف أولى، والجملة معطوفة على جواب أن المحذوف. والمعنى إن طلقتم النساء زمان عدم المس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وفرض الفريضة فلا تعطوهن المهر (وَمَتِّعُوهُنَّ) عطف على فلا تعطوهن المهر أي أعطوهن ما يتمتعن به (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وقدره مبتدأ مؤخر والجملة حالية (وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) عطف على ما تقدم (مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ) متاعا: مفعول مطلق ومتاعا اسم مصدر بمعنى المصدر أي تمتيعا وبالمعروف جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) مفعول مطلق لفعل محذوف، وعلى المحسنين الجار والمجرور متعلقان بالمصدر (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ) عطف على ما تقدم وقد مر إعرابه (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) الجار والمجرور متعلقان بطلقتموهم وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مجرور بالإضافة أي من قبل المسيس (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) الواو حالية وقد حرف تحقيق وفرضتم فعل وفاعل ولهن الجار والمجرور متعلقان بفرضتم وفريضة إما مفعول به وهي بمعنى المفعول أي شيئا مفروضا وإما مفعول مطلق بمعنى فرضا (فَنِصْفُ) الفاء رابطة لجواب الشرط ونصف مبتدأ والخبر محذوف أي فعليكم نصف، أو خبر لمبتدأ محذوف أي فالواجب نصف (ما فَرَضْتُمْ) ما اسم موصول في محل جر بالاضافة وجملة فرضتم صلة الموصول والجملة بعد الفاء في محل جزم جواب الشرط (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) إلا أداة استثناء وأن وما في حيزها مصدر مؤول في محل نصب على الاستثناء المنقطع، لأن عفوهن عن النصف وسقوطه ليس من جنس استحقاقهن، وفي هذا الحكم مباحث فقهية طريفة تؤخذ من مظانها. ويعفون فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة ولا أثر للعامل في لفظه وهو في محل نصب فالنون ضمير وليست علامة إعراب كما في قولك: الرجال يعفون (أَوْ يَعْفُوَا) عطف على يعفون وعلامة نصبه الفتحة (الَّذِي) فاعل يعفو (بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 بيده الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وعقدة النكاح مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صلة الموصول (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) الواو استئنافية وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مؤوّل في محل رفع مبتدأ وأقرب خبر وللتقوى متعلقان بأقرب (وَلا تَنْسَوُا) الواو عاطفة ولا ناهية وتنسوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل (الْفَضْلَ) مفعول به (بَيْنَكُمْ) الظرف متعلق بمحذوف حال (إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) إن واسمها، والجار والمجرور متعلقان ببصير وجملة تعملون صلة ما، وبصير خبر إن، والجملة تعليل لما تقدم. البلاغة: 1- في هذه الآية فن طريف وهو فن التعريض، وبعضهم يدخله في باب الكناية، ونرى أنه فن قائم بنفسه، وهو هنا في قوله تعالى: «فيما عرضتم به من خطبة النساء» كأنه يقول لمن يريد خطبتها: إنك جملة، أو من يجد مثلك؟ أو نحو ذلك. ومن بديع التعريض في الشعر قول أبي الطيب المتنبي معرضا بكافور: ومن ركب الثور بعد الجوا ... د أنكر أظلافه والغبب يريد أن من ركب الثور وكان من عادته أن يركب الجواد ينكر أظلاف الثور وغببه أي اللحم المتدلي تحت حنك الثور، وأما من كان مثل كافور سبق له ركوب الثور فلا ينكر ذلك منه إن ركبه بعد الجواد. وله أيضا فيه يستزيده من الجوائز: أبا المسك هل في الكأس فضل أناله ... فإني أغني منذ حين وتشرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 يقول مديحي إياك يطربك كما يطرب الغناء الشارب فقد حان أن تسقيني من فضل كأسك. [سورة البقرة (2) : الآيات 238 الى 240] حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) اللغة: (الْوُسْطى) : الفضلى من قولهم للأفضل: الأوسط، وليست من الوسط الذي معناه التوسط بين شيئين، لأن فعلى معناها التفضيل، ولا يبنى للتفضيل إلا ما يقبل التفاوت أي الزيادة والنقص، والوسط بمعنى الخيار يقبلهما بخلاف التوسط بين الشيئين فإنه لا يقبلهما، ولذلك لا يجوز أن يبنى منه أفعل التفضيل. (قانِتِينَ) : طائعين أو ساكتين. (رجالا) : جمع راجل أي مشاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 الإعراب: (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام صلاة الخوف. وحافظوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وعلى الصلاة جار ومجرور متعلقان بحافظوا (وَالصَّلاةِ) عطف على الصلوات (الْوُسْطى) صفة (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) الواو حرف عطف وقوموا عطف على حافظوا ولله جار ومجرور متعلقان بقانتين وقانتين حال من فاعل قوموا (فَإِنْ خِفْتُمْ) الفاء استئنافية وإن شرطية وخفتم فعل ماض وفاعله وهو في محل جزم فعل الشرط (فَرِجالًا) الفاء رابطة لجواب الشرط ورجالا حال والعامل محذوف تقديره فصلوا أو فحافظوا عليها رجالا والجملة في محل جزم جواب الشرط (أَوْ رُكْباناً) عطف على «رجالا» (فَإِذا أَمِنْتُمْ) الفاء استئنافية وإذا ظرف مستقبل متعلق بالجواب وجملة أمنتم في محل جر بالإضافة (فَاذْكُرُوا اللَّهَ) الفاء رابطة لجواب إذا واذكروا الله فعل وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (كَما عَلَّمَكُمْ) الكاف ومدخولها في محل نصب على المفعولية المطلقة أو على الحال وما مصدرية وجملة علمكم لا محل لها لأنها جواب موصول حرفي (ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) ما اسم موصول مفعول ثان لعلمكم وجملة لم تكونوا صلة وجملة تعلمون خبر نكونوا، والمراد ما لم تكونوا تعلمونه من صلاة الخوف وهي مبسوطة في كتب الفقه (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) الواو استئنافية والذين مبتدأ وجملة يتوفون صلة والواو نائب فاعل ومنكم متعلقان بمحذوف حال (وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) عطف على يتوفون وأزواجا مفعول به (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) وصية مفعول مطلق لفعل محذوف أي يوصون وصية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 وهذه الجملة الفعلية خبر الذين والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لوصية (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) يجوز أن تنصب متاعا على المفعولية المطلقة لفعل محذوف، أي يمتعوهن متاعا أو على أنها بدل من وصية أو على الحال. وقيل منصوب بوصية، وقيل بفعل محذوف، أي متعوهن متاعا. والى الحول جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمتاعا أي ممتدا الى الحول (غَيْرَ إِخْراجٍ) غير حال، أي حالة كونهن عير مخرجات من مسكنهن. وقال الأخفش هي صفة لقوله متاعا، كأنه قال: لا إخراجا. واختاره ابن جرير الطبري، ولا مانع منه. وقيل: منصوب بنزع الخافض. وإنما أوردنا هذه الأوجه لأنها متساوية الرجحان (فَإِنْ خَرَجْنَ) الفاء استئنافية وإن شرطية وخرجن فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) الفاء رابطة لجواب الشرط والجملة في محل جزم جواب الشرط (فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال وجملة فعلن صلة الموصول وفي أنفسهن متعلقان بقوله فعلن، ومن معروف جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الجملة استئنافية والله مبتدأ وعزيز حكيم خبراه. [سورة البقرة (2) : الآيات 241 الى 242] وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) الإعراب: (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) الواو استئنافية والجار والمجرور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومتاع مبتدأ مؤخر وبالمعروف جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمتاع (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) حقا مفعول مطلق لفعل محذوف وعلى المتقين جار ومجرور متعلقان ب «حقا» (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ) كذلك في محل نصب مفعول مطلق أو حال، والله فاعل يبين، ولكم متعلقان يبيّن، وآياته مفعول به (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لعل واسمها وجملة تعقلون خبرها وجملة الرجاء حالية. [سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 244] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) الإعراب: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) الهمزة للاستفهام التقريري، ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر تقديره أنت والجار والمجرور متعلقان ب «تر» وجملة خرجوا صلة الموصول، والرؤية هنا قلبية ولكنها تضمنت معنى الانتهاء فعدّيت بإلى، والمعنى ألم ينته الى علمك، والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير حال أولئك القوم. ومن ديارهم متعلقان بخرجوا (وَهُمْ أُلُوفٌ) الواو حالية وهم مبتدأ ألوف خبر والجملة في محل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 نصب على الحال (حَذَرَ الْمَوْتِ) مفعول لأجله وهم قوم من بني إسرائيل هريوا من الطاعون الذي اجتاح أرضهم (فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا) الفاء عاطفة وقال فعل ماض ولهم متعلقان بقال والله فاعل وجملة موتوا في محل نصب مقول القول (ثُمَّ أَحْياهُمْ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وأحياهم معطوف على محذوف أي فماتوا ثم أحياهم وعطف بثم لإفادة معنى تراخى المدّة بين الإماتة والإحياء (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) الجملة مستأنفة مسوقة للمفارقة بين فضل الله تعالى على الناس وجحودهم لهذا الفضل بعدم الشكر وإن واسمها واللام المزحلقة وذو فضل خبر إن وعلى الناس متعلقان بمحذوف صفة لفضل (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) الواو حالية ولكن حرف استدراك ونصب واكثر الناس اسمها وجملة لا يشكرون خبرها (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الواو عاطفة على مقدر يفهم من سياق الكلام أي لا تفروا أيها المؤمنون كما فر بنو إسرائيل وقاتلوا أعداءكم وفي سبيل الله متعلقان بقاتلوا (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) عطف أيضا وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي اعلموا وسميع عليم خبر ان لأن. البلاغة: 1- المراد بالاستفهام التقرير مشوبا بالعجب والتشويق الى معرفة فحوى القصة واكتناه مغزاها. 2- المجاز المرسل في قوله: «حذر الموت» والمراد مرض الطاعون الذي اجتاحهم، والعلاقة هي اعتبار ما يئول اليه هذا المرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 3- الطباق بين الإماتة والإحياء. 4- الإيجاز بالحذف في قوله: «موتوا» وقوله «ثم أحياهم» فقد حذف فماتوا للاستغناء عن ذكره للتنبيه على أن كل شيء لا يتخلف عن إرادته تعالى. [سورة البقرة (2) : آية 245] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) اللغة: (القرض) : اسم مصدر، لأن المصدر إقراض، والقرض هنا بمعنى الشيء المقرض، ويظهر أثر ذلك في الإعراب، كما سيأتي. (الأضعاف) : جمع ضعف، ويجوز أن يكون الضعف اسم مصدر، ويظهر أثر ذلك في الإعراب أيضا. الإعراب: (مَنْ ذَا الَّذِي) من استفهامية مبتدأ وذا اسم إشارة خبر والذي بدل من اسم الإشارة أو نعت له والجملة استئنافية (يُقْرِضُ اللَّهَ) الجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (قَرْضاً حَسَناً) مفعول مطلق، ومجوز أن يكون بمعنى الشيء المقرض فيكون مفعولا به ثانيا، وحسنا صفة (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) الفاء للسببية ويضاعفه فعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية الواقعة جوابا للاستفهام، والجار والمجرور متعلقان بيضاعفه، وأضعافا حال مبينة من الهاء، وأجاز أبو البقاء إعرابها مفعولا به ثانيا، وإذا اعتبرناه اسم مصدر فيجوز أن يكون مفعولا مطلقا. ومن أمثلة أسماء المصدر: العطاء بمعنى الإعطاء، قال القطاميّ: أكفرا بعد ردّ الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا وكثيرة: صفة لأضعاف، ووجود هذه الصفة يرجح إعرابه حالا (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة يقبض خبر، ويَبْصُطُ عطف على يَقْبِضُ (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) الواو عاطفة وإليه جار ومجرور متعلقان بترجعون، والجملة عطف على سابقتها. البلاغة: 1- الاستعارة التصريحية في يقرض، فقد حذف المشبّه وهو العمل الصالح وأبقى المشبه به وهو ما يقترض من مال وغيره، ورشح للاستعارة بمضاعفتها، كما يحصل في القروض والفوائد المترتبة عليها. 2- الطباق بين يقبض ويبسط. الفوائد: رجح ابن جرير قراءة الرفع في «فيضاعفه» بإثبات الألف ورفع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 يضاعفه. وعلل ترجيحه بأن الجزاء إذا دخل في جوابه الفاء لم يكن جوابه بالفاء إلا رفعا. [سورة البقرة (2) : آية 246] أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) (الْمَلَإِ) : من القوم: وجوههم وأشرافهم، وهو اسم للجماعة، لا واحد له من لفظه. سموا بذلك لأنهم يملئون القلوب والعيون حسنا وبهاء، والجمع أملاء، مثل سبب وأسباب، قال: وقال لها الأملاء من كل معشر ... وخير أقاويل الرّجال سديدها ويقال: هو مليء ومليّ: أي غنيّ مقتدر. الإعراب: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) الهمزة للاستفهام التقريري، والكلام مستأنف مسوق لتقرير قصة حافلة بالعبر كما سيأتي، ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 حرف نفي وقلب وجزم، و «تر» فعل مضارع مجزوم بلم والرؤية هنا قلبية مضمنة معنى العلم والانتهاء لتصح التعدية بإلى، وقد تقدم نظيرها. والفاعل مستتر تقديره أنت والى الملأ متعلقان ب «تر» ، ومن بني إسرائيل متعلقان بمحذوف حال والجملة الفعلية استئنافية (مِنْ بَعْدِ مُوسى) متعلقان بمحذوف حال أي من بعد موته أيضا (إِذْ قالُوا) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بالقصة المقدرة، أي الى قصة ملأ بني إسرائيل. ولما كانت الذوات لا يتعجب منها صار المعنى: ألم تر الى ما جرى للملأ من بني إسرائيل من بعد موت موسى، وجملة قالوا في محل جر بالإضافة (لِنَبِيٍّ) الجار والمجرور متعلقان بقالوا (لَهُمُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة. وهو يوشع صاحب قصة وقوف الشمس التي كانت مصدرا رائعا لافتنان الشعراء وسنوردها قريبا (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) الجملة مؤلفة من فعل الأمر والفاعل في محل نصب مقول القول، ولنا متعلقان بابعث، وملكا مفعول به أي قائدا (نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب، وفي سبيل الله متعلقان بنقاتل وجملة نقاتل عطف على ابعث (قالَ) فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو، والجملة مستأنفة (هَلْ عَسَيْتُمْ) هل حرف استفهام للتقرير وعسيتم فعل ماض من أفعال الرجاء والتاء اسمها (إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) إن شرطية وكتب فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط وعليكم متعلقان بكتب، والقتال نائب فاعل. وجواب الشرط محذوف تقديره: فلا تبادرون الى القتال، وفعل الشرط وجوابه جملة اعتراضية بين اسم عسى وخبرها وهو قوله (أَلَّا تُقاتِلُوا) وأن حرف مصدري ونصب ولا نافية وتقاتلوا فعل مضارع منصوب بأن وجملة هل عسيتم مقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 القول (قالُوا) الجملة مستأنفة وقالوا فعل وفاعل (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الواو عاطفة لمجرد ربط الكلام بما قبله، وما اسم استفهام مبتدأ ولنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر وأن لا نقاتل في سبيل الله: المصدر المنسبك من أن وما في حيزها في موضع نصب بنزع الخافض والتقدير: وما لنا في ترك القتال؟ (وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا) الواو حالية وقد حرف تحقيق وأخرجنا فعل ماض مبني للمجهول والضمير نائب فاعل ومن ديارنا متعلقان بأخرجنا (وَأَبْنائِنا) عطف على «ديارنا» ، ولا بد من تضمين فعل الإخراج معنى البعد ليصح العطف. والجملة في موضع نصب على الحال (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) الفاء استئنافية و «لما» حينية أو رابطة، وكتب فعل ماض مبني للمجهول وعليهم جار ومجرور متعلقان بكتب، والقتال نائب فاعل (تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) جملة تولوا لا محل لها لأنها جواب «لما» وهي شرطية غير جازمة، وتولوا فعل وفاعل وإلا أداة استثناء وقليلا مستثنى متصل لأنهم من جنس القوم ومنهم متعلقان بمحذوف صفة ل «قليلا» . (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) الواو استئنافية والله مبتدأ وعليم خبر وبالظالمين الجار والمجرور متعلقان بعليم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 [سورة البقرة (2) : الآيات 247 الى 248] وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) اللغة: (طالُوتَ) ومثله جالوت، اسمان أعجميان ولذلك امتنعا من الصرف للعلمية والعجمة فلا عبرة بمن يقول: إنهما اسمان عربيان. (التَّابُوتُ) : من التّوب وهو الرجوع والإنابة لأنه لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه، وتاؤه مزيدة لغير التأنيث كملكوت وجبروت، وقد نسجت حوله أساطير يلعب فيها الخيال دوره. الإعراب: (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) الواو عاطفة وقال فعل ماض ولهم متعلقان ب «قال» ونبيهم فاعل (إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) إن واسمها وجملة قد بعث خبرها وطالوت مفعول به وملكا حال من طالوت وإن وما بعدها جملة اسمية في محل نصب مقول القول، (قالُوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا) الجملة مستأنفة وأنى اسم استفهام بمعنى كيف في محل نصب على الحال، ويكون: فعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 مضارع ناقص، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر «يكون» المقدم. والملك اسم يكون المؤخر وعلينا جار ومجرور متعلقان بالملك، لأن مادة «ملك» تتعدى ب «على» . تقول ملك على القوم أمرهم وجملة الاستفهام وما في حيزه في محل نصب مقول قالوا. أي كيف يكون وهو ليس من سبط الملكة! فقد كان أبوه عاملا بسيطا. وهكذا تتأصل في اليهود العنصرية والطبقية منذ أبعد الآماد (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) الواو حالية ونحن مبتدأ وأحق خبره وبالملك جار ومجرور متعلقان بأحق، ومنه متعلقان بأحق أيضا، والجملة التالية للواو في محل نصب على الحال (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) الواو عاطفة فقد أضافوا الى العنصرية والطبقية حبّ المال والتعويل عليه في الأرجحية، ولم حرف نفي وقلب وجزم ويؤت فعل مضارع مبني للمجهول مجزوم بلم، ونائب الفاعل مستتر تقديره هو، وسعة مفعول به ثان. وأصل سعة وسعة، فحذفت الواو حملا على المضارع. ومن المال جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لسعة (قالَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ) قال: فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على النبي، وإن واسمها، واصطفاه فعل وفاعل مستتر ومفعول به والجملة خبر إن وجملة إن وما في حيزها في محل نصب مقول القول وعليكم جار ومجرور متعلقان باصطفاه (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) الواو عاطفة وزاده فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول وبسطة مفعول به ثان ويجوز إعراب بسطة تمييزا إن قلنا إنه يتعدى لواحد. وفي العلم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبسطة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 والجسم عطف على العلم (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) الواو عاطفة: الله مبتدأ، وجملة يؤتي خبر، ملكه: مفعول به أول، من اسم موصول في محل نصب مفعول به ثان، وجملة يشاء صفة (وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وواسع عليم خبراه (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) الواو عاطفة أو استئنافية مسوقة للتدليل على صحة كلامه، وقال فعل ماض ولهم متعلقان ب «قال» ونبيهم فاعل (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) إن واسمها وملكه مضاف إليه، وأن يأتيكم مصدر مؤول في محل رفع خبر إن، وإن وما في حيزها في محل نصب مقول القول، والتابوت فاعل يأتيكم والكاف مفعول به مقدم (فِيهِ سَكِينَةٌ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وسكينة مبتدأ مؤخر والجملة في محل نصب حال من التابوت (مِنْ رَبِّكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لسكينة (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) بقية معطوف على سكينة ومما جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبقية وترك آل موسى: الجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول وآل موسى فاعل ترك وآل هارون عطف على آل موسى (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) فعل مضارع والهاء مفعول به والملائكة فاعله والجملة حال ثانية من التابوت (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ) إن حرف مشبه بالفعل والجملة بمثابة التعليل لا محل لها، وفي ذلك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم واللام المزحلقة وآية اسم إن المؤخر ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لآية والجملة تعليلية لا محل لها. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسم كان، ومؤمنين خبرها. وجواب الشرط محذوف تقديره فتدبروا الأمر واعتبروا وامتثلوا أمر ربكم وآياته. والجملة الشرطية استئنافية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 [سورة البقرة (2) : الآيات 249 الى 252] فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) اللغة: (فَصَلَ) بمعنى انفصل، فهو لازم ويكون متعديا، فيكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 مفعوله محذوفا. وفصل العسكر عن البلد فصولا. (غُرْفَةً) بضم الغين بمعنى مفعول، ويجوز فتح الغين على أنه مصدر مرة، وقد قرىء بها أيضا. الإعراب: (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) الفاء عاطفة على جمل محذوفة تقدر بحسب ما يقتضيه سياق الكلام، والتقدير فأقروا بملكه وتنادوا إلى الجهاد، فلما ..... ، ولما ظرفية حينية فهي اسم أو رابطة، فهي حرف متضمنة معنى الشرط على كل حال، وجملة فصل طالوت بالجنود في محل جر بالإضافة إن كانت ظرفا، وبالجنود متعلقان بفصل أو بمحذوف حال أي والجنود مصاحبوه (قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وإن واسمها ومبتليكم خبرها والجار والمجرور متعلقان بمبتليكم والجملة الاسمية مقول القول (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) الفاء الفصيحة ومن اسم شرط جازم مبتدأ وشرب فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره هو، ومنه جار ومجرور متعلقان بشرب والفاء رابطة لجواب الشرط وليس فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره هو ومني جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها والجملة بعد الفاء في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) الواو عاطفة ومن شرطية مبتدأ ولم حرف نفي وقلب وجزم ويطعمه فعل مضارع مجزوم بلم والفاء رابطة وان واسمها ومني جار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها والجملة بعد الفاء في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) إلا أداة استثناء ومن اسم موصول في محل نصب على الاستثناء من قوله: فمن شرب منه، وفصل بينهما بالجملة الثانية للعناية بمحتواها، وجملة اغترف لا محل لها لأنها صلة وغرفة مفعول به أو مفعول مطلق إذا اعتبرنا غرفة مصدر مرة، وبيده متعلقان بمحذوف صفة لغرفة (فَشَرِبُوا مِنْهُ) الفاء الفصيحة وشربوا فعل وفاعل ومنه متعلقان بشربوا (إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) إلا أداة استثناء وقليلا مستثنى من قوله: فشربوا منه، ومنهم متعلقان بمحذوف صفة ل «قليلا» (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) الفاء عاطفة أو استئنافية ولما ظرفية حينية أو رابطة حرفية متضمنة معنى الشرط على كل حال، وجملة جاوزه في محل جر بالإضافة إذا اعتبرنا «لما» ظرفية أو لا محل لها من الإعراب، وهو ضمير منفصل تأكيد للضمير المستكنّ في «جاوزه» والذين عطف على «هو» وجملة آمنوا صلة الموصول ومعه ظرف مكان متعلق بجاوزه، والمعنى: فلما جاوزه وجاوز معه الذين آمنوا وهم الذين اقتصروا على الغرفة، أو الذين لم يذوقوا الماء أصلا للإشارة الى الحكمة من الابتلاء، وهي أن يرجع المتزلزل منهم قبل لقاء العدو، لأن المتزلزلين إذا ظلوا فيهم ثم هربوا لكان ذلك سببا لتخاذل الجنود، وما أعجب أساليب القرآن!! (قالُوا) فعل وفاعل (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) الجملة في محل نصب مقول القول، ولا نافية للجنس، وطاقة اسمها، ولنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها، واليوم ظرف متعلق بما تعلق به الخبر، وهو «لنا» وكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 قوله بجالوت. ولا يجوز تعليق واحد من هذه الظروف ب «طاقة» لئلا يلزم تنوينه، إذ يصبح شبيها بالمضاف، ولم يقرأ به أحد. على أنه يجوز تفاديا لتعليق الثلاثة بمتعلق واحد أن يعلق واحد منها بمحذوف حال، فيكون بمثابة التبيين لانتفاء الطاقة (قالَ الَّذِينَ) فعل وفاعل والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم (يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ) جملة يظنون لا محل لها لأنها صلة الذين والواو فاعل، وأن واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي يظنون، والله مضاف لقوله «ملاقوا» (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ) كم خبرية في محل رفع مبتدأ ومن فئة تميز كم الخبرية، وقد تقدم القول فيها وقليلة صفة لفئة وجملة (غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) خبر ل «كم» وجملة كم وما في حيزها في محل نصب مقول القول (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) الواو استئنافية والله مبتدأ ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر والصابرين مضاف إليه (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) الواو استئنافية ولما حينية أو رابطة متضمنة معنى الشرط وقد تقدم إعرابها، والجار والمجرور متعلقان ببرزوا، وجنوده عطف على جالوت (قالُوا) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) ربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وأفرغ فعل أمر معناه هنا الدعاء، وعلينا جار ومجرور متعلقان بأفرغ وصبرا مفعول به والجملة مقول القول (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) عطف على جملة أفرغ، (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) عطف أيضا (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ) لك أن تجعل الفاء عاطفة على جمل محذوفة يقتضيها سياق الكلام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 أي فنشبت المعركة والتحم الجيشان فهزموهم. ولك أن تجعلها فصيحة أي إذا شئت أن تعرف ماذا أسفرت عنه المعركة فقد هزموهم وهزموهم فعل وفاعل ومفعول به (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) الواو عاطفة وفعل وفاعل ومفعول به (وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) الواو عاطفة وآتاه فعل ماض والهاء مفعول به أول والله فاعل والملك مفعول به ثان والحكمة عطف على الملك (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) عطف على «آتاه» ومما متعلقان بعلمه وجملة يشاء صلة والمفعول به محذوف، لأن الصناعات التي تعلمها داود كثيرة منها صناعة الحديد، وقد لان في يده وفهم منطق الطير والبهائم (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ) الواو استئنافية ولولا حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط ودفع مبتدأ محذوف الخبر تقديره موجود ولفظ الجلالة مضاف إليه والناس مفعول به للمصدر (بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) بعضهم بدل من الناس والجار والمجرور متعلقان بدفع (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) اللام واقعة في جواب لولا وجملة فسدت الأرض لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، والمعنى امتنع فساد الأرض لوجود دفع الله الناس بعضهم ببعض. وهذا مشاهد معاين (وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) الواو استئنافية ولكن واسمها وذو فضل خبرها والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لفضل (تِلْكَ آياتُ اللَّهِ) مبتدأ وخبر والجملة مفسرة (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) والجملة في محل نصب حال، ولك أن تجعل آيات الله بدلا من اسم الإشارة، وجملة نتلوها هي الخبر والأول أمكن. وعليك جار ومجرور متعلقان بنتلوها وبالحق متعلقان بمحذوف حال أي مؤيدة بالحق مدعومة باليقين الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 لا يتسرب إليه الشك (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) الواو عاطفة وإن واسمها واللام المزحلقة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر إنك. لمحة تاريخية أدبية: قلنا في مستهل هذه الآيات: إننا سنشير الى حادثة أدبية تاريخية تتعلق بيوشع خليفة موسى عليهما السلام، وبرا بالوعد نقول: لما قاتل يوشع الجبارين كان اليوم يوم الجمعة، فلما جنحت الشمس إلى المغيب خاف أن تغيب عنهم قبل أن يفرغ منهم ويدخل السبت فلا يحلّ له قتالهم، فدعا الله تعالى فردّ له الشمس حتى فرغ من قتالهم، وقد انتهز أبو تمّام الطائي هذه الرواية الشعرية المجنّحة فصاغ منها معنى مبتكرا في الشعر يسمى التلميح، وهو أن يشير الشاعر في بيته أو الناثر في كتابته الى قصة معلومة على جهة التمثيل، وأحسنه فقال: لحقنا بأخراهم وقد حوّم الهوى ... قلوبا عهدنا طيرها وهي وقّع فردّت علينا الشّمس والليل راغم ... بشمس لها من جانب الخدر مطلع نضا ضوءها صبغ الدّجنّة وانطوى ... لبهجتها ثوب السماء المجزّع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 فو الله ما أدري أأحلام نائم ... ألمّت بنا أم كان في الرّكب يوشع وقد رمق شوقي في العصر الحديث هذه السماء العالية، وقال في مطلع قصيدة رثى بها الزعيم المصري سعد زغلول: شيّعوا الشمس ومالوا بضحاها ... وانحنى الركب عليها فبكاها ليتني في الرّكب لمّا أفلت ... يوشع همّت فنادى فثناها ولكن التكلف ظاهر في مقام الرثاء، وذلك لا يتلاءم مع حرارة العاطفة المحتدمة. لمحة تاريخية ثانية: كانت هذه القصة مصدرا خصبا للإنتاج والتصوير، فقد طلب جالوت زعيم الجبارين قوم يوشع للمبارزة فهابوه وامتنعوا، لأنه كان جبارا عظيما كبير الجسم جدا، ولكن داود وكان صغيرا لم يبلغ الحلم يرعى الغنم برز له بمقلاعه الشهير فرماه بحجر، في قصة شائقة، فقتله ثم استقل بالملك. وهكذا تبرز العنصرية في بني إسرائيل منذ فجر التاريخ حتى اليوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 [سورة البقرة (2) : آية 253] تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) الإعراب: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) جملة اسمية مستأنفة مسوقة لتقرير حال جماعة الرسل المذكورة قصصها في السورة واسم الاشارة مبتدأ والرسل خبر، فضلنا فعل ماض مبني على السكون، و «نا» فاعل وجملة فضلنا حالية، ويجوز إعراب الرسل بدلا من اسم الاشارة وجملة فضلنا خبر وبعضهم مفعول به وعلى بعض جار ومجرور متعلقان بفضلنا (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومن اسم موصول مبتدأ مؤخر وكلم الله فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول والعائد محذوف هو المفعول به والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. ويجوز إعرابها بدلا من جملة فضلنا على الحالين المتقدمين أو خبرا ثانيا لاسم الإشارة (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) الواو حرف عطف ورفع فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى وبعضهم مفعول به ودرجات منصوب بنزع الخافض أي في درجات، وأعربها أبو البقاء حالا مؤولة من «بعضهم» أي: ذا درجات وكلاهما صحيح (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) الواو عاطفة وآتينا فعل وفاعل وعيسى مفعول به وابن بدل من «عيسى» أو صفة له ومريم مضاف اليه والبينات مفعول به ثان وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) الواو حرف عطف وأيدناه فعل وفاعل ومفعول به والجار والمجرور متعلقان بأيدناه والقدس مضاف اليه (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ) الواو استئنافية ولو شرطية، شاء الله فعل وفاعل، ومفعول المشيئة محذوف تقديره: عدم اقتتالهم (مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) ما نافية واقتتل الذين فعل وفاعل، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) الجار والمجرور متعلقان باقتتل أو بدل من قوله: «من بعدهم» بإعادة الجارّ وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالإضافة، أي: من بعد مجيء البينات (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة لاستدراك ما قبلها، ولكن حرف استدراك مهمل، واختلفوا فعل وفاعل (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) الفاء تفريعية والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومن اسم موصول مبتدأ مؤخر وآمن فعل ماض وفاعله هو والجملة صلة (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) عطف على الجملة السابقة (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا) تقدم إعرابها وتكررت لتأكيد الكلام (وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) الواو استئنافية ولكن حرف مشبه بالفعل، واسمها الله، وجملة يفعل خبرها وما اسم موصول مفعول به، وجملة بريد صلة الموصول. البلاغة: في قوله: «ورفع بعضهم درجات» فن الإبهام وفيه من التفخيم والتنويه بالمنزلة ما لو نطق به لم يعدل إبهامه لما ينطوي عليه من شهادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 بأنه العلم الذي لا يشتبه به، والمتميز على غيره، فهو يريد محمدا صلى الله عليه وسلم، وحسبه القرآن الذي أنزل عليه، فهو المعجزة الباقية على وجه الدهر، فعدم الذكر أبلغ من الذكر، والإبهام أبلغ من الإيضاح. سئل الحطيئة: من أشعر الناس؟ فذكر زهيرا والنابغة، ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث، أراد نفسه. ولو صرح بذلك لم يكن بهذه المثابة من الفخمية. [سورة البقرة (2) : آية 254] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللغة: (الخلة) بضم الخاء: المودة والصداقة، سمّيت بذلك لأنها تتخلل الأعضاء، أي تدخل خلالها. والخليل: الصديق لمداخلته إياك، وتخلّل مودته جوانحك. ويحتمل أن يكون الخليل بمعنى فاعل أو مفعول. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يا: حرف نداء، أي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب، والهاء للتنبيه، الذين بدل من أيها، آمنوا: فعل وفاعل وجملة آمنوا صلة (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) فعل أمر والواو فاعل ومما جار ومجرور متعلقان بأنفقوا، ورزقناكم فعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 وفاعل ومفعول، والجملة لا محل لها لأنها صلة ما، والجملة كلها مستأنفة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) الجار والمجرور متعلقان بأنفقوا أيضا، ولا مانع من تعليق حرفين بلفظ واحد لاختلافهما معنى، ف «من» الأولى للتبعيض والثانية للابتداء، وأن وما بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالإضافة، أي: من قبل إتيان، ويوم فاعل يأتي (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ) لا النافية للجنس أهملت لتكررها، وستأتي أحكامها في مكان آخر. وبيع مبتدأ ساغ الابتداء به لتقدم النفي عليه. وفيه جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبره ولا خلة عطف على «لا بيع» (وَلا شَفاعَةٌ) عطف أيضا (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الواو استئنافية والكافرون مبتدأ وهم مبتدأ ثان والظالمون خبره والجملة الاسمية خبر «الكافرون» أو «هم» ضمير فصل أو عماد، و «الظالمون» خبر «الكافرون» . [سورة البقرة (2) : آية 255] اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) اللغة: (الْقَيُّومُ) فيعول: من قام بالأمر إذا دبّره أحسن تدبير، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 وأصله «قيووم» اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء فيها فصار «قيوما» . قال أميّة ابن أبي الصلت: لم تخلق السماء والنجوم ... والشمس معها قمر يعوم قدّره المهيمن القيوم ... والحشر والجنة والجحيم إلّا لأمر شأنه عظيم (السنة) بكسر السين: ما يتقدم النوم من الفتور والاسترخاء مع بقاء الشعور. وهو المسمى بالنعاس، قال عدي بن الرقاع وأبدع: وسنان أقصده النعاس فرنّقت ... في عينه سنة وليس بنائم فلذلك نفى النوم لأنه سلب للحواس وأثبت السّنة في البيت. (الكرسي) معروف. والياء ليست للنسبة ولو كانت للنسبة لخرج إلى حيز الصفة وأصله من تركب الشيء بعضه على بعض ومنه الكرّاسة. سميت بذلك لتركب بعض أوراقها على بعض. وفي العرف الدارج ما يجلس عليه. وتكرس فلان الحطب وغيره إذا جمعه. وكرّس البناء إذا أسسه. (يَؤُدُهُ) يثقله ويشق عليه. الإعراب: (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) كلام مستأنف فخم مسوق لجمع أحكام الألوهية وصفات الإله الثبوتية والسلبية. والله مبتدأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 ولا نافية للجنس وإله اسمها المبني على الفتح وإلا أداة حصر و «هو» بدل من محل لا واسمها. وقد تقدم إعراب الشهادة مفصلا. والجملة الاسمية «لا إله إلا هو» خبر الله والحي خبر ثان والقيوم خبر ثالث. ولك أن تعربهما صفتين لله (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) الجملة خبر رابع للمبتدأ ولا نافية وتأخذه فعل مضارع ومفعول به وسنة فاعل تأخذه ولا نوم عطف على سنة (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الجملة خبر خامس وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وما اسم موصول في محل رفع مبتدأ مؤخر وفي السموات الجار والمجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول، وما في الأرض: معطوف على ما في السموات (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ) الجملة مستأنفة مسوقة للرد على المشركين الذين زعموا أن الأصنام تشفع لهم. ومن اسم استفهام معناه النفي في محل رفع مبتدأ وذا اسم إشارة في محل رفع خبر «من» . والذي اسم موصول بدل أو «من ذا» كلها اسم استفهام مبتدأ «والذي» هو الخبر. واعلم أن «ذا» الواقعة بعد «ما» الاستفهامية يجوز جعلها اسم موصول اتفاقا، وأما الواقعة بعد «ما» الاستفهامية يجوز جعلها اسم موصول اتفاقا، وأما الواقعة بعد «ما» الاستفهامية يجوز يجعلها اسم موصول اتفاقا، وأما الواقعة بعد «من» فالأكثر أنها اسم إشارة. ويشفع فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو، والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) الظرف متعلق بيشفع أو بمحذوف حال من الضمير في يشفع، وإلا أداة حصر وبإذنه الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) الجملة خبر سادس ويعلم فعل مضارع وفاعله مستتر يعود على الله تعالى وما اسم موصول مفعول به وبين ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول، وأيديهم مضاف إليه والواو حرف عطف وما عطف على «ما» الأولى والظرف متعلق بالصلة المحذوفة (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) الجملة معطوفة على ما تقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 ولا نافية ويحيطون فعل مضارع والواو فاعل وبشيء جار ومجرور متعلقان بيحيطون، من علمه: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لشيء (إِلَّا بِما شاءَ) إلا أداة حصر، بما: الجار والمجرور متعلقان بمحذوف بدل من شيء بإعادة الجار، وجملة شاء لا محل لها لأنها صلة ما ومفعول المشيئة محذوف تقديره: أن يعلمهم به (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الجملة خبر سابع ولك أن تنصبها على الحال ووسع كرسيه فعل ماض وفاعل والسموات مفعول به، والأرض عطف على السموات (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) الواو عاطفة ولا نافية ويئوده فعل مضارع ومفعول به حفظهما: فاعل والهاء مضاف إليه، والميم والألف حرفان دالّان على التثنية (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) الواو عاطفة وهو مبتدأ والعليّ خبره والعظيم خبر ثان. البلاغة: انطوت هذه الآية على أهم المسائل المتعلقة بالذات الإلهية. روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة. وفيها آية هي سيدة آي القرآن وهي آية الكرسي. ونلخص فيما يلي فنون البلاغة المنطوية فيها: 1- الاستعارة التصريحية في قوله: «وسع كرسيه السموات والأرض» فالكلمة مجاز عن علمه تعالى أو ملكه وتصوير صحيح لعظمته، حذف المشبه وهو العلم والقدرة والعظمة وما يترتب على الجلوس فوق كرسي الملك من معاني الأبهة والإحاطة الجامعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 ملاحظة ابن قتيبة: على أن ابن قتيبة لاحظ في كتابه «مشكل القرآن» أن هذا يخالف نصوص اللغة. ورد على المعتزلة في آرائهم، قال ما نصه: «وفسروا القرآن بأعجب تفسير يريدون أن يردّوه الى مذاهبهم، ويحملوا التأويل على نحلهم، فقال فريق منهم في «وسع كرسيه السموات والأرض» أي علمه. وجاءوا على ذلك بشاهد لا يعرف وهو قول الشاعر: «ولا يكرسىء علم الله مخلوق» كأنه عندهم: ولا يعلم علم الله مخلوق. والكرسي غير مهموز، ويكرسىء مهموز، يستوحشون أن يجعلوا لله كرسيا» ولكننا لا نوافق ابن قتيبة على رأيه فإن كثيرين من أهل السنة ذهبوا الى ذلك. رأي التّفتازانيّ: قال التفتازاني: إنه من باب إطلاق المركّب الحسيّ المتوهم على المعنى العقلي المحقق. رأي القرطبيّ: وفي تفسير القرطبي: «وقال ابن عباس: كرسيّه: علمه، ورجحه الطبري. وقيل كرسيه قدرته التي يمسك بها السموات والأرض، كما تقول: اجعل لهذا الحائط كرسيا، أي ما يعمده» . وهذا قريب من قول ابن عباس. وهذا بحث طويل يتشعب فيه الجدال، بين أهل السنة والاعتزال، فليرجع فيه الى المطولات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 2- الإيجاز: فقد تضمنت آية الكرسي من الإيجاز ما لا مطمح فيه لتقليد أو محاكاة ويمكن القول: إن البيان اتحد بالمبين في تصوير الملك الحقيقي الذي لا ينازع فيه بأرشق عبارة وأدق وصف، وفيها ما يسمى بالفصل في علم المعاني، وهو حذف العاطف للدلالة على أن كل صفة من صفات هذا الملك العظيم مستقلة بنفسها، وذلك على النحو التالي: آ- الجملة الأولى: «الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم» وقد بيّن فيها قيامه سبحانه بتدبير الخلق وتنسيق شئونهم، وإحكام معايشتهم وهمينته عليه دون أن يكون ساهيا عنه طرفة عين. ب- الجملة الثانية: «له ما في السموات وما في الأرض» وقد بيّن فيها أنه مالك لما يدبره غير منازع في ملكه. ج- الجملة الثالثة: «من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه» وقد بين فيها كبرياء شأنه وتضاؤل الجميع أمام قدرته التي لا تحدّ. د- الجملة الرابعة: «ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء» وقد صور فيها إحاطته بأمور الخلق وأحوالهم بحيث لا يغرب عنه شيء. هـ- الجملة الخامسة: «وسع كرسيه السموات والأرض» الى آخر الآية، وقد نوّه فيها بتعلقه بالمعلومات كلها وكل شيء عنده بمقدار. 3- إيجاز الإيجاز: فقد اشتملت آية الكرسي على ما لم تشتمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 عليه آية من آيات الله سبحانه، وذلك أنها مشتملة على سبعة عشر موضعا فيها اسم الله تعالى ظاهرا في بعضها ومستكنّا في بعضها الآخر، وذلك على الترتيب التالي: 1- الله، 2- هو، 3- الحي، 4- القيوم، 5- ضمير لا تأخذه، 6- ضمير له، 7- ضمير عنده، 8- ضمير بإذنه، 9- ضمير يعلم، 10- ضمير علمه، 11- ضمير شاء، 12- ضمير كرسيه، 13- ضمير يئوده، 14- وهو، 15- العلي، 16- العظيم، 17- الضمير المستكنّ الذي اشتمل عليه المصدر وهو «حفظهما» فإنه مصدر مضاف الى المفعول وهو الضمير البارز ولا بد له من فاعل وهو الله، ويظهر ذلك عند فكّ المصدر فيقول: ولا يئوده أن يحفظهما هو. وقد حاول أحد الأعلام أن يوصلها الى واحد وعشرين موضعا، ويعتبر الأسماء المشتقة الواردة فيها تحتاج الى ضمير كالحي والقيوم والعلي والعظيم، فيكون كل واحد باثنين وبذلك تضاف أربعة مواضع الى المواضع السبعة عشر، فيكون المجموع واحدا وعشرين موضعا. وقد نازعه علم آخر فقال: هذا لطيف جدا ولكن المشتق لا يقع على موصوفه إلا باعتباره محتملا لضمير، فلا يمكن أن يتميز بحكم الانفراد عن الضمير، ولهذا فالاسم المشتق لا يحتمّل الضمير بعد صيرورته بالتسمية علما، ألا تراك إذا قلت: زيد كريم فإن «كريم» لم يقع على زيد إلا لأنه يتحمل ضميره، حتى إذا جرّدت النظر اليه لم تجده مختصا بزيد بل لك أن توقعه على كل موصوف بالكرم من الناس. وهذا من أدق مباحث علم المعاني، فتدبره والله يعصمك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 [سورة البقرة (2) : الآيات 256 الى 257] لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257) اللغة: (الطَّاغُوتُ) : كل معبود من دون الله، والجمع طواغ وطواغيت والخلاف حول هذا اللفظ كثير، وهو يكون واحدا وجمعا، ومذكرا ومؤنثا، قال تعالى في الزمر: «والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها» . وسيأتي مزيد من البحث عنه. (العروة الوثقى) العروة في الأصل: موضع شد اليد، وأصل المادة تدل على التعلق. والعروة من الدلو والكوز: المقبض، ومن الثوب: أخت زرّه، واعتراه الهمّ: تعلق به، قال: وإني لتعروني لذكراك هزّة ... كما انتفض العصفور بلّله القطر (الْوُثْقى) : فعلى للتفضيل، مؤنث الأوثق، كفضلى تأنيث الأفضل. وجمعها على وثق، وهي ما يوثق به ويستعصم. (انْفِصامَ) انقطاع، وأصل الفصم الكسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 الإعراب: (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان أن العاقل لا يحتاج للإكراه على الدين، بل يختار تلقائية الدين الحق. ولا نافية للجنس وإكراه اسمها وفي الدين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) الجملة تعليلية لا محل لها وقد حرف تحقيق وتبين فعل ماض والرشد فاعله ومن الغي جار ومجرور متعلقان بتبين (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) الفاء الفصيحة ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويكفر فعل الشرط المجزوم وفاعله ضمير مستتر يعود على «من» وبالطاغوت جار ومجرور متعلقان بيكفر (وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ) الواو عاطفة ويؤمن عطف على يكفر والجار والمجرور متعلقان بيؤمن (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) الفاء رابطة لجواب الشرط لأنه مقترن بقد، واستمسك فعل ماض وفاعله مستتر يعود على من، وبالعروة متعلقان باستمسك والوثقى صفة للعروة. والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من، وجملة من يكفر لا محل لها لأنها جواب شرط غير حازم (لَا انْفِصامَ لَها) الجملة في محل نصب حال من العروة ولا نافية للجنس وانفصام اسمها المبني على الفتح ولها جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لا (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الجملة إما أن تكون مستأنفة مسوقة لحمل الناس على الإيمان والردع عن الكفر، وإما أن تكون اعتراضا تذييليا للغاية نفسها والله مبتدأ وسميع عليم خبراه (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) الجملة مستأنفة لبيان ما في الإخراج من فضل، والله مبتدأ وولي خبر والذين مضاف اليه وجملة آمنوا صلة الموصول (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) الجملة إما حال من الضمير المستكن في «ولي» أو خبر ثان للمبتدأ «الله» ومن الظلمات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 متعلقان بيخرجهم والى النور متعلقان بيخرجهم لاختلاف المعنيين، أي بدءا من الظلمات وانتهاء الى النور أو حال من الموصول (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) الواو عاطفة والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة الموصول (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) مبتدأ وخبر والجملة الاسمية خبر الذين والرابط الضمير (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) تقدم إعراب شبيهها (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) مبتدأ وخبر والنار مضاف اليه والجملة حالية (هُمْ فِيها خالِدُونَ) مبتدأ وخبر وفيها متعلقان بخالدون والجملة حال ثانية. البلاغة: 1- العروة الوثقى: استعارة تصريحية تمثيلية، فقد شبّه من يسلك سبيل الله بمن أخذ بحبل وثيق مأمون لا ينقطع، فهو آمن من الانزلاق، والتردّي في مهاوي الخطل والضلال. 2- الاستعارة التصريحية في استعارة الظلمات والنور للضلال والهدى. 3- في قوله تعالى: «يخرجونهم من النور الى الظلمات» فن نفي الشيء بايجابه وهو فن عجيب فحواه أن المتكلم يثبت شيئا في كلامه وينفي ما هو من سببه مجازا، والمنفي في باطن الكلام حقيقة هو الذي أثبته. وحاصل ما ذكرناه أن الذين كفروا لم يسبق لهم نور حتى يخرجوا منه، فقد يوهم ظاهر الكلام أنه كان لهم نور في الأصل، ثم أخرجوا منه، والمراد نفي النور عنهم أصلا. ومثله قول مسلم بن الوليد المعروف بصريع الغواني: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 لا يعبق الطيب خديه ومفرقه ... ولا يمسح عينيه من الكحل ومثله قول أبي الطيب المتنبي: أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب ولا برزن من الحمّام ماثلة ... أوراكهنّ صقيلات العراقيب فظاهر الكلام عدم بروزهن من الحمام على تلك الحالة، والمراد في باطنه عدم الحمام مطلقا، وسيأتي المزيد من بحثه في هذا الكتاب. وقد يجوز أن يكون من باب المشاكلة، وقد تقدمت. وحاصلها أن ذكر الإخراج الثاني مشاكله للأول على حد قوله: «قلت اطبخوا لي جبة وقميصا» مع التسليم بأن المراد بالذين كفروا الذين لم يسبق لهم إيمان أصلا، فتأمل. 4- جمع الظلمات وأفرد النور لسر بلاغي عجيب. وهو ينطوي على الإشارة إلى وحدة الحق وتعدد أنواع الظلمات التي هي الضلالات وما أكثرها، ولأن طريق الحق واضحة المعالم لا لبس فيها، ولا تشعّب في مسالكها أما طريق الضلال فهي ملتبسة على من يسلكها. [سورة البقرة (2) : الآيات 258 الى 259] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 اللغة: (حَاجَّ) غالب خصمه بالحجة ومن أقوالهم: كانت بينهما محاجّة وملاجّة. (خاوِيَةٌ) : ساقطة أو خالية من أهلها. (يَتَسَنَّهْ) : الهاء أصلية أو للسكت. أي لم تمرّ السنة عليها، والشيء عادة يتغير بمرور الزمان. فلام السنة واو أو هاء. وقيل: أصلها يتسنّن، من الحمأ المسنون. وسيرد في الإعراب تفصيل واف عن هذه اللفظة. (نُنْشِزُها) نحركها ونرفع بعضها الى بعض للتركيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 الإعراب: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) كلام مستأنف مسوق للتعجب من قصة أحد الطواغيت، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد العموم. فالهمزة للاستفهام التعجبي ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والى الذي جار ومجرور متعلقان ب «تر» ولا بد من حذف مضاف، أي الى قصة الذي حاجّ، وحاجّ فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وابراهيم مفعول به وفي ربّه جار ومجرور متعلقان بحاجّ (أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) أن حرف مصدري ونصب، آتاه فعل ماض في محل نصب بأن والهاء مفعول به والمصدر المنسبك من أن والفعل بعدها في محل نصب مفعول لأجله بتقدير اللام، لأن شرطا من شروط المفعول لأجله قد فقد وهو اتحاد الفاعل وحذف اللام قياسي قبل أن وأنّ. والمراد أقدم على محاجّة إبراهيم وملاحاته لبطره وصلفه، وكان الأجدر به أن يشكر على النعمة، ويتواضع عند الرفعة. وهذا أولى من جملة ظرفا بمعنى وقت إيتاء النعمة. والمصادر قد تقع ظروفا مثل خفوق النجم ومقدم الحاجّ (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بحاج وأجاز الزمخشري والجلال أن يكون بدلا من «أن آتاه» إذا جعل بمعنى الوقت، ولكن النحاة نصّوا على أنه لا يقوم مقام ظرف الزمان إلا المصدر المصرح بلفظه، فلا يجوز: أجيء أن يصيح الديك، ولا: جئت أن صاح الديك، وقال ابراهيم فعل وفاعل والجملة في محل جر بالاضافة (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) ربي مبتدأ والذي خبره وجملة يحيي صلة الموصول لا محل لها ويميت عطف على يحيي وجملة ربي إلخ مقول القول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 (قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) الجملة مستأنفة وقال فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وأنا مبتدأ وأحيي فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا والجملة خبر أنا وجملة أنا أحيي جملة اسمية في محل نصب مقول القول، وأميت عطف على أحيي (قالَ إِبْراهِيمُ) فعل وفاعل والجملة مستأنفة مسوقة للانتقال من حجة الى حجة أظهر (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ) الفاء الفصيحة وهي الواقعة في جواب شرط مقدر. أي إذا كنت قادرا كما تدعي كذبا وافتئاتا. فإن الله يأتي بالشمس من المشرق ... ، وإن واسمها، وجملة يأتي خبرها والجملة بعد الفاء لا محل لها لأنها جواب شرط مقدر غير جازم والجار والمجرور «بالشمس» متعلقان بيأتي ومن المشرق جار ومجرور متعلقان بيأتي أيضا (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) كرر الفاء الفصيحة للتأكيد وإرهاصا بالحجة وأت فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والفاعل أنت، بها متعلقان بأت، من المغرب متعلقان به أيضا (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) الفاء عاطفة وبهت من الأفعال التي أتت مبنية للمجهول والذي نائب فاعل أي على اللفظ ويجوز أن يكون فاعلا باعتبار المعنى، ولعله أولى. وكفر فعل ماض وفاعل مستتر والجملة صلة الذي (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الواو استئنافية، الله مبتدأ وجملة لا يهدي خبره والقوم مفعول به الظالمين صفة (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) تقدير الكلام: أو أرأيت مثل الذي، فأو حرف عطف والكاف اسم بمعنى مثل، فحذف لدلالة «ألم تر» عليه، ومثل هذا النظم يحذف منه فعل الرؤية كثيرا، والغرض من ذلك التعجب، فيقال: ألم تر الى الذي صنع كذا، بمعنى انظر اليه. وعلى كل حال فالكاف الاسمية معطوفة على «الذي حاج ابراهيم» والذي مضاف اليه وجملة «مر على قرية» صلة الموصول، والقرية قيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 أراد بها بيت المقدس حين خربها بختنصّر (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) الواو للحال وهي مبتدأ وخاوية خبر وعلى عروشها جار ومجرور متعلقان بخاوية. والمعنى سقطت السقوف أولا ثم تلتها الأبنية. وهذا التصوير تجسيد شعري لفناء المحدثات، يبدأ الفناء بالعوالم والكائنات الحية ثم تتلوها الجمادات، وقد رمق من طرف خفي أبو الطيب المتنبي سماء هذا المعنى البديع فنقله نقلا دقيقا أسرع من تنقّل الطيوف في الأجفان فقال يرثي: أين الذي الهرمان من بنيانه؟ ... ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟ تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع والبيت الثاني هو المقصود، ومعناه أن الآثار وهي المباني تبقى بعد أربابها لتدلّ على تمكنهم وقوتهم، ثم ينالها بعدهم ما نالهم من الفناء، وسيدركها الخراب فتسقط متداعية ثم تسقط فوقها العروش، والسقوف المشيدة، فتذهب الآثار، وقد ذهب المفسرون في قصة هذا المارّ مذاهب طريفة يحلو الرجوع إليها في المطولات، وهل قال ما قال بمعرض الإنكار للبعث؟ وهل كان كافرا؟ هذه كلها حدوس تتألف منها قصة مجنحة، فمن لنا بالكاتب المبدع؟ (قالَ: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها) قال: فعل وفاعله هو، وأنى فيها وجهان: أحدهما أن تكون بمعنى متى فتكون ظرفا متعلقا بيحيي. وثانيهما أن تكون بمعنى كيف فتكون حالا من هذه، والعامل فيها يحيي. وجملة يحيي في محل جر بالاضافة إذا كانت «أنى» ظرفا. أو مقولا للقول إذا كانت بمعنى كيف. ويحيي فعل مضارع وهذه مفعول مقدم والله فاعل مؤخر وبعد موتها ظرف زمان متعلق بيحيي أيضا. وجملة قال مستأنفة مسوقة للتّلهّف عليها، والتشوق الى عمارتها مع استشعار اليأس منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 (فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ) الفاء عاطفة وأماته الله فعل ومفعول به وفاعل ومائة ظرف زمان متعلق بأماته وعام مضاف اليه (ثُمَّ بَعَثَهُ) عطف على أماته، وعطف بثم للإشعار بالتراخي وطول المدة (قالَ: كَمْ لَبِثْتَ) الجملة مستأنفة مسوقة للرد على سؤال قد يساور الخاطر كأنه قيل: فماذا قال الله تعالى له حين بعثه بعد الموت؟ وكم اسم استفهام في محل نصب على الظرفية الزمانية متعلق بلبثت ومميزها محذوف كأنه قيل: كم وقتا لبثت؟ ولبثت فعل وفاعل والجملة في محل نصب مقول القول (قالَ: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) جملة القول مستأنفة لتكون بمثابة الرد على السؤال وجملة لبثت في محل نصب مقول القول ويوما ظرف زمان متعلق بلبثت وأو حرف عطف وبعض يوم عطف على يوما، منتظم في سلك الظرف الزمني (قالَ: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) جملة قال استئنافية، بل حرف عطف عاطفة على جملة محذوفة، لا بد من تقديرها، والتقدير: ما لبثت؟ يوما أو بعض يوم؟ بل لبثت مائة عام ومائة عام ظرف. والجملة مقول القول (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) الفاء الفصيحة، وهي هنا جواب لشرط مقدر تقديره: إذا حصل لك ارتياب وعدم طمأنينة في أمر البعث فانظر. وانظر فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والى طعامك جار ومجرور متعلقان بانظر وشرابك عطف على طعامك ولم حرف نفي وقلب وجزم ويتسنه فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون إذا كانت الهاء أصلية، وإذا كانت الهاء للسكت كان الفعل مجزوما بحذف حرف العلة، وعندئذ تثبت هاء السكت في الوقف لا في الوصل وسيأتي حكمها. وإذا كان الفعل من التّسنّن الذي هو التغير كان مجزوما بالسكون المقدر على حرف العلة المحذوف الذي أبدلت النون الثانية منه وجملة لم يتسنه حال. (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) عطف على ما تقدم، وإنما خصه بالذكر لأن المارّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 كان يركبه، ولأن العبرة بالكائنات الحية أشد تأثيرا وقد تقدم إعراب مثلها (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) الواو عاطفة واللام للتعليل ونجعلك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، واللام والمصدر المجرور بها متعلقان بفعل محذوف، أي: فعلنا ذلك كله لنجعلك آية والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به أول، وآية مفعول به ثان وللناس جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لآية (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) الواو عاطفة وانظر فعل أمر والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت والى العظام جار ومجرور متعلقان بانظر، وكيف اسم استفهام في محل نصب حال وصاحب الحال الضمير المنصوب في ننشزها والجملة بدل من العظام وهي في محل جر أو نصب لأن نظر البصرية تتعدى بإلى وهي معلقة عن العمل بسبب الاستفهام فتكون في محل نصب، أي الى حال العظام وننشزها فعل مضارع مرفوع والهاء مفعول به والفاعل مستتر تقديره نحن (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ونكسوها فعل مضارع ينصب مفعولين أولهما الهاء ولحما وهو المفعول الثاني (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) الفاء عاطفة على مقدر يستوجبه السياق كأنه قال: فأنشزها الله وكساها لحما، فنظر إليها فتبين له كيف يتم الإحياء والبعث. ولما ظرفية غير جازمة متعلقة بالجواب، وتبين فعل ماض مبني على الفتح الظاهر، وفاعل تبين ضمير مستكن يعود على كيفية الإحياء، وقدّره الزمخشري تقديرا طريفا، قال: «فلما تبين له ما أشكل عليه» وقدره الجلال: فلما تبين له ذلك بالمشاهدة. والجار والمجرور متعلقان بتبين وجملة تبين في محل جر بالإضافة (قالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قال فعل وفاعله مستتر، وجملة أعلم مقول القول وجملة القول لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وأن واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 الفوائد: 1- ينوب عن الظرف المصدر إذا كان مضافا اليه وأن يكون معينا لوقت أو مقدار نحو جئتك صلاة العصر ومقدم الحاج. 2- هاء السكت: سميت بذلك لأنه يسكت عليها دون آخر الكلمة، ولها ثلاثة مواضع: آ- الفعل المعتلّ بحذف آخره لجزم أو سكون مثل: لم يتسنه ولم يغزه ولم يخشه ولم يرمه واغزه واخشه وارمه ومنه قوله تعالى: «فبهداهم اقتده» وهي في كل هذا جائزة لا واجبة، إلا في مسألة واحدة، وهي أن يكون الفعل قد دخله الحذف وبقي على حرف واحد، كالأمر من وعى يعي، فإنك تقول: عه، بحذف فائه ولامه. ب- ما الاستفهامية المجرورة بالحرف، وذلك أنه يجب حذف ألفها إذا جرت، نحو عمّ ومم وبم وفيم. فإذا وقفت عليها ألحقتها الهاء حفظا للفتحة الدالة على الألف. ج- كل مبني على حركة بناء ولم يشبه المعرب، وذلك كياء المتكلم وهو وهي، فإنك تقف عليها بهاء السكت محافظة على الفتحة، وفي القرآن: «ماهيه» و «ماليه» و «سلطانيه» ، وقال حسان: إذا ما ترعرع منا الغلام ... فما إن يقال له: ما هوه؟ وحق هاء السكت أن تكون ساكنة وتحريكها لحن عند البصريين. وكان أبو الطيب المتنبي يراغم النحاة فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 وأحرّ قلباه ممن قلبه شبم ... ومن بجسمي وحالي عنده سقم وهو- كما تعلم- كوفي، والكوفيون يجيزون ذلك، والواقع أن علماء النحو اضطربوا كثيرا في هذه المسألة، ووفقوا حائرين أمام قول عروة في حبيبته عفراء: يا مرحباه بحمار عفرا ... ويا مرحباه بحمار ناجيه وقد دافع أبو البقاء العكبري عن أبي الطيب المتنبي في شرحه لديوانه في بحث شيق حبذا لو رجعت اليه. 3- الاستفهام في هذه الآية خرج عن معناه الأصلي، فالأول «ألم تر» معناه التعجب، أي: أعجب يا محمد من هذه القصة، والاستفهام الثاني للاستعظام، وهو «أنى يحيي هذه الله بعد موتها» . لمحة تاريخية لا بدّ منها: كان عزيز بن شرخيا من سكان بيت المقدس، وقد كان في جملة من سباهم بختنصّر، فلما خلص من السبي وجاء ورآها على تلك الحالة، وكان راكبا على حمار، دخلها وطاف فيها، فلم ير أحدا فيها. وكان أغلب أشجارها حاملا، فأكل من الفاكهة، واعتصر من العنب، ثم ربط حماره بحبل، وجعل فضل الفاكهة في سلة، وفضل العصير في زق أو ركوة، ثم ألقى الله عليه النوم فنام، ولما نام نزع الله منه الروح، وأمات حماره، وبقي عصيره وتينه عنده، فلما مضى من وقت موته سبعون سنة سلط الله ملكا من ملوك فارس، فسار بجنوده حتى أتى بيت المقدس فعمره، وصار أحسن مما كان، وعاد أهلها إليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 وأعمى الله العيون عن عزير هذه المدة. فلما مضت المائة أحياه الله ثم أخذ ينظر الى حماره تدب فيه الروح وتتلملم الأوصال، الى آخر تلك القصة التي نتمنى أن يعمد إليها كاتب قصصي بارع فيجعل منها قصة فنية. وهي تشجب أقوال اليهود في عزير أنه ابن الله، تعالى الله عن ذلك. ملاحظات هامة: 1- تحدثنا عن قوله تعالى: «ألم تر» في باب الإعراب، وقد عثرنا على تقرير هام للتفتازاني خلاصته: تقرير هذا أن كلا من لفظ «ألم تر» و «أرأيت» مستعمل لقصد التعجب، إلا أن الأول تعلق با لمتعجّب منه فيقال: ألم تر الى الذي صنع كذا بمعنى انظر اليه، فتعجب من حاله. والثاني تعلق بمثل المتعجب منه فيقال: أرأيت مثل الذي صنع كذا؟ بمعنى أنه من الغرابة بحيث لا يرى له مثل. ولا يصح: ألم تر الى مثله، إذ يصير التقدير: انظر الى المثل وتعجب من الذي صنع. فلذا لم يستقم عطف «كالذي مرّ» على «الذي حاج» واحتيج الى التأويل في المعطوف بجعله متعلقا بمحذوف، أي أرأيت الى، أو في المعطوف عليه، نظرا الى أنه في معنى: أرأيت كالذي حاج، فيصح العطف عليه حينئذ. قلت: وهذه دقة نظر وبعد غور لا حدّ لهما، واستقصاء علمي منقطع النظير، ولم نصحح إعرابنا كما ارتآه، واكتفينا بإثبات هذه الملاحظة. 2- قال أبو السعود العماري مفتي التخت العثماني الذي تقلد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 الإفتاء الإسلامي مدة ثلاثين سنة، وصاحب التفسير المسمى «إرشاد السليم الى مزايا الكتاب الكريم» والمتوفى سنة ألف وخمسمائة وأربع وسبعين للميلاد في صدد بحثه عن الكاف في قوله «أو كالذي» : والكاف إما اسمية كما اختاره قوم، جيء بها للتنبيه على تعدد الشواهد وعدم انحصارها فيما ذكر، كقولك: الفعل الماضي مثل نصر، وإما زائدة كما ارتضاه آخرون والمعنى: أولم تر الى الذي مر على قرية كيف هداه الله وأخرجه من ظلمة الاشتباه الى نور العيان والشهود، أي قد رأيت ذلك وشاهدته. 3- قال ابن هشام في المغني: «ومن الوهم في هذا الباب قول بعضهم في قوله تعالى «وانظر الى العظام كيف ننشزها» أن جملة الاستفهام حالية، والصواب أن «كيف» وحدها حال من مفعول ننشزها، وأن الجملة بدل من العظام» . وأورد الدسوقي في حاشيته على ابن هشام أن هذه الجملة لا تحلّ محل المبدل منه، وهو شرط في صحة البدل. وفات الدسوقي أن الالتفات للمعنى أي الى العظام وكيفية نشوزها، على أن هذه القاعدة أغلبية. [سورة البقرة (2) : آية 260] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 اللغة: (فَصُرْهُنَّ) : بضم الصاد ويجوز كسرها، فعل أمر من صار يصور أو من صار يصير بمعنى ضمّ أو مال، قال: وفرع يصير الجيد وحف كأنه ... على الليت قنوان الكروم الدّوالح يصف شعر محبوبته بأنه يميل عنقها لنقله عليه ويشبهه بعناقيد الكروم المثقلات بالحمل. وقال في مختار الصحاح: «وصاره أماله، من باب قال وباع، وقرىء فصرهن إليك بضم الصاد وكسرها، وصار الشيء أيضا من البابين قطعه وفصله، فمن فسره بهذا جعل في الآية تقديما وتأخيرا، أي فخذ إليك أربعة من الطير فصرهن» . الإعراب: (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لإيراد دليل آخر على رعاية الله للمؤمنين، وفيه تنويه بأن الرؤية والعيان لا بد منهما لتدعيم الاعتقاد وترسيخه، إذ لم يكن إبراهيم شاكا في إحياء الله للموتى، وإذ ظرف متعلق بما ذكر مقدرا وقال ابراهيم فعل وفاعل والجملة في محل جر بالإضافة (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) رب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة، والجملة في محل نصب مقول القول. وأرني فعل أمر من الإراءة البصرية المتعدية لواحد، وبدخول الهمزة صارت متعدية لاثنين. وأصل أرني أرئيني، فحذفت الياء الأولى فصار أرئني، ثم نقلت حركة الهمزة الى الراء وحذفت الهمزة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 وأرني فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والنون للوقاية وياء المتكلم مفعول به أول، وكيف استفهام حال وتحيي فعل مضارع وفاعله مستتر والموتى مفعول به وجملة كيف تحيي الموتى في محل نصب مفعول أرني الثاني (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) قال فعل ماض والفاعل هو والجملة مستأنفة بمثابة التقرير للواقع، أي: أتسأل ولم تؤمن، والهمزة للاستفهام التقريري، لأن الاستفهام إنما هو عن أمر متقرر الوجود عند السائل والمسئول على السواء. والواو عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم وتؤمن فعل مضارع مجزوم بلم والجملة الاستفهامية في محل نصب مقول القول (قالَ بَلى) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير الإيمان، وأتى ب «بلى» التي هي حرف جواب لتثبت الإيمان المنفي، ولو كان الجواب بنعم لكان كفرا (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) الواو عاطفة على جملة محذوفة تقديرها: «سألتك» ، ولكن حرف استدراك مهمل وليطمئن اللام للتعليل ويطمئن فعل مضارع منصوب بأن مضمرة ولا بد من تقدير محذوف ليصح تعليق اللام، أي ولكن سألتك كيفية الإحياء ليطمئن قلبي، وقلبي فاعل مرفوع بالضمة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم، والياء مضاف اليه (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) جملة مستأنفة مسوفة للتدليل على ولاية الله تعالى للمؤمنين والسير بهم في آماد الطريق المستقيم، والفاء هي الفصيحة أي إذا أردت معرفة ذلك عيانا فخذ، وخذ فعل أمر والفاعل أنت وأربعة مفعول به ومن الطير جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لأربعة (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) الفاء عاطفة وصرهنّ فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به والنون علامة النسوة لا محل لها من الإعراب وإليك جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي مضمومات إليك (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 ثم حرف عطف للترتيب والتراخي واجعل فعل أمر والفاعل أنت وعلى كل جار ومجرور متعلقان باجعل على أنه مفعول ثان ل «اجعل» وجبل مضاف اليه ومنهن جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة ل «جزءا» فلما تقدمت على الموصوف أعربت حالا وجزءا هو المفعول الأول (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً) عطف أيضا وادعهن فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والفاعل أنت والهاء مفعول به والنون علامة التأنيث لا محل لها ويأتينك فعل مضارع مبني على السكون في محل جزم جواب الطلب والنون فاعل والكاف مفعول به والجملة جواب الطلب لا محل لها وسعيا مفعول مطلق أي مشيا سريعا. ولك أن تعربها حالا، أي مسرعات (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الواو عاطفة واعلم فعل أمر والفاعل أنت وان واسمها وخبراها سدت مسد مفعولي اعلم. البلاغة: في هذه الآية إيجاز بالحذف وقد حذف تتمة القصة، إذ حكى سبحانه أوامره، ولم يتعرض لامتثال إبراهيم عليه السلام لها، لأن ذلك مدرك بالبداهة. [سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 262] مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 اللغة: (السنبلة) معروفة، وزنها فنعلة، فالنون زائدة، يقال: أسبل الزرع: أرسل ما فيه. وحكى بعض اللغويين: سنبل الزرع، فتكون النون أصلية، ووزنه فعلل. وقد روى الأساس واللسان: «وأسبل الزرع وسنبل: خرج سبله وسنبله» . (المن) أن يعتدّ على من أحسن اليه بإحسانه. الإعراب: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق لضرب المثل لإنفاق الأموال في سبيل الله، ولا بد من حذف مضاف، أي: مثل نفقتهم. ومثل مبتدأ والذين مضاف اليه وجملة ينفقون لا محل لها لأنها صلة الموصول وأموالهم مفعول به وفي سبيل الله جار ومجرور متعلقان بينفقون (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر، ولا بد من حذف مضاف أيضا، أي كمثل باذر حبة. وأنبتت فعل ماض والفاعل هي وسبع مفعول به وسنابل مضاف اليه وعلامة جره الفتحة لأنه ممنوع من الصرف لأنه على صيغة منتهى الجموع وجملة أنبتت صفة لحبة (فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) في كل الجار والمجرور متعلقان بمحذوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 خبر مقدم وسنبلة مضاف اليه، ومائة حبة مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صفة لسنابل فتكون في محل جر، أو صفة لسبع فتكون في محل نصب (وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) الواو استئنافية والله مبتدأ ويضاعف فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى وجملة يضاعف في محل رفع خبر للمبتدأ «الله» ولمن الجار والمجرور متعلقان بيضاعف وجملة يشاء لا محل لها لأنها صلة من (وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) الواو عاطفة والله مبتدأ وواسع خبر أول وعليم خبر ثان (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) لك أن تجعلها تابعة للجمل السابقة على أنها مبدلة منها، ولك أن تجعلها مستأنفة مسوقة لذكر الإنفاق غير المشوب بالمن. والذين مبتدأ أو بدل من الذين الأولى وجملة ينفقون أموالهم لا محل لها لأنها صلة وفي سبيل الله متعلقان بينفقون (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً) ثم حرف عطف للترتيب والتراخي في الزمان والرتبة، ولا نافية ويتبعون فعل مضارع معطوف على ينفقون وما اسم موصول مفعول به أول وجملة أنفقوا صلة ما ومنا مفعول به ثان ولا أذى عطف على «منا» (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الجار والمجرور خبر مقدم وأجرهم مبتدأ مؤخر والظرف متعلق بمحذوف حال وربهم مضاف اليه والجملة الاسمية في محل رفع خبر الذين إذا كانت مبتدأ، أما إذا كانت بدلا فالجملة استئنافية (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) تقدم إعراب هذه الآية بحروفها. البلاغة: 1- التشبيه التمثيلي: فقد شبه نفقة المنفقين في سبيل الله بالحبة في مضاعفة الأجر، فهي عند ما يغرسها الغارس تنبت ساقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 يتشعّب منه سبع شعب، لكل واحد سنبلة. وفيه تجسيد بديع بعقد المماثلة بين المشبّه والمشبه به. والغرض من التشبيه هنا توضيح المعنى وتقريبه للأذهان أولا، ثم تأييده بالدليل المحسوس الذي لا يكابر فيه المكابر، ولا يتعنّت فيه المتعنّت ثانيا، ثم تزيين المشبه وتجميله، وإلهاب الرغبة فيه، بحيث لا يتردد أحد في الإنفاق بعد أن رأى بعينه سلفا ما أعد له من جزاء ثالثا. 2- «ثم» في أصل وضعها تشير الى أن ثمة تراخيا بين المعطوف بها والمعطوف عليه، وهذا التراخي قد اختلف فيه، فبعضهم يقول: إنه تراخي الزمن وبعد ما بينهما. والزمخشري يرحمه الله يحمله على التفاوت في الرتبة، فإلى أيهما يعتزي في هذه الآية؟ لقد أفاض علماء البيان في هذا الباب، فقال قوم: المراد التراخي في الزمن نظرا للغالب من أن وقوع المنّ والأذى يكون يعد الإنفاق حتما، بل هما مترتبان عليه، ولا يمكن تصورهما قبل وقوعه، وهذا حسن جميل، وذهب الزمخشري الى أن التراخي هنا محمول على التفاوت في المراتب والتباعد بينهما، حيث لا يمكن حملها على الزمان لسياق يأبى ذلك في الآية. وحاصله أنها استعيرت من تباعد الأزمنة لتباعد المرتبة، وهذا من أبدع ما يصل اليه الفكر الراجح والذكاء البعيد الغور، فإن است خراج هذه الاستعارة على هذا الشكل لا يدركه قصار النظر والابتدائيون، وعلى هذا يقال: معناها الأصلي تراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه، ومعناها المستعارة اليه دوام وجود الفعل وتراخي زمان بقائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 [سورة البقرة (2) : الآيات 263 الى 265] قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) اللغة: (رِئاءَ) مصدر راءى مراءاة ورئاء، والأصل: ريايا، فالهمزة الأولى بدل من ياء هي عين الكلمة. والثانية بدل من ياء هي لام الكلمة لأنها وقعت طرفا بعد ألف زائدة. والمفاعلة على بابها من المشاركة، لأن المرائي يري الناس أعماله حتى يروه الثناء عليه والاحترام له. (صَفْوانٍ) : حجر كبير أملس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 (الوابل) : المطر الكثير. قال الأصمعي: أخف المطر وأضعفه الطلّ، ثم الرذاذ أقوى منه، ثم البغش والدّث، ومثله الرّكّ والرهمة. وقال النضر بن شميل: أول المطر رش وطش، ثم طل ورذاذ، ثم نضح ونضخ، ثم هطل وتهتان، ثم وابل وجود. (صلد) : صلب أملس أو أجرد نقي من التراب الذي كان عليه. الإعراب: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) قول مبتدأ وساغ الابتداء بالنكرة لأنها وصفت، معروف: صفة لقول ومغفرة عطف على قول، خير خبر، من صدقة جار ومجرور متعلقان بخير، يتبعها فعل مضارع والهاء مفعول به والجملة صفة لصدقة، أذى فاعل، (وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وغني حليم خبراه. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها كثيرا (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) كلام مستأنف مسوق لبيان حكم هذه المسألة، وهي إبطال الصدقات بالمن والأذى. ولا ناهية وتبطلوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وصدقاتكم مفعول به منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم، والكاف مضاف اليه وبالمن جار ومجرور متعلقان بتبطلوا والأذى عطف على المن (كَالَّذِي) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف نعت لمصدر محذوف، فهو مفعول مطلق أي لا تبطلوها إبطالا كإبطال الذي ... أو حال من ضمير المصدر المقدر، كما نص عليه سيبويه، أو من فاعل تبطلوا. أي لا تبطلوا صدقاتكم مشبهين الذي ينفق ماله رئاء الناس والوجهان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 جيدان. (يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) جملة ينفق ماله صلة الموصول لا محل لها ورئاء الناس مفعول لأجله وقد استكمل شروط النصب فلا يعدل عنه الى وجه آخر كما زعم بعض المعربين (وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الواو حرف عطف، لا نافية، يؤمن فعل مضارع وفاعله هو، وبالله متعلقان بيؤمن، واليوم الآخر معطوف على الله (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ) الفاء استئنافية جيء بها لمجرد الربط بين الجمل، ومثله مبتدأ وكمثل الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر، أو الكاف اسم بمعنى مثل خبر وهو مضاف ومثل مضاف اليه وصفوان مضاف الى مثل (عَلَيْهِ تُرابٌ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وتراب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية في محل جر صفة لصفوان (فَأَصابَهُ وابِلٌ) الفاء عاطفة عطفت أصابه على متعلق عليه، أي: استقر عليه فأصابه، والهاء مفعول به ووابل فاعل (فَتَرَكَهُ صَلْداً) الفاء عاطفة وترك فعل ماض ينصب مفعولين أولهما الهاء والثاني صلدا (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ) الجملة مستأنفة مسوقة للرد على سؤال، كأنه قيل فماذا كان مآلهم؟ فقيل: لا يقدرون، ولا نافية ويقدرون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل وعلى شيء جار ومجرور متعلقان بيقدرون، وأعاد الضمير مجموعا وهو في الظاهر مفرد، لأن «الذي» يراد به الفريق الذي ينفق والجنس الذي ينفق (مِمَّا كَسَبُوا) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لشيء وجملة كسبوا لا محل لها لأنها صلة الموصول ما (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للتعريض بأن المن والأذى من صفات الكفار والله مبتدأ وجملة لا يهدي خبر والقوم مفعول به والكافرين صفة للقوم (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ) الواو عاطفة على «فمثله» ومثل مبتدأ ولا بد من تقدير مضاف تقديره نفقات، والذين مضاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 اليه وجملة ينفقون أموالهم لا محل لها لأنها صلة الموصول (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ) مفعول لأجله وشروط النصب متوفرة فيه ومرضاة الله مضاف اليه (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) عطف على ابتغاء، ومن أنفسهم متعلقان ب «تثبيتا» أي منطلقا من أصل أنفسهم، وقال ابن عطية: «ولا يصح أن يكون ابتغاء مفعولا من أجله لعطف «تثبيتا» عليه، ولا يصح «تثبيتا» أنه مفعول من أجله لأن الانفاق ليس من أصل التثبيت» ، ولهذا رجّح أبو حيان أن يكون «ابتغاء» مصدرا في موضع الحال، أي: متغين، وكذلك «وتثبيتا» . وفي كلامهما شيء غير قليل من بعد الغور وحسن التقدير. ولكن يمكن القول أن التثبيت من أفعال القلوب، لأنه صادر عنها، وهو يحدو صاحب القلب الى التثبيت، ولهذا نرجح ما أعربناه (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر للمبتدأ «مثل الذين» وبربوة جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لجنة (أَصابَها وابِلٌ) فعل ومفعول به وفاعل والجملة صفة لجنة أيضا (فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ) الفاء عاطفة وآتت فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هي يعود على جنة وأكلها مفعول به والهاء مضاف اليه وضعفين حال (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ) الفاء استئنافية وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم ويصبها فعل مضارع مجزوم ب «لم» في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة للجواب وطل خبر لمبتدأ محذوف أي فالذي يصيبها طلّ والجملة في محل جزم جواب الشرط (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ والجار والمجرور متعلقان ببصير وجملة تعملون صلة الموصول وبصير خبر الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 البلاغة: 1- التشبيه التمثيلي الأول: فقد شبه إنفاق الأموال رئاء الناس ثم إتباع ذلك بالمنّ والتطاول بالإحسان بالتراب الذي يوضع على الصخر الأملس يأتي عليه الوابل من المطر فيذروه ويذهب به ولا يترك له أثرا. 2- التشبيه التمثيلي الثاني: فقد شبه إنفاق الأموال الخالص من الرياء في سبيل الله وابتغاء مرضاته بالبستان الوريف الظلال فوق ربوة عالية يكفيها القليل من المطر لتربو وتهتز وتمرع وتخصب. [سورة البقرة (2) : آية 266] أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) اللغة: (نَخِيلٍ) النخيل: قيل: هو اسم جمع، واحدته نخلة. وقيل: هو جمع نخل، ونخل اسم جنس. (الأعناب) : جمع عنب، أو هو اسم جنس، واحدته عنبة (إِعْصارٌ) : ريح شديدة مرتفعة، وقيل: هو الريح السموم. سميت بذلك لأنها تلتف كما يلتف الثوب المعصور، وقيل لأنها تعصر السحاب. ويجمع الإعصار على أعاصير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 الإعراب: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) جملة مستأنفة مسوقة لضرب مثل آخر لنفقة المرائين والمانّين. والهمزة للاستفهام ويود فعل مضارع وأحدكم فاعله والكاف مضاف اليه (أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ) أن وما بعدها مصدر في محل نصب مفعول يود وله الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم وجنة اسمها المؤخر. (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لجنة وأعناب عطف على نخيل (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) تجري فعل مضارع ومن تحتها جار ومجرور متعلقان بتجري والهاء مضاف اليه والأنهار فاعل والجملة صفة ثانية لجنة (لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وفيها جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ومن كل الثمرات الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة للمبتدأ المؤخر والمحذوف أي له رزق كائن من كل الثمرات حالة كونه فيها، والجملة صفة ثالثة لجنة (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) الواو حالية وجملة أصابه الكبر في محل نصب حال ولا بد من تقدير «قد» (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) الواو حالية وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وذرية مبتدأ مؤخر وضعفاء صفة لذرية والجملة في محل نصب على الحال من الهاء في «أصابه» (فَأَصابَها إِعْصارٌ) الفاء حرف عطف وأصاب فعل ماض والهاء مفعول به وإعصار فاعل والجملة معطوفة على صفة الجنة (فِيهِ نارٌ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ونار مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صفة لإعصار (فَاحْتَرَقَتْ) عطف على أصابها (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ) الجار والمجرور «كذلك» متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف أو في محل نصب حال ويبين فعل مضارع مرفوع والله فاعل يبين ولكم متعلقان بيبين والآيات مفعول به منصوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 بالكسرة وجملة يبين استئنافية (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) لعل واسمها وجملة تتفكرون خبرها وجملة الرجاء في محل نصب على الحال. البلاغة: في هذه الآية يسمو البيان القرآني الى أعلى ذروة يتصورها العقل البشري، وجميع آي القرآن من البيان الرفيع السامي. ولكن هذه هذه الآية وآيات كثيرة وردت وسترد في مواطنها استوفت من الناحية البيانية الغاية، وأربت على النهاية، وهي بمثابة المثل لنفقة المرائي الذي ينفق للتبجح وإعلان حب النفس، وإيهام الناس بأنه بالغ أقصى الغايات، بينما تذهب أعماله سدى. وسنبسط القول فيها بسطا يتفق مع مراميها البعيدة، وفيما يلي ما أدركناه منها: 1- الاستفهام في قوله: أيود؟ للإنكار والنفي. أما مصب النفي فهو في قوله: «فأصابها إعصار» لأنه مناطه ومثابته. وجميل قول ابن عباس فيها: «هو مثل لرجل عمل بالطاعات ثم زين له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله وطاح بها» . 2- وفي هذه الآية فن التتميم وقد تقدمت الاشارة اليه. ونزيده هنا بسطا، فنقول: هو أن يأتي الشاعر أو الكاتب في كلامه بكلمات لو طرحت لنقص معناه أو صوره مع بقاء الكلام سليما. وإليك الصور التي اندرجت فيها: آ- لما ذكر سبحانه الجنة لم يكتف بذكرها مجردة من كل قيد، لأن الجنة في اللغة لفظ يصدق على كل شجر متكاثف ملتف، يستر من يتفيأ بظلاله الوريفة. ومن هذا الشجر ما هو محدود النفع كالأثل والخمط وغيرهما من الأشجار التي لا تصلح إلا للحطب، ومنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 ما يتضاعف نفعه فيؤكل ثمره وتستخرج منه مواد أخرى نافعة ثم يكون حطبه صالحا للوقود، فتمم ذلك النقص بقوله: «من نخيل وأعناب» ، وفهم بالبداهة أن هذه الجنة تميزت بأن أشجارها من الصنف الثاني المتضاعف النفع أي أن احتراق تلك الجنة- ولو كانت تضم الأثل والخمط ونحوهما مما هو محدود النفع- يشجي صاحبها، فكيف إذا كانت من نخيل وأعناب؟ ألا يكون الأسف عليها أشد؟ والشجا باحتراقها أعظم؟ ب- ثم تمم ذلك بذكر الأنهار الجارية للدلالة على ديمومة الخصب. إذ ما الفائدة منها إذا نضبت فيها الأمواه؟ ألا يكون مآلها الى اليبس والذبول؟ ج- ولدفع الإيهام الذي يخيل الى السامعين أن هذه الجنة قد تكون مقتصرة على هذين الضربين من الثمرات، وهما: النخيل والأعناب تمم بقوله «له فيها من كل الثمرات» ، أي أنها تجمع جميع أفانين الثمر، فالحسرة إذن على احتراقها أشد، والأسف على فنائها أعمّ. د- ولما فرغ من وصف الجنة شرع في وصف الحادث المهلك الذي أدى الى فناء الجنة بقوله: «فأصابها إعصار» يجتاح الأخضر واليابس ويهلك الحرث والنسل. هـ- على أن الإعصار مهما يبلغ تأثيره فانه ربما كان مؤجل الإهلاك، فدفع هذا الإيهام بقوله: «فيه نار» فأحرقها بعد أن أودى بأشجارها. ولم يكتف بذكر النار لأنها قد تأتي على شيء مما تحرقه ويبقى بعد ذلك شيء آخر منها فدفع هذا الإيهام مرة أخرى بذكر الاحتراق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 البحتريّ والتّتميم: ومن التتميم في الشعر قول البحتري في وصف الإبل التي براها السير والسّرى: كالقسيّ المعطّفات بل الأسهم مبريّة بل الأوتار فقد شبه الإبل بالقسي المعطفات، وهو تشبيه جميل لما فيه من تنويه بالنحول، ولما في خلق الإبل من الحدب والانحناء. ثم جعلها مبرية على طريق الإضراب الذي يلمح الى الغلط، ثم ترقى في ذلك فجعلها كالأوتار. وهذا كله من أوابد البحتري التي أطلق عليها اسم «سلاسل الذهب» كما كان يسميها النقاد القدامى، على أني وقفت بعد ذلك على حديث للرسول العربي محمد صلى الله عليه وسلم فعلمت أن البحتري لم يبتكر هذه المعاني العميقة المصوغة في أجمل بيان، وأنه رمق سماء الحديث النبوي، وأنه أخذه أخذا يسبق أسهمه المبرية، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لو صليتم لله حتى تعودوا كالقسيّ، وصمتم حتى تعودوا كالأوتار» . وهذا مما أخذ بنصه وفصه. 3- وفي هذه الآية أيضا فنّ «الطاعة والعصيان» وقد أطلق هذه التسمية شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء أبو العلاء المعري عند ما نظر في شعر أبي الطيب المتنبي، وتحدث عنه في كتابه «معجز أحمد» ، يعني أحمد المتنبي فأتى على قوله: يردّ يدا عن ثوبها وهو قادر ... ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد وقال: «أراد المتنبي الطّباق فعصاه وأطاعه الجناس فانه أراد أن يقول: يرد يدا عن ثوبها وهو مستيقظ، فعصاه ذلك لامتناع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 دخوله في الوزن فقال وهو قادر لأن القادر مستيقظ وزيادة، ليكون بينها وبين القافية تجانس، فأطاعه الجناس المقلوب بين قادر وراقد، وعصته المطابقة بين راقد ومستيقظ» . أقول: هذا ما ذكره أبو العلاء المعري، وليس في بيت المتنبي شيء من ذلك، ولو أراد أن يقول: «يردّ يدا عن ثوبها وهو ساهر» أو «متنبها» بحذف لفظة «وهو» لحصل له غرضه من الطباق ولم يعصه الوزن، وإنما مراده بيان العفاف من القادر لا من غيره، أي أنه مع قدرته عليها لا يبيح لنفسه مدّ يده الى إزارها، كما أنه إذا رأى خيالها في المنام امتنع عنه كما يمتنع عنه في اليقظة. يصف نفسه ببعد الهمة عن مغازلة النساء، إذن ففن الطاعة والعصيان الذي ابتدعه المعري ولم يوفق في التمثيل له أثبته علماء البيان ومثلوا له بقول ابن النبيه: بيضاء حجّبها الواشون حين سرت ... عني فلو لمحت صبغ الدجى لمحت أراد أن يقول: فلو لمحت سواد الدجى، ليأتي نوع التدبيج بقوله بيضاء وسواد، فعصاه الوزن فقال: «صبغ الدجى» وهو مرادف للسواد، فصدق عليه أنه عصاه التدبيج وأطاعه فن الإرداف. ومثله قول الأرّجانيّ: كم رعت هذا الحي إما زائرا ... فردا وإما سائرا في جحفل أراد أن يقول: وإما محاربا، لتكون المقابلة بين زائر ومحارب، ولا شك أن الزائر يكون مسالما بين قوله «فردا» وقوله «في جحفل» فعصاه الوزن وأعطاه لجناس اللاحق بين زائر وسائر. أما في الآية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 الكريمة التي نحن بصددها فإنها وقع فيها التتميم، وقد تحدثنا عنه قبل قليل فيها. ولما كان المتكلم في الأصل يقصد المساواة في كل ما يتكلم به فإذا عصته المساواة للأغراض الآنفة الذكر أطاعه التتميم فتنبه لهذا فإنه من دقائق الفنون. [سورة البقرة (2) : آية 267] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) اللغة: (تُغْمِضُوا) الإغماض: غضّ البصر، وأغمضت العين إغماضا وغمّضتها تغميضا: أطبقت الأجفان. والمراد به هنا التجاوز والتسامح والمساهلة. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها، وجملة النداء وما يليه مستأنفة مسوقة لبيان ما ينفق منه، أي أنفقوا من حلال ما كسبتم وجيده (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) أنفقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ومن طيبات الجار والمجرور متعلقان بأنفقوا وما اسم موصول في محل جر بالاضافة وجملة كسبتم صلة الموصول (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) ومما عطف على من طيبات وجملة أخرجنا لا محل لها لأنها صلة الموصول ولكم جار ومجرور متعلقان بأخرجنا ومن الأرض متعلقان بأخرجنا. ولك أن تعلقهما بمحذوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 حال، أي: ناجما من الأرض. ويرحم الله الفقهاء ما أثقب أذهانهم فأبو حنيفة أبقاه على عمومه في الزكاة، والشافعي خصه بما يزرعه الآدميون وكلاهما صحيح (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ) الواو عاطفة ولا ناهية وتيمموا فعل مضارع مجزوم بلا وأصل تيمموا: تتيّمموا بتاءين حذفت إحداهما تخفيفا والواو فاعل والخبيث مفعول به ومنه متعلقان بمحذوف حال من الخبيث (تُنْفِقُونَ) الجملة حالية ومفعول تنفقون محذوف أي تنفقونه (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) الواو حالية وليس واسمها والباء حرف جر زائد وآخذيه مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس وحذفت النون للإضافة والهاء مضاف اليه، والجملة حال من فاعل تنفقون أي الواو (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) أداة حصر وأن وما في حيزها مصدر منصوب بنزع الخافض أي بأن تغمضوا، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، فهو استثناء من أعم الأحوال، ولك أن تعلقهما بآخذيه، وهو أسهل (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) الواو استئنافية واعلموا فعل أمر والواو فاعل وأن واسمها وخبراها سدت مسد مفعولي اعلموا. البلاغة: في هذه الآية استعارة تصريحية وذلك في قوله: «إلا أن تغمضوا فيه» شبه التجاوز عن الشيء الجدير بالمؤاخذة بغض العين عما يتفادى المرء رؤبته مما يكره. [سورة البقرة (2) : الآيات 268 الى 270] الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 اللغة: (الفحشاء) : المراد بها هنا البخل، والفاحش البخيل. قال طرفة بن العبد: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدّد قال الكلبي: «كل فحشاء في القرآن فالمراد بها الزنى، الا هذا الموضع» . الإعراب: (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) كلام مستأنف مسوق للتحذير من الإصاخة للشيطان ووساوسه. والشيطان مبتدأ وجملة يعدكم خبر والفقر مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) عطف على: «يعدكم الفقر» والجار والمجرور متعلقان بيأمركم (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) عطف على الجملة المستأنفة، ومغفرة مفعول به ثان ومنه: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمغفرة، وفضلا: عطف على مغفرة (وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وواسع عليم خبران لله (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) الجملة خبر ثالث لله أو جملة مستأنفة ويؤتي فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر تقديره هو والحكمة مفعول به أول ومن اسم موصول في محل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 نصب مفعول به ثان وجملة يشاء صلة الموصول (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويؤت فعل الشرط مبني للمجهول وعلامة جزمه حذف حرف العلة ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هو والحكمة مفعول به ثان (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) الفاء رابطة لجواب الشرط وقد حرف تحقيق وأوتي فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هو وخيرا مفعول به ثان وكثيرا صفة والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) الواو عاطفة وما نافية ويذكر فعل مضارع مرفوع وإلا أداة حصر وأولو فاعل مرفوع وعلامة رفعه الواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والألباب مضاف اليه (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) الواو عاطفة وما اسم شرط جازم في محل نصب مفعول به مقدم لأنفقتم ومن نفقة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وجعلها كثيرون زائدة، وهو أسهل، ولكنه غير مقيس (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) عطف على ما تقدم (فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ) الفاء رابطة لجواب الشرط وإن واسمها وجملة يعلمه خبرها والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) الواو استئنافية وما نافية وللظالمين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومن حرف جر زائد وأنصار مبتدأ مؤخر. [سورة البقرة (2) : الآيات 271 الى 272] إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 الإعراب: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) كلام مستأنف مسوق لتفصيل ما أجمل في الجملة الشرطية السابقة ولذلك ترك العاطف، وإن حرف شرط جازم وتبدوا فعل مضارع فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والصدقات مفعول به، فنعما: الفاء رابطة لأن الجواب فعل جامد قال بعضهم في مواضع ربط الجواب بالفاء: اسمية طلبية وبجامد ... وبما ولن وبقد وبالتنفيس ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح وما نكرة تامة بمعنى شيء في محل نصب على التمييز وفاعل نعم ضمير مستتر مفسر ب «ما» هي: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ خبره جملة نعما لأنه المخصوص بالمدح وجملة نعما هي جملة اسمية في محل جزم جواب الشرط (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ) الواو عاطفة وإن شرطية وتخفوها فعل مضارع فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به وتؤتوها عطف عليه والهاء مفعول به أول والفقراء مفعول به ثان (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) الفاء رابطة للجواب وهو ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ وخير خبر ولكم جار ومجرور متعلقان بخير والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) الواو استئنافية ويكفّر فعل مضارع مرفوع والجملة خبر لمبتدأ محذوف أي والله يكفر عنكم وعنكم جار ومجرور متعلقان بيكفر وقرىء بالجزم عطفا على موضع الفاء في قوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 «فهو خير لكم» لأنه جواب الشرط ومن سيئاتكم متعلقان بمحذوف صفة لمفعول به محذوف أي: شيئا من سيئاتكم، نص على ذلك سيبويه، وهو أولى من جعلها زائدة في الكلام الموجب، كما صنع المعربون كأبي البقاء وغيره (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وخبير خبره والجار والمجرور متعلقان بخبير وجملة تعملون لا محل لها لأنها صلة (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) كلام مستأنف مسوق للتشدد في العقيدة والنهي عن التساهل مع أعداء الله وأعداء دينه، ومعلوم أنه كانت هنا قرابات ومصاهرات في اليهود، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التصدق عليهم لحملهم على الانضواء الى الدين القويم. وليس فعل ماض ناقص وعليك خبرها المقدم وهداهم اسمها المؤخر وهو مصدر مضاف لمفعوله (وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) الواو اعتراضية لا محل لها والجملة لا محل لها ولكن واسمها وجملة يهدي خبرها ومن اسم موصول مفعول يهدي وجملة يشاء لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) الواو عاطفة على ما قبلها وما شرطية جازمة في محل نصب مفعول به مقدم لتنفقوا وتنفقوا فعل الشرط ومن خير في محل نصب حال والفاء رابطة لجواب الشرط ولأنفسكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف والتقدير: فهو لأنفسكم، والجملة في محل جزم جواب الشرط (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ) الواو عاطفة وما نافية وتنفقون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعله وإلا اداة حصر وابتغاء مفعول لأجله فالاستثناء من أعم العلل ووجه الله مضاف اليه (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) تقدم إعرابها (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) جواب الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وإليكم جار ومجرور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 متعلقان بيوفّ (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) الواو حالية وأنتم مبتدأ وجملة لا تظلمون خبر أنتم، والجملة الاسمية في محل نصب حال. ولك أن تجعل الواو استئنافية فتكون الجملة مستأنفة لا محل لها. [سورة البقرة (2) : الآيات 273 الى 274] لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) اللغة: (أُحْصِرُوا) أحصرهم الجهاد وأرصدهم للمناضلة في سبيل الله، وصرف نفوسهم عن الاشتغال بأي شيء سواه. وأرصد الشيء أعدّه لأمر من الأمور، وفي الحديث: «إلا أن أرصده لدين عليّ» ويستعملونها اليوم خطأ، فيكتبون: «رصد المبلغ لكذا» والصواب: «أرصد» فتنبّه. (سيماهم) السيما: بالقصر العلامة، ويجوز مدها: السيماء. وبعض بني أسد وثقيف يقولون: بسيميائهم. ومن ذلك قول ابن عنقاء الفزاري: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 غلام رماه الله بالحسن يافعا ... له سيمياء لا تشق على البصر (الإلحاف) شدة الإلحاح في المسألة وفي الحديث: «من سأل وله أربعون درهما فقد ألحف» . الإعراب: (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، أي: صدقاتكم للفقراء، والذين صفة للفقراء وجملة أحصروا في سبيل الله لا محل لها لأنها صلة الموصول والجار والمجرور متعلقان بأحصروا (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) الجملة في موضع نصب على الحال، وجملة للفقراء مستأنفة مسوقة لتكون جوابا عن سؤال نشأ مما سبق كأنهم سألوا لما أمروا بالصدقات: لمن هي؟ فقيل: إنها لهؤلاء. ولا نافية ويستطيعون فعل مضارع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل وضربا مفعول به وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بضربا (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) الجملة حال ثانية للفقراء ويحسبهم فعل مضارع والهاء مفعول يحسب الأول، والجاهل فاعل وأغنياء مفعول به ثان ومن التعفف جار ومجرور في موضع نصب على أنه مفعول لأجله، وجرّ ب «من» لأنه فقد شرطا من أهم شروطه وهو اتحاد الفاعل، ففاعل الحسبان هو الجاهل وفاعل التعفف هم الفقراء (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) الجملة حال ثالثة للفقراء وبسيماهم جار ومجرور متعلقان بتعرفهم (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) الجملة حال رابعة ولا نافية ويسألون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والناس مفعول به وإلحافا يجوز فيه أن يعرب مفعولا مطلقا لفعل محذوف، أي: يلحفون إلحافا، أو مصدرا مؤولا في موضع الحال، أي لا يسألون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 حالة كونهم ملحفين، أو مفعولا من أجله وقد استوفى شروطه (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) تقدم إعرابه قريبا (فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) الفاء رابطة وان واسمها والجملة خبرها، والجملة اسمية في محل جزم جوان الشرط وبه جار ومجرور متعلقان بالخبر «عليم» (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) جملة مستأنفة مسوقة للشروع في بيان صفة الصدقة ووقتها. ونزول الآية في أبي بكر أو علي بن أبي طالب لا ينزع عنها صفة شمول الحكم وعمومه. والذين مبتدأ وينفقون فعل مضارع والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول والواو فاعل وأموالهم مفعول به بالليل جار ومجرور متعلقان بتنفقون، والنهار معطوف على الليل، وسرا وعلانية مصدران منصوبان على الحالية أو بنزع الخافض (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الفاء رابطة للدلالة على سببية ما قبلها لما بعدها ولما في الموصول من رائحة الشرط والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وأجرهم مبتدأ مؤخر والظرف عند متعلق بمحذوف حال وربهم مضاف اليه والجملة خبر للموصول «الذين» (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) تقدم إعرابها بحروفها كثيرا. البلاغة: في قوله تعالى: «لا يسألون الناس إلحافا» فن من أبدع الفنون البيانية ويسمونه «نفي الشيء بإيجابه» وحدّه أن يثبت الشاعر أو الكاتب شيئا في ظاهر كلامه ثم ينفي ما هو من سببه. وهو كثير في القرآن الكريم. أما في هذه الآية فالمنفيّ في ظاهر الكلام هو الإلحاف في السؤال، لا نفس السؤال مجازا، والمنفي في باطن الكلام حقيقة نفس السؤال، إلحافا كان أو غير إلحاف. وهذا الذي يقتضيه المديح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 وهو، كما ترى، من طرائف علم البيان ومن بارعة قول علي بن أبي طالب في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه: «لا تثنى فلتاته» ، أي: لا تذاع سقطاته. فظاهر هذا اللفظ أنه كان ثمّ فلتات، غير أنها لا تذاع. وليس المراد ذلك، ولكن المراد أنه لم يكن ثم فلتات للنبي فتثنى. وهذا من أغرب ما توسعت فيه لغتنا العربية. وزعم ابن الأثير في كتابه «المثل السائر» أنه قليل في الشعر، وأنه لم يسمع منه غير بيت واحد لامرىء القيس، وهو قوله: على لاحب لا يهتدي بمناره ... إذا ساقه العود الدّيافيّ جرجرا فقوله: «لا يهتدي بمنارة» يوهم أن له منارا، إلا أنه لا يهتدى به. وليس المراد ذلك بل المراد أن لا منارا له يهتدى به. وقد نسي ابن الأثير قول مسلم بن الوليد الملقب بصريع الغواني: تراه في الأمن في درع مضاعفة ... لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل لا يعبق الطيب خديه ومفرقه ... ولا يمسح عينيه من الكحل فإن ظاهر الكلام نفي عبق الطيب ومسح الكحل. والمراد نفي الطيب والكحل مطلقا، لانهماكه في قيادة الجيوش وحفظ الثغور والحراسة على خطوط القتال. 2- وفي الآية فن المقابلة، فقد تكرر الطباق بين الليل والنهار، وبين السر والعلانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 [سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 276] الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) اللغة: (الرِّبا) الإرباء. الزيادة على الشيء، يقال منه: أربى فلان على فلان إذا زاد عليه. وإنما قيل للرابية رابية لزيادتها في العظم والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها. (الْمَسِّ) : الجنون. الإعراب: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) كلام مستأنف مسوق لذكر حكم الربا وهي الزيادة في المعاملة بالنقود. والذين مبتدأ وجملة يأكلون الربا لا محل لها لأنها صلة الموصول (لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ) لا نافية ويقومون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والجملة الفعلية في محل رفع خبر الذين وإلا أداة حصر وكما يقوم الكاف حرف جر وما مصدرية وهي مع مدخولها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول مطلق أو حال وجملة يقوم لا محل لها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 لأنها واقعة بعد موصول حرفي والذي فاعل وجملة يتخبطه الشيطان لا محل لها لأنها صلة الموصول ومن المس جار ومجرور متعلقان بيقومون أي لا يقومون من جراء المس إلا كما يقوم المصروع، ولك أن تعلقهما بيقوم أي كما يقوم المصروع من جنونه. واختار أبو حيّان تعليقهما بيتخبطه على سبيل التأكيد ورفع ما يتحمله «يتخبطه» من المجاز، وهو وارد، وما اخترناه أولى (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا) اسم الإشارة مبتدأ والإشارة الى العذاب النازل بهم، والباء حرف جر وان واسمها وخبرها في تأويل مصدر مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر «ذلك» أي: بسبب قولهم وجملة الإشارة استئنافية وقالوا فعل ماض مبني على الضم والواو فاعل (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) إنما كافة ومكفوفة مهملة والبيع مبتدأ ومثل خبر البيع والربا مضاف إليه علامة جره الكسرة المقدرة والجملة في محل نصب مقول القول (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) الواو حالية بتقدير قد بعدها، وفيه دلالة على أن القياس يهدمه النص، لأنه قد يكون فاسدا، وليس ثمة أفسد من قياسهم لتحليل ما حرم الله. وأحل فعل ماض والله فاعله والبيع مفعول به وحرم الربا عطف والجملة بعد الواو حالية (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) الفاء استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ وجاءه فعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط وموعظة فاعل ومن ربه جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لموعظة (فَانْتَهى) الفاء عاطفة، انتهى عطف على جاءه وفاعله هو (فَلَهُ ما سَلَفَ) الفاء رابطة لجواب الشرط والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وما اسم موصول مبتدأ مؤخر وجملة سلف صلة الموصول (وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ) الواو عاطفة أو حالية وأمره مبتدأ والى الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر وجملة فله ما سلف في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 النَّارِ) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم مبتدأ وعاد فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة واسم الإشارة مبتدأ وأصحاب النار خبر والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (هُمْ فِيها خالِدُونَ) هم مبتدأ والجار والمجرور متعلقان بخالدون وخالدون خبر «هم» والجملة الاسمية في محل نصب على الحال (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان مصير الربا ويمحق فعل مضارع والله فاعله والربا مفعوله (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) عطف على يمحق الله الربا (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة لا يحب خبر وكل مفعول به وكفار مضاف إليه وأثيم صفة لكفار. البلاغة: 1- التشبيه التمثيلي في تشبيه آكلي الربا عند خروجهم من أجداثهم بمن أصابه مسّ فاختل طبعه، وانتكست حاله، وصار يتهافت في مشيته ويتكاوس في خطوته، ويترنح ترنح الشارب السكران ثم يهوي مكبا على وجهه من سوء الطالع وقبح المنقلب، وشناعة المصير، والجزاء عادة وعقلا من جنس العمل. 2- التشبيه المقلوب: في قولهم: «إنما البيع مثل الربا» وهم يريدون القول بأن الربا مثل البيع ليصلوا الى غرضهم، وهو تحليل ما حرّمه الله، فعكسوا الكلام للمبالغة، وهو في البلاغة مرتبة عليا يصبح المشبّه به قائما بالمشيّه وتابعا له. ومنه في الشعر قول البحتري يصف بركة بناها المتوكل على الله: كأنّها حين لجّت في تدفّقها ... يد الخليفة لمّا سال واديها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 والأصل تشبيه يد الخليفة بالبركة، فقلب الكلام للمبالغة. وقول الآخر: وبدا الصباح كأن غرته ... وجه الخليفة حين يمتدح [سورة البقرة (2) : الآيات 277 الى 279] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) كلام مستأنف مسوق لبيان حال المؤمنين العاملين إن واسمها، وجملة آمنوا لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) الجمل الثلاث معطوفة على الصلة داخلة في حيزها (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وأجرهم مبتدأ مؤخر والظرف متعلق بمحذوف حال والجملة الاسمية في محل رفع خبر إن (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) تقدم إعرابها بحروفها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم اعرابها أيضا (اتَّقُوا اللَّهَ) فعل أمر وفاعله ومفعوله والجملة مستأنفة (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) الواو عاطفة وذروا فعل أمر والواو فاعل وما اسم موصول مفعول به وجملة بقي لا محل لها لأنها صلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 الموصول والجار والمجرور متعلقان ببقي أو بمحذوف حال من فاعل بقي (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها ومؤمنين خبرها وجواب الشرط محذوف أي فذروا والجملة استئنافية (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) الفاء استئنافية وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتفعلوا فعل مضارع مجزوم بلم وهو فعل الشرط (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) الفاء رابطة لجواب الشرط وأذنوا فعل أمر وفاعله والجار والمجرور بحرب متعلقان بأذنوا ومن الله متعلقان بمحذوف صفة لحرب ورسوله عطف على الله والجملة في محل جزم جواب الشرط (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) الواو عاطفة وإن شرطية وتبتم فعل ماض وفاعله وهو في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة للجواب ولكم متعلقان بمحذوف خبر مقدم ورؤوس أموالكم مبتدأ مؤخر والجملة في محل جزم جواب الشرط. (لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) جملة لا تظلمون في محل نصب على الحال وهي بالبناء للفاعل وجملة ولا تظلمون عطف عليها وهي بالبناء للمفعول. [سورة البقرة (2) : الآيات 280 الى 281] وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) اللغة: (نظرة) بكسر الظاء: مصدر بمعنى التأخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 (مَيْسَرَةٍ) : مصدر ميمي بمعنى اليسار والسعة، أو اسم زمان، أي وقت اليسار. الإعراب: (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة لتقرير وجوب الإنظار والإمهال للمدين المعسر. وفي ذلك صلاح للعباد وتأليف بين القلوب. وإن شرطية وكان فعل ماض تام بمعنى حدث ووجد، وهي تكتفي بفاعلها كسائر الأفعال. أي وإن حدث ذو عسرة، وذو فاعلها وعلامة رفعه الواو لأنه من الأسماء الخمسة وعسرة مضاف إليه (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) الفاء رابطة لجواب الشرط ونظرة خبر لمبتدأ محذوف أي فالحكم نظرة والجار والمجرور متعلقان بنظرة أو بمحذوف صفة لها والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) الواو استئنافية وأن وما في حيزها مصدر مؤوّل في محل رفع مبتدأ وخير خبر والجار والمجرور متعلقان بخير لأنه اسم تفضيل على غير القياس (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص والتاء اسمها وجملة تعلمون في محل رفع خبرها وجواب الشرط محذوف وجملة الشرط استئنافية (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) الواو عاطفة واتقوا فعل أمر والواو فاعل ويوما مفعول وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل والجملة في محل نصب صفة ليوما وفيه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وإلى الله جار ومجرور متعلقان بترجعون (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وتوفى فعل مضارع مبني للمجهول وكل نفس نائب فاعل وما اسم موصول في محل نصب مفعول به ثان وجملة كسبت لا محل لها لأنها صلة (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يظلمون في محل رفع خبر وجملة وهم لا يظلمون في محل نصب حال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 الفوائد: تختص كان بأمور تشاركها فيها أخواتها، وبأمور تنفرد بها. وتؤخذ هذه الأمور من كتب النحو. وهي هنا مختصة بالتمام وتشاركها فيها أخواتها إلا ثلاثة أفعال لزمت النقصان، وهي ما فتيء وما زال وليس. ومن مسائلها الهامة في التمام المثال المشهور: «كائنا ما كان» . ونستعمله في كتاباتنا كثيرا، ولذلك نرى إعرابه تسهيلا للطالبين، وقد اختلف النحاة في إعرابه فقال الفارسي: هما تامان في الموضعين، وما مصدرية وهي وما بعدها مصدر مؤول في محل رفع فاعل كائنا، أي كونه. وقيل: هما ناقصان في الموضعين، وفي «كائنا» ضمير هو اسمها والخبر ما الموصولية وجملة كان صلة ما واسم كان ضمير مستتر فيها وخبرها محذوف تقديره إياه، واسم «كائنا» المستتر وخبر كان عائدان على الشخص المضروب في قولك: لأضربنه كائنا الذي كان إياه، وكائنا حال من مفعول لأضربنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 [سورة البقرة (2) : آية 282] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) اللغة: (تَدايَنْتُمْ) : دان بعضكم بعضا ويقال: داينت الرجل. أي عاملته. قال رؤية: داينت أروى والدّيون تقضى ... فمطلت بعضا وأدّت بعضا ويقولون: أبعت بدين أم بعين؟ وهي النقد. ودنت وأدّنت وتديّنت واستدنت: أي استقرضت، قال كثيّر: قضى كلّ ذي دين فوفّى غزيمه ... وعزّة ممطول معنّى غريمها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 (وَلْيُمْلِلِ) من الإملال والاملاء بمعنى واحد، هذا وقد أبدلت الياء من حروف صالحة العدة على سبيل الشذوذ، ولا يقاس عليه. ومن ذلك قولهم: أمليت الكتاب، قال تعالى: «فهي تملى عليه بكرة وأصيلا» . والأصل: أمللت، وقال تعالى: «وليملل الذي عليه الحقّ» . والوجه أنهما لغتان، لأن تصرفهما واحد، تقول: أملى الكتاب يمليه إملاء، وأملّه يملّه إملالا، فليس جعل أحدهما أصلا والآخر فرعا بأولى من العكس. وقالوا: قصّيت أظفاري، حكاه ابن السّكّيت في قصّصت، أبدلوا من الصاد الثالثة ياء لثقل التضعيف. ويجوز أن يكون المراد تقصّيت أظفاري أي أتيت على أقاصيها، لأن المأخوذ أطرافها، وطرف كل شيء أقصاه. وهذا بحث يطول فيه القول، فنجتزىء بما تقدّم، وستقع على أمثلة صالحة أخرى في هذا الكتاب. (فَرِهانٌ) بكسر الراء: مصدر أو جمع رهن. والرهن ما يوضع تأمينا للدين، وحبس الشيء مطلقا، والشيء المرهون. وقرىء فرهن بضمتين: جمع رهن أيضا. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها وجملة النداء وما يليها مستأنفة مسوقة للشروع في بيان أحكام الدين والتعامل مع الناس على وجه يكفل المصلحة الاجتماعية العامة (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب وجملة تداينتم في محل جر بالاضافة وبدين متعلقان بتداينتم وإلى أجل متعلقان بمحذوف صفة لدين ومسمى صفة لأجل والفاء رابطة لجواب إذا واكتبوه فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 المقترنة بالفاء لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) الواو عاطفة واللام لام الأمر ويكتب فعل مضارع مجزوم باللام وبينكم ظرف مكان متعلق بيكتب وكاتب فاعل وبالعدل متعلقان بكاتب بمثابة الصفة له أي بكاتب مأمون على ما يكتب بالسوية والتحوّط، لا يزيد على ما يجب أن يكتب، ولا ينقص. ولا داعي لما ذكره ابن عطية من أن الباء متعلقة بقوله تعالى «وليكتب» وليست متعلقة بكاتب، لأنه كان يلتزم أن لا يكتب وثيقة إلا العدل في نفسه، وقد يكتبها الصبيّ والعبد المتحوط إذا أقاما فقهها (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ) الواو عاطفة ولا ناهية ويأب فعل مضارع مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة وكاتب فاعل وأن وما في حيزها مصدر مؤول في محل نصب بنزع الخافض، لأن أبى بمعنى امتنع، وكما علمه الله: الجار والمجرور متعلقان بمحذوف مفعول مطلق أو نصب على الحال وجملة علمه لا محل لها لأنها صلة الموصول الحرفي (فَلْيَكْتُبْ) الفاء الفصيحة أي إذا علمتم هذا الحكم فليكتب واللام لام الأمر، يكتب فعل مضارع مجزوم باللام والفاعل هو (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) الواو عاطفة والذي فاعل يكتب وعليه متعلقان بمحذوف خبر مقدم والحق مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صلة الموصول (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) الواو عاطفة واللام لام لأمر ويتق فعل مضارع مجزوم باللام وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاعل ضمير مستتر تقديره هو ولفظ الجلالة مفعول به وربه بدل (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) الواو عاطفة ولا ناهية ويبخس فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل هو، منه جار ومجرور متعلقان بيبخس أو بمحذوف حال لأنه كان صفة لقوله «شيئا» وتقدمت عليه. وشيئا مفعول مطلق أو مفعول به أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 لا ينقص منه شيئا (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً) الفاء استئنافية وإن شرطية وكان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والذي اسم كان وعليه جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم والحق مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية لا محل لها لأنها صلة، وسفيها خبر كان وأو حرف عطف وضعيفا عطف على سفيها (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) أو حرف عطف ولا نافية ويستطيع فعل مضارع وأن وما في حيزها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول يستطيع وهو فاعل أو تأكيد للفاعل المستتر (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) الفاء رابطة لجواب الشرط واللام لام الأمر ويملل فعل مضارع مجزوم باللام ووليه فاعل وبالعدل متعلقان بمحذوف حال أي عادلا ولك أن تعلقهما بقوله فليملل والجملة في محل جزم جواب الشرط (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) الواو عاطفة واستشهدوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وشهيدين مفعول به ومن رجالكم متعلقان بمحذوف صفة أو بقوله واستشهدوا (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ) الفاء استئنافية وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكونا فعل مضارع مجزوم بلم وهو فعل الشرط والألف اسمها ورجلين خبرها (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) الفاء رابطة لجواب الشرط ورجل خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ والخبر محذوف وامرأتان عطف على رجل والتقدير فالشهود رجل وامرأتان أو فرجل وامرأتان يشهدون والجملة في محل جزم جواب الشرط (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة وجملة ترضون لا محل لها لأنها صلة ومن الشهداء جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) أن وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب على أنه مفعول من أجله، لأن الضلال سبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 للتذكير، فكأنه قيل: إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى، وسيأتي المزيد من هذا الإعراب في باب الفوائد وإحداهما فاعل تضل (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) الفاء حرف عطف وتذكر عطف على أن تضلّ وإحداهما فاعل والأخرى مفعول به (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) الواو عاطفة ولا ناهية ويأب فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف حرف العلة والشهداء فاعل وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب وما زائدة ودعوا فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل والجملة في محل جر بالاضافة (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) الواو عاطفة ولا ناهية وتسأموا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وأن وما في حيزها مفعول به لتسأموا، وصغيرا حال والواو حرف عطف و «كبيرا» عطف على «صغيرا» وإلى أجله متعلقان بمحذوف حال أي مستقرا في الذمة الى حلوله، ولا يجوز تعليقه بتكتبوه لعدم استمرار الكتابة الى أجله (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) الجملة لا محل لها لأنها مفسرة، وذلكم مبتدأ وأقسط خبره. ويلاحظ أنه ورد اسم التفضيل من الرباعي والقياس أن يأتي من الثلاثي، لأن الفعل أقسط أي عدل، أما قسط الثلاثي فهو بمعنى جار، قال تعالى: «وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا» . وعند ظرف مكان متعلق بأقسط ولفظ الجلالة مضاف إليه وأقوم عطف على أقسط وللشهادة متعلقان بأقوم، والمعنى أصح وأثبت (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) الواو عاطفة وأدنى عطف على أقوم وأن وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، أي أقرب من انتفاء الريبة والجار والمجرور متعلقان بأدنى (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً) إلا أداة استثناء وأن وما في حيزها مصدر منصوب على الاستثناء المنقطع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 لأنها تجارة حاضرة لا تحتاج الى استشهاد أو كتابة، على أنه يصح اعتباره استثناء متصلا، كأنه استثناء من التجارة، فالأمر بالكتابة ساري المفعول، واستثنى الكتابة بالتجارة الحاضرة. وتكون فعل مضارع واسمها مستتر تقديره هي أي التجارة، وتجارة خبر. ويصح اعتبار «تكون» تامة، وتجارة فاعل، وقد قرىء بما جميعا. وحاضرة نعت لتجارة (تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) الجملة صفة ثانية لتجارة وبينكم ظرف مكان متعلق بتديرونها (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) الفاء عاطفة عطفت هذه الجملة على جملة «إلا أن تكون تجارة» أي تسبب عن ذلك رفع الجناح في عدم الكتابة. وليس فعل ماض ناقص وعليكم متعلقان بمحذوف خبر مقدم وجناح اسمها المؤخر وأن وما في حيزها مصدر مؤوّل منصوب بنزع الخافض، أي في أن لا تكتبوها والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لجناح (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) الواو عاطفة وأشهدوا فعل أمر والواو فاعل وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب وجملة تبايعتم في محل جر بالإضافة والجواب محذوف تقديره فأشهدوا، ولك أن تجرد إذا عن الشرطية وتجعلها لمجرد الظرفية الزمانية، أي افعلوا الشهادة وقت التبايع (وَلا يُضَارَّ) الواو عاطفة ولا ناهية ويضار فعل مضارع يحتمل أنه مبني للمعلوم فأصله يضارر بكسر الراء الأولى، ويحتمل أنه مبني للمجهول فأصله يضارر بفتحها، وهو مجزوم على كل حال، وحرك بالفتح لخفته لأنه مضعف (كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) كاتب فاعل أو نائب فاعل والواو حرف عطف ولا نافية وشهيد عطف على كاتب (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) الواو عاطفة وإن شرطية وتفعلوا فعل مضارع فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف النون والفاء رابطة لجواب الشرط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 وإن واسمها، وفسوق خبرها وبكم متعلقان بمحذوف صفة لفسوق، أي لاحق. والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط (وَاتَّقُوا اللَّهَ) الواو عاطفة واتقوا فعل أمر والواو فاعل ولفظ الجلالة مفعول به (وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) الواو استئنافية ولا مكان لجعلها حالية، كما قرر الجلال وتابعه كثيرون من المفسرين والمعربين، لأن المضارع المثبت لا تباشره واو الحال، وإن حاول بعضهم تقدير مبتدأ محذوف لتكون الجملة اسمية أي وهو يعلمكم لما فيه من تكلف، وفي جعلها عاطفة خلاف للأولى، لأن فيه ارتكاب عطف الخبر على الإنشاء، وذلك موضع خلاف سيرد في مكانه من هذا الكتاب والله فاعل يعلمكم والكاف مفعول يعلمكم (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وبكل شيء متعلقان بعليم وعليم خبر الله. البلاغة: لعل هذه الآية من أحفل الآيات بذكر شئون المعايش التي تنتظم بها أمور العباد، وتضمن لمتبعها حسن المعاد، وقد شدد الله سبحانه فيها على حسن المعاملة التي هي جماع أمر الدين وعموده، وبالغ في التوصية بحفظ المال الحلال، وإحاطته بما يصونه من الهلاك، ولذلك اشتملت على ضروب من التوكيدات نوجزها فيما يلي، تاركين للقارىء الرجوع الى المظان المعروفة. 1- أمر بالكتابة بقوله: «فاكتبوه» حذرا من الاستهداف للخطأ أو النسيان. 2- وذكر «بدين» مع أنه مفهوم من قوله: «تداينتم» للتأكيد وليرجع إليه الضمير بقوله: «فليكتبوه» إذ لو لم يذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 لوجب أن يقال: فاكتبوا الدين، وفي ذلك إخلال بحسن النظم، وليدلّ على العموم، أي: أيّ دين قليلا كان أم كثيرا. 3- وذكر «الى أجل مسمى» على سبيل التأكيد، وليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما بالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام. ولو قال الى الحصاد مثلا لم يجز لعدم التسمية. 4- وأناط الكتابة بكاتب بالعدل متّسم به. 5- ونهى عن أن يأبى من يطلب إليه الكتابة ما كلّف به. 6- وكرر الأمر بالكتابة بصيغة أخرى تشددا في الكتابة فقال: «فليكتب» . 7- وأمر الذي عليه أن يملي على الكاتب بالعدل، لئلا تبقى له حجة. 8- وتحوّط للأمر بأن أمره باتقاء الله بقوله: «وليتق الله ربه» . 9- وعقب على الاتقاء بما يحتمه من عدم البخس، واستعمل هذه اللفظة التي هي في الأصل اللغوي للعين العوراء، يقال: بخست عينه، أي عورت. ولا يخفى ما في هذا من التصوير المجسد الحاكي. 10- واحتاط بما قد يطرأ على الأناسيّ من السأم والملالة، وما يترتب عليهما من تفريط، فتعم حينئذ الفوضى، ويطرأ الخلل، لأنهم لم يستوفوا كتابة ما شهدوا عليه، سواء أكان كبيرا أم صغيرا. 11- وبعد أن أوصى بما أوصى، نبّه الى أن ذلك هو السبيل الأقوم، والطريق الأعدل، صرح باسمه تعالى فقال: «عند الله» تبيانا للمصير المعلوم، وتحذيرا من تفريط المفرط وافتئات المفتئت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 12- وختم الآية بذكر الله ثلاث مرات متعاقبة، لإدخال الروع في القلوب، وإحداث المهابة في النفوس، وترسيخ الحكم في الأذهان، والإشعار بأنه تعالى مطلع على السرائر، لا تغرب عنه همسات القلوب، وخلجات الضمائر. الفوائد: مثّل الزمخشري لقوله تعالى: «أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى» بقولهم: أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه، وأعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه. فكأنه قيل: إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى. وتساءل التفتازاني في حواشيه على الكشاف فقال: «ومما ينبغي أن يتعرض له وجه تكرّر «إحداهما» ولا خفاء في أنه ليس من وضع المظهر موضع المضمر، إذ ليست المذكورة هي المناسبة إلا أن يجعل «إحداهما» الثانية في موقع المفعول، ولا يجوز تقدم المفعول على الفاعل في موضع الإلباس. نعم يصح أن يقول: «فتذكر الأخرى» فلا بد للعدول من نكتة» . ولم يتعرض التفتازاني للنكتة، وترك قارئه في حيرة من أمره. على أن الدماميني ذكر في شرح المغني أن المقصود هو كون التذكير من إحداهما للأخرى كيفما قدّر لا يستقيم إلا كذلك، ألا ترى أنه لو قيل: أن تضلّ إحداهما فتذكرها الأخرى، وجب أن يكون ضمير المفعول عائدا على الضالة، فيتعيّن لها، وذلك مخل بالمعنى المقصود، لأن الضالة الآن في الشهادة قد تكون هي الذاكرة لها في زمان آخر، فالمذكرة حينئذ هي الضالة، فإذا قيل: فتذكرها الأخرى لم يفد ذلك لتعيّن عود الضمير الى الضالة. وإذا قيل: فتذكر إحداهما الأخرى، كان مبهما في واحدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 منهما. فلو ضلت إحداهما فذكّرتها الأخرى فذكرت كان داخلا، ثم لو انعكس الأمر والشهادة بعينها في وقت آخر اندرج أيضا تحته لوقوع قوله «فتذكر إحداهما الأخرى» غير معيّن، فظهر الوجه الذي لأجله عدل عن «فتذكرها» الى «فتذكر إحداهما الأخرى» . وفي النفس من هذا التقرير ما لا يحتمله هذا الكتاب. [سورة البقرة (2) : آية 283] وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) الإعراب: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) الواو استئنافية وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وعلى سفر جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كنتم (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) الواو حالية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتجدوا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل وكاتبا مفعول به والجملة حالية ويجوز لك أن تجعل الواو عاطفة فتكون الجملة معطوفة على فعل الشرط فهي في محل جزم (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) الفاء رابطة لجواب الشرط ورهان مبتدأ وساغ الابتداء بالنكرة لأنها وصفت، ومقبوضة صفة والخبر محذوف تقديره تستوثقون بها، ولك أن تعربها خبرا لمبتدأ محذوف تقديره: فالمعتمد عليه رهان، لأن السفر مظنة لإعواز الكتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 وتفاصيل المسألة مبسوطة في كتب الفقه والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) الفاء عاطفة وإن شرطية وأمن فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وبعضكم فاعل وبعضا مفعول به (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) الفاء رابطة لجواب الشرط واللام لام الأمر ويؤد فعل مضارع مجزوم باللام وعلامة جزمه حذف حرف العلة والجملة في محل جزم فعل الشرط والذي اسم موصول فاعل واؤتمن فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو والجملة صلة وأمانته مفعول به ليؤد (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) تقدم إعرابه بحروفه (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتكتموا فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والشهادة مفعول به (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويكتمها فعل الشرط والهاء مفعوله والفاء رابطة لجواب الشرط وان واسمها، وآثم خبرها وقلبه فاعل آثم لأنه اسم فاعل. ويصح في مثل هذا التركيب أن يكون الضمير في فإنه للشأن وآثم خبر مقدم وقلبه مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر إن. والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وبما متعلقان بعليم وجملة تعملون لا محل لها لأنها صلة الموصول وعليم خبر «الله» . البلاغة: 1- الاستعارة التصريحية التبعية في قوله تعالى: «على سفر» فقد شبه تمكنهم من السفر وارتياضهم عليه وتمرسهم به بتمكن الراكب من ركوبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 2- المجاز العقلي في قوله: «آثم قلبه» فقد أسند الإثم الى القلب، والمقصود الإنسان كله لا قلبه وحده لسر عجيب، وهو أن القلب بمثابة الرأس للأعضاء، وهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وقد تعلق الشعراء بأذيال هذه البلاغة وحسبنا أن نذكر تلفت القلب في قول الشريف الرضي البديع: ولقد وفقت على ديارهم ... وطلولها بيد البلى نهب وبكيت حتى ضجّ من لغب ... نضوي ولج بعذلي الركب وتلفتت عيني فمذ خفيت ... عني الطلول تلفت القلب وصرح دعبل الخزاعي بجناية القلب والطرف بقوله: أين الشباب وأية سلكا ... لا أين يطلب ضلّ بل هلكا لا تأخذا بظلامتي أحدا ... قلبي وطرفي في دمي اشتركا لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى [سورة البقرة (2) : الآيات 284 الى 286] لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 اللغة: (الوسع) : ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه. (الطاقة) : المجهود والقدرة. وهي مصدر جاء على حذف الزوائد، والأصل الإطاقة. (الإصر) : العب، وأصره حبسه، وبابه ضرب. والمراد به التكاليف الشاقة التي ينوء بها الجسم، وتعيا عنها النفس. الإعراب: (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف لا محل له من الإعراب مسوق للاستدلال على قوله: «والله بما تعلمون عليم» وغلب غير العقلاء على غيرهم من العقلاء باستعمال «ما» لأنهم أكثر. والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وما اسم موصول مبتدأ مؤخر وفي السموات جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له من الإعراب لأنه صلة الموصول، وما في الأرض عطف على «ما في السموات» (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبيان التكليف. والمؤاخذة تكون بالخواطر التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 لا ندحة للمرء عنها. وقد نظم بعضهم مراتب القصد بقوله: مراتب القصد خمس: هاجس ذكروا ... وخاطر فحديث النفس فاستمعا يليه همّ فعزم كلها رفعت ... سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا وتفصيل ذلك مبسوط في المطوّلات فليرجع إليها من يشاء. وإن شرطية وتبدوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والجملة لا محل لها وما اسم موصول مفعول به وفي أنفسكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول (أَوْ تُخْفُوهُ) عطف على تبدوا والهاء مفعول به (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) جواب الشرط مجزوم والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به والجار والمجرور متعلقان بيحاسبكم، والله فاعل والجملة لا محل لها (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) الفاء استئنافية ويغفر فعل مضارع مرفوع، أي فهو يغفر، ويجوز أن تكون الفاء عاطفة ويغفر فعل مضارع مجزوم بالعطف على يغفر، وكلتا القراءتين من السبع، وقرىء أيضا بالنصب على إضمار «أن» فينسبك من ذلك مصدر مرفوع معطوف على متوهم، أي تكن محاسبة فغفران. ويتخرّج على ذلك بيت النابغة الذبيانيّ: فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والشهر الحرام ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجب الظهر ليس له سنام يروى بجزم نأخذ ورفعه ونصبه، على أن سيبويه استضعف النصب لأن القارئ الزعفراني ليس من السبعة، ولأنه موجب. ونص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 عبارة سيبويه «وقد يجوز النصب في الواجب في ضرورة الشعر وهو ضعيف في الكلام» . ولمن جار ومجرور متعلقان بيغفر وجملة يشاء صلة (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) عطف على ما تقدم (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بقدير، وقدير خبر «الله» (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) جملة مستأنفة مسوقة للإخبار بأن الرسول صلى الله عليه وسلم آمن بكل ما فرض الله على العباد، من الصلاة والزكاة والصوم والحج والطلاق والإيلاء والحيض والجهاد، وما ورد ذكره في السورة من قصص الأنبياء. وآمن الرسول فعل وفاعل وبما جار ومجرور متعلقان بآمن وجملة أنزل لا محل لها لأنها صلة الموصول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وإليه جار ومجرور متعلقان بأنزل ومن ربه جار ومجرور متعلقان بأنزل أيضا، ولك أن تعلقهما بمحذوف حال أي حالة كونه نازلا من ربه لأنه يضمن السعادة للمجتمع البشري (وَالْمُؤْمِنُونَ) يجوز أن تكون الواو عاطفة والمؤمنون عطف على الرسول، فيكون الوقف هنا. ويشهد لهذا الإعراب ما قرأه علي بن أبي طالب: «وآمن المؤمنون» فأظهر الفعل، ويجوز أن تكون الواو استئنافية والمؤمنون مبتدأ أول (كُلٌّ آمَنَ) كل مبتدأ ثان وجملة آمن خبره والجملة الاسمية خبر المبتدأ الأول وهو المؤمنون والرابط محذوف على الوجه الثاني. وعلى الوجه الأول تكون جملة «كل آمن» مستأنفة. وساغ الابتداء بكل وهو نكرة لأنه بنية الإضافة أي كل واحد منهم والتنوين عوض عن الكلمة المحذوفة (بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) الجار والمجرور متعلقان بآمن وما بعده عطف عليه (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) هذه الجملة مقول قول محذوف وجملة القول في محل نصب على الحال أي قائلين لا نفرق، ولا نافية ونفرق فعل مضارع مرفوع وبين ظرف مكان متعلق بنفرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وأحد مضاف إليه ومن رسله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لأحد، ولم يقل: بين آحاد، لأن الأحد يتناول الواحد والجمع كما في قوله تعالى «فما منكم من أحد عنه حاجزين» فوصفه بالجمع لكونه في معناه ولذلك دخل عليه بين وسيرد في هذا الكتاب تفصيل ممتع عن أحد (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) الواو استئنافية وقالوا فعل ماض والواو فاعل وجملتا سمعنا وأطعنا مقول القول (غُفْرانَكَ رَبَّنا) مفعول مطلق بإضمار عامله، ومنه قولهم: غفرانك لا كفرانك، أي نستغفرك ولا نكفرك. وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) الواو عاطفة والمعطوف عليه محذوف داخل في حيز القول أي: قائلين منك المبدأ وإليك المصير. وإليك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم والمصير مبتدأ مؤخر (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) جملة مستأنفة مسوقة لإزالة الحرج عن النفوس ولبيان أن المؤاخذة قاصرة على ما في الوسع والطاقة فما عداه من خواطر النفس وهواجسها لا محاسبة عليه وبذلك يزول الإشكال الذي ساور بعض المفسرين فقد قالوا: إن الخطأ والنسيان مغفوران غير مؤاخذ بهما، فما معنى الدعاء بذلك وهو يكاد يكون من تحصيل الحاصل؟ ولا نافية ويكلف فعل مضارع مرفوع والله فاعله ونفسا مفعول به أول وإلا أداة حصر ووسعها مفعول به ثان (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) الجملة مفسرة لما أجمله في قوله «وسعها» وسيأتي بيان ذلك في باب البلاغة. ولها جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وما اسم موصول مبتدأ مؤخر وجملة كسبت لا محل لها لأنها صلة الموصول، وعليها ما اكتسبت: عطف على ما تقدم وقد ذكر إعرابه (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) ربنا منادى مضاف ولا ناهية معناها هنا الدعاء وتؤاخذنا فعل مضارع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 مجزوم بلا ونا مفعول به والفاعل أنت والجملة داخلة في حيز القول المتقدم وجملة النداء استئنافية (إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) إن شرطية ونسينا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ونا فاعل أو أخطأنا عطف عليه والجواب محذوف أي فلا تؤاخذنا وجملة الشرط وجوابه في محل نصب على الحال (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) تقدم إعرابه وتوسيط النداء بين المتعاطفين لإظهار مدى الضراعة والاسترحام والمبالغة في التذلل والاعتراف لله سبحانه بربوبيته (كَما حَمَلْتَهُ) تقدم في مثل هذا التركيب أنه مفعول مطلق أو حال وما مصدرية على كل حال (عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) على الذين متعلقان بجملة ومن قبلنا متعلقان بمحذوف صلة الذين أي كانوا من الأمم السالفة (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) عطف على ما تقدم وما مفعول به ثان لتحملنا ولا نافية للجنس وطاقة اسمها المبني على الفتح في محل نصب ولنا جار ومجرور متعلقان بطاقة وبه جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لا (وَاعْفُ عَنَّا) دعاء معطوف على ما تقدم وعنا متعلقان بأعف (وَاغْفِرْ لَنا) عطف آخر (وَارْحَمْنا) عطف آخر (أَنْتَ مَوْلانا) أنت ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ ومولانا خبر والجملة مستأنفة بمثابة الاعتراف لله تعالى بأنه المولى، لأن المولى مصدر ميمي من ولي يلي، والمعنى أنت مولانا بك نلوذ، وإليك نلتجىء، وعليك نتكل، ومن حق المولى أن ينصر من يليه ويجيره إذا خاف ويحوطه بعنايته ويكلأه برعايته. (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) الفاء للتعليل والجملة مسوقة لتعليل ما تقدم، فإن كونه مولانا سبب سبب لطلب النصرة منه، وعلى القوم متعلقان بانصرنا وذكر لفظ القوم للتعميم لأن النصر على الأفراد لا يستلزم النصر على المجموع فدفع ذلك الإيهام بذكر لفظ القوم والكافرين صفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 البلاغة: في هذه الأبيات طائفة من فنون البلاغة نجملها بما يلي: 1- حسن الختام: وقد تقدّم بحثه، ومن حق سورة البقرة وقد اشتملت على العديد من الأحكام، وانطوت على التشريع البيان- أن يتناول ختامها شكر المنعم الذي منّ على الإنسان بالعقل ليفكّر، ومن حق المنعم عليه أن يعترف لمن أسدى إليه الآلاء أن يشكرها ولمن نصب أمامه محاريب الفكر ومجالي الإبداع أن يفكر فيها ويتدبرها، ويشهد لمن أبدعها بالحول والطّول والانفراد بالوحدانية المتجلية على قلوب المؤمنين. فبالفكر وحده يحيا الإنسان وبالفكر استدل على وجوده وما أجمل قوله صلى الله عليه وسلم: «السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها، فإن تعلمها بركة، وتركها حسرة، ولن تستطيعها البطلة» قيل: وما البطلة؟ قال: السحرة. ومعنى كونها فسطاط القرآن أنها اشتملت على معظم أمور الدين أصولا وفروعا، والإرشاد الى ما فيه حسن المعايش في الدنيا والفوز في الآخرة. 2- المقابلة: في قوله: «لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» فقد طابق بين لها وعليها، وبين كسبت واكتسبت. فالفعل الأول يختص بالخير، والفعل الثاني يختص بالشر فإن في الاكتساب اعتمالا، والشر تتشهّاه النفس وتجنح إليه بالطبع بخلاف الخير فإنه يهبط على النفس كما يهبط الفيض من آلاء الله، وكما يشرق اليقين في النفس. إشراقا جعل من فلاسفة الإشراق مؤمنين، ومن الغزالي وديكارت أوّابين متبتّلين ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 الفوائد: 1- (بَيْنَ) ظرف للمكان أو الزمان لا يضاف إلا لمتعدّد، وقد أضيف في الآية الى «أحد» لأنه اسم لمن يصلح أن يخاطب، يستوي فيه الواحد والاثنين والجمع كما يستوي فيه المذكر والمؤنث. فمعنى لا نفرّق بين أحد من الرسل: لا نفرق بين جمع من الرسل. وقد اختلف علماء اللغة: هل تعاد بين بعد ورودها بين المتعاطفين أم لا؟ نحو: جلست بين زيد وعمرو. هل يقال: جلست بين زيد وبين عمرو؟ أجاز ذلك قوم على أن تكون بين للتأكيد. ومن روائع النكت أنه لا يعطف بعدها إلا بالواو فلا يقال: جلست بين زيد فعمرو. وقد اعترض على ذلك بقول امرئ القيس في مطلع معلقته: فقا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدّخول فحومل قال الأصمعي: الصواب أن يقال: بين الدخول وحومل، لأن البينية لا يعطف عليها بالفاء لأنها تدل على الترتيب، وقال يعقوب بن السكيت في الدفاع عن امرئ القيس: إنه على حذف مضاف وأن التقدير: بين أهل الدخول فحومل. وقال المرادي: إنه على اعتبار المتعدّد حكما لأن الدخول مكان لا يجوز أن يشتمل على أمكنة متعددة، كما تقول قعدت بين الكوفة، تريد بين دورها وأماكنها. هذا وتشبع حركة النون فتصير «بينا» و «بينما» . وتضاف عندئذ الى الجمل، قال أبو ذؤيب: بينا تعنقه الكماة وروغه ... يوما أتيح له جريء سلفع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 (3) سورة آل عمران مدنية وآياتها مائتان [سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) (الم) تقدم الكلام على فواتح السّور في أول البقرة. (التوراة والإنجيل) : اسمان أعجميان، وقيل عربيان. وعلى القول بعربيتهما فالتوراة مشتقة من قولهم: ورى الزّند إذا قدح فظهر منه نار. فلما كانت التوراة فيها ضياء يخرج به من الضلال الى الهدى كما يخرج بالنور من الظلام الى النور سمي هذا الكتاب بالتوراة. وقيل: هي مشتقة من وريت في كلامي من التورية. وسميت التوراة لأن فيها تلويحات وإيحاءات ومعاريض. أما الإنجيل فهو على رأي القائلين بعربيته مشتق من النجل وهو التوسعة. ومنه قولهم: عين نجلاء أي واسعة. وسمي الإنجيل بذلك لأن فيه توسعة لم تكن في التوراة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 الإعراب: (الم) خبر لمبتدأ محذوف وقد تقدم القول فيه مفصّلا (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الله مبتدأ ولا نافية للجنس وإله اسمها وإلا أداة حصر وهو بدل من محل لا واسمها على الصحيح أو من الخير المحذوف أي لا إله موجود إلا هو، والجملة خبر «الله» وقد تقدّم الكلام مفصلا في إعراب كلمة الشهادة (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) خبر ثان وثالث ل «الله» أو خبران لمبتدأ محذوف أي هو الحيّ القيوم (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) الجملة خبر رابع ل «الله» أو خبر ثان إن جعلنا الحي القيوم خبرين لمبتدأ محذوف. ونزل فعل ماض مبني على الفتح وعليك متعلقان بنزل والكتاب مفعول به وبالحق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الكتاب أي متلبسا بالحق (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) مصدقا: حال مؤكدة واللام حرف جر وما اسم موصول في محل جر باللام والجار والمجرور متعلقان بقوله مصدقا وبين ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول ويديه مضاف إليه مجرور بالياء لأنه مثنى وحذفت النون للإضافة والهاء مضاف إليه (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) عطف على ما تقدم (مِنْ قَبْلُ) جار ومجرور متعلقان بأنزل (هُدىً لِلنَّاسِ) حال من التوراة والإنجيل ولم يثنّ لأنه مصدر أي هادين. ويجوز إعراب هدى مفعولا من أجله أي أنزل هذين الكتابين لأجل هداية الناس. وللناس متعلقان يهدى (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) الواو حرف عطف وجملة أنزل الفرقان عطف على جملة أنزل التوراة والإنجيل. من قبيل عطف العام على الخاص أي الكتب التي تفرق بين الحق والباطل (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ) جملة مستأنفة للتحدث عن وفد نجران والتفاصيل مبسوطة في المطوّلات. وإن واسمها. وجملة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 كفروا صلة الموصول وبآيات الله متعلقان بكفروا (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وشديد صفة والجملة الاسمية في محل رفع خبر إن (وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) الواو استئنافية والله مبتدأ وعزيز خبر أول وذو انتقام خبر ثان (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) إن واسمها، وجملة لا يخفى عليه شيء خبرها وفي الأرض متعلقان بمحذوف صفة لشيء ولا في السماء عطف على ما تقدم (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ) جملة مستأنفة أيضا مسوقة لبيان علمه سبحانه واطلاعه على ما لا يدخل تحت الوجود وهو تصوير عباده في أرحام أمهاتهم وهو مبتدأ والذي خبره وجملة يصوركم صلة الموصول وفي الأرحام متعلقان بيصوركم (كَيْفَ يَشاءُ) كيف هنا أداة شرط في محل نصب على الحال ولم تجزم لعدم اتصال «ما» بها. ومفعول يشاء محذوف تقديره تصويركم والجملة حالية (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تقدم إعرابه وكرره لتأكيد الكلام و (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) خبران لمبتدأ محذوف تقديره هو. البلاغة: 1- المجاز في قوله: «لما بين يديه» والمراد ما أمامه. 2- الطباق بين «الأرض» و «السماء» . 3- الإيجاز بالحذف، فقد حذف مفعول «يشاء» للغرابة وإظهار قدرة الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 [سورة آل عمران (3) : آية 7] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) اللغة: (مُحْكَماتٌ) : أحكمت عباراتها، ووضحت دلالاتها، وحفظت من الاحتمال والاشتباه. (مُتَشابِهاتٌ) فيها احتمال للتأويل. وفي هذه الكلمة إيهام، فإن مفردها متشابه، وكيف يتشابه الشيء مع نفسه؟ وإنما يقع التشابه بين الاثنين. ومثله يقتتلان، والمفرد لا يقتتل، فكيف يقتتل الواحد مع نفسه؟ وقد وجه هذا الاعتراض الى تقي الدين بن تيمية الإمام المشهور فقال لمن سأله: «هذا ذهن جيد» . ثم عدل عن الجواب. والذي يبدو للخاطر أن العرب نطقت بألفاظ من هذه الصيغة ولم ترد بها المفاعلة كقولهم: طابقت النّعل، وعاقبت اللص، وخامرت الحبّ، وعاقرت الخمر. ولو فرضنا أن الصيغة على أصل المفاعلة كان الجواب أن التشابه لا يكون إلا بين اثنين فما فوقهما، وإذا اجتمعت الأشياء المتشابهة كان كل واحد متشابها للآخر، فلما لم يصح التشابه إلا في حالة الاجتماع وصف بالجمع لأن كل واحد من مفرداته يشابه الآخر. الحكمة في المتشابه: فإذا خطر لك أن تسأل عن السر في الجنوح الى ذكر المتشابه به في القرآن، والعدول عن تعميم الحكم؟ قيل إن القرآن في الأصل نزل على أسلوب العرب وبألفاظهم ووفقا لكلامهم، وهو على ضربين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 منه المحكم الذي لا يخطئه السامع، ولا يغرب عن الفهم، ومنه ما حفل بضروب المجازات، وأنواع الكنايات والإشارات والتلويحات. وقد كان هذا الضرب الثاني، أفعل في نفوسهم، وأكثر استهواء لهم، فأنزل القرآن مفرغا في الأسلوبين، حاويا للنوعين، ليكون التحدي أعم وأشمل، ولو نزل كله محكما لما ترددوا في التماس المطاعن، ولما أحجموا عن المكابرة واللجاج والاعتراض، ولقالوا: هلّا نزل بالضرب الذي نستحسنه، ونميل إليه؟ هذا من جهة، ومن جهة ثانية لما يتميّز به المتشابه من كدّ القرائح في استخراج المغالق واكتناه المرامي، وحسر الستار عن الطرائف التي تتعالى على النظرة السطحية البدائية، حتى إذا فتح الله عليه وتمكن من سبر أغوار المتشابه، كان إيمانه أرسخ ويقينه أقوى من أن تعصف به الشبهات. (الزيغ) الميل عن الحق والجنوح الى الباطل. والزاي والياء إذا وقعتا فاء وعينا للكلمة أفادتا هذا المعنى وسمي الزيت زيتا لأنه سائل يميل بسرعة، وزاغت الشمس تزيغ مالت، وقس على ذلك. الإعراب: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) كلام مستأنف مسوق لتفصيل آيات الكتاب وأنها قسمان: قسم يفهمه الناس، وقسم لا يفهمونه لقصورهم وعجزهم. وهو مبتدأ والذي خبره وجملة أنزل عليك الكتاب لا محل لها لأنها صلة الموصول وعليك متعلقان بأنزل والكتاب مفعول به (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) الجملة حال من الكتاب والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وآيات مبتدأ مؤخر ومحكمات صفة لآيات (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) الجملة صفة ثانية لآيات وهن ضمير منفصل في محل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 رفع مبتدأ وأم الكتاب خبره، وأخبر عن الجمع بالواحد لأن كل واحدة بمثابة أم واحدة (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) عطف على آيات محكمات (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) الفاء استئنافية مسوقة لتفضيل موقف الناس منه، وأما حرف شرط وتفصيل والذين مبتدأ وفي قلوبهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وزيغ مبتدأ مؤخر والجملة صلة الموصول (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) الفاء رابطة لجواب أما وجملة يتبعون خبر الذين واستغنى عن الجواب اكتفاء بالفاء وما اسم موصول مفعول به وجملة تشابه صلة الموصول ومنه متعلقان بتشابه وابتغاء مفعول لأجله والفتنة مضاف إليه (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) عطف على ابتغاء الفتنة (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) الواو حالية وما نافية ويعلم فعل مضارع مرفوع وتأويله مفعول به مقدم والجملة في محل نصب على الحال (إِلَّا اللَّهُ) إلا أداة حصر والله فاعل يعلم مؤخر (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ) تكلم المعربون والمفسرون كثيرا وأطالوا حول هذه الآية، والقول الفصل فيها أنه يجوز أن تكون الواو عاطفة والراسخون معطوفة على «الله» والمعنى: لا يهتدي الى تأويله إلا الله وعباده الذين رسخوا في العلم وتمكنوا منه، ويجوز أن يتم الوقوف على قوله: «إلا الله» وتكون الواو استئنافية والراسخون مبتدأ خبره جملة يقولون. وعلى القول الاول تكون جملة يقولون: حالية أي قائلين، وقد نشأ عن هذا الاختلاف في التفسير انقسام العلماء الى فريقين: أصحاب تأويل وأصحاب ظاهر، ولستا في صدد الترجيح والمفاضلة بين الآراء المتضاربة ولكننا سنورد لمحة عنه في باب الفوائد (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) الجملتان مقول القول وآمنا فعل وفاعل وبه متعلقان بآمنا وكل مبتدأ ساغ الابتداء به لما في «كل» من معنى العموم والتنوين عوض عن كلمة، ومن عند ربنا الجار والمجرور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 متعلقان بمحذوف خبر (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) الواو حالية أو مستأنفة وما نافية ويذكر فعل مضارع مرفوع وإلا أداة حصر وأولو فاعل يذكر مرفوع بالواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم والألباب مضاف إليه. الفوائد: 1- أفرد بعضهم هذه المسألة بكتاب خاص لسعة الكلام فيها، وقد استدل القاضي البيضاوي والزمخشري قبله على اختيارهما الوقوف على «العلم» لأن في ذلك حفزا للعقول على التفكير والإبداع، وقال الحشويّة ما خلاصته: الوقف على قوله تعالى: «وما يعلم تأويله إلا الله» واجب حتى يكون قوله: «والراسخون» كلاما مستأنفا، فاذا لم يقف عليه بل وقف على قوله «والراسخون في العلم» ليكون عطفا على قوله: «إلا الله» كان لا بد أن يبتدىء بقوله: «يقولون آمنا به» أراد به: قائلين، وهو حال، وهو باطل، لأنه لا يخلو إما أن يكون حالا عن «الله» أو عن الراسخين في العلم، كان كان الله سبحانه والراسخين في العلم قالوا: آمنا به كل من عند ربنا. وذلك في حقه تعالى محال، أو يكون حالا عن الراسخين في العلم فقط، وعندئذ يتخصص المعطوف بالحال دون المعطوف عليه، وهو أيضا غير جائز، لأنه مناف للقاعدة المقررة في العربية، وهي أن المعطوف في حكم المعطوف عليه، فثبت أن الوقف على قوله: «إلا الله» واجب. وإذا كان الوقف عليه واجبا فقد خاطبنا الله بما لا نفهمه وهو المهمل. قلت: لا يخفى ما في حذلقة الحشويين من براعة مبنية على المغالطة فهم يجيزون الخطاب بالمهمل، فإنه يجوز تخصيص المعطوف بالحال حيث لا لبس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 وهو كثير في القرآن. ومنه: «ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة» فإن «نافلة» حال من المعطوف فقط، وهو «يعقوب» لأن النافلة هو ولد الولد وإنما هو يعقوب دون إسحق. ما يقوله الرازي: واستدل الامام فخر الدين الرازي في مفاتيح الغيب على أن الوقف الصحيح على قوله «إلا الله» بستة أوجه، ملخص الثاني منها أن الآية دلت على أن طلب التأويل مذموم لقوله تعالى: «فأما الذين في قلوبهم زيغ» الى آخر الآية، ولو كان التأويل جائزا لما ذمّه الله. وملخص الرابع: أنه لو كانت الواو في قوله: «والراسخون» عاطفة لصار قوله: «يقولون آمنا به» ابتداء، وهو بعيد عند ذوي الفصاحة، بل كان الأولى أن يقولوا: وهم يقولون آمنا به، أو يقال: ويقولون: آمنا به، ولهذا كله أسغنا الوجهين. [سورة آل عمران (3) : الآيات 8 الى 10] رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) الإعراب: (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) الجملة مقول قول محذوف وربنا منادى مضاف ولا ناهية وهي هنا بمعنى الدعاء وتزغ فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل أنت وقلوبنا مفعول به والظرف الزماني متعلق بتزغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 وهو مضاف الى الظرف الذي هو إذ وإذ ظرف لما مضى من الزمن وجملة هديتنا في محل جر بالإضافة وقيل خرجت إذ عن الظرفية فهي بمعنى «أن» ولكن حكمها لم يتغير فهي ملازمة للإضافة إليها، وهو قول جميل (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) الواو عاطفة وهب فعل أمر ولنا جار ومجرور متعلقان بهب ومن لدنك جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ولدن ظرف مبني على السكون في محل جر بمن والكاف مضاف إليه ورحمة مفعول به (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) الجملة تعليل للدعاء لا محل لها وإن واسمها، وأنت ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ والوهاب خبر أنت والجملة الاسمية في محل رفع خبر إن ويجوز أن تعرب أنت ضمير فصل لا محل له والوهاب خبر إن (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ) ربنا منادى مضاف، وإن واسمها، وجامع الناس خبرها والجملة داخلة في حيز مقول القول (لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) الجار والمجرور متعلقان بجامع ولا نافية للجنس وريب اسمها والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبرها. وجملة لا ريب فيه في محل جر صفة ليوم (إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) الجملة تعليلية للحكم فإنه في مقام التماس الإنعام وإن واسمها، وجملة لا يخلف الميعاد مفعول به بمعنى المصدر وهو الوعد، وقد قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) الجملة مستأنفة وإن واسمها، وجملة كفروا صلة الموصول ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتغني فعل مضارع منصوب بلن والجملة خبر إن وعنهم متعلقان بتغني وأموالهم فاعل تغني ولا أولادهم عطف على أموالهم، ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة ل «شيئا» فلما تقدم أعرب حالا على القاعدة المشهورة، والتقدير لن تدفع عنهم الأموال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 والأولاد شيئا من عذاب الله وشيئا مفعول به أو في موضع المصدر تقديره غنى، فيكون مفعولا مطلقا (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير عدم الإغناء، ولك أن تجعل الواو عاطفة والجملة معطوفة على خبر إن وأولئك اسم إشارة في محل رفع مبتدأ وهم مبتدأ ثان ووقود النار خبر «هم» والجملة الاسمية خبر اسم الإشارة، ويجوز أن يكون هم ضمير فصل ووقود النار خبر أولئك وقد تقدم تقريره كثيرا. الفوائد: (لدن ولدى) ظرفان للمكان والزّمان مبنيّان على السكون، والغالب في لدن أن تجر بمن كما في الآية، وإذا أضيفت إلى ياء المتكلم لزمتها نون الوقاية نحو لدني، وقد تترك هذه النون فيقال لدني. وتضاف إلى المفرد وإلى الجملة. وتقع بعد لدن «غدوة» فيجوز جر غدوة بالإضافة، ويجوز نصبها على التمييز، أو على أنها خبر كان المقدرة مع اسمها، أي: لدن كان الوقت غدوة. والفرق بين لدن ولدى أن لدن لا تقع عمدة في الكلام ولدي تقع، فلا يقال: لدنه علم، ولكن يقال لديه علم. [سورة آل عمران (3) : آية 11] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) اللغة: (الدأب) مصدر دأب في العمل من باب قطع إذا كدح فيه، غلب استعماله في العادة والشأن، ومنه قول امرئ القيس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 كدأبك من أم الحويرث قبلها ... وجارتها أمّ الرباب بمأسل الإعراب: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) الكاف اسم بمعنى مثل في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير دأب هؤلاء كدأب من قبلهم. ولك أن تجعل الكاف حرف جر فيكون الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لذلك المبتدأ المحذوف. ويجوز نصب محل الكاف ومدخولها على المفعولية المطلقة أو الحال وقد تقدم كثيرا. وآل مضاف إليه وفرعون مضاف إليه أيضا مجرور وعلامة جره الفتحة لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الواو حرف عطف على آل فرعون والجار والمجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول (كَذَّبُوا بِآياتِنا) فعل وفاعل وبآياتنا جار ومجرور متعلقان بكذبوا والجملة تفسيرية لا محل لها. ولك أن تعرب الواو استئنافية فيكون الذين مبتدأ خبره جملة كذبوا (فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ) الفاء عاطفة وأخذهم الله فعل ومفعول به وفاعل والجار والمجرور متعلقان بأخذهم فتكون الباء للسببية أو بمحذوف حال فتكون الباء للملابسة أي متلبسين بذنوبهم (وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير العقاب والواو استئنافية والله مبتدأ وشديد العقاب خبره. [سورة آل عمران (3) : آية 12] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) الإعراب: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) جملة مستأنفة مسوقة للرد على اليهود الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 ركبوا رؤوسهم بعد موقعة بدر وقالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي حاول حقنا لدمائهم أن يحذرهم من عواقب الغرور والطيش: لا تحسب أنّا أغما رأي غير مجربين على القتال. وقل فعل أمر وفاعله ضمير مستتر يعود على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي أنت. وللذين جار ومجرور متعلقان بقل وجملة كفروا لا محل لها لأنها صلة الموصول (سَتُغْلَبُونَ) السين حرف استقبال وتغلبون فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو نائب فاعل والجملة في محل نصب مقول القول (وَتُحْشَرُونَ) الواو حرف عطف وجملة تحشرون معطوفة على ستغلبون داخلة في حيز القول (إِلى جَهَنَّمَ) الجار والمجرور متعلقان بيحشرون وجرت جهنم بالفتحة لأنها ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث وسيأتي القول عنها في مكان آخر (وَبِئْسَ الْمِهادُ) الواو عاطفة والجملة معطوفة على ما قبلها داخلة في حيز القول ويجوز أن تكون الواو استئنافية والجملة مسوقة لردعهم وتهويل جهنم لهم وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والمهاد فاعل بئس والمخصوص بالذّم محذوف تقديره جهنم وإنما حذف لفهم المعنى. وفيه تأييد لمذهب سيبويه وهو إعراب المخصوص بالذّم أو المدح مبتدأ خبره الجملة قبله، ومذهب غيره أنه خبر لمبتدأ محذوف، ويرد عليه أنه يلزم من ذلك حذف الجملة برأسها من غير أن يبقى ما يدل عليها، وذلك لا يجوز حتما لأن حذف المفرد أهون من حذف الجملة. [سورة آل عمران (3) : آية 13] قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 اللغة: الفئة: الجماعة ولا واحد لها من لفظها وجمعها فئات وقد تجمع بالواو والنون جبرا لما نقص، وإنما سميت الجماعة فئة لأنه يفاء إليها، أي يرجع في وقت الشدة. وقال الزّجاج: الفئة: الفرقة، مأخوذ من قولهم: فأوت رأسه بالسيف أي قطعته. (العبرة) : الاتعاظ، يقال منه: اعتبر، وهو الاستدلال بشيء على شيء يشبهه، واشتقاقها من العبور وهو مجاوزة الشيء إلى الشيء، ومنه عبر النهر بفتح العين: وهو شطه، والمعبر السفينة، والعبارة يعبر بها إلى المخاطب بالمعاني، وعبرت الرؤيا مخففا ومثقلا نقلت ما عندك من علمها إلى الرّائي أو غيره ممن يجهل، وكان الاعتبار انتقالا من منزلة الجهل إلى منزلة العلم، ومنه العبرة بفتح العين وهي الدمع لأنها تجاوز العين. الإعراب: (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) الجملة داخلة في حيز القول السابق أي قل لليهود: ستغلبون وقل لهم: قد كان وقيل: هي عامة وإن الخطاب لجميع الكفار فتكون مستأنفة أو لجميع المؤمنين، والعبرة لا تختص بأحد، وقد حرف تحقيق وكان فعل ماض ناقص ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كان المقدم وآية اسمها المؤخر (فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لآية وجملة التقتا صفة للفئتين والتاء تاء التأنيث الساكنة وحركت بالفتحة لمناسبة ألف الاثنين التي هي فاعل وقد كان ذلك اللقاء يوم بدر (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فئة خبر لمبتدأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 محذوف أي إحداهما فئة ويجوز جر فئة على البدلية من فئتين وهي إحدى القراءات وجملة تقاتل صفة لفئة وفي سبيل الله متعلقان بتقاتل (وَأُخْرى كافِرَةٌ) الواو عاطفة وأخرى عطف على فئة وكافرة صفة فمن رفع الأول رفعه ومن جر الأول جرّه (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) جملة يرونهم نعت للفئة التي تقاتل في سبيل الله وهم النبي وصحابته، ويرونهم فعل وفاعل ومفعول به والرؤية بصرية أو بمثابتها لشدة الالتحام ومثليهم حال ورأي العين مفعول مطلق مؤكد لعامله (وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة يؤيد خبر وبنصره متعلقان بيؤيد ومن اسم موصول مفعول به وجملة يشاء لا محل لها لأنها صلة الموصول (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) الجملة مستأنفة مسوقة للحث على الاعتبار وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم واللام المزحلقة وعبرة اسم إن المؤخر ولأولي جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لعبرة وعلامة جره الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم والأبصار مضاف اليه. البلاغة: انطوت هذه الآية على أرفع الخصائص البيانية فمنها: 1- الاحتباك وهو الحذف من كلامين متقابلين وكل منهما يدل على المحذوف من الآخر ففي قوله تعالى: «فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة» حذف من الكلامين، وتقديره: فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله وفئة أخرى كافرة تقاتل في سبيل الشيطان. فحذف من الأول ما يفهم من الثاني، وحذف من الثاني ما يفهم من الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 2- الكلام الموجه لأن المعنى إما أن يفهم منه شيء واحد لا يحتمل غيره وإما أن يحتمل منه الشيء وغيره، وتلك الغيرية إما أن تكون ضدا أو لا، وهذه الآية احتملت معنيين متغايرين، وتلك الغيرية ضد إذا احتملت رؤية الكثرة أن تكون للمسلمين أو للمشركين في وقت واحد، وليس هناك ما يرجح واحدا على الآخر لأن كلا منهما يصح إطلاقه في الآية. وقد ورد في الحديث من التوجيه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذا لم تستح فاصنع ما شئت» وهذا يشتمل على معنيين متضادين أحدهما إن المراد به إذا لم تفعل فعلا تستحي منه فاصنع ما شئت، والآخر: أن المراد به إذا لم يكن لك حياء يزعك عن فعل ما يستحيا منه فافعل ما شئت. وهذان معنيان ضدان، أحدهما مدح والآخر ذمّ. المتنبي والكلام الموجه وقد رمق أبو الطيب المتنبي هذه السماء العالية واستغلها في مدائحه لكافور، حاكم الأخشيد في مصر، فقد كان مضطرا إلى مجاملته لتفادي المكروه إن جابهه بما يكنه من احتقار، فجنح إليه في أماديح ليكون ظاهرها المديح وباطنها الهجاء، فمن ذلك قوله فيه: وأظلم أهل الظلم من بات حاسدا ... لمن في نعمائه يتقلب وهذا البيت يحتمل معنيين ضدين أحدهما أن المنعم عليه يحسد المنعم، فيكون مدحا. وكذلك أورده ليوهم كافورا أنه يريد ذلك. وثانيهما أن المنعم يحسد المنعم عليه ليقرر حقيقة رسخت في هذا المخلوق الذي قذفت به المقادير ليكون ملكا فهو ينعم على الآخرين ثم ما يلبث أن يحسدهم على ما نالوه من نعمائه. وهذا من أعجب ما اتفق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 في الشعر، وهو من خصائص هذا الشاعر العجيب. وكثيرا ما كان يجنح أبو الطيب إلى هذا اللون من الشعر في أماديحه لكافور، ومن ذلك قوله فيه من قصيدة مطلعها: عدوّك مذموم بكل لسان ... ولو كان من أعدائك القمران ثم قال فيه: ولله سر في علاك وإنما ... كلام العدا ضرب من الهذيان فما لك تعنى بالأسنة والقنا ... وجدك طعان بغير سنان أي دع أعداءك يقولوا ما أرادوا ويحدسوا في الأسباب التي جعلت منك ملكا فإن ذلك من أسرار الله في خلقه، يرفع الوضيع ويغني البليد ويرزق الفدم الغبي، ثم يقول له مخاطبا: إنك لم تبلغ ما بلغته بسعيك واهتمامك بل بحظك وسعدك، وهذا مما لا فضل فيه، ويستوي فيه الفدم وغير الفدم. [سورة آل عمران (3) : آية 14] زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) اللغة: (القناطير) جمع قنطار، مأخوذ من قنطر الشيء إذا أحكه وهو هنا يعني المال الكثير. والقنطار يختلف مع الأيام والبلاد، وقد اختلف علماء اللغة في نونه فقال فريق: إنها أصلية، وإن وزنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 فعلال كقرطاس، وقيل: إنها زائدة وإن وزنه على فنعال. وقد خبط فيه صاحب المنجد خبطا عجيبا. (الْمُسَوَّمَةِ) وصف للخيل أي المعلمة بعلامة تعرف بها، والخيل فيه قولان: أحدهما أنه جمع لا واحد له من لفظه بل مفرده فرس، والثاني أن واحده خائل فهو نظير راكب وركب وتاجر وتجر وطائر وطير، وسيبويه يدرجه مع قوم ورهط ونساء، ويجعله اسم جمع، وغيره يجعله جمع تكسير. واشتقاق الخيل إما من الاختيال وهو العجب، سميت بذلك لاختيالها في مشيتها، والثاني من التخيل، لأنها تتخيل في صورة هي أعظم منها. (الْأَنْعامِ) جمع نعم بفتحتين، والنعم اسم جمع لا واحد له من لفظه، وهو يذكر ويؤنث، ويطلق على الإبل والبقر والغنم. وسيرد المزيد من بحثه في سورة الأنعام. (الْمَآبِ) يصح أن يكون مصدرا صحيحا أو اسما للمكان أو الزمان، وهو على كل حال مفعل بفتح العين من آب يئوب أي رجع، وأصله مأوب، فنقلت حركة الواو إلى الهمزة الساكنة قبلها فقلبت الواو ألفا. الإعراب: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) كلام مستأنف لا محل له مسوق لبيان حقارة أعراض الدنيا. زين فعل ماض مبني للمجهول وللناس جار ومجرور متعلقان ب «زين» وحب الشهوات نائب فاعل (مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) من بيانية وهي مع مجرورها متعلقان بمحذوف حال والبنين: الواو عاطفة والبنين معطوف على النساء مجرور وعلامة جره الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم والمقنطرة صفة للقناطير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 (مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ) من بيانية أيضا وهي ومجرورها متعلقان بمحذوف حال وما بعده عطف عليه (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) اسم الإشارة مبتدأ ومتاع الحياة خبر والدنيا صفة والجملة مستأنفة أيضا مسوقة لبيان حقارة ذلك كله لأنه فان لا يبقى (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) الواو استئنافية وما بعدها كلام مستأنف مسوق للدلالة على أنه ليس فيما عدد من ظواهر النعمة خير ولا ينفع، والله مبتدأ والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وحسن المآب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر «الله» . البلاغة: في الآية فن مراعاة النظير، وهو أن يجمع الشاعر أو الناثر بين أمر وما يناسبه مع إلغاء ذكر التضاد لتخرج المقابلة والمطابقة، وقد جمع سبحانه في هذه الآية معظم وسائل النعيم الآيلة بالمرء إلى الانهماك في الفتنة والانسياق مع دواعي النفوس الجموح، وقد زينت للناس واستهوتهم بالتعاجيب والمفاتن، ابتلاء لهم. وللمتكلمين مناظرات وجولات حول تزيين هذه الشهوات، والمزين لها، ويشتجر الخلاف بين أهل السنة وأهل الاعتزال، مما لا سبيل إلى ذكره لأنه خارج عن نطاق كتابنا، ولكننا نجتزي بالإلماع إليه، ليرجع من يشاء إلى المظان المعروفة. [سورة آل عمران (3) : آية 15] قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 الإعراب: (قُلْ) : فعل أمر وفاعله أنت، أي: يا محمد، والكلام مستأنف مسوق لتقرير وتحقيق الخير لما عند الله وأفضليته على شهوات الدنيا (أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) الهمزة للاستفهام التقريري وأنبئ فعل مضارع مرفوع والفاعل ضمير مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وبخير جار ومجرور متعلقان بأنبئكم على أنه ناب مناب المفعول الثاني كما سيأتي في باب الفوائد، ومن ذلك جار ومجرور متعلقان بخير والإشارة إلى أنواع الشهوات الآنفة الذكر. وجملة الاستفهام في محل نصب مقول القول (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وجملة اتقوا لا محل لها لأنها صلة الموصول وعند ربهم ظرف متعلق بمحذوف حال من جنات لأنه كان في الأصل صفة لها فلما تقدم عليها أعرب حالا. وجنات مبتدأ مؤخر. ولك أن تعلق الظرف بما تعلق به «للذين» من الاستقرار لأنه من جملة الخير، ولك أن تجعل الكلام موصولا فلا تقف عند ذلكم وعندئذ يكون للذين نعتا للخير وجنات خبر لمبتدأ محذوف (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) الجملة صفة لجنات والأنهار فاعل تجري ومن تحتها متعلقان بتجري (خالِدِينَ فِيها) حال من الذين اتقوا وفيها جار ومجرور متعلقان بخالدين (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أزواج عطف على جنات ومطهرة نعت لأزواج (وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ) عطف على جنات أيضا (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) الواو استئنافية والله مبتدأ وبصير خبر وبالعباد متعلقان ببصير. الفوائد: (أنبأ ونبأ) فعلان يتعديان إلى ثلاثة مفاعيل إذا كانا بمعنى العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 وأما في الآية فهو بمعنى الاخبار، فيتعديان لاثنين فقط. والحقيقة أن الذي يتعدى لثلاثة مفاعيل فعلان، وهما أرى وأعلم، أما الخمسة الباقية وهي أخبر وخبّر وأنبأ ونبأ وحدث فقد ألحقت في بعض استعمالاتها بأعلم المتعدية إلى ثلاثة مفاعيل، ومنه قول الحارث بن حلزة اليشكريّ: إن منعتم ما تسألون فمن حدّ ... ثتموه له علينا العلاء فهو شاهد على أنه متعد لثلاثة مفاعيل، فالتاء هي المفعول الأول والميم علامة جمع الذكور والواو لإشباع ضمة الميم والهاء هي المفعول الثاني وجملة له علينا العلاء جملة اسمية في موضع المفعول الثالث فافهم ذلك جيدا لأنه عزيز المنال. هذا وتستعمل هذه الأفعال الخمسة متعدية لواحد بأنفسها وإلى مضمون الثاني والثالث بالباء نحو حدثتك بأمر. [سورة آل عمران (3) : الآيات 16 الى 18] الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) اللغة: (الأسحار) جمع سحر كفرس وأفراس: أواخر الليل، وسميت بذلك لما فيها من الخفاء. والسّحر: وقت إدبار الليل وإقبال النهار فهو متنفّس الصبح. واختلف أهل اللغة في تحديده بالضبط فقال الزّجاج وجماعته: إنه الوقت قبل طلوع الفجر، وقال الرّاغب في مفرداته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 السحر اختلاط ظلام آخر الليل بضياء النهار، ثم جعل اسما لذلك الوقت. وأما السّحر بسكونه فهو منتهى قصبة الحلقوم. ومنه قول عائشة رضي الله عنها: «قبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين سحري ونحري» . ومن مجاز العرب قولهم: انتفخت مساحره، إذا ملّ وجبن. (القسط) : العدل. يقال أقسط أي عدل، وقسط أي جار، فهو مدح في الرباعي وذم في الثلاثي. الإعراب: (الَّذِينَ يَقُولُونَ) اسم الموصول يجوز فيه الرفع على إنه خبر لمبتدأ محذوف أي: هم الذين، والنصب على المدح بفعل محذوف أي أمدح الذين، والجرّ على أنه بدل من اسم الموصول في الآية السابقة أو نعت له يقولون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجملة صلة (رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) الجملة مقول القول وربنا منادى محذوف منه حرف النداء، وإن واسمها وجملة آمنا خبرها (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) الفاء للتعليل، لأن الإيمان علة الغفران واغفر فعل أمر للدعاء ولنا متعلقان به وذنوبنا مفعول به (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) الواو حرف عطف وق فعل أمر للدعاء مبني على حذف حرف العلة وحذفت واو المثال كما هي القاعدة، والفاعل أنت ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به أول وعذاب النار مفعول به ثان (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) الصابرين منصوب على المدح بفعل محذوف وما بعده عطف عليه، وهي في الأصل صفات قطعت عن الوصفية بتوسط واو العطف بينها للدلالة على انفرادهم بأنواع الكمالات كما سيأتي في باب البلاغة والجملة استئنافية (شَهِدَ اللَّهُ) فعل وفاعل والجملة مستأنفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 مسوقة لتعداد أصول الدين وفضائله وقد وردت فيها أحاديث كثيرة (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أن وما بعدها في موضع نصب بنزع الخافض أي بأنه، والجار وما بعده متعلقان بشهد وقد تقدم إعراب كلمة الشهادة فجدد به عهدا (وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) الواو حرف عطف والملائكة عطف على الله وأولو العلم عطف أيضا. ورفع بالواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم (قائِماً بِالْقِسْطِ) حال لازمة من الله أو من الضمير المنفصل الواقع بعد إلا، ولعله أولى. وجاز مجيء الحال بعد معطوفين لأمن الالتباس، فلو لم يؤمن الالتباس لم يجز مجيء الحال، نحو جاء عليّ وخالد ضاحكا لعدم العلم بمن هو الضاحك. وواضح أن القيام بالقسط من خصائص الله تعالى فيكون بمثابة التتمة لكمال الأفعال بعد كمال الذات. وهنا بحث هام سيأتي في باب الفوائد (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تقدم إعرابها (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) خبران لمبتدأ محذوف تقديره هو ولك أن تعربهما بدلين من «هو» . البلاغة: 1- في دخول الواو على الصفات مع أن الموصوف واحد تفخيم للموصوف لأنه إيذان بأن كل صفة مستقلة بمدح الموصوف ثم إن الموصوف ليس واحدا كما يبدو للنظرة العجلى. 2- وفي الآية الأخيرة رد العجز على الصدر، فقد رد «العزيز» إلى تفرده بالوحدانية التي تقتضي العزة، ورد «الحكيم» إلى العدل الذي هو القسط، فهو تعالى حكيم لا يتحيفه جور أو انحراف. الفوائد: 1- المثال الذي فاؤه حرف علة إذا بني منه فعل أمر حذفت واوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 أو ياؤه، فتقول في وعد: عد فإذا كان لفيفا مفروقا أي إذا كانت فاؤه ولامه حرفي علة أصبح على حرف واحد لأن الحرفين يحذفان، فتقول في وعي: ع، وفي وقى ق وفي وفى ف وفي وأى إ وعلى هذا يتخرج اللغز المشهور الذي يتندر به صغار المعربين وهو: إن هند المليحة الحسناء ... وأي من أضمرت لخل وفاء وإيضاحه كما يلي: إن: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والنون نون التوكيد الثقيلة، ومعنى إ: عد، وفعله وأى، أي عدي يا هند وعد امرأة أضمرت الوفاء لخلها. وهند منادى مفرد علم محذوف منه حرف النداء مبني على الضم والمليحة نعت على اللفظ والحسناء نعت ثان لهند على المعنى ووأي مفعول مطلق. وإنما نبهنا إلى إعرابه لنبين أنّ للنحاة المتأخرين أمورا متكلفة يجدر بنا اجتنابها لأنها تفسد الذوق وتعطل الملكة الفنية وهي أشبه بالأعيب. 3- الأصل في الحال أن تكون متنقلة لا ثابته، وتقع وصفا ثابتا في ثلاث مسائل: آ- أن تكون مؤكدة لمضمون جملة قبلها، نحو: زيد أبوك عطوفا، فإن الأبوة من شأنها العطف، وذلك مستفاد من مضمون الجملة. أو لعاملها نحو «ويوم أبعث حيا» فإن البعث من لازمه الحياة فمعناها مستفاد من دون ذكرها. ب- أن يدل عاملها على تجديد ذات صاحبها وحدوثه أو تجدد صفة له، فالأول نحو قولهم: «خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها» فيديها بدل من الزرافة بدل بعض من كل، وأطول حال ملازمة من يديها ومن رجليها متعلقان بأطول لأنه اسم تفضيل، وعامل الحال خلق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 والثاني نحو قوله تعالى «وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا» فالكتاب قديم والإنزال حادث، أي محدث النزول لا الوجود. ج- أن يكون مرجعها إلى السماع نحو «قائما بالقسط» . على أن بعضهم أعرب «قائما» بأنه نصب على المدح كما في قول امرئ القيس: إذا قلت: هاتي نوليني تمايلت ... عليّ هضيم الكشح ريا المخلخل فهضيم نصب بتقدير أمدح لا حال، لأنها صفة لازمة. بقي الاعتذار عن جهة تأخيره عن المعطوفين فقال التفتازاني كأنها للدلالة على علو مرتبتهما، أي الملائكة وأولي العلم حيث قرنا به تعالى من غير فاصل، فتنبه لهذا الفصل، فله على الفصول الفضل. [سورة آل عمران (3) : آية 19] إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) الإعراب: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ) الجملة مستأنفة مؤكدة للأولى وإن واسمها، وعند الله ظرف مكان متعلق بمحذوف حال والإسلام خبر إن. وقد اعترض أبو البقاء على مجيء الحال بعد إن، وهو اعتراض مردود، لأنهم جوزوا في «ليت» وفي «كأن» وفي هاء التنبيه أن تعمل في الحال، لما تضمنت هذه الأحرف من معاني التمني والتشبيه والتنبيه، وإن للتأكيد فلتعمل في الحال أيضا فلا تتقاعد عن «ها» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 التي للتنبيه، بل هي أولى منها، وذلك أنها عاملة، و «ها» التي للتنبيه ليست عاملة فهي أقرب لشبه الفعل من «ها» ، ولك أن تجعلها حالا من الدين أي كائنا وثابتا عند الله. والإسلام خبر إن (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان سبب الاختلاف وما نافية واختلف الذين فعل وفاعل وجملة أوتوا صلة الموصول وأوتوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل وهو المفعول الأول والكتاب مفعول به ثان (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) إلا أداة حصر ومن بعد جار ومجرور متعلقان باختلف وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالإضافة أي من بعد مجيء العلم لهم وجاءهم فعل ومفعول به والعلم فاعله (بَغْياً بَيْنَهُمْ) مفعول لأجله وبينهم ظرف مكان متعلق بمحذوف صفة (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويكفر فعل الشرط وبآيات الله جار ومجرور متعلقان بيكفر (فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) الفاء رابطة لجواب الشرط وإن واسمها، وسريع الحساب خبرها والجملة الاسمية المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر «من» . البلاغة: اشتملت هذه الآية على ضروب من المبالغات في ذم اليهود، وذلك على النحو التالي: آ- وصفهم بأنهم أهل الكتاب، والاختلاف بحد ذاته قبيح، ولكنه بعد إتيان الكتاب والعلم بنواجمه أقبح. ب- ثم ترقى في المبالغة فوصفهم بأنهم بعد أن أوتوا كتابا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 جاءهم علم آخر يوضح لهم طريق الصواب، ولكن طبيعة اللجاج المركوزة في نفوسهم أبت إلا التمادي في الضلال وركوب متن الشطط فكان القبح أزيد. ج- ثم ترقى مرة أخرى في المبالغة فجعل الاختلاف بعد ظهور العلم لديهم مرتين متتاليتين لم يكن إلا بغيا منهم وهذا ما تعالمه الناس منهم واشتهروا به إلى اليوم، وبذلك استوفت المبالغة غايتها فسبحان المتفرّد بالبيان. [سورة آل عمران (3) : آية 20] فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) اللغة: (حَاجُّوكَ) : خاصموك يقال: حاجّه حجاجا ومحاجّة أي خاصمه وجادله. الإعراب: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ) الفاء استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتضيق الخناق على اليهود الذين أخذوا يحرجون النبي فيكيدون له وإن شرطية وحاجوك فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والواو فاعل والكاف مفعول به والفاء رابطة وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 لِلَّهِ) الجملة في محل نصب مقول القول وأسلمت فعل وفاعل ووجهي مفعول به والجار والمجرور متعلقان بأسلمت (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) الواو للعطف أو للمعية ومن اسم موصول معطوف على التاء في أسلمت أو مفعول معه وجملة اتبعن صلة الموصول، والنون للوقاية وقد حذفت ياء المتكلم وقفا ووصلا موافقة للرسم. والذي حسن ذلك أنها فاصلة ورأس آية. وسيرد أمثالها مثل أكرمن وأهانن. وقال بعض النحاة: حذفت مع نون الوقاية خاصة، فإن لم تكن هناك نون فالكثير إثباتها. على أن هذه الياء أثبتت في بعض القراءات السبع. (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الواو عاطفة وقل فعل أمر وللذين جار ومجرور متعلقان بقل وجملة أوتوا الكتاب صلة والواو نائب فاعل والكتاب مفعول به ثان (وَالْأُمِّيِّينَ) عطف على الذين أوتوا الكتاب وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم، والمراد بهم مشركو العرب، وإن كانوا يكتبون ويقرؤون، لأنه لم ينزل عليهم كتاب بعد (أَأَسْلَمْتُمْ) الجملة الاستفهامية في محل نصب مقول القول ومعنى الاستفهام التنديد والتعبير كما سيأتي في البلاغة (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) الفاء استئنافية وإن شرطية وأسلموا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة للجواب وقد حرف تحقيق واهتدوا فعل ماض مبني على الضم المقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والواو فاعل والجملة المقترنة في محل جزم جواب الشرط (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) الجملة معطوفة على الجملة الأولى وإنما كافة ومكفوفة وعليك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم والبلاغ مبتدأ مؤخر والجملة في محل جزم جواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 الشرط (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) الواو استئنافية والله مبتدأ بصير خبر وبالعباد متعلقان ببصير. البلاغة: 1- المجاز المرسل في قوله: أسلمت وجهي تعبيرا عن الكل بأشرف أعضائه وهو الوجه، والعلاقة هنا الكلية. 2- الاستفهام في قوله: «أأسلمتم» معناه التنديد والتعبير، كأنما قد أفرغ جهده في مناصحتهم، ولم يترك وسيلة إلا تشبث بها لإفهامهم، ولكنهم لم يفهموا. وفي هذا الضرب من الاستفهام استركاك لعقولهم وامتهان لأفهامهم، فكأنما أصبحت الحجج عندهم كلا حجج. وأصبحت البراهين أضيع ما يكون لديهم، فلم يبق أمامه سوى أن يسألهم منددا: أأسلمتم بعد هذا كله؟ أم لا يجدي الضرب على الحديد البارد؟ [سورة آل عمران (3) : الآيات 21 الى 22] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) اللغة: (حَبِطَتْ) : ذهبت سدى وفسدت، وهو من مجاز اللغة. والأصل في الحبوط أو الحبط بالسكون أن تأكل الماشية خضرة فتستوبلها وتهلك. ومنه حبط دم القتيل بكسر الباء أي هدر وبطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق للحديث عن اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قتل آباؤهم الأنبياء من قبل، وهم اليوم يحاولون التشبه بآبائهم الأولين، ويرضون بفعلهم، فيتحينون الفرص لقتل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن الله أحبط أعمالهم. وإن واسمها، وجملة يكفرون صلة الموصول والجار والمجرور متعلقان بيكفرون (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) الواو عاطفة ويقتلون فعل مضارع معطوف على يكفرون والنبيين مفعول به منصوب بالياء وبغير حق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي ظالمين، وإنما قيد القتل. وقتل النبيين لا يكون إلا كذلك، زيادة في التشنيع عليهم (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) عطف على ما تقدم ومن الناس جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي كائنين منهم (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) الفاء واقعة في جواب الموصول لما فيه من رائحة الشرط، ودخول إن على الموصول لا يؤثر في خبريته فالجملة خبر إن لأن المعنى لم يتغير بل ازداد تأكيدا وذلك شائع في القرآن وفي الشعر العربي، قال: فو الله ما فارقتكم قاليا لكم ... ولكن ما يقضى فسوف يكون ولكن إذا دخلت ليت أو لعل على «الذي» امتنع دخول الفاء لنسخ الخبرية، وتحول الكلام إلى إنشاء لا يحتمل الصدق والكذب كما هو مقرر في علم المعاني، وسيأتي في باب الفوائد بحث هام في أسرار الحروف. وبشرهم فعل أمر والهاء مفعول به والفاعل أنت وبعذاب متعلقان ببشرهم وأليم صفة والجملة المقترنة بالفاء في محل رفع خبر إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الجملة مفسرة للذين يقتلون لا محل لها وأولئك مبتدأ والذين خبر وجملة حبطت أعمالهم صلة الموصول والجار والمجرور متعلقان بحبطت (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) الواو عاطفة وما نافية ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومن حرف جر زائد لفظا وناصرين مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه مبتدأ مؤخر. الفوائد: جرى النحاة والمعربون على القول بزيادة بعض الحروف، ولا يعنون بزيادتها أنها جاءت لغوا أو عبثا وإنما هي عندهم زائدة للتأكيد ولكننا نريد أن نميط اللثام عن شيء غفل عنه هؤلاء جميعا، ورددوه وهم لا يكتنهون فحواه حتى صار من المقولات البديهية، وقد مر بك حتى الآن وسيمر معك الكثير من الأحرف التي قالوا بزيادتها، ومع ذلك قصروا عملها على الشكل دون المعنى، فقوله: «وما لهم من ناصرين» لا غنى عن إيراد «من» الزائدة لفظا فالخبر بطبيعته وفي أصل وضعه اللغوي يحتمل الصدق والكذب، و «من» هي التي نقلته من أصل وضعه الأول إلى دلالة النفي الباتّ والإنكار الحاسم، وسيطالع القارئ في كتابنا ما يذهله من أسرار هذه الحروف التي يمر النحاة بها مرورا سريعا، فهم يقولون بزيادتها ويتركون الطالب في مهامة الحيرة، لأن كتاب الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. [سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 24] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 الإعراب: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) كلام مستأنف مسوق للتعجب من حالهم وسوء صنيعهم والهمزة للاستفهام التعجبيّ ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاعل أنت وإلى الذين متعلقان ب «تر» والرؤية هنا بصرية، وجملة أوتوا صلة الموصول والواو نائب فاعل ونصيبا مفعول به ثان ومن الكتاب متعلقان بمحذوف صفة لنصيبا (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) جملة يدعون حاليّة ويدعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وإلى كتاب الله جار ومجرور متعلقان بيدعون وليحكم اللام للتعليل ويحكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بيدعون وبينهم ظرف مكان متعلق بيحكم (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ويتولى فعل مضارع مرفوع والفريق فاعل والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) الواو حالية وهم مبتدأ ومعرضون خبر والجملة في محل نصب على الحال (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا) ذلك مبتدأ والجملة استئنافية والإشارة إلى التولي عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وبأنهم الباء حرف جر وإن مع مدخولها في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر أي ذلك التولّي بسبب قولهم وجملة قالوا خبر إن (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 الجملة في محل نصب مقول قولهم ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتمسنا فعل مضارع منصوب بلن ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به والنار فاعل تمسنا وإلا أداة حصر وأياما ظرف متعلق بتمسنا ومعدودات صفة وعلامة نصبه الكسرة لأنه جمع مؤنث سالم (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) الواو عاطفة وغرهم فعل ومفعول به وفي دينهم متعلقان بغرهم وما اسم موصول في محل رفع فاعل وجملة كانوا يفترون صلة الموصول وكان واسمها وجملة يفترون خبرها. [سورة آل عمران (3) : الآيات 25 الى 27] فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) اللغة: (تُولِجُ) تدخل، من أولج الشيء أدخله. وولج يلج من باب وعد ولوجا، ولجة: دخل. الإعراب: (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ) هذا التركيب من المشكلات ويتلخّص من الأوجه التي أوردها المعربون، وجهان جديران بالاعتبار: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 1- كيف اسم استفهام في محل رفع خبر مقدم والمبتدأ محذوف تقديره حالهم، وتكون جملة قائمة بذاتها، وكيف عندئذ لا يستغنى عنها، كما مر في قاعدة كيف. 2- كيف اسم استفهام في محل نصب حال من فعل محذوف هو جراب إذا، أي استقرت. وإذا على الوجه الأول متعلقة بالاستقرار الذي تعلقت به «كيف» و «إذا» غير متضمنة معنى الشرط، بل هي للظرفية المحضة، وعلى الوجه الثاني هي ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلقة بالجواب المحذوف وهو استقرت. وعلى هذا الوجه يتخرج البيت المشهور: أشوقا ولمّا يمض لي غير ليلة ... فكيف إذا جد المطي بنا عشرا وقد رجح ابن هشام وأبو البقاء الحالية. ونحن نرى الوجه الأول أبعد عن التكلف، لأننا لا نرى أثرا للشرطية في «إذا» بهذا التركيب العجيب، فتأمل. وجملة جمعناهم في جر بالإضافة والفاء الداخلة على كيف استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لإبطال ما غرهم ولتهويل ما سيحيق بهم من الأهوال (لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) الجار والمجرور متعلقان بجمعناهم ولا نافية للجنس وريب اسمها مبني على الفتح في محل نصب وفيه متعلقان بمحذوف خبرها وجملة لا ريب فيه في محل جر صفة ليوم (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) الواو عاطفة ووفيت فعل ماض مبني للمجهول وكل نفس نائب فاعل وما اسم موصول مفعول به وجملة كسبت صلة الموصول (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الواو حالية وهم مبتدأ ولا نافية ويظلمون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وجملة لا يظلمون في محل رفع خبرهم والجملة الاسمية المقترنة بالواو في محل نصب على الحال (قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) كلام مستأنف مسوق للرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 على المنافقين الذين لم يصدقوا قوله: إن أمتي ظاهرة. وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت واللهم: منادى مفرد علم والميم المشددة عوض عن «يا» لا محل لها ومالك الملك منادى ثان حذف منه حرف النداء أي يا مالك الملك، وإنما لم يجعل نعتا لأن الميم المشددة تمنع التبعية كما قرر سيبويه إذ قال: «إن الميم أخرجت هذه اللفظة عن نظائرها من الأسماء» . قال ابن يعيش: «واعلم أن سيبويه لا يرى نعت «اللهم» لأنه لفظ لا يقع إلا في النداء، فهو لا ينعت» . وخالفه أبو العباس المبرد واستدل بقوله تعالى: «اللهم فاطر السموات والأرض» . سيبويه يحمل فاطر السموات على أنه نداء ثان لا نعت، وقال المبرد: إن الميم بدل من «يا» والمنادى مع «يا» لا يمتنع وصفه، فكذا مع ما هو عوض عنها (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) لك أن تجعل هذه الجملة حالية من المنادى لأنه بمثابة المفعول به وتؤتي فعل مضارع فاعله مستتر تقديره أنت والملك مفعول به أول ومن اسم موصول مفعول به ثان وجملة تشاء صلة الموصول (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) عطف على ما تقدم (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) عطف أيضا (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم والخير مبتدأ مؤخر والجملة حالية أيضا (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) جملة مستأنفة بمثابة التعليل لما تقدم (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) الجملة حالية أيضا (وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) عطف على الجملة الآنفة (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) عطف أيضا (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) عطف أيضا ومن اسم موصول في محل نصب مفعول به وجملة تشاء صلة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل ترزق. البلاغة: 1- الاستعارة التصريحية إذ أراد بالحي والميت المسلم والكافر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 فقد حذف المشبه وأبقى المشبه به. وإذا أراد النطفة والبيضة كان الكلام جاريا على جانب الحقيقة، لا على جانب المجاز. 2- الاكتفاء في قوله: «بيدك الخير» فاقتصر على الخير من باب الاكتفاء بالمقابل أي والشر، كقوله تعالى: «سرابيل تقيكم الحر» أي والبرد، ولأن الخير هو المرغوب فيه. 3- المقابلة فقد طابق بين «تؤتي وتنزع» وبين «تغر وتذل» وبين «الليل والنهار» وبين «الحي والميت» . 4- وخرج بالاستفهام عن معناه الحقيقي بقوله: «فكيف» إلى معنى التهويل واستفظاع ما أعد الله لهم في يوم عصيب تحار فيه الأبصار والبصائر، وتشخص فيه القلوب والضمائر. الفوائد: (اللَّهُمَّ) قد تخرج عند النداء المحض فيكون لها معنيان: آ- أن يذكرها المجيب تمكينا للجواب في نفس السامع، فإذا حدثك أحد بشيء قلت: اللهم نعم. ب- أن تستعمل للدلالة على الندرة وقلة وقوع المذكور معها، كقولك لمن كان متكاسلا: إنك ناجح اللهم، إن بذلت مجهودا أكبر، وقد علمت أنه غير باذل أي مجهود، أو إن ذلك مستبعد منه، وعلى هذا يخطىء كتابنا في استعمالها قبل إلا. [سورة آل عمران (3) : آية 28] لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 اللغة: (تُقاةً) أصلها وقية بضم الواو، فأبدلت الواو تاء والياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فهي مصدر تقية كرمية. الإعراب: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) كلام مستأنف مسوق للنهي عن موالاتهم، كما نشاهد اليوم. ولا ناهية يتخذ فعل مضارع مجزوم بلا، المؤمنون فاعل والكافرين مفعول به أول وأولياء مفعول به ثان ومن دون المؤمنين متعلقان بمحذوف حال من الفاعل، أي: حال كون المؤمنين متجاوزين موالاة المؤمنين، أو من المفعول أي حال كون الكافرين ناصرين من دون المؤمنين (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) الواو اعتراضية والجملة كلها اعتراضية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويفعل فعل الشرط مجزوم وذلك اسم اشارة في محل نصب مفعول به الفاء رابطة لجواب الشرط وليس فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر يعود على «من» . ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة الشيء فلما تقدم أعرب حالا، وفي شيء: متعلقان بمحذوف خبر ليس (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) إلا أداة حصر وأن وما في حيزها مصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور في موضع نصب مفعول لأجله، والمعنى لا يتخذ المؤمن الكافر وليا لأمر من الأمور إلا للتقية، ومنهم متعلقان بتتقوا، وتقاة منصوب على المفعولية المطلقة والمعنى تتقوا اتقاء، والمصادر يتناوب بعضها بعضا، ويجوز أن يكون مفعولا به على تضمين «تتقوا» معنى الخوف أي إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) الواو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 استئنافية ويحذركم فعل مضارع والكاف مفعول به والله فاعل ونفسه مفعول به ثان ليحذركم لأنه في الأصل يتعدى لواحد فازداد بالتضعيف آخر (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) الواو استئنافية والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم والمصير مبتدأ مؤخر. البلاغة: أ- في هذه الآية التفات بديع من الغيبة إلى الخطاب، ولو جرى على سنن الكلام لقال: إلا أن يتقوا. ولكنه عدل عن الغيبة والخطاب لسر كأنه أخذة السحر. فإن موالاة الكفار والأعداء وكل من يتآمر على سلامة الأوطان أمر مستسمج مستقبح. ينكره الطبع ولا يليق أن يواجه به الأصفياء والأولياء، فجاء به غائبا كأنه يرسم لهم خطا بيانيا. على أن هذا إنما يكون فيما لا ضرر فيه، ولكن التآمر على الكيان، وسلامة أرواح المؤمنين، ولكن التقية لا تجوز مع الأعداء الذين لا هم لهم سوى اغتصاب الأرض وامتصاص الطاقات فهؤلاء لا تسوغ معهم مهادنة، ولا يجوز بحال عقد أي عهد معهم، لأنهم لا يعتمون أن ينقضوه. وقد يستغلونه للانقضاض على من اطمأنوا إليهم وركنوا إلى عهودهم، على حد قولي: أيّ شأن العهود قطعت ... ثم أضحت ترهات بعد حين لا تغرنك قصاصات غدت ... شركا ينصب للمستضعفين حذار من العدو- لمحة تاريخية: وهنا يجدر بنا أن نأتي على ما يرويه التاريخ بصدد نزول هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 الآية، فقد روي أن جماعة من المسلمين كانوا يوادّون اليهود، فأنزل الله هذه الآية، ناهيا عن الاسترسال في ذلك. وقيل: إنّ عبادة بن الصامت كان له حلفاء من اليهود، فقال يوم الأحزاب: يا رسول الله إن معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو. فنزلت هذه الآية، إذ لا تتفق موالاة الوليّ وموالاة العدو في وقت واحد قال: تود عدوي ثم تزعم أنني ... صديقك ليس النّوك عنك بعازب 2- المشاكلة في قوله تعالى: «ويحذركم الله نفسه» . وإطلاق ذلك عليه سبحانه وتعالى جائز في المشاكلة كقوله أيضا: «تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك» . وقيل: الكلام مجاز مرسل معناه: ويحذركم الله عقابه، مثل «واسأل القرية» مجاز مرسل، فجعلت النفس في موضع الإضمار، وفي ذلك تهديد شديد وتخويف عظيم لعباده أن يتعرضوا لعقابه بموالاة أعدائه. [سورة آل عمران (3) : آية 29] قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) الإعراب: (قُلْ: إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ) كلام مستأنف مسوق ليكون بيانا لقوله: «ويحذركم الله نفسه» وقل فعل أمر فاعله ضمير مستتر تقديره أنت وإن شرطية وتخفوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل وما اسم موصول في محل نصب مفعول به وفي صدوركم: جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة ما، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 وأو حرف عطف وتبدوه معطوف على تخفوا وجملة الشرط وجوابه الآتي في محل نصب مقول القول (يَعْلَمْهُ اللَّهُ) جواب الشرط والهاء مفعول به والله فاعل (وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الواو استئنافية ويعلم فعل مضارع مرفوع وفاعله هو يعود على الله، وإنما جيء به مستأنفا لا معطوفا لأن علم الله تعالى غير متوقف على شرط، فهو من باب ذكر العام بعد الخاص. والأحسن أن يقدر مبتدأ محذوف فتكون جملة «يعلم» خبره والتقدير: وهو يعلم، والجملة بعد الواو مستأنفة لا محل لها، وما مفعول به وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة ما، وما في الأرض عطف على «ما في السموات» (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بمحذوف بقدير وقدير خبر الله. [سورة آل عمران (3) : آية 30] يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) اللغة: (الأمد) : الغاية والمنتهى، والفرق بينه وبين الأبد أن الأمد مدة من الزمن محدودة، وإن يكن الحدّ مجهولا، أما الأبد فهو مدة من الزمن غير محدودة. الإعراب: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) يوم ظرف متعلق تقديره: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 «اذكر» وجملة تجد في محل جر بالإضافة، «وتجد» يجوز أن تكون بمعنى تصادف وتصيب فتتعدى لواحد ويجوز أن تكون بمعنى تعلم فتتعدى لاثنين، وكل نفس فاعل تجد وما اسم موصول مفعول به وجملة عملت صلة والعائد محذوف أي عملته ومن خير متعلقان بمحذوف حال ومحضرا حال على الأول ومفعول به ثان على الثاني، والجملة كلها مستأنفة لا محل لها (وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) الواو استئنافية وما اسم موصول مبتدأ وجملة عملت صلة ومن سوء متعلقان بمحذوف حال (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) جملة تود خبر ما ولو الواقعة بعد تود مصدرية، ولكن يشكل هنا دخول الحرف على مثله، فالأولى أن تبقى شرطية وأن حرف مشبه بالفعل مصدري وبينها ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم لأنّ وبينه عطف على الظرف. ويكون جواب «لو» محذوفا تقديره: لفرحت واطمأنت، وأن وما بعدها في محل رفع مبتدأ والخبر محذوف تقديره ثابت، أو فاعل لفعل محذوف تقديره ثبت. ويلاحظ عندئذ أن المحذوفات كثرت، فقد حذف مفعول تود وجواب لو وخبر أن أو فعل الفاعل، ولذلك كان اعتبارها مصدرية أسهل لولا المانع الفني وهو دخول الحرف المصدري على حرف مصدري مماثل (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) تقدم إعرابها قريبا وكررها ليكون الخوف من الله نصب أعينهم (وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) الواو استئنافية والله مبتدأ ورؤوف خبره وبالعباد جار ومجرور متعلقان برؤوف. [سورة آل عمران (3) : الآيات 31 الى 32] قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 الإعراب: (قُلْ: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي) كلام مستأنف مسوق لبيان معنى محبة الله، وقل فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت وإن شرطية وكان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وجملة تحبون الله خبرها والفاء رابطة لجواب الشرط واتبعوني فعل أمر والواو فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به والجملة في محل جزم جواب الشرط وجملة إن كنتم مقول القول (يُحْبِبْكُمُ) جواب الطلب مجزوم والكاف مفعول به (اللَّهَ) فاعل (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) عطف على يحببكم (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وغفور رحيم خبران للمبتدأ (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) كلام مستأنف أيضا وجملة أطيعوا في محل نصب مقول القول (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) الفاء استئنافية وإن شرطية وتولوا فعل مضارع حذفت منه إحدى التاءين وهو فعل الشرط والجملة لا محل لها. ويجوز أن يكون فعلا ماضيا مسندا لضمير الغيبة، فيكون من باب الالتفات من المخاطب إلى الغائب والجملة في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة لجواب الشرط وإن واسمها، وجملة لا يحب الكافرين خبرها وجملة فإن الله في محل جزم جواب الشرط. البلاغة: المجاز المرسل في حب العباد لله تعالى وحبه لهم والعلاقة ما يكون. فأما حبهم له فالمراد ما تئول إليه المحبة من اختصاصه بالعبادة دون غيره، وأما حبه لهم فالمراد منه ما يئول إليه من الرضا عنهم والغفران لذنوبهم. وهذه لمحة لا مندوحة عن إيرادها عن الحب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 الحب عند الفلاسفة: أما الفلاسفة فيقررون كما يتحدث عنهم سويد نبرغ السويدي أن الحب هو حياة الإنسان، وأن الله وحده هو عين الحب، لأنه هو عين الحياة، فالمحبة لغة- ميل المتصف بها إلى أمر ملذّ واللذات الباعثة على المحبة منقسمة إلى مدرك بالحس كلذة الذوق في الطّعوم ولذة النظر واللمس في الصور المستحسنة ولذة الشم في الروائح العطرية ولذة السمع في النغمات الحسنة وإلى لذة تدرك بالعقل كلذة الجاه والرياسة والعلوم وما يجري مجراها. وإذا تفاوتت البواعث، فليس معلوم أكمل ولا أجمل من المعبود الحق، وإذا حصلت هذه المحبة بعثت على الطاعات والموافقات. الحب عند المتصوفة: أما المتصوفة فهم يقولون: إن الحب هو سكر المشاهدة وشجاعة الباذل وإيمان الولي والأصل الأصيل للتحقق الخلقي والإدراك الروحي. قال الثوري لرابعة العدوية: ما حقيقة إيمانك؟ قالت: ما عبدته خوفا من ناره ولا حبا لجنته فأكون كالأجير السوء، بل عبدته حبا له وشوقا إليه. وأنشدت: أحبك حبين: حب الهوى ... وحبا لأنك أهل لذاكا فأما الذي هو حب الهوى ... فشغلي بذكرك عما سواكا وأما الذي أنت أهل له ... فكشفك لي الحجب حتى أراكا والكلام يطول فحسبنا ما تقدم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 34] إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 اللغة: (نوح) علم أعجمي لا اشتقاق له، وقيل: إنه مشتق من النوح وهو منصرف على كل حال، لأنه علم أعجمي ثلاثي ساكن الوسط (عمران) علم أعجمي أيضا ممنوع من الصرف وإن قيل إنه عبري مشتق من العمر فهو ممنوع للعلمية وزيادة الألف والنون. الإعراب: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) إن واسمها، وجملة اصطفى آدم ونوحا خبر (وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ) عطف على آدم (عَلَى الْعالَمِينَ) الجار والمجرور متعلقان باصطفى والجملة استئنافية (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) ذرية: بدل من آدم ومن عطف عليه، أو من الآلين أي أن الآلين ذرية واحدة، ويجوز نصبها على الحال والعامل فيه «اصطفى» . وبعضها مبتدأ ومن بعض جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر والجملة صفة لذرية (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وسميع عليم خبران له. البلاغة: 1- في الآية فن التوشيح، وهو كما يقول قدامة في نقد الشعر: أن يكون في أول الكلام معنى إذا علم علمت منه القافية، إن كان شعرا أو السجع إن كان نثرا. فإن معنى اصطفاء المذكورين في الآية يعلم منه الفاصلة، لأن المذكورين صنف مندرج في العالمين. وفي هذه الآية أيضا فن براعة التخلص، فإنه سبحانه وتعالى وطّأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 بهذه الآية إلى سياق خبر ميلاد المسيح عليه السلام، فقد خلص إلى ذكر امرأة عمران ليسوق قصة حملها بمريم وكفالة زكريا لها، وذكر ولده يحيى، وقصة حمل مريم بالمسيح، وما تخلل ذلك من آيات باهرات، وعبر بالغات. [سورة آل عمران (3) : الآيات 35 الى 36] إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) اللغة: (مُحَرَّراً) معتقا خالصا لخدمة بيت المقدس. روي أن حنة- وهو اسمها- كانت عاقرا لم تلد إلى أن عجزت، فبينما هي في ظل شجرة وريف بصرت بطائر يطعم فرخا له فتحركت نفسها للولد وتمنته، فقالت: اللهم إن لك علي نذرا إن رزقتني ولدا لأتصدقن به على بيت المقدس فيكون من سدنته. فحملت بمريم وهلك عمران وهي حامل بمريم. الإعراب: (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق باذكر محذوفا وتكون الجملة مستأنفا مسوقة لتقرير اصطفاء آل عمران، وجملة قالت امرأة عمران في محل جر بإضافة الظرف إليها وعلقه بعضهم بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 سميع عليم وليس ثمة ما يمنع ذلك (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) رب منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة بدليل الكسرة عليها، وإن واسمها، وجملة نذرت خبرها وجملة إني نذرت مقول القول ولك متعلقان بنذرت وما اسم موصول مفعول به وفي بطني متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة ما ومحررا حال من «ما» (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) الفاء استئنافية وتقبل فعل أمر وفاعله أنت ومني متعلقان بتقبل (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) إن واسمها، وأنت مبتدأ أو ضمير فصل لا محل له والسميع العليم خبر ان لأنت والجملة الاسمية خبر لإن، أو خبران لان وجملة إن وما في حيزها تعليلية لا محل لها (فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) الفاء استئنافية ولما ظرفية حينيه أو حرف للربط ووضعتها فعل وفاعل مستتر ومفعول به وجملة قالت لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ورب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وإن واسمها، وجملة وضعتها خبر إن وأنثى حال مؤكدة أو مبنية وسيأتي الفرق بينهما وجملة النداء مقول القول (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) الواو اعتراضية والله مبتدأ وأعلم خبر وبما جار ومجرور متعلقان بأعلم وجملة وضعت لا محل لها لأنها صلة ما (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) الواو عاطفة وليس فعل ماض ناقص والذكر اسمها والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر، أو الكاف اسمية وهي الخبر والأنثى مضاف إليه (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) الواو عاطفة والجملة معطوفة على جملة «اني وضعتها» ، وإن واسمها، وجملة سميتها خبرها، والهاء مفعول سميت الأول ومريم مفعوله الثاني (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) الواو عاطفة أيضا والجملة معطوفة على جملة «إني سميتها» وإن واسمها، وجملة أعيذها خبر إن والهاء مفعول به وبك متعلقان بأعيذها وذريتها عطف على الهاء أو مفعول معه ومن الشيطان متعلقان بأعيذها والرجيم صفة للشيطان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 البلاغة: 1- فائدة الخبر في قوله: «إني وضعتها» للتحسر، وليس مرادها الإخبار بمفهومه، لأن الله عالم بما وضعت بل المراد إظهار الحسرة لما فاتها من تحقيق وعدها والوفاء بما التزمت به والاعتذار حيث أتت بمولود لا يصلح للقيام بما نذرته. 2- تكررت إن أربع مرات، وفي الثلاث الأولى كان خبرها فعلا ماضيا، وفي المرة الرابعة عدلت عن الماضي إلى المضارع، فقالت: أعيذها، لنكتة بلاغية، وهي ديمومة الاستعاذة وتجددها دون انقطاع بخلاف الأخبار السابقة فإنها انقطعت. 3- المراد بالخبر في قوله تعالى حكاية عن نفسه: «والله أعلم بما وضعت» لازم الفائدة، والقصد منه إفادتها دون التصريح بما سيكون من شأن المولود الذي لم تأبه له بادىء الأمر، وهي جاهلة مآل أمر هذه المولودة التي ستلد رسول الرأفة والسلام. 4- المراد بالخبر في قوله: «وليس الذكر كالأنثى» نفي الاعتقاد السائد بين الناس بوجود تفاوت بين الأولاد، وإن هذا التفاوت الذي يبدو للوهلة الأولى، إنما هو أمر ظاهري لا يثبت عند الابتلاء والتجربة، فإن الغيب أعمق غورا من أن يسبروه، وأبعد منالا من أن يدركوه، وكم من النساء من فاقت الرجال وأربت عليهم في الدرجات وقد تعلق أبو الطيب المتنبي بأذيال هذا المعنى البديع بقوله: ولو كان النساء كمن فقدنا ... لفضلت النساء على الرجال وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال 5- الإطناب في قوله تعالى: «وإني سميتها مريم» والغرض من التصريح بالتسمية التقرب إلى الله والازدلاف إليه بخدمة بيت المقدس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 أولا، ورجاء عصمتها ثانيا، فإن مريم في لغتهم العابدة، وإظهارا لعزمها على الوفاء بوعدها ثالثا أي: إنها وإن لم تكن خليقة بالسدانة فأرجو أن تكون من العابدات المطيعات. وقد أهمل صاحب المنجد الإشارة إلى ذلك في كتابة «المنجد» . الفوائد: تنقسم الحال إلى مبينة أو مؤسسة، وهي التي لا يستفاد معناها من دون ذكرها، كجاء علي راكبا إذ لا يستفاد معنى الركوب إلا بذكر راكبا. ومؤكدة وهي التي يستفاد معناها من دون ذكرها، وهي إما مؤكدة لعاملها لفظا ومعنى نحو «وأرسلناك للناس رسولا» و «فتبسم ضاحكا» وإما مؤكدة لصاحبها نحو «لآمن من في الأرض كلهم جميعا» فجميعا حال من فاعل آمن، وهو «من» الموصولة، مؤكدة لها، وإما مؤكدة لمضمون جملة قبلها معقودة من اسمين معرفتين جامدين نحو: «هو الحق بينا» ، وقول الشاعر: أنا ابن دارة معروفا بها نسبي ... وهل بدارة يا للناس من عار فإن جعلت «أنثى» حالا من الضمير كانت مؤكدة، وإن جعلتها حالا من «النسمة والنفس» المفهومة من سياق الكلام كانت مبينة. [سورة آل عمران (3) : آية 37] فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 اللغة: (كَفَّلَها) بتشديد الفاء أي ضمنه إياها وضمها إليه وجعلها كافلا لها وضامنا لمصالحها. ويؤيد هذا المعنى قراءة «وأكفلها» بوصفه زوج خالتها وذلك عن طريق الاقتراع. (الْمِحْرابَ) والمحرب آلة الحرب، وهذا هو القياس الصّرفي. ولكن المحراب له معان مستقلة ليست داخلة في القياس الاشتقاقي، فمن معانيه صدر البيت وأكرم مواضعه، وصدر المجلس، ومأوى الأسد، ومحراب المسجد. ويرى علماء اللغة أن محراب المسجد سمي بذلك لأن المتعبد فيه يحارب الشيطان، ولذلك يقال: لكل محل من محال العبادة محراب، والباحث يحار ويدهش في أمر هذه اللغة الشريفة كيف تطورت؟ ما هي تفاعلات الزمن التي أسهمت في هذا التطور؟ إن المتتبع لموادها اللغوية يعجب كيف تهيأ لها هذا التطور الحركي الذي يحتاج إلى ما لا يحصى من الزمن، فالحاء والراء حرفان يدلان في الأصل على الحر والحرق، ولو تتبعنا جميع الجذور الأخرى لرأينا أنّ كل كلمة تبتدئ بهما تدل على معنى يكاد يكون منتزعا من هذا المعنى، أو متفرعا عنه. فلنستعرض الآن مادة الحرب، إنها احتراق بكل معنى لاهب، والحرب بفتحتين الهلاك، وهو مقتفيات الحرق ومستلزماته، قال أبو تمام: لما رأى الحرب رأي العين توفلس ... والحرب مشتقة المعنى من الحرب وحرث الأرض: شقها بالسكة، وهذا يمت إلى المعنى الأصلي، بأوثق الأسباب، والحرج الضيق، وحرد الرجل بكسر الراء: غضب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 فهو حارد وحردان، وهي عاميه فصيحة. وهكذا إلى آخر المادة حيث تنتهي إلى هذا التقرير العجيب. الإعراب: (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) الفاء عاطفة وتقبل فعل ماض والهاء مفعول به وربها فاعل والجار والمجرور متعلقان بتقبلها وحسن صفة (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) الواو عاطفة وأنبتها فعل وفاعل مستتر ومفعول به ونباتا مفعول مطلق وحسنا صفة (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) الواو عاطفة وكفل فعل ماض والهاء مفعول به أول وزكريا مفعول به ثان، أي جعل زكريا كافلا لها وضامنا لمصالحها وفي قراءة تخفيف الفاء يكون زكريا هو الفاعل. وقد نسجت أساطير حول هذه الكفالة، يرجع فيها إلى المطولات (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) كلما ظرف زمان تقدم إعرابه مرارا وهو متعلق بوجد لأنه جواب الشرط. وجملة دخل عليها في محل جر بإضافة الظرف إليها والمحراب مفعول به على السعة أو منصوب بنزع الخافض (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعندها ظرف متعلق بوجد ورزقا مفعول به وجملة الشرط استئنافية (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) الجملة مستأنفة، وهذا أصلح ما قيل فيها رغم الاختلاف الشديد الذي لا طائل تحته. وقال فعل ماض والفاعل هو ويا حرف نداء ومريم منادى مفرد علم مبني على الضم وأنى اسم استفهام بمعنى كيف، كأنه سؤال عن الكيفية، أي: كيف تهيأ لك وصول هذا الرزق إليك؟ قال الكميت: أنى ومن أين آبك الطرب ... من حيث لا صبوة ولا طرب وقيل معناه هنا:: من أين. وعلى الحالين هو منصوب على الظرفية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 متعلق بمحذوف خبر مقدم، ولك جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وهذا مبتدأ مؤخر (قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الجملة مستأنفة وهو مبتدأ ومن عند الله متعلقان بمحذوف خبر (إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) إن واسمها، وجملة يرزق خبر ومن اسم موصول مفعول به وجملة يشاء لا محل لها لأنها صلة الموصول وبغير حساب جار ومجرور متعلقان بيرزق وجملة إن الله مقول القول أيضا إذا كان من كلامها أو مستأنفة. البلاغة: في هذه الآية فنون نشير إليها بما يلي: 1- الجناس المغاير في قوله «فتقبلها ربها بقبول حسن» وفي قوله «فأنبتها نباتا حسنا» وفي قوله «رزقا» و «يرزق» . 2- الإشارة، وهو التعبير باللفظ الظاهر عن المعنى الخفي في قوله «هو من عند الله» أي هو رزق لا يأتي به في ذلك الوقت إلا الله. 3- التنكير في قوله: «رزقا» لإفادة الشيوع والكثرة، وأنه ليس من جنس واحد بل من أجناس كثيرة. [سورة آل عمران (3) : الآيات 38 الى 41] هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 (العاقر) من لا يولد له، رجلا كان أو امرأة. مشتق من العقر وهو القطع، لقطعة النسل. (الحصور) بفتح الحاء فعول محول عن فاعل للمبالغة، وهو الذي لا يأتي النساء، وهو قادر على ذلك والممنوع منهن أو من لا يشتهيهنّ ولا يقربهن. ثم استعمل لكل من لا يشارك في لعب ولهو ومجانة، قال الأخطل: وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحصور ولا فيها بسآر (العشي) من حين تزول الشمس إلى أن تغيب، وهو اسم مفرد لا جمع كما توهم الجلال وأبو حيان. (الإبكار) بكسر الهمزة مصدر لأبكر بمعنى بكر ثم استعمل اسما، وهو طلوع الشمس إلى وقت الضحى. الإعراب: (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) هنالك اسم إشارة للمكان في محل نصب على الظرفية المكانية وقد يتجوز به للزمان واللام للبعد والكاف للخطاب والظرف متعلق بدعا وزكريا فاعل دعا وربه مفعوله، والجملة مستأنفة مسوقة للإشارة إلى تحول زكريا عن اعتقاده بشأن الولادة والعقم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 أي: لما رأى زكريا ذلك وعلم أن القادر على الإتيان بالشيء في غير أوانه قادر على الإتيان بالولد في حال الكبر (قالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) جملة مستأنفة مسوقة لتحقيق ما خطر له من سوانح بعد التحول الفكري الطارئ عليه، وقال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على زكريا ورب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وهب فعل أمر ولي متعلقان بهب ومن لدنك جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وذرية مفعول به وطيبة صفة، وأنثت الصفة لتأنيث الموصوف لأنه لم يقصد به معين، أما إذا قصد به ذلك امتنع اعتبار اللفظ، نحو طلحة وحمزة وجملة النداء في محل نصب مقول القول (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) إن واسمها وخبرها والجملة تعليلية لا محل لها (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) الفاء عاطفة ونادته الملائكة فعل ومفعول به وفاعل (وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) الواو حالية وهو مبتدأ وقائم خبره والجملة نصب على الحال من مفعول النداء وجملة يصلي في المحراب لك أن تجعلها خبرا ثانيا لهو أو تنصبها على الحال من القيام وفي المحراب متعلقان بيصلي (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) أن وما في خبرها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بنادته وقرىء بكسر همزة «إن» بتقدير قول محذوف، فالجملة مقول القول وجملة القول حال، أي: حال كون الملائكة قائلين. وجملة يبشرك خبرها والجار والمجرور متعلقان بيبشرك ويحيى ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة إن كان أعجميا، وإن كان عربيا فللعلمية ووزن الفعل (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) مصدقا حال وبكلمة متعلقان بمصدقا والمراد بالكلمة عيسى بن مريم وإنما سمي كلمة لأن الله تعالى قال له: كن فكان من غير أب. وهناك أقوال أخرى يرجع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 فيها إلى المطولات (وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) الكلمات الثلاث عطف على «مصدقا» ومن الصالحين صفة لنبيا (قالَ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) قال فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو يعود على زكريا ورب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وأنّى اسم استفهام في محل نصب على الظرفية والظرف متعلق بمحذوف خبر يكون إذا اعتبرت ناقصة أو حال إذا اعتبرت تامة، ولي متعلقان بمحذوف حال وغلام اسم يكون أو فاعلها وجملة قال استئنافية وجملة النداء مقول القول (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) الواو حالية وقد حرف تحقيق وبلغني فعل ماض والنون للوقاية والياء مفعول به والكبر فاعل والجملة في محل نصب حال (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) الواو حالية أيضا وامرأتي مبتدأ وعاقر خبر والجملة حالية من الياء في «لي» فتكون حالا متعددة، ولك أن تجعلها حالا من الياء في «بلغني» (قالَ: كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) اضطرب كلام المعربين والمفسرين في هذه الآية، وأقرب ما تراءى لنا وجهان متساويا الرجحان، أولهما أن الجملة كلها مستأنفة، والقائل هو الله تعالى، و «كذلك» جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب مفعول مطلق، أي يفعل الله ما يشاء من الأفعال العجيبة مثل ذلك الفعل، وهو خلق الولد من الشيخ الفاني والعجوز العاقر، أو على أنهما في موضع الحال من ضمير المصدر المحذوف من «يفعل» وذلك على مذهب سيبويه في هذه المسألة، وقد تقدم بحثها. والله مبتدأ وجملة يفعل خبر وما اسم موصول في محل نصب مفعول به والجملة مقول القول. والوجه الثاني أن يتعلق كذلك بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، أي: الأمر كذلك، وجملة يفعل ما يشاء في محل رفع خبر الله وجملة يشاء لا محل لها لأنها صلة (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) قال: فعل ماض والفاعل زكريا ورب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 منادى تقدم إعرابه، واجعل فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت، ولي متعلقان باجعل وآية مفعول به وجملة النداء وما تلاه مقول القول وجملة القول مستأنفة (قالَ: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) الجملة مستأنفة وآيتك مبتدأ وأن وما في حيزها في تأويل مصدر خبر وتكلم فعل مضارع منصوب بأن والناس مفعول به والجملة مقول القول (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) ثلاثة أيام: ظرف زمان متعلق بتكلم وإلا أداة استثناء منقطع واجب النصب لأن الرمز ليس من جنس الكلام، ولك أن تعتبره من جنس الكلام فتكون «رمزا» استثناء من أعم الأحوال أو من أعم المصادر، أي حالا أو مفعولا مطلقا، وهذه الأوجه متساوية الرجحان في هذا التركيب العجيب (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) الواو استئنافية واذكر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وربك مفعول به وكثيرا مفعول مطلق أو ظرف زمان، أي ذكرا كثيرا أو وقتا كثيرا (وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) الواو عاطفة وسبح عطف على اذكر وبالعشي جار ومجرور متعلقان بسبح والإبكار عطف عليه. البلاغة: في قوله «رمزا» فن الإشارة، وقد تقدم بحثه قريبا، لأنه دل على ما في نفس البشر من خلجات ومعان. وقد تشبث الشعراء بأذيال هذه البلاغة، قال أبو تمام: توحي بأسرارنا حواجبنا ... وأعين بالوصال ترتشق وقال أيضا: كلمته بجفون غير ناطقة ... فكان من ردّه ما قال حاجبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 وقال آخر: إذا كلمتني بالعيون الفواتر ... رددت عليها بالدموع البوارد [سورة آل عمران (3) : الآيات 42 الى 43] وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) اللغة: (اصْطَفاكِ) : اختارك. (اقْنُتِي) : أخلصي العبادة وأديمي الطاعة. الإعراب: (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) الواو عاطفة والجملة معطوفة، فقد عطف قصة البنت على قصة أمها لما بينهما من كمال المناسبة. ولك أن تعطف «إذ» على الظرف السابق وأن تعلقه باذكر محذوفا، وقالت الملائكة: فعل وفاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ) يا حرف نداء ومريم منادى مفرد علم وإن واسمها، وجملة اصطفاك خبر إن والجملة كلها مقول القول (وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) الفعلان معطوفان على اصطفاك وعلى نساء متعلقان باصطفاك والعالمين مضاف إليه (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) يا حرف نداء ومريم منادى مفرد علم واقنتي فعل أمر مبني على حذف النون والياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 فاعل والجار والمجرور متعلقان باقنتي (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) فعلا الأمر منسوقان على اقنتي ومع ظرف مكان متعلق باركعي والراكعين مضاف إليه. البلاغة: 1- في هاتين الآيتين التقديم، فقد قدم السجود وهو متأخر في حكم الصلاة للاهتمام به، ولكونه أدل على التذلل والعبادة. وهذا ديدنهم تقديم الأهم على المهم. 2- وفيهما أيضا التكرير، فقد كرر النداء للإيذان بأن كل واحد منهما مسوق لمعنى، فالأول تذكير بالنعمة، وهو بمثابة تمهيد للثاني الذي هو للتكليف والترغيب في العمل. 3- وفيهما أيضا إطلاق الجزء وادارة الكل، وقدم السجود لأنه أفضل أركان الصلاة كما تقدم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 44 الى 46] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) اللغة: (أَقْلامَهُمْ) الأقلام: جمع قلم وهو فعل بمعنى مفعول، أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 مقلوم. والقلم: القطع ومثله القبض والنقض بمعنى المقبوض والمنقوض. (الْمَسِيحُ) : لقب من الألقاب الشريفة التي تشعر بالرفعة كالصديق والفاروق وهو بالعبرية المشيح ومعناه المبارك وسمي المسيح قيل: لكثرة سياحته، وقيل: لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص لهما، وقيل: لأنه كان إذا مسح أحدا من ذوي العاهات برىء. (عِيسَى) : معرب من ايشوع، وقيل: مشتق من العيس، وهو بياض تعلوه حمرة. الإعراب: (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) ذلك اسم إشارة مبتدأ ومن أنباء الغيب خبره والجملة مستأنفة مسوقة للإخبار بأن ذلك كله من نبأ زكريا ويحيى ومريم وعيسى عليهم السلام (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) فعل مضارع وفاعله نحن والهاء مفعول به والجار والمجرور متعلقان بنوحيه والجملة حالية أو استئنافية أيضا (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) الواو حالية أو استئنافية وما نافية وكان واسمها، ولديهم ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر كنت أي: موجودا لديهم (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) إذ ظرف لما مضى ودخوله على المضارع لحكاية الحال الماضية، وهو متعلق بما تعلق به «لديهم» أي بالاستقرار المحذوف. وقد قال أبو علي الفارسي: العامل في «إذ» هو «كنت» . وقد اعترض عليه بما قرره هو نفسه إذ قال: إن «كان» الناقصة سلبت الدلالة على الحدث وتجردت للزمان فلا يتعلق بها الظرف ولا الجار والمجرور. وجملة يلقون في محل جر بالإضافة وأقلامهم: مفعول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 به (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) الجملة في محل نصب حال بتقدير فعل، أي يتساءلون، ويبعد جعلها فاعلا لفعل محذوف، لما في ذلك من التكلف، كما فعل الجلال وأي مبتدأ والهاء مضاف إليه والميم علامة جمع الذكور وجملة يكفل مريم خبر المبتدأ. (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) الواو عاطفة وما نافية وكان واسمها، ولديهم ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر كنت وإذ ظرف لما مضى متعلق بالاستقرار المحذوف وجملة يختصمون في محل جر بالإضافة (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) الظرف متعلق بمحذوف، أي: اذكر، وقالت الملائكة فعل وفاعل والجملة في محل جر بالإضافة وجملة الظرف ومتعلقة مستأنفة مسوقة للشروع في قصة عيسى عليه السلام (يا مَرْيَمُ) يا أداة نداء ومريم منادى مفرد علم (إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ) الجملة مقول القول وإن واسمها وجملة يبشرك خبرها (بِكَلِمَةٍ) متعلقان بيبشرك (مِنْهُ) صفة لكلمة (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) اسمه مبتدأ والمسيح خبر والجملة صفة ثانية لكلمة وعيسى بدل من المسيح وابن مريم بدل أو نعت. وذكرت مريم مع أنها هي المخاطبة للإيذان باختصاص عيسى عليه السلام بأنه ولد من غير أب كما جرت العادة (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) وجيها حال من كلمة وان كانت نكرة لأنها موصوفة والجار والمجرور متعلقان بوجيها فهما في موضع نصب على الحال (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) الواو عاطفة ويكلم فعل مضارع والفاعل هو والجملة معطوفة على «وجيها» فهي حال أيضا وعدل إلى الفعلية للتجدد والناس مفعول به وفي المهد متعلقان بمحذوف حال من فاعل «يكلم» (وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ) عطف على قوله «في المهد» أي: صبيا وكهلا، ومن الصالحين عطف على وجيها فاستتم بذلك الأوصاف الأربعة ل «كلمة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 البلاغة: الكناية في قوله: «يلقون أقلامهم» عن القرعة. الفوائد: (إِذْ) تكون على ثلاثة أوجه: 2- تكون للتعليل وهذه حرف بمنزلة لام التعليل، كقول الفرزدق: بعدها فعل مضارع فهي لحكاية الحال الماضية. 2- تكون للتعليل وهذه حرف بمنزلة لام التعليل، كقول الفرزدق: فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم ... إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر فالظرفية هنا منسلخة ولا تصح بحال، لأن المعنى يفسد، أي أعاد الله نعمتهم وقت كونهم قريشا، فيفيد أن كونهم من قريش أمر طارئ عليهم. 3- أن تكون للمفاجأة، وهي الواقعة بعد «بينا» و «بينما» كقوله: استقدر الله خيرا وارضين به ... فبينما العسر إذ دارت مياسير والأولى عندئذ أن تكون حرفا. (أي) تأتي على خمسة أوجه: 1- اسم شرط جازم وتعرب بحسب موقعها. 2- اسم موصول وتعرب بحسب موقعها إلا إذا أضيفت وحذف صدر صلتها فتبنى على الضم: «ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 3- اسم استفهام كما في الآية المتقدمة، وحكمها حكم الموصولية. 4- أن تقع صفة للنكرة أو حالا بعد المعرفة للدلالة على معنى التمام والكمال، كقول أبي العتاهية: إن الشباب والفراغ والجده ... مفسدة للمرء أيّ مفسدة 5- تكون وصلة لنداء ما فيه أل: يا أيها الناس. (العلم) ينقسم العلم إلى اسم وكنية ولقب، وإذا اجتمع الاسم واللقب يؤخر اللقب عن الاسم، وربما قدم عليه كما في الآية. ويطرد هذا إذا كان اللقب أشهر من الاسم ولا ترتيب في الكنية، ويعرب الثاني بدلا من الأول، ويجوز أن تضيف اللقب إلى الاسم إذا كانا مفردين كهرون الرشيد ومحمد المهديّ [سورة آل عمران (3) : الآيات 47 الى 50] قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 اللغة: (الأكمه) : الذي ولد أعمى يقال: كمه كمها، من باب تعب، فهو أكمه والمرأة كمهاء، مثل أحمر وحمراء وهو العمى يولد عليه الإنسان وربما كان عارضا. (الأبرص) : المصاب بالبرص بفتحتين وهو داء معروف يعتري الإنسان، ولم تكن العرب تنفر من شيء نفرتها منه، فكانوا يصفون العظيم إذا أصيب به بالوضّاح فقالوا: جذيمة الوضاح وهو من ملوك العرب المشهورين ويقال للقمر أبرص لشدة بياضه وللوزغ سام أبرص لبياضه. الإعراب: (قالَتْ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) تقدم إعرابها قبل قليل بحروفها فجدد بها عهدا (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) الواو للحال ولم حرف نفي وقلب وجزم ويمسسني فعل مضارع مجزوم بلم والنون للوقاية والياء مفعول به وبشر فاعل والجملة حالية (قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) الجملة مستأنفة لا محل لها والجار والمجرور متعلقان بمحذوف مفعول مطلق لفعل محذوف، أو حال وعلقهما بعضهم بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف والله مبتدأ وجملة يخلق خبر وما اسم موصول مفعول به وجملة يشاء لا محل لها لأنها صلة الموصول وجملة الله يخلق مقول القول (إِذا قَضى أَمْراً) إذا ظرف مستقبل وجملة قضى في محل جر بالإضافة وأمرا مفعول به (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) الفاء رابطة لجواب إذا وجملة إنما يقول لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وله متعلقان بيقول وكن فعل أمر تام والجملة مقول القول والفاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 استئنافية ويكون فعل مضارع تام مرفوع بالضمة والفاعل هو والجملة خبر لمبتدأ محذوف أي فهو يكون والجملة مستأنفة، وهذا قول سيبويه وهو الصحيح وقرأ ابن عامر بالنصب «فيكون» على أن الفاء للسببية، ويشكل على هذه القراءة أن الاستقبال مسلوب عنه عندئذ بها. (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) الواو استئنافية ولك أن تعطفها على «وجيها» كأنه قال: وجيها ومعلما، وقرىء ونعلمه فتكون الجملة مقولا لقول محذوف لأنه يكون من كلام الله ويعلمه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول والكتاب مفعول به ثان وما بعده منسوق عليه (وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) الواو عاطفة ورسولا مفعول به لفعل محذوف أي ويجعله رسولا أي من باب الإخبار بالمغيبات، وأجاز الزمخشري وغيره أن يعرب رسولا حالا كأنه عطفه على يعلمه بالمعنى وإلى بني إسرائيل متعلقا بمحذوف صفة ل «رسولا» (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أن وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، أي بأني قد جئتكم، وقد سبق القول بأن هذا مطرد قبل أنّ وأن، والجار والمجرور متعلقان ب «رسولا» لأنه تضمن معنى النطق، أي ورسولا ناطقا بأني قد جئتكم. وقد كثرت التأويلات في هذه التعابير، ولذلك جعلها الزمخشري من المضائق المعجزة. وقيل الباء للملابسة وهي مع مدخولها في محل نصب على الحال، والمعنى أني رسول الله إليكم حال كوني متلبسا بمجيئي بالآيات وجملة قد جئتكم خبر أن وبآية متعلقان بجئتكم ومن ربكم متعلقان بمحذوف صفة لآية (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) أن وما في حيزها في تأويل مصدر بدل من آية لأن ما يفعله لا يعدو أن يكون من دلائل آياته الباهرة، ولك أن نجعله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 خبرا لمبتدأ محذوف تقديره هي والمعنى واحد وفي قراءة بكسر همزة إن فتكون إن وما بعدها مستأنفة وجملة أخلق خبر إن ولكم متعلقان بمحذوف في محل نصب على معنى التعليل أي لأجل هدايتكم، أو معنى الحال أي هاديا لكم، ومن الطين متعلقان بأخلق وكهيئة الكاف اسم بمعنى مثل فهي في محل نصب مفعول به أو حرف فتكون وما بعدها في محل نصب صفة لمفعول به محذوف أي شيئا مثل هيئة الطير وهيئة مضاف إليه إن كانت اسما والطير مضاف مضاف الى هيئة (فَأَنْفُخُ فِيهِ) الفاء عاطفة، أنفخ معطوف على أخلق، والجار والمجرور متعلقان بأنفخ (فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ) الفاء عاطفة ويكون فعل مضارع ناقص معطوف على أخلق وطيرا خبر يكون واسمها مستتر وبإذن الله متعلقان بيكون على رأي من يجيز تعلق الجار والمجرور والظرف بالأفعال الناقصة أو بمحذوف حال، والأول أقرب الى المعنى (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ) عطف على أخلق والأكمه مفعول به (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ) عطف على ما تقدم أيضا وبإذن الله متعلقان بأحيي (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ) عطف أيضا والجار والمجرور متعلقان بأنبئكم ناب عن المفعولين وجملة تأكلون لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) الواو عاطفة وما عطف على «ما» المتقدمة وجملة تدخرون لا محل لها وفي بيوتكم جار ومجرور متعلقان بتدخرون (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر إن المقدم، واللام هي المزحلقة وآية اسمها المؤخر ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لآية وجملة إن وما في حيزها إما أن تكون من كلام عيسى عليه السلام فتكون داخلة في حيز القول، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى فتكون مستأنفة. وإن شرطية وكنتم في محل جزم فعل الشرط وكان فعل ماض ناقص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 والتاء اسمها ومؤمنين خبرها وجواب الشرط محذوف والتقدير إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآية وجملة الشرط استئنافية (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) الواو عاطفة ومصدقا حال من فعل محذوف أي وجئتكم مصدقا، أو تعطفه على محل «بآية» ولما اللام حرف جر وما اسم موصول مجرور باللام والجار والمجرور متعلقان «بمصدقا» وبين ظرف متعلق بمحذوف لا محل له لأنه صلة ما ويديّ مضاف إليه وعلامة جره الياء لأنه مثنى والياء مضاف إليه ومن التوراة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) الواو حرف عطف واللام للتعليل وأحلّ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام التعليل واللام ومدخولها متعلقان بجئتكم مقدرة، ولا يجوز عطفه على «مصدقا» لأنه حال ولأحل تعليل، ولكم جار ومجرور متعلقان بأحل وبعض مفعول به والذي اسم موصول مضاف إليه، وجملة حرم عليكم لا محلّ لها لأنها صلة الموصول (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) الواو حرف عطف وجملة جئتكم عطف على جئتكم السابقة وتكررت للتوكيد وبآية جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال فالباء للملابسة، والمعنى أني رسول إليكم حال كوني ملتبسا بمجيئي. ولك أن تعلقها بجئتكم، ومن ربكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لآية (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) الفاء الفصيحة، أي إذا علمتم أنه لا يسوغ لكم بعد هذه الآلاء الباهرة التي مننت بها عليكم أن تأخذكم هوادة في طاعة الله فاتقوا الله. واتقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وأطيعون عطف على اتقوا وحذفت ياء المتكلم لمراعاة الفواصل. [سورة آل عمران (3) : الآيات 51 الى 54] إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 اللغة: (الْحَوارِيُّونَ) : جمع حواري، وهو صفوة الرجل وخالصته، ومنه قيل للحضريات: حواريات، لخلوص ألوانهن وفتنتهن ونعومتهن قال: فقل للحواريات يبكين غيرنا ... ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح وتكاد هذه النسبة تكون مطّردة كالحوالي وهو الكثير الحيلة. وزعم صاحب المنجد أنّ اللفظة حبشية ولكننا نرجح أنها عربية خالصة. ففي أساس البلاغة: وامرأة حوارية ونساء حواريات: بيض قال الأخطل: حوارية لا يدخل الذمّ بيتها ... مطهرة يأوي إليها مطهر وقد نسجت أساطير جميلة حول الحواريين تحتاج إلى قصاص بارع يصوغ منها أروع القصص. (المكر) في اللغة: الستر، يقال: مكر الليل أي أظلم وستر بظلمته ما فيه، واشتقاقه من المكر، وهو شجر ملتفّ، كأنهم تخيلوا أن المكر يلف الممكور به. وامرأة ممكورة البطن: أي ملتفة ثم خصصوه بالخبث والخداع. الإعراب: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) كلام مستأنف مسوق لتقدير أصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 الديانة المترتبة على الإيمان بما أورده، وإن واسمها، وربي خبرها وربكم عطف على ربي. فاعبدوه: الفاء الفصيحة أي إذا شئتم حسن المصير فاعبدوه، واعبدوه فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به وجملة اعبدوه لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) يصح أن تكون الجملة مستأنفة أو مفسرة، وعلى الحالين لا محل لها. وهذا مبتدأ وصراط خبر ومستقيم صفة لصراط (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) الفاء عاطفة على محذوف تقديره فكذبوه، لأنه قول مرتب على هذا المحذوف. ويجوز أن تعرب استئنافية ولما ظرفية حينية أو رابطة وقد تقدم ذكرها كثيرا، وجملة أحس عيسى في محل جر بإضافة الظرف إليه أو لا محل لها إذا أعربناها رابطة. وأحس فعل ماض وعيسى فاعل ومنهم جار ومجرور متعلقان بأحس والكفر مفعول به ويجوز أن يتعلقا بمحذوف حال من الكفر أي حال كونه صادرا منهم (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ) جملة قال لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وهو لما ومن اسم استفهام مبتدأ وأنصاري خبره وإلى الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الياء في أنصاري، والمعنى من أنصاري حال كوني ماضيا إلى سبيل الله شارعا في المناضلة عنه ونصرته؟ وللزمخشري رأي طريف في هذا الجار والمجرور إذ جعلهما من صلة أنصاري مضمنا معنى الإضافة، كأنه قال: من الذين يضيفون أنفسهم إليّ ينصرونني كما ينصرني؟ (قالَ الْحَوارِيُّونَ: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير الجواب على استفهامه. وقال الحواريون فعل وفاعل وجملة نحن أنصار الله من المبتدأ والخبر مقول القول (آمَنَّا بِاللَّهِ) آمنا فعل وفاعل وبالله جار ومجرور متعلقان بآمنا والجملة خبر ثان لنحن (وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) الواو استئنافية واشهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 فعل أمر وبأنا الباء حرف جر وأن واسمها، ومسلمون خبرها. وأن وما في حيزها مصدر في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان بأشهد، وهذا أحسن من جعلها عاطفة لئلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر، وهو مرجوح، وإنما طلبوا شهادته بإسلامهم تأكيدا لإيمانهم (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) ربنا منادى مضاف وجملة آمنا خبر ثالث لنحن وبما جار ومجرور متعلقان بآمنا وجملة أنزلت لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) عطف على جملة آمنا والرسول مفعول به (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) الفاء الفصيحة أي إذا كان الأمر كما تقدم فاكتبنا، ولك أن تجعلها استئنافية ومع ظرف مكان متعلق باكتبنا والشاهدين مضاف إليه (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) الواو استئنافية ومكروا فعل وفاعل ومكر الله عطف على مكروا والله الواو حالية والله مبتدأ وخير الماكرين خبره والجملة في محل نصب على الحال. البلاغة: 1- الاستعارة التمثيلية في أحس، إذ لا يحس إلا ما كان متجسدا، والكفر ليس بمحسوس، وإنما يعلم ويدرك كعلم ما يدرك بالحواس. 2- فن المشاكلة وقد مرت الإشارة إلى هذا الفن، وحقيقة ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته، فكأنه قال: وأخذهم بمكرهم، لأن الله تعالى وتقدس لا تستعمل في حقه لفظة توهم الشناعة. وهو كثير شائع في القرآن، فاعلمه. ومنه في الشعر قول عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا أي فنجازيه على جهله، فجعل لفظة فنجهل موضع فنجازيه للمشاكلة. ومن طريف المشاكلة قول أبي تمام الطائي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 والدهر ألأم من شرقت بلؤمه ... إلا إذا أشرقته بكريم أي انتصرت عليه بكريم فقال: أشرقته، للمشاكلة. [سورة آل عمران (3) : الآيات 55 الى 57] إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) الإعراب: (إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق باذكر مقدرا أو متعلق بمكروا أو ظرف لخير الماكرين. وجملة قال الله في محل جر بالإضافة ويا حرف نداء وعيسى منادى مفرد علم مبني على الضم المقدر على الألف (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ) إن واسمها ومتوفيك خبرها والكاف مضاف اليه ورافعك عطف على متوفيك وإلي جار ومجرور متعلقان برافعك لأنه اسم فاعل (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ومطهرك عطف على ما تقدم ومن الذين جار ومجرور متعلقان بمطهرك وجملة كفروا صلة الموصول لا محل لها (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وجاعل عطف أيضا والذين اسم موصول في محل جر بالاضافة وجملة اتبعوك صلة الموصول لا محل لها وفوق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 ظرف مكان متعلق بمحذوف مفعول به ثان لجاعل والذين مضاف إليه وجملة كفروا صلة الموصول (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) الجار والمجرور متعلقان بجاعل، يعني أن هذا الجعل مستمر إلى يوم القيامة (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) ثم حرف عطف للتراخي وإلي جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومرجعكم مبتدأ مؤخر (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) الفاء حرف عطف للتعقيب وأحكم فعل مضارع مرفوع وبينكم ظرف مكان متعلق بأحكم (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) فيما جار ومجرور متعلقان بأحكم وجملة كنتم صلة الموصول وكان واسمها، وفيه جار ومجرور متعلقان بتختلفون وجملة تختلفون في محل نصب خبر كنتم، والجملة كلها في محل نصب مقول القول (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) الفاء استئنافية والجملة مستأنفه مسوقة لتكون تفسيرا للحكم بين الفريقين. وأما حرف شرط وتفصيل والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة الموصول لا محل لها (فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الفاء رابطة لجواب أما وأعذبهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به والجملة الفعلية خبر الذين وعذابا مفعول مطلق وشديدا صفة وفي الدنيا جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ثانية والآخرة عطف على الدنيا (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) الواو حالية أو استئنافية وما نافية ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومن حرف جر زائد وناصرين مجرور بمن لفظا مرفوع محلا لأنه مبتدأ مؤخر والجملة حالية أو استئنافية (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) عطف على الآية السابقة والصالحات مفعول به منصوب بالكسرة لأنه جمع مؤنث سالم (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) الفاء رابطة لجواب أما ويوفيهم فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر تقديره هو والهاء مفعول به أول وأجورهم مفعول به ثان والجملة خبر الذين (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة لا يحب الظالمين خبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 البلاغة: اختلف المفسرون في قوله: «إني متوفيك ورافعك إلي» ، قال قتادة وغيره: هذا من المقدم والمؤخر، والتقدير: إني رافعك إلي ومتوفيك. يعني بعد ذلك. قال علي بن طلحة عن ابن عباس: إني متوفيك أي مميتك. وجمهور المفسرين يقولون: المراد بالوفاة هنا النوم، كما قال تعالى: «وهو الذي يتوفاكم بالليل» الآية. وقد اقتبس هذا المعنى بلفظه بعض الشعراء فقال: تبارك من توفاكم بليل ... ويعلم ما جرحتم في النهار [سورة آل عمران (3) : الآيات 58 الى 60] ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) الإعراب: (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان ما تقدم من أمر عيسى وذلك مبتدأ وجملة نتلوه خبر وعليك جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ويجوز أن يكون اسم الإشارة مبتدأ وجملة نتلوه في موضع نصب على الحال ومن الآيات جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) عطف على الآيات والحكيم صفة (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ) كلام مستأنف سيق تمهيدا لذكر محاجة وفد نجران الذي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم يسأله في أمر عيسى عليه السلام. وإن واسمها، وعيسى مضاف إليه وعند الله ظرف متعلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 بمحذوف حال (كَمَثَلِ آدَمَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر وآدم مضاف إليه مجرور بالفتحة لأنه لا ينصرف كما تقدم (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) الجملة مفسرة لشبه عيسى بآدم لا محل لها وخلقه فعل ومفعول به والفاعل هو يعود على الله ومن تراب جار ومجرور متعلقان بخلقه (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وقال فعل ماض وله جار ومجرور متعلقان بقال وجملة كن التامة في محل نصب مقول القول وقوله فيكون عطف، وهي حكاية حال ماضيه (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير أن الحق الثابت الذي لا يطرأ عليه التغيير هو من ربك فالحق مبتدأ، ومن ربك خبر، ويجوز أن يكون الحق خبرا لمبتدأ محذوف أي ما قصصنا عليك هو الحق، ومن ربك جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الفاء الفصيحة أي إذا علمت هذا وقد علمته فلا تكن والجملة جواب الشرط غير جازم لا محل لها ولا ناهية وتكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلا واسمها ضمير مستتر تقديره أنت ومن الممترين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر. البلاغة: المقصود بالنهي «لا تكن من الممترين» إما زيادة تهييجه صلى الله عليه وسلم على الثبات، والطمأنينة، وحاشاه أن يكون ممتريا، أو أن الخطاب لغيره لطفا بهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 [سورة آل عمران (3) : الآيات 61 الى 63] فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) اللغة: (حَاجَّكَ) : خاصمك وجادلك، وقارعك الحجة. والمحاجّة هي مفاعلة، ولا تقع إلا من اثنين فصاعدا. (تَعالَوْا) : تعال فعل أمر على الأصح ولامه مفتوحة دائما، وأصله طلب الإقبال من مكان مرتفع تفاؤلا بذلك، وإذنا للمدعوّ لأنه من العلو والرفعة. فإذا أمرت المفرد قلت: تعال، ثم توسع فيه فاستعمل في مجرد طلب المجيء. وقد لحنوا أبا فراس الحمداني لأنه كسر لامه مع ياء الخطاب بقوله: أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا ... تعالي أقاسمك الهموم تعالي وقد يجاب عنه بأنه ضرورة شعرية. (نَبْتَهِلْ) المباهلة والابتهال في الأصل: الملاعنة. وفعله الثلاثي بهلة بهلا من باب نصر لعنه. واسم الفاعل باهل، والأنثى باهلة، وبها سميت قبيلة عربية، ثم تطورت الكلمة وأطلقت على كل دعاء خيرا كان أم شرا، وإن لم يكن لعانا. وقد استعمل هذه الكلمة أبو العلاء المعري في رسالة الغفران إذ قال في صدد حديثه عن الخرمية، وهم فئة من الزنادقة: «فعلى معتقدي هذه المقالة بهلة المبتهلين» والبهلة بضم الباء وفتحها: اللعنة أي لعنة اللاعنين، وهذا المعنى هو المراد في الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 الإعراب: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ) الفاء استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدا حاجك فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاعل ضمير مستتر تقديره هو والكاف مفعول به وفيه جار ومجرور متعلقان بحاجك والضمير يعود إلى عيسى أو الحق مطلقا والجملة مستأنفة مسوقة لبيان حكم المباهلة وشروطها المستنبطه من الكتاب والسنة. وحاصل كلام الأئمة فيها أنها بعد النبي صلى الله عليه وسلم لا تجوز إلّا في أمر مهم شرعا، وقع فيه اشتباه وعناد، لا يتاح دفعهما إلا بالمباهلة (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) الجار والمجرور متعلقان بحاجك أي من ذلك الوقت وما اسم موصول مضاف إليه وجملة جاءك صلة الموصول ومن العلم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي كائنا من العلم (فَقُلْ: تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) الفاء رابطة وقل فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت وتعالوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وجملة قل في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر «ما» وجملة تعالوا في محل نصب مقول القول وندع فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب وفاعله نحن وأبناءنا مفعول به وأبناءكم وما تلاه عطف على قوله «أبناءنا» وإنما أضافهم إليه صلى الله عليه وسلم والأمر مختص به وبمن يباهله لأن ذلك آكد في الدلالة على الثقة بالنفس والإيمان بانتصار حجته، وإلا ما كان عرض أفلاذ كبده وأهله للهلاك، ولكن المباهلة لم تتم ورجع الوفد بحجة استشارة قومه من دون الارتطام بها كما هو مبين في كتب التاريخ فارجع إليها. (ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) ثم حرف عطف للتراخي ونبتهل فعل مضارع معطوف على ندع مجزوم والفاء حرف عطف للتعقيب ونجعل عطف على نبتهل والفاعل بينهما نحن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 ولعنت الله مفعول به وعلى الكاذبين جار ومجرور متعلقان بنجعل أو في محل نصب على أنهما بمثابة المفعول الثاني (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) كلام مستأنف مسوق لتقدير ما تقدم ذكره وإن واسمها، اللام المزحلقة وهو ضمير فصل لا محل له والقصص خبر أو «هو» مبتدأ والقصص خبره والجملة خبر إن والحق صفة للقصص (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ) الواو استئنافية وما نافية ومن حرف جر زائد وإله مجرور لفظا مبتدأ ويجوز أن يكون الخبر محذوفا أي لنا. وإلا أداة حصر والله بدل من محل إله وهو الرفع. ويجوز أن يكون الله خبر إله والجملة مستأنفة (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تقدم إعراب نظيرتها قريبا (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) الفاء استئنافية والجملة مستأنفة وإن شرطية وتولوا فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والواو فاعل والجملة في محل جزم فعل الشرط فإن الفاء رابطة وإن واسمها، وعليم خبرها وبالمفسدين جار ومجرور متعلقان بعليم والجملة في محل جزم جواب الشرط. الفوائد: نص العلماء على كتابة «لعنة» بالتاء المفتوحة هنا وفي سورة النور فقط وما عداها تكتب بالتاء المربوطة على الأصل المعروف. [سورة آل عمران (3) : آية 64] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) الإعراب: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) كلام مستأنف مسوق للبحث في الجدل الذي ثار حول إبراهيم عليه السلام عند مقدم وفد نجران، وقل فعل أمر وفاعله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 أنت ويا حرف نداء وأهل الكتاب منادى مضاف (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) الجملة نصب على أنها مقول القول وتعالوا تقدم إعرابها قبل قليل وإلى كلمة جار ومجرور متعلقان بتعالوا وسواء صفة وبيننا ظرف مكان متعلق بسواء لأنها أجريت مجرى المصادر كما تقدم في أول البقرة وبينكم عطف على بيننا (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ) أن وما في حيزها مصدر مؤول بدل من «كلمة» ، أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره هي، وأن مصدرية ولا نافية ونعبد فعل مضارع منصوب بأن وفاعله مستتر تقديره نحن وإلا أداة حصر والله مفعول به. والكلمة تطلق في اللغة على الجملة المفيدة (وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) الواو عاطفة ولا نافية ونشرك عطف على نعبد وبه جار ومجرور متعلقان بنشرك وشيئا مفعول به أو مفعول مطلق وقد تقدم الكلام على هذا الإعراب (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) الواو عاطفة ولا نافية ويتخذ فعل مضارع معطوف على لا نعبد ولا نشرك وبعضنا فاعل وبعضا مفعوله الأول وأربابا مفعوله الثاني ومن دون الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ل «أربابا» (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) الفاء استئنافية وما بعدها كلام مستأنف لا محل له مسوق لتقرير جوابهم وإن شرطية وتولوا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط أي أعرضوا، فقولوا الفاء رابطة لجواب الشرط والجملة في محل جزم جواب الشرط واشهدوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة في محل نصب مقول القول وبأنا الباء حرف جر وأن حرف مشبه بالفعل ونا اسمها ومسلمون خبرها وأن وما بعدها في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان باشهدوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 [سورة آل عمران (3) : الآيات 65 الى 66] يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) الإعراب: (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) كلام مستأنف لإتمام قصة الجدل في أمر إبراهيم عليه السلام، ويا حرف نداء وأهل الكتاب منادى مضاف ولم: اللام حرف جر وما اسم استفهام حذفت ألفها بعد حرف الجر كما سيأتي في باب الفوائد، والجار والمجرور متعلقان بتحاجون وتحاجون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وفي إبراهيم جار ومجرور متعلقان بتحاجون ولا بد من حذف مضاف أي في دين إبراهيم لأن المجادلة لا تكون في الذوات (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) الواو حالية وما نافية وأنزلت فعل ماض مبني للمجهول والتوراة نائب فاعل والإنجيل عطف على التوراة وإلا أداة حصر من بعده جار ومجرور متعلقان بأنزلت فهو استثناء مفرّغ (أَفَلا تَعْقِلُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التعجبي وهي داخلة على مقدر هو المعطوف عليه بهذا العاطف أي ألا تتفكرون فلا تعقلون بطلان قولكم؟ (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) الهاء للتنبيه وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبر والجملة مستأنفة مسوقة لبيان بطلان قولهم وجملة حاججتم مستأنفة مسوقة لبيان الجملة قبلها والمعنى أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى، وآية حمقكم أنكم أمعنتم في اللّجاج والمكابرة فيما لا طائل تحته، وفيما جار ومجرور متعلقان بحاججتم ولكم جار ومجرور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 متعلقان بمحذوف خبر مقدم وبه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لعلم فلما تقدم أعرب حالا وعلم مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية لا محل لها لأنها صلة ما الموصولة (فَلِمَ تُحَاجُّونَ) الفاء عاطفة ولم تحاجون تقدم إعرابها قريبا (فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) فيما جار ومجرور متعلقان بتحاجون وليس فعل ماض ناقص ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ليس المقدم وبه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وعلم اسم ليس المؤخر (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة يعلم خبر وأنتم الواو عاطفة وأنتم ضمير منفصل مبتدأ وجملة لا تعلمون خبر. الفوائد: 1- أعلم أن الأصل وصل الهاء التنبيهية باسم الإشارة لأن تعريف أسماء الإشارة في أصل الوضع بما يضاف إليها من إشارة المتكلم الحسية من يد أو جارحة أخرى فجيء في أوائلها بحرف ينبه بها المتكلم المخاطب حتى يلتفت إليه وينظر إلى أي شيء يشير من الإشارة الحاضرة، ويفصل ب «أنا» وأخواته كثيرا نحو: ها أنا ذا وها أنتم أولاء وها هو ذا وبغيرها قليلا، وليس المراد بقولك: ها أنا أفعل، أن تعرف المخاطب نفسك وأن تعلمه أنك لست غيرك، لأن هذا محال، بل المعنى فيه وفي: ها أنت ذا تقول، وها هو ذا يفعل، استغراب وقوع مضمون الفعل المذكور بعد اسم الإشارة من المتكلم أو المخاطب أو الغائب. والجملة بعد اسم الإشارة لازمة لبيان الأمر المستغرب، ولا محل لها إذ هي مستأنفة، وقال أبو عمرو بن العلاء: «الأصل في ها أنتم: أأنتم، أبدلت الهمزة الأولى هاء لأنها أختها» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 قال النحاس: وهذا قول حسن. وقال بعضهم: هي حالية، أي ها أنت قائلا والحال هنا لازمة لأن الفائدة معقودة بها، والعامل في الحال حروف التنبيه أو اسم الإشارة. والذي نراه أن ما قررناه أولى، وأن الاستئناف هو الأرجح، إذ ليس المراد أنت المشار إليه في حال قولك. وما أعجب هذه اللغة الشريفة. 2- إذا وصلوا «ما» في الاستفهام حذفوا ألفها لوجوه: الأول للتفرقة بينها وبين أن تكون حرفا. والثاني: لاتصالها بحرف الجر حتى صارت كأنها جزء منه لتنبئ عن شدة الاتصال. والثالث: للتخفيف، لأن «ما» تقع كثيرا في الكلام، وأبقوا الفتحة لتدل على أن المحذوف من جنسها، كما فعلوا في علام؟ وإلام؟ وحتام؟ وبم؟ وعم؟ وفيم؟ ومم؟ قيل: إن بعض العوام سأل أحد النحويين فقال له: بما توصيني؟ وأثبت الألف في «ما» ، فقال: بتقوى الله وإسقاط الألف من «ما» . [سورة آل عمران (3) : الآيات 67 الى 68] ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) اللغة: (الحنف) الميل، والمراد مائلا عن الأديان كلها إلى الدين القيم. الإعراب: (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا) كلام مستأنف أورده سبحانه نبرئة لإبراهيم مما حاولوا إلصاقه به. وما نافية وكان فعل ماض ناقص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 وإبراهيم اسمها ويهوديا خبرها والواو حرف عطف ولا نافية ونصرانيا معطوف على «يهوديا» (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) الواو عاطفة ولكن مخففة مهملة وكان فعل ماض ناقص واسمها هو وحنيفا خبرها الأول ومسلما خبر ثان. (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) عطف على ما تقدم ومن المشركين متعلقان بمحذوف خبر كان (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ) إن واسمها، والناس مضاف إليه وبإبراهيم جار ومجرور متعلقان بأولى والجملة استئنافية (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) اللام المزحلقة والذين خبر إن واتبعوه فعل وفاعل ومفعول به والجملة صلة (وَهذَا النَّبِيُّ) الواو حرف عطف على الذين والنبي بدل من اسم الإشارة (وَالَّذِينَ آمَنُوا) الواو حرف عطف والذين اسم موصول معطوف على هذا النبي وجملة آمنوا صلة الموصول (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) الواو استئنافية والله مبتدأ وولي خبر والمؤمنين مضاف إليه. [سورة آل عمران (3) : الآيات 69 الى 71] وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) اللغة: (تَلْبِسُونَ) بكسر الباء أي تخلطون. الإعراب: (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) ودت فعل ماض والتاء للتأنيث وطائفة فاعل ومن أهل الكتاب جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 لطائفة والجملة مستأنفة مسوقة للحديث عن اليهود الذين دعوا عددا من الصحابة منهم حذيفة ومعاذ وعمار إلى دينهم. وسيأتي بحث مهم عن معنى ودت في باب الفوائد (لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) لو مصدرية ويضلونكم فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والكاف مفعول به ولو مؤولة مع ما بعدها بمصدر منصوب لأنه مفعول ودت، والتقدير تمنّت إضلالكم (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) الواو حالية وما نافية ويضلون فعل وفاعل وإلا أداة حصر وأنفسهم مفعول به والجملة في محل نصب حال (وَما يَشْعُرُونَ) عطف على الجملة السابقة (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ) جملة مستأنفة مسوقة لتأكيد استركاك عقولهم ويا حرف نداء وأهل الكتاب منادى مضاف ولم اللام حرف جر وما اسم استفهام في محل جر باللام وحذفت ألف ما لوفوعها بعد حرف الجر كما تقدم قريبا، وتكفرون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجار والمجرور المتقدم عليه متعلق به وبآيات الله جار ومجرور متعلقان بتكفرون (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) الواو حالية وأنتم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ وتشهدون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجملة خبر وجملة أنتم تشهدون في محل نصب حال (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) جملة مستأنفة ثالثة مسوقة لتأكيد استركاك عقولهم وقد تقدم إعراب نظيرتها (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ) الواو عاطفة وتكتمون فعل مضارع والواو فاعل والحق مفعول به (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) تقدم إعرابها. الفوائد: تستعمل «ود» بمعنى تمنى فتستعمل معها لو أو أن وربما جمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 بينهما فيقال: وددت لو أن فعل «والمصدر» الودادة والاسم منه ود وقد يتداخلان في المصدر والاسم وقال الراغب: إذا كان ود بمعنى أحب لا يجوز إدخال «لو» فيه أبدا، وقال علي بن عيسى: إذا كان «ود» بمعنى تمنى صلح للماضي وللحال وللمستقبل، وإذا كان بمعنى المحبة والإرادة لم يصلح إلا للماضي لأن الإرادة كاستدعاء الفعل وإذا كان للحال والمستقبل جاز أن ولو وإذا كان للماضي لم يجز أن لأن أن للمستقبل. [سورة آل عمران (3) : الآيات 72 الى 74] وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) اللغة: (وَجْهَ النَّهارِ) أوله وسمي الوجه وجها لأنه أول ما يبدو من الإنسان لمن يشاهده قال: من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار وقال: وتضيء في وجه الظلام منيرة ... كجمانة البحري سلّ نظامها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 الإعراب: (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للحديث عن نوع آخر من تلبيسات اليهود فقد توطأ اثنا عشر حبرا من يهود خيبر فقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان، دون اعتقاد بالجنان، ثم اكفروا اخر النهار لادخال التشكيك في صدور أصحاب محمد وربما أفضى ذلك إلى رجوعهم عن دينهم. وقالت فعل ماض وطائفة فاعل ومن أهل الكتاب جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لطائفة (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) الجملة في محل نصب مقول القول وآمنوا فعل أمر مبني على حذف النون وبالذي جار ومجرور متعلقان بآمنوا وجملة أنزل صلة وأنزل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هو وعلى الذين آمنوا جار ومجرور متعلقان بأنزل وجملة آمنوا صلة (وَجْهَ النَّهارِ) ظرف زمان متعلق بآمنوا (وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) الواو حرف عطف واكفروا فعل أمر مبني على حذف النون معطوف على آمنوا وآخره ظرف زمان متعلق باكفروا (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) جملة الرجاء في محل نصب على الحال أي راجين رجوعهم عن دينهم ولعل واسمها وجملة يرجعون خبرها ثم أردف بتتمة مقولهم فهو داخل في حيزه (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) الواو عاطفة ولا ناهية وتؤمنوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وإلا أداة استثناء ولمن اللام حرف جر ومن اسم موصول في محل جر باللام والجار والمجرور في محل نصب على الاستثناء من محذوف تقديره ولا تؤمنوا أي تعترفوا وتظهروا بأن يؤتى أحد بمثل ما أوتيتم لأحد من الناس إلا لأشياعكم دون غيرهم وتبع فعل ماض وفاعله هو والجملة الفعلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 صلة ودينكم مفعول به (قُلْ: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ) الجملة من قل ومقولها وهو ان واسمها وخبرها لا محل لها لأنها اعتراضية (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) أن وما في حيزها في تأويل مصدر مجرور بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بتؤمنوا وأحد نائب فاعل يؤتى ومثل مفعول به ثان وما اسم موصول في محل جر بالإضافة وجملة أوتيتم صلة (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أو حرف عطف ويحاجوكم فعل مضارع معطوف على يؤتى وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل والكاف مفعول به وعند ظرف مكان متعلق بمحذوف حال وربكم مضاف إليه (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ) قل فعل أمر وفاعله أنت وإن واسمها، وبيد الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر وإن وما في حيزها جملة اسمية في محل نصب مقول القول (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) جملة يؤتيه في محل نصب حال ويؤتي فعل مضارع وفاعله هو والهاء مفعول يؤتي الأول ومن اسم موصول في محل نصب مفعول يؤتي الثاني وجملة يشاء صلة (وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وواسع خبر أول وعليم خبر ثان (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) الجملة خبر ثالث ويختص فعل مضارع مرفوع وفاعله هو أي الله تعالى وبرحمته جار ومجرور متعلقان بيختص ومن اسم موصول في محل نصب مفعول به وجملة يشاء لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الواو عاطفة والله مبتدأ وذو الفضل خبر مرفوع وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة لأنه من الأسماء الخمسة والفضل مضاف إليه والعظيم صفة للفضل. الفوائد: كثر الخوض في هذه الآية والاختلاف في إعرابها وتخريجها، وأوصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 بعض المعربين أوجه الإعراب فيها إلى تسعة دون أن يصلوا إلى وجه حاسم يخلو من الاعتراضات. ما يقوله الواحدي: قال الواحديّ وهو من كبار المشتغلين بالمسائل الإعرابية: «وهذه الآية من مشكلات القرآن وأصعبه إعرابا وتفسيرا، ولقد تدبّرت أقوال أهل التفسير والمعاني في هذه الآية فلم أجد قولا يطّرد في الآية من أولها إلى آخرها مع بيان المعنى وصحة النّظم» . ما يقوله الشهاب الحلبي: وقال الشهاب الحلبي المعروف بالسّمين: «أعلم أنه قد اختلف الناس والمفسرون والمعربون في هذه الآية على أوجه» وذكر السمين الأوجه التسعة، ولما كان كتابنا يتوخى الأسهل والأقرب إلى المنطق والأبعد عن التكلف اكتفينا في باب الإعراب بما أوردناه فيه ورأينا أنه الأقرب إلى ما توخيناه وقد اختاره الزمخشري في كشافه، ولكننا نرى من المفيد أن نثبت ما قاله أبو حيان، ثم نعقب عليه بما قاله ابن هشام. ما يقوله ابو حيان: قال أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط بعد كلام طويل: «يحتمل القول وجوها: 1- أن يكون المعنى: ولا تصدقوا تصديقا صحيحا وتؤمنوا إلا لمن جاء بمثل دينكم مخافة أن يؤتى أحد من النبوة والكرامة مثل ما أوتيتم ومخافة أن يحاجوكم بتصديقكم إياهم عند ربهم إذا لم يستمروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 عليه، وهذا القول على هذا المعنى ثمرة الحسد والكفر مع المعرفة بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. 2- أن يكون التقدير أن لا يؤتى فحذفت لا لدلالة الكلام، ويكون ذلك منتفيا داخلا في حيز إلا، لا مقدرا دخوله قبلها والمعنى: ولا تؤمنوا لأحد بشيء إلا لمن تبع دينكم بانتفاء أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وانتفاء أن يحاجوكم عند ربكم أي إلا بانتفاء كذا. 3- أن يكون التقدير بأن يؤتى متعلقا بتؤمنوا، ولا يكون داخلا في حيز إلا والمعنى: ولا تؤمنوا بأن يؤتى أحد مثلما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم وجاء بمثله وعاضدا له فإن ذلك لا يؤتاه غيركم. ويكون معنى أو يحاجوكم عند ربكم بمعنى إلا أن يحاجوكم، كما تقول: أنا لا أتركك أو تقضيني حقي. وهذا القول على هذا المعنى ثمرة التكذيب لمحمد صلى الله عليه وسلم على اعتقاد منهم أن النبوة لا تكون إلا في بني إسرائيل. 4- أن يكون المعنى: لا تؤمنوا بمحمد وتقروا بنبوته إذ قد علمتم صحتها إلا لليهود الذين هم منكم، وأن يؤتى أحد مثلما أوتيتم صفة لحال محمد صلى الله عليه وسلم، فالمعنى تستروا بإقراركم أن قد أوتي أحد مثلما أوتيتم، أو فإنهم يعنون العرب يحاجونكم بالإقرار عند ربكم» . ولعمري لقد أبدع أبو حيان ولكنه اكتفى بإيراد المعنى مجردا عن الإعراب. ما يقوله ابن هشام: وقال ابن هشام في معرض حديثه عن الجمل: «كثيرا ما تشتبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 المعترضة بالحالية ويميزها منها أمور: أحدها أنها تكون غير خبرية كالأمرية في «ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل: إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثلما أوتيتم» ، كذا مثل ابن مالك وغيره بناء على أن «أن يؤتى أحد» متعلق بتؤمنوا وأنّ المعنى: ولا تظهروا تصديقكم بأن أحدا يؤتى من كتب الله مثل ما أوتيتم وبأن ذلك الأحد يحاجونكم عند الله تعالى يوم القيامة بالحق فيغلبونكم إلا لأهل دينكم لأن ذلك لا يغير اعتقادهم بخلاف المسلمين فإن ذلك يزيدهم ثباتا، وبخلاف المشركين فإن ذلك يدعوهم إلى الإسلام. ومعنى الاعتراض حينئذ أن الهدى بيد الله، فإذا قدره لأحد لم يضره مكرهم. والآية محتملة لغير ذلك، وهي أن يكون الكلام قد تم عند الاستثناء، والمراد: لا تظهروا والإيمان الكاذب الذي توقعونه وجه النهار وتنقضونه آخره إلا لمن كان منكم كعبد الله بن سلام ثم أسلم، وذلك لأن إسلامهم كان أغيظ لهم ورجوهم إلى الكفر كان عندهم أقرب، وعلى هذا ف «أن يؤتى» من كلام الله تعالى، وهو متعلق بمحذوف مؤخر، أي: الكراهية أن يؤتى أحد دبرتم هذا الكيد. وهذا الوجه أرجح لوجهين: أحدهما أنه الموافق لقراءة ابن كثير: أأن يؤتى بهمزتين، أي: الكراهية أن يؤتى قلتم ذلك، والثاني أن في الوجه الأول عمل ما قبل إلا فيما بعدها، مع أنه ليس من المسائل الثلاث المذكورة آنفا، والثاني مما يميزها الدّعائية كقول عوف بن محلم: إن الثمانين، وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان وكالتنزيهية في قوله تعالى: «ويجعلون لله البنات، سبحانه، ولهم ما يشتهون» وكالاستفهامية في قوله تعالى: «فاستغفروا لذنوبهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا» إلى آخر هذا البحث الممتنع الذي عكره الأسلوب الجاف. ما يقوله الزمخشري: ولا مندوحة لنا عن ذكر عبارة الزّمخشري التي جاءت مؤيدة لما ذهبنا إليه في الإعراب، قال: «ولا تؤمنوا متعلق بقوله: أن يؤتى أحد، وما بينهما اعتراض، أي: ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثلما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم، أرادوا: أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا مثلما أوتيتم ولا تفشوه إلا لأشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتا، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام، أو يحاجوكم به عند ربكم: عطف على أن يؤتى والضمير في يحاجوكم لأحد لأنه في معنى الجمع، ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله بالحجة» . وقد كدنا نخرج عن شرط الكتاب في تلخيص الأقوال، فحسبنا ما أوردناه ولعل بعض العلماء كان على حق عند ما قرر أن هذه الآية أعظم آي هذه السور إشكالا، وكلام الله أكبر، وغور لغتنا العربية أبعد وأعمق من أن يسبر. [سورة آل عمران (3) : آية 75] وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) اللغة: (دينار) : الدينار: ضرب من قديم النقود الذهبية، والجمع دنانير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 وأصله دنّار بنونين، فاستثقل توالي مثلين فأبدلوا أولهما حرف علة تخفيفا لكثرة دورانه في الاستعمال، ويدل على ذلك رده إلى النونين عند جمعه جمعا مكسرا أو عند تصغيره، فقالوا: دنانير ودنينير. (الْأُمِّيِّينَ) جمع أمي والمراد به هنا: من ليس من أهل الكتاب. ومعلوم أن اليهود استباحوا دماء العرب وأموالهم وأعراضهم. الإعراب: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) جملة مستأنفة مسوقة للشروع في بيان خيانتهم في الأموال بعد بيان خيانتهم في الدين، والواو استئنافية ومن أهل الكتاب جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) من اسم موصول مبتدأ مؤخر ولك أن تعربها نكرة موصوفة أيضا أي: ناس وهي مبتدأ مؤخر وإن شرطية وتأمنه فعل الشرط مجزوم والهاء مفعول به والفاعل أنت وبقنطار جار ومجرور متعلقان بتأمنه ويؤده جواب الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والهاء مفعول به وإليك جار ومجرور متعلقان بيؤده وجملة الشرط وجوابه إما صلة للموصول إذا كانت من موصولة. وإما صفة لها في محل رفع إذا كانت من نكرة موصوفة (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) عطف على الجملة السابقة وتقدم إعرابها بحروفها (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) إلا أداة حصر وما دمت فعل ماض ناقص والتاء اسمها وقائما خبرها وعليه جار ومجرور متعلقان ب «قائما» والاستثناء مفرغ من الظرف العام فهو ظرف (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا) جملة مستأنفة مسوقة لبيان استحلالهم أموال العرب واسم الإشارة في محل رفع مبتدأ والباء حرف جر وأن وما بعدها في محل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 جر بالباء والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر وجملة قالوا خبر إن (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) الجملة في محل نصب مقول قولهم وليس فعل ماض ناقص وعلينا جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب خبر ليس المقدم وفي الأميين جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وسبيل اسم ليس المؤخر (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) الواو استئنافية ويقولون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وعلى الله جار ومجرور متعلقان بيقولون والكذب مفعول به على التضمين فمعنى يقولون يفترون والأحسن أن يعرب صفة لمصدر محذوف وذلك المصدر مفعول مطلق أي القول المكذوب (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الواو حالية وهم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ وجملة يعلمون خبر. الفوائد: (ما دام) من أخوات كان وشرط إعمالها أن تتقدمها «ما» الظرفية والمصدرية، فإذا قلت: لا أكلمك ما دام زيد قاعدا، فالمراد زمن دوام قعوده، و «ما» من قولك: ما دام، تقع لازمة ولا بد منها ولا يكون معها الفعل إلا ماضيا، وليس كذلك ما زال، فإنه يجوز أن يقع موقع «ما» غيرها من حروف النفي، ويكون الفعل مع النافي ماضيا ومضارعا، نحو: ما زال ولم يزل ولا يزال، وأصل مادة «دام» السكون والثبوت يقال: دام الماء أي سكن، ودوّمت الشمس إذا وقفت في كبد السماء. [سورة آل عمران (3) : الآيات 76 الى 77] بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 الإعراب: (بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى) كلام مستأنف مسوق ليكون إثباتا لما نفوه بقولهم: ليس علينا في الأميين سبيل، أي العرب. وبلى حرف جواب وتصديق مثل نعم وأكثر ما تقع بعد الاستفهام وتختص بالإيجاب وسيأتي المزيد عنها في موضعه من هذا الكتاب، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وأوفى فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وبعهده جار ومجرور متعلقان بأوفى، واتقى عطف على أوفى (فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الفاء رابطة لجواب الشرط وإن واسمها، وجملة يحب خبرها والمتقين مفعول به وجملة فإن الله إلخ في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر «من» (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا) كلام مستأنف لا محل له من الإعراب مسوق لبيان كذب اليهود إذا حلفوا أو باعوا سلعة وحلفوا أنهم أعطوا فيها كذا وكذا، وإن واسمها، وجملة يشترون صلة وبعهد الله جار ومجرور متعلقان بيشترون والباء داخلة على المتروك وأيمانهم عطف على بعهد الله وثمنا مفعول به وقليلا صفة (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) اسم الإشارة مبتدأ ولا نافية للجنس وخلاق اسمها المبني على الفتح ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها وفي الآخرة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وجملة لا خلاق لهم خبر أولئك وجملة الإشارة وما تلاها في محل رفع خبر إن (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ) الواو عاطفة ولا نافية ويكلمهم فعل مضارع مرفوع والهاء مفعول به مقدم والله فاعل مؤخر والجملة عطف على جملة لا خلاق لهم (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) عطف أيضا (يَوْمَ الْقِيامَةِ) الظرف متعلق بينظر (وَلا يُزَكِّيهِمْ) عطف على «ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 ينظر إليهم» (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الواو عاطفة ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم صفة والجملة معطوفة أيضا. البلاغة: 1- الاستعارة المكنية في الاشتراء، أي أنهم يستبدلون بما عاهدوا عليه وبما حلفوا به من الأيمان متاع الدنيا، وأراد بذلك تحريفهم للتوراة وتبديل ما ورد فيها. 2- الكناية في قوله «ولا يكلمهم ولا ينظر إليهم» عن السخط وشدة الغضب، ومعنى «ولا يكلمهم الله» أي بما يسرهم «ولا ينظر إليهم» ولا يعطف عليهم بخير مقتا من الله لهم، كقول القائل: أنظر إلي نظر الله إليك، بمعنى تعطّفه عليّ تعطّف الله عليك بخير ورحمة، وكما يقال للرجل: لا استجاب الله لك. والله لا تخفى عليه خافية على حد قول شمير بن الحارث الضّبيّ: دعوت الله حتى خفت أن لا ... يكون الله يسمع ما أقول [سورة آل عمران (3) : آية 78] وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) اللغة: (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ) يفتلونها ويديرونها عن الصحيح إلى المزيف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 يقال: لويت عنقه: أي فتلته، والمصدر: اللّيّ واللّيّان، وأصل اللّي الفتل والقلب، من قول القائل: لوى فلان يد فلان، ومنه قول فرعان بن الأعرف السعدي في ابنه منازل: تخون مالي ظالما ولوى يدي ... لوى يده الله الذي هو غالبه وهذا البيت من أبيات جميلة، وقبله: جزت رحم بيني وبين منازل ... جزاء كما يستنزل الدّين طالبه وما كنت أخشى أن يكون منازل ... عدّوي وأدنى شانىء أنا راهبه حملت على ظهري وفديت صاحبي ... صغيرا إلى أن أمكن الطّر شاربه وأطعمته حتى إذا صار شيظما ... يكاد يساوي غارب الفحل غاربه تخون مالي ظالما ... البيت. الإعراب: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) كلام مستأنف مسوق لوصف فريق منهم ككعب بن الأشرف ومالك بن الصّيف وحيّي بن أخطب وأبي ياسر وشعبة بن عمرو الشاعر كانوا يلوون ألسنتهم ويتشدقون بها محرفين ما فيها من نعت النبي محمد صلى الله عليه وسلم وغيره، والواو استئنافية وإن حرف مشبه بالفعل ومنهم جار ومجرور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 متعلقان بمحذوف خبر إن المقدم واللام المزحلقة وفريقا اسم إن المؤخر وجملة يلوون صفة ل «فريقا» وجمع الضمير اعتبارا بالمعنى لأنه اسم جمع كالرهط والقوم، والواو فاعل وألسنتهم مفعول به وبالكتاب: جار ومجرور متعلقان بيلوون (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ) اللام لام التعليل وتحسبوه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وحذفت النون لأنه من الأفعال الخمسة والهاء مفعول تحسبوه الأول ومن الكتاب جار ومجرور في موضع المفعول الثاني وأن المضمرة وما بعدها في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بيلوون (وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) الواو حالية وما نافية حجازية تعمل عمل ليس وهو ضمير منفصل في محل رفع اسمها ومن الكتاب جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها (وَيَقُولُونَ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الواو حرف عطف ويقولون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون وهو معطوف على يلوون وهو مبتدأ ومن عند الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) تقدم إعرابها بحروفها. (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) عطف على ما سبق ويقولون فعل مضارع والواو فاعل وعلى الله جار ومجرور متعلقان بيقولون الكذب مفعول به أو مفعول مطلق وقد تقدم إعرابه قريبا، (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الواو حالية وهم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ وجملة يعلمون خبرها. البلاغة: التشبيه في قوله: «لتحسبوه» أي يعطفون ألسنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك الشبه من الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 [سورة آل عمران (3) : الآيات 79 الى 80] ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) اللغة: (البشر) الإنسان ذكرا وأنثى، واحدا وجمعا، ولا واحد له من لفظه، مثل القوم والخلق. (رَبَّانِيِّينَ) الربانيون: جمع ربّاني، وفيه أقوال أشهرها وأصحها ما ذكره سيبويه قال: الربّاني منسوب إلى الرب، والألف والنون فيه زائدتان في النسب دلالة على المبالغة، كرقباني ولحياني وشعراني للغليظ الرقبة والطويل اللحية والكثير الشعر ولا تفرد هذه الزيادة عن النسب، أما إذا نسبوا إلى الرقبة واللحية والشعر من غير مبالغة قالوا: رقبي ولحوي وشعري. وهذه فائدة جليلة نرى اطّرادها في كل نسبة قصد منها المبالغة، فيصح أن يقال: علماني نسبة للعلم. الإعراب: (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) كلام مستأنف مسوق لبيان افتراء اليهود على الأنبياء إثر افترائهم على الله، وما نافية وكان فعل ماض ناقص، لبشر جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وأن حرف مصدري ونصب ويؤتيه فعل مضارع منصوب بإن والهاء مفعول به أول وأن وما في حيزها في تأويل مصدر اسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 كان المؤخر والله فاعل يؤتيه والكتاب مفعول به ثان والحكم والنبوة معطوفان (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ) ثم حرف عطف للتراخي وجملة يقول معطوف على يؤتيه وللناس جار ومجرور متعلقان بيقول (كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ) الجملة في محل نصب مقول القول وكان واسمها، وعبادا خبرها ولي جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ل «عبادا» ومن دون الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) الواو عاطفة ولكن مخففة من الثقيلة مهملة وكونوا فعل أمر ناقص مبني على حذف النون والواو اسمها وربانيين خبرها وجملة كونوا ربانيين في محل مقول قول محذوف أي ولكن يقول كونوا.. (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ) الباء حرف جر وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بربانيين لما فيه من رائحة الفعل وكان واسمها، وجملة تعلمون الكتاب خبر كنتم والكتاب مفعول به. (وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) عطف على «بما كنتم» وجملة تدرسون خبر كنتم (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) الواو عاطفة ولا مزيدة لتأكيد النفي في قوله «ما كان لبشر أن يؤتيه» ، ويأمركم فعل مضارع معطوف على يؤتيه، أي: ما كان لبشر أن يؤتيه الله ما ذكر ثم يأمر الناس بعبادة نفسه أو باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا، وتوسيط الاستدراك بين المعطوف والمعطوف عليه للمسارعة الى تحقيق الحق. وقرىء برفع يأمركم على الاستئناف وابتداء الكلام. وسيأتي مزيد من تفصيل إعرابه في باب الفوائد. أن تتخذوا الواو حرف عطف وتتخذوا فعل مضارع منصوب بأن وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل والمصدر المؤول منصوب بنزع الحافض والجار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 والمجرور متعلقان بيأمر والملائكة مفعول به أول والنبيين معطوف على الملائكة منصوب بالياء لأنه جمع مذكر سالم وأربابا مفعول به ثان (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) كلام مستأنف لخطاب المؤمنين عن طريق التعجب من حال غيرهم والهمزة للاستفهام الإنكاري ويأمركم فعل مضارع مرفوع وفاعله هو والكاف مفعول به وبالكفر جار ومجرور متعلقان بيأمركم وبعد ظرف زمان متعلق بيأمركم أيضا وإذ ظرف زمان مضاف ل «بعد» وقد مر أنه لا يضاف إليها إلا الزمان نحو حينئذ ويومئذ، وأنتم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ ومسلمون خبره والجملة الاسمية في محل جر بإضافة الظرف إليها. الفوائد: 1- نفي الكون في قوله تعالى «ما كان لبشر» يراد به نفي خبره نحو: ما كان لك أن تفعل هذا، والمراد نفي الفعل لا نفي الكون، ويطرد هذا في نوعين: آ- نوع يكون النفي من جهة العقل كالآية الآنفة الذكر لأن الله لا يعطي الكتاب لمن يقول مثل هذه المقالة الشنعاء. ب- نوع يكون فيه النفي على سبيل الانبغاء والإمكان كقول أبي بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم فيصلي بين يدي رسول الله أي: ما ينبغي له ذلك ولا بإمكانه، والمدار في التمييز بينهما على الذوق والإلمام بسياق الكلام وفحواه. 2- إذا عطفت قوله: «ولا يأمركم» على «يؤتيه» فتكون «لا» زائدة مؤكدة لمعنى النفي السابق. وإذا عطفته على «يقول» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 فيجوز فيه وجهان: آ- الزيادة: فالمعنى، ما كان لبشر أن ينصبه الله للدعاء إلى عبادته وترك الأنداد ثم يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا. ب- أن تكون غير زائدة، ووجهه بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى قريشا عن عبادة الملائكة، وأهل الكتاب عن عبادة عيسى فلما قالوا له: أنتخذك ربا؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادته وينهاهم عن عبادة الملائكة والنبيين، وقيل هو معطوف على قوله «ثم يقول» ويكون التقدير: ولا له أن يقول، وقرىء بالرفع على الاستئناف وابتداء الكلام. [سورة آل عمران (3) : آية 81] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) اللغة: الإصر: المراد به هنا العهد وسمي العهد إصرا لأنه مما يؤصر أي: يعقد ويشد. والإصر كل ما يشد به. الإعراب: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) كلام مستأنف مسوق لبحث العهد الذي أخذه الله تعالى على النبيين وأممهم والواو استئنافية وإذ ظرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 لما مضى من الزمن متعلق باذكر محذوفا وقد مر نظيره وجملة أخذ في محل جر بالإضافة والله فاعل وميثاق مفعول به والنبيين مضاف إليه (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) اللام المفتوحة موطئة للقسم لأن أخذ الميثاق فيه معنى الاستحلاف وقيل: هي للابتداء التي يتلقى بها القسم وما اسم موصول مبتدأ وجملة آتيتكم لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول ومن كتاب جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وحكمة عطف على كتاب (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وجاءكم فعل ماض والكاف مفعول به ورسول فاعل مؤخر مرفوع ومصدق صفة ولما اللام حرف جر وما اسم موصول في محل جر باللام والجار والمجرور متعلقان بمصدق ومعكم ظرف مكان متعلق بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) الواو واقعة في جواب قسم مقدر وتؤمننّ فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والأصل لتؤمنوننّ ولما التقى ساكنان حذفت الواو أيضا وهي فاعل وبقيت الضمة دليلا عليها، والنون المشددة هي نون التوكيد الثقيلة لا محل لها، وبه متعلق بتؤمننّ، ولتنصرنه عطف على لتؤمنن وهو مثله في الإعراب والواو المحذوفة فاعل والهاء مفعول به وجملة القسم المقدر وجوابه خبر ما (قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) جملة مفسرة لا محل لها وقال فعل ماض وفاعله هو والهمزة للاستفهام التقريري والتوكيدي لأن الاستفهام بمعناه الحقيقي مستحيل في حقه وأقررتم فعل وفاعل والجملة في محل نصب مقول القول وأخذتم عطف على أقررتم وعلى ذلكم جار ومجرور متعلقان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 بأخذتم وإصري مفعول به والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة (قالُوا أَقْرَرْنا) الجملة مستأنفة لا محل لها وجملة أقررنا في محل نصب مقول القول (قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) الجملة مستأنفة مسوقة لتسجيل الشهادة على إقرارهم وقال فعل ماض والفاعل هو، فاشهدوا الفاء هي الفصيحة واشهدوا فعل أمر والواو فاعل والجملة لا محل لها، وأنا الواو حالية أو استئنافية وأنا مبتدأ ومعكم ظرف متعلق بمحذوف حال ومن الشاهدين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر وجملة أنا معكم في محل نصب على الحال أو استئنافية لا محل لها. الفوائد: 1- شغلت هذه الآية المعربين كثيرا وسنورد خلاصة لأهم ما قيل فيها سالكين سبيل الاختصار. ما يقوله سيبويه: قال سيبويه: سألت الخليل عن قوله: «وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم» فقال: «ما» بمعنى الذي، قال النحاس في شرحه لكتاب سيبويه: التقدير في قول الخليل: الذي آتيتكموه ثم حذفت الهاء لطول الاسم واللام لام الابتداء، وبهذا قال الأخفش، وتكون «ما» في محل رفع على الابتداء. وقوله: ثم جاءكم وما بعده جملة معطوفة على الصلة والعائد محذوف أي مصدق به. ما يقوله المبرد والزّجاج والكسائي: ما: شرطية دخلت عليها لام التحقيق كما تدخل على إن ولتؤمننّ جواب القسم الذي هو أخذ الميثاق، إذ هو بمنزلة الاستحلاف كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 تقول: أخذت ميثاقك لتفعلنّ كذا، وهو سار مسد الجزاء. وقال الكسائي: إن الجزاء في قوله فمن تولى. ابن هشام يرد على أبي البقاء: وقال ابن هشام في الرد على أبي البقاء: «وأما أبو البقاء فإنه قال في «لما آتيتكم من كتاب وحكمة» الآية: من فتح اللام ففي «ما» وجهان أحدهما أنها موصولة مبتدأ والخبر إما من كتاب أي الذي آتيتكموه من الكتاب، أو لتؤمننّ به واللام جواب القسم لأن أخذ الميثاق قسم وجاءكم عطف على آتيتكم والأصل ثم جاءكم به فحذف عائد ما والأصل مصدق له، ثم ناب الظاهر عن المضمر، أو العائد ضمير استقر الذي تعلقت به «مع» والثاني أنها شرطية واللام موطئة وموضع ما نصب بآتيت والمفعول الثاني ضمير المخاطب و «من كتاب» مثل «من آية» في «ما ننسخ من آية» وفيه أمور: آ- إن اجازته كون من كتاب خبرا فيه الإخبار عن الموصول قبل كمال الصلة لأن «ثم جاءكم» عطف على الصلة. ب- إن تجويزه كون لتؤمننّ خبر مع تقديره إياه جوابا لأخذ الميثاق يقتضي أن له موضوعا وأنه لا موضع له من حيث جعله خبرا ومن حيث أنه جواب للقسم وهذا تناقض، وإنما كان حقه أن يقدره جوابا لقسم محذوف ويقدر الجملتين خبرا، وقد يقال: إنما أراد بقوله: اللام جواب القسم لأن أخذ الميثاق قسم، وأخذ الميثاق دال على جملة قسم مقدرة ومجموع الجملتين، وإنما سمى «لتؤمننّ» خبرا لأنه الدال على المقصود بالأصالة لأنه وحده هو الخبر بالحقيقة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 وإنه لا قسم مقدر بل «بل أخذ الله ميثاق النبيين» هو جملة القسم، وقد يقال: لو أراد هذا لم يحصر الدليل فيما ذكر للاتفاق على وجود المضارع مفتتحا بلام مفتوحة مختتما بنون مؤكدة وهو دليل قاطع على القسم وإن لم يذكر معه أخذ الميثاق أو نحوه. ج- إن تجويزه كون العائد ضمير استقر يقتضي عود ضمير مفرد إلى شيئين معا فإنه عائد إلى الموصول. د- إنه جوّز حذف العائد المجرور مع أن الموصول غير مجرور، فإن قيل: اكتفى بكلمة به الثانية فيكون كقوله: لو أنّ ما عالجت لين فؤادها ... فقسا استلين به للان الجندل قلنا قد جوز على هذا الوجه عود «به» المذكورة إلى «الرسول» لا إلى «ما» . هـ- إنه سمى ضمير آتيتكم مفعولا ثانيا وإنما هو مفعول أول. 2- اللام الموطئة للقسم: هي الداخلة على شرط وسميت موطئة لأنها توطئ ما يصلح أن يكون جوابا للشرط وللقسم فيصير جواب الشرط محذوفا إذ ذاك لدلالة جواب القسم عليه. [سورة آل عمران (3) : الآيات 82 الى 83] فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) الإعراب: (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ) كلام مستأنف للرد على أهل الكتاب الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 اختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم والفاء استئنافية ومن شرطية في محل رفع مبتدأ تولى فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وبعد ظرف متعلق بتولي وذلك اسم إشارة في محل جر بالإضافة (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الفاء رابطة لجواب الشرط وأولئك اسم إشارة مبتدأ وهم ضمير فصل لا محل له والفاسقون خبر أو «هم الفاسقون» مبتدأ وخبر والجملة خبر أولئك وجملتا فعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر «من» . (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري ودخلت على الفاء العاطفة جملة على جملة، والمعنى: فأولئك هم الفاسقون فغير دين الله يبغون، ثم توسطت الهمزة بينهما، ويجوز أن يعطف على محذوف تقديره: أيتولون فغير دين الله يبغون، وقد تقدمت الإشارة إلى ويبغون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون لأنه من الافعال الخمسة والواو فاعل (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) الواو حالية وله جار ومجرور متعلقان بأسلم، وأسلم فعل ماض والجملة في محل نصب حال ومن اسم موصول فاعل أسلم وفي السموات جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة والأرض عطف على السموات وطوعا وكرها مصدران منصوبان على الحالية بمعنى طائعين أو كارهين أو على أنهما مفعولان مطلقان لفعلين محذوفين والأول أولى (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) الواو عاطفة وإليه جار ومجرور متعلقان بيرجعون ويرجعون قرىء بالتاء والياء وهو فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع بثبوت النون والواو نائب فاعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 [سورة آل عمران (3) : آية 84] قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) اللغة: (الْأَسْباطِ) : جمع سبط بكسر السين، وهو ولد الولد. ويغلب على ولد البنت، مقابل الحفيد الذي هو ولد الابن. والأسباط من اليهود مقابل القبيلة من العرب. الإعراب: (قُلْ: آمَنَّا بِاللَّهِ) كلام مستأنف مسوق للطلب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول هو وأصحابه: آمنا بالله. ولذلك وحد الضمير في قوله: «قل» ، وجمعه في قوله: «آمنا» . وقل فعل أمر وفاعله أنت وآمنا فعل ماض وفاعل وجملة آمنا مقول القول وبالله جار ومجرور متعلقان بآمنا (وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا) الواو عاطفة وما اسم موصول معطوف على الله وجملة أنزل علينا صلة الموصول (وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) الواو حرف عطف وما اسم معطوف على ما الأولى وأنزل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هو وجملة أنزل صلة وعلى إبراهيم جار ومجرور متعلقان بأنزل والأسماء المتعاقبة عطف على إبراهيم (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) عطف على ما تقدم، وأوتي فعل ماض مبني للمجهول وموسى نائب فاعل وما بعده عطف عليه ومن ربهم جار ومجرور متعلقان بأوتي (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) لا نافية ونفرق فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره نحن وبين ظرف مكان متعلق بنفرق، وأحد مضاف إليه ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 لأحد والجملة حالية (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) الواو حالية أو استئنافية ونحن مبتدأ وله جار ومجرور متعلقان ب «مسلمون» . ومسلمون خبر نحن والجملة إما نصب على الحال وإما مستأنفة لا محل لها. [سورة آل عمران (3) : الآيات 85 الى 89] وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) الإعراب: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) كلام مستأنف مسوق للشروع في الحديث عن المرتدين الذين لحقوا بالكفار، وكانوا اثني عشر رجلا ارتدوا وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفارا، منهم الحارث بن سويد الأنصاري. والواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويبتغ فعل الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وغير: لنا فيها وجهان إما أن تكون مفعولا به ليبتغ ودينا تمييز وإما أن تكون حالا لأنها كانت في الأصل صفة ل: دينا، ثم تقدمت عليه، ودينا على هذا الوجه مفعول به، فلن الفاء رابطة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 لجواب الشرط ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويقبل فعل مضارع مبني للمجهول منصوب بلن ومنه جار ومجرور متعلقان بيقبل وجملة لن يقبل منه في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) الواو للعطف وهو مبتدأ وفي الآخرة جار ومجرور متعلقان بالخاسرين ومن الخاسرين: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر هو والجملة عطف على جواب الشرط، ويحتمل أن تكون الواو استئنافية والجملة مستأنفة بمثابة الإخبار عن حاله في الآخرة (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) كلام مستأنف مسوق للحديث عن المرتدين الآنفي الذكر وقيل: نزلت بشأن اليهود أو المراد هؤلاء وأولئك. وكيف اسم استفهام معناه الجحد والنفي، أي لا يهدي الله وهو في محل نصب حال ويهدي فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء والله فاعل وقوما مفعول به وجملة كفروا صفة ل: قوما وبعد ظرف زمان متعلق بكفروا وإيمانهم مضاف إليه (وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ) هذا العطف من الدقائق إذ لا يصح عطفه على كفروا كما يبدو لأول وهلة لفساد المعنى فالأصح أن يعطف على ما في «إيمانهم» من معنى الفعل لأن معناه: بعد أن آمنوا بالله، فهو من باب العطف على التوهم. ويمكن أن يقال إن الواو لا تقتضي الترتيب فهي معطوفة على كفروا، ويجوز أن تكون الواو حالية بإضمار «قد» بعدها أي: وقد شهدوا، والأول أمكن في المعنى وأبعد عن الوهن. وأن واسمها وخبرها وهي وما في حيزها في محل نصب بنزع الخافض أي بأن الرسول حق فيكون الجار والمجرور متعلقين بشهدوا (وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) الواو عاطفة وجاءهم فعل ماض ومفعول به والبينات فاعل والجملة عطف على جملة شهدوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 ويجوز أن تكون الواو للحال بتقدير قد أي وقد شهدوا فالجملة نصب على الحال (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة لا يهدي خبر والقوم مفعول به والظالمين صفة القوم (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان جزائهم ومصيرهم، وأولئك اسم إشارة في محل رفع مبتدأ أول وجزاؤهم مبتدأ ثان وأن وما في حيزها خبر جزاؤهم والجملة الاسمية خبر اسم الإشارة وعليهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر أن المقدم، ولعنة الله اسم أن المؤخر (وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) الواو حرف عطف والملائكة عطف على الله والناس عطف أيضا وأجمعين تأكيد مجرور وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم (خالِدِينَ فِيها) خالدين: حال وفيها جار ومجرور متعلقان بخالدين (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) الجملة حال ثانية ولا نافية ويخفف فعل مضارع مبني للمجهول وعنهم جار ومجرور متعلقان بيخفف والعذاب نائب فاعل (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) الواو عاطفة ولا نافية وهم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ وينظرون أي يمهلون فعل مضارع والواو نائب فاعل والجملة في محل رفع خبر «هم» والجملة عطف على جملة لا يخفف (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) إلا أداة استثناء والذين مستثنى وجملة تابوا لا محل لها لأنها صلة الموصول (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) جار ومجرور متعلقان بتابوا، وذلك اسم إشارة في محل جر بالإضافة (وَأَصْلَحُوا) الجملة معطوفة على جملة تابوا (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الفاء هي الفصيحة وإن واسمها، وغفور خبرها الأول ورحيم خبرها الثاني. هذا وقد اختلف في إعراب جملة الاستثناء وأكثر المعربين يعربونها حالا متداخلة أي حالا من حال، لأن خالدين حال من الضمير في «عليهم» وأعربها آخرون جملة مستأنفة وهي بذلك مسوقة لبيان خلودهم في النار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 وجدير بالذكر أن الذي تاب هو الحارث بن سويد بن الصامت الانصاري حين ندم على ردته وأرسل إلى قومه الأنصار يقول: سلوا هل لي من توبة؟ فأرسل إليه أخوه الجلاس الآية، فأقبل إلى المدينة فتاب وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نوبته. [سورة آل عمران (3) : الآيات 90 الى 91] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) كلام مستأنف مسوق للحديث عن اليهود الذين كفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل بعد إيمانهم بموسى والتوراة ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وقيل هي عامة، وإن واسمها، وجملة كفروا لا محل لها لأنها صلة الموصول وبعد ظرف زمان متعلق بكفروا وإيمانهم مضاف إليه (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وازدادوا فعل ماض والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل وكفروا تمييز محول عن الفاعل أي: ازداد كفرهم، وزاد يتعدى لاثنين ومطاوعه يتعدى لواحد فقط (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) لن حرف نصب وتقبل فعل مضارع مبني للمجهول منصوب بلن وتوبتهم نائب فاعل والجملة خبر إن (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) الواو حرف عطف أو استئنافية لئلا نحتاج إلى تقدير في عطف الجملة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 الاسمية على الجملة الفعلية وقيل هي للحال، والمعنى لن تقبل توبتهم من الذنوب في حال أنهم ضالون وأولئك اسم إشارة. وهم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ ثان والضالون خبر «هم» والجملة الاسمية في محل رفع خبر اسم الإشارة أو «هم» ضمير منفصل لا محل له الضالون خبر أولئك (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) جملة مستأنفة مسوقة لتأكيد ما تقدم وإن واسمها، وجملة كفروا صلة الموصول وماتوا عطف على كفروا وهم الواو حالية وهم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ وكفار خبر والجملة نصب على الحال (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) الفاء رابطة للجواب لما في الموصول من رائحة الشرط وإنما دخلت الفاء هنا ولم تدخل في قوله «لن تقبل منهم» لأن الفاء مؤذنة بالاستحقاق بالوصف السابق، وهنا قال «وماتوا وهم كفار» ولم يصرح هناك بهذا القيد، ولن حرف نصب ويقبل فعل مضارع مبني للمجهول منصوب بلن والجملة خبر إن ومن أحدهم جار ومجرور متعلقان بيقبل وملء نائب فاعل والأرض مضاف إليه وذهبا تمييز وقد اختلف في ناصبه اختلافا حدا بالكسائي إلى ترجيح نصبه بنزع الخافض ولعله أرجح (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) الواو عاطفة على محذوف وسيأتي حكمها في باب الفوائد لو شرطية غير جازمة وافتدى فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف وفاعله هو وبه جار ومجرور متعلقان بافتدى (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الجملة برأسها خبر ثان لإن وأولئك اسم إشارة مبتدأ ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر اسم الإشارة وأليم صفة (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) الواو عاطفة وما نافية ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومن حرف جر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 زائد وناصرين مجرور بمن لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ مؤخر. الفوائد: 1- العطف على التوهم: جعل جمهور النحاة العطف على التوهم مطردا، وهو أن تتوهم أن الأمر جار على الأصل فتعطف عليه كقول زهير بن أبي سلمى: بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئا إذا كان جائيا بعطف سابق على توهم زيادة الباء في خبر ليس أي لست بمدرك ولا سابق، وقول الآخر: مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا ببين غرابها أي ليسوا بمصلحين ولا ناعب. 2- زعم نحويو البصرة أنه نصب الذهب لاشتغال الملء بالأرض، ومجيء الذهب بعدهما، فصار نصبها نظير نصب الحال، وذلك أن الحال يجيء بعدها فعل قد شغل بفاعله فينصب كما ينصب المفعول الذي يأتي بعد الفاعل الذي قد شغل بفاعله. قالوا: ونظير قوله: ملء الأرض ذهبا، في نصب الذهب في الكلام: لي مثلك رجلا، بمعنى لي مثلك من الرجال. وزعموا أن نصب الرجل لاشتغال الإضافة بالاسم، فينصب كما ينصب المفعول به لاشتغال الفعل بالفاعل. 3- استشكل جماعة من المفسرين قوله تعالى: «فلن تقبل توبتهم» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 مع كون التوبة مقبولة كما في الآية الأولى وكما في قوله تعالى: «وهو الذي يقبل التوبة عن عباده» وغير ذلك، فقيل: لن تقبل توبتهم عند الموت. قال النحاس: وهذا قول حسن، كما قال تعالى: «وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال: إني تبت الآن» . وقيل: الأولى أن يحمل عدم قبول التوبة في هذه الآية على من مات كافرا غير تائب، فكأنه عبر عن الموت على الكفر بعدم قبول التوبة، أو تابوا في الآخرة عند معانية العذاب، كما أشير إليه بقوله تعالى: «ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا» إلخ وبقوله تعالى: «فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا» . 4- الواو المصاحبة للشرط تستدعي شرطا آخر يعطف عليه الشرط الذي اقترنت الواو به، والعادة في مثل ذلك أن يكون المنطوق منبها على المسكوت عنه بطريق الأولى. مثاله قولك: أكرم فلانا ولو أساء، فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف تقديره: أكرم فلانا لو أحسن ولو أساء، إلا إنك نبهت بإيجاب إكرامه ان أساء، على أن إكرامه إن أحسن بطريق الأولى، والافتداء بملء الأرض ذهبا هو جدير بالقبول، فإن لم يقل فبطريق الأولى أن لا يقبل الافتداء بأقل من ذلك، وهذا من دقائق النكت وأسرار لغتنا التي لا تقف عند مدى. [سورة آل عمران (3) : الآيات 92 الى 94] لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 اللغة: (حِلًّا) الحلّ: بكسر الحاء مصدر حلّ، يقال: حل الشيء حلالا وحلا. ويستوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع. الإعراب: (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) : كلام مستأنف مسوق لبيان ما ينفع المؤمنين ويقبل منهم إثر بيان ما لا ينفع الكفار ولا يقبل منهم، ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتنالوا فعل مضارع منصوب بلن وعلامة نصبه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل والبر مفعول به وحتى حرف غاية وجر وتنفقوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد حتى والواو فاعل ومما جار ومجرور متعلقان بتنفقوا وجملة تحبون لا محل لها لأنها صلة «ما» الموصولية. واعلم أنّ هذه الآية وردت منظومة من غير قصد، فلا تعد شعرا، لأن الشعر عند العروضيين هو المنظوم بقصد، وهذه الآية بيت كامل من مجزوء الرّمل، ويأتي على الشكل التالي: لن تنالوا البرّ حتى ... تنفقوا مما تحبّون وسيرد الكثير من الآيات الموزونة بغير قصد الشعر. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) الواو استئنافية وما اسم شرط جازم في محل نصب مفعول به مقدم لتنفقوا وتنفقوا فعل الشرط مجزوم والواو فاعل ومن شيء جار ومجرور متعلقان بتنفقوا فإن الفاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 رابطة لجواب الشرط المحذوف بمثابة التعليل له، وقد وقعت موقعه والتقدير: فيجازيكم بحسبه ومقداره فإنه عليم بكل شيء، وإن واسمها، وعليم خبرها وبه: جار ومجرور متعلقان بعليم (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) كلام مستأنف مسوق لتفنيد تخرصات اليهود إذ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك تزعم أنك على ملة إبراهيم، وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل ولا ألبانها، وأنت تأكل ذلك وتشربه، فلست على ملته. وكل مبتدأ وجملة كان حلا خبره وكان فعل ماض واسمها هو وحلا خبرها ولبني إسرائيل جار ومجرور متعلقان بقوله «حلا» وإسرائيل مضاف إليه مجرور بالفتحة لأنه ممنوع من الصرف والمانع له العلمية والعجمة (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) إلا أداة استثناء وما اسم موصول في محل نصب على الاستثناء من اسم كان المستتر وجملة حرم لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول وإسرائيل فاعل وعلى نفسه جار ومجرور متعلقان بحرم والمراد بإسرائيل يعقوب وجملة الاستثناء حالية (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) اختلف المعربون في تعليق من قبل والظاهر أنه متعلق ب «حلا» لمناسبة المعنى وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مضاف لقبل والتوراة نائب فاعل (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الجملة مستأنفة مسوقة لقطع الطريق على جوابهم والفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدر أي إذا كنتم واثقين من أقوالكم وأصررتم عليها فأتوا بالتوراة، وأتوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وبالتوراة متعلقان بأتوا والجملة مقول القول، فاتلوها الفاء عاطفة واتلوها فعل أمر مبني على حذف النون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 والواو فاعل والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وصادقين خبرها وجواب الشرط محذوف دل عليه «فأتوا بالتوراة» (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) جملة مستأنفة مسوقة لوصف المفترين بالظالمين والفاء استئنافية ومن اسم شرط غير جازم في محل رفع مبتدأ وافترى فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله ضمير مستتر يعود على «من» ، وعلى الله جار ومجرور متعلقان بافترى والكذب مفعول به (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الجار والمجرور متعلقان بافترى أو بمحذوف حال (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الفاء رابطة لجواب الشرط وأولئك اسم إشارة مبتدأ وهم مبتدأ ثان والظالمون خبر «هم» والجملة الاسمية خبر اسم الإشارة وهم ضمير فصل، والظالمون خبر أولئك وجملة الإشارة وما بعدها في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر «من» . [سورة آل عمران (3) : الآيات 95 الى 97] قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) اللغة: (بكة) لغة في مكة، وسميت مكة لأنها قليلة الماء تقول العرب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 ملك الفصيل ضرع أمه وأمكه إذا امتص ما فيه من اللبن. وفي القاموس ما يدل على أنها سميت بذلك لأنها تمك الذنوب أي تمحوها وتزيلها. أما بكة فقد سميت بذلك لأنها تبك أعناق الجبابرة، أي تذلهم وتهلكهم. وقيل: من بكه إذا زحمه، سميت بذلك لازدحام الناس فيها. قال: إذا الشريب أخذته الاكه ... فخله حتى يبك بكه هذا وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة منها مكة وبكة والبيت العتيق والبيت الحرام والبلد الأمين والمأمون وأم رحيم وأم القرى وصلاح والعرش والقادس لأنها تطهر من الذنوب والمقدسة والناسة بالنون وبالباء أيضا والحاطمة والرأس وكوثاء والبلدة والبنية والكعبة. الإعراب: (قُلْ: صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) كلام مستأنف مسوق للتعريض بكذبهم أي ثبت أن الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون. وقل فعل أمر مبني على السكون وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت وصدق الله فعل ماض وفاعل والجملة في محل نصب مقول القول فاتبعوا: الفاء هي الفصيحة أي إذا أردتم النجاة بعد أن ثبت لكم ذلك على الوجه الأكمل فاتبعوا، واتبعوا فعل أمر مبني على حذف النون لأن مضارعه من الأفعال الخمسة والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل وملة مفعول به وإبراهيم مضاف إليه وحنيفا حال (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الواو حالية وما نافية وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره هو يعود على إبراهيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 ومن المشركين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كان (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) كلام مستأنف مسوق للدلالة على أن أول مسجد وضع للناس هو المسجد الحرام ثم بيت المقدس وأول من بناه إبراهيم عليه السلام، وإن واسمها وبيت مضاف إليه ووضع فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هو وللناس جار ومجرور متعلقان بوضع والجملة صفة لبيت والذي اللام المفتوحة هي المزحلقة والذي اسم موصول في محل رفع خبر إن وببكة جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول (مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) مباركا حال من اسم الموصول أو من الضمير المستكن في متعلق الجار والمجرور وهدى عطف على مباركا وللعالمين جار ومجرور متعلقان بهدى أي هاديا لهم (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم وآيات مبتدأ مؤخر وبينات صفة لآيات والجملة مستأنفة لبيان بركته وهداه، ومقام مبتدأ خبره محذوف أي منها مقام إبراهيم أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره أحدها أي أحد تلك الآيات البينات مقام ابراهيم والجملة استئنافية. وسترى في باب الفوائد مناقشة طريفة وما أوردناه هو الأولى (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) الواو استئنافية ومن شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويجوز أن تكون موصولية ودخله فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاعل هو والهاء مفعول به على السعة أو منصوب بنزع الخافض وقد تقدم إعرابه وكان فعل ماض ناقص في محل جزم جواب الشرط واسمه هو وآمنا خبر كان وفعل الشرط وجوابه خبر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 الشرطية والموصولة (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لفرض الحج والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وعلى الناس جار ومجرور متعلقان بما تعلق به الخبر وهو «لله» وحج مبتدأ مؤخر والبيت مضاف إليه ومن اسم موصول في محل جر بدل من الناس بدل بعض من كل أو اشتمال والضمير محذوف أي منهم وأعربها بعضهم فاعلا ب «حج» وفيه نظر يأتيك تفصيله الممتع في باب الفوائد، وجملة استطاع صلة الموصول وإليه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لسبيلا فلما تقدمت عليه أعربت حالا (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ أو اسم موصول وكفر فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله هو والفاء تعليل لجواب الشرط المقدر أي فلن يضر الله فان الله عنه غني، وعلى كل حال فالجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول وفعل الشرط وجوابه خبر وإن حرف مشبه بالفعل والله اسمها وغني خبرها وعن العالمين جار ومجرور متعلقان بغني. الفوائد: 1- للنحاة كلام طويل اشتجر فيه الخلاف بينهم وشايعهم المفسرون فهاموا في كل واد، حتى كاد يفوتهم المراد، ولو أنهم جنحوا الى السهولة لاختاروا الوجه الذي اخترناه فأراحوا واستراحوا، ولكنهم خاضوا في القول واستغلوا طاقاتهم النحوية القوية، فأتوا في مناقشاتهم بالممتع المطرب، وسنعرض لك هنا خلاصة عن تلك المناقشات لتكون تسجيلا تاريخيا لاشتجار الآراء وشاهدا لموضوعية الفكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 قال الزمخشري: مقام: عطف بيان من آيات، ورد عليه النحاة فقالوا: إنه خرق لإجماع النحاة الذين قرروا أن النكرة لا تبين بالمعرفة وجمع المؤنث السالم لا يبين بالمفرد المذكر. وقالوا: لا يجوز أن يكون بدلا من آيات لأنهم نصوا على أن المبدل منه إذا كان متعددا وكان البدل غير واف بالعدة تعين القطع. ورد عليهم أنصار الزمخشري بأنه أي الزمخشري كان مجتهدا فلا يبالي بمخالفة الإجماع. وابن جني أجاز خرق الإجماع: وقال ابن جني: إنه يجوز خرق الإجماع في الفنون الأدبية. ما يقوله جلال الدين السيوطي: وقال الجلال السيوطي في حاشيته على البيضاوي ما نصه: «قوله، مبتدأ محذوف خبره، أي أحد الوجوه في «مقام» قال الشهاب الحلبي: وهو المختار. وقال الزمخشري هو عطف بيان ورد عليه بأن «آيات» نكرة و «مقام إبراهيم» معرفة، ولا يجوز التخالف في عطف البيان بإجماع البصريين والكوفيين. وقال الصفاقسي: يحتمل أن يكون الزمخشري أطلق عطف البيان وأراد به البدل كالجماعة تسمحا، وكذلك قال ابن هشام في المغني: قد يكون عبر عن البدل بعطف البيان لتآخيهما. ويؤيده قوله في «أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم» أن «من وجدكم» عطف بيان لقوله: «حيث سكنتم» وهذا سيبويه إمام الصنعة يسمي التوكيد صفة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 وإنما نقلنا هذا الكلام وهو غيض من فيض- للاستمتاع وترويض الذهن، وقد أغنانا إعراب «مقام» مبتدأ خبره محذوف أو خبر لمبتدأ محذوف عن كل هذا التطويل. 2- المناقشة الثانية في «من استطاع» : ما ارتئيناه من إعراب «من» بدلا من «الناس» هو المختار، وقال بعض النحاة: «من» فاعل حج لأنه مصدر يعمل عمل فعله، والمصدر مضاف إلى مفعوله. ورد النحاة عليه بأنه يجب على الناس أن يحج مستطيعهم، وذلك باطل. وأجاب التاج السبكي عن ابن السيد فقال: ولا مانع من أن يكون في الحج شيئان: فرض كفاية على كل الناس أن يحج مستطيعهم فإن لم يحج أثم الخلق كلهم، وفرض عين على المستطيع. ولا حاجة إلى كل هذا التكلف، والاخذ والرد. وذلك باعراب «من» بدلا من الناس، فتأمل والله يرشدك. هذا وقد أعرب الكسائي «من» شرطية في محل رفع مبتدأ وجوابها محذوف والتقدير: من استطاع فليحج أو فعليه أن يباشر الحج بنفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 [المجلد الثاني] [تتمة سورة آل عمران] [سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 99] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) اللغة: (العوج) بكسر العين وفتحها، معروف، ولكن العرب فرقوا بينهما جريا على سلائقهم في التصرف بهذه اللغة الشريفة، فخصوا المكسور بالمعاني، والمفتوح بالأعيان. تقول: في كلامه عوج بالكسر. وفي الجدار عوج بالفتح. الإعراب: (قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق للإنكار على الذين يكفرون بآيات الله. وقل فعل أمر وفاعله أنت ويا حرف نداء للمتوسط وأهل الكتاب منادى مضاف ولم اللام حرف جر وما اسم استفهام إنكاري في محل جر باللام وحذفت ألف ما الاستفهامية لدخول حرف الجر عليها والجار والمجرور متعلقان بتكفرون وبآيات الله جار ومجرور متعلقان بتكفرون أيضا وجملة النداء استئنافية (وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) الواو حالية والله مبتدأ وشهيد خبر والجار والمجرور متعلقان بشهيد وجملة تعملون صله وجملة والله شهيد حالية (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) كلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 مستأنف لتأكيد الإنكار والتوبيخ وقد تقدم إعراب مثيلها. (مَنْ آمَنَ) من اسم موصول مفعول به لتصدون وجملة آمن لا محل لها لأنها صلة «من» (تَبْغُونَها عِوَجاً) الجملة حالية، وتبغونها فعل مضارع وفاعل ومفعول به وعوجا حال وقع فيها المصدر موضع الاسم المشتق أي معوجة وفي هذا الإعراب من المبالغة أنهم يطلبون أن تكون الطريقة المستقيمة نفس العوج على طريق المبالغة في مثل رجل صوم، ويكون ذلك أبلغ في ذمهم وتوبيخهم. وقيل: الهاء في تبغونها ضمير منصوب بنزع الخافض. وعبارة ابن جرير الطبري: «ومعنى قوله «تبغونها عوجا» تبغون لها عوجا» ، وعليه قول سحيم عبد بني الحسحاس: بغاك وما تبغيه حتى وجدته ... كأنك قد واعدته أمس موعدا يعني طلبك وما تطلبه يقال: ابغني كذا، يراد ابتغه لي، فإذا أرادوا: أعنّي على طلبه وابتغه معي، قالوا: أبغني بفتح الهمزة، وهو قول سليم. (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) الواو حالية وأنتم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ وشهداء خبر والجملة الاسمية حالية (وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) الواو للحال أيضا وما نافية حجازية والله اسمها المرفوع والباء حرف جر زائد وغافل مجرور لفظا منصوب محلا لأنه خبر «ما» وعما جار ومجرور متعلقان بغافل وجملة تعملون صلة ما الموصولية. [سورة آل عمران (3) : الآيات 100 الى 101] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) كلام مستأنف مسوق لإيراد خلة من خلال اليهود مستوحاة من العنصرية التي يتميزون بها، ويا حرف نداء للمنادى المتوسط وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب والهاء للتنبيه والذين بدل وجملة آمنوا صلة الموصول وإن شرطية وتطيعوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو فاعل وفريقا مفعول به ومن الذين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لقوله فريقا وجملة أوتوا الكتاب صلة والكتاب مفعول به ثان لأوتوا المبني للمجهول (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) يردوكم جواب الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو فاعل والكاف مفعول به أول ليردوكم وبعد ايمانكم ظرف متعلق بكافرين وكافرين مفعول به ثان (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق لتوجيه الإنكار والاستبعاد إلى كيفية الكفر عن طريق المبالغة، وكيف اسم استفهام إنكاري مبني على الفتح في محل نصب على الحال وتكفرون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وأنتم الواو حالية وأنتم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ وتتلى فعل مضارع مبنى للمجهول والجملة خبر وعليكم جار ومجرور متعلقان بتتلى وآيات الله نائب فاعل (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) الواو حالية أو عاطفة وفيكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ورسوله مبتدأ مؤخر (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويعتصم فعل الشرط وفاعله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 ضمير مستتر تقديره هو وبالله جار ومجرور متعلقان بيعتصم فقد: الفاء رابطة للجواب وقد حرف تحقيق وهدي فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل هو والى صراط جار ومجرور متعلقان بهدي ومستقيم صفة وجملة فقد هدي في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من. الفوائد: لمحة تاريخية: لليهود أصالة راسخة في إحداث التفرقة بين الأمم والشعوب ليضمنوا لأنفسهم السيادة والاستعلاء المزعومين، وهي خلة من خلال اليهود مستوحاة من العنصرية التي يتميزون بها، ويشتدون في الدعاية لها. وفي معرض نزول هذه الآية يروي التاريخ أن شاسا بن قيس اليهودي، وكان شيخا طاعنا في السن، ممعنا في اللجاجة واللدد، يكره المسلمين ويتربص بهم الدوائر للإيقاع بهم وتفريق شملهم الملتئم، مرّ شأس هذا بنفر من الأوس والخزرج وهم في مجلس يتحدثون فيه فغاظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة والبغضاء في الجاهلية. فقال: والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار. فأمر شابا من اليهود وكان معه فقال له: اعمد إليهم واجلس معهم وذكرهم يوم بعاث وما كان فيه، وأنشدهم بعض ما كانوا يتناشدونه من أشعار تستهدف إثارة الحفائظ (وبعاث بضم الباء وهو يوم مشهور اقتتل فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس) ففعل الشاب اليهودي ما أمره به شاس، فتنازع عند ذلك القوم، وانبعثت أسباب الخصام من جديد، وتفاخروا وتغاضبوا وتبادلوا الشتائم، وتنادوا: السلاح السلاح، وكادوا يمتشقون السيوف: فبلغ ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار، فقال: يا معشر المسلمين! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإسلام، وقطع عنكم إصر الجاهلية، وألف بين قلوبكم، ترجعون الى ما كنتم عليه كفارا؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم، وبكوا وعانق بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله سامعين مطيعين. فما كان يوم أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 102 الى 103] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) اللغة: (وَاعْتَصِمُوا) الاعتصام: الالتجاء والتمسك، وأنا معتصم بفلان ومستعصم به ومعتصم بحبله، ونحن في عصمة الله، وكل ما عصم به الشيء- أي: حفظ وصين- فهو عصام. وللعين والصاد- إذا كانتا فاء وعينا للكلمة- خصائص لغوية رائعة، فهما تدلان على الشدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 والمنعة وما هو بمعناهما من الحفظ والتأبي، فيقال: فلان لا تعصب سلماته، أي: لا يقهر، قال الكميت بن زيد: ولا سمراتي يبتغيهن عاضد ... ولا سلماتي في بجيلة تعصب وفلان معصوب الخلق: مطويه مكتنز اللحم. وكانوا إذا سودوا إنسانا عصبوه. وهذا يوم عصيب وعصبصب أي: شديد. وفلان يتعصب لقومه. وعصر معروف، ولا بد من استعمال شدة في العصر، وهذا أمر قد تعصرت الشبيبة به وبلغت الأشد عليه. والمعصرات: السحب التي تمطر الماء. وعصفت الريح فهي عاصف ومعصفة، وهي أشد، وعصف بهم الدهر: أودى بهم وأبادهم، قال عدي بن زيد: ثم أضحوا عصف الدهر بهم ... وكذاك الدهر حالا بعد حال وجعلهم كعصف مأكول معروف، ويقال للجائع: صاحت عصافير بطنه، وهو تعبير عامي فصيح، أي: صوتت بشدة. وسمي العصفور لأنه لا ينفك عن الزقزقة. ووهب النعمان للنابغة مائة من عصافيره، وهي نجائب كانت له، انتهت في يوم دارة مأسل، قال ذو الرمة: نجائب من ضرب العصافير ضربها ... أخذنا أباها يوم دارة مأسل ولو شئنا الاستقصاء لأسمعناك العجب العجاب فحسبنا ما تقدم. (شَفا) الشفا: طرف الحفرة، بالتذكير والتأنيث. وسيأتي المزيد من الكلام عنها في باب الفوائد. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ) كلام مستأنف مسوق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 لما فيه تكميل المؤمنين لأنفسهم، وقد تقدم إعراب النداء فجدد به عهدا. واتقوا فعل أمر والواو فاعل والله مفعول به وحق تقاته مفعول مطلق، والإضافة هنا من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، والأصل التقاة الحق، والتقاة مصدر تقدم تحقيقها (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) الواو حرف عطف ولا ناهية وتموتن فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين ضمير متصل في محل رفع فاعل والنون المشددة للتوكيد ولا محل لها وإلا أداة حصر والواو حالية وأنتم مبتدأ ومسلمون خبر والجملة الاسمية نصب على الحال (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) الواو عاطفة واعتصموا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وبحبل الله جار ومجرور متعلقان باعتصموا وجميعا حال ولا ناهية وتفرقوا فعل مضارع حذفت إحدى تاءيه جوازا، وأصله تتفرقوا مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) الواو حرف عطف واذكروا فعل أمر معطوف على اعتصموا ونعمة الله مفعول به وعليكم جار ومجرور متعلقان بنعمة (إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق باذكروا وجملة كنتم في محل جر بالإضافة إليها وكنتم فعل ماض ناقص واسمها، وأعداء خبرها والفاء عاطفة وألف فعل ماض وفاعله ضمير مستتر يعود على الله وبين ظرف متعلق بألف وقلوبكم مضاف إليه (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) الفاء عاطفة وأصبحتم فعل ماض ناقص والتاء اسمها وبنعمته جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وإخوانا خبر أصبحتم (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) عطف على ما تقدم وكان واسمها وعلى شفا حفرة جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها ومن النار جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لحفرة فأنقذكم عطف على كنتم ومنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 جار ومجرور متعلقان بأنقذكم (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف مفعول مطلق أو حال، وقد تقدم كثيرا، ويبين الله فعل مضارع وفاعل وآياته مفعول به والجملة مستأنفة ولعل واسمها، وجملة تهتدون خبرها وجملة الرجاء حالية. البلاغة: 1- الاستعارة التمثيلية في الاعتصام بحبل الله، فقد شبه الوثوق بالله والاعتماد على حمايته بحال من يمسك بحبل وثيق، وقد تدلى من مكان عال، فهو آمن من انقطاعه وانبتاته. وقد أراد بالحبل هنا القرآن الكريم، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «القرآن حبل الله المتين، لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد. من قال به صدق، ومن عمل به رشد، ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم» . 2- الطباق بين أعداء وإخوان. الفوائد: 1- الشفا في الأصل مذكر، وقد عاد الضمير عليه في الآية مؤنثا لأنه اكتسب التأنيث بإضافته الى الحفرة. والقاعدة المطردة هي أن المضاف المذكر قد يكتسب من المضاف إليه المؤنث تأنيثه وبالعكس، وشرط ذلك في الصورتين صلاحية المضاف للاستغناء عنه بالمضاف إليه مع صحة المعنى. فمن الأول قول الأغلب: طول الليالي أسرعت في نقضي ... نقضن كلي ونقضن بعضي فأنت «أسرعت» مع أنه خبر عن مذكر إلا أنه اكتسب التأنيث من «الليالي» . وعليه يفسر قول مجنون ليلى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا ومن التصوير الثاني قول الآخر: إنارة العقل مكسوف بطوع هوى ... وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا فذكر «مكسوف» مع أنه خبر عن مؤنث وهو «إثارة» لأنها اكتسبت التذكير من إضافتها إلى العقل وهذا باب هام فتأمل. 2- (أصبح) تستعمل لاتصاف الموصوف بصفة وقت الصباح، وتستعمل بمعنى صار فلا يلحظ فيها وقت الصباح بل مطلق الانتقال والصيرورة من حال إلى حال، قال الربيع بن ضبع: أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا [سورة آل عمران (3) : الآيات 104 الى 105] وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) الإعراب: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) كلام معطوف على ما قبله من عطف الخاص على العام مسوق لبيان رأس الخيرات. والواو حرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 عطف ولك أن تجعلها استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما تقدم واللام لام الأمر وهي تسكن بعد الواو والفاء وثم، وتكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلام الأمر ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم لتكن وأمة اسمها المؤخر وجملة يدعون الى الخير في محل رفع صفة لأمة ويجوز أن تكون جملة يدعون هي الخبر ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة تقدمت على الموصوف فأعربت حالا وإلى الخير جار ومجرور متعلقان بيدعون (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) الجملتان معطوفتان على جملة يدعون إلى الخير (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) تقدم إعرابها كثيرا (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) الواو عاطفة ولا ناهية وتكونوا فعل مضارع ناقص مجزوم بلا والواو اسمها وكالذين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها ولك أن تجعل الكاف اسما بمعنى مثل فتكون هي الخبر والذين اسم موصول في محل جر بالإضافة وجملة تفرقوا صلة الموصول (وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) الواو عاطفة واختلفوا عطف على تفرقوا ومن بعد جار ومجرور متعلقان باختلفوا وما مصدرية مؤولة مع جاءهم البينات بمصدر مضاف لبعد والهاء مفعول به مقدم والبينات فاعل مؤخر (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) الواو استئنافية أو عاطفة واسم الإشارة مبتدأ ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وعظيم صفة والجملة الاسمية في محل رفع خبر اسم الإشارة. البلاغة: 1- في الآية عطف الخاص وهو باب دقيق المسلك يبدو كأخذة السحر فهو يؤذن بمزيد العناية بالخاص، وتفصيل ذلك أن الدعوة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 إلى الخير عامة وإردافها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مؤذن باختصاصهما بمزيد من العناية وإظهار فضلهما على سواهما من الخيرات. 2- المقابلة: فقد طابق بين الأمر والنهي وبين المعروف والمنكر. [سورة آل عمران (3) : الآيات 106 الى 107] يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) الإعراب: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) الظرف متعلق بمحذوف تقديره: اذكر، فتكون الجملة مستأنفة مسوقة لبيان حال الفريقين. وجملة تبيض وجوه في محل جر باضافة الظرف إليها. ووجوه فاعل، وتسود وجوه عطف على تبيض وجوه (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) الفاء للتفريع وفيها معنى الاستئناف فتكون الجملة مستأنفة وأما حرف شرط وتفصيل والذين اسم موصول في محل رفع مبتدأ وجملة اسودت وجوههم صلة (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) الجملة مقول قول محذوف مع الفاء الرابطة لجواب أما، أي: فيقال لهم: أكفرتم، وجملة «فيقال» خبر الذين وهي جواب «أما» وشرط «أما» لا يذكر صريحا بل التزموا حذفه. ويظهر عند حل المعنى والتعبير بما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 نابت عنه «أما» وهو مهما، والتقدير: مهما يكن من شيء فأما الذين اسودت يقال لهم كذا، فاحفظه وقس عليه، والهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي وكفرتم فعل وفاعل وبعد ظرف متعلق بكفرتم وإيمانكم مضاف إليه (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عما هو مقدر أي إذا عرفتم ذلك فذوقوا العذاب، وبما جار ومجرور متعلقان بذوقوا وما مصدرية وهي مع مدخولها في محل جر بالباء أي بسبب كفركم وجملة تكفرون في محل نصب خبر كنتم (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ) تقدم إعرابها (فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) الفاء رابطة لجواب أما والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر الذين وهم مبتدأ وفيها جار ومجرور متعلقان بخالدون وخالدون خبرهم وجملة هم فيها خالدون حالية. البلاغة: 1- في هذه الآية فن التدبيج وهو فن دقيق المسلك، حلو المأخذ، رشيق الدلالة، وحده أن يذكر الشاعر أو الناثر لونين أو أكثر، يقصد بذلك الكناية أو التورية عما يريد من أغراض، وقد لا يقصد غير الوصف. فالبياض والسواد لونان متضادان، والتضاد يعني التطابق، ولكنه كنى بهما عن فريقين من الناس، فمن كان من أهل الحق وسم ببياض اللون ونصاعته، ومن كان من أهل الباطل وسم بسواد الليل وحلكته، ولا يخفى ما في ذلك من التهويل، وتباين المصير المحتوم لكل من الفريقين. ومن طريف التدبيج في الشعر وما ينطوي عليه من كناية قول أبي تمام في رثاء محمد بن حميد الطوسي شهيد الجهاد: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 تردى ثياب الموت حمرا فما دجا ... لها الليل الا وهي من سندس خضر والتدبيج تفعيل من الدبج وهو النقش والتزيين، وأصل الديباج فارسي معرب. ومن طريفه قول صفي الدين الحلي: بيض صنائعنا سود وقائعنا ... خضر مرابعنا حمر مواضينا 2- الاستعارة في «ذوق العذاب» فقد شبهه بالمر مما يؤكل، ثم حذف المشبه به وأبقى شيئا من لوازمه وهو الذوق. ولا يخفى ما فيه من الشعور بالمرارة، وذلك على طريق الاستعارة التبعية المكنية. 3- المجاز المرسل في «رحمة الله» والعلاقة فيه الحالية، لأن الرحمة لا يحل فيها الإنسان وإنما يحل في مكانها، وهو الجنة. [سورة آل عمران (3) : الآيات 108 الى 109] تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) الإعراب: (تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) كلام مستأنف مسوق لبيان ما اشتمل على نعيم الأبرار وعذاب الكفار. واسم الإشارة مبتدأ وآيات الله خبره وجملة نتلوها عليك حالية أي متلبسة بالحق، فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أيضا (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) الواو استئنافية وما نافية حجازية والله اسمها وجملة يريد في محل نصب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 خبرها وظلما مفعول به وللعالمين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ل «ظلما» والعالمين مجرور بالياء نيابة عن الكسرة لأنه ملحق بجمع المذكر السالم (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الواو استئنافية ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وما اسم موصول مبتدأ مؤخر وفي السموات جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة للموصول لا محل له من الإعراب وما في الأرض عطف على «ما في السموات» (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) الواو حرف عطف وإلى الله جار ومجرور متعلقان بترجع وترجع فعل مضارع مبني للمجهول والأمور نائب فاعل. البلاغة: (التكرير) في هذه الآية فن التكرير. وقد اختلف أهل العربية في وجه تكرير الله تعالى ذكره اسمه مع قوله «وإلى الله ترجع الأمور» ظاهرا وقد تقدم اسمه ظاهرا في قوله «ولله ما في السموات وما في الأرض» فقال بعض البصريين: ذلك نظير قول العرب: وأما زيد فذهب زيد وكما قال الشاعر: ألا لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا فأظهر في موضع الإضمار. وقال بعض نحويي الكوفة ليس ذلك نظير هذا البيت لأن موضع الموت في البيت موضع كناية، أي ضمير، وليس ذلك كذلك في الآية، لأن قوله: «ولله ما في السموات وما في الأرض» خبر، ليس من قوله «وإلى الله ترجع الأمور» في شيء، وذلك أن كل واحدة من القصتين مفارق معناها معنى الأخرى، مكتفية كل واحدة منهما بنفسها، غير محتاجة الى الأخرى، وما قال الشاعر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 لا أرى الموت، محتاج إلى تمام الخبر عنه. وهذا القول الثاني عندنا أولى بالأرجحية، لأن كتاب الله عز وجل لا توجه معانيه، وما فيه من البيان، إلى الشواذ من الكلام والمعاني، وله في الفصيح من المنطق والظاهر من المعاني وجه صحيح موجود. [سورة آل عمران (3) : آية 110] كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) الإعراب: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) كلام مستأنف مسوق لبيان حال هذه الأمة في الفضل على غيرها من الأمم ولتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الجنوح إلى الخير والصدوف عن المنكر، وكان واسمها وخير أمة خبرها وقيل: كان تامة، أي وجدتم وخلقتم خير أمة، والأول أرجح وأخرجت فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هي، وللناس جار ومجرور متعلقان بأخرجت والجملة في محل نصب خبر ثان لكنتم وقيل نصب على الحال وقيل نعت لأمة والأوجه متساوية الرجحان (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) الجملة خبر ثالث لكنتم أو نصب على الحال، واختار الزمخشري أن تكون مستأنفة مبينة كونهم خير أمة، كما تقول: زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم وأرى انها مفسرة لا محل لها، وتأمرون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 والواو فاعل وبالمعروف جار ومجرور متعلقان بتأمرون ومثلها وتنهون عن المنكر (وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) الجملة معطوفة (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتكون جوابا عن سؤال فحواه: كيف قال ذلك مع أن غير الإيمان لا خير فيه حتى يقال: إن الإيمان خير منه، ولو شرطية وآمن فعل ماض مبني على الفتح وأهل الكتاب فاعل واللام واقعة في جواب لو، وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره هو يعود على المصدر وهو الإيمان المدلول عليه بفعله وخيرا خبر كان ولهم جار ومجرور متعلقان ب «خيرا» والجملة واقعة في جواب الشرط (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة لتكون جوابا عما ينشأ من لو الشرطية الدالة على انتفاء الإيمان، ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم والمؤمنون مبتدأ مؤخر وأكثرهم مبتدأ والفاسقون خبره. البلاغة: (المقابلة) في الآية فن المقابلة، فقد تعدّد الطباق بين تأمرون وتنهون وبين المعروف والمنكر وبين «المؤمنون» و «الفاسقون» ، وقد تقدم الكلام عن المقابلة. [سورة آل عمران (3) : الآيات 111 الى 112] لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 اللغة: (ثُقِفُوا) تقدم معناها فيما سبق وهي هنا بمعنى أدركوا وغلبوا وذلوا. ومن أقوالهم: طلبناه فثقفناه في مكان كذا، أي أدركناه. وثقفت العلم في أوحى مدة إذا أسرعت في أخذه. وكان أبو تمام ثقفا لقفا (باؤُ) : رجعوا. الإعراب: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) كلام مستأنف مسوق لبيان أن ضررهم منقطع يقع في فترات لا يؤبه لها. ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويضروكم فعل مضارع منصوب بحذف النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو فاعل والكاف مفعول به وإلا أداة حصر وأذى مفعول مطلق أي ضررا مقتصرا على أذى مؤقت لا يلبث أن يزول فالاستثناء مفرغ، وقيل: الاستثناء هنا منقطع، وعليه اقتصر ابن جرير الطبري، قال: وهذا من الاستثناء المنقطع الذي هو مخالف معنى ما قبله كما قيل: ما اشتكى شيئا إلا خيرا، وهذه كلمة محكية عن العرب سماعا (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) الواو عاطفة وإن شرطية ويقاتلوكم فعل الشرط مجزوم بحذف النون والواو فاعل والكاف مفعول به أول والأدبار مفعول ثان (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) ثم حرف عطف وتراخ وقد أتت هنا لمجرد الاستئناف ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 نافية وينصرون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو نائب فاعل، وسيأتي في باب البلاغة سر العدول عن العطف على الفعل المجزوم كما يقتضيه سياق الكلام، كأنه قال: ثم أخبركم أنهم لا ينصرون (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا) الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير ضرب الذلة على اليهود وضربت فعل ماض مبني للمجهول والتاء للتأنيث وعليهم جار ومجرور متعلقان بضربت والذلة نائب فاعل وأينما اسم شرط جازم منصوب على الظرفية المكانية متعلق بضربت وثقفوا فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط والواو نائب فاعل والجواب محذوف دل عليه ما قبله أي فقد ضربت عليهم (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ) إلا أداة استثناء والجار والمجرور في محل نصب على الاستثناء من أعم الأحوال فيكون مستثنى بمعنى الحال أي ضربت عليهم الذلة في أعم أحوالهم إلا في هذه الحالة وهي اعتصامهم بحبل من الله ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة، وعلى هذا فهو استثناء متصل، وقال آخرون: هو منقطع. وسيأتي مزيد بيان لهذا الإعراب في باب الفوائد (وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) عطف على قوله بحبل من الله (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) الواو حرف عطف وباءوا فعل ماض معطوف والواو فاعل والجملة عطف على جملة ضربت وبغضب جار ومجرور متعلقان بباءوا ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لغضب (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) عطف على ما تقدم وعليهم جار ومجرور متعلقان بضربت والمسكنة نائب فاعل ضربت وكرر الجملة تأكيدا للذلة المضروبة على اليهود (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان سبب ضرب الذلة والمسكنة على اليهود واسم الاشارة مبتدأ والاشارة الى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة وغضب الله، وبأنهم الباء حرف جر، وأن واسمها والمصدر المؤول من أن وما في حيزها في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 بمحذوف خبر اسم الإشارة، وكان واسمها، والجملة خبر «أنهم» ، وجملة يكفرون في محل نصب خبر كانوا وبآيات الله جار ومجرور متعلقان بيكفرون (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) عطف على ما تقدم والأنبياء مفعول به وبغير حق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) كلام مستأنف سيق لبيان تعليل العلة، فعصيانهم سبب لكفرهم وقتلهم الأنبياء، وهما سبب الذلة والمسكنة والغضب، واسم الإشارة مبتدأ والباء حرف جر وما مصدرية أي: بسبب عصيانهم، فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر «ذلك» ، وكان واسمها، وجملة يعتدون خبرها. البلاغة: اشتملت هاتان الآيتان على ضروب من البلاغة بلغت أسمى حدود الإعجاز ولئن أسهب علماء البلاغة، عليهم رضوان الله، في إظهار أسرارها، وسبر أغوارها واكتناه مخبآتها، فقد أتيح لنا أن نشهد بأم أعيننا مصير فلسطين بسبب اليهود، وبسبب ما نالوه من نجاح خالب مؤقت، وسنوجز القول فيما قاله علماء البلاغة أولا، ثم نعقب عليه بما استنتجناه بأنفسنا وحدسنا به من مآل اليهود الذي لا بد منه. 1- في الآية الأولى فن يقال له: «فن الإيضاح» ، وهو أن يذكر المتكلم كلاما في ظاهره لبس ثم يوضحه في بقية كلامه، والإشكال الذي يحله الإيضاح يكون في معاني البديع من الألفاظ وفي إعرابها، فإن في ظاهر هذه الآية إشكالين أحدهما من جهة الإعراب والآخر من جهة المعنى. فأما الذي من جهة الإعراب فعطف ما ليس بمجزوم على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 المجزوم، والذي من جهة المعنى أن صدر الآية يغني عن فاصاتها، لأن توليهم عند المقاتلة دليل على الخذلان، والخذلان والنصر لا يجتمعان والجواب أن الله سبحانه أخبر المؤمنين بأن عدوهم هذا إن قاتلهم انهزم ثم أراد تكميل العدة بإخبارهم أنه مع توليه الآن لا ينصر أبدا في الاستقبال فهو مخذول أبدا ما قاتلهم. ولو وقع الاقتصار على دون الفاصلة لم يوف الكلام بهذا المعنى المراد، لأنه لا يعطي قوله: «وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار» أنهم متى قاتلوهم كان الأمر كذلك فإن قولك: «إذا جاء زيد أكرمته» لا يلزم منه متى جاء على الدوام والاستمرار كان عليك الإكرام، وإنما يعطي أنه إن جاءك أكرمته لتلك الجيئة، ولعلمه سبحانه أن الاقتصار على ما هو دون الفاصلة لا يفهم منه دوام هذه البشارة إلى آخر الأبد، والمقصود ديمومتها، قال: «ثم لا ينصرون» ومنع الفعل الجزم وإن عطف على مجزوم ليبقى على المعنى الذي وضعت له صيغة المضارع من الدلالة على الحال والاستقبال، ونوى في الفعل الاستئناف لا العطف على ما تقدم، والله سبحانه يريد إدخال الطمأنينة في روع المؤمنين الذين تعاهدوا على الموت، لأن الاستشهاد في معمعان الوغى وصحصحان الجهاد هو مستهل حياة قشيبة جديدة هي حياة المجد والخلود على حد قول الشاعر: إن تسل أين قبور العظما ... فعلى الأفواه أو في الأنفس نقول: أراد الله سبحانه أن يؤكد للمؤمنين المجاهدين أن النصر سيكون حليفهم فأعقب الكلام الذي تم بجملة توضح اليقين وهي قوله: «ثم لا ينصرون» ليفيد الديمومة والاستمرار في الجهاد، وعدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 الاستسلام للعدو، ويبشرهم بأن عدوهم مخذول أبدا وأن عليهم أن يباشروا قتاله في كل وقت، وأن لا يهنوا إذا خيل إليهم أن عدوهم قد ظهر عليهم، فلا بد له أن يخذل في مستقبل الأيام، فإن تاريخ الأمة لا يحسب بحساب الزمن، ولا يعد بالسنين القليلة وإن حياة الأمم والشعوب ليست كحياة الافراد. والإشكال الثاني أنه عطف الفعل المضارع المرفوع على المضارع المجزوم، وهو يبدو للوهلة الأولى أو لأصحاب النظر السطحي المجرد أنه خلاف الأولى، ولكنه عدل عن الجزم إلى الرفع ليعلم أن عدم النصر لهم هو عهد قطعه الله على نفسه، ومن أصدق من الله حديثا أو عهدا وإن انتفاء النصر عنهم مستمر إلى الأبد، ولا عبرة في الحالات الطارئة، والظروف الاستثنائية المؤقتة التي تسنح لهم في الفترات الطويلة المتعاقبة التي ينتصرون فيها فعدل عن الجزم الذي يقتضيه سياق الكلام، كأنه قال ثم أخبركم مبشرا بأنهم لا ينصرون في المستقبل أبدا. كما أشرنا إلى ذلك في باب الإعراب. 2- والفن الثاني في هذه الآية هو: «فن التعليق» . وهو أن يتعلق الكلام إلى حين، ولذلك اختير لفظ «ثم» دون حروف العطف، لأنه يدل على المهلة الملائمة لدلالة الفعل المضارع على الاستقبال، كأنه قال: ثم هاهنا ما هو أعلى في الامتنان، وأسمى في مراتب الإحسان، وهو أن هؤلاء اليهود قوم لا ينصرون البتة مهما وأتتهم الامكانيات، ومهما أغدقت عليهم المساعدات. 3- والفن الثالث في هذه الآية هو فن المطابقة المعنوية بين نصر المؤمنين وخذلان الكافرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 4- والفن الرابع في هذه الآية هو: «فن الاحتراس» . لأن الكلام لو عطف بالواو مثلا لظن قصار النظر أنهم إنما وعدوا بالنصر في تلك الحالة ليس غير، فدفع هذا الظن بكلمة «ثم» التي تقطع قطعا لا يرين عليه الشك، بأن النتيجة الحتمية هي النصر المؤزر للمؤمنين، خشية أن يظن بعض الذين لا يحبون المسارعة الى الموت بأن الوعد بالنصر في تلك الحالة فقط، وأن الحرب قد تكون سجالا، وأنه قد يأتي دورهم بالنصر، فنفى سبحانه هذا الاحتمال، وقطع على هؤلاء الظانين الطريق لالتماس المعاذير للتخلف عن الجهاد. 5- والفن الخامس: هو الإيغال أي عدم الوقوف عند تولية الأدبار مع تمام الكلام، فأتم بما يوافق بقية الفواصل مع ما يكمل به المعنى التام. 6- ثم جاءت الآية الثانية مكملة للفنون التي تضمنتها الآيتان وذلك على الوجه التالي: آ- الكناية التي هي هنا عبارة عن نسبة، وقد تقدم ذكرها، وهي في ضرب الذلة والمسكنة عليهم كما يضرب البيت أو القبة على أهلهما على حد قول أبي الطيب المتنبي: إن في ثوبك الذي المجد فيه ... لضياء يزري بكل ضياء ب- الاستعارة التمثيلية في تشبيه التمسك بأسباب السلامة بالتمسك بالحبل الوثيق وقد تدلى من مكان عال، فهو آمن من مغبة السقوط والخذلان والارتطام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 فإذا أضفنا إلى ما تقدم من فنون ما تميزت به الآيتان من «حسن الافتتان» و «جمال النسق» و «روعة العبارة» و «نصاعة البيان» تبين لك الى أي مدى وصلتا اليه من إعجاز وسمو تميز بهما كتاب الله العظيم. الفوائد: اختلف أهل العربية في المعنى الذي جلب الباء في قوله تعالى: «إلا بحبل من الله وحبل من الناس» فقال بعض نحويي الكوفة وعلى رأسهم الفراء في كتابه «معاني القرآن» : الذي جلب الباء في قوله: بحبل، فعل مضمر قد ترك ذكره. ومعنى الكلام: ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا أن يعتصموا بحبل من الله، فأضمر في ذلك. واستشهد الفراء بقول حميد بن ثور الهلالي: رأتني بحبليها فصدت مخافة ... وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق وقال: أراد أقبلت بحبليها. ويقول أبي الطمحان القيني: حنتني حانيات الدهر حتى ... كأني خاتل أدنو لصيد قريب الخطو يحسب من رآني ... ولست مقيدا أني بقيد يريد مقيدا بقيد فأوجب إعمال فعل محذوف وإظهار صلته وهو متروك، وذلك في مذاهب العربية ضعيف، ومن كلام العرب بعيد. إلى أن يقول: وقال بعض نحويي البصرة: قوله: «إلا نحبل من الله» استثناء خارج من أول الكلام، قال الفراء: وليس ذلك بأشد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 من قوله: «لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما» ، وقال آخرون من نحويي الكوفة: هو استثناء متصل، والمعنى ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا أي بكل مكان إلا بموضع حبل من الله، كما تقول ضربت عليهم الذلة في الأمكنة إلا في هذا المكان. وهذا أيضا طلب الحق فأخطأ المفصل، وذلك أنه زعم أنه استثناء متصل، ولو كان متصلا كما زعم لوجب أن يكون إذا ثقفوا بحبل من الله وحبل من الناس غير مضروبة عليهم المسكنة، وليس ذلك صفة اليهود لأنهم أينما ثقفوا بحبل من الله وحبل من الناس أو بغير حبل من الله عز وجل وغير حبل من الناس فالذلة مضروبة عليهم، على ما ذكرنا عن أهل التأويل قبل فلو كان قوله: الا بحبل من الله وحبل من الناس، استثناء متصلا لوجب أن يكون القوم إذا ثقفوا بعهد وذمة أن لا تكون الذلة مضروبة عليهم، وذلك خلاف ما وصفهم الله به من صفتهم، وخلاف ما هم به من الصفة، فقد تبين بذلك فساد قول هذا القائل أيضا. تعليق ابن جرير: وقال أبو جعفر الطبري: ولكن القول عندنا أن الباء في قوله: إلا بحبل من الله، أدخلت لأن الكلام الذي قبل الاستثناء يقتضي في المعنى الباء، وذلك أن معنى قوله: ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا: ضربت عليهم الذلة بكل مكان ثقفوا فيه، ثم قال: إلا بحبل من الله وحبل من الناس، على غير وجه الاتصال بالأول، ولكنه على الانقطاع عنه، ومعناه: ولكن يثقفون بحبل من الله وحبل من الناس، كما قيل في: «وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ» ف «خطأ» وإن كان منصوبا بما عمل فيما قبل الاستثناء فليس قوله باستثناء متصل بالأول، بمعنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 إلا خطأ فإن له قتله كذلك، ولكن قد يقتله خطأ، فكذلك قوله: أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وإن كان الذي جلب الباء التي بعد إلا الفعل الذي يقتضيها قبل إلا فليس الاستثناء بالاستثناء المتصل بالذي قبله، بمعنى أن القوم إذا لقوا فالذلة زائلة عنهم بل الذلة ثابتة بكل حال، ولكن معناه ما بيناه آنفا. وقد آن أن ننتهي من هذا البحث الذي طال بعض الطول ونحمد الله على أنه ألهمنا ما لم يلهم أحدا من قبل. ولعلهم لو امتد بهم العمر إلى أيامنا لأدركوه كما أدركناه، وسبروا غوره كما سبرناه. ولعل من خير حسن الختام أن ننبه إلى خطأ وقع فيه بعض الأئمة من المتقدمين وجل من تنزه عن الخطأ، فقد زعم بعض من لا تحصيل له أن المعطوف على جواب الشرط ب «ثم» لا يجوز جزمه البتة قال: لأن المعطوف على الجواب جواب، وجواب الشرط يقع بعده وعقبه، و «ثم» تقتضي التراخي فكيف يتصور وقوعه عقب الشرط؟ فلذلك لم يجزم مع «ثم» . وهذا فاسد واضح البطلان، وليس لنا أن نستشهد على بطلانه إلا بقوله تعالى: «وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم» ف «لا يكونوا» مضارع مجزوم نسقا على «يستبدل» الواقع جوابا للشرط والعاطف ثم. وبهذا يكتمل عقد هذا البحث الذي نزفه إلى العالمين العربي والإسلامي ليستبشروا فالنصر آت، وزوال هذه الدويلة المسخ وعد تنزلت به الآيات. ونقتبس هذه العبارة للزمخشري فهي خير ما يقال: «وحين رفع كان نفي النصر وعدا مطلقا كأنه قال: ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها، وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون، منتف عنهم النصر والقوة لا ينهضون بعدها بنجاح ولا يستقيم لهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 أمر، وكان كما أخبر من حال بني قريظة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر» ، والله الموفق للصواب. [سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 115] لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) اللغة: (الآناء) الساعات، واحدها أنى بفتح الهمزة والنون، بوزن عصا، أو إنى بكسر الهمزة وفتح النون بوزن معى، أو أني بفتح الهمزة وسكون النون بوزن ظبي، أو إني بكسر الهمزة وسكون النون بوزن حمل. الإعراب: (لَيْسُوا سَواءً) كلام مستأنف مسوق لبيان التفاوت بين أهل الكتاب، وليس واسمها وخبرها، والوقف تام على سواء (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) الجملة مستأنفة أيضا مسوقة لبيان ما أجمله، ولتعداد محاسن مؤمنى أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيد وأسيد بن عبيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 وأمثالهم من اليهود الذين أسلموا، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وأمة مبتدأ مؤخر وقائمة صفة، واختار الفراء أن تكون أمة مرفوعة على أنها فاعل سواء، ولا أدري كيف استقام له ذلك مع ما فيه من توهين نظام الجملة (يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) جملة يتلون صفة ثانية لأمة والواو فاعل يتلون وآيات الله مفعوله وآناء الليل ظرف زمان متعلق بيتلون وهم الواو للحال وهم مبتدأ وجملة يسجدون في محل رفع خبر (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الجملة صفة ثالثة لأمة والجار والمجرور متعلقان بيؤمنون واليوم عطف على الله والآخر صفة لليوم (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) جمل ثلاث معطوفة على جملة يؤمنون بالله (وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) الواو استئنافية واسم الإشارة مبتدأ والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر اسم الإشارة (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) الواو استئنافية وما شرطية في محل نصب مفعول به مقدم ليفعلوا ويفعلوا فعل الشرط مجزوم والواو فاعل والجار والمجرور في محل نصب على الحال والفاء رابطة ولن حرف نصب ويكفروه فعل مضارع منصوب بلن والواو نائب فاعل والهاء مفعول به ثان وقد نصب فعل كفر مفعولين لأنه تضمن معنى الحرمان والمنع وجملة فلن يكفروه في محل جزم جواب الشرط (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) الواو استئنافية والله مبتدأ وعليم خبره والجار والمجرور متعلقان بعليم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 116 الى 117] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 اللغة: (الصر) بكسر الصاد: الريح الباردة، كالصّرصر. قال حاتم الطائي: أوقد فإن الليل ليل قرّ ... والريح يا غلام ريح صر وسيأتي المزيد عنها في باب البلاغة. الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) كلام مستأنف مسوق لذكر خلة من خلال اليهود، وهي حبهم للمال وشراهتهم إليه، ومعاداتهم من أجله، على أن خصوص الحديث يفيد عمومه، فليس الحديث عن بني قريظة والنضير بمانع من شموله لكل من يجعل ديدنه حب المال والتطويح بكل خلق جميل في سبيله، وإن واسمها، وجملة كفروا صلة ولن حرف نصب وتغني فعل مضارع منصوب بلن وعنهم جار ومجرور متعلقان بتغني وأموالهم فاعل ولا أولادهم عطف على «أموالهم» ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، لأنه كان في الأصل نعت لقوله شيئا وتقدم عليه، وشيئا مفعول مطلق أو مفعول به وجملة لن تغني في محل رفع خبر إن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) الواو عاطفة وأولئك اسم إشارة مبتدأ وأصحاب النار خبره والجملة معطوفة على جملة لن تغني (هُمْ فِيها خالِدُونَ) هم مبتدأ وفيها جار ومجرور متعلقان بقوله خالدون وخالدون خبر «هم» والجملة خبر ثان لأولئك. َثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا) جملة مستأنفة مسوقة لضرب المثل في بيان كيفية عدم إغناء أموالهم التي كانوا يعولون عليها في دفع المضار النازلة بهم، ومثل مبتدأ وما اسم موصول في محل جر بالإضافة وجملة ينفقون صلة وفي هذه جار ومجرور متعلقان بينفقون والحياة بدل من اسم الإشارة والدنيا صفة للحياةَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مثل وريح مضاف اليه وفيها جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم مبتدأ مؤخر والجملة صفة ريحَ صابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ) جملة أصابت صفة ثانية لريح، وحرث قوم مفعول به لأصابت وجملة ظلموا في محل جر صفة لقوم وأنفسهم مفعول به لظلموا فأهلكته عطف على أصابتَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الواو استئنافية وما نافية وظلمهم الله فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ولكن مخففة من الثقيلة مهملة لمجرد الاستدراك وأنفسهم مفعول به مقدم ليظلمون ويظلمون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل. البلاغة: 1- التشبيه التمثيلي فقد شبه سبحانه ما أنفقوه في عدم جدواه وقلة غنائه بالحرث الذي عصفت به الريح الصر، وأصل الكلام: مثل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم فأصابته ريح فيها صرّ، ولكن خولف النظم في المثل المذكور لفائدة جليلة وهي تقديم ما هو أهم لأن الريح التي هي مثل العذاب ذكرها في سياق الوعيد والتهديد أهم من ذكر الحرث، فقدمت عناية بذكرها، واعتمادا على أن الأذواق والفطر المستقيمة تستطيع رد الكلام إلى أصله على أيسر وجه. وقد استدل الفقهاء بهذه الآية على أن صدقة الكفار لا تنفع أصحابها، لأن العقيدة هي الأصل، وعليها الاعتماد، وهذا أسمى ما يصل إليه البيان. 2- التتميم: وقد تقدم ذكره، وهو أن يأتي المتكلم بكلمة إذا طرحت من الكلام نقص معناه في ذاته أو صفاته، والتتميم هنا في كلمة «فيها صر» فإنها أفادت المبالغة كما أفادت التجسيد والتشخيص، كما تقول: برد بارد وليلة ليلاء ويوم أيوم، ثم قيد الصر بالظرفية، لأن الريح مطلقة ثم قيدها بالظرفية، وكل مقيد ظرف لمطلقه، لأن المطلق بعض المقيد، فحصل التجسيد والتشخيص. وهذه من عيون النكت البلاغية، فاحرص عليها والله يعصمك. [سورة آل عمران (3) : آية 118] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 اللغة: (بِطانَةً) بطانة الرجل بكسر الباء ووليجته من يطلعه على أسراره ثقة به وارتكانا على مودته. وهو مشبه ببطانة الثوب، وهي خلاف ظهارته. وفي مختار الصحاح: «وليجة الرجل خاصته وبطانته» ومنه قول الشاعر: وهم خلصائي كلهم وبطانتي ... وهم عيبتي من دون كل قريب (يَأْلُونَكُمْ) من ألا في الأمر أي قصر فيه. ويتعدى إلى مفعولين، لأنه يتضمن معنى المنع، يقال: لا آلوك نصحا، أي: لا أمنعك نصحا. وقيل: هو لازم لا ينصب مفعولا. وسيأتي ذلك مفصلا في باب الإعراب. (خَبالًا) الخبال بفتح الخاء: الفساد، وأصله ما يلحق الحيوان من مرض وفتور فيورثه فسادا واضطرابا، يقال: خبله بالتخفيف، وخبّله بالتشديد، فهو خابل ومخبّل، وذاك مجنون ومخبّل. (عَنِتُّمْ) العنت بفتح العين والنون: شدة الضرر والمشقة. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) كلام مستأنف مسوق لتحذير المؤمنين من موالاة اليهود، لما بينهم من أواصر قرابة وصداقة، والمراد إطلاقه، فموالاة المستعمر الأثيم لا تجوز مطلقا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 وقد تقدم إعراب النداء ولا ناهية وتتخذوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وبطانة مفعول به ومن دونكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبطانة أي كائنة من غيركم أو من غير أبناء جنسكم، ويجوز تعليقها بتتخذوا فيكون الجار والمجرور في موضع المفعول به الثاني لتتخذوا، وعلى الأول مفعول تتخذوا الثاني محذوف إيجازا، وتقديره أصفياء أو أولياء (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا) الجملة مستأنفة كأنها بمثابة البيان لحال البطانة الكافرة العدوة، وقيل هي صفة ثانية لبطانة، لا نافية ويألونكم فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والكاف مفعول به أول وخبالا مفعول به ثان. وإذا قلنا الفعل لازم فتكون الكاف في محل نصب بنزع الخافض أي: لا يألون لكم، وخبالا منصوب أيضا بنزع الخافض أي: في الخبال، ولك أن تنصبه على التمييز أو على أنه مصدر في موضع الحال (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) الجملة مستأنفة كسابقتها، وقيل: هي صفة ثالثة لبطانة، وكلاهما صحيح، وودوا فعل وفاعل وما مصدرية مؤولة مع ما في حيزها بمصدر هو المفعول به أي ودوا عنتكم وضرركم وسوء ثقتكم (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) الجملة مستأنفة أيضا أو هي صفة رابعة لبطانة، وقد حرف تحقيق وبدت فعل ماض مبني على الفتح المقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والبغضاء فاعل ومن أفواههم جار ومجرور متعلقان ببدت وعلقهما أبو البقاء بمحذوف منصوب على الحال. ومعنى ظهور البغضاء من أفواههم أنهم ينسبون بما ينم على البغضاء المركوزة في سلائقهم وخلالهم (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) الواو للحال أو للاستئناف، فالجملة حالية أو مستأنفة وما اسم موصول مبتدأ وجملة تخفي صلة وصدورهم فاعل تخفي وأكبر خبر «ما» (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) الجملة مستأنفة تفيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 التعليل مسوقة لتقرير أن الآيات المترادفة جديرة بحملكم على موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه، وقد حرف تحقيق وبينا فعل ماض وفاعل ولكم جار ومجرور متعلقان ببينا والآيات مفعول به وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسم كنتم وجملة تعقلون خبر كنتم، والجواب محذوف تقديره فلا توادوهم أبدا. البلاغة: 1- الاستعارة التصريحية في قوله بطانة إذ هي في الأصل بطانة الثوب المعروفة ثم استعيرت لخصيص الرجل وصفيه الذي يفضي إليه بذات نفسه وخلجات صدره. 2- الانفصال: وهو أن يقول المتكلم ما يوهم أنه معلوم ظاهر، ولكنه ينطوي على أمر وراء ذلك، وهو أبعد غاية وأسمى متناولا، وذلك في قوله «من أفواههم» فإن المعلوم أن المرء يعبر عما يكنه بفمه، والانفصال في ذلك التسجيل عليهم بأنهم لا يتمالكون أن تند عن ألسنتهم ألفاظ تنم على الشعور بالبغضاء والموجدة. 3- الطباق بين بدت وتخفي. الفوائد: اختلف علماء النحو والبيان في إعراب الجمل الواقعة بعد بطانة، وقد أجزنا أن تكون مستأنفات على وجه التعليل للنهي عن اتخاذهم بطانة من دون جنسكم وأبناء قومكم. وعليه جرى الزمخشري فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 «الأحسن والأبلغ أن تكون مستأنفات، ويجوز أن تكون صفات متعاقبة» . وقد منع الواحدي هذا الوجه لعدم وجود حرف العطف، وزعم أنه لا يقال: لا تتخذ صاحبا يؤذيك أحب مفارقتكم. على أنه يظهر لي أن الصفة تتعدد بغير عاطف كما يتعدد الخبر نحو «الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان» . بين ابن هشام والرازي: تعقب ابن هشام الإمام فخر الدين الرازي بصدد هذه الآية فقال مانصه: «وحصل للإمام فخر الدين في تفسير هذه الآية سهو، فإنه سأل: ما الحكمة في تقديم «من دونكم» على «بطانة» ؟ وأجاب بأنّ محط النهي هو «من دونكم» لا «بطانة» فلذلك قدم الأهم وليست التلاوة كما ذكر. وأبو حيان وهم وتبعه الصفاقسيّ والحلبيّ: ومضى ابن هشام في تعقيبه قائلا: ونظير هذا أن أبا حيان فسر في سورة الأنبياء كلمة «زبرا» بعد قوله تعالى: «وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ» وإنما هي في سورة المؤمنون، وترك تفسيرها هناك، وتبعه على هذا السهو رجلان لخصا من تفسيره إعرابا. قلت: أراد ابن هشام بالرجلين اللذين شاركا أبا حيان في سهوه هما الصفاقسي وشهاب الدين الحلبي المعروف بالسمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 [سورة آل عمران (3) : آية 119] ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) اللغة: (العض) : تحامل الأسنان بعضها على بعض، وعضه بأسنانه: تناوله، يقال: عضضت بكسر الضاد أعض عضا وعضيضا، والعض كله بالضاد إلا مع الزمان أو نحوه في قولهم: عظ الزمان أي اشتد، وعظت الحرب أي اشتدت، فإنهما يتبادلان. وللعين والضاد إذا كانتا فاء وعينا للكلمة خاصة غريبة خاصة، فهما تفيدان معنى الشدة والإيذاء وما يدخل في معناهما، قال الأخطل: ضجوا من الحرب إذ عضت غواربهم ... وقيس عيلان من أخلاقها الضجر والعضب الشتم والقطع، ولا يخفى ما فيهما من شدة ومن إيذاء وسيف عضب أي: قاطع، وشاة عضباء: مكسورة القرن، وعضده شد أزره وساعده، والمؤمن معضود بتوفيق الله، قال تعالى: «سنشد عضدك بأخيك» ، وداء معضل: صعب لا يحل، وبه مرض عضال، وقد أعيا الأطباء وأعضلهم، وأعضل الأمر، وتزوج ذو الإصبع فأتى حيه يسألهم مهرها فمنعوه فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 واحدة أعضلكم أمرها ... فكيف لو درت على أربع وفلان عضلة من العضل أي داهية من الدواهي. وهذا من أعجب ما يسمع عن هذه اللغة الشريفة. (الْأَنامِلَ) : جمع أنملة وهي رأس الإصبع. الإعراب: (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) جملة مستأنفة مسوقة لتنبيه المؤمنين على خطئهم بموالاة اليهود، وها للتنبيه وقرع العصا وأنتم مبتدأ وأولاء خبره، وقد تقدم أن اسم الإشارة لا بد من ذكره لوجود «ها» التي هي للتنبيه وجملة تحبونهم حالية أو مستأنفة كأنها بمثابة البيان لخطئهم وسوء اختيارهم لأصفيائهم وجملة ولا يحبونكم معطوفة على جملة تحبونهم وأعرب الجلال وغيره أولاء منادى أي يا هؤلاء فتكون جملة تحبونهم هي الخبر (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) يصح أن تكون الواو عاطفة فالجملة معطوفة على جملة تحبونهم، ويصح أن تكون الواو حالية فتكون الجملة نصبا على الحال، وبالكتاب جار ومجرور متعلقان بتؤمنون وكله تأكيد للكتاب، وفي هذا منتهى التنديد بهم، لأن مصافاة من لا يحبك أمر يستوجب اللوم والتنديد. هذا وقد منع أبو حيان أن تكون الواو حالية، لأن المضارع المثبت إذا وقع حالا لا تدخل عليه واو الحال، تقول: جاء زيد يضحك، ولا يجوز: ويضحك، وانتهى إلى القول: لكن الأولى ما ذكرناه من كونها للعطف (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) الواو استئنافية وإذا ظرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط وجملة لقوكم في محل جر بالإضافة وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة آمنا في محل نصب مقول القول (وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) الواو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة خلوا في محل جر بالإضافة وخلا فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل وجملة عضوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعليكم جار ومجرور متعلقان بعضوا والأنامل مفعول به ومن الغيظ جار ومجرور في محل نصب تمييز أي غيظا ويجوز أن تكون بمعنى اللام فتفيد العلة فيكون الجار والمجرور في محل نصب مفعول لأجله أي من أجل الغيظ (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) الجملة مستأنفة وجملة موتوا في محل نصب مقول القول وبغيظكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف نصب على الحال أي متلبسين يغيظكم (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) الجملة مستأنفة تفيد التعليل للأمر بالموت، والأسهل أن تكون من جملة المقول فتكون في محل نصب بالقول، وإن واسمها وخبرها، وبذات الصدور: جار ومجرور متعلقان بعليم. ومعنى ذات الصدور: المضمرات وخلجات النفوس، فذات تأنيث ذي، بمعنى صاحبة الصدور، وجعلت صاحبة الصدور لأنها لا تنفك عنها. البلاغة: 1- في هذه الآية فن الكناية، وعض الأنامل كناية عن صفة. وقد جرت عادة العرب على التعبير عن المغتاظ النادم على ما فعل بعضّ الأنامل والبنان، وقد طفحت أشعارهم بهذا التعبير، قال أبو طالب: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 وقد صالحوا قوما علينا أشحة ... يعضون عضا خلفنا بالأباهم 2- وفي الآية خروج الأمر عن معناه الحقيقي الى معنى الدعاء عليهم بديمومة غيظهم. الفوائد: ذهب الكوفيون إلى أن أسماء الإشارة إذا أريد بها التقريب كانت من أخوات كان في احتياجها إلى اسم مرفوع وخبر منصوب، نحو: كيف أخاف الظلم وهذا الخليفة قادما؟ وكيف أخاف البرد وهذه الشمس طالعة، وكذلك كل ما كان فيه الاسم الواقع بعد أسماء الإشارة لا ثاني له في الوجود نحو هذا ابن صياد أسقى الناس، فيعربون هذا للتقريب اسما ناقصا والمرفوع اسم التقريب والمنصوب خبر التقريب. وهو كلام منطقي، ولذلك أوردناه للاطلاع عليه. [سورة آل عمران (3) : آية 120] إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) الإعراب: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) كلام مستأنف سيق لبيان تناهي عداوتهم وافتنانهم في أصناف العداوات، وإن شرطية وتمسسكم فعل الشرط مجزوم والكاف مفعول به مقدم وحسنة فاعل مؤخر وتسؤهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 جواب الشرط المجزوم والهاء مفعول به (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها) جملة معطوفة على الجملة السابقة مماثلة لها في الإعراب (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) الجملة معطوفة أيضا وإن شرطية وتصبروا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل وتتقوا عطف على تصبروا ولا نافية ويضركم جواب الشرط، وحرك بالضم لاتباع ضمة الضاد. كما هي القاعدة في الفعل المضعف، وقد تقدمت. ويجوز تحريكها بالفتح لخفتها كما في قراءة ثانية، وهناك قراءة ثالثة، وهي: يضركم بكسر الضاد وسكون الراء، من ضاره يضيره، أي: يضرّه، والكاف مفعول به وكيدهم فاعل وشيئا مفعول مطلق أي شيئا من الضرر (إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) جملة مستأنفة تفيد التعليل وإن واسمها، ومحيط خبرها وبما جار ومجرور متعلقان بمحيط وجملة يعملون لا محل لها لأنها صلة الموصول. البلاغة: في الآية استعارة مكنية جميلة، فقد استعير المس للحسنة، وهي لا تمس الإنسان للدلالة على أنها أقل تمكنا من الإصابة، إشارة إلى أن الكافرين يستاءون مما يصيب المؤمنين من خير، وإن سنح لهم سنوحا أو مر بهم مرورا عارضا. أما إذا تمكنت السيئة منكم واجتاحتكم فلا تسل عن مدى فرحهم وسرورهم وهذا من بديع الكلام الذي تتقطع دونه الأعناق. [سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 122] وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 اللغة: (غَدَوْتَ) الغدو: الخروج أول النهار يقال: غدا يغدو أي خرج غدوة ويستعمل غدا بمعنى صار فيكون ناقصا يرفع الاسم وينصب الخبر ومثلها راح وعاد ورجع وآض وارتد وقعد وتحول واستحال وكلها بمعنى صار وملحقة بها في العمل. قال لبيد: وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع فيحور هنا ناقصة بمعنى صار واسمها ضمير مستتر تقديره هو يعود على المرء ورمادا خبرها وفي الحديث الشريف: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» أي تذهب في الصباح جائعة وترجع في المساء وقد شبعت وامتلأت بطونها أما في الآية فهي محتملة للمعنيين كما سيأتي (تُبَوِّئُ) تنزل. الإعراب: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) الواو استئنافية أو عاطفة على مقدم وعلى كل حال فالجملة مسوقة ليذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه بيوم أحد ليتذكروا ما وقع في هذا اليوم في هذه الحالات الشاذة من عدم الصبر وكيف غدا النبي إلى أحد من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 حجرة عائشة كما سيأتي في باب الفوائد والظرف متعلق بمحذوف أي اذكر وجملة غدوت في محل جر بإضافة الظرف إليها والتاء إما فاعل غدوت وإما اسمها في رأي من أعملها عمل صار والجار والمجرور متعلقان بغدوت على الأول وبمحذوف حال على الثاني وجملة تبوىء حالية على الأول من فاعل غدوت أو خبر غدوت والمؤمنين مفعول به لتبوىء ومقاعد مفعول به ثان لتبوىء وللقتال جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمقاعد أي مقاعد مهيأة للقتال (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وسميع عليم خبراه (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) إذ ظرف لما مضى من الزمن بدل من إذ الأولى أي اذكر ذلك الوقت وهو يوم أحد وجملة همت في محل جر بالإضافة وطائفتان فاعل همت ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لقوله طائفتان وأن حرف مصدري ونصب وتفشلا فعل مضارع منصوب بأن وعلامة نصبه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة وألف الاثنين فاعل وأن وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بهمت لأنه يتعدى بالباء والتقدير بأن تفشلا ولك في محلها وجهان النصب على نزع الخافض والجر، (وَاللَّهُ وَلِيُّهُما) لك في الواو أن تجعلها حالية فتكون الجملة في محل نصب على الحال ولك أن تجعلها مستأنفة والله مبتدأ ووليهما خبر (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) الواو عاطفة وعلى الله جار ومجرور متعلقان بيتوكل والفاء هي الفصيحة لأنها دخلت لمعنى الشرط والمعنى إذا حزب الأمر وصعب فتوكلوا والمؤمنون فاعل. [سورة آل عمران (3) : الآيات 123 الى 125] وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 اللغة: (بدر) اسم ماء بين مكة والمدينة، وقد كان هذا الماء لرجل اسمه بدر، فسمي به. وعنده جرت الوقعة الموسومة بهذا الاسم، في السابع عشر من شهر رمضان، في السنة الثانية للهجرة. (فَوْرِهِمْ) : الفور: العجلة والسرعة، وهو مصدر من فارت القدر إذا غلت فاستعير للسرعة، ثم سميت به الحالة التي لا ريث فيها ولا إبطاء ولا تعريج على شيء. (مُسَوِّمِينَ) معلمين بعلامة واضحة. وقد قرئت بصيغة اسم الفاعل وبصيغة اسم المفعول. الإعراب: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ) الواو استئنافية واللام واقعة في جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق ونصركم الله فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وببدر جار ومجرور متعلقان بنصركم. والجملة مستأنفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 مسوقة لتسلية المؤمنين عما لحق بهم من ضرر في غزوة أحد، وتذكيرهم بنعمة الله، وللإشارة بأن هزيمتهم في أحد كانت بسبب مخالفة النبي في الصمود والثبات وأن الحلاوة قد تعتريها مرارة وأن الجنات حفت بالمكاره (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) الواو للحال وأنتم مبتدأ وأذلة خبر والجملة في محل نصب على الحال (فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الفاء الفصيحة واتقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والله مفعول به ولعل واسمها، وجملة تشكرون خبرها وجملة الرجاء في محل نصب حال (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بنصركم أو بدل من «إذ» الأولى، لأن الكلام هنا في صدد غزوة أحد. وجملة تقول في محل جر بالإضافة وللمؤمنين جار ومجرور متعلقان بتقول (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ) الجملة الاستفهامية في محل نصب مقول قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والهمزة للاستفهام الإنكاري كأنهم كانوا كالآيسين من النصر، ولن حرف ناصب ويكفيكم فعل مضارع منصوب بلن والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به وأن حرف مصدرية ونصب ويمدكم فعل مضارع منصوب بها وأن وما في حيزها في تأويل مصدر فاعل يكفيكم وربكم فاعل يمدكم (بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) بثلاثة الجار والمجرور متعلقان بيمدكم، وآلاف مضاف إليه، ومن الملائكة جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لثلاثة آلاف ومنزلين صفة ثانية (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) بلى حرف جواب لإيجاب النفي في قوله: ألن يكفيكم، والمعنى يكفيكم الإمداد بالملائكة. ولكن ذلك مرهون بشروط لا بد من تأديتها وهي الصبر والتقوى. وإن شرطية وتصبروا فعل الشرط مجزوم بحذف النون والواو فاعل وتتقوا عطف على تصبروا ويأتوكم عطف أيضا ومن فورهم جار ومجرور متعلقان بيأتوكم وهذا اسم إشارة في محل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 جر صفة لفوركم أو بدل منه والجملة كلها مستأنفة مسوقة لتعيين شروط الإمداد (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) يمددكم جواب الشرط والكاف مفعول به وربكم فاعل ومن الملائكة جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لخمسة آلاف ومسومين صفة ثانية. البلاغة: الكناية في قوله تعالى: «وأنتم أذلة» عن ضعف حالتهم وضآلة عددهم وعددهم: ذكر التاريخ أنهم خرجوا يعتقب النّفر منهم على البعير الواحد، وما كان معهم إلا فرس واحد يوم بدر. [سورة آل عمران (3) : الآيات 126 الى 127] وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) اللغة: (طَرَفاً) : أراد به الجانب أو الطائفة منهم. (يَكْبِتَهُمْ) : يخزيهم ويغيظهم من الكبت وهو الإصابة بالمكروه، وقيل: هو الصرع للوجه واليدين. وعلى هذين المعنيين تكون التاء أصلية، وليست بدلا من شيء بل هي مادة مستقلة بذاتها. وقيل التاء بدل من الدال، وأصله كبده إذا أصابه بمكروه أثر في كبده وجعا، كقولك رأسته إذا ضربت رأسه. ويدل على ذلك قراءة بعضهم: أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 يكبدهم، بالدال. والعرب قد تبدل التاء من الدال، ولعل أبا الطيب المتنبي قد رمق هذا الإبدال فلاءم بين لفظين ملاءمة غريبة عند ما قال: لأكبت حاسدا وأري عدوا ... كأنهما وداعك والرحيل فقد لاحظ أبو الطيب إبدال التاء من الدال فتوهمها لأكبد، وناسب أن يأتي بأري من الوري، وهو إصابة الرئة يقال: وراه الحب ريا وتورية، وهو فساد الجوف من حزن أو صبابة، قال عبد بني الحسحاس: وراهن ربي مثلما قد ورنيني ... وأحمي على أكبادهن المكاويا ومنه الحديث الشريف «لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا حتى يريه» . وهذا من أوابد أبي الطيب التي لا تلحق. الإعراب: (وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) كلام مستأنف مسوق لشرح كيفية النصر والواو استئنافية وما نافية وجعله الله فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وإلا أداة حصر وبشرى مفعول به ثان إذا كان الجعل هنا بمعنى التصيير، ولك أن تعتبر الجعل هنا بمعنى الخلق فتكون متعدية لواحد، وبشرى منصوب على أنه استثناء من أعم العلل فهو مفعول لأجله وقد استوفى شروط النصب ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبشرى (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) الواو عاطفة واللام للتعليل وتطمئن فعل مضارع منصوب بأن المضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور في محل نصب عطف على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 بشرى وجر باللام لاختلال شرط من شروط النصب وهو عدم اتحاد الفاعل فإن فاعل الجعل هو الله تعالى وفاعل الاطمئنان القلوب، ولك أن تعلق الجار والمجرور بفعل محذوف تقديره: فعل هذا لتطمئن قلوبكم، وقلوبكم فاعل تطمئن وبه جار ومجرور متعلقان بتطمئن (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) الواو استئنافية وما نافية والنصر مبتدأ وإلا أداة حصر ومن عند الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر والعزيز الحكيم صفتان لله تعالى (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) اللام للتعليل ويقطع فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بنصركم في قوله «ولقد نصركم الله ببدر» ، وقيل بمحذوف تقديره أمدكم ونصركم، ورجح أبو حيان أن يكونا متعلقين بأقرب مذكور وهو العامل في قوله: «من عند الله» كأن التقدير: وما النصر إلا كائن من عند الله لا من عند غيره، لأحد أمرين: إما قطع جانب من الكفار بقتل وأسر، وإما بخزي وانقلاب بخيبة. وطرفا مفعول به ومن الذين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة وجملة كفروا لا محل لها لأنها صلة الموصول (أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) أو حرف عطف ويكبتهم فعل مضارع معطوف على يقطع والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به والفاء حرف عطف وبنقلبوا عطف على يكبتهم وخائبين حال وعلامة نصبه الياء لأنه جمع مذكر سالم. البلاغة: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: «ليقطع طرفا» فقد شبه من قتل منهم وتفرق بالشيء المقتطع الذي تفرقت أجزاؤه واختل نظامه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 [سورة آل عمران (3) : الآيات 128 الى 129] لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) الإعراب: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) كلام مستأنف مسوق لتهوين الأمر على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ما أصيب به في غزوة أحد وليس فعل ماض ناقص ولك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ليس المقدم ومن الأمر جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وشيء اسم ليس المؤخر (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أو حرف عطف ويتوب فعل مضارع معطوف على اسم خالص من التقدير بالفعل فهو منصوب بأن مضمرة بعد العاطف وهو أو، وسيأتي في باب الفوائد، وعليهم جار ومجرور متعلقان بيتوب (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) عطف على يتوب (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) الفاء للتعليل وإن واسمها وخبرها والجملة التعليلية لا محل لها لأنها بمثابة الاستئنافية (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الواو استئنافية ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وما اسم موصول في محل رفع مبتدأ مؤخر وفي السموات جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة وما في الأرض عطف على ما في السموات (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) الجملة الفعلية في محل نصب حال لوقوعها بعد المعرفة ولمن جار ومجرور متعلقان بيغفر ويشاء فعل مضارع مرفوع وفاعله هو والجملة صلة الموصول وجملة يعذب من يشاء عطف عليها ومن اسم موصول في محل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 نصب مفعول به (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وغفور خبره الأول ورحيم خبره الثاني. الفوائد: ينصب الفعل المضارع بأن مضمرة جوازا بعد عاطف مسبوق باسم خالص من التقدير بالفعل، وأحرف العطف المختصة بذلك أربعة وهي: الواو والفاء وأو وثم. ومن ذلك قول ميسون بنت بحدل: ولبس عباءة وتقر عيني ... أحب إلي من لبس الشفوف هذا ويجوز أن تكون «أو» بمعنى «إلى» فيكون الفعل منصوبا بأن مضمرة وجوبا بعد أو. [سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 132] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) كلام مستأنف مسوق للنهي عن الربا والإمعان في تخويف المؤمنين، قال أبو حنيفة رحمه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 الله: هذه الآيات أخوف آيات القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين. ولا ناهية وتأكلوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل والربا مفعول به وأضعافا حال ومضاعفة صفة وجاءت الصفة لتنفي القلة التي يعبر عنها جمع القلة وهو وزن: أفعال، وقيل: الصفة إشارة إلى تكرير التضعيف عاما بعد عام. والمبالغة في هذه العبارة تفيد التوبيخ (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الواو عاطفة واتقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والله مفعوله ولعل واسمها، وجملة تفلحون خبرها وجملة الرجاء حالية (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) واتقوا عطف على ما تقدم والنار مفعول به والتي اسم موصول في محل نصب صفة وجملة أعدت صلة الموصول وللكافرين جار ومجرور متعلقان بأعدت (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الواو عاطفة وأطيعوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والله مفعول به والرسول عطف على الله ولعل واسمها، وترحمون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل والجملة خبر لعل، وجملة الرجاء حالية. [سورة آل عمران (3) : الآيات 133 الى 134] وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 اللغة: (الْكاظِمِينَ) اسم فاعل من كظم الغيظ وهو أن ينطوي على نفسه ويمسك على ما فيها معتصما بالصبر، وأصله من كظم القربة إذا ملأها وسد فاها لئلا يندلق ما فيها. الإعراب: (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) الواو عاطفة وسارعوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وإلى مغفرة جار ومجرور متعلقان بسارعوا ومن ربكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمغفرة (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) وجنة عطف على مغفرة وعرضها مبتدأ والسموات خبر والأرض عطف على السموات والجملة الاسمية صفة لجنة (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) الجملة الفعلية صفة لجنة أيضا وأعدت فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل هي وللمتقين: جار ومجرور متعلقان بأعدت (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) اسم الموصول نعت للمتقين وجملة ينفقون صلة الموصول وفي السراء جار ومجرور متعلقان بينفقون والضراء عطف على السراء (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) عطف على المتقين والغيظ مفعول لاسم الفاعل الكاظمين، والعافين عطف أيضا وعن الناس جار ومجرور متعلقان بالعافين (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الواو استئنافية والله مبتدأ ويحب فعل مضارع والمحسنين مفعول به والجملة خبر. البلاغة: اشتملت هذه الآية على فن جليل القدر وهو التنكيت في التشبيه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 وحده أن يقصد المتكلم إلى شيء بالذكر دون غيره مما يسد مسده لأجل نكتة، وإذا وقع في التشبيه فقد بلغ الغاية، وهو هنا في قوله تعالى: «عرضها السموات والأرض» ، فقد أراد وصفها بالسعة فخص عرضها بالذكر دون الطول، وإنما عدل عن ذكر الطول لأن المستقر في البداءة والأذهان أن الطول أدل على السعة فإذا كان عرضها مما يسع السموات والأرض فما بالك بطولها! [سورة آل عمران (3) : الآيات 135 الى 136] وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) الإعراب: (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) الواو عاطفة أو استئنافية والذين عطف على المتقين أي أعدت للمتقين والمنفقين وللتائبين. ويجوز أن يكون «الذين» مبتدأ خبره «أولئك» كما سيأتي، وإذا ظرف مستقبل وجملة فعلوا في محل جر بالإضافة وفاحشة مفعول به (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ) أو حرف عطف وظلموا عطف على فعلوا وأنفسهم مفعول به وجملة ذكروا الله لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) الفاء عاطفة واستغفروا عطف على ذكروا أي تابوا عنها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 ولذنوبهم جار ومجرور متعلقان باستغفروا (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) الواو استئنافية ومن استفهامية ومعنى الاستفهام هنا النفي وهي في محل رفع مبتدأ وجملة يغفر خبر والذنوب مفعول به وإلا أداة حصر والله بدل من الضمير في يغفر أي من الفاعل المستتر (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) عطف على استغفروا، ولم حرف جازم، ويصروا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون، على ما فعلوا جار ومجرور متعلقان بيصروا، وجملة فعلوا صلة، وهم: الواو حالية وهم مبتدأ وجملة يعلمون خبر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من ضمير يصروا. (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أولئك اسم إشارة في محل رفع مبتدأ وجزاؤهم مبتدأ ثان ومغفرة خبر جزاؤهم والمبتدأ الثاني وخبره خبر اسم الإشارة. وإذا أعربنا الذين مبتدأ كانت الجملة خبرا للموصول. ومن ربهم صفة لمغفرة (وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) وجنات عطف على مغفرة وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة لجنات وخالدين حال وفيها جار ومجرور متعلقان بخالدين (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) الواو استئنافية ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح وأجر العاملين فاعل نعم مضاف لمقترن بأل والمخصوص بالمدح محذوف تقديره نعم أجر العاملين ذلك، يعني المغفرة في الجنات. [سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 138] قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) اللغة: (سُنَنٌ) طرائق جمع سنة، وهي الطريقة والعادة. ومعنى خلوها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 مضيها وأصل الخلو في اللغة الانفراد، والمكان الخالي هو المنفرد عمن فيه، ويستعمل أيضا في الزمان بمعنى المضي، لأن ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه، وكذلك الأمم الخالية أي الماضية. الإعراب: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) كلام مستأنف مسوق لتسلية المؤمنين عما أصابهم من الحزن والكآبة، وتتمة لتفصيل بقية قصة أحد، فإنه لا ينال أحد الخير حتى يمهره بالتضحية والصبر والجهاد. وقد حرف تحقيق وخلت فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين ومن قبلكم جار ومجرور متعلقان بخلت وسنن فاعل (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) الفاء الفصيحة وهي التي تقع جوابا لشرط مقدر لأن المعنى مترتب عليه، أي إذا شككتم فسيروا في الأرض لتعتبروا بما ترون من آثار هلاكهم، وسيروا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بسيروا والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط مقدر غير جازم (فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) الفاء حرف عطف وانظروا معطوف على سيروا وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وكان عاقبة كان واسمها، والمكذبين مضاف إليه والجملة الاستفهامية في محل نصب مفعول انظروا (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) كلام مستأنف والبيان هنا الدلالة التي تفيد إماطة الشبهة الحاصلة، وهذا مبتدأ وبيان خبره وللناس جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبيان وهدى معطوف على بيان وكذلك موعظة وهو من عطف الخاص على العام، وللمتقين جار ومجرور متعلقان بموعظة أو بمحذوف صفة لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 البلاغة: المجاز في قوله: «فسيروا في الأرض» والعلاقة في هذا المجاز ما يؤول اليه أمر السير في الأرض، وتملّي الآثار المعروضة، واستجلاء ما تركه الأولون من مخلفات ينبغي الاستبصار بها. وقد رمق أبو الطيب سماء هذا المجاز الرفيع بقوله: تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع ثم تساءل: أين الذي الهرمان من بنيانه؟ ... ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع [سورة آل عمران (3) : الآيات 139 الى 141] وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) اللغة: (تَهِنُوا) تضعفوا، وأصله توهنوا، فحذفت الواو لوقوعها بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 ياء وكسرة في الأصل. لأن الفعل وهن بالفتح في الماضي وبالكسر في المضارع. (القرح) : بفتح القاف وتضم أيضا، وقيل: هو بالفتح الجراح وبالضم ألمها، وقد قرىء بهما. (نُداوِلُها) نصرفها بين الناس نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، ودالت له الدول، ودالت الأيام، وأدال الله بني فلان من عدوهم جعل الكرة لهم عليه. قال أبو البقاء الرندي يرثي الأندلس: هي الأمور كما شاهدتها دول ... من سره زمن ساءته أزمان (التمحيص) التصفية والتطهير. (يَمْحَقَ) يهلك. الإعراب: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) الواو عاطفة والكلام معطوف على المفهوم من قوله: فسيروا، ولا ناهية وتهنوا فعل مضارع مجزوم بلا ولا تحزنوا عطف أيضا وأنتم الواو حالية وأنتم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ والأعلون خبره مرفوع بالواو لأنه جمع مذكر سالم والجملة نصب على الحال (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إن شرطية وكان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها ومؤمنين خبرها وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فلا تهنوا وجملة الشرط استئنافية (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) كلام مستأنف مسوق لتسلية المؤمنين أيضا، وإن شرطية ويمسسكم فعل الشرط والكاف مفعول به وقرح فاعل يمسسكم وجواب الشرط محذوف أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 فتأسوا وتسلوا. ومن أعرب فقد مس القوم هو الجواب غلط لأن الماضي معنى لا يكون جوابا، والتعليق لا يكون إلا في المستقبل. فقد الفاء عاطفة وقد حرف تحقيق ومس القوم عطف على الجواب المحذوف ومس فعل ماض والقوم مفعول به مقدم وقرح فاعل مؤخر ومثله نعت. لقرح (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) الواو استئنافية واسم الإشارة مبتدأ والأيام بدل منه وجملة نداولها خبر والهاء مفعول به وبين الناس ظرف مكان متعلق بنداولها. ويجوز إعراب الأيام خبرا لاسم الإشارة وجملة نداولها حالية والعامل فيها معنى اسم الإشارة أي يشير إليها حالة كونها مداولة (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) الواو عاطفة على المعلل المحذوف، والتقدير فعلنا ذلك ليتعظوا، وليعلم اللام للتعليل ويعلم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة والله فاعل والذين اسم موصول مفعول به وآمنوا فعل ماض مبني على الضم والجملة صلة (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) الواو عاطفة ويتخذ فعل مضارع معطوف على يعلم ومنكم جار ومجرور متعلقان بيتخذ أو بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لشهداء وشهداء مفعول به (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الواو اعتراضية والجملة معترضة بين هذه العلل المتعاقبة والله مبتدأ وجملة لا يحب الظالمين خبر (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) الجملة معطوفة على العلل المتقدمة والله فاعل والذين اسم موصول مفعول به وجملة آمنوا صلة (وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) عطف على ما سبق من العلل. [سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 143] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 الإعراب: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) أم عاطفة منقطعة بمعنى بل، وقد تقدم بحثها، والكلام معطوف على ما تقدم على طريق الإضراب عن التسلية الى طريق التوبيخ، والهمزة التي في ضمنها للإنكار، وحسب فعل ماض بمعنى ظن والتاء فاعل وأن وما بعدها سدت مسد مفعوليها، والمعنى: لا تحسبوا أو لا يدر بخلد أحد منكم أنكم تدخلون الجنة من دون جهاد وصبر، والجنة مفعول به على السعة أو منصوب بنزع الخافض (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) الواو حالية ولما جازمة ويعلم فعل مضارع مجزوم والله فاعل والذين اسم موصول مفعول به وجملة جاهدوا صلة لا محل لها ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال والجملة نصب على الحال (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) قرأ السبعة بفتح الميم، فالواو للمعية ويعلم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد واو المعية والفاعل هو والصابرين مفعول به وقد تقدم النفي عليها ونفي العلم بالنسبة الى الله كناية عن نفي المعلوم وهما الجهاد والصبر. ومن العجيب أن يتنطع بعض المعربين القدامى فيقول: إن الفتحة فتحة التقاء الساكنين والفعل مجزوم عطفا على «يعلم» الأولى، فلما وقع بعده ساكن آخر احتيج إلى تحريك آخره فكانت الفتحة أولى لأنها أخف، إذ لا يجوز حمل القرآن على الوجوه المرجوحة (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) الواو استئنافية واللام جواب لقسم محذوف وقد حرف تحقيق وكنتم كان الناقصة واسمها، وجملة تمنون خبرها وأصل تمنون تتمنون فحذفت إحدى التاءين والموت مفعول به من قبل جار ومجرور متعلقان بتمنون وأن تلقوه أن حرف مصدري ونصب وتلقوه فعل مضارع منصوب بأن وعلامة نصبه حذف النون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 والواو فاعل والهاء مفعول به والمصدر المؤول مضاف إليه (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) الفاء عاطفة وقد حرف تحقيق وأيتموه فعل وفاعل ومفعول به والواو لإشباع الضمة وأنتم الواو حالية وأنتم مبتدأ وجملة تنظرون خبر ولا بد من تقدير مضاف أي: سبب الموت. الفوائد: كان المسلمون في الصدر الأول يتمنون الموت لا ليخلو الجو لعدوهم ولكن لنيل كرامة الاستشهاد مع ضمان التفوق والغلبة، وهذا تنبيه لا بد منه لئلا يتساءل متنطع: كيف يجوز تمني الشهادة في تمنيها غلبة للكافر على المسلم، فقد كان ديدن الصحابة رضوان الله عليهم الاستشهاد في سبيل الله ولا ننسى بكاء خالد بن الوليد عند ما حضره الموت، لأنه مات على فراشه؟ وقال عبد الله بن رواحة حين نهد إلى حرب مؤتة: لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا أو طعنة بيدي حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ... أرشدك الله من غاز وقد رشدا ومعنى قوله: ذات فرغ أي: ذات سعة، والفرغ الدلو، أي: تحدث في جسمي ما يشبه الدلو الممتلئة بالماء. والحران: العطشان الظامئ إلى دمي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 [سورة آل عمران (3) : آية 144] وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) اللغة: (الأعقاب) جمع عقب وهو مؤخر القدم، والانقلاب على الأعقاب: الإدبار والفرار. الإعراب: (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبيان أن موت محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو قتله لا يوجب ضعفا أو تراخيا في دينه. وما نافية ومحمد مبتدأ وإلا أداة حصر ورسول خبر (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) الجملة صفة لرسول وقد حرف تحقيق وخلت فعل ماض مبني على الفتحة المقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين ومن قبله جار ومجرور متعلقان بخلت والرسل فاعل (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء للعطف وقد أتت متأخرة ورتبتها التقديم لأن الهمزة لها الصدارة، وقد ذكرنا سابقا أن الزمخشري ومن نحا نحوه يقدرون بينهما فعلا محذوفا تعطف عليه الفاء ما بعدها، والتقدير: أتؤمنون به في غضون حياته فإن مات ارتددتم، وكلاهما صحيح. وفائدة العطف تعلق الجملة الشرطية بما قبلها على معنى التسبب، وإن شرطية ومات فعل ماض في محل جزم فعل الشرط أو قتل عطف على مات وانقلبتم فعل ماض في محل جزم جواب الشرط وعلى أعقابكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 حال، وسيأتي المزيد من البحث في باب البلاغة عن هذا القصر (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً) الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ وينقلب فعل الشرط وعلى عقبيه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال والفاء رابطة لجواب الشرط ويضر فعل مضارع منصوب بلن والله مفعول به وشيئا مفعول مطلق وجملة فلن يضر في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر «من» (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) الواو استئنافية ويجزي فعل مضارع مرفوع والله فاعل والشاكرين مفعول به. البلاغة: في قوله: «وما محمد إلا رسول» فن القصر وهو في اللغة الحبس، وفي الاصطلاح تخصيص أحد الأمرين على الآخر ونفيه عما عداه وهو يقع للموصوف على الصفة وبالعكس، والآية من النوع الأول أي أن محمدا صلى الله عليه وسلم مقصور على الرسالة لا يتعداها الى البعد عن الهلاك بناء على استعظام الصحابة أن لا يبقى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم فكأنهم أثبتوا له وصفين: الرسالة وعدم الهلاك، فخصص بقصره على الرسالة، فهو من إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر، وهو قصر إفراد، ردا على من يدعي أمرين أو أحدهما بلا ترجيح، وهو على كل حال من باب القصر القلبي، لأنهم لما انقلبوا على أعقابهم فكأنهم اعتقدوا أنه رسول لا كسائر الرسل في أنه يموت كما ماتوا وأنه يجب عليهم التمسك بدينه بعده كما يجب التمسك بأديانهم بعدهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 [سورة آل عمران (3) : آية 145] وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) اللغة: (مُؤَجَّلًا) مؤقتا لا يتقدم ولا يتأخر، من أجل الشيء أو أجله بالتشديد والتخفيف، أي ضرب له أجلا لا محيد عنه. الإعراب: (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق لتحقيق ما تقدم وهو أن كل نفس لن تموت إلا بمشيئة الله وأن أحدا لا يموت قبل بلوغ أجله وإن طوح بنفسه وخاض المعارك. والواو استئنافية وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولنفس جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كان المقدم وأن تموت المصدر المنسبك من أن وما في حيزها اسمها المؤخر وإلا أداة حصر وبإذن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال والتقدير: وما كان لها أن تموت إلا مأذونا لها (كِتاباً مُؤَجَّلًا) كتابا مصدر منصوب على المفعولية المطلقة المفيدة لتأكيد مضمون الجملة التي قبله لأن المعنى كتب الموت كتابا ومؤجلا صفة واختار ابن عطية أن يكون منصوبا على التمييز، وقيل: هو منصوب على الإغراء ولا داعي لهذا التكلف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 البعيد (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للحديث عن الذين تركوا مراكزهم وطلبوا الغنائم ومن شرطية في محل رفع مبتدأ ويرد فعل الشرط وثواب الدنيا مفعول به ونؤته جواب الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة والهاء مفعول به وجملة فعل الشرط وجوابه خبر من وقد تقدم تقرير ذلك وفيها جار ومجرور متعلقان بنؤته (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) تقدم إعراب هذه الآية (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) الواو استئنافية وسنجزي فعل مضارع مرفوع وفاعله نحن والشاكرين مفعول به والجملة استئنافية لا محل لها. [سورة آل عمران (3) : آية 146] وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) اللغة: (رِبِّيُّونَ) ربانيون نسبة الى الرب، وقد تقدم بحثها ووردت في اللغة بتثليث الراء والفتح هو القياس والضم والكسر من تغييرات النسب. (اسْتَكانُوا) : ضعفوا وذلوا والاستكانة الانكسار والوهن وأصل هذا الفعل استكن من السكون لأن السكون الذل وأصله: (استكون) فنقلت الفتحة الى الكاف ثم قلبت الواو ألفا. الإعراب: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) كأين خبرية بمعنى كم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 الخبرية وهي في محل رفع مبتدأ ومن نبي تمييز كأين وتنوينه للتكثير أي كثير من الأنبياء وجملة قاتل خبر كأين ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم وربيون مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية نصب على الحال (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الفاء عاطفة وما نافية ووهنوا فعل ماض مبني على الضم والواو فاعل ولما اللام حرف جر وما اسم موصول في محل جر باللام والجار والمجرور متعلقان بوهنوا وجمله أصابهم صلة وفي سبيل الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ولك أن تجعل ما مصدرية والمصدر المنسبك من ما وما في حيزها مجرور باللام (وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا) عطف على «ما وهنوا» . (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة يحب الصابرين خبر. الفوائد: (كَأَيِّنْ) بمعنى كم في الاستفهام والخبر. وهي مركبة من كاف التشبيه ومن أي الاستفهامية وقد حدث فيها بعد التركيب معنى التكثير المفهوم من كم الخبرية، ولا تتعلقان بشيء لأنهما صارتا بمنزلة كلمة واحدة ولذلك رأى أبو حيان أن تكون «كأين» كلمة بسيطة غير مركبة، ولم أجد من يؤيده وإن كان رأيه جميلا سهلا وهي توافق كم الخبرية في خمسة أمور: 1- الإبهام 2- الافتقار إلى التمييز 3- البناء 4- لزوم التصدير 5- إفادة التكثير أو التكثير تارة والاستفهام تارة أخرى. قال أبي لابن مسعود كأين تقرأ سورة الأحزاب آية؟ قال: ثلاثا وسبعين. وتخالف كم في خمسة أمور 1- أنها مركبة وكم بسيطة 2- أن مميزها مجرور بمن غالبا حتى زعم بعضهم لزومه وهو مردود بما رواه سيبويه ويونس أنهما سمعا من يقول كأي رجلا 3- أنها لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 تقع استفهامية عند الجمهور 4- أنها لا تقع مجرورة فلا تقول بكأين تبيع هذا؟ وأجازه بعضهم 5- أن خبرها لا يقع مفردا، قال زهير: وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم وقال الخليل وسيبويه: هي «أي» دخلت عليها كاف التشبيه وثبتت معها فصارت بعد التركيب بمعنى كم وصورت في المصحف نونا لأنها كلمة نقلت عن أصلها فغير لفظها لتغير معناها، فتصرفت فيها العرب بالقلب والحذف فصار فيها أربع لغات قرىء بها: احداها «كائن» كقول زهير، والثانية كأي مثل كعيّن وهو الأصل، والثالثة كأين مثل كعين، والرابعة كيئن بياء ساكنة بعدها همزة مكسورة. [سورة آل عمران (3) : الآيات 147 الى 148] وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) الإعراب: (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) الواو عاطفة والكلام معطوف على ما تقدم لبيان محاسنهم القولية بعد أن أثبتوا محاسنهم الفعلية، وما نافية وكان فعل ماض ناقص وقولهم خبرها المقدم واسمها أن المصدرية وما في حيزها، وقرأ ابن كثير وعاصم برفع «قولهم» على أنه اسم كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 والخبر أن وما في حيزها، وإلا أداة حصر والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) ربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وجملة اغفر في محل نصب مقول القول ولنا جار ومجرور متعلقان باغفر وذنوبنا مفعول به وإسرافنا عطف عليه، في أمرنا جار ومجرور متعلقان باسرافنا وإنما نسبوا الإسراف الى أنفسهم هضما لها وقدموا طلب الغفران باعتباره أهم لديهم من كل شيء (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) الواو حرف عطف وثبت فعل دعاء وأقدامنا مفعول به وانصرنا عطف أيضا وعلى القوم جار ومجرور متعلقان بانصرنا والكافرين صفة (فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا) الفاء عاطفة أو استئنافية وآتاهم الله فعل ومفعول به وفاعل وثواب الدنيا مفعول به ثان (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) الواو حرف عطف وحسن عطف على ثواب، وإنما خص ثواب الآخرة بالحسن تنويها بفضله وأنه أولى ما يعتد به المرء وينشده (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة يحب المحسنين خبر. [سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 151] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 اللغة: (الرعب) بضم الراء وسكون العين وضمها وقد قرىء بهما: الخوف، يقال: رعبته فهو مرعوب، وأصله الامتلاء، يقال: رعبت الحوض أي ملأته، وسيل راعب أي: ملأ الوادي، ويتعدى بنفسه وبالهمزة. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها (إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) إن شرطية وتطيعوا فعل الشرط والواو فاعل والذين اسم موصول مفعول به وجملة كفروا صلة والجملة كلها مستأنفة مسوقة لتحذير المؤمنين من الاغترار بأقوال المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا الى دينكم وإخوانكم، ولو كان محمد نبيا لما قتل. وقيل: إن تستكينوا لأبي سفيان وجماعته يردوكم الى دينهم (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) يردوكم جواب الشرط مجزوم والواو فاعل والكاف مفعول به وعلى أعقابكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) الفاء عاطفة وتنقلبوا فعل مضارع معطوف على يردوكم وخاسرين حال (بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ) بل حرف إضراب وعطف والله مبتدأ ومولاكم خبر. والكلام معطوف على ما هو من مضمون الشرط، كأنه قيل: فليسوا أنصارا لكم حتى تطيعوهم بل الله، وقرىء الله بالنصب على أنه مفعول به لفعل محذوف تقديره: بل أطيعوا الله، ومولاكم بدل منه (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) الواو عاطفة وهو مبتدأ وخير الناصرين خبره (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) كلام مستأنف مسوق على طريق الالتفات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 للتنبيه على هول ما سيلقيه تعالى في قلوبهم، والسين حرف استقبال ونلقي فعل مضارع مرفوع وفاعله نحن وفي قلوب جار ومجرور متعلقان بنلقي والذين اسم موصول في محل جر بالاضافة وجملة كفروا صلة لا محل لها والرعب مفعول به لنلقي (بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) بما الباء حرف جر وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بنلقي أي: بسبب اشراكهم أو ما اسم موصول والجملة صلة، وبالله جار ومجرور متعلقان بأشركوا وما اسم موصول مفعول أشركوا وجملة لم ينزل به سلطانا صلة الموصول وبه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة ل «سلطانا» وسلطانا مفعول ينزل (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبيان أحوالهم في الآخرة بعد بيان أحوالهم في الدنيا من الخذلان المبين، ومأواهم مبتدأ والنار خبره ويجوز العكس ولعله أولى (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) الواو استئنافية وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم ومثوى فاعل مضاف لمقترن ب «ال» والظالمين مضاف اليه والمخصوص بالذم محذوف تقديره: النار. البلاغة: 1- الالتفات في قوله تعالى: «سنلقى» فقد التفت من الغيبة الى التكلم للاهتمام بما يلقيه تعالى في قلوبهم. 2- الاستعارة في قوله تعالى: «سنلقى» لأن الإلقاء لا يكون إلا في الإجرام فاستعير هنا للرعب تجسيدا وتشخيصا بتنزيل المعنوي منزلة المادي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 [سورة آل عمران (3) : الآيات 152 الى 153] وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) اللغة: (تَحُسُّونَهُمْ) تقتلونهم قتلا ذريعا وتستأصلونهم، من حسّه يحسّه، من باب نصر، إذا أبطل حسّه. قال جرير: تحسهم السيوف كما تسامى ... عريق النار في الأجم الحصيد (تُصْعِدُونَ) بضم التاء من أصعد أي ذهب بعيدا في الجبل وفي الأرض، ويقال: صعد في الجبل وأصعد في الأرض. (تَلْوُونَ) تصرفون وجوهكم ولا تعرجون على أحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 الإعراب: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لتفصيل موقعة أحد كما ذكرتها المطولات واللام جواب القسم محذوف وقد حرف تحقيق وصدقكم الله فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ووعده منصوب بنزع الخافض لأن صدق يتعدى لاثنين أحدهما بنفسه والآخر بحرف الجر أي بوعده (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بصدقكم وجملة تحسونهم في محل جر بإضافة الظرف إليها وبإذنه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حان من فاعل تحسونهم أي مأذونا لكم (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) يجوز في حتى هنا أن تكون حرف غاية وجر بمعنى الى، وتكون مع مدخولها متعلقة بتحسونهم أي: تقتلونهم الى هذا الوقت، وعلقها الزمخشري بصدقكم، أي: صدقكم الله وعده الى وقت فشلكم. وكلاهما صحيح ويجوز أن تكون ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية إذا ظرف لما يستقبل من الزمن متعلق بجوابه وجملة فشلتم في محل جر بالإضافة وجواب إذا محذوف على الصحيح والتقدير منعكم نصره أو انهزمتم أو بانت لكم الحقيقة جلية واضحة وتنازعتم الواو عاطفة وجملة تنازعتم عطف على جملة فشلتم وفي الأمر جار ومجرور متعلقان بتنازعتم (وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) عطف على ما تقدم ومن بعد جار ومجرور متعلقان بعصيتم وما مصدرية مؤولة مع الفعل بعدها بمصدر مضاف ل «بعد» وأراكم فعل ماض والفاعل هو والكاف مفعول به أول وما اسم موصول مفعول به ثان وجملة تحبون صلة لا محل لها (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) الجملة مفسرة لا محل لها والمعنى: حتى إذا كان ذلك كله وانقسمتم الى قسمين، ثم فسر القسمين. ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 خبر مقدم ومن اسم موصول مبتدأ مؤخر وجملة يريد صلة الموصول والدنيا مفعول به ومنكم من يريد الآخرة عطف على الجملة الأولى وفيها تفسير للقسم الثاني (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) ثم حرف عطف وتراخ وجملة وصرفكم عطف على جواب إذا المحذوف أي منعكم نصره ثم صرفكم عنهم أي ردكم عنهم ليمتحن صبركم وثباتكم، وعنهم جار ومجرور متعلقان بصرف ليبتليكم اللام للتعليل ويبتلي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بصرف أيضا (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) الواو استئنافية واللام جواب لقسم محذوف وقد حرف تحقيق وعفا فعل ماض وعنكم جار ومجرور متعلقان بعفا (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الواو استئنافية والله مبتدأ وذو فضل خبر وعلى المؤمنين جار ومجرور متعلقان بفضل أو بمحذوف صفة له (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بمحذوف تقديره: اذكر أو بصرفكم أو بعفا عنكم كأنه من باب التنازع، وجملة تصعدون في محل جر بالاضافة ولا تلوون عطف على تصعدون ولك أن تجعل الواو حالية فتكون الجملة منصوبة على الحال وعلى أحد جار ومجرور متعلقان بتلوون (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) الواو حالية والرسول مبتدأ وجملة يدعوكم خبر وفي أخراكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي: كائنا في ساقتكم أو في جماعتكم، وهو تصوير جميل لموقف القائد وثباته وهو يقول: إليّ إليّ عباد الله، أنا رسول الله من يكرّ فله الجنة (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) الفاء عاطفة وأثابكم فعل ماض ومفعول به وغما يجوز أن يكون مفعولا ثانيا بتضمين أثابكم معنى المجازاة والإعطاء، ويجوز أن يعرب تمييزا. وبغم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة أي غما متصلا بغم (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ) اللام حرف جر وكي حرف تعليل ونصب واستقبال ولا زائدة وتحزنوا فعل مضارع منصوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 بكي والجار والمجرور متعلقان بأثابكم وعلى ما فاتكم جار ومجرور متعلقان بتحزنوا وجملة فاتكم صلة الموصول ولا ما أصابكم عطف على «ما فاتكم» (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) الواو استئنافية والله مبتدأ وخبير خبر وبما جار ومجرور متعلقان بخبير وجملة تعملون صلة الموصول. الفوائد: (كي) : للعرب فيها مذهبان: 1- أحدهما أن تكون للفعل بنفسها بمنزلة «أن» وتكون مع ما بعدها بمنزلة اسم كما كانت «أن» كذلك. 2- وثانيهما أن تكون حرف جر بمنزلة اللام فينصب الفعل بعدها بإضمار «أن» كما ينتصب بعد اللام فاذا كانت بمنزلة «أن» جاز دخول اللام عليها كالآية الآنفة الذكر وإذا كانت حرف جر جاز دخولها على الأسماء كدخول حرف الجر، من ذلك قول العرب كيمه؟ فأدخل كي على «ما» في الاستفهام كما يدخل عليها حروف الجر نحو: لم وبم وعمّ، فحذف الألف كما يحذفها مع حروف الجر وأدخل عليها هاء السكت في الوقف فقال: كيمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 [سورة آل عمران (3) : آية 154] ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) اللغة: (النعاس) : بضم النون مقاربة النوم أو أوله، وفترة في الحواس. الإعراب: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) ثم: حرف عطف للترتيب مع التراخي وأنزل فعل ماض والجملة عطف على فأثابكم وأثابكم عطف على صرفكم، وعليكم جار ومجرور متعلقان بأنزل ومن بعد الغم جار ومجرور متعلقان بأنزل أيضا وأمنة مفعول به ونعاسا بدل من أمنة، ويجوز أن يكون بدلا مطابقا بالنظر لمصدوقهما، وأن يكون بدل اشتمال لأن كلّا منهما مشتمل على الآخر والعائد محذوف للعلم به أي فيهما ولأن الكلام يرشد اليه كما سترى في باب الفوائد. (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) الجملة صفة لقوله «نعاسا» وطائفة مفعول به ليغشى ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لطائفة، وهم الذين صدقوا ربهم وثبت يقينهم (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) الواو استئنافية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 وطائفة مبتدأ، وساغ الابتداء به لوصفه بمحذوف دل عليه السياق أي من غيركم بدليل يغشى طائفة منكم وجملة قد أهمتهم أنفسهم هي الخبر والجملة مستأنفة مسوقة لبيان حال المنافقين (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) جملة يظنون حالية من الهاء في أهمتهم، ويجوز جعل «قد أهمتهم أنفسهم» صفة وجملة يظنون هي الخبر، وبالله جار ومجرور متعلقان بيظنون وغير الحق صفة لمفعول مطلق محذوف والمعنى يظنون بالله غبر الظن الحق الذي يجب أن يساور النفوس، وظن الجاهلية بدل من «غير الحق» أو منصوب على المصدرية التشبيهية، أي ظنا مثل ظن الجاهلية أو منصوب بنزع الخافض، وعلى هذا لم يذكر ليظنون مفعولين وتكون الباء ظرفية كما تقول: ظننت بزيد، وإذا كان ذلك كذلك لم تتعد «ظننت» الى مفعولين، وقد نص النحاة على ذلك وعليه قول الشاعر: فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في السابري المسرّد (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) جملة يقولون بدل من جملة يظنون وهل حرف استفهام إنكاري معناه النفي أي: ليس لنا، ولنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومن الأمر جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لشيء ثم تقدمت الصفة على الموصوف فأعربت حالا، ومن حرف جر زائد وشيء مجرور بمن لفظا في محل رفع مبتدأ مؤخر والجملة مقول القول (قُلْ: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) الجملة معترضة وان واسمها، وكله تأكيد ل «الأمر» لأنه يتجزأ ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر إن والجملة في محل نصب مقول القول (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) جملة يخفون حال من ضمير يقولون، أي: يقولون فيما بينهم متسارّين، وفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 أنفسهم جار ومجرور متعلقان بيخفون وما اسم موصول مفعول به ولا نافية وجملة يبدون لا محل لها لأنها صلة ما ولك جار ومجرور متعلقان بيبدون (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) جملة يقولون مستأنفة مسوقة لبيان ما قبله، ولتكون بمثابة شروع في الحديث عنهم مجددا تطرية لنشاط السامع واسترعاء لانتباهه. ولو شرطية وكان فعل ماض ناقص ولنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كان المقدم ومن الأمر جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وشيء اسم كان المؤخر وما نافية وقتلنا فعل ماض مبني للمجهول ونا نائب فاعل وجملة ما قتلنا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وهاهنا الهاء للتنبيه وهنا اسم اشارة في محل نصب ظرف مكان متعلق بقتلنا (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان أن الآجال مكتوبة وأنهم لو أقاموا في المدينة لحدثت لهم أسباب يخرجون فيها لملاقاة حتوفهم وأنهم إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. ولو شرطية وكنتم كان واسمها، وفي بيوتكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر والجملة في محل نصب مقول القول (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) اللام واقعة في الجواب وبرز الذين فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة كتب عليهم القتل صلة الذين والى مضاجعهم جار ومجرور متعلقان ببرز أي الى مصارعهم (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) الواو عاطفة على محذوف تقديره: وفعل ما فعله في أحد لمصالح جمة وليبتلي، اللام للتعليل ويبتلي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بالفعل المحذوف أي فعل ذلك. لمصالح تجهلونها وليبتلي ما في الصدور، وما اسم موصول مفعول به وفي صدوركم جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 قُلُوبِكُمْ) عطف على ليبتلي ما في صدوركم (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة لتأكيد علمه تعالى بالسرائر والكوامن، والله مبتدأ وعليم خبر وبذات الصدور جار ومجرور متعلقان بعليم. البلاغة: لو شئنا الإسهاب في إظهار مواطن البلاغة المنطوية فيها لضاق بنا المجال، وحسبنا أن فلم بها إلماما سريعا يأتي على ما تطول فيه العبارة وتمتد، فمنها: 1- الإيجاز: ويبدو في كثير من المواطن فيها على الشكل التالي: آ- في كلمة ثم الواقعة في مستهلها للدلالة على أن تراخيا من الزمن قد امتد بعد أن حل بهم ما حل في وقعة أحد في تلك الحادثة العجيبة، فبعد تصعيدهم في الجبل، وإشاحة وجوههم عن رؤية ما حدث لفرط ما نابهم من الدهشة واستولى عليهم من الفزع والهلع أتبعهم الله غما بعد غم أو على غم، أو بسببه حدث نزول الأمن فرنّق النعاس في الأجفان، وهوّمت الرؤوس، واسترخت المفاصل فكانوا يميدون تحت الحجف، وكانت السيوف تسقط من أيديهم. والحجف بفتحتين جمع حجفة اسم الترس أو الدرقة. ب- في كلمة «أمنة» وإبدال النعاس منها إيجاز كثير يدل على أن الأمن والهدوء استوليا عليهم فور ترنيق النعاس وأخذ دبيب الكرى بمعاقد أجفانهم، وإنما ينعس من أمن وزايله الخوف، والخائف لا ينام، بل يرى أعداءه في كل مكان. وقد رمق المتنبي هذه السماء العالية فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 وضاقت الأرض حتى كاد خائفهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا ج- في كلمة «شيء» من قوله: «هل لنا من الأمر من شيء» التي احتوت على ما تضيق عنه الصحف كالنصر والظهور على العدو بعد أن اشتدت وطأته وضراوته. د- في حذف خبر «طائفة» تنزيها لهم عن نسبة من اهتموا بأنفسهم ولم تبق لهم رغبة إلا في نجاتها دون النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه فانهم لم يناموا، أما تقدير الخبر فيمكن أن يقدر: «تعرفهم بسيماهم» . 2- الكناية فقد كنى بالمضاجع عن المصارع حيث لاقوا حتفهم وصافحوا مناياهم. 3- المخالفة في جواب لو، فقد جاء مرة بغير لام وجاء مرة مقترنا بها وفي هذا سر عجيب فقد قال: «لو كان لنا من الأمر من شيء ما قتلنا هاهنا» ثم قال: «لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل» والقاعدة المعروفة هي أن جواب لو إذا كان منفيا بما فالأكثر عدم اللام وفي الإيجاب بالعكس لأن الإيجاب أحوج الى التثبيت والترسيخ وهذا من الأسرار التي تميز كتاب الله بها ليكون المعجزة أبد الدهر. الفوائد: 1- هذه الآية تجمع حروف المعجم ليس في القرآن غيرها وغير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 آية الفتح وهي قوله تعالى: «محمد رسول الله» الى قوله: «وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما» . 2- لا بد في بدل الاشتمال من عائد يربطه بالأول فأما في قوله: «نعاسا» فالمراد: نعاسا فيها، لأن المخاطب يعلم ذلك بسهولة كما تقدم. لأن كلا من الأمنة والنعاس مشتمل على الآخر. [سورة آل عمران (3) : آية 155] إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) اللغة: (اسْتَزَلَّهُمُ) طلب منهم الزلل واستدرجهم اليه. والزلل هو الانحراف عن الحق والوقوع في المناكر. الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) كلام مستأنف مسوق لبيان سبب هزيمة المنهزمين واستزلال الشيطان إياهم، فحرموا قوة القلب وثبات الجنان، وهما عدة النصر. وإن واسمها، وجملة تولوا صلة الموصول ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ويوم ظرف زمان متعلق بتولوا وجملة التقى في محل جر بالاضافة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) الجملة خبر إن وانما كافة ومكفوفة واستزلهم الشيطان فعل ومفعول به وفاعل وأعاد إن بطريق الحصر تنبيها على مصدر الغي وسببه، وهو ركونهم الى الشيطان وإنصاتهم لداعيه. وببعض جار ومجرور متعلقان باستزلهم وما اسم موصول في محل جر بالاضافة وجملة كسبوا صلة الموصول والعائد محذوف أي بتركهم المركز الذي أمرهم الرسول بالثبات فيه فجرهم ذلك الى الهزيمة (وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لاعلان العفو عنهم بعد ما تابوا واعتذروا واللام جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق وعفا الله فعل وفاعل وعنهم جار ومجرور متعلقان بعفا (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) ان واسمها، وغفور حليم خبران لإن والجملة تعليلية لقوله: عفا عنهم. [سورة آل عمران (3) : آية 156] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) اللغة: (ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) : سافروا فيها وأبعدوا في سفرهم للتجارة أو للغزو أو لغير ذلك من المقاصد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 (غُزًّى) جمع غاز، والقياس غزاة كرام ورماة وساع وسعاة، ولكنهم حملوا المعتل على الصحيح. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم اعرابها (لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) لا ناهية وتكونوا فعل مضارع ناقص مجزوم بلا والواو اسمها وكالذين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ولك أن تجعل الكاف اسما بمعنى مثل فتكون هي الخبر والذين اسم موصول مضاف اليه وجملة كفروا صلة، وجملة النهي مستأنفة مسوقة لتحذير المؤمنين من الاحتذاء بالمنافقين والنطق بمثل ما قالوه (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) عطف على الصلة والمراد بالاخوة اتفاق الجنس أو النسب. وإذا لمجرد الظرفية يراد بها حكاية الحال الماضية تجسيدا للصورة والظرف متعلق بقالوا وجملة ضربوا في الأرض في محل جر بالاضافة لوقوعها بعد الظرف (أَوْ كانُوا غُزًّى) عطف على جملة ضربوا في الأرض وغزّى خبر كانوا والواو اسمها (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) الجملة في محل نصب مقول القول ولو شرطية وكان واسمها، وعندنا ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر كانوا أي مقيمين عندنا وجملة ما ماتوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة وما قتلوا عطف على جملة ما ماتوا (لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) اللام لام العاقبة أو الصيرورة أي قالوا ذلك ليصيروا الى هذه العاقبة، ويجعل فعل مضارع بأن مضمرة جوازا بعد لام العاقبة وهي والمصدر المجرور بها متعلقان بفعل محذوف يفهم من السياق أي: قالوا ذلك واعتقدوه، والله فاعل وذلك مفعول به أول وحسرة مفعول به ثان وفي قلوبهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لحسرة. والمشار اليه هو الجهر بالقول والاعتقاد، وجعله الزجاج ظنهم بأنهم لو لم يحضروا لم يقتلوا (وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة يحيي خبر وجملة يميت عطف على جملة يحيي (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ بما جار ومجرور متعلقان ببصير وجملة تعملون لا محل لها لأنها صلة الموصول وبصير خبر «الله» . البلاغة: 1- في هذه الآية فن رائع من فنون البلاغة وهو حكاية الحال الماضية استحضارا للصورة في الذهن وتجسيدا للمعنى المراد وتشخيصا لما يريد المتكلم عرضه، فإذا ظرف للمستقبل وقد جاء متعلقا بقالوا، وهي فعل ماض، وكان ظاهر الكلام يقضي باستعمال «إذ» المفيدة للمضيّ، ولكنه عدل عنها الى «إذا» لحكاية الحال الماضية، واستحضارها في الذهن، وفائدتها استمرار الزمان المنتظم للحال الذي يدور عليه الحديث الى وقت التكلم، وقد فصل الزجّاج هذا المعنى تفصيلا بارعا بقوله: «إذا هنا تنوب عما مضى من الزمان وما يستقبل يعني أنها لمجرد الوقت أو يقصد بها الاستمرار» . 2- الطباق بين يحيي ويميت، وهو من أوجز الحديث وأصدقه وأبعده في الدلالة على المعنى المراد، فانه سبحانه قد يحيي المسافر والغازي مع اقتحامهما موارد الهلكة، ثم يميت المقيم والقاعد مع أخذهما بأسباب الحيطة والحذر. وقد رمق أبو الطيب المتنبي هذه السماء العالية من البلاغة بقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 يقتل العاجز الجبان وقد يعجز عن قطع بخنق المولود ويوقّى الفتى المخشّ وقد خوّ ... ض في ماء لبة الصنديد يقول: لا تجبن، ولا تحرص على الحياة، فالعجز والجبن ليسا من أسباب البقاء وليسا بمنجيين من الموت، ويرحم الله خالد بن الوليد أنه قال عند موته: «ما فيّ موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وها أنا ذا أموت كما يموت العير فلا نامت أعين الجبناء» . الفوائد: (لام العاقبة) أو الصيرورة هي التي تدل على مآل الشيء وعقباه وحكمها في العمل حكم لام التعليل في إضمار أن بعدها جوازا وستأتي أمثلة منها. [سورة آل عمران (3) : الآيات 157 الى 158] وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) الإعراب: (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ) كلام مستأنف مسوق لتقرير أن ما تحذرون وقوعه ليس مما ينبغي أن يحذر منه بل يجب أن يكون حافزا لكم على القتال ومواصلة الجهاد. والواو استئنافية واللام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 موطئة للقسم المقدر وإن شرطية وقتلتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وهو مبني للمجهول والتاء نائب فاعل وفي سبيل الله جار ومجرور متعلقان بقتلتم أو متم عطف على قتلتم ومتم فعل ماض من مات يموت كقال يقول فهي بضم الميم ويجوز كسرها إذا كانت من مات يمات كخاف يخاف وقد قرىء بهما (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) اللام لام الابتداء ومغفرة مبتدأ ساغ الابتداء به مع انه نكرة لوصفه بالجار والمجرور ورحمة عطف على مغفرة وخير خبر ومما جار ومجرور متعلقان بخير وجملة يجمعون صلة ما، ولام الابتداء ومدخولها جملة لا محل لها لأنها جواب للقسم حسب القاعدة المقررة وهي أنه إذا اجتمع قسم وشرط فالجواب يعطى للمتقدم منهما (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ) تقدم اعرابها (لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) اللام ومدخولها جواب القسم، والى الله جار ومجرور متعلقان بتحشرون وتحشرون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. البلاغة: في هذه الآية والتي قبلها فن منتظم في باب التقديم والتأخير، فقد ورد الموت والقتل فيهما ثلاث مرات، وتقدم الموت على القتل في الأول والأخير منها، وتقدم القتل على الموت في المتوسط، تبعا لتقديم الأهم والأشرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 [سورة آل عمران (3) : آية 159] فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) اللغة: (فَظًّا) : جافيا والفظاظة: الجفوة في المعاشرة قولا وفعلا. قال الراغب: «الفظّ: كريه الخلق، وذلك مستعار من الفظّ، وهو ماء الكرش، وذلك مكروه شربه إلا في ضرورة. والغلظة: ضد الرقة. ويقال: غلظ وغلظ بالكسر والضم، وعن الغلظة تنشأ الفظاظة وقدمت الفظاظة لسرّ وهو تقديم ما هو ظاهر للحسّ على ما هو خاف في القلب. الإعراب: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما يجب سلوكه لتأليف الناس وترغيبهم في الخير، والفاء استئنافية وبما رحمة جار ومجرور متعلقان بلنت وما زائدة للتوكيد ومن الله: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لرحمة ولنت فعل ماض مبني على السكون والتاء فاعل ولهم: جار ومجرور متعلقان بلنت (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) الواو عاطفة على محذوف مقدر، أي: لنت ولو لم تكن لينا. ولو شرطية وكنت كان الناقصة واسمها، وفظا خبرها ولانفضوا: اللام واقعة في جواب لو وانفضّوا فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومن حولك: جار ومجرور متعلقان بانفضوا (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) الفاء هي الفصيحة أي: إذا شئت سلوك الطريق المثلى فاعف عنهم فيما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 يختص بك، واعف فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله أنت وعنهم: جار ومجرور متعلقان بأعف واستغفر عطف على اعف، اي: فيما يختص بغيرك، ولهم: جار ومجرور متعلقان باستغفر (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) عطف أيضا وفي الأمر جار ومجرور متعلقان بشاورهم (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) الفاء عاطفة ولك أن تجعلها استئنافية فتكون الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما يجب عمله بعد المشاورة، وقدم المشاورة للإشارة الى أن التوكل ليس يعني إهمال التدبير، وبيان أن الشورى من أفضل الأمور، وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل وتفويض الأمور لله تعالى. وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة عزمت في محل جر بالاضافة وفتوكل: الفاء رابطة لجواب إذا وتوكل فعل أمر والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعلى الله جار ومجرور متعلقان بتوكل (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) الجملة تعليلية لا محل لها وإن واسمها، وجملة يحب المتوكلين خبرها. الفوائد: زيادة (ما) بين الباء وعن ومن والكاف ومجروراتها أمر معروف في اللسان العربي مقرر في علم العربية. وذهب بعض المعربين الى أن «ما» ليست زائدة بل هي نكرة تامة بمعنى شيء ورحمة بدل منها. وكأن قائلي هذا يفرّون من أنها زائدة. وقيل: «ما» هنا استفهامية، قال الفخر الرازي ما نصه: «قال المحققون: دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام أحكم الحاكمين غير جائز، وهنا يجوز أن تكون «ما» استفهاما للتعجب تقديره: فبأي رحمة من الله لنت لهم! وذلك بأن جنايتهم لمّا كانت عظيمة، ثم إنه ما أظهر البتة تغليظا في القول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 ولا خشونة في الكلام علموا أن هذا لا يتأتى إلا بتأييد رباني قيل ذلك» . وما قاله هؤلاء المحققون صحيح ولكن زيادة «ما» للتوكيد لا ينكره في مواطنه المقررة من له أدنى مسكة في الذوق والتعلق بالعربية، فضلا عمن يتعاطى تفسير كلام الله. وليس «ما» في هذا المكان ما يتوهمه أحد مهملا فلا يحتاج ذلك الى تأويلها بأن تكون استفهاما للتعجب، ثم إن تقديره ذلك: «فبأي رحمة» دليل على أنه جعل «ما» مضافة للرحمة، وما ذهب اليه خطأ من وجهين، أحدهما: أنه لا تضاف ما الاستفهامية ولا أسماء الاستفهام غير «أيّ» بلا خلاف، و «كم» على خلاف. والثاني أنه إذا لم تصح الاضافة فيكون إعرابه بدلا، وإذا كان بدلا من اسم الاستفهام فلا بد من إعادة همزة الاستفهام في البدل كما هو مقرر، وكان يغنيه عن هذا الارتباك والتسور عليه قول الزجاج في «ما» هذه: إنها صلة فيها معنى التوكيد بإجماع النحويين والبيانيين. مناقشة طريفة بين الغزالي وابن الأثير: وقد جرت مناقشة طريفة بين الغزالي وابن الأثير فقال الغزالي في حديثه عن أقسام المجاز: القسم الثاني عشر الزيادة في الكلام لغير فائدة كقوله تعالى: «فبما رحمة من الله لنت لهم» ف «ما» هنا زائدة لا معنى لها، أي فبرحمة من الله لنت لهم. ورد عليه ابن الأثير فقال وهذا القول لا أراه صوابا وفيه نظر من وجهين: أحدهما: أن هذا القسم ليس من المجاز، لأن المجاز هو دلالة اللفظ على غير ما وضع له في أصل اللغة، وهذا غير موجود في الآية، وانما هي دالة على الوضع اللغوي المنطوق به في أصل اللغة. والوجه الآخر: إني لو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 سلمت أن ذلك من المجاز لأنكرت أن لفظة «ما» زائدة لا معنى لها، ولكنها وردت تضخيما لأمر النعمة التي لان بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم لهم، وهي محض الفصاحة، ولو عري الكلام منها لم تكن له تلك الفخامة الى أن يقول: «وأما الغزالي رحمه الله فانه عندي معذور في أن لا يعرف ذلك لأنه ليس فنه ومن ذهب الى أن في القرآن لفظا زائدا لا معنى فإما أن يكون جاهلا بهذا القول وإما أن يكون متسمحا في دينه واعتقاده، وقول النحاة: إن «ما» في هذه الآية زائدة، إنما يعنون به أنها لا تمنع ما قبلها عن العمل، كما يسمونها في موضع آخر كافة، أي أنها تكف الحرف العامل عن عمله كقولك: إنما زيد قائم ف «ما» قد كفت «إن» عن العمل في «زيد» ، وفي الآية لم تمنع عن العمل، ألا ترى أنها لم تمنع الباء عن العمل في خفض الرحمة» ! فتأمل هذه المناقشة فانها من الحسن بمكان؟. [سورة آل عمران (3) : آية 160] إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) الإعراب: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) كلام مستأنف لإيجاب التوكل على الله تعالى والاعتماد عليه. وإن شرطية وينصركم فعل الشرط والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به والله فاعل، فلا الفاء رابطة لجواب الشرط ولا نافية للجنس تعمل عمل إن وغالب اسمها المبني على الفتح وجملة فلا غالب لكم في محل جزم جواب الشرط ولكم جار ومجرور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 متعلقان بمحذوف خبرها (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) الواو عاطفة وإن شرطية ويخذلكم فعل الشرط فمن الفاء رابطة لجواب الشرط ومن اسم استفهام إنكاري في محل رفع مبتدأ وذا اسم اشارة في محل رفع خبر «من» والذي اسم موصول في محل رفع بدل من اسم الاشارة ومن بعده جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وجملة فمن الاسمية في محل جزم جواب الشرط وجملة ينصركم صلة لا محل لها (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) الواو عاطفة وعلى الله جار ومجرور متعلقان بيتوكل والفاء لتأكيد الاستئناف واللام لام الأمر ويتوكل فعل مضارع مجزوم باللام والمؤمنون فاعل وفي تأكيد الاستئناف بعد الإنكار والنفي حث مبالغ فيه على الاتكال بعد الاخذ بأسباب الحيطة والحذر. [سورة آل عمران (3) : الآيات 161 الى 163] وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) اللغة: (غَلَّ) : أخذ خفية واستغلالا وخيانة. والغلول صفة تتنافى مع النبوة. ومن طريف الجناس قولهم: «يد المؤمن لا تغلّ وقلب المؤمن لا يغلّ» الأولى بضم الغين من الغلول والثانية بكسرها من الغل أي الحقد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 الإعراب: (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) كلام مستأنف مسوق لنفي الغلول عن النبي صلّى الله عليه وسلم. وفي قراءة بالبناء للمجهول أي ينسب الى الغلول، وكلتا القراءتين تنفي هذه الصفة عن النبي لعصمته ولتحريم الغلول. والواو استئنافية وما نافية وكان فعل ماض ناقص مبني على الفتح ولنبي جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وأن يغل مصدر مؤول اسمها المؤخر (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق للرّدع عن الغلول. ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويغلل فعل الشرط ويأت جوابه وبما جار ومجرور متعلقان بيأت وجملة غل صلة الموصول ويوم القيامة ظرف زمان متعلق بيأت أيضا وجملة فعل الشرط وجوابه خبر من (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وتوفى فعل مضارع مبني للمجهول معطوف على الجملة الشرطية وكل نفس نائب فاعل وما اسم موصول في محل نصب مفعول به ثان وجملة كسبت صلة الموصول (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الواو استئنافية أو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يظلمون خبر «هم» والجملة استئنافية أو حالية، ونرى الاستئناف أرجح لأنها بمثابة إيضاح لتوفى كل نفس ما كسبت على طريق العدل فينال كل انسان جزاءه من غير حيف أو نقصان (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف والنية التقدم على الهمزة وقد تقدم البحث في هذا التركيب وإن تقدير المحذوف: أجعل لك ما تميز به بين الضال والمهتدي فمن اتبع رضوان الله واهتدى ليس كمن باء بسخطه، والاستفهام الانكاري معناه النفي، ومن اسم موصول مبتدأ وجملة اتبع صلة ورضوان الله مفعول به لاتبع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 والجملة معطوفة على المحذوف الذي هو مستأنف (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ) كمن الكاف حرف جر ومن اسم موصول في محل جر بالكاف والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر «من» أو الكاف اسم بمعنى مثل خبر ومن مضاف إليه وجملة باء صلة الموصول وبسخط جار ومجرور متعلقان بباء ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الواو حرف عطف ومأواه مبتدأ وجهنم خبره والجملة عطف على الصلة، أي: وكمن مأواه جهنم. ولك أن تجعل الواو استئنافية، وعلى كلا الوجهين لا محل لها من الإعراب وبئس الواو عاطفة أيضا وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والمصير فاعل والمخصوص بالذم محذوف، أي جهنم (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان التفاوت ما بين الفريقين كما سيأتي في باب البلاغة وهم مبتدأ ودرجات خبر وعند الله ظرف متعلق بمحذوف صفة لدرجات والله الواو استئنافية والله مبتدأ وبصير خبر وبما جار ومجرور متعلقان ببصير وجملة يعملون صلة. البلاغة: في هذه الآيات فنون شتى يضيق عنها العدّ ويمكن إيجازها على الوجه التالي: 1- المبالغة في النهي، وقد وردت المبالغة على هذه الصيغة كثيرا في القرآن، كقوله تعالى: «ما كان لنبي أن يكون له أسرى» ، «ما كان للنبي والذين آمنوا ... أن يستغفروا للمشركين» . 2- والغلول أولى بأن يبالغ فيه، لأن تصور المبالغة على وجه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 يبعث الخوف ويحجب الخاطر عن التفكير فيه، وتصويره، بله ارتكابه والخوض في مناحيه. ويحسن بنا أن نورد حديثا فيه تجسيد فني لصورة الغلول أو الاستغلال، أو اجتلاب المنافع الخاصة على حساب المجاهدين والضاريين في سبيل الله، حتى على حساب الحيوانات التي لا تعقل، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره، حتى قال: «لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبة فرس له حمحمة فيقول: يا رسول الله أغثني! فأقول لا أملك لك من الله شيئا فقد أبلغتك» والحديث طويل اجتزأنا منه بما تقدم. 3- التشبيه البليغ في قوله «هم درجات» فقد جعلهم الدرجات نفسها، للمبالغة في إظهار التفاوت، لما بينهم في الثواب والعقاب. 4- الالتفات وهو هنا العدول عن ذكر الخاص، وهو النبي، الى ذكر العام، وهو كل نفس، ليشمل كل كاسب بغير حق، وليتلطف ويتعطف في تقرير الغلول ونتائجه بالنسبة للنبي. ألا ترى الى قوله تعالى: «عفا الله عنك لم أذنت لهم» فقد بدأ المصطفى بالعفو، ولو لم يبدأ به لتفطر قلبه. 5- الطباق بين الرضوان والسخط. [سورة آل عمران (3) : آية 164] لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 الإعراب: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) اللام جواب لقسم محذوف وقد حرف تحقيق ومنّ الله فعل وفاعل وعلى المؤمنين جار ومجرور متعلقان بمنّ والكلام مستأنف مسوق لتأكيد نزاهة النبي صلى الله عليه وسلم وبيان خطأ الذين نسبوا إليه الغلول (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بمنّ وجملة بعث في محل جر بالإضافة وفيهم جار ومجرور متعلقان ببعث ورسولا مفعول به ومن أنفسهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ل «رسولا» (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) الجملة صفة ثانية ل «رسولا» وعليهم جار ومجرور متعلقان بيتلو (وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) الجملتان معطوفتان على يتلو، والكتاب مفعول به ثان ليعلمهم والحكمة عطف على الكتاب (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الواو حالية وإن مخففة من الثقيلة مهملة لا عمل لها وكان واسمها، ومن قبل جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وقبل ظرف مبني على الضم في محل جر بمن ولفي اللام هي الفارقة وفي ضلال جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كانوا ومبين نعت. البلاغة: في الآية فن رفيع من فنون البلاغة يعرف بفن التجريد، وهو أن ينتزع المتكلم من أمر ذي صفة أمرا آخر بمثاله فيها مبالغة لكسالها فيه، كأنه أبلغ من الاتصاف بتلك الصفة. وهو أقسام كثيرة يسكن الرجوع إليها في كتب البلاغة، ولكننا نشير الى أهمها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 1- أن يكون ب «من» الجارّة، ومن أوابده في النثر خطبة أبي طالب في تزويج خديجة بالنبي صلى الله عليه وسلم ومنها: «الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضي معد» . 2- ويكون بالباء الجارة التجريدية كقول أبي تمام: هتك الظلام أبو الوليد بعزة ... فتحت لنا باب الرجاء المقفل بأتمّ من قمر السماء إذا بدا ... بدرا وأحسن في العيون وأجمل بأجلّ من قيس إذا استنطقته ... رأيا وألطف في الأمور وأجزل 3- ويكون يفي الجارّة التجريدية، قال تعالى: «لهم فيها دار الخلد» أي في جهنم فانتزع منها دارا أخرى مبالغة. وقد رمقها أبو الطيب فقال: تمضي المواكب والأبصار شاخصة ... منها الى الملك الميمون طائره قد حرن في بشر في تاجه قمر ... في درعه أسد تدمى أظافره فإن الأسد هو الممدوح نفسه لكنه انتزع منه أسدا آخر تهويلا لأمره ومبالغة في اتصافه بالشجاعة والإقدام. 4- ومن أقسام التجريد أن ينتزع الإنسان من نفسه شخصا آخر مثله في الصفة التي سيق لها الكلام، ثم يخاطبه كقول المتنبي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم تسعد الحال وأجز الأمير الذي نعماه فاجئة ... بغير قول ونعمى القوم أقوال وجميل قول أبي نواس: يا كثير النّوح في الدمن ... لا عليها بل على السكن سنة العشاق واحدة ... فإذا أحببت فاستنن ومراده الخطاب مع نفسه، ولذلك قال بعدهما: ظنّ بي من قد كلفت به ... فهو يجفوني على الظّنن بات لا يعنيه ما لقيت ... عين ممنوع من الوسن رشأ لولا ملاحته ... خلت الدنيا من الفتن وقال شوقي في العصر الحديث: قم ناج جلّق وانشد رسم من بانوا ... مشت على الرسم أحداث وأزمان فقد انتزع من نفسه شخصا آخر يمثّله في الشاعرية والقدرة على مناجاة دمشق الخالدة التي صمدت للاستعمار دائما. ويكثر هذا القسم في مطالع القصائد ولكن سبيله صعبة محفوفة بالخطر لأنه قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 يخاطب مسدوحه أو معشوقه أو أي مخاطب كان بما يكره ويتطيّر به كما فعل جرير عند ما استهل قصيدة مدح بها عبد الملك بن مروان: أتصحو أم فؤادك غير صاح ... عشيّة هم صحبك بالرّواح فقال له عبد الملك: ويلك! ما لك ولهذا السؤال يا ابن الفاعلة! وكما تورط أبو الطيب المتنبي نفسه متعمدا في مديح كافور: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا ومن القصائد البديعة التي تغلغل التجريد الى أبياتها قصيدة الصمة بن عبد الله في صاحبته ريا، ونوردها كاملة ففيها لعشاق الأدب سلوى وتأساء: حننت إلى ريا ونفسك باعدت ... مزارك من ريا وشعباكما معا فما حسن أن تأتي الأمر طائعا ... وتجزع أن داعي الصبابة أسمعا فقا ودعا نجدا ومن حلّ بالحمى ... وقل لنجد عندنا أن يودّعا بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربا ... وما أحسن المصطاف والمتربّعا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 وليست عشيّات الحمى برواجع ... إليك ولكن خلّ عينيك ت دمعا ولما رأيت البشر أعرض دوننا ... وحالت بنات الشوق يحننّ ن زّعا بكت عيني اليسرى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا تلفّت نحو الحي حتى حسبتني ... وجعت من الإصغاء ليتا وأ خدعا وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن تصدّعا الفوائد: تخفف «إنّ» المكسورة الهمزة المشبهة بالفعل فتهمل لزوال اختصاصها، وتدخل على الخبر لام تسمى اللام الفارقة، مثل: إن خالد لمسافر، فرقا بينها وبين إن النافية، وإذا وليها فعل كانت مهملة حتما، ويكون هذا الفعل من النواسخ أي كان وظن وأخواتهما، ولا بد من دخول هذه اللام على هذه الأفعال. وقد أعملها بعض العرب في القسم الأول على قلة فقالوا يجوز أن نقول: إن خالدا لمسافر، ولهذا أخطأ الزمخشري وخالف كتابه المفصل عند ما أعملها في قولها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 تعالى: «وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين» عند ما قدر اسمها اسما ظاهرا أي إن الشأن والحديث. وقد تبع الزمخشري في الخطأ الجلال وأبو السعود، وجلّ من لا يسهو. [سورة آل عمران (3) : آية 165] أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) الإعراب: (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) الهمزة للاستفهام الانكاري والتقريع والواو عاطفة على ما تقدم من قصة أحد والمعنى لا ينبغي لكم أن تتعجبوا من فشلكم فإنكم تعلمون السبب وإذا عرف السبب بطل العجب، ولما ظرفية حينية متعلقة بقلتم أو رابطة فهي حرف، وسيأتي حكمها في باب الفوائد. وأصابتكم فعل ماض ومفعول به ومصيبة فاعل (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) الجملة صفة لمصيبة وقد حرف تحقيق وأصبتم فعل وفاعل ومثليها مفعول به (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) جملة قلتم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وأنى اسم استفهام خبر مقدّم وهذا مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول والمعنى: من أين أصابنا هذا الانهزام والقتل ونحن نقاتل في سبيل الله ومعنا رسول الله وقد وعدنا الله بالنصر عليهم؟ (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) جملة القول مقول للقول وهو مبتدأ ومن عند أنفسكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ان واسمها وخبرها وعلى كل شيء جار ومجرور متعلقان بقدير والجملة تعليلية لا محل لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 الفوائد: 1- أورد ابن هشام في المغني هذه الآية شاهدا على أن الهمزة تدخل على النفي كما تدخل على الإثبات وهذا وهم منه لم نكن نتوقع صدوره عن رجل ذكي مثله لأن لما هنا حينية لا نافية فلا يصلح هذا مثالا لدخولها على النفي ولا يقال: إن الهمزة للانكار وهو بمثابة النفي فالكلام الذي دخلت عليه منفيّ أيضا فصح التمثيل لأنّا نقول: الإنكار هنا توبيخي فمدخوله ثابت كقولك لضارب أبيه: أتضربه وهو أبوك فالأولى الاعتراف بأن ابن هشام اشتبه عليه لفظ لما لعلّ المراد أنه أراد لما النافية وقد انتبه السيوطي لهذه الغلطة وقال: والاولى التمثيل بقول الشاعر: فقلت: الما أصح والشيب وازع، وهذه من هنات ابن هشام اليسيرة التي سجلناها عليه وجلّ من لا يسهو، وقال الدماميني في شرحه للمغني: «والأولى أن يجعل مدخولها محذوفا هو المعطوف عليه أي ألم تجزعوا أو قلتم لمّا أصابتكم مصيبة ويكون المصنف مثل للنفي المذكور والمحذوف قال: فإن قلت هذا لا يراه المصنف كما يأتي وانما يرى الهمزة الداخلة على مدخول الواو قدمت تنبيها على اصالتها في التصدير كما يأتي فكيف يحمل كلامه على ما ذكرت؟ قلت: المصنف لم يذكر هذا في الهمزة التي للانكار نحو: «أفأمن أهل القرى» «أفلم يسيروا» أو مثل على قول الزمخشري ومن تبعه. 2- (لَمَّا) على ثلاثة أوجه: آ- تختص بالمضارع فتجزمه وتقلبه ماضيا كلم ولكن نفيها مستمر الى الحال بعكس لم. ب- أن تختص بالماضي وقد اختلف فيها علماء النحو فقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 جماعة هي ظرف بمعنى حين وقال جماعة هي حرف لربط جملتين لا بد منهما نحو لما جاءني أكرمته. ج- أن تكون حرف استثناء فتدخل على الجملة الاسمية نحو «إن كل نفس لما عليها حافظ» وسيأتي الكلام عنها في مكانها. 3- قد: حرف توقّع لاقترانه بالافعال المتوقعة والمسئول عنها ولذلك يقال: إذا دخلت على الماضي حرف تحقيق وإذا دخلت على المضارع حرف تقليل ومعنى تقليلها تقريبها من الحال ومنه قوله تعالى: «قد يعلم الله المعوقين منكم» وقد تخرج عن موقعها وتجيء من قبيل الأسماء بمعنى حسب، تقول: قدك أي حسبك. قال أبو تمام: قدك اتّئب أربيت في الغلواء ... كم تعذلون وأنتم سجرائي [سورة آل عمران (3) : الآيات 166 الى 167] وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الإعراب: (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) الكلام مستأنف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 مسوق لتتمة قصة أحد والواو استئنافية وما اسم موصول مبتدأ وجملة أصابكم صلة ويوم ظرف منعلق بأصابكم وجملة التقى الجمعان في محل جر بالإضافة (فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) الفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وبإذن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف تقديره فهو بإذن الله والجملة الاسمية في محل رفع خبر اسم الموصول وليعلم الواو عاطفة واللام للتعليل ويعلم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة والجار والمجرور متعلقان بما تعلق به بإذن والعطف هو من باب عطف السبب على السبب ولك أن تعلقهما بفعل محذوف تقديره فعل ذلك ليعلم والمؤمنين مفعول به (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) عطف على ليعلم والذين اسم موصول مفعول به وجملة نافقوا صلة الموصول (وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا) كلام مستأنف مسوق للاخبار بأنهم مأمورون إما بالقتال وإما بالدفع ولك أن تجعله معطوفا على نافقوا داخلا في حيّز الموصول أي وليعلم الذين حصل منهم النفاق والقول المذكور وقيل فعل ماض مبني للمجهول ولهم جار ومجرور متعلقان بقيل وجملة تعالوا مقول القول وكذلك جملة قاتلوا وكلتا الجملتين نائب فاعل قيل ولم يأت بحرف العطف بينهما لأن كلا من الجملتين مقصودة بالذكر لذاتها وفي سبيل الله جار ومجرور متعلقان بقاتلوا أو حرف عطف وادفعوا معطوف على قاتلوا وحذف مفعول ادفعوا للعلم به لأنه العدو ودفعه انما يكون بتكثير سواد المسلمين وسواد المسلمين جماعتهم (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ) الجملة لا محل لها لأنها مستأنفة مسوقة لتعبر عن تمحلهم وامعانهم في اللجاج وركوب متن الغي والضلال ولو شرطية وسماها سيبويه حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره جملة لو نعلم قتالا مقول قولهم لأن رأي عبد الله بن أبي كان في الاقامة بالمدينة. واللام واقعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 في جواب لو واتبعناكم فعل ماض وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) الجملة مستأنفة مسوقة للقطع بأمرهم وهم مبتدأ وللكفر جار ومجرور متعلقان بأقرب ويوم ظرف زمان مضاف لظرف آخر وهو متعلق بمحذوف حال وأقرب خبرهم ومنهم جار ومجرور متعلقان بأقرب وللايمان جار ومجرور متعلقان بأقرب أيضا وهذا من خصائص اسم التفضيل يتعلق به حرفا جر متحدان لفظا ومعنى وحرف آخر غير متحد بعامل واحد لأنه في قوة عاملين فهو يدل على أمرين وهما أصل الفعل والزيادة فيه فيعمل كل منهما بواحد (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) الجملة مستأنفة لا محل لها أو حالية من الضمير في أقرب فيكون المعنى قربوا للكفر في حالة كونهم قائلين هذه المقالة وبأفواههم جار ومجرور متعلقان بيقولون وانما صرح بالجار والمجرور والقول لا يكون إلا بالأفواه لأن القول يطلق على اللساني والجسماني فتقييده بأفواههم تقييد لأحد محتمليه وقيل لمجرد التأكيد وما اسم موصول مفعول به وجملة ليس في قلوبهم صلة ما وفي قلوبهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ليس (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) كلام مستأنف مسوق لتقرير انه تعالى عليم بما يكتمونه من نفاق أو بما كانوا يبيتونه في الخفاء ولك أن تجعلها حالية والله مبتدأ وأعلم خبر وبما جار ومجرور متعلقان بأعلم وجملة يكتمون صلة ما. [سورة آل عمران (3) : آية 168] الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 الإعراب: (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا) الذين اسم موصول لك في إعرابه وجوه متساوية منها أن تعربه بدلا من اسم الموصول في الآية المتقدمة أي الذين نافقوا أو من الواو في نافقوا أو تنصبه على الذّمّ بفعل محذوف تقديره أذمّ وهو شائع في كلامهم ويدل على تجسيد وتصوير ولك أن ترفعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف فتكون الجملة مستأنفة وجملة قالوا صلة ولاخوانهم جار ومجرور متعلقان بقالوا والواو يجوز فيها أن تكون حالية أو عاطفة والجملة اما حالية من الواو في قالوا وقد مقدرة واما معطوفة على جملة قالوا (لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) لو شرطية وأطاعونا فعل ماض وفاعل ومفعول به وما نافية وقتلوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل وجملة ما قتلوا لا محل لها لانها جواب شرط غير جازم وجملة لو أطاعونا في محل نصب مقول القول (قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الجملة مستأنفة وقل فعل أمر والفاء هي الفصيحة أي إذا صحّت دعواكم فادرءوا عن أنفسكم أي ادفعوا وعن أنفسكم جار ومجرور متعلقان بادرءوا والموت مفعول به وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وصادقين خبر كنتم وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فادرءوا الموت إن كنتم صادقين في دعواكم ان القعود ينجي صاحبه ولا يقال إن الإنسان يدفع عن نفسه العارض قبل حلول الاجل إذا أخذ بأسباب التوقي فذلك إرجاف لا ينفق مع قوله تعالى «فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 الفوائد: (لَوْ) في الكلام ضربان: مصدرية وشرطبة. آ- المصدرية هي التي يحسن في موضعها ان المصدرية وأكثر ما تقع بعد ودّ أو ما في معناه كقوله تعالى «يود أحدهم لو يعمر ألف سنة» . ب- الشرطية هي للتعليق في الماضي كما أن إن في المستقبل ومن ضرورة كون التعليق في الماضي أن يكون شرطها منفيّ الوقوع لأنه لو كان ثابتا لكان الجواب كذلك واما جوابها فان كان مساويا للشرط في العموم كما في قولك: لو كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا فلا بد من انتفائه أيضا وإن كان أعم من الشرط كما في قولك: لو كانت الشمس طالعة لكان الضوء موجودا فلا بد من انتفاء القدر المادي منه للشرط ولذلك تسمع النحاة يقولون: لو حرف امتناع لامتناع أي يدل على امتناع الجواب لامتناع الشرط ولا يرون انها تدل على امتناع الجواب مطلقا لتخلفه في نحو: لو ترك العبد سؤال ربه لأعطاه. وإنما يريدون انها تدل على انتفاء المساوي من جوابها للشرط والأولى أن يقال: لو حرف شرط يقتضي نفي ما يلزم من ثبوته ثبوت غيره فينبه على انها تقتضي لزوم شيء لشيء وكون الملزوم منفيا ولا يتعرض لنفي اللازم مطلقا ولا لثبوته لأنه غير لازم من معناها وسيرد بحث ممتع عند قوله تعالى: «ولو ان ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله» فانتظر واقرأ العجيب من هذه اللغة الشريفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 [سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 170] وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) الإعراب: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً) كلام مستأنف مسوق لاخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأمته بمصائر الشهداء ولئن كان الكلام خاصا بشهداء أحد فلا ينتفي عنه العموم وقد سبق القول في شهداء بدر وما نزل فيهم وهو قوله تعالى «ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله» الآية والواو استئنافية ولا ناهية وتحسبنّ فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وهو في محل جزم بلا الناهية وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والذين اسم موصول مفعول به أول وأمواتا مفعول به ثان (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) بل حرف عطف يعطف جملة على جملة وأحياء خبر لمبتدأ محذوف أي هم أحياء وليست بل التي تعطف مفردا على مفرد لأن المعنى يختل إذ يصير لا تحسبنهم أحياء بل الغرض الإعلام بحياتهم ترغيبا في الجهاد وحثّا عليه وعند ربهم ظرف متعلق بيرزقون ويجوز أن تعلقه بمحذوف خبر ثان ويجوز أن تعلقه بمحذوف صفة وهذه الوجوه متساوية الرجحان وجملة يرزقون في محل رفع خبر ثالث أو ثان (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) فرحين حال من الضمير في يرزقون وبما جار ومجرور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 متعلقان بفرحين وجملة آتاهم الله صلة ما الموصولية ومن فضله جار ومجرور متعلقان بآتاهم ولك أن تعتبر من تبضيعية فتعلقها مع مجرورها بمحذوف حال (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) الجملة معطوفة على فرحين من جهة المعنى فهي حال لأن الصفة المشبهة تشبه المضارع وبالذين جار ومجرور متعلقان بيستبشرون وجملة لم يلحقوا بهم صلة الذين ومن خلفهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الواو في لم يلحقوا (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن المحذوف والمصدر المؤول من ان وما في حيزها منصوب بنزع الخافض أي بأن لا خوف عليهم والجار والمجرور متعلقان بمحذوف بدل اشتمال من الذين أي ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوهم خلفهم أحياء في الدنيا من المؤمنين ولا يخفى ما في هذا الاستبشار من إلهاب للرغبة في الجهاد ولا نافية للجنس مهملة وخوف مبتدأ وعليهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ولا هم يحزنون عطف عليه وقد تقدم اعراب نظائره فلذلك اجتزأنا بما تقدم. البلاغة: 1- الطباق بين أموات وأحياء وهي مطابقة بلغت الغاية في تصوير شهداء معركة أحد والشهداء الذين يستشهدون في معمعان الجهاد وقد خولف الإعراب بين المتعاطفين في الظاهر للدلالة على أنّ الموت أمر طارئ يعقبه الهمود والاندثار وعدم تجدد الذكر أما الرفع وجعله جملة اسمية فهو أبلغ في الدلالة على الديمومة وطروء الذكر وتجدده كل يوم وقد وردت أحاديث تجسد الموقف البديع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 2- مراعاة النظير وهو فن بديع جميل تفنن علماء البلاغة في تسميته فسماه بعضهم التناسب والتوفيق وسماه آخرون الائتلاف والمؤاخاة وحده أن يجمع الناظم والناثر بين أمر وما يناسبه سواء أكانت المناسبة لفظا أم معنى فقد ناسب سبحانه بين فرحين ويستبشرون وبين عدم الخوف وعدم الحزن وبين النعمة والفضل. [سورة آل عمران (3) : الآيات 171 الى 172] يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الإعراب: (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ) كرر الفعل للتأكيد والجملة استئنافية مسوقة للتأكيد ولك أن تجعلها تأكيدا لسابقتها أو بدلا منها وبنعمة جار ومجرور متعلقان بيستبشرون ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لنعمة وفضل عطف على نعمة (وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة وان واسمها وجملة لا يضيع خبرها (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) اسم الموصول مبتدأ ولك أن تنصبه بفعل محذوف على المدح أو تجره على انه صفة للمؤمنين وجملة استجابوا صلة الموصول ولله جار ومجرور متعلقان باستجابوا والرسول عطف على الله (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) من بعد جار ومجرور متعلقان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 بمحذوف حال وما مصدرية وأصابهم القرح فعل ومفعول به وفاعل وما المصدرية وما في حيزها في تأويل مصدر مضاف لبعد (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) للذين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وجملة أحسنوا صلة ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال واتقوا عطف على أحسنوا وأجر مبتدأ مؤخر وعظيم صفة وجملة للذين خبر الذين في قوله: الذين استجابوا، إذا أعربت الذين مبتدأ، أو حالية. غزوة حمراء الأسد: الذين استجابوا لله والرسول هم الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم المؤمنون الذين ساهموا في الحرب بمعركة أحد ويقول التاريخ: حمراء الأسد هي على ثمانية أميال من المدينة على يسار الطريق إذا أردت ذا الحليفة وكانت هذه الغزوة صبيحة يوم الأحد لست عشرة مضت أو ثمان خلون من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من الهجرة لطلب عدوهم بالأمس ونادى مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يخرج معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس أي من شهد معركة أحد فخرج معه جميع من شهدها من المؤمنين الخلّص، وكانوا ستمائة وثلاثين وأقام بها صلى الله عليه وسلم الاثنين والثلاثاء والأربعاء وكان قد أصابهم القرح بسبب ما نالهم في أحد فتسارعوا يحفزهم حبّ الثأر فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الاجر ويحققوا الهدف المرجوّ وساور المشركين الرعب فلم ينهدوا لقتال ولم يبرزوا الى ميدان بل قبعوا في مكة لائذين بأذيال الخوف والنجاة ثم رجع النبي وصحابته الى المدينة يوم الجمعة ولم يستغرق نهوده للمشركين إلا خمسا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 [سورة آل عمران (3) : الآيات 173 الى 175] الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) الإعراب: (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) الذين بدل أو صفة ثانية ل: الذين استجابوا ولكن يشكل على هذا الإعراب أن الذين استجابوا لله والرسول هم الذين حضروا معركة أحد وهؤلاء الذين وقع لهم هذا القول المذكور هم مطلق المؤمنين فتتعذر البدلية أو الوصفية وتفاديا لهذا الاشكال نرى من الأولى أن نعرب الموصول منصوبا بفعل محذوف على المدح والتقدير امدح وجملة قال صلة الموصول ولهم جار ومجرور متعلقان بقال والناس فاعل (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) الجملة مقول القول وإن واسمها وقد حرف تحقيق وجملة جمعوا خبر إنّ ولكم جار ومجرور متعلقان بجمعوا والفاء الفصيحة واخشوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به (فَزادَهُمْ إِيماناً) الفاء عاطفة وزاد عطف على قال والفاعل ضمير مستتر مفهوم من قال لهم أي زادهم القول وايمانا مفعول به ثان ويجوز إعرابه تمييزا (وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) وقالوا عطف على زادهم وحسبنا خبر مقدم ونا مضاف اليه والله مبتدأ مؤخر ونعم الواو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 حالية ولك أن تجعلها استئنافية ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح والوكيل فاعل والمخصوص بالمدح هو الله تعالى (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ) الفاء عاطفة وجملة انقلبوا معطوفة على مقدر مفهوم من سياق الكلام أي وخرجوا مع النبي فانقلبوا وبنعمة جار ومجرور متعلقان بانقلبوا أو بمحذوف حال ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة وفضل عطف على نعمة (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) الجملة حالية ويمسسهم فعل مضارع مجزوم بلم والهاء مفعول به وسوء فاعل (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ) الجملة عطف على جملة انقلبوا (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) الواو استئنافية والله مبتدأ وذو فضل خبر وعظيم صفة (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) كلام مستأنف مسوق لبيان القائل وانما كافة ومكفوفة وذلكم مبتدأ والشيطان مبتدأ ثان وجملة يخوف خبر الشيطان والمبتدأ الثاني وخبره خبر اسم الاشارة ويجوز أن نعرب ذلكم مبتدأ والشيطان بدلا من ذلكم وجملة يخوف خبر ذلكم ويجوز أيضا أن نعرب ذلكم مبتدأ والشيطان خبره وجملة يخوف أولياءه مستأنفة أو حالا. (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الفاء هي الفصيحة أي إذا وثقتم بهذا فلا تخافوهم وخافون عطف على لا تخافوهم والواو فاعل والنون للوقاية وحذفت ياء المتكلم جوازا باتفاق القراء السبعة في الرسم، وإن شرطية، كنتم كان واسمها وفعل الشرط في محل جزم بإن، والجواب محذوف دل عليه ما قبله، ومؤمنين خبر كنتم. البلاغة: 1- العموم والخصوص في ذكر الناس عامة بعد ذكر الخاصة وهم الذين استهموا في غزوة أحد من اطلاق العام وإرادة الخاص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 2- اللف والنشر المرتب في قوله: بنعمة من الله وفضل مع طي ذكر الملفوف والمنشور وهما السلامة بالأجسام التي تعود الى النعمة والربح بالتجارة الذي يعود الى الفضل. [سورة آل عمران (3) : آية 176] وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) اللغة: (يَحْزُنْكَ) بفتح الياء وضم الزاي لغة في أحزنه وبهما قرئ ومثله فتنه وأفتنه فهما لغتان فاشيتان لثبوتهما بطريق التواتر. الإعراب: (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) كلام مستأنف مسوق للمبالغة في تسليته صلى الله عليه وسلم والواو استئنافية ولا ناهية ويحزنك فعل مضارع مجزوم بلا والكاف مفعول به والذين فاعل وجملة يسارعون صلة الموصول وفي الكفر جار ومجرور متعلقان بيسارعون لتضمينها معنى يقعون (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً) الجملة تعليلية لا محل لها للايذان بأن مضارتهم للنبي صلى الله عليه وسلم بمثابة مضارّته سبحانه وفي ذلك مسلاة له ومدعاة له الى اطراح الحزن جملة. ومن حق الرسول أن يحزن لنفاق من نافق وارتداد من ارتد وهذه عظة بالغة للاعتداد بالنفس والثقة والاحتفاظ بالشخصية ورباطة الجأش عند نزول المصيبة وإن واسمها وجملة لن يضروا الله خبرها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 وشيئا مفعول مطلق أي شيئا من الضرر (يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) الجملة مستأنفة ويريد الله فعل وفاعل وان وما في حيزها مصدر مؤول مفعول به ليريد وحظا مفعول يجعل الاول ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف مفعول به ثان وفي الآخرة جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) الجملة مستأنفة أيضا للمبالغة في امتهانهم ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وعظيم صفة لعذاب. البلاغة: التنكير في قوله شيئا فإن التنوين يزيد النكرة شياعا وتنكيرا وقلة وحقارة وذلك لتأكيد ما هم عليه من القلة والحقارة وضآلة الشأن. [سورة آل عمران (3) : الآيات 177 الى 178] إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) اللغة: (نُمْلِي لَهُمْ) نتركهم وشأنهم وأمليت له في الأمر أخّرت وأمليت للبعير في القيد: أرخيت له ووسعت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ) كلام مستأنف لتعميم الحكم على الكفار والمرتدين بعد أن كان خاصا بالمنافقين وإن واسمها وجملة اشتروا صلة الموصول والكفر مفعول به وبالايمان جار ومجرور متعلقان باشتروا (لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً) تقدم اعرابها بحروفها والجملة خبر إن (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) تقدم اعرابها (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الواو عاطفة على قوله ولا يحزنك أو استئنافية ولعلها أولى لتعميم الحكم ولا ناهية ويحسبن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم بلا والذين فاعل وجملة كفروا صلة (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) ان حرف مشبه بالفعل وما مصدرية مؤولة مع الفعل بعدها بمصدر هو اسم ان أي ان املاءنا ويجوز أن تكون موصولة فتكون اسمها وكان من حقها أن تكتب مفصولة من ان ولكن طريقة المصحف كتابتها موصولة بها ولهم جار ومجرور متعلقان بنملي وخير خبر ان ولأنفسهم جار ومجرور متعلقان بخير وان وما بعدها سدت مسد مفعولي يحسبن (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) الجملة مستأنفة بمثابة التعليل للجملة التي قبلها فهي علة الاملاء ونملي فعل مضارع ولهم جار ومجرور متعلقان بنملي واللام لام التعليل ويزدادوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والواو فاعل واثما تمييز والجار والمجرور «لام التعليل والمصدر المؤول» متعلقان بنملي (وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) تقدم اعرابها. البلاغة: 1- الاستعارة المكنية في اشتراء الكفر بالايمان وقد تقدم القول في هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 2- الاستعارة التصريحية في الاملاء فقد شبه إمهالهم وترك الحبل لهم على غواربهم بالفرس الذي يملى له الحبل ليجري على سجيته ويرتقي كيف يشاء فحذف المشبه وهو الامهال والترك وأبقى المشبه به وهو الاملاء. [سورة آل عمران (3) : آية 179] ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) اللغة: (يذر) و (يدع) فعلان مضارعان أمات العرب ماضيهما فلم يأت منهما إلا المضارع والأمر ومعناهما الترك وقال علماء العربية: أن كلمتي ذر ودع في معنى الترك إلا أن دع أمر للمخاطب بترك الشيء قبل العلم به وذر أمر له بتركه بعد ما علمه، روي أن بعض الأئمة سأل الامام الرازي عن قوله تعالى: «أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين» لم لم يقل وتدعون أحسن الخالقين وهو أقرب من الفصاحة للمجانسة بينهما فقال الامام: لأنهم اتخذوا الأصنام آلهة وتركوا الله بعد ما علموا أن الله ربهم وربّ آبائهم الأولين، استكبارا فلذلك قيل لهم: وتذرون ولم يقل وتدعون، هذا وقد ورد في الحديث الشريف مصدر يدع قال: «لتنهين أقوام من ودعهم الجمعات» أي عن تركها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 (يَمِيزَ) مضارع ماز أي عزل هذا عن ذاك. (يَجْتَبِي) يختار ويصطفي. الإعراب: (ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ) كلام مستأنف لبيان أن الله سبحانه عالم بكل شيء وهو لا يترك عباده على ما هم عليه من اختلاط في الأمر والتباس فيما يعانونه من شئون، وما نافية وكان فعل ماض ناقص والله اسمها وليذر اللام لام الجحود وهي المسبوقة بكون منفي وقد تقدّم ذكرها ويذر فعل مضارع منصوب بأن مقدرة وجوبا بعد لام الجحود الجارة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر كان والتقدير لم يكن الله مريدا تركهم على حالة من الاختلاط والالتباس، والمؤمنين مفعول به (عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) والجار والمجرور متعلقان بيذر وأنتم مبتدأ وعليه خبره وجملة أنتم عليه صلة ما الموصولية (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) حتى حرف غاية وجر ويميز فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والجار والمجرور متعلقان بالخبر المحذوف أي مريدا تركهم والخبيث مفعول به ومن الطيب جار ومجرور متعلقان بيميز (وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) تقدم اعرابها (وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) الواو عاطفة ولكن حرف مشبه بالفعل بمعنى الاستدراك والله اسمها وجملة يجتبي خبرها ومن رسله جار ومجرور متعلقان بيجتبي ومن اسم موصول مفعول به وجملة يشاء صلة الموصول (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) الفاء الفصيحة وآمنوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وبالله جار ومجرور متعلقان بآمنوا ورسله معطوف على الله والجملة لا محل لها لانها جواب شرط غير جازم وهو الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 وقعت الفاء في جوابه (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) الواو استئنافية وإن شرطية وتؤمنوا فعل الشرط وتتقوا عطف على تؤمنوا، فلكم الفاء رابطة لجواب الشرط ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وأجر مبتدأ مؤخر وعظيم صفة والجملة في محل جزم جواب الشرط. [سورة آل عمران (3) : آية 180] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) الإعراب: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) كلام مستأنف مسوق للشروع في ذم البخل وتقرير جزاء الباخلين ولك أن تجعل الواو عاطفة فيكون الكلام منسوقا على ما تقدم ولا ناهية ويحسبن فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم بلا والذين اسم موصول فاعل وجملة يبخلون صلة الموصول (بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) بما جار ومجرور متعلقان بيبخلون وجملة آتاهم الله صلة ما الموصولية ومن فضله جار ومجرور متعلقان بآتاهم والمفعول الاول ليحسبن محذوف دلّ عليه سياق الكلام أي البخل وهو ضمير متصل لا محل له وخيرا مفعول يحسبن الثاني ولهم جار ومجرور متعلقان بخير وسيرد بحث شيق عن قراءة تحسبن في باب الفوائد (بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) بل حرف إضراب وعطف وهو مبتدأ وشر خبر ولهم جار ومجرور متعلقان بشر (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الجملة تفسيرية لقوله هو شر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 لهم ولك أن تجعلها مستأنفة بمثابة التعليل والسين حرف استقبال يفيد التوكيد ويطوقون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وما اسم موصول منصوب بنزع الخافض أي بما بخلوا به. وبه جار ومجرور متعلقان ببخلوا ويوم القيامة ظرف زمان متعلق بيطوقون ولك أن تعلقه بمحذوف حال (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الواو استئنافية ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وميراث السموات مبتدأ مؤخر والأرض عطف على السموات (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وبما جار ومجرور متعلقان بخبير وجملة تعملون صلة الموصول وخبير خبر. البلاغة: في هذه الآية: 1- الطباق بين خير وشر وبين السموات والأرض فالكلام مقابلة. 2- الالتفات: فقد انتقل من الغيبة الى الخطاب بقوله تعملون زيادة في النكال وتأكيدا للوعيد والانذار. الفوائد: 1- قرئ ولا تحسبن بالتاء فلا حذف في الكلام لأن الذين هو المفعول الاول وخيرا هو المفعول الثاني ويرد على هذا إشكال وهو أن أصل مفعولي حسب وأخواتها المبتدأ والخبر ولا يظهر ذلك في الآية لعدم صحة الحمل، والجواب عن هذا الاشكال أن في الاية إيجازا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 والتقدير ولا تحسبن بخل الذين يبخلون بإظهار ما آتاهم الله هو خيرا لهم فيتم تقدير الكلام. 2- حذف أحد مفعولي القلوب يكون للاختصار إذا كان هناك دليل عليه وقد أجازه الجمهور واستدلوا عليه بالآية وبقول عنترة العبسي: ولقد نزلت فلا تظنّي غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم والتقدير: فلا تظني غيره مني واقعا فحذف المفعول الثاني ومنعه بعضهم وقالوا: ان المفعول به الثاني هو قوله مني تنازعه نزلت وتظنّي وفي الباب الخامس من مغني اللبيب بحث ممتع نلخصه بما يلي: جرت عادة النحويين أن يقولوا: يحذف المفعول به اختصارا واقتصارا ويريدون بالاختصار الحذف لدليل وبالاقتصار الحذف لغير دليل ويمثلونه بنحو كلوا واشربوا أي أوقعوا هذين الفعلين وقول العرب: «من يسمع يخل» أي تكن منه خيلة والتحقيق أن يقال: انه تارة يتعلق الغرض بالاعلام بمجرد وقوع الفعل من غير تعيين من أوقعه أو من أوقع عليه فيجاء بمصدره مسندا الى فعل كون عام فيقال: حصل حريق أو نهب وتارة يتعلق بالاعلام بمجرد إيقاع الفاعل للفعل فيقتصر عليهما ولا يذكر المفعول ولا ينوى إذ المنويّ كالثابت ولا يسمى محذوفا لأن الفعل ينزل لهذا القصد منزلة ما لا مفعول له ومنه «ربي الذي يحيي ويميت» «وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون» و «كلوا واشربوا ولا تسرفوا» الى آخر هذا البحث فارجع اليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 [سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 182] لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الإعراب: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا) كلام مستأنف مسوق لبيان نماذج من أراجيف اليهود وكذبهم وافتئاتهم على الله واللام جواب لقسم محذوف وقد حرف تحقيق وسمع فعل ماض والله فاعله وقول مفعوله والذين اسم موصول مضاف اليه وجملة قالوا صلة الموصول (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) الجملة مقول القول وان واسمها وخبرها ونحن الواو عاطفة ونحن مبتدأ وأغنياء خبر والجملة معطوفة على ما قبلها (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) الكلام مستأنف والسين حرف استقبال وما اسم موصول مفعول به لنكتب وجملة قالوا صلة لا محل لها ويجوز أن تكون مصدرية أي قولهم ولعله أولى والجملة صلة للموصول الحرفي (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) الواو عاطفة وقتل معطوف على ما أو على المصدر المؤول والهاء ضمير في محل جر بالاضافة والأنبياء مفعول به للمصدر الذي هو القتل وبغير حق جار ومجرور متعلقان بمحذوف في موضع نصب على الحال (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) الواو عاطفة وجملة ذوقوا في محل نصب مقول القول وعذاب الحريق مفعول ذوقوا (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) الجملة مستأنفة لا محل لها واسم الاشارة مبتدأ وبما جار ومجرور متعلقان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 بمحذوف خبر وجملة قدمت صلة الموصول وأيديكم فاعل قدمت (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) الواو حرف عطف وان ما في حيزها في محل رفع عطفا على الخبر وان واسمها وجملة ليس في محل رفع خبر أن واسم ليس ضمير مستتر وبظلام الباء حرف جر زائد وظلام مجرور لفظا في محل نصب خبر ليس ولك أن تجعل الواو استئنافية وجملة أن وما بعدها في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف أي والأمر أن الله إلخ وهو جيد. البلاغة: 1- الاستعارة المكنية في قوله ذوقوا عذاب الحريق وقد تقدمت الاشارة إليها بحروفها. 2- الطباق بين فقير وأغنياء. 3- المجاز المرسل في أيديكم إذ المراد سيئاتكم والعلاقة هي السببية لأن اليد هي السبب فيما يقترفه الإنسان من أعمال. [سورة آل عمران (3) : آية 183] الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) الإعراب: (الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا) الذين بدل من الموصول السابق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 في قوله: لقد سمع الله قول الذين أو نعت له أو خبر لمبتدأ محذوف فتكون الجملة مستأنفة وجملة قالوا صلة الموصول وجملة إن الله إلخ في محل نصب مقول القول وان واسمها وجملة عهد خبرها وإلينا جار ومجرور متعلقان بعهد (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ) أن المصدرية وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي أمرة في التوراة بأن لا تؤمن لرسول والرسول جار ومجرور متعلقان بنؤمن (حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) حتى حرف غاية وجر ويأتينا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به وبقربان جار ومجرور متعلقان يأتينا وجملة تأكله النار صفة لقربان وال في النار للعهد أي المعهودة لديهم بأنها تنزل من السماء والتفاصيل يرجع إليها في المطولات (قُلْ: قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي) الكلام مستأنف مسوق لتوبيخهم على الكذب والافتئات وقل فعل أمر وفاعله أنت وجملة قد جاءكم في محل نصب مقول القول ورسل فاعل ومن قبلي جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لرسل (بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) الجار والمجرور متعلقان بجاءكم وبالذي عطف على قوله بالبينات وجملة قلتم صلة الموصول (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الفاء عاطفة واللام حرف جر وما الاستفهامية المحذوفة الألف في محل جر باللام والجار والمجرور متعلقان بقتلتموهم وقتلتموهم فعل وفاعل ومفعول به والواو لاشباع حركة الميم وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسم كان وصادقين خبرها وجواب الشرط محذوف تقديره فلم قتلتموهم. [سورة آل عمران (3) : الآيات 184 الى 185] فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 اللغة: (مَتاعُ الْغُرُورِ) المتاع: كل ما استمتع به الإنسان من مال وغيره والغرور: مصدر غرّ أي خدع، والغرور الباطل. الإعراب: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) كلام مستأنف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم، والفاء استئنافية وإن شرطية وكذبوك فعل وفاعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط، فقد: الفاء رابطة للجواب وقد حرف تحقيق وكذب فعل ماض مبني للمجهول ورسل نائب فاعل ومن قبلك جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لرسل (جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) الجملة صفة لرسل وبالبينات جار ومجرور متعلقان بجاءوا وما بعده عطف عليه والمنير صفة للكتاب (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) كلام مستأنف مسوق ليكون تتمة لتسليته صلى الله عليه وسلم، وكل نفس مبتدأ وذائقة الموت خبره (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الواو حالية أو استئنافية وإنما كافة ومكفوفة وتوفون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 وأجوركم مفعول به ثان ويوم القيامة ظرف زمان متعلق بتوفون (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) الفاء استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وزحزح فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وهو مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وعن النار جار ومجرور متعلقان بزحزح وأدخل عطف على زحزح ونائب الفاعل مستتر والجنة منصوب بنزع الخافض والفاء رابطة لجواب الشرط وقد حرف تحقيق وفاز فعل ماض والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر «من» (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) الواو استئنافية وما نافية والحياة مبتدأ والدنيا صفة وإلا أداة حصر ومتاع الغرور خبر. البلاغة: في الآية تشبيه بليغ، فقد شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به بائعه على طالبه حتى ينخدع ويشتريه. وقد أخرج سبحانه الكلام بهذا التشبيه مخرج الإنكار على من جعل ديدنه الاغترار بالدنيا وتلمّظ أفاويقها، وهي في الواقع لا نفع فيها ولا طائل تحتها، وأية فائدة ترجى من الشيء الذي يعتوره الفناء؟! [سورة آل عمران (3) : آية 186] لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 اللغة: (عَزْمِ الْأُمُورِ) : أي معزوماتها فجعل المصدر بمعنى اسم المفعول الإعراب: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) اللام موطئة للقسم وتبلونّ فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النّون المحذوفة لتوالي الأمثال وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين ضمير متصل في محل رفع فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة وفي أموالكم جار ومجرور متعلقان بتبلون وأنفسكم عطف على أموالكم والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب قسم مقدر وجملة القسم مستأنفة مسوقة للشروع في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين عما سيستهدفون له من المكاره، وفائدة التسلية توطين النفس على احتمال المكاره عند وقوعها والاستعداد للنتائج مهما تكن (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الواو عاطفة واللام جواب قسم مقدر أيضا وتسمعن تعرب مثل تبلون ومن الذين جار ومجرور متعلقان بتسمعنّ وجملة أوتوا صلة الموصول والواو في أوتوا نائب فاعل والكتاب مفعول به ثان ومن قبلكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) ومن الذين جار ومجرور معطوفان على «من الذين أوتوا الكتاب» وهما متعلقان بتسمعن وأذى مفعول به لتسمعن وكثيرا صفة (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) الواو عاطفة وإن شرطية وتصبروا فعل الشرط وتتقوا عطف على تصبروا فإن الفاء رابطة لجواب الشرط وإن حرف مشبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 بالفعل وذلك اسمها ومن عزم الأمور جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها والجملة المقترنة بالفاء لا محل لها من الإعراب لأنها بمثابة تعليل لجواب الشرط المحذوف واقع موقعه والتقدير: وإن تصبروا وتتقوا فهو خير لكم أو فقد أحسنتم أو أصبتم شاكلة الصواب، ولك أن تجعلها هي الجواب وتكون الإشارة الى صبر المخاطبين. [سورة آل عمران (3) : آية 187] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) اللغة: (النّبذ) الطّرح وراء الظهر. مثل في ترك الاعتداد بالشيء والإعراض عنه بالكلية. وقد تقدم مستوفى في سورة البقرة، كما تقدم القول في أن بعض العلماء جعله من أفعال التحويل كما سيأتي. الإعراب: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) كلام مستأنف مسوق لبيان كتمانهم شواهد نبوّته ومخايل صدقه. والواو استئنافية وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بمحذوف أي: اذكر وقت أخذ الله الميثاق. وأخذ فعل ماض والله فاعل وميثاق الذين مفعول به والجملة في محل جر بالاضافة وجملة: أوتوا الكتاب صلة الموصول والواو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 نائب فاعل والكتاب مفعول به ثان (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) اللام جواب للقسم الذي يدل عليه أخذ الميثاق، كأنه قال لهم: بالله لتبيننه. وقرىء بالياء. وتبيننه فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وقد تقدمت له نظائر وما بالعهد من قدم. وللناس جار ومجرور متعلقان ب «تبينّنه» ولا تكتمونه الواو عاطفة وتكتمونه جملة معطوفة على تبيننه، ولك أن تجعل الواو حالية فتكون الجملة نصبا على الحال (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) الفاء عاطفة ونبذوه فعل وفاعل ومفعول به ووراء ظهورهم نصب على المفعولية الثانية كما تقدم في سورة البقرة، وأعربه الكثيرون ظرفا، ولم يشترطوا كون الفاعل مستقرا مع الظرف (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا) الواو عاطفة واشتروا عطف على نبذوه وبه جار ومجرور متعلقان باشتروا وثمنا مفعول به وقليلا صفة (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) الفاء استئنافية وبئس فعل ماض جامد لانشاء الذم وما نكرة تامة منصوبة على التمييز وقد ميزت فاعل بئس. ويجوز أن تكون مصدرية مؤولة مع الفعل بمصدر هو الفاعل أي: شراؤهم، وقد تقدمت. والمخصوص بالذم محذوف أي: هذا. البلاغة: 1- الالتفات، فقد انتقل من الغيبة في قوله «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب» الى الخطاب في قوله: «لتبيننه» ثم عاد الى الغيبة، والفائدة من ذلك زيادة التسجيل المباشر عليهم. 2- الاستعارة المكنية في اشتروا به، وقد تقدمت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 [سورة آل عمران (3) : آية 188] لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) اللغة: (المفازة) مكان الفوز والنجاة، ويجوز أن تكون مصدرا ميميا. وسميت الصحراء مفازة تفاؤلا بالسلامة والفوز. الإعراب: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) كلام مستأنف مسوق لبيان غفلتهم وانسياقهم مع أوهامهم. ولا ناهية وتحسبن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت والذين مفعول به وجملة يفرحون صلة الموصول وبما جار ومجرور متعلقان بيفرحون وجملة أتوا لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) ويحبون معطوف على يفرحون وأن وما في حيزها مصدر مؤول في محل نصب مفعول به وبما جار ومجرور متعلقان بيحمدوا ولم حرف نفي وقلب وجزم ويفعلوا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون والجملة صلة الموصول (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) الفاء زائدة لتحسين اللفظ وقد أنشدوا على زيادة الفاء في مثل هذا التركيب قول الشاعر: وحتى تركت العائدات يعدنه ... يقلن فلا تبعد وقلت له ابعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 أي: لا تبعد، هكذا أعربها المعربون، وتبعهم المفسرون. وأرى أنها الفصيحة، وهي تسبق عادة جملة التطرية لنشاط القارئ بعد حذف المفعول الثاني لتحسبن الأولى، أي لا تحسبنهم ناجين. وإذا شئت أن تتأكد مصيرهم تماما فلا تحسبنهم. وبمفازة جار ومجرور في موضع المفعول الثاني لتحسبنهم ومن العذاب جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفازة إن اعتبرت اسم مكان وبمفازة إن اعتبرت مصدرا ميميا (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الواو استئنافية ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم نعت. [سورة آل عمران (3) : الآيات 189 الى 191] وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) الإعراب: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الواو عاطفة ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ملك مبتدأ مؤخر والسموات مضاف إليه والأرض عطف على السموات (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الواو عاطفة والله مبتدأ وعلى كل شيء جار ومجرور متعلقان يقدير وقدير خبر (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لبيان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 قدرته سبحانه ووجوده وعلمه. وإن حرف مشبه بالفعل وفي خلق السموات والأرض جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر إن المقدم (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) عطف على خلق (لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) اللام المزحلقة وآيات اسم إن المؤخر ولأولي الألباب جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لآيات (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) الذين صفة لأولي الألباب وجملة يذكرون الله صلة وقياما وقعودا حالان وعلى جنوبهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي: مضطجعين، والمعنى يذكرونه في جميع الأحوال قياما وقعودا ومضطجعين. وللفقهاء استدلالات وإيماءات بارعة، ومن طريف حجج الشافعي أنه استدل بها على إضجاع المريض على جنبه في الصلاة (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لك أن تجعل الواو عاطفة فتكون الجملة معطوفة على سابقتها فتكون داخلة في حيز الصلة، ولك أن تجعل الواو حالية فتكون الجملة نصبا على الحال (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا) ربنا منادى مضاف ولا بد من تقدير قول. أي: يقولون ربنا، فالجملة نصب على الحال وما نافية وخلقت فعل وفاعل وهذا مفعول به وباطلا منصوب بنزع الخافض أي بالباطل أو نعت لمصدر محذوف أي خلقا باطلا، أو حالا من هذا، ورجح أبو حيان هذا الوجه على غيره. وعندنا أنها متساوية الرجحان (سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) سبحانك مفعول مطلق وهو مع فعله المحذوف جملة معترضة لا محل لها. فقنا الفاء عاطفة للترتيب أي: نزهناك فقنا. ولك أن تجعلها الفصيحة لمعنى الجزاء المقدر أي: إذا شئت جزاءنا فقنا. وق فعل أمر ونا مفعول به أول وعذاب النار مفعول به ثان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 البلاغة: 1- الطباق: الذي جمع حالات الإنسان الثلاث في الصلاة، وهي القيام والقعود والاضطجاع على الجنب، كما يقول الشافعي، أو الاستلقاء، لأنه أخف، كما يقول أبو حنيفة. 2- المجاز المرسل بعلاقته المحلية، فقد ذكر السموات والأرض، ومراده ما فيهما من أجرام عظيمة بديعة الصنع صالحة للاستغلال في سبيل النفع الانساني الشامل. 3- الإيجاز في قوله: ويتفكرون في خلق السموات والأرض، حيث انطوى تحت هذا الإيجاز كل ما تمخض عنه العلم من روائع المكتشفات وبدائع المستنبطات. وفي الحديث: لا عبادة كالتفكر. فلسفة الافكار لديكارت: ولا مندوحة لنا هنا عن الاشارة الى أن فلسفة ديكارت الفرنسي عرفت في العصر الحديث بأنها فلسفة الافكار الواضحة المتميزة، كما كانوا يسمونها في القرن السابع عشر. فقد أرادت تلك الفلسفة أن تخلص الفكر من وطأة السلطات أيّا كانت، فلم تقبل دليلا على الحق إلا البداهة العقلية، أي بداهة العقل الذي يراه الفيلسوف أعدل الأشياء قسمة بين الناس، وحظوظ الناس منه متساوية، فلا فرق بين شعب وشعب، ولا تفاضل بين جنس وجنس. وقد كان لديكارت فضل في بناء صرح المذهب العقلي الحديث حين وضع قاعدته المشهورة: يجب أن لا أقبل شيئا أبدا على أنه حق ما لم يتبين لي ببداهة العقل أنه كذلك، ويجب أن لا أحكم على الأشياء إلا بما يتمثله ذهني بوضوح وتمييز ينتفي معهما كل سبيل الى الشكّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 بين ديكارت ومحمد عبده: وقد تجلى أثر هذه الفلسفة عند الأستاذ الامام محمد عبده في السنوات الاولى من هذا القرن العشرين إذ لا يخفى أن الدعوة التي نهض بها الامام محمد عبده لإصلاح المجتمع الاسلامي عموما إنما تقوم على اصطناع منهج ديكارت في «الافكار الواضحة المتميزة» وفي تغليبه حكم العقل على أحكام الهوى والعاطفة وفي اصطناعه اليقين والبداهة معيارا لصحة الروايات أو تلفيقها. تأملات ديكارت: ومن المفيد أن نلخص تأملات ديكارت الستة وهي: 1- بداهة العقل عند الفيلسوف معيار اليقين، أي العلامة المميزة للمعرفة الصحيحة. 2- فناء الجسم الانساني أمر ممكن ميسور، أما الذهن فباق بطبيعته. 3- فكرة موجود كامل فينا تشمل قدرا من الحقيقة الموضوعية أي تشارك بالتصور في قدر من درجات الوجود والكمال بحيث يلزم أن تصدر عن علة كاملة على الإطلاق. 4- جميع الأشياء التي تتصوّرها تصورا واضحا جدا ومتميزا جدا هي كلها صحيحة، وتتصل بالحقائق العقلية التي يمكن معرفتها بمعونة النور الطبيعي وحده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 5- وفي التأمل الخامس يتحدث عن ماهية الأشياء المادية، ثم يعود الى الحديث عن الله ووجوده، وهو يستند الى معيار البداهة. ولما كان ديكارت عالما رياضيا، وكان المثل الاول للبداهة عنده هو مثل البداهة الرياضية، فهو ينظر الى الفكرة الواضحة التي تكون في أذهاننا عن الله فيجد أن شأنها كشأن المثلّث، وينتهي الى القول: إن القضيتين مجموع زوايا المثلث يساوي قائمتين، والله موجود هما قضيتان متعادلتان في اليقين. 6- وانتهى ديكارت في التأمل السادس بتمييز فعل الفهم من فعل المخيلة فقال: وأصف علامات التمييز، وفيه أبيّن أن نفس الإنسان متميزة عن الحسم حقا، وأنها مع ذلك ملتئمة معه التئاما ومتحدة به اتحادا يجعلها وإياه شيئا واحدا، وفيه أبسط جميع ضروب الخطأ الناشئة من الحواس، مبينا الوسائل لاجتنابها. وأورد أخيرا جميع الأدلة التي يمكن أن يستنتج منها وجود المادية، لا لأنني أرى لها فائدة كبيرة في إثبات ما نشبته- أعني أن العالم موجود وأن للناس أجساما وما شابه ذلك من أشياء لم يشك فيها قط انسان ذو عقل سليم- بل لأن إنعام النظر فيها يطلعنا على أنها لم تبلغ من المتانة والبداهة مرتبة الأدلة التي توصلنا الى معرفة الله ومعرفة النفس، وبهذا الاعتبار تكون الأدلة الأخيرة أوثق وأبين ما يمكن أن يقع للذهن الانساني من معرفة. 4- المطابقة المتعددة حتى تسمى مقابلة فقد طابق بين السموات والأرض، وبين الليل والنهار، والقيام والقعود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 [سورة آل عمران (3) : الآيات 192 الى 193] رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) الإعراب: (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) كلام مستأنف مسوق لتتمة الابتهالات الرقيقة الرائعة التي شرع فيها في خاتمة سورة آل عمران. وربنا منادى مضاف وإنك: إن واسمها، ومن اسم شرط جازم في محل نصب مفعول به مقدم وتدخل فعل الشرط والنار منصوب بنزع الخافض أو مفعول به ثان على السعة، فقد الفاء رابطة لجواب الشرط لاقتران الجواب بقد وأخزيته فعل وفاعل ومفعول به والجملة المقرونة بالفاء في محل جزم جواب الشرط والجملة في محل رفع خبر إن (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) الواو استئنافية أو حالية وما نافية وللظالمين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومن حرف جر زائد وأنصار مجرور لفظا بمن مرفوع بالابتداء محلا، ولك أن تجعل ما حجازية عاملة عمل ليس لأنهم أجازوا تقديم الخبر إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) ربنا منادى مضاف وإن واسمها، وجملة سمعنا خبرها ومناديا مفعول سمعنا وجملة ينادي صفة وللإيمان جار ومجرور متعلقان بينادي. [ويلاحظ أن ضمير المتكلم وهو «نا» استعمل في حالاته الثلاث الجر بالاضافة ل «ربّ» والنصب لأنه اسم إن والرفع على الفاعلية] والجملة كلها مستأنفة مسوقة لتتمة الابتهالات (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 مصدرية وآمنوا فعل أمر وأن وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض ويكون الجار والمجرور متعلقين بينادي، ويجوز أن تكون أن هي المفسرة، وهي الواقعة بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه، فتكون الجملة لا محل لها. وبربكم جار ومجرور متعلقان بآمنوا فآمنا الفاء حرف عطف للترتيب والتعقيب، مؤذن بتعجيل الانصياع للنداء والايمان من غير مهلة، لأن المنادي هو محمد أو القرآن، وكلاهما حافز الى الامتثال والايمان (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) أعاد النداء استعذابا للترتيب وزيادة في الاستعطاف والابتهال، والفاء في قوله «فاغفر» عاطفة مؤذنة بالإشعار بترتّب المغفرة على الايمان به تعالى والإقرار بربوبيته، وليس هناك أدعى الى المغفرة من ذلك. ولنا جار ومجرور متعلقان باغفر، وذنوبنا مفعول به وكفّر عطف على اغفر، وعنا جار ومجرور متعلقان بكفر، وسيئاتنا مفعول به (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) عطف على ما تقدم وتوف فعل أمر مبني على حذف حرف العلة ونا مفعوله ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف حال والأبرار مضاف اليه. البلاغة: في الآية الإطناب، وهو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة بأمور منها: آ- ذكر الخاص بعد العام للتنبيه على فضل الخاص، ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى «إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها» فذكر الجبال بعد الأرض وهي جزء منها، إطناب يراد به التفخيم والتهويل، باعتبار أن الجبال تروعنا بشموخها ورسوخها، ومع ذلك جبنت عن حمل الامانة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 ب- ذكر العام بعد الخاص ومن أمثلته قوله تعالى: «رب اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات» وهما لفظان عامّان يدخل في عمومهما من ذكر قبل ذلك. والغرض من ذلك إفادة الشمول مع العناية بالخاص الذي ذكره مرتين، مرة وحده ومرة مندرجا تحت العام. ج- الإيضاح بعد الإيهام، ومن أمثلته قوله تعالى: «وقضينا إليه ذلك الأمر: أنّ دابر هؤلاء مقطوع» فقوله: «أن دابر هؤلاء مقطوع» إيضاح للابهام الذي تضمنه لفظ الأمر. د- التكرير وقد سبقت الاشارة اليه كقول الحسين بن مطير يرثي معن بن زائدة: فيا قبر معن أنت أول حفرة ... من الأرض خطّت للسماحة موضعا ويا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البرّ والبحر مترعا والغاية منه تقرير المعنى في النفس، وهو الأصل. وقد يكون للإنذار كما يرد في خطب الخطباء، أو التحسر كما يصنع الراثون، أو الاستلذاذ كما يفعل الغزلون. هـ- الاعتراض: وهو أن يؤتى خلال الكلام أو بين كلامين متصلين في المعنى بجملة لا محل لها من الإعراب لفائدة ثانوية كالجملة الدعائية في قول عوف بن محلم الخزاعي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 إن الثمانين، وبلغتها ... قد أحوجت سمعي الى ترجمان فقوله: وبلغتها، جملة دعائية تعطف قلب الممدوح وتتلطف في ذكر المراد، وهو أنه أصمّ لا يسمع كلامه ليرفع صوته. وقد مرت الاشارة اليه. والاحتراس وهو كل زيادة تجيء لدفع ما يوهمه الكلام مما ليس مقصودا كقول أبي الطيب المتنبي: إني أصاحب حلمي وهو بي كرم ... ولا أصاحب حلمي وهو بي جبن ففي البيت إطناب بالاحتراس في موضعين: أولهما في الشطر الاول بذكر «وهو بي كرم» ، وثانيهما في الشطر الثاني بذكر «وهو بي جبن» لدفع ما قد يوهمه الحلم مجردا. وهناك أغراض أخرى ترد الاشارة إليها في مضامين هذا الكتاب. وفي الآية إطناب بالتكرار، وهو الجمع بين «مناديا» و «ينادي» وذلك أنه ذكر النداء في الاول مطلقا ثم ذكره في الثاني مقيدا بالايمان، تفخيما لشأن المنادى، لأنه لا منادي أعظم من مناد يدعو الى الايمان، وهو محمد صلى الله عليه وسلم أو القرآن الذي أنزل عليه. ورجح ابن جرير الطبري أن يكون المنادي هو القرآن، واحتج لذلك بأن كثيرين ممن وصفهم الله بهذه الصفة في هذه الآيات ليسوا ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم فسمعوا دعاءه الى الله تبارك وتعالى ونداءه، ولكنه القرآن. 2- وفي الآية فنّ وضع الظاهر موضع المضمر. فقد كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 مقتضى الظاهر أن يقال: وما لهم من أنصار أو وماله من أنصار، مراعاة لمعنى «من» أو لفظها، ولكنه أظهر إشعارا بتخصيص الخزي بهم. الفوائد: قال أبو حيان: «سمع» إن دخل على مسموع تعدّى لواحد نحو: سمعت كلام زيد، كغيره من أفعال. وإن دخل على ذات وجاء بعده فعل أو اسم في معناه، نحو: سمعت زيدا يتكلم، وسمعت زيدا يقول كذا، ففي هذه المسألة خلاف، منهم من ذهب الى أن ذلك الفعل أو الاسم إن كان قبله نكرة كان صفة لها، أو معرفة كان حالا منها. ومنهم من ذهب الى أن ذلك الفعل أو الاسم هو في موضع المفعول الثاني ل «سمع» وجعل «سمع» مما يتعدى الى واحد إن دخل على مسموع والى اثنين إن دخل على ذات» . [سورة آل عمران (3) : الآيات 194 الى 195] رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 الإعراب: (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) كلام معطوف على ما تقدم من ابتهالات وربنا منادى مضاف وآتنا عطف على أفعال الدعاء المتقدمة ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به أول وما اسم موصول مفعول به ثان وجملة وعدتنا صلة الموصول وعلى رسلك جار ومجرور متعلقان بوعدتنا، ولا بد من حذف مضاف أي: على ألسنة رسلك، أو على تصديق رسلك، ولك أن تعلقهما بمحذوف حال أي: منزلا على رسلك أو محمولا على رسلك، لأن الرسل محملون ذلك (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) الواو عاطفة ولا ناهية وتخزنا فعل مضارع مجزوم بلا ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به ويوم القيامة ظرف زمان متعلق بتخزنا (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) الجملة تعليلية لا محل لها لتعليل السؤال منهم، وهو باب من أبواب اللجوء الى الله، وإلا فإن الله لا يخلف الميعاد. وإن واسمها، وجملة «لا يخلف الميعاد» خبر إنّ (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) الفاء استئنافية واستجاب فعل ماض ولهم جار ومجرور متعلقان باستجاب وربهم فاعل وأني: ان واسمها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان باستجاب لتبيان السبب كأنه قال: فاستجاب لهم ربهم بسبب أني لا أضيع، وجملة لا أضيع خبر أنّ وعمل عامل مفعول به ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لعامل (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من عامل بعد وصفه أي استقر منكم حاله كونه من ذكر أو أنثى، أو صفة ثانية لعامل. وأعربه أبو البقاء بدلا مطابقا من منكم، وهو سائغ أيضا، وبعضكم مبتدأ ومن بعض جار ومجرور متعلقان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 بمحذوف خبر، والجملة مستأنفة مسوقة لتبيين شركة النساء مع الرجال في الثواب، وجعلها بعضهم معترضة، وما أحسبها بعيدة، لأنها وقعت بين قوله «عمل عامل» وبين ما فصل به عمل العاملين فصح كونها واقعة بين كلامين متصلين ورجحها الزمخشري (فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) الفاء استئنافية للتفريع وذلك للدلالة على أن الجزاء لا يكون إلا لمن جمع هذه الصفات متعددة، فالجملة مستأنفة لا محل لها والذين مبتدأ وجملة هاجروا صلة الموصول وأخرجوا عطف على هاجروا ومن ديارهم جار ومجرور متعلقان بأخرجوا (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا) الجملة كلها معطوفة داخلة في حيز الصلة (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) اللام جواب قسم محذوف وأكفرن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والجملة القسمية خبر الذين، وهنا لا بد من دفع اعتراض معترض يقول: إن الجملة الواقعة جوابا للقسم لا محل لها فكيف ساغ أن تكون هنا خبرا ويتلخص الدفع بأن المقصود مجموع القسم وجوابه. وعنهم جار ومجرور متعلقان بأكفرن وسيئاتهم مفعول به (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) الواو عاطفة ولأدخلنهم عطف على لأكفرن والهاء مفعول به وجنات منصوب بنزع الخافض أو مفعول به ثان على السعة وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة لجنات (ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ثوابا مفعول مطلق لفعل محذوف يفيد التأكيد، وأجازوا إعرابها حالا من جنات أي: مثابا بها، أو من الضمير الواقع مفعولا به أي حال كونهم مثابين، وهو جائز. ومن عند الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لثوابا (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) الواو استئنافية والله مبتدأ وعنده ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وحسن الثواب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر «الله» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 البلاغة: 1- في هذه الآية فن منقطع النظير يمكن تسميته «الاسجال» وحدّه أن يقصد المتكلم غرضا من الأغراض فيأتي بألفاظ تقرر ذلك الغرض: فقد سجل المولى سبحانه على ألسنة عباده تحقيق موعوده على لسان رسوله، وتأمل كلمة «ما وعدتنا» تجد أن هذا الوعد قد أصبح مبرما لا انفكاك لإبرامه. ومن طريف ما ورد منه شعرا قول ابن نباتة السعديّ: جاء الشتاء وما عندي له عدد ... إلا ارتعادي وتصفيقي بأسناني فإن هلكت فمولانا يكفنني ... هبني هلكت فهبني بعض أكفاني والأسجال واضح في تقريره هبني هلكت، وما أجمل الجناس بين هبني بمعنى احسبني وهبني بمعنى أعطني هبة. 2- الالتفات في قوله «فاستجاب لهم ربهم» فقد التفت من الغيبة الى التكلم لاظهار كمال الاعتناء بصدد الاستجابة وتشريف الداعين وتسوية الرجال والنساء وشركة النساء مع الرجال في العمل والجزاء عليه بعد أن كانت المرأة مغموطة الحق في الجاهلية. روي أن أم سلمة قالت: يا رسول الله، إني أسمع الله تعالى يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 [سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 200] لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) اللغة: (النزل) بضمتين وبضمّ فسكون: ما يقام للنازل أو طعام الضيف، قال أبو الشعواء الضبيّ: وكنّا إذا الجبار بالجيش ضافنا ... جعلنا القنا والمرهفات له نزلا (رابِطُوا) أقاموا في الثغر، والأصل أن يربط هؤلاء وهؤلاء خيلهم مترصدين مستعدين للغزو. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 ورباط الخيل حبسها. قال: فينا رباط جياد الخيل معلمه ... وفي كليب رباط الذلّ والعار الإعراب: (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) جملة مستأنفة مسوقة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاغترار، وهو في الحقيقة نهي لأصحابه وأتباعه عن الاغترار بما يرونه من تبسّط الكافرين والظالمين العتاة في الأرض، واستبحارهم في القوة والعمران، على نحو ما هو مشاهد اليوم. ولا الناهية ويغرنك فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم بلا والكاف مفعول به وتقلب فاعل والذين اسم موصول مضاف اليه وجملة كفروا صلة وفي البلاد جار ومجرور متعلقان بتقلب لأنه مصدر (مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) متاع خبر لمبتدأ محذوف وقليل صفة أي: هو متاع ضئيل لا يؤبه له، وهو مهما تطاول آيل الى الزوال والجملة مستأنفة. ثم حرف عطف للتراخي ومأواهم مبتدأ وجهنم خبر (وَبِئْسَ الْمِهادُ) الواو حالية وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والمهاد فاعل بئس والمخصوص بالذم محذوف أي: جهنم، والجملة نصب على الحال. (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ) لكن مخففة مهملة لمجرد الاستدراك والذين مبتدأ وجملة اتقوا ربهم صلة الموصول ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وجنات مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر الذين وجملة لكن مستأنفة (تَجْرِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) الجملة صفة لجنات ومن تحتها جار ومجرور متعلقان بتجري والأنهار فاعل وخالدين حال وفيها جار ومجرور متعلقان بخالدين (نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) نزلا حال من جنات، وإن جعلته مصدرا فهو مفعول مطلق لفعل محذوف، ومن عند الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة «نزلا» (وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) الواو استئنافية أو حالية وما اسم موصول مبتدأ وعند الله ظرف متعلق بمحذوف صلة ما وخير خبر وللابرار جار ومجرور متعلقان بخير والجملة مستأنفة أو حالية (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ) الواو استئنافية وإن حرف مشبه بالفعل ومن أهل الكتاب جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر إن المقدم ولمن اللام المزحلقة ومن اسم موصول اسم إن المؤخر وجملة يؤمن بالله صلة الموصول وبالله جار ومجرور متعلقان بيؤمن (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ) الواو حرف عطف وما اسم موصول معطوف على الله وجملة أنزل إليكم صلة وما أنزل إليهم عطف أيضا وخاشعين حال من الضمير في يؤمن ولله جار ومجرور متعلقان بخاشعين (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا) جملة لا يشترون حالية وبآيات الله جار ومجرور متعلقان بيشترون وثمنا مفعول به وقليلا صفة (أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الجملة مستأنفة واسم الاشارة مبتدأ ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وأجرهم مبتدأ مؤخر وعند ربهم ظرف متعلق بمحذوف حال أي مستقرا عند ربهم والجملة خبر «أولئك» (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) جملة مستأنفة وإن واسمها وخبرها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها كثيرا (اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا) أفعال دعاء (وَاتَّقُوا اللَّهَ) عطف أيضا (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لعل واسمها، والجملة خبرها وجملة الرجاء حالية. م 10- اعراب القرآن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 البلاغة: جاء ختام سورة آل عمران حسنا جدا، وكما جاء ختام سورة البقرة مشتملا على الدعاء جاء ختام سورة آل عمران مشتملا على عدد من الوصايا النافعة، وهذا هو حسن الختام، ليبقى راسخا في الاسماع، وهذا هو حسن البيان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 (4) سورة النساء مدنيّة وآياتها ستّ وسبعون ومائة [سورة النساء (4) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) اللغة: (تَسائَلُونَ) فعل مضارع، وأصله تتساءلون، فحذفت احدى التاءين، أي يسأل بعضكم بعضا. (الْأَرْحامَ) جمع رحم وهي القرابة. الإعراب: (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) يا أيها: تقدم اعرابها كثيرا، والناس بدل من «أي» واتقوا ربكم فعل وفاعل ومفعول به (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) الذي صفة ل «ربكم» وجملة خلقكم صلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 الموصول ومن نفس جار ومجرور متعلقان بخلقكم وواحدة صفة والجملة مستأنفة مسوقة لبحث بدء الخلق والتكوين (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) الواو حرف عطف وخلق فعل ماض ومنها جار ومجرور متعلقان بخلق وزوجها مفعول به (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً) الواو عاطفة وبث فعل ماض ومنهما جار ومجرور متعلقان ببث ورجالا مفعول به وكثيرا صفة ونساء عطف على «رجالا» (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) الواو عاطفة واتقوا الله فعل أمر والذي صفة وجملة تساءلون صلة وبه جار ومجرور متعلقان بتساءلون والأرحام عطف على الله وفي هذا العطف تنويه بمنزلة القرابة ووجوب البرّ بها ومراعاتها (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) الجملة تعليلية لا محل لها وإن واسمها، وجملة كان وما في حيزها خبر ان وكان فعل ماض ناقص وعليكم جار ومجرور متعلقان ب «رقيبا» واسم كان مستتر ورقيبا خبرها. البلاغة: في الآية الآنفة فن براعة الاستهلال فقد استهل السورة بالاشارة الى بدء الخلق والتكوين، وألمع الى دور المرأة المهم، وأوصى بصلة الرحم. وقد حفل الشعر العربي بذكر صلة الرحم ومنزلتها عند الله، وحسبنا أن نشير الى قصيدة معن بن أوس التي مطلعها: وذي رحم قلمت أظفار ضغنه ... بحلمي وهو ليس له حلم وهي قصيدة رائعة يكاد لا يخلو منها كتاب أدبي فليرجع إليها من يشاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 [سورة النساء (4) : آية 2] وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) اللغة: (الْيَتامى) الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم، واليتم الانفراد. ومنه الرملة اليتيمة والدرة اليتيمة، وقيل: اليتيم في الأناسي من قبل الآباء، وفي البهائم من قبل الأمهات. واليتامى جمع الجمع، فقد جمع اليتيم على يتمى كأسرى، ثم جمع يتمى على يتامى كأسرى على أسارى. ويجوز أن يجمع على فعائل لجري اليتيم مجرى الأسماء نحو صاحب وفارس فيقال: يتائم ثم يتامى على القلب. (الحوب) يضم الحاء وفتحها: الذنب العظيم، وهو مصدر حاب حوبا وحابا. الإعراب: (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) الواو يصح أن تكون استئنافية، فتكون الجملة مستأنفة مسوقة للشروع في كيفية الاتقاء وطرقه، وقدم اليتامى لكمال العناية بأمرهم. ويصح أن تكون عاطفة على ما تقدم، فيكون السرد متلاحقا. وآتوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل واليتامى مفعول به أول وأموالهم مفعول به ثان (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) عطف على ما تقدم ولا ناهية وتتبدلوا فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والخبيث مفعول به والباء حرف جر والطيب وهو المتروك مجرور بها وهما متعلقان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 بتتبدلوا (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) الواو عاطفة ولا ناهية ونأكلوا فعل مضارع مجزوم بلا وأموالهم مفعول به والى أموالكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي مضمومة الى أموالكم (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) ان واسمها، وجملة كان واسمها وخبرها خبر إن وجملة إن وما في حيزها تعليلية لا محل لها ولهذا كسرت همزة إن. البلاغة: في هذه الآية مواطن من البلاغة بالغة حدّ الإعجاز نلخصها فيما يلي: 1- المجاز المرسل في قوله تعالى: «وآتوا اليتامى أموالهم» لأن الله سبحانه لا يأمر بإعطاء اليتامى الصغار أموالهم، فهذا غير معقول بل الواقع أن الله يأمر بإعطاء الأموال من بلغوا سن الرشد، بعد أن كانوا يتامى: فكلمة اليتامى هنا مجاز مرسل، لأنها استعملت في الراشدين. والعلاقة اعتبار ما كانوا عليه. 2- الاستعارة المكنية بأكل أموال اليتامى. فقد شبه أموالهم بطعام يؤكل، ثم استعار لها ما هو من أبرز خصائص الطعام وهو الأكل، وفي هذه الاستعارة سرّان من أدق الأسرار: آ- إن طريق البلاغة النهي عن الأدنى تنبيها على الأعلى إذا كان المنهي عنه درجات، فكان مقتضى القانون المذكور أن ينهى عن أكل مال اليتيم من هو فقبر اليه حتى يلزم نهي الغني عنه عن طريق الأولى، فلا بد من سر يوضح فائدة تخصيص الأعلى بالنهي، في هذه الآية، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 وذلك ما يفهم من كلمه «الى أموالكم» ، والسر في ذلك أن أكل مال اليتيم مع الغنى عنه أقبح صور الأكل فخصص بالنهي تشنيعا على من يقع فيه. ب- والسر الثاني في تخصيص الأكل لأن العرب كانت تتذمم بالإكثار من الأكل، وتعدّ من البطنة المساوية للبهيمية، فكأن آكل مال اليتيم- في حال استغنائه عنه وكثرة المال لدية- شر من أكله وهو مملق شديد الحاجة اليه، وإن اشتركا في أكل ما هو محرم، وكانا منتظمين في قرن واحد، ومعلوم أن المنهي عنه كلما كان أوغل في القبح وأفرط في الدمامة كانت النفس بطبيعة الحال أنفر عنه. 3- الطباق بين الخبيث وهو الحرام من المال والطيب وهو الحلال المستساغ. [سورة النساء (4) : الآيات 3 الى 4] وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) اللغة: (تُقْسِطُوا) مضارع أقسط الرباعي، ومعناه عدل، والثلاثي معناه جار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 (تَعُولُوا) من قولهم: عال الميزان إذا مال، وميزان فلان عائل، وعال الحاكم في حكمه إذا جار. وذكر أبو بكر بن العربي أن عال تأتي لسبعة معان: الأول: عال أي مال. والثاني: زاد، والثالث: جار، والرابع: افتقر. والخامس: أثقل، والسادس: قام بمئونة العيال، ومنه قوله: وابدأ بمن تعول. والسابع: عال: أي غلب، ومنه عيل صبري. وقد وردت عال لمعان غير السبعة غير التي ذكرها ابن العربي منها: عال: اشتد وتفاقم، حكاه الجوهري، وعال الرجل في الأرض إذا ضرب فيها، حكاه الهروي. وعال إذا أعجز، حكاه الأحمر. فهذه ثلاثة معان غير السبعة. والرابعة عال: أي كثر عياله. فجملة معاني عال أحد عشر معنى، وسيأتي مزيد من بحث هذه المادة في باب الفوائد. (الصدقات) المهور، مفردها صدقة: بفتح الصاد وضم الدال. والمهر له أسماء كثيرة أيضا، منها صدقة بفتحتين، وبفتح فسكون، وصداق: بكسر الصاد وفتحها. (نِحْلَةً) مصدر نحله كذا أي أعطاه إياه هبة له عن طيب نفس. (هَنِيئاً مَرِيئاً) صفتان من هنؤ الطعام أو الشراب إذا كان سائغا لا تنغيص فيه. وقيل: الهنيء ما يلذه الآكل، والمريء: ما يحمد عاقبته. وقيل لمدخل الطعام من الحلقوم الى فم المعدة: المريء لمروء الطعام فيه، أي انسياغه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 الإعراب: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) الواو استئنافية وإن شرطية وخفتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وأن حرف مصدري ونصب ولا نافية وتقسطوا فعل مضارع منصوب بأن والمصدر المؤوّل من أن وما في حيزها مفعول به وفي اليتامى جار ومجرور متعلقان بتقسطوا وسيأتي في باب الفوائد المراد بذلك (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) الفاء رابطة للجواب وأنكحوا فعل أمر والواو فاعل والجملة في محل جزم فعل الشرط وما اسم موصول في محل نصب مفعول به وجملة طاب لا محل لها لأنها صلة ولكم جار ومجرور متعلقان بطاب ومن النساء جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من ضمير الفاعل ومثنى وثلاث ورباع أحوال. وأعربها أبو علي الفارسي بدلا من «ما» وسيأتي مزيد من القول فيها في باب الفوائد (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) الفاء استئنافية وإن شرطية وخفتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وأن لا تعدلوا: المصدر المؤول مفعول به، فواحدة الفاء رابطة لجواب الشرط وواحدة مفعول به لفعل محذوف أي: فالزموا واحدة، والجملة في محل جزم جواب الشرط (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أو حرف عطف وهي للتخيير أي من الإماء اللواتي في حوزتكم، لما في ذلك من اليسر والسهولة. وما اسم موصول معطوف على «واحدة» وجملة ملكت أيمانكم لا محل لها (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) اسم الاشارة مبتدأ وأدنى خبره والجملة استئنافية وأن لا تعولوا: المصدر المؤول منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بأدنى، أي: أقرب من العدل وعدم الجور. وللفقهاء تعليلات طريفة في الجمع بين الإماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 والحرائر في السهولة واليسر، تجد منها شيئا في باب الفوائد (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) الواو عاطفة وآتوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنساء مفعول به وصدقاتهن مفعول به ثان ونحلة نصب على المصدر، لأن النحلة والإيتاء مترادفان بمعنى الإعطاء، فكأنه قيل: وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة، أي أعطوهن مهورهن عن طيبة نفس. ويجوز نصبها على الحال من المخاطبين بعد تأويلها بالمشتق، أي آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء، أو على الحال من «صدقاتهن» أي: منحولة معطاة عن طيبة نفس. وقيل: نحلة من الله أي عطية من عنده وتفضلا منه عليهن. وقيل النحلة: الملة والدين. والمعنى: آتوهن مهورهن ديانة، فتعرب عندئذ مفعولا لأجله. وإنما أوردنا هذه الاوجه لأنها متعادلة الرجحان (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) الفاء استئنافية وإن شرطية وطبن فعل ماض مبني على السكون ونون النسوة فاعل وهو في محل جزم فعل الشرط ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وعن شيء جار ومجرور متعلقان بطبن ومنه جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لشيء ونفسا تمييز (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) الفاء رابطة لجواب الشرط وكلوه فعل أمر ومفعول به وهنيئا مريئا صفتان لمصدر محذوف أي: أكلا هنيئا مريئا، أو حال من الضمير أي: كلوه وهو هنيء ومريء. البلاغة: في هذه الآية فن التغليب، فقد قال: فانكحوا ما طاب لكم، ولم يقل «من» كما هو المتبادر في استعمال «من» للعاقل و «ما» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 لغير العاقل تغليبا، لأن «ما» تأتي لصفات من يعقل، وقد وصفهن بالطيب، فصح استعمال «ما» ، وهذا سر بديع تقيس عليه ما يرد منه، فتدبره والله يعصمك. الفوائد: 1- يحدث التاريخ في تعليل نزول هذه الآية أنه كان الرجل يجد اليتيمة الموسومة بالجمال والمال ويكون وليها فيتزوجها ضنا بها عن غيره، فريما اجتمعت عنده عشر منهن، فيخاف لضعفهن وفقد من يغضب لهن أن يظلمهن حقوقهن ويفرط فيما يجب لهن، فقيل لهم: إن خفتم أن لا تقسطوا- أي تعدلوا- في يتامى النساء فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم. فجاءت الآية محذرة من التورط، وأمرا بالاحتياط، وفي غيرهن مندوحة الى الأربع. 2- (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) صفات معدولة عن أعداد مكررة، ولذلك منعت من الصرف، أي: اثنتين اثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا. ومن طريف ما تمسك به بعض الذين ضلت عنهم أسرار العربية الشريفة من جواز التزوّج بتسعة: أنهم قالوا لأن اثنتين وثلاثة وأربعة جملتها تسعة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم مات عن تسعة. وهذا كما ترى ناشىء عن جهل بأسرار العربية المبينة، لأنك إذا قلت: جاء القوم مثنى وثلاث ورباع، معناه أنهم جاءوا اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، فتنصب ذلك كله على الحال. والحال هي التي تبيّن هيئة الفاعل أو المفعول به. فأنت تريد أن تبين كيف كان مجيئهم، أي: لم يجيئوا جماعة ولا فرادى فالله سبحانه أبان ما أباحه من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 النكاح وأما النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك من خواصه التي تفرد بها. هذا وقد كثر كلام أهل العربية حول العدد المعدول هل هو من الواحد الى العشرة؟ أو هو ما نطق به القرآن الكريم فقط! قال قوم: إنه ينتهي الى رباع، وقال آخرون: الى سداس، وقيل: الى عشار. وقد جاء لأبي الطيب المتنبي قوله: أحاد أم سداس في أحاد ... لييلتنا المنوطة بالتّناد؟ قالوا: إن أبا الطيب لحن في هذا البيت عدة لحنات، فقال: أحاد وسداس، ولم يسمع في الفصيح إلا مثنى وثلاث ورباع، والخلاف في خماس وسداس الى عشار. ومنها أنه صغّر ليلة على «لييلة» ، وإنما تصغر على «لييلية» . ومنها أنه صغرها، والتصغير دليل القلة، فكأنها قصيرة، ثم قال: «المنوطة بالتناد» ولا شيء يكون أطول منها حينئذ، فناقض آخر كلامه أوله. ولنا أن ندافع عن أبي الطيب في زعمهم عليه التناقض، لأن التصغير يأتي في كلامهم أحيانا للتعظيم كقول لبيد: وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهة تصغّر منها الأنامل فأبو الطيب قد صغّر الليل هنا للتعظيم، لأنه استطالها حتى جعلها منوطة بالتّناد. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: يا «حميراء» ويحتمل أنها صغّرت لدقتها وخفائها. ومستعظم الأمور من مستصغر الشرر. وأما قوله: أحاد وسداس، فإنه استعمل الجزء وهو واحد وست مفردين أي أنه لم يردها «أحاد» مكررة ولا ستا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 مكررة كما هو مدلول العدد المعدول، بل أراد الإفراد واستعمل فيه المعدول الدال على التكثير تجوّزا من اسم إطلاق الكل وهو أحاد وسداس في الجزء وهو واحدة واحدة وست ست. وهذا الاستعمال مجاز، والتجوّز ليس بلحن. هذا وقد ورد عشار في شعر الكميت ابن زيد وهو حجة: فلم يستريثوك حتى رميت فوق الرجال خصالا عشارا لماذا منعت من الصرف؟ أما المذاهب المنقولة في علة منع الصرف فهي أربعة: 1- قول سيبويه والخليل وأبي عمرو، وهو العدل والوصف. 2- قول الفراء وهو أنها منعت للعدل والتعريف بنية الألف واللام، ومنع ظهور الألف واللام كونها في نية الاضافة. 3- قول الزجاج وهو أنها معدولة عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، وأنه عدل عن التأنيث. 4- ما نقله أبو الحسن عن بعض النحويين، وهو أن العلة المانعة من الصرف هي تكرار العدل فيه، لأنه عدل عن لفظ اثنين، وعدل عن معناه، وذلك أنه لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد غير المعدولة، تقول: جاءني اثنان وثلاثة، ولا يجوز: جاءني مثنى وثلاث، حتى يتقدم قبله جمع، لأن هذا الباب جعل بيانا لترتيب الفعل. فاذا قال: جاءني القوم مثنى أفاد أن ترتيب مجبئهم وقع اثنين اثنين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 فأما الاعداد غير المعدولة فإنما الغرض منها الإخبار عن مقدار المعدود دون غيره. ولابن هشام فصل رائع في مغني اللبيب كتبه حول هذه الآية في الباب السادس من كتابه: «في التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين والصواب خلافها» فارجع اليه إن شئت. (هَنِيئاً مَرِيئاً) يعربان وصفا للمصدر وحال. فأما قول أبي الطيب المتنبي: هنيئا لك العيد الذي أنت عيده ... وعيد لمن سمى وضّحى وعيّدا فيتحتم إعرابهما حالا، لأنه ليس هناك ما يدل على المصدر الذي يصح أن يوصف بهما. والعيد فاعل هنيئا لأنها صفة مشبهة. [سورة النساء (4) : الآيات 5 الى 6] وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 اللغة: (السُّفَهاءَ) المبذّرون الذين ينفقون أموالهم فيما لا ينبغي إنفاقه، أو فيما لا طائل تحته. (قِياماً) مصدر قام، أي تقومون بها وتنتعشون. ولو ضيّعتموها لضعتم، فكأنها قيامكم وانتعاشكم. (آنَسْتُمْ) أبصرتم واستوضحتم. الإعراب: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً) كلام مستأنف مسوق لبيان بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى. ولا ناهية وتؤتوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والسفهاء مفعول به وأموالكم مفعول به ثان والتي اسم موصول في محل نصب صفة لأموالكم وجملة جعل الله لكم صلة الموصول وقياما مفعول به ثان لجعل التي بمعنى صيّر والمفعول الاول محذوف والتقدير التي صيّرها لكم قياما، ولكم جار ومجرور متعلقان ب «قياما» ، وإن كانت جعل بمعنى خلق فقياما حال من العائد المحذوف أي: جعلها في حال كونها قياما (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً) وارزقوهم الواو حرف عطف وارزقوهم فعل أمر وفاعل ومفعول به وفيها جار ومجرور متعلقان بارزقوهم واكسوهم عطف على ارزقوهم وقولوا عطف على وارزقوهم أيضا ولهم جار ومجرور متعلقان بقولوا وقولا مفعول مطلق ومعروفا صفة (وَابْتَلُوا الْيَتامى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) الواو عاطفة والكلام معطوف وفيه تعيين وقت تسليم أموال اليتامى إليهم واليتامى مفعول به للفعل ابتلوا وحتى حرف غاية وجر، جعل البلوغ وإيناس الرشد غاية للايتاء. وقيل: حتى ابتدائية، ولكنها تفيد الغاية، وهي حتى التي تقع بعدها الجمل كقوله: فما زالت القتلى تمجّ دماءها ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة بلغوا النكاح في محل جر بالإضافة (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) الفاء رابطة لجواب الشرط وإن شرطية وآنستم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وجملة فإن آنستم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومنهم جار ومجرور متعلقان بآنستم ورشدا مفعول به (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) الفاء رابطة وادفعوا فعل أمر والواو فاعل وإليهم جار ومجرور متعلقان بادفعوا وأموالهم مفعول به، والجملة في محل جزم جواب الشرط (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) الواو استئنافية ولا ناهية وتأكلوها فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والهاء مفعول وإسرافا وبدارا مصدران في موضع الحال أي مسرفين ومبادرين أو هما في موضع المفعول لأجله أي لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم، وأن يكبروا مصدر مؤول مفعول به للمصدر أو مفعول لأجله والمفعول به محذوف، ولا بد من تقدير مضاف عندئذ أي: مخافة أن يكبروا، والجملة مستأنفة. وإنما جعلنا الواو استئنافية وظاهر الكلام يوحي أنها معطوفة لأن المعنى يصبح ادفعوا ولا تأكلوها، وهذا فاسد لأن الشرط وجوابه مترتبان على بلوغ النكاح فيلزم منه ترتبه على ما ترتب عليه وذلك ممتنع (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) الواو استئنافية ومن اسم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 شرط جازم مبتدأ وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هو وغنيا خبرها وجملة فعل الشرط وجوابه خبر للمبتدأ من فليستعفف الفاء رابطة لجواب الشرط واللام لام الأمر، ويستعفف مجزوم بها (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) عطف على ما تقدم وقد سبق إعرابها وبالمعروف جار ومجرور متعلقان بيأكل والآية تقسيم لحال الوصي بين أن يكون غنيا وبين أن يكون فقيرا، فالغني يقتنع بما أفاء الله عليه والفقير يأكل بالمعروف محتاطا جهده حرصا على مال اليتيم وجملة فليأكل في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر من (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) الفاء استئنافية وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة دفعتم إليهم أموالهم في محل جر بالإضافة والفاء رابطة لجواب الشرط وأشهدوا فعل أمر وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعليهم جار ومجرور متعلقان بأشهدوا (وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً) الواو استئنافية وكفى فعل ماض وبالله الباء حرف جر زائد والله فاعل كفى مجرور لفظا بالباء وحسيبا تمييز. البلاغة: في هذه الآية نوع طريف من أنواع البيان يطلق عليه اسم «قوة اللفظ لقوة المعنى» ، وذلك في قوله «فليستعفف» فإن «استعفّ» أبلغ من «عف» كأنه يطلب زيادة العفة من نفسه هضما لها وحملا على النزاهة التي يجب أن تكون رائد أبناء المجتمع. ومن المعلوم أن اللفظ إذا كان على وزن من الأوزان، ثم نقل الى وزن آخر أكثر منه، فلا بد من أن يتضمن من المعنى أكثر مما تضمنه أولا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 لأن الألفاظ دالة على المعاني، فاذا زيد في الألفاظ أوجبت الزيادة زيادة في المعاني، وهذا النوع لا يستعمل إلا في المبالغة. فمن ذلك قولهم: أعشب المكان، فاذا رأوا كثرة العشب قالوا: اعشوشب. ومنه: قدر واقتدر، فمعنى اقتدر أقوى من معنى قدر، فلذلك قال تعالى: «فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر» . وقد تطلّع أبو نواس الى هذه النكتة فقال: فعفوت عني عفو مقتدر ... حلت له نقم فألغاها أي: عفوت عني عفو متمكّن من القدرة لا يرده شيء عن إمضاء قدرته. الفوائد: (كَفى) فعل ماض على الأصح تزاد الباء في فاعله، كما في هذه الآية. وقد تزاد في المفعول به كقول أبي الطيب المتنبي: كفى بجسمي نحولا أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني وقلّ أن يجيء فاعل كفى مجردا من الباء كقول سحيم: عميرة ودّع ان تجهّزت غاديا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا ولا تزاد الباء في فاعل كفى أو مفعولها إذا كانت بمعنى أجزأ أو أغنى كقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 قليل منك يكفيني ولكن ... قليلك لا يقال له قليل ولا كفى التي بمعنى وقى من الوقاية، كقوله تعالى: «وكفى الله المؤمنين القتال» . هذا وقد انتقدوا على أبي الطيب زيادتها في فاعل كفى بمعنى أجزأ أو أغنى إذ قال: كفى ثعلا فخرا بأنك منهم ... ودهر لأن أمسيت من أهله أهل وقد أفاض النقاد في شرح هذا البيت، فارجع إليه في ديوانه. التشدد في أمر اليتيم: وقد تشددت الشريعة الاسلامية في أمر اليتيم ومعاملته بما هو معروف، على أنها جعلت للوصي حقا لقيامه على أمواله، فعن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلا قال له: إن في حجري يتيما أفآكل من ماله؟ قال: بالمعروف، غير متأثّل مالا ولا واق مالك بماله. فقال: أفأضربه؟ قال: مما كنت ضاربا منه ولدك. [سورة النساء (4) : آية 7] لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) الإعراب: (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) كلام مستأنف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 مسوق لتفنيد ما كانت عليه الجاهلية من عدم توريث النساء والصغار. وللرجال جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ونصيب مبتدأ مؤخر ومما جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لنصيب وجملة ترك الوالدان صلة الموصول والأقربون عطف على الوالدان (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) عطف على ما تقدم (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) الجار والمجرور بدل من «مما» السابقة والجملة صلة الموصول ومنه جار ومجرور متعلقان بقل، أو كثر عطف على قلّ ونصيبا مفروضا يجوز أن يعرب مفعولا مطلقا لأنه واقع موقعه إذ التقدير عطاء، ويجوز أن يعرب حالا من فاعل «قلّ» أي: مما تركه قليلا أو كثيرا. واختار الزمخشري نصبه على الاختصاص بفعل محذوف بمعنى أعني نصيبا، ولا داعي لذلك. [سورة النساء (4) : الآيات 8 الى 9] وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) الإعراب: (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ) الواو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة حضر القسمة في محل جر بالاضافة والقسمة مفعول به وأولو القربى فاعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 مرفوع وعلامة رفعه الواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم واليتامى والمساكين عطف على أولو القربى (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً) الفاء رابطة لجواب إذا وارزقوهم فعل أمر وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومنه جار ومجرور متعلقان بقولوا وقولا مفعول مطلق ومعروفا صفة (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً) الواو حرف عطف واللام لام الأمر ويخش فعل مضارع مجزوم باللام والذين اسم موصول فاعل ولو شرطية وتركوا فعل وفاعل ومن خلفهم جار ومجرور متعلقان بتركوا وذرية مفعول به وضعافا صفة (خافُوا عَلَيْهِمْ) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعليهم جار ومجرور متعلقان بخافوا ومفعول خافوا محذوف تقديره الضياع والهيام، وسيأتي مزيد منه في باب البلاغة (فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ) الفاء تعليلية لأن التقوى مسببة عن الخوف الذي هو الخشية واللام لام الأمر ويتقوا فعل مضارع مجزوم باللام والواو فاعل والله مفعول به (وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً) الجملة عطف على فليتقوا وقولا مفعول مطلق وسديدا صفة. البلاغة: في الآية فن الإيجاز بالحذف، وهو هنا في حذف مفعول خافوا، لتذهب النفس في تقديره كل مذهب، ولتفتنّ في تصوير الخوف من المصير المحتوم الذي يئول اليه أمر الضعاف في هذه الحياة. ولك أن تقدره بمثل الضياع والهيام والتشرد في مسارب الحياة ومسالكها المتشعبة، من دون كافل يكفلهم، أو مدبّر يدبر شئونهم. وقد رمق الشاعر سماء هذا المعنى بقوله الممتع في الاعتذار عن الخوف والتخلف متعللا ببناته: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 لقد زاد الحياة إليّ حبا ... بناتي إنهنّ من الضعاف أحاذر أن يرين البؤس بعدي ... وأن يشربن رنقا غير صاف وأن يعرين إن كسي الجواري ... فتنبو العين عن كرم عجاف ولولاهن قد سوّيت مهري ... وفي الرحمن للضعفاء كاف هذا ولحذف المفعول به من الكلام لطائف وتعاجيب، كقولنا: فلان يحلّ ويعقد، ويبرم وينقض، ويضر وينفع. والأصل في ذلك على إثبات المعنى المقصود في النفس للشيء على الإطلاق. الفوائد: قول صاحب المغني ومناقشته: اختلف في «لو» هذه اختلافا كثيرا. وسنورد قول صاحب المغني في إعراب هذه الآية، ثم نناقشه. ولا يخلو ذلك من متعة وفائدة. قال: «القسم الثاني من أقسام «لو» أن تكون حرف شرط في المستقبل إلا أنها لا تجزم، كقوله توبة بن الحمير في ليلى الأخيلية: ولو أن ليلى الأخيلية سلّمت ... عليّ ودوني جندل وصفائح لسلّمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب الأرض صائح وقوله تعالى: «وليخش الذين ... » الآية. أي: وليخش الذين إن شارفوا وقاربوا أن يتركوا. وإنما أولنا الترك بمشارفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 الترك، لأن الخطاب للأوصياء، وإنما يتوجه إليهم قبل الترك، لأنهم بعده أموات» هذا ما قاله في المغني. والتأويل المذكور لا يتقيد بكون الخطاب للأوصياء بل هو جار، ولو قلنا: إنه للورثة أو للجالسين عند المريض أيضا، وحينئذ فذكر الأوصياء ليس للاحتراز بل هو اقتصار على أحد المعاني. وقد أشار صاحب الكشاف الى أنه لا بد من حمل «تركوا» على المشارفة لا لما ذكره صاحب المغني ولكن ليصحّ وقوع خافوا جزاء، وذلك لكون الخوف منتفيا بعد الموت، فلا يتأتى خوف بعد الترك. فإن قلت: ما معنى وقوع «لو تركوا» وجوابه صلة للذين؟ قلت: معناه: وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية، وذلك عند احتضارهم، خافوا عليهم الضياع بعدهم، لذهاب كافلهم وكاسبهم. [سورة النساء (4) : آية 10] إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) كلام مستأنف مسوق للنهي عن ظلم اليتامى من الأولياء والأوصياء. وإن واسمها، وجملة يأكلون صلة الموصول وأموال اليتامى مفعول به وظلما حال مؤوّلة أي ظالمين. ولك أن تعربها مفعولا لأجله وشروط النصب متوفرة. ولك أن تعربها مفعولا مطلقا لبيان نوع الأكل أي: أكل ظلم (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) إنما كافة ومكفوفة لا عمل لها ويأكلون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 فاعل والجملة خبر إن الأولى وفي بطونهم جار ومجرور متعلقان بيأكلون أو بمحذوف حال، لأنه كان في الأصل صفة ل «نارا» ثم تقدمت. ونارا مفعول به وسيصلون عطف على يأكلون وسعيرا مفعول به. البلاغة: انطوت هذه الآية على تجسيد بديع يتجلى في فنّين من فنون البيان: 1- الإسهاب في قولهم «في بطونهم» فقد ذكر البطون، لأن الاكل لا يستقر إلا فيها، تجسيدا لبشاعة الجرم المقترف بأكل مال اليتيم، ومثله «قد بدت البغضاء من أفواههم» أي تشدقوا بها، وقالوها بملء أفواههم. 2- المجاز المرسل في أكل النار، والعلاقة هي المسببية: فالنار لا تؤكل، وإنما يؤكل مسببها، والآيل إليها، وهو مال اليتيم. 3- جاء «يأكلون» بالمضارع دون سين الاستقبال، وسيصلون بالسين، لأنه لما كان لفظ «نارا» مطلقا قيّد في قوله «سعيرا» إذ هو الجمر المتقد. 4- التعريض: فقد عرض بذكر البطون لخستهم واتّضاع أمرهم، وهو أن أنفسهم والعرب تتذمم من ذلك، ألا ترى الحطيئة كيف اكتفى من هجائه بهذا القدر يلمع اليه، وذلك بقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي أي: المطعوم والمكسوّ. [سورة النساء (4) : آية 11] يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) الإعراب: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ) كلام مستأنف مسوق للشروع في تفصيل أحكام المواريث المجملة في قوله: للرجال نصيب. ويوصيكم فعل مضارع والكاف مفعوله المقدم والله فاعله المؤخر وفي أولادكم جار ومجرور متعلقان بيوصيكم (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) جملة مستأنفة مسوقة لتبيين الوصية. وللذكر جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومثل صفة لمبتدأ محذوف مؤخر، أي: حظّ مثل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 . فالجملة كالموضحة للأولى فهي في محل نصب مقول يوصيكم لأنه بمعنى القول وإيثار الذكر بهذه المزية لأنه القائم على الإعالة، ولأن الأنثى ستنصرف بحكم المهمة الموكولة إليها الى تدبير شئون البيت ورعاية الأبناء وكفالتهم فاستلزم ذلك توفير حظّه من الميراث (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) الفاء تفريعية والجملة بعدها لا محل لها لأنها بمثابة الاستئنافية والتعليلية وإن شرطية وكنّ فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والنون اسمها والنساء خبرها وفوق ظرف مكان متعلق بمحذوف صفة لنساء أي زائدات على اثنتين، ويجوز أن يكون خبرا ثانيا لكان، فلهن الفاء رابطة لجواب الشرط ولهن جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وثلثا مبتدأ مؤخر وعلامة رفعه الألف لأنه مثنى وما اسم موصول في محل جر بالإضافة وجملة ترك صلة الموصول وجملة فلهن ثلثا: في محل جزم جواب الشرط (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) الواو عاطفة وإن شرطية وكانت فعل ماض ناقص والتاء تاء التأنيث الساكنة وهو في محل جزم فعل الشرط واسمها مستتر تقديره هي أي المولودة وواحدة خبر كانت والفاء رابطة للجواب ولها جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم والنصف مبتدأ مؤخر والجملة في محل جزم جواب الشرط (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) الواو عاطفة منسوقة على ما تقدم للشروع في إرث الأصول، ولأبويه جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ولكل واحد جار ومجرور، يوحي ظاهر الكلام أنهما بدل بإعادة الجار، وهذا ما نص عليه أكثر المعربين وعلى رأسهم الزمخشري، ودعم هذه البدلية بقوله: «إنه لو قيل ولأبويه السدس لكان الظاهر اشتراكهما فيه، ولو قيل: ولأبويه السدسان، لأوهم قسمة السدسين عليهما على التسوية وعلى خلافها. فإن قلت: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 فهلا قيل: ولكل واحد من أبويه السدس؟ وأي فائدة في ذكر الأبوين أولا ثم في الإبدال منهما؟ قلت: لأن في الإبدال والتفصيل بعد الإجمال تأكيد وتقوية كالذي تراه في الجمع بين المفسر والتفسير» هذا ما قاله الزمخشري ونقله بحروفه جميع المعربين والمفسرين، ولكن هناك نقدا لهذا الإعراب تراه في باب الفوائد. ومنهما جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لواحد والسدس مبتدأ مؤخر ومما جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وجملة ترك صلة الموصول وإن شرطية وكان له ولد: كان وخبرها المقدم واسمها المؤخر، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فلكل واحد وجملة الشرط مستأنفة (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) الفاء استئنافية وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم ولكن فعل مضارع ناقص مجزوم وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وولد اسمها المؤخر وورثه عطف على لم يكن والهاء مفعول به وأبواه فاعل (فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) الفاء رابطة لجواب الشرط ولأمه جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم والثلث مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) عطف على ما تقدم (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) اضطرب كلام المعربين والمفسرين في تعليق هذا الجار والمجرور، فقد علقهما الزمخشري بما تقدم من قسمة المواريث لا بما يليه وحده، يريد الزمخشري أن يقول: إنهما متعلقان بقوله: يوصيكم الله، وما بعده. وفي هذا التعليق ارتباك ملحوظ، ولهذا عدل أبو حيان عنه الى تعليقهما بفعل محذوف، أي يستحقون ذلك من بعد وصية. وفيه تسامح عاجز وهروب من التعليق، نريد أن نتفاداهما في القرآن الكريم وعلقهما أبو البقاء بمحذوف حال من السدس، تقديره: مستحقا من بعد وصية، وهو أشدّ من الأولين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 ارتباكا، فالأولى أن نعلقهما- كما أرى- بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، أي قسمة هذه الأنصباء كائنة من بعد وصية. وجملة يوصي- بالبناء للمعلوم والمجهول- وقرىء بهما- صفة لوصية، وأو حرف عطف لإباحة الشيئين ودين عطف على وصية (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) الجملة معترضة بين قوله: من بعد وصية، وقوله: فريضة من الله. وآباؤكم مبتدأ وأبناؤكم عطف على «آباؤكم» . وجملة لا تدرون خبر، أيهم: اسم استفهام مبتدأ وأقرب خبره والجملة في محل نصب سدت مسد مفعولي تدرون لأنها علقت بالاستفهام، ولكم جار ومجرور متعلقان بأقرب ونفعا تمييز. ويجوز أن تعرب أي- كما يقول سيبويه- موصولة مبنية على الضم وهي مفعول تدرون وأقرب خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم أقرب، أما مفعول تدرون الثاني فهو محذوف، وكلا الوجهين سائغ ومقبول (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) فريضة مفعول مطلق لفعل محذوف يفهم من الجملة السابقة من الوصية، هكذا أعربوه. وفيه أن الفريضة ليست مصدرا ولكنها فعيلة بمعنى مفعوله، فالأولى جعلها حالا مؤكدة، ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لفريضة، وان واسمها، وجملة كان عليما حكيما خبرها، وجملة إن وما في حيزها تعليلية لا محل لها. الفوائد: قلنا: إن المعربين جميعا تضافروا على إعراب «لكل واحد» بدلا بإعادة الجار ويرد على هذا الإعراب نظر لا بد من مراعاته، وذلك أنه يكون على هذا التقدير من بدل الشيء من الشيء، وهما كعين واحدة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 ويكون أصل الكلام: والسدس لأبويه لكل واحد منهما. ومقتضى الاقتصار على المبدل منه التشريك بينهما في السدس، كما قال: «فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك» فاقتضى اشتراكهما فيه فيقتضي البدل لو قدر إهدار الأول افراد كل واحد منهما بالسدس وعدم التشريك، وهذا يناقض حقيقة هذا النوع من البدل لأنه يلزم في هذا النوع أن يكون مؤدى المبدل والبدل واحدا، وإنما فائدته التأكيد بمجموع الاسمين لا غير بلا زيادة معنى، فاذا تحقق ما بينهما من التباين تعذرت البدلية المذكورة، ولا يصح أن يكون من يدل التقسيم أيضا على هذا الإعراب، وإلا لزم زيادة معنى في البدل فالوجه إذن أن يقدر مبتدأ محذوف، كأنه قيل: ولأبويه الثلث، ثم لما ذكر نصيبهما مجملا فصله بقوله: ولكل واحد منهما السدس، وساغ حذف المبتدأ لدلالة التفصيل عليه ضرورة، إذ يلزم من استحقاق كل واحد منهما للسدس استحقاقهما معا للثلث، والله أعلم. ولا يستقيم أيضا على هذا الوجه جعله من بدل التقسيم ألا تراك لو قلت: الدار كلها لثلاثة: لزيد ولعمر ولخالد، كان هذا بدلا وتقسيما صحيحا، لأنك لو حذفت المبدل منه فقلت: الدار لزيد ولعمر ولخالد، ولم تزد في البدل زيادة استقام، فلو قلت: الدار لثلاثة: لزيد ثلثها ولعمرو ثلثها ولخالد ثلثها، لم يستقم بدل تقسيم، إذ لو حذفت المبدل منه لصار الكلام: الدار لزيد ثلثها ولعمر ثلثها ولخالد ثلثها، فهذا كلام مستأنف لأنك زدت فيه معنى تمييز ما لكل واحد منهم، وذلك لا يعطيه المبدل، ولا سبيل في بدل الشيء من الشيء الى زيادة معنى. ولهذا كان لا بد من إعراب لكل واحد خبرا لمبتدأ محذوف، كأنه قيل: ولأبويه الثلث، أي لكل منهما السدس. وهذا من الدقة بمكان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 [سورة النساء (4) : آية 12] وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) اللغة: (كَلالَةً) : مصدر كلّ فلان إذا لم يكن ولدا أو والدا. أي: كلّ عن بلوغ القرابة المماسة. قال الطّر ماح يصف الثور: يهزّ سلاحا لم يرثه كلالة ... يشكّ به منها غموض المغابن وقد تكلم علماء الفقه والتفسير كثيرا عن الكلالة، وسيأتي مزيد من القول في هذه السورة عن هذه اللفظة. الإعراب: (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) الواو حرف عطف ولكم جار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ونصف مبتدأ مؤخر وما اسم موصول مضاف إليه وجملة ترك صلة الموصول وأزواجكم فاعل (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) إن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكن فعل مضارع مجزوم بلم وهو فعل الشرط أيضا ولهن خبر يكن المقدم وولد اسمها المؤخر وجملة الشرط في محل نصب على الحال وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ) الفاء عاطفة وإن شرطية، وكان وخبرها المقدم واسمها المؤخر والجملة معطوفة (فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ) الفاء رابطة ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم والربع مبتدأ مؤخر ومما جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وجملة تركن صلة الموصول والجملة المقترنة بالفاء جواب الشرط (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال ووصية مضاف اليه وجملة يوصين صفة لوصية وبها جار ومجرور متعلقان بيوصين وأو حرف عطف ودين عطف على وصية (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) تقدم إعراب ذلك كله فعرّج عليه (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) الواو عاطفة وإن شرطية وكان يجوز فيها النقصان والتمام فاذا كانت ناقصة فرجل اسمها وجملة يورث بالبناء للمجهول خبرها وكلالة حال، وإن كانت تامة فرجل فاعل وجملة يورث صفة وكلالة حال، ويجوز اعراب كلالة مفعولا لأجله، ويكون معناها القرابة، أو نعت لمصدر محذوف إذا كان معناها الورثة، أي: يورث وراثة كلالة. وأجاز بعضهم أن تكون مفعولا به ثانيا، ولا أراه مستساغا (أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) أو حرف عطف وامرأة عطف على رجل وله الواو حالية وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وأخ مبتدأ مؤخر وأو حرف عطف وأخت عطف على أخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 (فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) الفاء رابطة ولكل جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وواحد مضاف اليه ومنهما جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لواحد والسدس مبتدأ مؤخر والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط (فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) الفاء استئنافية وان شرطية وكانوا فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والواو اسم كان وأكثر خبرها ومن ذلك جار ومجرور متعلقان بأكثر والفاء رابطة وهم مبتدأ وشركاء خبر وفي الثلث جار ومجرور متعلقان بشركاء (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ) تقدم إعرابه فجدد به عهدا (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ) غير مضار حال من ضمير يوصى ووصية مفعول مطلق موكد ليوصيكم ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لوصية (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وعليم حليم خبراه. الفوائد: 1- مناقشة طريفة: قال الشلوبين حكي لي أن نحويا سئل عن اعراب «كلالة» من قوله تعالى: (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) فقال: أخبروني: ما الكلالة؟ فقالوا له: الورثة إذا لم يكن فيهم أب فما علا ولا ابن فما سفل. فقال: فهي إذن تمييز. وتوجيه قوله أن يكون الأصل: وإن كان رجل يرثه كلالة، ثم حذف الفاعل وبني الفعل للمفعول، فارتفع الضمير واستتر، ثم جيء بكلالة تمييزا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 ردّ ابن هشام: وقد رد ابن هشام على هذا النحوي بقوله: «ولقد أصاب هذا النحوي في سؤاله وأخطأ في جوابه، فان التمييز بالفاعل بعد حذفه نقض للغرض الذي حذف لأجله وتراجع عما بنيت الجملة عليه من طيّ ذكر الفاعل فيها، ولهذا لا يوجد في كلامهم مثل: ضرب أخوك رجلا، واستطرد ابن هشام كعادته الى أن قال: والصواب في الآية أن «كلالة» بتقدير مضاف، أي ذا كلالة، وهو إما حال من ضمير يورث ف «كان» ناقصة ويورث خبر أو تامة فيورث صفة. وإما خبر فيورث صفة. ومن فسر «كلالة» بالميت الذي لم يترك ولدا ولا والدا فهي أيضا حال أو خبر، ولكن لا تحتاج الى تقدير حذف مضاف. ومن فسرها بالقرابة فهي مفعول لأجله. 2- عادة العرب إذا ردّدت بين اسمين بأو أن تعيد الضمير إليهما جميعا، تقول: من كان له أخ أو أخت فليصلهما، أو الى أحدهما أيهما شئت تقول: من كان له أخ أو أخت فليصله وإن شئت فليصلها. [سورة النساء (4) : الآيات 13 الى 14] تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 الإعراب: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان أن ما تقدم من تشريع هو من حدود الله لعباده ليعملوا بها ولا يتعدوها. وتلك مبتدأ وحدود الله خبر (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويطع الله ورسوله فعل الشرط ويدخله جواب الشرط والهاء مفعول به وجنات منصوب بنزع الخافض أو مفعول به ثان على السعة وجملة الشرط والجواب في محل رفع خبر. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) جملة تجري صفة لجنات ومن تحتها جار ومجرور متعلقان بتجري والأنهار فاعل وخالدين حال وفيها جار ومجرور متعلقان بخالدين (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الواو حالية أو استئنافية وذلك مبتدأ والفوز خبر والعظيم صفة (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) تقدم اعرابها فعرج عليه. البلاغة: 1- في هذه الآية فنّ غريب يطلق عليه اسم «جمع المختلفة والمؤتلفة» . وحدّه بأنه عبارة عن أن يريد المتكلم التسوية بين ممدوحين أو مذمومين أو اثنين أحدهما ممدوح والآخر مذموم، ثم يروم بعد ذلك ترجيح أحدهما على الآخر بما لا ينقص من الآخر، فيأتي لأجل ذلك الترجيح بمعان تخالف معاني التسوية، فقد جمع ضمير الخالدين في الجنة لأن كل من دخل الجنة كان خالدا فيها أبدا أو لتفاوت درجات الخالدين. أما أهل النار فبينهم الخالدون وغير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 الخالدين من عصاة المؤمنين، فساغ الجمع هناك ولم يسغ هنا. لأن الخالدين في النار فرقة واحدة أما الخالدون في الجنان فهم طبقات بحسب تفاوت درجاتهم. وهذا من أسمى مراتب البيان. ومن أمثلته البديعة في الشعر قول الخنساء وقد أرادت مساواة أخيها صخر في الفضل بأبيها مع مراعاة حق الوالد، فقالت: جارى أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملاة الحضر وهما وقد برزا كأنهما ... صقرآن قد حطا على وكر حتى إذا نزت القلوب وقد لزت هناك العذر بالعذر وعلا هتاف الناس أيهما ... قال المجيب هناك: لا أدري برقت صحيفة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجري أولى فأولى أن يساويه ... لولا جلال السنّ والكبر فقد ساوت بينهما في الجرأة وخوض غمار الحرب والإسراع في العدو والسباق في البيت الأول والحضر بضم الحاء السباق والعدو، والملاة بضم الميم: الرّيطة وهي كل ثوب رقيق. ثم ساوت في البيت الثاني بينهما في جعلهما بمثابة صقرين سريعين، وفي البيت الثالث أرادت أن تصف الحرب وكيف لز بعض عذر اللحم على بعضها الآخر، مما يدل على المساواة في العدو، وتساءل الناس في البيت الرابع أيهما الوالد وأيهما الولد لشدة تشابههما، ثم انتهت في البيت الخامس الى ترجيح الوالد ببريق صفحة وجهه، أي أنه خرج وجهه من الغبار دون وجه رسيله سبقا، وفي البيت السادس قالت إن الولد كان قادرا على مساواة الوالد لولا ما التزمه من الادب مع برّ أبيه ومعرفته بحقه، فغض من عنانه، وخفض من جناح فضله ليؤثر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 أباه بالفضل على نفسه. ومثله لنصر الله بن أحمد البصري المعروف بالخبز أرزي، وكان أميا يخبز خبز الأرز بالبصرة، وينشد أشعار الغزل. فمن ذلك قوله: رأيت الهلال ووجه الحبيب ... فكانا هلالين عند النظر فلم أدر من حيرتي فيهما ... هلال السما من هلال البشر ولولا التّورّد في الوجنتين ... وما لاح لي من خلال الشعر لكنت أظن الهلال الحبيب ... وكنت أظن الحبيب القمر فقد سوّى بينهما أولا ثم رجع ففضّل الحبيب على الهلال 2- بين الإفراد والجمع: ووثب أبو السعود العمادي مفتي القسطنطينية في تفسيره الى أوج الذكاء عندما قرر بإلهام موفق أن نكتة الافراد في قوله «خالدا» فيها الإيذان بأن الدخول في دار العقاب بصفة الانفراد أشد في استجلاب الوحشة، أما مجالس الجنة فهي بين الأخلاء والأحباء والاجتماع أدعى الى تبديد الوحشة. [سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 16] وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 الإعراب: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) كلام مستأنف مسوق للشروع في أحكام الزانية. والواو استئنافية واللاتي اسم موصول وجملة يأتين الفاحشة صلة الموصول ومن نسائكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) الفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط، ولذلك جاز أن يخبر بالأمر عن المبتدأ بقوله: استشهدوا، ولك أن تجعل الخبر محذوفا أي: فيما يتلى عليكم حكم اللاتي. وعليهن جار ومجرور متعلقان باستشهدوا وأربعة مفعول به ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) الفاء استئنافية وإن شرطية وشهدوا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة وأمسكوهن فعل أمر والواو فاعل والهاء مفعول به وفي البيوت جار ومجرور متعلقان بأمسكوهن والجملة في محل جزم جواب الشرط (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) حتى حرف غاية وجر ويتوفاهن فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والهاء مفعول به والموت فاعل وأن المضمرة وما في حيزها مصدر مؤول في محل جر بحتى والجار والمجرور متعلقان بأمسكوهن وأو حرف عطف ويجعل فعل مضارع معطوف على «يتوفاهن» والله فاعل ولهن جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة ل «سبيلا» وتقدمت، وسبيلا مفعول به (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) الواو حرف عطف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 واللذان مبتدأ وأراد بهما الزاني والزانية، وجملة يأتيانها صلة والضمير يعود على الفاحشة ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال والفاء رابطة وآذوهما فعل أمر وفاعل ومفعول به والجملة خبر وقد تقدم نظيره. ومعنى الإيذاء السب والتوبيخ والضرب (فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) فإن الفاء استئنافية وإن شرطية وتابا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وأصلحا عطف على «تابا» والفاء رابطة وجملة أعرضوا عنهما في محل جزم جواب الشرط (إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) إن واسمها وجملة كان واسمها المستتر وخبرها في محل جزم جواب الشرط، ورحيما خبر كان الثاني. [سورة النساء (4) : الآيات 17 الى 18] إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) اللغة: (أَعْتَدْنا) أحضرنا وهيأنا، وهو عتيد أي حاضر مهيأ، وأصلها أعددنا، أبدلت الدال الأولى تاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 الإعراب: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) كلام مستأنف للشروع في بحث التوبة وشروطها، وإنما كافة ومكفوفة والتوبة مبتدأ وعلى الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وللذين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر وجملة يعملون صلة الموصول والسوء مفعول به وبجهالة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي حالة كونهم جاهلين سفهاء (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) ثم حرف عطف للاشعار بأن التوبة جاءت متأخرة ولكنها قبلت على كل حال قبل وقت الاحتضار ومعاينة الموت، ويتوبون عطف على يعملون ومن قريب جار ومجرور متعلقان بيتوبون (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) الفاء استئنافية وأولئك اسم اشارة مبتدأ وجملة يتوب الله عليهم خبر (وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) الواو استئنافية وكان واسمها وخبرها، وحكيما خبر ثان (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) الواو عاطفة وليس واسمها، وللذين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها وجملة يعملون السيئات صلة (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) حتى حرف غاية وجر وإذا ظرف مستقبل وجملة حضر أحدهم الموت في محل جر بالاضافة وأحدهم مفعول به مقدم والموت فاعل مؤخر ولم تجرّ «حتى» «إذا» لأن أدوات الشرط لا يعمل فيها ما قبلها ولكن الجملة الشرطية كلها في محل جر بحتى والجار والمجرور متعلقان بيعملون (قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وإن واسمها، وجملة تبت خبرها والآن ظرف متعلق بتبت والجملة في محل نصب مقول القول (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) الواو عاطفة ولا نافية والذين عطف على الذين يعملون وجملة يموتون صلة والواو حالية وهم مبتدأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 وكفار خبر والجملة نصب على الحال (أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) الجملة مستأنفة ولك أن تجعلها مفسرة وعلى كل حال لا محل لها واسم الاشارة مبتدأ وجملة أعتدنا خبر ولهم جار ومجرور متعلقان بأعتدنا وعذابا مفعول به وأليما صفة. الفوائد: 1- شغلت هذه الآية العلماء والمعربين والمفسرين وسنلخص لك بعض آرائهم في قوله «بجهالة» : أ- إنها كل معصية يفعلها العبد بجهالة وإن كانت على سبيل العمد لأنه يدعو إليها الجهل، ويزينها للعبد. ب- إن معنى «بجهالة» أنهم لا يعلمون كنه ما فيه من العقوبة كما يعلم الشيء ضرورة. ح- إن معنى «بجهالة» أنهم يجهلون أنها ذنوب ومعاص فيفعلونها إما بتأويل خاطئ وإما بأن يفرطوا في الاستدلال على قبحها وضعف الرّماني هذا القول بأنه خلاف ما أجمع عليه المفسرون، ولأنه يوجب أن لا يكون لمن علم أنها ذنوب توبة. 2- هذا ولا مندوحة لنا عن الإشارة الى الخلاف الذي شجر بين أهل السنة والاعتزال حول قوله: «على الله» فقد قال الزمخشري: «يعني إنما القبول والغفران واجب على الله لهؤلاء» وهو يجري في ذلك على سنن المعتزلة. وقد فنّد أهل السنة هذا القول بأنه قياس الخالق على الحق، وأنه لإطلاق يتقيد عنه لسان العاقل، الى آخر تلك المناظرة الفريدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 3- وقال أبو حيّان: «وارتفاع التوبة على الابتداء والخبر هو «على الله» و «للذين» متعلق بما تعلق به «على الله» والتقدير: إنما التوبة مستقرة على فضل الله وإحسانه للذين.. 4- وقال أبو البقاء: في هذا الوجه يكون «للذين يعملون السوء» حالا من الضمير في قوله «على الله» والعامل فيها الظرف والاستقرار، أي: ثابتة للذين، وأجاز أبو البقاء أن يكون الخبر «للذين» ويتعلق «على الله» بمحذوف ويكون حالا من محذوف أيضا والتقدير: إنما التوبة إذا كانت أو إذ كانت على الله للذين، وكان تامة وصاحب الحال ضمير الفاعل لكان. وإنما أوردنا هذه الأقوال للتدريب على ما راض علماؤنا أنفسهم على فهم كتاب الله تعالى، وما أوردناه كاف. [سورة النساء (4) : آية 19] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) اللغة: (تَعْضُلُوهُنَّ) مضارع عضل على فلان أي ضيّق عليه أمره وحال بينه وبين ما يريد. والعضل الحبس والتضييق، وعضّلت المرأة بولدها إذا اختنقت رحمها به فخرج بعضه وبقي بعضه، فيكون استعمال ذلك مجازا. ومن رائع الشعر قول أوس: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 ترى الأرض منا بالفضاء مريضة ... معضّلة منا بجمع عرمرم وردّد النابغة هذا المعنى فقال يصف جيشا: لجب يظلّ به الفضاء معضّلا ... يدع الإكام كأنهن صحاري والمراد به هنا في الآية: لا تمنعوا أزواجكم عن نكاح غيركم بإمساكهنّ حتى ترثوا منهن وهنّ غير راضيات. وكان الرجل إذا تزوج امرأة، ولم تكن من حاجته، حبسها مع سوء العشرة والقهر، لتفتدي منه بمالها وتختلع، فقال تعالى: «ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن» . هذا وقد تقدم الكلام عن وقوع العين والضاد فاء وعينا للكلمة، وما ترمز اليه حينئذ من معاني القوة والشدة. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها كثيرا (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) كلام مستأنف مسوق لإنصاف المرأة مما كانت تسام به من ظلم وافتئات، ولا نافية ويحل فعل مضارع مرفوع ولكم جار ومجرور متعلقان بيحل وأن ترثوا النساء المصدر المؤوّل فاعل يحل والنساء مفعول به وكرها بضم الكاف وفتحها، وهما قراءتان، حال أي: كارهات (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ) الواو عاطفة ولا نافية وتعضلوهن عطف على ترثوا أي: ولا أن تعضلوهن ولتذهبوا اللام للتعليل وتذهبوا فعل مضارع منصوب بأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بتعضلوهن وببعض جار ومجرور متعلقان بتذهبوا وما اسم موصول مضاف إليه وجملة آتيتموهن صلة الموصول (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) إن كان الاستثناء منقطعا كان المصدر المؤول واجب النصب على الاستثناء، وإن كان متصلا بما قبله كان الاستثناء من أعم الأحوال، فيعرب حالا. وأعربه أبو حيان مستثنى من أعم الظروف أو العلل، فهو منصوب عنده على الظرفية الزمانية، أو على أنه مفعول لأجله، كأنه قيل: ولا تعضلوهن في وقت من الأوقات إلا وقت أن يأتين، أو لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا أن يأتين، وهما سائغان. ويأتين فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة في محل نصب بأن وبفاحشة جار ومجرور متعلقان بيأتين ومبينة بفتح الياء وكسرها قراءتان (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) الواو عاطفة وعاشروهن فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به وبالمعروف جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، أي: محسنين ومجملين في القول والعمل (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) الفاء استئنافية وإن شرطية وكرهتموهن فعل ماض في محل جزم فعل الشرط فعسى الفاء رابطة وعسى هنا تامة وهي فعل جامد وأن وما بعدها فاعل، ويجعل فعل مضارع معطوف بالواو على تكرهوا منصوب مثله والواو فاعله وفيه جار ومجرور متعلقان بيجعل، فهو بمثابة المفعول الثاني ليجعل، وخيرا مفعولها الأول وكثيرا صفة. [سورة النساء (4) : الآيات 20 الى 21] وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 اللغة: (القنطار) تقدم القول فيه، والمراد به هنا المال العظيم، من قنطرت الشيء إذا رفعته، ومنه القنطرة: لأنها بناء مشيد، قال: كقنطرة الرومي أقسم ربّها ... لتكتنفن حتى تشاد بقرمد (البهتان) أن تستقبل الرجل بأمر قبيح تقذفه به وهو بريء منه، لأنه يبهت عند ذلك، أي: يتحير. ومن الأبيات التي استعمل فيها لفظ بهت، وعبرت تعبيرا نفسيا قوله: وما هي إلا أن أراها فجاءة ... فأبهت حتى ما أكاد أجيب وجميع الأفعال التي فاؤها باء وعينها هاء تتعلق بشعور نفساني، وقد أحصينا الكثير منها فلم يشذ واحد منها على هذا التحديد العجيب، فمن ذلك بهج به وابتهج أي سره ذلك، وهو أمر يتعلق بصميم النفس قال النابغة: كمضيئة صدفيّة غوّاصها ... بهج متى يرها يهلّ ويسجد وبهره غلبه، وبهرا دعاء عليه بالغلبة. قال عمر بن أبي ربيعة: ثم قالوا: تحبها؟ قلت: بهرا ... عدد الرّمل والحصى والتراب وبهرج في كلامه أي خالطه بما يسوء النفس. والكلام في هذا يطول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 الإعراب: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ) الواو استئنافية وإن شرطية وأردتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والتاء فاعل واستبدال زوج مفعول به ومكان زوج ظرف مكان متعلق باستبدال (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) الواو حالية وآتيتم فعل وفاعل والجملة نصب على الحال وإحداهن مفعول به أول وقنطارا مفعول به ثان فلا الفاء رابطة ولا ناهية وتأخذوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل ومنه جار ومجرور متعلقان بتأخذوا وشيئا مفعول به والجملة في محل جزم جواب الشرط (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) الهمزة للاستفهام والتوبيخ والإنكار والجملة استئنافية وتأخذونه فعل مضارع وفاعل ومفعول به وبهتانا حال أو مفعول لأجله وإثما عطف على بهتانا ومبينا صفة (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) الواو حرف عطف وكيف اسم استفهام في محل نصب حال وتأخذونه فعل مضارع وفاعل ومفعول به والواو حالية وقد حرف تحقيق وأفضى بعضكم فعل وفاعل والى بعض جار ومجرور متعلقان بأفضى وأخذن عطف على أفضى والنون فاعل وميثاقا مفعول به وغليظا صفة. البلاغة: الكناية في الإفضاء الى الشيء لأنه عبارة عن المباشرة له والذي عنى الإفضاء في هذا الموضع هو الجماع عند الشافعي، وهو قول ابن عباس أو الخلوة وإن لم يجامع. كما هو اختيار أبي حنيفة والفراء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 [سورة النساء (4) : الآيات 22 الى 23] وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) اللغة: (الربائب) جمع ربيبة وهي بنت الزوجة من غيره. (الحجور) جمع حجر بفتح الحاء وكسرها مقدم الثوب، والمراد به هنا لازم الكون في الحجور وهو الكون في تربيتهم. (الحلائل) جمع حليلة وهي الزوجة، قال الفرزدق: وذات حليل أنكحتها رماحنا ... حلال لمن يبني بها لم تطلّق الإعراب: (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان من يحرم نكاحها من النساء ومن لا يحرّم. والواو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 استئنافية ولا ناهية وتنكحوا فعل مضارع مجزوم بلا وما اسم موصول مفعول به، وهي واقعة على النوع كالتي في قوله: «ما طاب لكم من من النساء» أي: ولا تنكحوا النوع الذي نكح آباؤكم، وقال قوم: ما مصدرية والتقدير لا تنكحوا نكاح آبائكم، أي: مثل نكاح آبائكم الفاسد فهي مع مدخولها مفعول مطلق، ولا بأس بذلك ونكح آباؤكم فعل وفاعل ومن النساء جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا) إلا أداة استثناء وما مستثنى منقطع لأن الماضي لا يستثنى من المستقبل، ويجوز أن يكون متصلا. وسيرد مزيد عنه في باب البلاغة. وجملة قد سلف صلة وإن واسمها، وجملة كان فاحشة خبر إن وجملة إنه تعليلية لا محل لها، ومقتا عطف على فاحشة وساء فعل ماض لإنشاء الذم والفاعل مبهم مستتر يفسره التمييز وهو «سبيلا» والجملة إما مستأنفة وإما عطف على خبر كان محكية بقول مضمر (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) حرم فعل ماض مبني للمجهول والتاء تاء التأنيث الساكنة وعليكم جار ومجرور متعلقان بحرمت وأمهاتكم نائب فاعل (وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ) عطف على أمهاتكم، فهي داخلة في نطاق التحريم (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) عطف أيضا (وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) عطف أيضا والجار والمجرور نصب على الحال من أخواتكم (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ) عطف أيضا وفي حجوركم متعلقان بمحذوف صلة ومن نسائكم متعلقان بمحذوف حال من ربائبكم (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) اسم الموصول صفة لنسائكم وجملة دخلتم بهن صلة والباء للتعدية أي: دخلتم الخلوة بهن (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) الفاء استئنافية ولم تكونوا فعل الشرط وجملة دخلتم بهن خبر كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 والفاء رابطة ولا نافية للجنس وجناح اسمها وعليكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) عطف على ما تقدم والذين صفة أبنائكم ومن أصلابكم الجار والمجرور صلة الموصول (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) المصدر الاول عطف أيضا، وبين ظرف متعلق بتجمعوا والأختين مضاف اليه وإلا أداة استثناء وما مستثنى منقطع أو متصل، وقد تقدم إعرابها (إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) إن واسمها، وكان واسمها، وخبراها والجملة خبر إن، وجملة إن الله استئنافية. البلاغة: 1- في هذه الآية فن المبالغة بقوله: «إلا ما قد سلف» وذلك أن المنهيّ عنه وهو نكاح ما نكح الآباء من النساء أمر مستنكر عند أكثر الخلق، وقد بلغ حدا من البشاعة والاستهجان أنه كان ممقوتا قبل ورود الشرع به، جدير بأن يمتثل النهي عنه. 2- الكناية في قوله: «دخلتم بهن» فهي كناية عن الجماع كما تقدم أو الخلوة. 3- حسن النسق في ترتيب العطف، وهو ظاهر. الفوائد: 1- (الأمهات) جمع أم فالهاء زائدة في الجمع فرقا بين العقلاء وغيرهم. يقال في العقلاء أمهات وفي غيرهم أمات. وقد يتقارضان. 2- أخت وبنت أصلهما أخو وبنو حذفت واوهما وعوض عنها التاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 [سورة النساء (4) : آية 24] وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) اللغة: (الْمُحْصَناتُ) اللواتي أحصنّ فزوجهنّ بالتزويج. وهي بفتح الصاد كما في قراءة الجمهور، ما عدا الكسائي الذي قرأها بالكسر. فهي اسم مفعول على قراءة الجمهور. واسم فاعل في قراءة الكسائي في جميع القرآن، أما في هذه الآية فقد تبع فيها الكسائي الجمهور. (مُسافِحِينَ) : جمع مسافح وهو الزّاني. من السفح أي صب المني. وكان الفاجر يقول للفاجرة: سافحيني وماذيني. من المذي. الإعراب: (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) عطف على ما تقدم من المحرمات، ومن النساء: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وإلا: أداة استثناء وما مستثنى متصل، وقيل: منقطع باعتبار أن المستثنى منه نكاح الزوجات، والمستثنى وطء المتزوجات، ففيه رائحة الانقطاع، ولا داعي لهذا التكلف. وجملة ملكت أيمانكم صلة الموصول أي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 اللواتي سبين ولهن أزواج في دار الكفر فهن حلال للغزاة، وإن كنّ محصنات. وعن أبي سعيد الخدري بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه يوم حنين الى أوطاس، فأصابوا سبايا لهن أزواج من المشركين، فكرهوا غشيانهنّ، فأنزل الله هذه الآية. وقد افتن شعراؤنا بهذا المعنى فقال الفرزدق: وذات حليل أنكحتها رماحنا ... حلال لمن يبني بها لم تطلق (كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) كتاب مصدر مؤكد أي: كتب الله ذلك عليكم كتابا وفرضه فرضا. وعليكم جار ومجرور متعلقان بالمصدر، وسيأتي مزيد بسط لذلك في باب الفوائد (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) الواو عاطفة وأحلّ فعل ماض مبني للمجهول وقرىء بالبناء للمعلوم وهو معطوف على الفعل الذي نصب المصدر ولكم جار ومجرور متعلقان بأحل وما اسم موصول نائب فاعل أو مفعول به ووراء ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول واسم الاشارة مضاف إليه (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) المصدر المؤول من أن وما في حيزها في محل نصب مفعول لأجله أي إرادة أن تبتغوا النساء والمفعول به محذوف للعلم به، ومحصنين حال أولى وغير مسافحين حال ثانية (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) الفاء استئنافية وما اسم موصول أو اسم شرط جازم وهي مبتدأ على كل حال واستمتعتم صلة إن كانت ما موصول وفعل الشرط إن كانت شرطية وبه جار ومجرور متعلقان باستمتعتم ومنهن جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال فآتوهن: الفاء رابطة على كل حال، وآتوهن: الجملة خبر ما الموصولية أو في محل جزم جواب الشرط ويكون فعل الشرط وجوابه خبر ما الشرطية وأجورهن مفعول به ثان والمفعول الاول هو الهاء في آتوهن وفريضة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 حال من أجورهن أو اسم مصدر مؤكد كما قال بعضهم ولا داعي لذلك (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) الواو عاطفة أو استئنافية ولا نافية للجنس وجناح اسمها المبني على الفتح وعليكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لا. وفيما جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وجملة تراضيتم لا محل لها صلة وبه جار ومجرور متعلقان بتراضيتم ومن بعد الفريضة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) الجملة تعليل لما ورد من أحكام وبقية الإعراب تقدمت نظائره. البلاغة: 1- في قوله: «مسافحين» استعارة تصريحية لكثرة الزنا، تشبيها بصبّ الماء في الأنهار والعيون بتدفق وسرعة. 2- وفي قوله: «فآتوهن أجورهن» استعارة تصريحية أيضا فقد استعار لفظ الأجور للمهر، والأجور جمع أجر، وهو ما يتقاضاه المرء على عمل. الفوائد: أعرب الكسائي: «كتاب الله عليكم» نصبا على الإغراء كأنه قال: عليكم كتاب الله، فقدم المفعول به على اسم الفعل وهو عليكم. ثم قال: وذلك جائز، وقد ورد به السماع والقياس. فالسماع قول الراجز: أيها المائح دلوي دونكا ... إني رأيت الناس يحمدونكا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 والمراد دونك دلوي أي خذه، وأما القياس فإن الظرف أي عليكم: ناب عن الفعل تقديره: الزموا كتاب الله، ولو ظهر الفعل جاز تقديم معموله، فكذلك معموله. والصواب ما ذهبنا إليه، ولكننا أشرنا إليه لقبس الذكاء المشرق منه، وتفنيده يضيق عنه المجال. [سورة النساء (4) : آية 25] وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) اللغة: (الطول) بفتح الطاء: الفضل والزيادة والاستطاعة والنيل، يقال: طلته أي نلته، قال الفرزدق: إن الفرزدق صخرة عادية ... طالت فليس تنالها الأوعالا أي طالت الأوعالا ف «الأوعالا» مفعول طالت. وأمر طائل أي يعتدّ به قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 لقد زادني حبا لنفسي أنني ... بغيض إلى كل امرئ متطاول ومنه الطّول في الجسم بضم الطاء، لأنه زيادة فيه والطول بكسر الطاء وفتح الواو هو حبل تشدّ به قوائم الدابة، قال طرفة: لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطّول المرخى وثنياه في اليد (الأخدان) الأخلّاء في السرّ، جمع خدن بكسر الخاء، وقال أبو زيد: الأخدان: الأصدقاء على الفاحشة، والواحد خدن وخدين. (الْعَنَتَ) : المشقة في الأصل، وأصله الاول انكسار العظم بعد الجبر، فاستعير لكل مشقة. والمراد به هنا الزنا. الإعراب: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) كلام مستأنف مسوق لتتمة هذه الاحكام المشروعة، وقد كثرت الأعاريب وأحكام المفسرين والمعربين في هذه الآية، وسنختار ما هو أقرب الى المنطق منها. فمن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ولم يستطع في محل جزم فعل الشرط ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وطولا مفعول يستطع والمصدر المؤول من أن وينكح مفعول طولا لأنه مصدر والمعنى ومن لم يستطع زيادة في المال يبلغ بها نكاح الحرّة فلينكح أمة. ويجوز إعراب المصدر المؤول نصبا على نزع الخافض، أي: طولا الى أن ينكح المحصنات. وهذا أقرب ما نراه مستساغا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 من الأعاريب التي تخبط بها النحاة والمعربون (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) الفاء رابطة لجواب الشرط ومما جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول به محذوف لفعل محذوف، أي: فلينكح أمة ما ملكت أيمانكم وجملة ملكت أيمانكم لا محل لها لأنها صلة الموصول ومن فتياتكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المقدر في «ما ملكت» والعائد على ما وفعل الشرط وجوابه خبر من الموصولية، والمؤمنات صفة لفتيات (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) الواو اعتراضية والله مبتدأ وأعلم خبر وبايمانكم جار ومجرور متعلقان بأعلم والجملة لا محل لها لأنها معترضة (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) بعضكم مبتدأ والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر والجملة مستأنفة مسوقة للتسوية بينكم وبينهن في الدين، وهذا من أروع التعابير عن المساواة (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدر أي: إذا علمتم الوجهة المستقيمة الجديرة بالاتباع فانكحوهن والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وبإذن أهلهن جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) عطف على فانكحوهن وبالمعروف جار ومجرور متعلقان بآتوهن أجورهن ومعناه وبغير مطل وضرار. وآتى ينصب مفعولين وهما الهاء وأجورهن (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) محصنات حال من المفعول به في قوله: «فانكحوهن» و «غير مسافحات» حال ثانية ولا متخذات أخدان عطف على مسافحات (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) الفاء استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وأحصن فعل ماض مبني للمجهول والنون نائب فاعل والجملة في محل جر بالإضافة فإن الفاء رابطة لجواب إذا، وإن شرطية وأتين فعل ماض مبني على السكون في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 محل جزم فعل الشرط والنون فاعل وبفاحشة جار ومجرور متعلقان بأتين، فعليهن الفاء رابطة لجواب الشرط وعليهن جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ونصف مبتدأ مؤخر وما اسم موصول في محل جر بالإضافة وعلى المحصنات جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول ومن العذاب جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وجملة: فإن أتين لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة فعليهن نصف في محل جزم جواب الشرط الجازم وهو إن (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) ذلك اسم اشارة مبتدأ ولمن جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر وجملة خشي لا محل لها لأنها صلة الموصول والعنت مفعول به ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال والجملة مستأنفة لا محل لها (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) الواو استئنافية وأن وما في حيزها مصدر مؤول مبتدأ وخير خبر للمصدر المؤول، ولكم جار ومجرور متعلقان بخير (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وغفور خبر أول ورحيم خبر ثان. الفوائد: اخترنا في الإعراب ما رأيناه أدنى الى المنطق وأقرب الى الصواب، ولكننا لزيادة الفائدة نورد ما قاله بعض العلماء في اعراب هذه الآية، فقد أجازوا جعل «أن ينكح» بدلا من «طولا» بدل الشيء من الشيء، وهما لشيء واحد، لأن الطّول هو القدرة، والنكاح قدرة، وأجازوا أن يكون المصدر المؤول مفعول يستطع، وقالوا في نصب «طولا» إنه يجوز أن يكون مفعولا لأجله على حذف مضاف أي: ومن لم يستطع منكم نكاح المحصنات لعدم الطول وأن يكون نصبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 على المصدرية، والعامل فيه الاستطاعة، والتقدير: ومن لم يستطع منكم استطاعة أن ينكح. فتدبّر والعصمة لله وحده. [سورة النساء (4) : الآيات 26 الى 28] يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) الإعراب: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) كلام مستأنف مسوق لتتمة بيان ما سبق من أحكام. ويريد الله فعل مضارع وفاعل وليبين: اللام زائدة ولكنها أعطيت حكم لام التعليل وقد أفادت زيادة اللام تأكيدا لإرادة التبيين، والمعنى: يريد الله أن يبين لكم ما هو خفيّ عنكم من مصالحكم، وأن يهديكم مناهج من كانوا قبلكم للاقتداء بما هو صالح منها لكم ومنسجم مع واقعكم. ويهديكم عطف على يبين والكاف مفعول به أول وسنن مفعول به ثان والذين مضاف اليه ومن قبلكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول، ويجوز في «سنن» أن تكون منصوبة بنزع الخافض، وقد تقدم بحث هدى في الفاتحة (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) عطف على «يبين» ، وعليكم جار ومجرور متعلقان بيتوب (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 وعليم خبر أول وحكيم خبر ثان (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة يريد خبر وأن يتوب مصدر مؤول مفعول به وعليكم جار ومجرور متعلقان بيتوب (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ) عطف على يريد السابقة والذين فاعل وجملة يتبعون صلة الموصول والشهوات مفعول به وعلامة نصبه الكسرة لأنه جمع مؤنث سالم (أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً) أن وما بعدها مصدر مؤول مفعول يريد، وميلا مفعول مطلق وعظيما صفة (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) تأكيد لما سبق لبسط التقرير، والجملة مستأنفة تقدم اعرابها (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) الجملة مستأنفة بمثابة التعليل للتخفيف وخلق فعل ماض مبني للمجهول والإنسان نائب فاعل وضعيفا حال من الإنسان وهي حال مؤكدة، أي لا يقوى على مغالبة الشهوات ومدافعة النفس الأمّارة بالسوء. الفوائد: هذا تركيب شغل المعربين، وتضاربت فيه أقوال المفسرين، وقد أوردنا في باب الإعراب ما ارتأيناه وارتآه الزمخشري من قبل، وهو رأي الكوفيين. ولكن سيبويه والبصريين يرون أن مفعول يريد محذوف وتقديره يريد الله هذا، أي تحليل ما أحل وتحريم ما حرّم، وتشريع ما تقدم ذكره ليستقيم معنى التعليل. ولكننا نرى فيه تكلفا لا يتفق مع أسلوب القرآن السمح، وهناك قولان جديران بالتدوين: 1- قول الفراء: أما الفرّاء فيرى أن اللام هنا هي لام كي التي تعاقب «أن» قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 العرب تعاقب بين لام كي و «أن» فتأتي باللام التي على معنى «كي» في موضع «أن» في: أردت وأمرت فتقول: أردت أن تفعل وأردت لتفعل، ومنه قوله تعالى: «يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم» «وأمرت لأعدل بينكم» «وأمرنا لنسلم لرب العالمين» ومنه قوله: أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثّل لي ليلى بكل سبيل 2- قول الزجاج: وقد حكى الزجاج هذا القول وقال: لو كانت اللام بمعنى «أن» دخلت عليها لام أخرى كما تقول: جئت كي تكرمني، ثم تقول: جئت لكي تكرمني، وأنشد: أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود [سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 30] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان بعض المحرمات المتعلقة بالأموال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 والأنفس، وقد تقدم إعراب النداء كثيرا، ولا ناهية وتأكلوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وأموالكم مفعول به وبينكم ظرف متعلق بتأكلوا وبالباطل: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال والمراد بالباطل هنا ما لم تبحه الشريعة. (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) إلا أداة استثناء والمصدر المؤول في موضع نصب على الاستثناء المنقطع، لأن التجارة ليست من جنس الأموال المأكولة بالباطل، ولأن الاستثناء وقع على الكون، والكون معنى لا مادة، وخص التجارة لأن أسباب الرزق أكثرها متعلق بها. وتجارة خبر تكون واسمها مستتر تقديره: إلا أن تكون التجارة تجارة، وعن تراض جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة، أي تجارة صادرة عن تراض، [والتراضي معروف في كتب الفقه وعند الشافعي تفرقهما عن مجلس العقد متراضيين] . ومنكم جار والمعاملات فهو عند أبي حنيفة رضا المتبايعين وقت الإيجاب والقبول ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لتجارة (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) عطف على ما تقدم، ولا ناهية وتقتلوا مضارع مجزوم بها وأنفسكم مفعول به (إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) الجملة تعليل للمنع لا محل لها وإن واسمها، وجملة كان واسمها وخبرها خبر إن (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً) الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ ويفعل فعل الشرط وذلك اسم إشارة مفعول به، والإشارة لما تقدم من المنهيات، وقيل عن قتل الأنفس خاصة. وعدوانا وظلما مصدران في موضع نصب على الحال أو مفعول لأجله (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) الفاء رابطة لجواب الشرط وسوف حرف استقبال ونصليه فعل مضارع والهاء مفعول به أول ونارا مفعول به ثان والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من الشرطية (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) الواو استئنافية وكان واسمها، ويسيرا خبرها وعلى الله متعلقان بيسير أو بمحذوف صفة له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 [سورة النساء (4) : الآيات 31 الى 32] إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) الإعراب: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) كلام مستأنف مسوق للدعوة الى اجتناب الكبائر والتزام الطاعات. وإن شرطية وتجتنبوا فعل الشرط والواو فاعل وكبائر مفعول به وما اسم موصول مضاف اليه وجملة تنهون عنه لا محل لها لأنها صلة وتنهون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وعنه جار ومجرور متعلقان بتنهون (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) نكفر جواب الشرط وعنكم جار ومجرور متعلقان بنكفر وسيئاتكم مفعول به (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً) وندخلكم عطف على نكفر والكاف مفعول به ومدخلا اسم مكان أو مصدر ميمي فهو مفعول به ثان على السعة أو مفعول مطلق وقيل ظرف مكان وليس ببعيد، وكريما صفة (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) كلام مستأنف مسوق للنهي عن التمني لأن فيه تعلق البال بالدنيا ونسيان الآخرة، والواو استئنافية ولا ناهية وتتمنوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وما اسم موصول مفعول به وجملة فضل الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 صلة وبه جار ومجرور متعلقان بفضل وبعضكم مفعول به وعلى بعض متعلقان بفضل أيضا. وفي هذا النهي دعوة الى تجنب الحسد (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا) الجملة لا محل لها لأنها مستأنفة، ويجوز أن تكون مفسرة لما ساق النهي لأجله، وللرجال جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ونصيب مبتدأ مؤخر ومما جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لنصيب وجملة اكتسبوا صلة (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) عطف على الجملة السابقة (وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) عطف على النهي. واسألوا فعل أمر مبني على حذف النون ولفظ الجلالة مفعول أول والثاني محذوف، ومن فضله متعلقان بمحذوف صفة للمفعول الثاني المحذوف، أي: شيئا من فضله (إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) إن واسمها، وجملة كان واسمها وخبرها خبر إن، والجملة تعليلية لا محل لها وبكل جار ومجرور متعلقان ب «عليما» . [سورة النساء (4) : الآيات 33 الى 34] وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 اللغة: (النشوز) : أصل النشوز الارتفاع الى الشرور، ونشوز المرأة: بغضها لزوجها وارتفاع نفسها عليه تكبّرا، ويقال: علوت نشزا من الأرض ونشزا بسكون الشين وفتحها. ونشز الشيء عن مكانه: ارتفع، ونشزت إليّ النفس: جاشت من الفزع، وامرأة ناشز. ومن غريب أمر النون والشين أنهما لا تقعان فاء وعينا للكلمة إلّا دلتا على هذا المعنى أو ما يقاربه: ارتفاع عن الشيء ومباينة لأصله وعدم انسجام مع حقيقته، ومنه نشأ الإنسان أي ارتفع وظهر، وأنشأناهنّ إنشاء، ومن أين نشأت؟ والجواري المنشآت: السفن الماخرة عباب البحر، ونشب العظم في الحلق علق وارتفع عليه، وتراموا بالنّشاب ونشبت الحرب، ونشج الباكي نشجا وهو ارتفاع البكاء وتردّده في الصدر، وأنشد الشعر إنشادا حسنا لأن المنشد يرفع صوته، الى آخر ما اشتملت عليه هذه المادة وهذا من عجائب ما تميزت به لغتنا الشريفة. الإعراب: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) الكلام مستأنف مسوق لتتمة أحكام الإرث وقد تكلم المعربون والمفسرون كثيرا عن هذه الآية، وأطالوا في القول وقلبوا الكلام على شتى وجوهه فلم يصل أحد منهم الى طائل يشفي الغليل، فهي من الكلام المعجز، وأقرب ما رأيناه فيها هو ما يلي: الواو استئنافية ولكل جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم والتنوين في كل عوض عن كلمة، أي: لكل قوم. وجملة جعلنا صفة لقوم ومفعول جعلنا الأول محذوف أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 جعلناهم وموالي مفعول به ثان ومما جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة للمبتدأ المؤخر المحذوف أي نصيب وجملة ترك صلة الموصول والوالدان فاعل والأقربون عطف عليه. والمعنى ولكل من هؤلاء الذين جعلناهم موالي نصيب من التراث المتروك. وهذا أجود الاوجه من جهة المعنى، ولكنه كما رأيت يحتاج الى تقديرات كثيرة. ويليه في الجودة أن يكون «لكل» مفعولا مقدما لجعلنا وموالي مفعول به ثان والمضاف «لكل» هو المال أي: جعلنا لكل مال موالي، ومما ترك صفة، وفي هذا ما فيه. وسيأتي في باب الفوائد بعض ما قاله الأئمة (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) الواو استئنافية والذين اسم موصول مبتدأ وجملة عقدت أيمانكم صلة والفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وجملة آتوهم خبر الذين والهاء مفعول به أول ونصيبهم مفعول به ثان. ويجوز أن تكون الواو عاطفة والذين مرفوع عطف على الوالدان والأقربون، ويجوز أن يكون الذين منصوبا على الاشتغال أي مفعول به لفعل محذوف نحو: زيدا فاضربه، ومنهم من أعربه معطوفا على موالي، واختاره أبو البقاء. وهناك أقوال كثيرة ضربنا عنها صفحا. ومفعول عقدت محذوف أي عقدتهم والنسبة مجازية كما سيأتي في باب البلاغة (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) إن واسمها، وجملة كان خبر إن وعلى كل شيء متعلقان ب «شهيدا» وشهيدا خبر كان الناقصة (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) كلام مستأنف مسوق لبيان سبب زيادة استحقاق الرجال الزيادة في الميراث مما يرجع اليه في المظانّ المعروفة، والرجال مبتدأ وقوامون خبره وعلى النساء جار ومجرور متعلقان بقوامون أي يقومون بتدبير شئونهم وتحصيل معايشهم ليتاح للأم أن تنصرف الى شئون بيتها أو لتمارس الأعمال التي تنسجم مع طبيعتها، وكل امرئ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 ميسّر لما خلق له، كما جاء في الحديث. وبما فضل متعلقان بقوامون أيضا والباء سببية جارة وما مصدرية أو موصولية، والجملة بعدها لا محل لها على التقديرين. والله فاعل وبعضهم مفعول وعلى بعض متعلقان بفضل (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) عطف على ما تقدم (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) الفاء استئنافية بمثابة التفريع على ما تقدم، والصالحات مبتدأ وقانتات خبر أول وحافظات خبر ثان وللغيب متعلقان بحافظات (بِما حَفِظَ اللَّهُ) الجار والمجرور متعلقان بحافظات وما مصدرية أي بسبب حفظ الله لهن إذ عصمهنّ ووفقهنّ لحفظ غيبة الأزواج، ويجوز جعل ما موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف أي بالذي حفظه الله لهن من مهور أزواجهن والنفقة عليهن والجملة بعد «ما» لا محل لها من الإعراب (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ) الواو استئنافية واللاتي اسم موصول مبتدأ وجملة تخافون نشوزهن صلة ونشوزهن مفعول به (فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) الفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وعظوهن فعل أمر وفاعل ومفعول به والجملة خبر الموصول واهجروهن عطف على عظوهن وفي المضاجع متعلقان باهجروهن واضربوهن عطف أيضا (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا) الفاء استئنافية وإن شرطية وأطعنكم فعل ماض والنون فاعل والكاف مفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة لجواب الشرط ولا ناهية وتبغوا فعل مضارع مجزوم بلا وعليهن متعلقان بمحذوف حال، لأنه كان في الأصل صفة ل «سبيلا» وتقدم عليه وسبيلا مفعول به. ويحتمل أن تكون «تبغوا» من البغي أي الظلم، والمعنى: فلا تبغوا عليهن، فيتعلق «عليهن» بمحذوف حال، وانتصاب «سبيلا» على هذا هو على إسقاط الخافض (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) إن واسمها وجملة كان عليا كبيرا خبرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 البلاغة: 1- المجاز المرسل في قوله: «عقدت أيمانكم» سواء أريد بالإيمان اليد الجارحة أو القسم. والعلاقة هي السببية. 2- الكناية في قوله «في المضاجع» فقد كنى بذلك عن الجماع. وقد تقدم البحث مستوفى عن الكناية. وللعرب في الكناية عن الجماع تأثّما عن ذكره أساليب عديدة، كقوله تعالى: «هن لباس لكم وأنتم لباس لهن» ومن الشعر قول امرئ القيس: وصرنا الى الحسنى ورقّ كلامنا ... ورضت فذلّت صعبة أي إذلال فرياضة المرأة وإذلالها ورقة كلامها من البهر وفرط الشهوة كناية عن ذلك غاية في الجمال والتعفف. ومن طريف الكنايات المتعلقة بالمضاجع ما يروى عن عمرو بن العاص أنه زوّج ولده عبد الله، فمكثت المرأة عنده ثلاث ليال لم يدن منها وإنما كان ملتفتا الى صلاته، فدخل عليها عمرو بعد ثلاث فقال: كيف ترين بعلك؟ فقالت: نعم البعل إلا أنه لم يفتش لنا كنفا ولم يقرب لنا مضجعا. من الكناية التي يعزّ نظيرها. نموذج بين الإحسان والاساءة: ومما أسيء استعماله من الكناية عن الجماع قول المتنبي: إني على شغفي بما في خمرها ... لأعفّ عمّا في سراويلاتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 فقد أراد أن يكنّي عن النزاهة والعفة فوقع بما يعتبر شرا من الفجور، وهو قوله «عما في سراويلاتها» . وقد أخذ الشريف الرضي هذا المعنى فأبرزه في أجمل صورة، وأعفّ لفظ وأشرفه حيث قال: أحن إلى ما تضمر الخمر والحلا ... وأصدف عما في ضمان المآزر والشريف وقع في الخطأ: على أن الشريف الرضي لم يسلم من الخطأ أيضا فقد نظم قصيدة يعزّي بها أبا سعد علي بن محمد بن أبي خلف عن وفاة أخيه وهو: إن لم تكن نصلا فغمد نصال ... غالته أحداث الزمان بغول وفي هذا من سوء الكناية مالا يخفى، فإن الوهم يسبق الى ما يقبح ذكره. والواقع أن الشريف الرضي أراد أن يرمق سماء الفرزدق في أبيات ثلاثة قالها وقد ماتت جارية له وهي حبلى وهي: وجفن سلاح قد رزئت فلم أنح ... عليه ولم أبعث إليه البواكيا وفي جوفه من دارم ذو حفيظة ... لو أن المنايا أمهلته لياليا ولكن رأيت الدهر يعثر بالفتى ... ولا يستطيع ردّ ما كان جائيا وهذا حسن في معناه بديع في صياغته، فجاء الشريف، على سموّ ذوقه ورهافة حسه، وسقط هذه السقطة في أخذ كنايته. الفوائد: نرى من المفيد أن نورد وجوها، منها ما أورده أبو حيان في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 تفسيره البحر، ومن هذه الوجوه أن يكون «لكل» متعلقا بجعلنا، والضمير في «ترك» عائد على «كل» المضاف لإنسان، والتقدير: وجعل لكل إنسان إرثا مما ترك، فيتعلق «مما» بما في معنى «موالي» من معنى الفعل، أو بمضمر يفسره المعنى، والتقدير: يرثون مما ترك، وتكون الجملة قد تمت عند قوله: مما ترك، ويرتفع «الوالدان» ، كأنه قيل: ومن الوارث؟ فقيل: هم الوالدان والأقربون، والكلام جملتان. ومن تلك الوجوه أن يكون التقدير: وجعلنا لكل إنسان موالي، أي ورّاثا، ثم أضمر فعل أي: يرث الموالي مما ترك الوالدان، فيكون الفاعل ل «ترك» «الوالدان» وكأنه لما أبهم في قوله: وجعلنا لكل إنسان موالي، بيد أن ذلك الإنسان الذي جعل له ورثة هو الوالدان والأقربون، فأولئك الوراث يرثون مما ترك والداهم وأقربوهم، ويكون الوالدان والأقربون موروثين، وعلى هذين الوجهين لا يكون في «جعلنا» مضمر محذوف، ويكون مفعول «جعلنا» لفظ «موالي» ، والكلام جملتان. ولعل فك الطلاسم أسهل من هذه الوجوه المتداخلة، فالكلام معجز، والقواعد جاءت تابعة للغة. فهي مهما امتدت وتوسعت لا تعم ولا تشمل جميع تراكيبها. رأي وجيه للشوكاني: وبعد كتابة ما تقدم وقعت على رأي وجيه للشوكاني، فأحببت أن أختتم به البحث عن هذه الآية العجيبة، قال: «أي جعلنا لكل إنسان ورثة موالي يلون ميراثه، «لكل» مفعول ثان قدم على الفعل لتأكيد الشمول، وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها، أي ليتبع كل أحد ما قسم الله له من الميراث ولا يتمن ما فضل الله له غيره عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 ولكنها مبتسرة ظاهرة التلفيق، كأنما ضاق ذرعا بعد ما حام حول الحمى، ولم يقع فيه، وكلام الله أوسع من أن تحدّه الحدود، أو تكتنه مطاويه الأذهان فتأمل.. [سورة النساء (4) : الآيات 35 الى 36] وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) اللغة: (الشقاق) : الخلاف. وسمي الخلاف شقاقا لأن المخالف يفعل ما يشقّ على صاحبه، أو لأن كل واحد منهما قد صار في شق، أي جانب. (الْجُنُبِ) بضمتين: البعيد الجوار والأجنبي ويستوي فيه المذكر وللمؤنث والمفرد والمثنى والجمع، قال: لا يجتوينا مجاور أبدا ... ذو رحم أو مجاور جنب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 (الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) بفتح الجيم وسكون النون هو الرفيق في أمر حسن كتعلم وتصرف وصناعة وسفر، فإنه صاحبك، وهو بجانبك دائما. (ابْنِ السَّبِيلِ) : المسافر والمنقطع في سفره. (المختال) : التّيّاه المتكبّر، وأصل ألفه ياء، ومنه الخيل لأنها تختال في مشيتها مرحا. الإعراب: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما) كلام مستأنف مسوق لمخاطبة أولي الأمر بشأن الخلاف بين الزوجين. وإن شرطية وخفتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وشقاق مفعول به وبينهما مضاف إليه أضيف الشقاق الى الظرف على طريق الاتساع، وأصله: شقاقا بينهما، فأضيف على حدّ قوله: «بل مكر الليل والنهار» وأصله: بل مكر في الليل والنهار، أو على أن جعل البين شاقا، والليل والنهار ما كرين، على حدّ قولهم: نهارك صائر والضمير في بينهما للزوجين وإن لم يجر لهما ذكر لجري ذكر ما يدل عليهما وهو الرجال والنساء (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) الفاء رابطة لجواب الشرط وابعثوا فعل أمر وفاعل والجملة في محل جزم جواب الشرط وحكما مفعول به ومن أهله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة، وحكما من أهلها عطف على ما تقدم (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما) الجملة مستأنفة وإن شرطية ويريدا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والألف فاعل وإصلاحا مفعول به ويوفق الله جواب الشرط والجملة لا محل لها وبينهما ظرف متعلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 بيوفق (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) ان واسمها، وجملة كان واسمها وخبريها خبر إن والجملة تعليلية لا محل لها. (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبيان حقوق الأبوين والأقارب والجيران وما الى ذلك. واعبدوا فعل أمر والواو فاعله والله مفعوله ولا تشركوا عطف على ما تقدم وبه متعلقان بتشركوا وشيئا مفعول به أي شيئا من الأشياء أو مفعول مطلق أي شيئا من الإشراك (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) الواو عاطفة وبالوالدين جار ومجرور متعلقان بفعل المصدر المحذوف وإحسانا مفعول مطلق أي أحسنوا بهما إحسانا (وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) كلها معطوفة وبالجنب متعلقان بمحذوف حال (وَابْنِ السَّبِيلِ) عطف أيضا (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ما اسم موصول معطوف على ما تقدم وجملة ملكت أيمانكم صلة الموصول (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً) إن واسمها، وجملة لا يحبّ خبرها ومن اسم موصول مفعول به وجملة كان صلة واسم كان مستتر ومختالا خبر كان الاول وفخورا خبرها الثاني. الفوائد: لم يأت في الشرع ما يفيد أن الجار هو الذي بينه وبين جاره مقدار معيّن، ولا ورد في لغة العرب ما يفيد ذلك، بل المراد بالجار في اللغة المجاور ويطلق على معان: منها الجار والمجرور والذي أجرته من أن يظلم، والمجير والمستجير والشريك في التجارة، وزوج المرأة وهي جارته، وفرج المرأة، وما قرب من المنازل، والاست. وروي أن رجلا جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نزلت محلة قوم، وإن أقربهم إليّ جوارا أشدهم لي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 أذى، فبعث النبي أبا بكر وعمر وعليّا يصيحون على أبواب المساجد: ألا إن أربعين دارا جار، ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه. وقرىء والجار ذا القربى نصبا على الاختصاص تنبيها على عظم حقه. [سورة النساء (4) : آية 37] الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) اللغة: (البخل) معروف. وفيه أربع لغات: فتح الباء والخاء، وضمهما، وفتح الباء وسكون الخاء، وضم الباء وسكون الخاء، وهي أشهرها، وبها قرأ جمهور الناس. وقرىء أيضا باللغات الثلاث الآنفة الذكر. الإعراب: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) كلام مستأنف مسوق للنهي عن البخل وذمه. والذين مبتدأ خبره محذوف تقديره: جديرون بكل ذم وملامة. ولك أن تعربه خبرا لمبتدأ محذوف أي: هم الذين. وقيل: هي بدل من «من كان» فتدخل في نطاق ما قبلها وقيل في محل نصب على الذم فهو مفعول به لفعل محذوف تقديره: أذم وجملة يبخلون صلة الموصول ويأمرون الناس عطف على يبخلون وبالبخل متعلقان بيأمرون. (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) الواو عاطفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 ويكتمون عطف على يبخلون والواو فاعله وما مفعوله وجملة آتاهم الله صلة ومن فضله متعلقان بآتاهم (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) الواو استئنافية وأعتدنا فعل وفاعل وللكافرين. جار ومجرور متعلقان بأعتدنا وعذابا مفعول به ومهينا صفة. البلاغة: في قوله «للكافرين» وضع الظاهر موضع المضمر للتنويه بأن من كان هذا ديدنه فهو كافر بنعمة الله، ومن كان كافرا بنعمته تعالى فله عذاب يسمه بالميسم الذي يتسم به الكفار. وقد ألمع الى هذا الميسم شعراؤنا، فقال بشار بن برد: وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود وللزمخشري نثر جميل في وصف البخل نقتبس منه الفقرات التالية: «ولقد رأينا ممن بلي بداء البخل من إذا طرق سمعه أن أحدا جاد على أحد شخص به وحل حبوته واضطرب ودارت عيناه في رأسه كأنما نهب رحله، وكسرت خزانته، ضجرا من ذلك، وحسرة على وجوده» . [سورة النساء (4) : آية 38] وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) اللغة: (الرئاء) والرياء: الإنفاق للتباهي والتفاخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 الإعراب: (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ) الواو عاطفة والذين عطف على الذين السابقة وجملة ينفقون صلة الموصول وأموالهم مفعول به ورئاء الناس حال مؤولة أي مرائين ويجوز أن يعرب مفعولا من أجله، أي: ليقال: ما أسخاهم! وهو أظهر من الحال، وقد توفرت فيه شروط النصب (وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) عطف على ما تقدم وسيأتي سر تكرير لا في باب البلاغة (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً) الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ ويكن فعل الشرط وله متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة ل «قرينا» وقرينا خبر يكن (فَساءَ قَرِيناً) الفاء رابطة لجواب الشرط، لأن ساء هنا فعل ماض جامد لإنشاء الذم والفاعل ضمير مستتر تقديره «هو» وقرينا تمييز مفسر للفاعل، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: «هو» العائد على: «الشيطان» . والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر «من» . البلاغة: في تكرير «لا» النافية فن التكرير، وكذلك الباء للإشعار بأن كلّا منهما منتف على حدته. فاذا قلت: لا أكرم زيدا وعمرا، كان الكلام محتملا نفي الكرم عن المجموع، ولا يلزم منه نفي الكرم عن كل واحد منهما، واحتمل نفيه عنهما معا. فاذا قلت: «ولا عمرا» تعين نفي الكرم عنهما معا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 [سورة النساء (4) : الآيات 39 الى 40] وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) اللغة: (المثقال) : ما يوزن به ثقيلا كان أو كثيرا. ومثقال الشيء وزنه أو ميزانه، والجمع مثاقيل. والمثقال عرفا يساوي درهما ونصف درهم، وربما زاد على ذلك أو نقص شيئا. الإعراب: (وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الواو استئنافية وماذا تقدم القول: إن لنا في إعرابها وجهين، أحدهما: أن تجعل «ما» استفهامية في محل رفع مبتدأ و «ذا» موصولية هنا خاصة خبر «ما» ، وعندئذ يكون «عليهم» متعلقين بمحذوف صلة الموصول. وثانيهما: أن تجعل ماذا كلها اسما للاستفهام مبتدأ وعليهم متعلقان بمحذوف خبر. والمراد بالاستفهام هنا التوبيخ والذّم والإنكار. ولو شرطية وآمنوا فعل الشرط والجواب محذوف والتقدير فماذا يضرهم ذلك؟ وهو تركيب متداول تقول للمنتقم: ما ضرّك لو عفوت؟ وللعاق: ما يرزؤك لو كنت بارا بوالديك؟ وقد علم أنه لا مضرّة ولا مرزأة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 في العفو والبر، ولكنه لمحض التوبيخ والذّم. ويجوز أن تكون «لو» مصدرية والمصدر المؤول من «لو» والفعل منصوب بنزع الخافض أي: وماذا عليهم في إيمانهم. وبالله متعلقان بآمنوا واليوم عطف على لفظ الجلالة والآخر صفة (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ) عطف على آمنوا ومما متعلقان بأنفقوا وجملة رزقهم الله صلة الموصول (وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً) الواو استئنافية وكان واسمها وبهم جار ومجرور متعلقان بعليما وعليما خبر كان (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) كلام مستأنف مسوق ليكون توطئة لذكر الجزاء على الحسنات والسيئات. وان واسمها، وجملة لا يظلم خبرها ومثقال ذرة صفة لمصدر محذوف أي: ظلما مثقال ذرة. وقيل: ضمن «يظلم» معنى فعل يتعدى لاثنين، فانتصب «مثقال» على أنه مفعول به ثان، والثاني محذوف، والتقدير: لا ينقص أو لا يبخس أحدا مثقال ذرة. والأول أسهل وأقل تكلفا (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) الواو عاطفة وإن شرطية وتك فعل الشرط وعلامة جزمه السكون المقدر على النون المحذوفة من مضارع كان المجزوم للتخفيف، وقد تقدم بحثه. واسم تك يعود الى المثقال، وأنثه لأنه أضيف الى ذرة وقد تقدم بحثه. وحسنة خبر «تك» ويضاعفها جواب الشرط والهاء مفعول به (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) ويؤت عطف على يضاعفها ومن لدنه جار ومجرور متعلقان بيؤت أو بمحذوف حال لتقدمه على الموصوف وأجرا مفعول به وعظيما صفة. [سورة النساء (4) : الآيات 41 الى 42] فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 الإعراب: (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) الفاء استئنافية وكيف اسم استفهام، وهي في مثل هذا التركيب تحتمل وجهين لا ثالث لهما، وهما أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف، أي: كيف حالهم؟ وثانيهما أن تكون حالا من محذوف، أي: كيف يصنعون؟ وإذا ظرف زمان متعلق بهذا المحذوف وجملة جئنا في محل جر بالإضافة ومن كل متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لشهيد وتقدمت عليه، وبشهيد متعلقان بجئنا. وهناك وجه ثالث حكاه ابن عطية عن مكّيّ، وهو أن «كيف» معمولة لجئنا، (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) الواو عاطفة وجئنا فعل وفاعل وهما عطف على جئنا الاولى ولك جار ومجرور متعلقان بجئنا وعلى هؤلاء متعلقان ب «شهيدا» وشهيدا حال (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الظرف متعلق بيودّ وإذ ظرف مضاف الى الظرف والظرف والتنوين عوض جملة، والتقدير: يوم إذ جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا يود الذين كفروا. وجملة يود مستأنفة وجملة كفروا صلة (وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) الواو عاطفة وعصوا الرسول عطف على كفروا ولو مصدرية بعد فعل الودادة مؤولة مع ما بعدها بمصدر مفعول به ليود، أي يتمنون تسوية الأرض بهم بحيث يدفنون فيها، والأرض نائب فاعل لتسوى (وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً) عطف على «يود» ويجوز أن تكون للاستئناف ويكتمون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والله منصوب بنزع الخافض وحديثا مفعول به، أي: لا يكتمون عن الله حديثا. وأجاز قوم أن يكون لفظ الجلالة مفعولا به ليكتمون، لأنه في رأيهم يتعدى لاثنين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 الفوائد: التنوين اللاحق بالظروف المضافة مثل: يومئذ وحينئذ وعندئذ، يسمى نون التعويض، لأنه عوض عن جملة كما رأيت في باب الإعراب، فيلتقي ساكنان ذال «إذ» والتنوين، فتكسر الذال على أصل التقاء الساكنين، وليست هذه الكسرة كسرة إعراب، لأن «إذ» ملازمة للبناء، وليست الاضافة في «يومئذ» ونحوها من إضافة أحد المترادفين، بل من إضافة الأعمّ إلى الأخص، كشجر أراك. [سورة النساء (4) : آية 43] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) اللغة: (جُنُباً) معروف، ويستوي فيه المذكر والمؤنث، والمفرد والمثنى والجمع، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب، وهذا هو المشهور في اللغة والفصيح، وبه جاء القرآن. وقد جمعوه جمع سلامة بالواو والنون رفعا وبالياء والنون نصبا وجرا، فقالوا: قوم جنبون، وجمع تكسير فقالوا: قوم أجناب، وأما تثنية فقالوا: جنبان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 (الْغائِطِ) : في الأصل البطن الواسع من الأرض المطمئن. وكان الرجل إذا أراد قضاء حاجة أتى غائطا من الأرض، فقيل لكل من أحدث: تغوّط، استحياء من ذكر الحدث. (الصعيد) : التراب: والتيمم بالصعيد أصله التعمد، يقال: تيمّمتك وتأمّمتك وأممتك، ثم كثر استعمالهم لهذه الكلمة حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب. والأصل في ذلك كله وجه الأرض الخالية من النبات والغروس والبناء المستوية، ومنه قول ذي الرمّة: كأنه بالضحى ترمي الصعيد به ... دبابة في عظام الرأس خرطوم يعني ترمي به وجه الأرض. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم اعراب نظائرها (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) كلام مستأنف مسوق للنهي عن الصلاة في حال السكر، ولا ناهية وتقربوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والصلاة مفعول به وأنتم الواو للحال وأنتم مبتدأ وسكارى خبره (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) حتى حرف غاية وجر وتعلموا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى وما اسم موصول مفعول به، ويجوز أن تكون ما مصدرية والمصدر المؤول مفعول به. وأن وما بعدها في تأويل مصدر مجرور بحتى والجار والمجرور متعلقان بتقربوا (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) عطف على قوله وأنتم سكارى، فانها جملة محلها النصب على الحال من فاعل تقربوا، كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة سكارى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 ولا جنبا. وإلا أداة حصر عابري سبيل استثناء من عامة أحوال المخاطبين، فهو منصوب على الحالية، وجمع بين الحالين للدلالة على أن هناك حالين، كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها وهي السفر، وعبور السبيل عبارة عن السفر، و «حتى تغتسلوا» مثل: «حتى تعلموا» فهي متعلقة بفعل النهي (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) الواو عاطفة وإن شرطية وكنتم كان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها ومرضى خبرها وأو حرف عطف وعلى سفر الجار والمجرور في محل نصب عطفا على مرضى (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) أو حرف عطف وجاء معطوف على ما تقدم وأحد فاعل ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لأحد ومن الغائط متعلقان بجاء (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) عطف أيضا فالداخلون في حكم الشرط أربعة، وسيأتي مزيد من البيان حول هذه الاحكام في سورة المائدة، وهم المرضى والمسافرون والمحدثون وأهل الجنابة (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) الفاء عاطفة والجملة عطف على كنتم (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) الفاء رابطة لجواب الشرط وتيمموا فعل أمر والواو فاعل وصعيدا مفعول به وطيبا صفة وجملة فتيمموا في محل جزم جواب الشرط (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) الفاء عاطفة وامسحوا عطف على تيمموا وبوجوهكم متعلقان بامسحوا. حكى سيبويه: مسحت رأسه وبرأسه. وأيديكم عطف على وجوهكم. وقال بعض النحاة: الباء للتبعيض، وجعلوا منه قوله تعالى: «عينا يشرب بها عباد الله» ، وقول عمر بن أبي ربيعة: فلثمت فاها آخذا بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج وقال آخرون: هي للاستعانة. وكل ذلك سائغ (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) إن واسمها، وكان واسمها وخبراها خبر ان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 البلاغة: 1- الكناية بقوله: من الغائط، فقد كنّى عما يستهجن ذكره. وبالملامسة عن الجماع، في أحد القولين. وسيرد هذا مفصلا في المائدة. 2- الالتفات في قوله: «أو جاء أحد» فقد التفت من الخطاب الى الغيبة، لأنه كناية عما يستحيا من ذكره، فلم يخاطبهم به. وهذا من محاسن الكلام. [سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 46] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) اللغة: (هادُوا) : رجعوا، والمراد بهم أحبار اليهود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 (الكلم) : جمع كلمة، وتحريف الكلم بمعنى إحالته عن مواضعه وإزالته، لأنهم إذا بدلوه ووضعوا مكانه كلما غيره فقد أمالوه عن مواضعه التي وضعه الله فيها. (راعِنا) : قيل: هي عربية، ومعناها انتظرنا وارقبنا، وقيل هي كلمة شبه عبرية أو سريانية كانوا يتسابّون بها، وهي: راعينا وفي هذا منتهى النذالة والخسة أن تسبّ غيرك بلسان لا يعرفه. (لَيًّا) : فتلا بألسنتهم وصرفا للكلام عن نهجه الأصلي الى السب والشتم. وكان اليهود يقولون لأصحابهم: إنما نشتمه ولا يعرف، ولو كان نبيا لعرف ذلك. فأطلعه تعالى على ما يجمجمون به وما ينم على الخبث وسوء الطوية. الإعراب: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) كلام مستأنف مسوق لتحذير المؤمنين من موالاة اليهود. والهمزة للاستفهام ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم والرؤية هنا قلبية بمعنى العلم. وعدّي بإلى، بمعنى: ألم ينته علمك إليهم، أو بصرية بمعنى ألم تنظر إليهم فإنهم جديرون بأن تشاهدهم وتدرجهم في حيز الأمور المرئية، وجملة أوتوا صلة والواو نائب فاعل ونصيبا مفعول به ثان ومن الكتاب جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ل «نصيبا» (يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) جملة يشترون مفعول به ل «تر» إن كانت قلبية، وحال إن كانت بصرية، والواو فاعل والضلالة مفعول به. ومعنى اشتراء الضلالة استبدالها بعد وضوح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 الآيات المبينة. وقد تقدم القول في اشتراء الضلالة. ويريدون عطف على يشترون وأن وما في حيزها مصدر مؤول مفعول به ليريدون والسبيل مفعول تضلوا (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ) الواو حالية والله مبتدأ وأعلم خبر وبأعدائكم متعلقان بأعلم والجملة في محل نصب حال (وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً) تقدم القول في كفى وزيادة الباء في فاعلها أو مفعولها، وهنا زيدت في الفاعل، ووليا ونصيرا تمييزان أو حالان. (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) كلام مستأنف مسوق لإيراد صورة خسيسة عن اليهود أثناء محاورتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم. والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم لمبتدأ محذوف نابت عنه صفته، وهي جملة «يحرفون الكلم» والتقدير: من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم. وقيل: من الذين هادوا خبر لمبتدأ محذوف والتقدير: هم من الذين هادوا، وجملة يحرفون حال من ضمير هادوا. وقيل «من الذين» حال من «أعدائكم» مبينة له، وما بينهما اعتراض، والأول أرجح. وسيرد لابن هشام رأي واضح. (عَنْ مَواضِعِهِ) متعلقان بيحرفون (وَيَقُولُونَ: سَمِعْنا وَعَصَيْنا) جملة يقولون عطف على يحرفون وجملة سمعنا مقول القول وجملة وعصينا عطف على جملة سمعنا (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) عطف على سمعنا منتظم في ضمن مقولهم: أي ويقولون ذلك أثناء مخاطبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وغير مسمع، حال من المخاطب. وهذه الكلمة من الكلام الموجه لما سيأتي في باب البلاغة (وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ) عطف على اسمع، وليا بألسنتهم نصب على الحال أو مفعول لأجله أو مفعول مطلق وطعنا عطف على «ليا» وفي الدين متعلقان بطعنا (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا) الواو حالية أو استئنافية والجملة حالية أو مستأنفة ولو شرطية وأن وما بعدها فاعل لفعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 محذوف أي: لو ثبت قولهم، وجملة قالوا خبر أن وجملتا سمعنا وأطعنا من مقول قولهم (وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا) عطف على المقول منتظم في ضمنه. ومعنى انظرنا أي انظر إلينا، بدل راعنا المنطوية على الخسة كما تقدم في باب اللغة (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ) اللام رابطة لجواب لو وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هو وخيرا خبرها ولهم متعلقان بخيرا وأقوم عطف على «خيرا» (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) الواو حالية ولكن حرف استدراك مخفف مهمل ولعنهم الله فعل ومفعول به وفاعل والفاء عاطفة ولا نافية ويؤمنون فعل مضارع مرفوع وإلا أداة حصر وقليلا صفة مفعول مطلق أي: إلا إيمانا قليلا. ويجوز أن يكون: قليلا منهم، فيكون مستثنى من الواو في يؤمنون. البلاغة: اشتملت هذه الآية على فن فريد نسميه: الإبهام أو الكلام الموجه أو المحتمل للضدين، وهو الإتيان بكلام يحتمل معنيين متضادين بحيث لا يتميز أحدهما من الآخر، وهو قوله: «واسمع غير مسمع» فهو ذو وجهين: 1- وجه يحتمل الذم: أي استمع منا مدعوا عليك بلا سمعت، أي: أصابك الله بالصمم الموت. ولعله هو المراد هنا لما انطووا عليه من خسة. 2- ووجه يحتمل المدح: أي اسمع غير مسمع مكروها. ومن هذا الكلام الذي هو أشبه بأخذة السحر لا يملك معها البليغ أن يأخذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 أو يدع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا لم تستح فاصنع ما شئت» فهو يشتمل على معنيين متضادين، أحدهما: أن المراد به المدح، أي: إذا لم تفعل فعلا يستحيا منه فافعل ما شئت، لأنك آمن من مغبته. والآخر أن المراد به الذم، أي: إذا لم يكن لك حياء يردعك عن فعل ما يستحيا منه فافعل ما شئت، لأنك بلغت أدنى دركات المهانة. وهذان معنييان ضدان، أحدهما مدح والآخر ذم. الكلام الموجه في شعر أبي الطيب المتنبي: وهنا يحسن بنا أن ندرج فصلا من روائع أبي الطيب المتنبي في أماديحه لكافور، فقد كان يتعمّد هذا اللون من الكلام كقوله من قصيدة فيه، أولها: عدوّك مذموم بكلّ لسان ... ولو كان من أعدائك القمران ولله سرّ في علاك وإنما ... كلام العدا ضرب من الهذيان ثم قال بعد ذلك: فمالك تعنى بالأسنّة والقنا ... وجدّك طعّان بغير لسان؟ فإن هذا الكلام أشبه بالذم منه بالمدح، لأنه يقول: لم تبلغ ما بلغته بسعيك واهتمامك بل بحظّ وسعادة، وهذا لا فضل لك فيه، لأنه إذا كان حظه هو السبب في تقدمه فما قيمته؟ وما شأنه؟ وما أهون أمره!! وما أقل خطره!! ولأن السعادة قد تنال الخامل والجاهل ومن لا يستحقها. وقد كان أبو الطيب يجنح الى استعمال هذا الضرب من القول في قصائده الكافوريات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 وحكى أبو الفتح بن جنّي قال: قرأت على أبي الطيب ديوانه الى أن وصلت الى قصيدته التي أولها: أغالب فيك الشوق والشوق أغلب، فأتيت منها على هذا البيت وهو: وما طربي لما رأيتك بدعة ... لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب فقلت له: يا أبا الطيب، ما زدت على أن جعلته أبا زنة! وهي كنية القرد، فضحك. نماذج من الإبهام: ومن طريف الإبهام ما يحكى من أن بعض الشعراء هنأ الحسن ابن سهل باتصال بنته بوران بالمأمون مع من هنأه من الشعراء، فأثاب الناس كلهم وحرمه. فكتب إليه: إن تماديت في حرماني عملت فيك بيتا لا يعلم أحد أمدحتك فيه أم هجوتك؟ فأحضره وقال له: لا أعطيك أو تفعل. فقال: بارك الله للحسن ... ولبوران في الختن يا إمام الهدى ظفر ... ت ولكن ببنت من؟ فلم يعلم أراد بقوله: بنت من؟ في العظمة أم في الدناءة؟ فاستحسن الحسن منه ذلك وسأله هل ابتكرت ذلك؟ فقال: لا بل نقلته من شعر بشار بن برد، اتفق أنه فصل قباء عند خياط أعور اسمه زيد، فقال له الخياط: على سبيل العبث به: سآتيك به لا تدري أهو قباء أم جبة؟ فقال له بشار: إن فعلت ذلك لأنظمن فيك بيتا لا يعلم أحد ممن سمعه أدعوت لك أم دعوت عليك؟ فلما خاطه قال بشار: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 خاط لي زيد قباء ... ليت عينيه سواء فما علم أحد أن العين الصحيحة تساوي العوراء أو العكس. والحديث في الإبهام يطول، وسيرد المزيد منه في هذا الكتاب العجيب. الفوائد: أورد ابن هشام في المغني شاهدا على الاعتراض بأكثر من جملتين، قال بعد أن أورد الآيتين الآنفتين: إن قدّر «الذين هادوا» بيانا للذين أوتوا وتخصيصا لهم، إذا كان اللفظ عاما في اليهود. والمعترض به على هذا التقدير جملتان، وعلى التقدير الأول ثلاث جمل، وهي: والله أعلم. وكفى بالله، مرتين، وأما «يشترون» و «يريدون» فجملتا تفسير لمقدر، إذ المعنى: ألم تر الى قصة الذين أوتو، وإن علقت «من» ب «نصير» مثل ونصرناه من القوم، أو بخبر محذوف على أن «يحرفون» صفة لمبتدأ محذوف، أي قوم يحرفون، كقولهم: منا ظعن ومنا أقام، أي: منا فريق، فلا اعتراض البتة. [سورة النساء (4) : آية 47] يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) اللغة: (نَطْمِسَ وُجُوهاً) : نمحو تخطيط معالمها وصورها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 (عَلى أَدْبارِها) أي نجعلها كالأفقاء، كاللوح المنصوب الباهت حتى لا تبين ولا تتضح لرائيها. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) تقدم إعرابه (آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) كلام مستأنف مسوق للتحذير مما أعدّ لليهود بعد تحريفهم الكلم من مسخ وتشويه. وآمنوا فعل أمر مبني على حذف النون لأن مضارعه من الافعال الخمسة وبما متعلقان بآمنوا وجملة نزلنا صلة الموصول ومصدقا حال ولما متعلقان بمصدقا ومعكم ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول، أي: مصدقا للذي استقر معكم (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) من قبل جار ومجرور متعلقان بآمنوا وأن نطمس مصدر مؤول في محل جر بالاضافة ووجوها مفعول به فنردها: الفاء حرف عطف ونردها عطف على نطمس منصوب مثله والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به وعلى أدبارها جار ومجرور متعلقان بمحذوف في موضع المفعول الثاني لنردها، وقيل بمحذوف حال. ولا أرى داعيا لذلك الإعراب (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) أو حرف عطف ونلعنهم عطف على «نطمس وجوها» أو «نردها» وذكر الضمير وجمعه جمع العقلاء لأنه أرجعه الى أصحاب الوجوه كما سيأتي في باب البلاغة. وكما لعنا متعلقان بمحذوف مفعول مطلق. وقد تقدمت له نظائر. وما مصدرية ونا ضمير متصل في محل رفع فاعل ل «لعن» والمصدر المؤول في محل نصب مفعول مطلق أو حال وأصحاب السبت مفعول (وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) الواو استئنافية أو حالية وكان واسمها وخبرها، والجملة لا محل لها أو في محل نصب حال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 البلاغة: 1- في هذه الآية مجاز مرسل بذكر الوجوه وإرادة أصحابها، والعلاقة الكلية. 2- الإبهام في تنكير الوجوه، تلطفا بالمخاطبين، وتهويلّا للأمر العظيم الذي يثير الخوف، وقد اختلفوا في معنى التهديد وما المراد به في الآية، هل هو حقيقة فيجعل الوجه كالقفا، ويذهب الأنف والحاجب والعين والأذن، وتلك ظلمات بعضها فوق بعض، أم المراد سلبهم التوفيق وحرمانهم اللطف؟ ذهب الى الاول قوم، والى الآخر آخرون، وانظر المطولات. [سورة النساء (4) : الآيات 48 الى 50] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) اللغة: (يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) : يصفونها بزكاة العمل والطاعة، وزيادة العبادة والإخلاص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 (فَتِيلًا) الفتيل: السّحاة في شقّ النّواة، وما فتلته بين أصابعك من الوسخ. يقال: ما أغنى عنك فتيلا أي: شيئا بقدر الفتيل. وقد ضربت العرب المثل في القلة بأربعة أشياء اجتمعت في النواة، وهي الفتيل والنقير وهو النقرة التي في ظهر النواة، والقطمير وهو القشر الرقيق فوقها، وهذه الثلاثة واردة في القرآن الكريم، والرابع هو اليعروف وهو ما بين النواة والقمع الذي يكون في رأس الثمرة كالعلاقة بينهما. الإعراب: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان ما تستحيل المغفرة بدونه. وإن واسمها، وجملة لا يغفر خبرها وأن وما في حيزها مصدر مؤول في محل نصب مفعول به ليغفر وبه متعلقان بيشرك. وذكر الفراء في كتابه معاني القرآن أنه منصوب بنزع الخافض الذي كان يخفضها لو كان ظاهرا، وعلى كل حال فالجار والمجرور متعلقان بيغفر (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) الواو عاطفة ويغفر معطوف على المنفي فهو مثبت، والأحسن أن تكون استئنافية ويغفر مستأنف مرفوع دفعا للالتباس، وما اسم موصول مفعول به ودون ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول وذلك مضاف إليه والاشارة للاشراك المفهوم من يشرك ولمن متعلقان بيغفر وجملة يشاء لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ ويشرك فعل الشرط وبالله متعلقان بيشرك فقد الفاء رابطة للجواب وقد حرف تحقيق وافترى فعل ماض وإثما مفعول به وعظيما صفة والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) كلام مستأنف مسوق للتعجب من ادعائهم أنهم أزكياء عند الله مع ما هم متلبسون به من الكفر، حيث قال اليهود: نحن أحباء الله. والهمزة للاستفهام التعجبي ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم والى الذين متعلقان بتر وجملة يزكون أنفسهم صلة الموصول (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) بل حرف إضراب وعطف والله مبتدأ وجملة يزكي خبره ومن اسم موصول مفعول به وجملة يشاء صلة الموصول (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) الواو عاطفة ولا نافية ويظلمون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وهو معطوف على محذوف تقديره: فهم يثابون ولا يظلمون، وفتيلا نائب مفعول مطلق أي ظلما بقدر الفتيل، فهو مثل مثقال ذرة. ويجوز أن يعرب مفعولا ثانيا على تضمين يظلمون معنى ينقصون. وقد تقدم هذا الإعراب في مثقال ذرة (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) الجملة مستأنفة وانظر فعل أمر وكيف اسم استفهام في محل نصب حال أو مفعول مطلق ولعل الثاني أرجح، ويفترون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وجملة الاستفهام في محل نصب مفعول انظر، لأن انظر متعلقة بالاستفهام، وعلى الله متعلقان بيفترون والكذب مفعول به أو مفعول مطلق لأنه مرادف العامل يفترون، فالكذب والافتراء من واد واحد (وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً) الواو استئنافية وكفى فعل وبه الباء حرف جر زائد والهاء مفعول كفى محلا والفاعل ضمير مستتر مفسر بنكرة وهو قوله إثما فإثما تمييز ومبينا صفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 [سورة النساء (4) : الآيات 51 الى 54] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) اللغة: (الجبت) : الصنم، وكل ما عبد من دون الله. (الطاغوت) : الساحر. وقد نسجت حولهما أساطير كثيرة تجدها في المطولات. الإعراب: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) كلام مستأنف مسوق للحديث عن كعب بن الأشرف وغيره من اليهود، عند ما قدموا مكة، وشاهدوا قتلى بدر، وحرضوا المشركين على الأخذ بثأرهم، ومحاربة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم اعراب نظائره قريبا. ونصيبا مفعول أوتوا الثاني ومن الكتاب متعلقان بمحذوف صفة لنصيبا (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) جملة يؤمنون حال من «الذين» أو من الواو في أوتوا وإذا كانت الرؤية قلبية فمحلها النصب على أنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 مفعول به ثان ل «تر» العلمية (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) الواو حرف عطف ويقولون عطف على يؤمنون وللذين متعلقان بيقولون وجملة كفروا صلة الموصول (هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا) الجملة في محل نصب مقول قولهم وهؤلاء اسم اشارة مبتدأ وأهدى خبره ومن الذين جار ومجرور متعلقان بأهدى وجملة آمنوا صلة الموصول وسبيلا تمييز (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ) جملة مستأنفة لبيان حالهم وحقيقة أمرهم. وأولئك مبتدأ والذين خبر اسم الاشارة وجملة لعنهم صلة الموصول (وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) الواو استئنافية ومن شرطية مفعول به مقدم ليلعن ويلعن فعل الشرط مجزوم وحرك بالكسر لالتقاء الساكنين، وقد سها الجلال رحمه الله فقدر ضميرا منصوبا، وفاته أن لفظ القرآن لا يجوز التلاعب به. والله فاعل والفاء رابطة ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتجد فعل مضارع منصوب بلن والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط وله جار ومجرور متعلقان بنصيرا، ونصيرا مفعول به لتجد. وفعل الشرط وجوابه خبر «من» . (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) أم عاطفة منقطعة بمعنى بل فهي عطف للإضراب والانتقال من ذمهم بتزكيتهم أنفسهم وغيرها الى ذمهم بشيء آخر، وهو ادعاؤهم بأن لهم نصيبا من الملك. ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ونصيب مبتدأ مؤخر ومن الملك جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لنصيب (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدر، أي: إذا جعل لهم نصيب من الملك فإذن. وإذن حرف جواب وجزاء وقد أهملت لوقوعها بعد حرف العطف على الأفصح كما سيأتي في باب الفوائد، ولا نافية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 ويؤتون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والناس مفعول به أول ونقيرا مفعول به ثان (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أم حرف عطف وإضراب بمعنى بل، وهي للشروع في الصفة الثانية من قبائحهم، ويحسدون فعل مضارع مرفوع والناس مفعول به وعلى ما آتاهم جار ومجرور متعلقان بيحسدون وجملة آتاهم صلة والله فاعل ومن فضله متعلقان بآتاهم (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) الفاء تعليلية، كأنها تعليل للانكار والاستقباح، وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل وآل ابراهيم مفعول به أول والكتاب مفعول به ثان والحكمة عطف على الكتاب (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) عطف على ما تقدم. الفوائد: (إذا) أحد الأحرف التي تنصب الفعل المضارع بأنفسها، وما عداها فبإضمار أن معها، وهي: أن لن إذن كي. أما إذن فحرف ناصب لاختصاصه ونقله الفعل الى الاستقبال، وهي حرف جواب وجزاء، ولها ثلاثة أحوال: 1- أن تدخل على الفعل في ابتداء الجواب فهذه يجب إعمالها نحو قولك: إذن أكرمك، في جواب: أنا أزورك. 2- أن يكون ما قبلها واوا أو فاء، فيجوز إعمالها وإلغاؤها باعتبارين مختلفين، وذلك نحو قولك: زيد يقوم وإذن يذهب، فيجوز هاهنا الرفع والنصب باعتبارين مختلفين، وذلك أنك إن عطفت: «وإذن يذهب» على «يقوم» الذي هو الخبر ألغيت «إذن» من العمل وصار بمنزلة الخبر، لأن ما عطف على شيء صار واقعا موقعه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 فكأنك قلت: «زيد إذن يذهب» فيكون قد اعتمد ما بعدها على ما قبلها لأنه خبر المبتدأ، وإن عطفته على الجملة الأولى كانت الواو كالمستأنفة وصار في ابتداء كلام فأعمل لذلك ونصب به. 3- وأما الحالة الثالثة فأن تقع متوسطة، معتمدا ما بعدها على ما قبلها، أو كان الفعل فعل حال غير مستقبل، في جواب من قال: «أنا أزورك أنا إذن أكرمك» فترفع هنا لأن الفعل بعدها معتمد على المبتدأ الذي هو «أنا» . وكذلك لو قلت: «إن تكرمني إذن أكرمك» فتجزم لأن الفعل بعد «إذن» معتمد على حرف الشرط. وهناك تفاصيل يرجع إليها في كتب النحو. [سورة النساء (4) : الآيات 55 الى 56] فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) الإعراب: (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) الفاء استئنافية للتفريع ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومن اسم موصول مبتدأ مؤخّر وجملة آمن صلة الموصول وبه جار ومجرور متعلقان بآمن (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) عطف على ما تقدم (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) الواو استئنافية وكفى فعل ماض والباء حرف زائد وجهنم مجرور بالباء لفظا مرفوع محلا على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 أنه فاعل كفى وسعيرا تمييز أو حال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً) إن واسمها، وجملة كفروا صلة الموصول وبآياتنا متعلقان بكفروا وسوف حرف استقبال ونصليهم فعل مضارع والهاء مفعوله الأول ونارا مفعوله الثاني وجملة سوف نصليهم نارا خبر إن وجملة إن وما في حيزها مستأنفة (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) الجملة حال من الضمير المنصوب في «نصليهم» ولك أن تجعلها صفة ل «نارا» ولا بد من تقدير عائد محذوف، أي: كلما نضجت جلودهم فيها. وكلما ظرف زمان متضمن معنى الشرط متعلق ببدلناهم وجملة نضجت جلودهم في محل جر بالاضافة إذا اعتبرت ما زائدة وإن كانت موصولا حرفيا فلا محل لها وجملة بدلناهم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم. وبدلناهم فعل وفاعل ومفعول به أول وجلودا مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض وغيرها صفة لجلودا (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) اللام للتعليل والجر ويذوقوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل والعذاب مفعوله والجار والمجرور متعلقان ببدلناهم (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً) إن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان ضمير مستتر تقديره هو، وعزيزا خبر كان الاول وحكيما خبرها الثاني. البلاغة: الاستعارة المكنية التخييلية في قوله «ليذوقوا العذاب» فقد حذف المشبه، واستعار شيئا من لوازمه وهو الذوق، والمراد بالذوق هنا ديمومته، مع ما يصحبه من الاستكراه والألم الذي لا يوصف، ولا مرية في أن استمرار ذوق العذاب مع بقاء الأبدان حية مصونة فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 ما فيه من استبعاد لكل ما قد يخطر على البال من توهم زوال العذاب وألمه، ناهيك بما لحاسة الذوق من أثر في نفس المحترق بالنار. [سورة النساء (4) : آية 57] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) اللغة: (ظليل) : صفة لظل مشتقة منه لتأكيد مضمونه، كما يقال: ليل أليل، ويوم أيوم، أي: دائما لا تنسخه الشمس، وسجسجا لا حرّ فيه ولا برد. الإعراب: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الواو عاطفة والجملة معطوفة على الذين كفروا لتقرير حال هؤلاء وهؤلاء، كما سيأتي في البلاغة والذين اسم موصول مبتدأ وجملة آمنوا صلة الموصول (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) جملة «سندخلهم» خبر الذين والهاء مفعول به أول وجنات مفعول به ثان على السعة، وقد تقدمت نظائره، أو منصوب بنزع الخافض وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة لجنات وخالدين حال وفيها متعلقان بخالدين وأبدا ظرف متعلق بخالدين أيضا (لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) الجار والمجرور متعلقان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 بمحذوف خبر مقدم وفيها جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وأزواج مبتدأ مؤخر ومطهرة صفة، أي أن هذه الأزواج مطهرة من الاقذار المعروفة في الدنيا كالحيض وغيره. والجملة الاسمية صفة ثانية لجنات. (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا) الجملة معطوفة، وظلا مفعول به ثان على السعة والمفعول الاول الهاء، وظليلا صفة. البلاغة: في عطف «الذين آمنوا» على «الذين كفروا» لف ونشر مشوّش، وقد سبقت الاشارة إليه مع ما في الكلام من مقابلة وتنظير. [سورة النساء (4) : آية 58] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) الإعراب: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) كلام مستأنف مسوق لتقرير الأمانات بعد أن تقدم إخلال اليهود بها ونقضهم إياها. وإن واسمها، وجملة يأمركم خبرها وأن وما في حيزها مصدر مؤول منصوب بنزع الخافض أي: بأن تؤدوا، والجار والمجرور متعلقان بيأمركم أو مفعول به ثان ليأمركم والأمانات مفعول به لتؤدوا وعلامة نصبه الكسرة لأنه جمع مؤنث سالم والى أهلها جار ومجرور متعلقان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 بتؤدوا (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بمحذوف، لأن ما بعد أن المصدرية لا يعمل فيما قبلها، والتقدير يأمركم، وجملة حكمتم في محل جر بالاضافة وبين الناس ظرف متعلق بحكمتم وأن تحكموا مصدر مؤول معطوف على أن تؤدوا، فيكون قد فصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف، وبالعدل متعلقان بتحكموا ولك أن تعلقها بمحذوف حال من فاعل تحكموا أن متلبسين بالعدل (إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) الجملة مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر. ونعما أصلها: نعم وما، ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح وما نكرة تامة منصوبة على التمييز والفاعل مستتر مميز بنكرة أو «ما» موصولة فهي فاعل نعم وجملة يعظكم به صفة للمخصوص بالمدح وهو محذوف، والتقدير: نعم الشيء شيئا يعظكم به، وحذف الموصوف على حد قوله: «من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه» ، والمعنى: قوم يحرفون الكلم، وقد تقدم هذا قريبا، فجدد به عهدا. وبه متعلقان بيعظكم وجملة نعما خبر إن (إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) إن واسمها، وجملة كان خبرها وسميعا خبر كان الاول وبصيرا خبره الثاني. الفوائد: الأمانة اسم شامل يشمل جميع الحقوق سواء أكانت لله أم للآدمي، وتفصيلاتها مدونة في المطولات. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدّ الأمانة الى من ائتمنك، ولا تخن من خانك. وروى البغوي بسنده عن أنس قال: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 2- نعمّا: بكسر النون اتباعا لكسر العين. [سورة النساء (4) : آية 59] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) كلام مستأنف مسوق لجميع الناس، للأمر بطاعة الولاة وقد تقدم إعراب النداء كثيرا. وأطيعوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وأطيعوا الرسول عطف على: أطيعوا الله، وأولي الأمر عطف أيضا. وأولي منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم ومنكم متعلقان بمحذوف حال (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) الفاء استئنافية وإن شرطية وتنازعتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفي شيء متعلقان بتنازعتم فردوه: الفاء رابطة لجواب الشرط وردوه فعل أمر وفاعل ومفعول به والى الله متعلقان بردوه والرسول عطف على الله والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إن شرطية وكنتم كان الناقصة واسمها، والفعل الماضي في محل جزم فعل الشرط، وجملة تؤمنون في محل نصب خبر كنتم وبالله متعلقان بتؤمنون واليوم عطف على الله والآخر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 صفة والجملة الشرطية مستأنفة وجواب الشرط محذوف أي فردوه (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) الجملة مستأنفة واسم الاشارة مبتدأ وخير خبر وأحسن عطف على خير وتأويلا تمييز والاشارة للردّ. الفوائد: في هذه الآية إلماع الى الأدلة الفقهية الأربعة فقوله: «أطيعوا الله» إشارة الى الكتاب، وقوله: «وأطيعوا الرسول» اشارة الى السنة، وقوله: «وأولي الأمر» إشارة الى الإجماع، وقوله: «فإن تنازعتم» إشارة الى القياس. [سورة النساء (4) : آية 60] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) الإعراب: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) كلام مستأنف مسوق لبيان مكان التعجب من حال هؤلاء الذين ادعوا لأنفسهم أنهم قد جمعوا بين الإيمان بما أنزل على رسول الله، وهو القرآن، وما أنزل على من قبله من الأنبياء، فجاءوا بما يناقض هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 الدعوى، ويطيح بها من أساسها، وهو إرادتهم التحاكم الى الطاغوت، فجمعوا بين النقيضين، وألّفوا بين الضّدّين. والهمزة للاستفهام التعجبي. ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت والمخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم والى الذين متعلقان بتر، وقد علق فععل الرؤية إن كانت قلبية وجملة يزعمون صلة الموصول وأنهم: أن واسمها، وجملة آمنوا خبرها وقد سدّت أن واسمها مسدّ مفعولي يزعمون وبما جار ومجرور متعلقان بآمنوا وأنزل فعل ماض مبني للمجهول والجملة صلة وإليك متعلقان بأنزل (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) الواو عاطفة وما عطف على ما الأولى وجملة أنزل صلة ومن قبلك متعلقان بأنزل أو بمحذوف حال (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) جملة يريدون حالية وأن وما في حيزها مصدر مؤول مفعول به ليريدون والى الطاغوت متعلقان بيتحاكموا (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) الواو حالية وقد حرف تحقيق وأمروا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل وأن يكفروا مصدر مؤول منصوب بنزع الخافض وبه متعلقان بيكفروا (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً) الواو عاطفة ويريد الشيطان عطف على يريدون وأن يضلهم مصدر مؤول مفعول يريد وضلالا مفعول مطلق وبعيدا صفة. [سورة النساء (4) : الآيات 61 الى 63] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 الإعراب: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) كلام مستأنف مسوق لتكملة مادة التعجب من حالهم. والواو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب وهو رأيت وجملة قيل في محل جر بالإضافة ولهم متعلقان بقيل وجملة تعالوا مقول القول والى ما أنزل الله متعلقان بتعالوا وجملة أنزل الله صلة الموصول والى الرسول عطف على قوله: الى ما أنزل الله (رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) رأيت فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والمنافقين مفعول به وجملة يصدون حالية إن كانت الرؤية بصرية أو مفعول به ثان إن كانت الرؤية قلبية وعنك متعلقان بيصدون وصدودا مفعول مطلق (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) الفاء استئنافية وكيف اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب حال أي فكيف يصنعون؟ أو فكيف تراهم؟ ويجوز أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف أي: فكيف صنعهم أو حالهم؟ وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب المحذوف وجملة أصابتهم في محل جر بالاضافة ومصيبة فاعل وبما متعلقان بأصابتهم ويجوز في ما أن تكون مصدرية، أو موصولية وجملة قدمت أيديهم لا محل لها، وأيديهم فاعل (ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) ثم جاءوك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 عطف على أصابتهم ولا أرى مساغا لصنع بعضهم في عطفها على جملة يصدون كما يرى البيضاوي وجملة يحلفون بالله حالية وإن نافية وأردنا فعل وفاعل وإلا أداة حصر وإحسانا مفعول به وتوفيقا عطف على إحسانا (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) الجملة مستأنفة مسوقة لزيادة التنبيه على نفاقهم. وأولئك مبتدأ والذين خبر اسم الاشارة وجملة يعلم الله صلة الموصول وما اسم موصول مفعول به وفي قلوبهم متعلقان بمحذوف صلة الموصول (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً) الفاء الفصيحة وهي التي أفصحت عن شرط مقدر أي: إذا كانت حالهم كذلك فأعرض عنهم ولا تقبل لهم عذرا، وأعرض فعل أمر وفاعله أنت وعنهم جار ومجرور متعلقان بأعرض والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط محذوف غير جازم وعظهم عطف على أعرض وقل لهم: عطف على أعرض ولهم متعلقان بقل، وفي أنفسهم في متعلق هذا الجار والمجرور ثلاثة أوجه متساوية في الصحة والجودة: 1- إنهما متعلقان ببليغا لأن أمره بتهديدهم بلغ صميم قلوبهم. وسياق التهديد في قوله: فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم، «ثم جاءوك» يشهد له. 2- أنهما متعلقان بقل، ومعناه: قل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المنطوية على الشرّ قولا بليغا. ويلائمه من السياق قوله: «أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم» من دواخل الغي ونوازع الضلال. 3- إنهما متعلقان بمحذوف حال أي حالة كون المقول سرا لا يتجاوز نفوسهم ولا يتعدّاها، وتشهد له سيرة النبي صلى الله عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 وسلم، ويتلاءم مع حرص النبي على الستر والملاينة، رجاء أن يثوبوا الى الرشد ويخلدوا الى الصواب. وقولا مفعول مطلق بليغا صفة أو حال كونا خاليا بهم. والنصيحة في السر أنفع منها في العلانية. [سورة النساء (4) : آية 64] وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) الإعراب: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ) الواو استئنافية وما نافية وأرسلنا فعل وفاعل ومن حرف جر زائد ورسول مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول أرسلنا (إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) إلا أداة حصر واللام للتعليل ويطاع فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور استثناء مفرغ من أعم العلل أي: وما أرسلنا من رسول لشيء من الأشياء إلا للطاعة، فهو مفعول لأجله ولكنه لم يستوف شروط النصب. وبإذن الله يجوز في هذا الجار والمجرور أن يتعلق بمحذوف حال، وقيل: بأرسلنا، وقيل بيطاع. والأوجه الثلاثة متساوية الرجحان (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ) الواو استئنافية ولو شرطية وأن واسمها وما في حيزها مصدر مؤوّل فاعل لفعل محذوف، أي لو ثبت مجيئهم وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بجاءوك وجملة ظلموا أنفسهم في محل جر بالإضافة وجملة جاءوك في محل رفع خبر أن (فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 لَهُمُ الرَّسُولُ) الفاء عاطفة وجملة استغفروا معطوفة على جاءوك ولفظ الجلالة مفعول به واستغفر لهم الرسول عطف على ما تقدم (لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً) اللام واقعة في جواب لو ووجدوا الله فعل وفاعل ومفعول به أول والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وتوابا مفعول به ثان ورحيما صفة لتوابا أو بدل منه. البلاغة: في الآية التفات بقوله: «واستغفر لهم الرسول» وسياق الكلام يقتضي أن يقول: واستغفرت لهم، ولكنه عدل عن ذلك للتنويه بالرسول، وليدل عليه دلالة مؤثّرة في قلوبهم، ولاشتماله على ذكر صفة مناسبة، وهي الاستغفار لمن تعاظمت ذنوبهم وتعدّدت آثامهم. [سورة النساء (4) : آية 65] فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) اللغة: (شَجَرَ) اختلط مختلفا متداخلا متشابكا، ومنه سمي الشجر لتداخل أغصانه وتشابكها، قال طرفة بن العبد: وهم الحكّام أرباب الهدى ... وسعاة الناس في الأمر الشّجر أي المختلف المتشابك. ومنه: تشاجر الرماح أي اختلافها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 الإعراب: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) الفاء استئنافية ولا مزيدة لتأكيد القسم والواو حرف قسم وجر والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره أقسم، ولا يؤمنون: لا نافية ويؤمنون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وجملة لا يؤمنون لا محل لها لأنها جواب القسم (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) حتى حرف غاية وجر ويحكموك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والواو فاعل والكاف مفعول به والجار والمجرور متعلقان بيؤمنون وفيما جار ومجرور متعلقان بيحكّموك وجملة شجر صلة الموصول وبينهم ظرف مكان متعلق بشجر (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) ثم حرف عطف للتراخي ولا نافية ويجدوا عطف على يحكموك وفي أنفسهم جار ومجرور متعلقان بيجدوا فهو بمثابة المفعول الثاني وحرجا مفعول به أول ليجدوا ومما متعلقان بمحذوف صفة لحرجا وجملة قضيت صلة الموصول (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) عطف على يجدوا وتسليما مفعول مطلق. البلاغة: في هذه الآية مبالغات عديدة، بلغت أسمى مراتب البيان. والغاية منها زيادة الوعيد والتهديد مما ترتعد له الفرائص وترتجف منه الأفئدة. وسنلمع إليها بالتفصيل: 1- فقد أقسم سبحانه أولا بنفسه مؤكدا لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون. والإيمان رأس مال الصالحين من عباد الله حتى تحصل لهم غاية من أشرف الغايات وهي اللجوء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيمه فيما نشب بينهم من خلاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 2- ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال: «ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت» ، فضمّ الى التحكم أمرا آخر وهو عدم وجود أي حرج في صدورهم، فلا يكون مجرد التحكيم والإذعان كافيا بل لا بد أن يكون نابعا من صدورهم، صادرا عن رضا واطمئنان وطيب نفس. وهذا أجمل تصوير للعلاقة التي يجب أن تترسخ بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وبين الرئيس والمرءوس، والثقة التي تتأصل في نفوس الشعب لقائدهم وولي أمرهم، ما دام موفقا، سائرا في جوار الاستقامة السليمة. 3- ثم لم يكتف سبحانه، بهذا كله، بل ضمّ إليه قوله: ويسلموا أي يذعنوا إذعانا تاما وينقادوا ظاهرا وباطنا لا انقيادا أعمى ولكنه انقياد الواثق المطمئن الى سلامة موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4- وضمّ الى «يسلموا» المصدر المؤكد فقال: «تسليما» وهكذا لا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم ولا يجد الحرج في صدره بما قضى عليه والتسليم لحكم الله وشرعه تسليما لا يخالطه رد ولا تشوبه شائبة، فسبحان قائل هذا الكلام! واستمع الى تتمة هذا الفصل في الآية التالية. الفوائد: ما ذكرناه في إعراب قوله تعالى: «فلا وربك» هو المختار في رأينا، ونرى تميما للفائدة أن نورد بعض ما قيل فيه، فاعلم أنه كثرت زيادة «لا» مع القسم في القرآن الكريم حيث يكون بالفعل مثل: «فلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 أقسم بمواقع النجوم» «لا أقسم بهذا البلد» «لا أقسم بيوم القيامة» وغيرها. والفائدة منها تأكيد تعظيم المقسم به، ومعلوم أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له فكأنه يقول: إن إعظامي لهذه الأشياء بالقسم كلا إعظام، يعني بذلك أنها بمثابة من التعظيم والفخمية تستأهل أكثر من ذلك، وتستوجب ما فوقه، ومن أمثلته في الشعر قوله: فلا وأبيك ابنة العامر ... يّ لا يدعي القوم أني أفرّ وسيأتي المزيد من بحثه في مواضعه القادمة من هذا الكتاب العجيب، وهناك أقوال للعلماء في هذا التركيب نثبتها لأنها لا تخلو من وجاهة منها: 1- أن «لا» رد لكلام تقديره: فلا يفعلون، أو: ليس الأمر كما يزعمون من أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف القسم بقوله: وربك لا يؤمنون. فعلى هذا يكون الوقف على «لا» تاما، وقد ارتضاه الطبري، وناهيك به. 2- والثاني أن «لا» الأولى قدمت على القسم اهتماما بالنفي، ثم كررت توكيدا. 3- والثالث أن «لا» الثانية زائدة، والقسم معترض بين حرف النفي والمنفي، وكان التقدير فلا يؤمنون وربك فتكون الوجوه فيها أربعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 [سورة النساء (4) : الآيات 66 الى 68] وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) الإعراب: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) كلام مستأنف مسوق لتوبيخ الذين يتقاعسون عن الاستجابة للرسول وطاعته. والواو استئنافية ولو شرطية وأن وما في حيزها فاعل لفعل محذوف أي لو ثبتت كتابتنا، وقد تقدمت له نظائر، وأن واسمها، وجملة كتبنا خبرها وعليهم متعلقان بكتبنا وأن مصدرية واقتلوا فعل أمر والواو فاعل والمصدر المؤوّل مفعول كتبنا، وقيل: أن مفسرة، لأن كتبنا فيه معنى القول دون حروفه. وأنفسكم مفعول به (أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) عطف على اقتلوا أنفسكم، ومن دياركم متعلقان باخرجوا (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والضمير في «فعلوه» يعود الى أحد الأمرين أو للمكتوب عليهم، وإلا أداة حصر وقليل بدل من الواو في «فعلوه» لأنه استثناء من كلام تام غير موجب ومنهم متعلقان بمحذوف صفة لقليل، وقرىء بالنصب على الاستثناء منهم (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) عطف على ما تقدم، وقد تقدم إعراب هذا التركيب قبل قليل. وما اسم موصول مفعول به وجملة يوعظون به صلة الموصول (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) اللام واقعة في جواب لو وكان واسمها المستتر، وخيرا خبرها. وأشد عطف على «خيرا» وتثبيتا تمييز (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 الواو عاطفة وإذن حرف جواب وجزاء مهمل لأنه وقع بعد أحد العاطفين، وهما الواو والفاء، وهو جواب لسؤال مقدّر، كأنه قيل: وماذا يكون لهم بعد التثبيت؟ فقيل: وإذن لو ثبتوا ولآتيناهم واللام جواب لو المقدرة وآتيناهم فعل وفاعل ومفعول به ومن لدنا جار ومجرور متعلقان بآتيناهم وأجرا مفعول به وعظيما صفة (وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) عطف أيضا وصراطا مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض، وقد تقدمت الاشارة الى ذلك في الفاتحة، ومستقيما صفة. الفوائد: صورة من روائع البطولة العربية الاسلامية: روى التاريخ أن الزبير بن العوّام وحاطب بن أبي بلتعة اختصما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج كانا يسقيان بها النخل، وهي مسيل الماء، فقال: اسق يا زبير ثم أرسل الماء الى جارك، فغضب حاطب وقال: لأن كان ابن عمتك؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع الى الجدر واستوف حقك ثم أرسله الى جارك. كان قد أشار على الزبير برأي فيه السعة له ولخصمه، فلما أحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعب للزبير حقه في صريح الحكم. ثم خرجا فمرّا على المقداد فقال له: لمن كان القضاء؟ فقال الأنصاري: قضى لابن عمته، ولوى شدقه. فاستغل يهودي الموقف فقال: يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم! وايم الله لقد أذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى فدعانا الى التوبة منه وقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 اقتلوا أنفسكم، ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا حتى رضي عنا. فقال ثابت وابن مسعود وعمار بن ياسر: لو أمرنا محمد أن نقتل نفوسنا لقتلناها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إن من أمتي الإيمان أثبت في نفوسهم من الجبال الرواسي. [سورة النساء (4) : الآيات 69 الى 70] وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) الإعراب: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ) كلام مستأنف مسوق لبيان فضل طاعة الله ورسوله. ومن شرطية في محل رفع مبتدأ ويطع الله فعل الشرط والرسول عطف على الله (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) الفاء رابطة لجواب الشرط وأولئك مبتدأ ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر والذين اسم موصول مضاف اليه والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط وجملة أنعم الله عليهم صلة الموصول ومن النبيين جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وما بعده عطف على النبيّين (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) الواو عاطفة وحسن فعل ماض تضمن معنى المدح والتعجب وأولئك اسم اشارة فاعل ورفيقا تمييز أو حال على رأي الأخفش. والرفيق يستوي فيه الواحد والجمع ومثله الصديق والخليط (ذلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً) اسم الاشارة مبتدأ والفضل بدل منه ومن الله متعلقان بمحذوف خبر، ويجوز أن يكون الفضل هو الخبر ومن الله متعلقان بمحذوف حال وجملة الاشارة استئنافية وكفى فعل ماض والباء حرف جر زائد والله فاعل محلا مجرور لفظا وعليما تمييز أو حال، وقد تقدم إعرابه. وجملة كفى استئنافية. [سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 72] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) اللغة: (الحذر) بكسر الحاء وسكون الذال أو بفتحتين: التّيقّظ والاحتراز من الأمر المخوف. (ثُباتٍ) بضم الثاء: الجماعة من الفرسان، ويقال ثبوت أيضا، ووزنها في الأصل فعلة كحطمة، وإنما حذفت منها لامها وعوض عنها تاء التأنيث المربوطة. وهل هو واو أو ياء قولان، وفي كتب اللغة الثبات: جمع ثبة وهي الجماعة من الرجال فوق العشرة، وقيل: فوق الاثنين. والسرية أقلها مائة وغايتها أربعمائة، ويليها المنسر من أربعمائة الى ثمانمائة، ويليه الجيش من ثمانمائة الى أربعة آلاف، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 ويليه الجحفل وهو ما زاد على ذلك. قال زهير يصف جماعة كراما ويمدحهم: وقد أغدو على ثبة كرام ... نشاوى واجدين لما نشاء لهم راح وراووق ومسك ... تعلّ به جلودهم وماء أمشي بين قتلى قد أصيبت ... نفوسهم ولم تقطر دماء يجرّون البرود وقد تمشّت ... حميّا الكأس فيهم والغناء (انفروا) أمر من النفر وهو الفزع، يقال: نفر إليه نفرا من باب ضرب وقعد. وقد قرأ الأعمش: انفروا بضم الفاء في الموضعين. (يبطئن) بتشديد الطاء زيادة التثاقل والإبطاء والتخلّف عن الجهاد. يقال: بطّأ بالتشديد وأبطأ. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) كلام مستأنف مسوق لتحذير عسكر الرسول صلى الله عليه وسلم من المخاطر التي قد يستهدفون لها إذا لم يأخذوا حذرهم. وقد تقدم اعراب النداء، وخذوا فعل أمر مبني على حذف النون لأن مضارعه من الافعال الخمسة والواو فاعل وحذركم مفعول به والفاء عاطفة وانفروا عطف على خذوا أي: بادروهم قبل أن يبادروكم ولا تتخاذلوا فتلقوا بأيديكم الى التهلكة. وثبات حال وعلامة نصبه الكسرة لأنه جمع مؤنث سالم أو انفروا عطف على انفروا الاول وجميعا حال (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 لخطاب المبطئين والمنافقين الذين تثاقلوا وتخلفوا عن الجهاد. وإن حرف مشبه بالفعل ومنكم متعلقان بمحذوف خبر مقدم لمن اللام المزحلقة وفائدتها التأكيد ومن اسم موصول في محل نصب اسمها المؤخر وليبطئن اللام جواب قسم محذوف وتقدير الكلام: وإن منكم لمن أقسم ليبطئن، والقسم وجوابه صلة الموصول ويبطئن هنا يجوز أن يكون لازما ويجوز أن يكون متعديا والمفعول محذوف أي: ليبطئنّ غيره أي يثبّطه ويبعث في نفسه الجبن والهلع، وهؤلاء شر من الأعداء، وفي جعلهم منهم تعميم اقتضاه الظاهر، والواقع أنهم عدو لكم. ولاحظ أن صلة الموصول نفسها هي جواب القسم، وكلتاهما لا محل لها من الإعراب (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ) الفاء استئنافية وإن شرطية وأصابتكم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ومصيبة فاعل وجملة قال في محل جزم جواب الشرط وجملة قد أنعم الله علي في محل نصب مقول القول (إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بأنعم ولم حرف نفي وقلب وجزم وأكن فعل مضارع ناقص واسمها مستتر تقديره أنا ومعهم ظرف مكان متعلق بمحذوف حال وشهيدا خبر أكن. البلاغة: 1- الطباق بين ثبات وجميعا. أي انهدوا للعدو وتصدوا له سرايا متعاقبه أو كواكب مجتمعة، فالتباطؤ ديدن المنافقين. 2- المجاز المرسل في خذوا حذركم، والعلاقة هي السببية، لأن الحذر- وإن كان لا يمنع القدر- هو الآلة التي يقي بها الإنسان نفسه، ويعصم روحه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 3- الخبر الإنكاري في قوله: «وإن منكم لمن ليبطئنّ» . فقد جاء التأكيد بإن وبلام التأكيد التي يسميها النحاة المزحلقة ونون التوكيد الثقيلة، وفي استعمال الفعل المضعّف، وزيادة الحروف زيادة في المعنى. وفي مجموع هذه المؤكدات تخويف رهيب لمن ثبّط نفسه أو ثبّط غيره. وقد نزلت هذه الآيات في المنافق عبد الله بن أبي الذي ثبط المؤمنين في غزوة أحد. وقد تشبث الشعراء بأهداب هذه المعاني فقال أبو تمام في مدح الثبات على الحرب والقتل في الجهاد يرثي محمد ابن حميد الطوسي من قصيدة فريدة: وقد كان فوت الموت سهلا فردّه ... إليه الحفاظ المرّ والخلق الوعر ونفس تعاف العار حتى كأنما ... هو الكفر يوم الرّوع أو دونه الكفر فأثبت في مستنقع الموت رجله ... وقال لها: من تحت أخمصك الحشر تردى ثياب الموت حمرا فما دجا ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر إلى آخر تلك القصيدة الرائعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 [سورة النساء (4) : الآيات 73 الى 74] وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) الإعراب: (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ) الواو عاطفة على قوله: «فإن أصابتكم مصيبة» وإنما قدمت الشرطية الاولى لأن مضمونها أوفق لمقصدهم، ولأن أثر نفاقهم أكثر ظهورا، وأشد تأثيرا. واللام موطئة للقسم وإن شرطية وأصابكم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والكاف مفعول به وفضل فاعل ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) اللام جواب القسم ويقولنّ فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم لتقدمه. وكأن مخففة من الثقيلة وسيأتي حكمها في باب الفوائد، واسمها ضمير الشأن وجملة لم تكن خبرها، وجملة كأن وما في حيزها اعتراضية بين القول ومقوله، واختار أبو البقاء أن تكون حالية، وتبع في ذلك قول الراغب الذي قال: «وذلك مستقبح، فانه لا يفصل بين بعض الجملة وبعض ما يتعلق بجملة أخرى» وهذا غريب جدا لأنه يطيح بأقوال النحاة جميعا، قال الرازي بصدده: «هو اعتراض في غاية الحسن لأن من أحب إنسانا فرح عند فرحه وحزن عند حزنه، فإذا قلب القضية فذلك إظهار للعداوة» وبينكم ظرف متعلق بمحذوف خبر تكن المقدم وبينهم عطف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 عليه ومودة اسم تكن المؤخر (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) الجملة مقول القول «ليقولن» يا حرف نداء والمنادى محذوف، أو هي لمجرد التنبيه، والاول أولى. وليت حرف مشبه بالفعل والنون للوقاية والياء اسمها وجملة كنت خبر ليت وكان واسمها، ومعهم ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر كنت، فأفوز الفاء هي السببية وأفوز فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء وفوزا مفعول مطلق وعظيما صفة (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) الفاء هي الفصيحة أي إذا علمتم هذا كله فليقاتل، واللام لام الأمر ويقاتل فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وفي سبيل الله متعلقان بيقاتل والذين اسم موصول فاعل يقاتل وجملة يشرون الحياة الدنيا صلة الموصول وبالآخرة متعلقان بيشرون والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويقاتل فعل الشرط وفي سبيل الله متعلقان بيقاتل (فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) الفاء عاطفة ويقتل بالبناء للمجهول معطوف على يقاتل ونائب الفاعل مستتر تقديره هو أو يغلب أو حرف عطف ويغلب بالبناء للفاعل معطوف أيضا والفاعل مستتر تقديره هو فسوف الفاء رابطة لجواب الشرط ونؤتيه فعل مضارع وفاعله مستتر والهاء مفعول به أول وأجرا مفعول به ثان وعظيما صفة. والجملة في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» . البلاغة: شراء الحياة الدنيا بالآخرة استعارة مكنية، تقدمت الاشارة إليها بحروفها. وفعل شرى يحتمل الشراء والبيع، فلا يقال: كيف دخلت الباء على الآخرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 الفوائد: إذا خففت «كأن» المشبهة بالفعل بقي عملها ويكون اسمها ضمير الشأن محذوفا وجوبا وخبرها جملة، فان كانت الجملة المخبر بها موجبة ذات فعل متصرف فصلت عن كأن ب «قد» ، كقولك: لا يهولنك اصطلاء لظى الحرب فمحذورها كأن قد ألمّ. أو منفية فصلت ب «لم» كقوله: كأن لم يكن بين الحجون الى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر وذلك للفرق بينها وبين أن المصدرية الداخلة عليها كاف التشبيه وإن لم تكن الجملة كذلك فلا حاجة الى الفصل بشيء، وهذا هو المشهور في الاستعمال. [سورة النساء (4) : الآيات 75 الى 76] وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 اللغة: (الْقَرْيَةِ) بفتح القاف وكسرها: اسم جامع لمعان شتى، فهي الضيعة والمصر الجامع وجمع الناس والمدينة. والجمع قرى بضم القاف وقرئ بكسر القاف والراء، والنسبة إليها قروي وقرييّ. وكل قرية ذكرت في القرآن فالظلم ينسب إليها بطريق المجاز، وستأتي أمثلتها في حينها. وأما هذه القرية في سورة النساء فينسب الظلم إلى أهلها على الحقيقة، لأن المراد بها مكة، فوقرت عن نسبة الظلم إليها تشريفا لها. الإعراب: (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق للحث على الجهاد بطريق الاستفهام. وما اسم استفهام معناه الأمر والإنكار في محل رفع مبتدأ ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبره وجملة لا تقاتلون في سبيل الله حالية (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) عطف على الله، ولا بد من تقدير مضاف أي: لا تقاتلون في سبيل تخليص المستضعفين. ومن الرجال متعلقان بمحذوف حال والولدان جمع وليد وهو الصبي الصغير، والنساء والولدان هم الذين حبسهم المشركون عن الهجرة، ومنهم ابن عباس قال: كنت أنا وأمي منهم (الَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) الذين اسم موصول صفة وجملة يقولون صلة الموصول وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وأخرجنا فعل دعاء ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به والجملة في محل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 نصب مقول القول، ومن هذه جار ومجرور متعلقان بأخرجنا والقرية بدل من اسم الاشارة والظالم نعت سببي وأهلها فاعل الظالم لأنه اسم فاعل (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) عطف على أخرجنا ولنا في محل نصب مفعول اجعل ومن لدنك في محل نصب حال ووليا مفعول به ثان (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) عطف على ما تقدم (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق للترغيب في القتال والذين: مبتدأ وجملة آمنوا صلة وجملة يقاتلون خبره وفي سبيل الله جار ومجرور متعلقان بيقاتلون (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) عطف على الجملة السابقة وقد تقدم إعرابها (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) الفاء الفصيحة وقاتلوا فعل أمر مبني على حذف النون لأن مضارعه من الافعال الخمسة والواو فاعل وأولياء الشيطان مفعول به (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) إن واسمها، وجملة كان خبرها وضعيفا خبر كان وجملة ان وما بعدها تعليلية لا محل لها. الفوائد: النعت قسمان: 1- حقيقي: وهو ما يبين صفة من صفات متبوعه، ويجب أن يطابق متبوعه في الإعراب والإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث والتعريف والتنكير. 2- سببي: وهو ما يبين صفة من صفات ما له تعلق بمتبوعه وارتباط به، كما في الآية. ويطابق منعوته في الإعراب والتعريف والتنكير فقط، ويراعى في تأنيثه وتذكيره ما بعده، ويلازم الإفراد دائما. ففي الآية طابق «الظالم» «القرية» في الجر والتعريف، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 وروعي في التذكير ما بعده، وهو الأهل، وبقي مفردا، وإن كان معنى الأهل جمعا. ولو أنّث في غير القرآن، فقيل: الظالمة أهلها، لجاز لا لتأنيث الموصوف بل لأن الأهل يذكّر ويؤنث. [سورة النساء (4) : آية 77] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) الإعراب: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) كلام مستأنف مسوق لإثارة العجب في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم من إحجامهم عن القتال بعد إظهارهم الرغبة فيه ومباشرتهم فيه فعلا، كما ينبيء عنه الأمر بكف الايدي بعد بسطها عليهم. والهمزة للاستفهام التعجبيّ ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم والى الذين متعلقان ب «تر» وجملة قيل صلة الموصول ولهم متعلقان بقيل وجملة كفوا مقول القول وأيديكم مفعول كفوا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة عطف على جملة كفوا، أي لا تقاتلوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 الكفار ما داموا بمكة (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) الفاء عاطفة ولما حرف وجود لوجود كما قال سيبويه، أو ظرف بمعنى حين متضمن معنى الشرط كما قال أبو علي الفارسي. وجملة كتب عليهم القتال لا محل لها من الإعراب لوقوعها بعد موصول حرفي أو في محل جر بالاضافة (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ) إذا حرف على الأصح يسيها النحاة الفجائية خلافا لمن زعم أنها ظرف مكان أو زمان، لا يليها إلا الفعل ولا تقع في الابتداء، ولا تكون الجملة الاسمية بعدها إلا حالا، وتختص بالجملة الاسمية أو منسوخة بإنّ، نحو: خرجت فاذا إن المطر نازل، وسيأتي بحث مسهب شيق عنها في باب الفوائد لم نسبق اليه. وفريق مبتدأ ساغ الابتداء به مع أنه نكرة لأنه وصف بقوله «منهم» وجملة يخشون الناس خبر فريق والناس مفعول به وكخشية الله الكاف اسم بمعنى مثل في محل نصب حال أو هي حرف جر وهي مع مجرورها في محل نصب على الحالية أو المفعولية المطلقة وجملة فريق منهم إلخ في محل نصب على الحال والجملة الفجائية لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) أو حرف عطف وأشد خشية عطف على كخشية الله فهي حال أو مفعول مطلق وخشية تمييز، واختار بعض المعربين أن تعرب حالا من قوله «خشية» لأنها صفة لنكرة وتقدمت عليها فانتصيت وهو محض تكلّف لا داعي له، وسيأتي بحث طريف عن ذلك في باب الفوائد، نلفت اليه الأنظار لنفاسته (وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ) الواو استئنافية أو عاطفة وقالوا فعل وفاعل والجملة استئنافية أو معطوفة على جملة يخشون وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء ولم اللام حرف جر وما اسم استفهام حذفت ألفها لوقوعها بعد حرف الجر والجار والمجرور متعلقان بكتبت والقتال مفعول به والجملة في محل نصب مقول القول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 (لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) لولا حرف تحضيض مثل هّلا وأخرتنا فعل وفاعل ومفعول به والجملة مندرجة في مقولهم (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة استئنافية ومتاع الدنيا مبتدأ وقليل خبر والجملة في محل نصب مقول القول (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) الواو استئنافية أو حالية والآخرة مبتدأ وخير خبر والجملة مستأنفة أو حالية ولمن اتقى اللام حرف جر ومن اسم موصول مجرور باللام والجار والمجرور متعلقان بخير، واتقى فعل ماض وفاعله مستتر والجملة صلة الموصول (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) الواو عاطفة ولا نافية وتظلمون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وفتيلا صفة لمفعول مطلق محذوف وقد نابت عنه. الفوائد: 1- اختلفت آراء النحاة في «إذا الفجائية» فقال بعضهم هي ظرف مكان أو زمان. وتبعهم المعربون والمفسرون، فخاضوا في متاهات لانهاية لها، ولم ينتهوا إلى طائل. وقال بعضهم، وعلى رأسهم الأخفش: هي حرف دائما، ويرجحه قولك: «إن خرجت فإذا إن المطر نازل» ، بكسر همزة «إن» لأن «إن» بالكسر لا بعمل ما بعدها فيما قبلها، وأما بالفتح فيعمل ما بعدها فيما قبلها، إذ ليس لها الصدر. أما جعلها ظرفا للمكان أو الزمان فيقتضي الدخول في تعسفات لا طائل تحتها، وقد آثرنا في كتابنا أن لا نجزم برأي من عندنا إلا إذا رأينا من سبقنا ذهب اليه، نقول هذا لأن بعض المتنطعين تجنى علينا فادعى علينا الغلط. هذا وقد اشتهرت هذه المسألة في النحو وحدثت مناقشة طريفة بسببها بين سيبويه والكسائي، تجدها كاملة في مغني اللبيب، وفات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 هؤلاء المتناقشين وقوع ما بعدها مبتدأ وخبرا مرفوعين في القرآن كما فعل ابن يعيش وغيره من النحاة، فارجع الى بحث إذا الفجائية في المغني والمطولات تسمع العجب العجاب. 2- مر نظير هذه الآية في الإعراب قوله تعالى: «فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا» . ومن طريف الأبحاث المتعلقة في الاسم الواقع بعد اسم التفضيل يصح فيه النصب والجر تقول: «زيد أكرم أبا» بالنصب، فيكون «زيد» من الأبناء وأنت تفضل أباه، وتقول: «زيد أكرم أب» بالجر فيكون زيد من الآباء وأنت تفضله. وتقول: «زيد أفضل إخوته» وهو وهم لأن أفعل التفضيل لا يضاف إلا لما هو داخل فيه، وزيد غير داخل في إخوته، إذ لو سئلت عنه لعددتهم دونه فيكون المثال بمثابة: زيد أفضل النساء، وهذا باطل والصواب أن يقال: أفضل الإخوة، أو: أفضل بني أبيه. [سورة النساء (4) : آية 78] أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) اللغة: (بُرُوجٍ) : البروج في كلام العرب الحصون والقلاع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 (مُشَيَّدَةٍ) : اختلف أهل العربية في معنى المشيدة فقال بعض أهل البصرة منهم: المشيّدة الطويلة، قال: وأما المشيد بالتخفيف فانه المزين، قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن. وقال آخرون منهم نحو ذلك القول، غير أنه قال: المشيد بالتخفيف المعمول بالشيد، والشيد الجصّ. وقال بعض أهل الكوفة: المشيد والمشيّد أصلهما واحد، غير أن ما شدد منه فإنما يشدد لنفسه، والفعل منه في جمع، مثل قولهم: هذه ثياب مصبغّة وغنم مذبّحة، فشدد لأنها جمع، يفرق فيها الفعل، ومثله قصور مشيدة، لأن القصور كثيرة، تردّد فيها التشييد، ولذلك قيل: بروج مشيدة، ومنه قوله تعالى «وغلقت الأبواب» . الإعراب: (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) كلام مستأنف مسوق لخطاب اليهود والمنافقين، وبيان أنّ الدنيا حقيرة لا ديمومة لها. وأينما اسم شرط جازم في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بمحذوف خبر تكونوا المقدم إذا كانت ناقصة أو بجواب الشرط إذا كانت تامة وتكونوا فعل الشرط والواو فاعل أو اسم تكونوا ويدرككم الموت جواب الشرط (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) الواو حالية ولو شرطية وكان واسمها، وفي بروج متعلقان بمحذوف خبر كنتم ومشيدة صفة لبروج وجملة جواب الشرط محذوفة دل عليها ما قبلها (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الواو استئنافية وإن شرطية وتصبهم فعل الشرط والهاء مفعول به وحسنة فاعل ويقولوا جواب الشرط وهذه مبتدأ ومن عند الله الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) عطف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 على ما تقدم (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الجملة استئنافية مسوقة لشجب افتئاتهم، وقل فعل أمر وكل مبتدأ ساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم ومن عند الله متعلقان بمحذوف خبر والجملة الاسمية مقول القول (فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) الفاء استئنافية وما اسم استفهام مبتدأ ولهؤلاء متعلقان بمحذوف خبر والقوم بدل وجملة لا يكادون في محل نصب على الحال والواو اسم يكادون وجملة يفقهون في محل نصب خبر يكادون والواو فاعل وحديثا مفعول به. الفوائد: (أَيْنَما) أين اسم من أسماء الأمكنة مبهم يقع على الجهات الست وكل مكان يستفهم عنه، وتنقل الى الجزاء، فيقال: أين تكن أكن. والأكثر في استعمالها أن تكون مضمومة إليها «ما» كما في الآية، وليس ذلك بلازم فيها، بل أنت مخير فيها، قال ابن همام السّلوليّ: أين تصرف بها العداة تجدنا ... نصرف العيس نحوها للتلاقي [سورة النساء (4) : آية 79] ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) الإعراب: (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان الجواب عن كلامهم والردّ عليهم. وسيأتي معنى الجمع بين إضافة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 السيئة الى العبد واضافة الأشياء كلها لله بما يروي الغليل في باب البلاغة. وما اسم شرط جازم مبتدأ وأصابك فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ومن حسنة متعلقان بمحذوف حال والفاء رابطة لجواب الشرط ومن الله الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف أي فهي من الله وجملة فعل الشرط وجوابه خبر من (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) عطف على ما تقدم (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان مكانة الرسول والتنويه بهمته الكبيرة السامية، وأرسلناك فعل ماض وفاعل ومفعول به وللناس متعلقان بأرسلناك أو بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة فتقدمت، ورسولا حال (وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً) الواو عاطفة أو استئنافية والباء حرف جر زائد والله فاعل كفى محلّا والجر بالباء لفظا، وشهيدا تمييز أو حال، وقد تقدم إعراب ذلك. البلاغة: المجاز المرسل في إضافة السيئة الى العبد، والعلاقة هي السببية، لأن النفس هي التي توبق صاحبها وتورّطه في ارتكاب الذنوب، ولا منافاة بين كونها مخلوقة وكونها مورطة، فينتظم ذلك كله بقوله: «قل كل من عند الله» . وللمعتزلة كلام طويل في هذا الصدد يرجع اليه في المطولات، حيث يشتجر الخلاف بين أهل السنة والاعتزال. [سورة النساء (4) : الآيات 80 الى 81] مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 اللغة: (بيّت) : بيّت الأمر: زوره وسواه وقضاه بليل. والتبييت إما من البيتوتة لأنه قضاء الأمر وتدبيره بالليل، يقال: هذا أمر بيّت بليل. وإما من أبيات الشعر لأن الشاعر يدبرها ويسوّيها. والمعنى في الآية أنهم قالوا وقدروا أمرا غير الذي أعطوك من الطاعة، وكل عمل عمل ليلا فقد بيت، ومن ذلك بيت للعدو وهو الوقوع بهم، ومنه قول عبيدة بن همام: أتوني فلم أرض ما بيّتوا ... وكانوا أتوني بشيء نكر لأنكح أيّمهم منذرا ... وهل ينكح العبد حرّ لحر يعني بقوله: فلم أرض ما بيتوا ليلا، أي ما أبرموه ليلا. ومعنى قوله حر لحر: حر ولدته الكرام، كما تقول: هو كريم لكرام وحر لأحرار، واللام فيه للنسب وحر ينسب الى آباء وأحرار. وهذا ما لا تجده في كتاب فاحفظه. الإعراب: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ) كلام مستأنف مسوق لبيان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 أن طاعة الرسول هي من طاعة الله وبيان أحكام رسالته. ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويطع الرسول فعل الشرط والفاء رابطة وقد حرف تحقيق وجملة فقد أطاع الله في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) الواو حرف عطف ومن اسم شرط جازم مبتدأ وتولى فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة للجواب وما نافية وأرسلناك فعل ماض وفاعل ومفعول به وعليهم جار ومجرور متعلقان ب «حفيظا» ، وحفيظا حال وجواب الشرط محذوف تقديره: فلا تأبهن له، وفعل الشرط وجوابه المحذوف في محل رفع خبر «من» وجملة ما أرسلناك تعليلية لا محل لها (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ) الواو استئنافية ويقولون فعل مضارع وفاعل وطاعة خبر لمبتدأ محذوف تقديره: أمرنا وشأننا والجملة مقول القول وجملة يقولون مستأنفة مسوقة لبيان معاملتهم للرسول بعد بيان وجوب طاعته (فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة برزوا في محل جر بالاضافة ومن عندك متعلقان ببرزوا أي خرجوا من عندك (بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) جملة بيت طائفة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومنهم متعلقان بمحذوف صفة لطائفة وغير مفعول به والذي مضاف اليه وجملة تقول لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) الواو استئنافية أو حالية والله مبتدأ وجملة يكتب خبر وما اسم موصول مفعول به وجملة يبيتون لا محل لها لأنها صلة الموصول (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) الفاء الفصيحة وأعرض فعل أمر وعنهم متعلقان بأعرض وتوكل عطف على أعرض وعلى الله متعلقان بتوكل (وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) تقدم اعراب نظائرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 الفوائد: تذكير الفعل في: «بيت طائفة» لأن تأنيث الطائفة غير حقيقي، إذ هي بمعنى الفريق والفوج، فهي اسم جمع أو اسم جنس. وأحكام تذكير الفعل وتأنيثه مع الفاعل مبسوطة في كتب النحو فارجع إليها والله الموفق. [سورة النساء (4) : الآيات 82 الى 83] أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) اللغة: (يَتَدَبَّرُونَ) : يتأملون وتدبر الشيء تأمله ونظر في مغابّه وما ينجم عنه ويؤول اليه. (أَذاعُوا) : هو بمعنى الفعل المجرد «ذاع» ، يقال: ذاع الشيء يذيع، ويقال: أذاع الشيء أيضا، فيتعدى تعديته. ويجوز أن يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 من باب التضمين، وقد ضمّن أذاع معنى تحدث، فيتعدى بنفسه وبالباء. وكأنما هذه الكلمة تعبير صحيح عن الاذاعة التي تذيع الأخبار في أوقات معينة. والإذاعة: الإشاعة، قال: أذاع به في الناس حتى كأنه ... بعلياء نار أوقدت بثقوب واختار الزمخشري أن يكون المعنى فعلوا به الإذاعة. وهو أبلغ من أذاعوه، ليكون التأديب أبلغ، والنهي أشمل. وفي ذلك تعليم وتنبيه على وجوب كتمان أخبار الجيوش وتحركاتها، وما أعظم المفسدة في لهج الناس بكل ما يطرق أسماعهم من أخبار وأراجيف، خاصة في زماننا، بعد أن طرق العدو المخذول البلاد العربية، طهرها الله من دنسه، وصانها عن رجسه. (يَسْتَنْبِطُونَهُ) : يستخرجون تدبيره بفطنتهم ومعرفتهم التامة بأمور الحرب ومكايدها. وهو في الأصل بمعنى استخراج الماء أول ما يحفر الأرض، فاستعير لما يستخرجه الرجل بفضل ذهنه من المعاني. وفي اجتماع النون والباء فاء وعينا للكلمة سرّ عجيب، إذ تدل على الظهور والوضوح، فالنبأ هو الخبر يظهر للناس فيتناقلونه ويتداولونه فيما بينهم. وسبيل نأبيء أي: ظاهر طارئ، ونبّ التيس نبيبا صاح عند الهياج، وفي صياحه ظهور له، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لوفد أهل الكوفة حين شكوا سعدا: «يكلمني بعضكم ولا تنبّوا عندي نبيب التيوس» . ومن هذه الكلمة اشتق الانبوب، والجمع أنابيب، قال: أو من مشعشعة ورهاء نشوتها ... أو من أنابيب تفاح ورمان ونبت: ظهر، يقال: ظهر النبات والنبت في الأرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 ونبس: نطق، تقول: كلمته فعبس وما نبس. ونبش الأرض عما تحتها نبشا، قال: مهلا بني عمنا مهلا موالينا ... لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا وتقدم القول في النبط، وقد اشتقوا منه الأنباط قال خالد بن الوليد لعبد المسيح بن بقيلة: أعرب أنتم أم نبيط؟ فقال: عرب استنبطنا ونبيط استعربنا. وقال أبو العلاء المعري: أين امرؤ القيس والعذارى ... إذ مال من تحته الغبيط استنبط العرب في الموامي ... بعدك واستعرب النبيط وهذا من غريب أمر هذه اللغة الشريفة. الإعراب: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على مقدّر، أي: أيعرضون عن القرآن فلا يتدبرونه؟ ولا نافية ويتدبرون فعل مضارع وفاعل والقرآن مفعونه (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) الواو حالية ولو شرطية وكان الناقصة واسمها المستتر أي القرآن، ومن عند غير الله متعلقان بمحذوف خبر، واللام واقعة في جواب لو ووجدوا فعل وفاعل والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم وفيه متعلقان بوجدوا واختلافا مفعول به وكثيرا صفة (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) كلام مستأنف مسوق لوصف المنافقين الذين يذيعون الأراجيف تثبيطا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 للناس، وإشاعة للخوف في النفوس. وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط، وجملة جاءهم أمر في محل جر بالإضافة، ومن الأمن متعلقان بمحذوف صفة لأمر والخوف عطف على الأمن وجملة أذاعوا به لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) الواو حالية ولو شرطية وردّوه فعل وفاعل ومفعول به الى الرسول متعلقان بردّوه، وإلى أولي الأمر عطف على «الى الرسول» ومنهم متعلقان بمحذوف حال (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) اللام واقعة في جواب لو وعلمه الذين فعل ومفعول به وفاعل وجملة يستنبطونه لا محل لها لأنها صلة الموصول وجملة لعلمه الذين لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومنهم متعلقان بمحذوف حال (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا) الواو استئنافية ولولا حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط، وفضل الله مبتدأ خبره محذوف وعليكم متعلقان بفضل ورحمته عطف على فضل، واللام واقعة في جواب لولا وجملة اتبعتم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والشيطان مفعول به وإلا أداة استثناء وقليلا مستثنى من فاعل اتبعتم، أي: إلا قليلا منكم، أو من فاعل أذاعوا به، أي: أظهروا ذلك الأمر إلا قليلا منهم. وسيأتي مزيد من معناه وإعرابه في باب الفوائد. الفوائد: أفاض المفسرون والمعربون في البحث حول هذا الاستثناء. ولو شئنا التقصي لضاق بنا المجال، وزاد في خطر الإفاضة اشتجار الخلاف بين أهل السنة وأهل الاعتزال، ولسنا نحب أن نمر بذلك دون الاشارة اليه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 ويتخص مما أوردوه أن قوله: «إلا قليلا» فيه أوجه، اخترنا ما رأيناه أقرب الى المعنى، وأدنى الى المنطق، ولا بأس بإيراد بعض ما قالوه: 1- إنه مستثنى من فاعل «اتبعتم» أي: إن فريقا قليلا منكم لم يتبع الشيطان، ويكون قد أراد بالفضل إرسال محمد صلى الله عليه وسلم، كقس بن ساعدة الإياديّ وعمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وغيرهم ممن آمنوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. 2- إن المراد من لم يبلغه التكليف، فالاستثناء على هذا القول منقطع. 3- إنه مستثنى من فاعل أذاعوا، أي: أظهروا ذلك الأمر إلا قليلا منهم. 4- إنه مستثنى من فاعل لعلمه الذين يستنبطونه. 5- إنه مستثنى من فاعل لوجدوا. 6- إنه مستثنى من العموم، والمراد بالقليل أمة محمد. ما يقوله أبو جعفر الطبريّ: وقال أبو جعفر الطبري: «وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي قول من قال: «عني باستثناء القليل من الاذاعة» وقال بعد كلام طويل: «وإنما قلنا إن ذلك أولى بالصواب لأنه لا يخلو القول في ذلك من أحد الأقوال التي ذكرنا، وغير جائز أن يكون من قوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 «لا تبعتم الشيطان» ، لأن من تفضل الله عليه بفضله ورحمته فغير جائز أن يكون من أتباع الشيطان. [سورة النساء (4) : آية 84] فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) الإعراب: (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) الفاء الفصيحة، أي: إذا كان الأمر كذلك من عدم طاعة المنافقين وتثبيطهم الآخرين عن القتال فقاتل أنت وحدك، غير عابىء بما جنحوا اليه. ويجوز أن تكون الفاء للاستئناف المقرر لما قلبه، وقاتل فعل أمر وفي سبيل الله متعلقان بقاتل، وجملة لا تكلف إلا نفسك بالبناء للمجهول حالية، أي: حالة كونك مسئولا عن نفسك وحدها فإن الله هو ناصرك ومعينك، ونفسك مفعول به ثان لتكلف، ويجوز أن تكون مستأنفة لإخباره صلى الله عليه وسلم بأنه لا يكلفه غير نفسه (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على قاتل والمؤمنين مفعول به (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) جملة الرجاء حالية، أي: انهد وحدك الى قتالهم، والحال قد كف بأسهم عنك. وعسى فعل ماض من أفعال الرجاء التي يسميها النحاة أفعال المقاربة تغليبا، والله اسمها، والمصدر المؤول من أن وما في حيزها خبرها، وبأس مفعول به، والذين كفروا مضاف إليه وجملة كفروا لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 الواو حالية أو استئنافية، والله مبتدأ وأشد خبر، وبأسا تمييز، وأشد تنكيلا عطف على ما تقدم. [سورة النساء (4) : آية 85] مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) اللغة: (الكفل) بكسر الكاف وسكون الفاء: الضعف والنصيب والحظّ، وفي المصباح الكفل وزان حمل: الضعف من الأجر والإثم. وقال علماء اللغة: واستعمال الكفل في الشرّ أكثر من استعمال النصيب فيه، وإن كان كل منهما قد يستعمل في الخير، كما قال تعالى: «يؤتكم كفلين من رحمته» . ولقلة استعمال النصيب في الشر وكثرة استعمال الكفل فيه غاير بينهما في الآية الآنفة. حيث أتى بالكفل مع السيئة. وبالنصيب مع الحسنة. (مقيت) بضم الميم أي: حفيظ شهيد. وهو مشتق من القوت، لأنه يمسك النفس ويحفظها. قال الزبير بن عبد المطلب: وذي ضغن نفيت السّوء عنه ... وكنت على إساءته مقيتا الإعراب: (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) جملة مستأنفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 مسوقة لبيان أن له صلى الله عليه وسلم يدا طائلة في تحريض المؤمنين على القتال والجهاد، وغني عن القول: إن الشفاعة هي الوساطة في إيصال الشخص الى منفعة دنيوية أو أخروية، وأي منفعة أسمى وأجل وأعظم من التحريض على الجهاد، لأن فيه الفوز في الدنيا والآخرة. ومن اسم شرط جازم مبتدأ، ويشفع فعل مضارع فعل الشرط، وشفاعة مفعول مطلق وحسنة صفة، ويكن جواب الشرط وله خبر يكن الناقصة المقدم ونصيب اسمها المؤخر، ومنها متعلقان بمحذوف صفة لنصيب وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) عطف على ما تقدم مماثل له في الإعراب (وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) الواو استئنافية أو حالية، وكان واسمها، وعلى كل شيء متعلقان بمقيتا، ومقيتا خبر كان. [سورة النساء (4) : الآيات 86 الى 87] وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) اللغة: (حَسِيباً) : الحسيب في هذا الموضع فعيل من الحساب الذي هو الإحصاء، يقال منه: حاسبت فلانا على كذا وكذا. ومن العجيب أن يهم بعض المفسرين والمعربين فيقول: إن معنى الحسيب هو الكافي، يقال منه: حسبني الشيء بمعنى كفاني، من قولهم حسبي كذا وكذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 الإعراب: (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) كلام مستأنف مسوق للترغيب في التحية، وأصل التحية الدعاء بالحياة وطولها، ثم استعملت في كل دعاء. وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب وهو: «حيّوا» وجملة حييتم في محل جر بالإضافة وبتحية متعلقان بحييتم، والفاء رابطة وجملة حيوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وبأحسن متعلقان بحيوا ومنها متعلقان بأحسن، واو حرف عطف وردوها عطف على «حيّو» (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) الجملة تعليلية لا محل لها، وإن واسمها، وجملة كان واسمها وخبرها خبر إن (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الجملة مستأنفة والله مبتدأ ولا النافية للجنس وإله اسمها وإلا أداة حصر و «هو» بدل من محل لا واسمها، وقد تقدم إعراب كلمة الشهادة، والجملة خبر الله (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) اللام جواب لقسم محذوف، ويجمعنكم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والى يوم القيامة متعلقان بيجمعنكم، والجملة لا محل لها لأنها جواب للقسم المحذوف ولا نافية للجنس وريب اسم «لا» المبني على الفتح، وفيه متعلقان بمحذوف خبر، والجملة في محل نصب على الحال (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً) الواو استئنافية، ومن اسم استفهام مبتدأ وأصدق خبر، ومن الله متعلقان بأصدق وحديثا تمييز. [سورة النساء (4) : آية 88] فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 اللغة: (أَرْكَسَهُمْ) ردّهم في حكم المشركين. والركس: رد الشيء مقلوبا، ومنه قول عبد الله بن رواحة: أركسوا في فئة مظلمة ... كسواد الليل ينلرها فتن الإعراب: (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) الفاء استئنافية، وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ، ولكم متعلقان بمحذوف خبر ما، وفي المنافقين متعلقان بفئتين، فإنها في قوة مالكم تفترقون في أمور المنافقين، فحذف المضاف وأبقي المضاف اليه مقامه، ويجوز أن يتعلقا بمحذوف على أنه حال، لأنه كان في الأصل صفة لفئتين أي: فئتين متفرقتين في المنافقين، وفئتين حال من الكاف في «لكم» . والكوفيون يقولون: إن انتصاب «فئتين» على أنه خببر لكان مضمرة، والتقدير: فما لكم في المنافقين كنتم فئتين. وهذا القول غريب، ولكنه جيد ورجحه ابن جرير (وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا) الواو حالية، والله مبتدأ، وجملة أركسهم خبر، وبما متعلقان بأركسهم، و «ما» يجوز أن تكون موصولة أو مصدرية، وجملة كسبوا لا محل لها على كل حال، والجملة في محل نصب على الحال، ويجوز أن تكون الواو استئنافية فتكون الجملة مستأنفة (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ) الهمزة للاستفهام الانكاري، وأن وما في حيزها مصدر مؤول مفعول تريدون، ومن اسم موصول مفعول به، وجملة أضل الله لا محل لها لأنها صلة، والجملة مستأنفة مسوقة للإنكار على المختلفين (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ، ويضلل فعل الشرط مجزوم وحرك بالكسر لالتقاء الساكنين والله فاعل، والفاء رابطة للجواب ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتجد فعل مضارع منصوب بلن، وله متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة ل «سبيلا» وسبيلا مفعول به، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر من. الفوائد: ما يقوله التاريخ: روي أن قوما من المنافقين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج الى البدو معتلين باجتوائهم المدينة. فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مرحلة مرحلة، حتى لحقوا بالمشركين، فاختلف المسلمون فيهم، فقال بعضهم: هم كفار، وقال بعضهم: هم مسلمون. وفي رواية ثانية: إنهم قوم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ثم رجعوا، وقيل: هم قوم أظهروا الإسلام، وقعدوا عن الهجرة. قال القرطبي: «والمراد بالمنافقين هنا عبد الله بن أبيّ وأصحابه الذين خذلوا الرسول يوم أحد، ورجعوا بعسكرهم بعد أن خرجوا» . واختلف المسلمون في أمرهم، فقال فريق: اقتلهم يا رسول الله، للأمارة الدالة على كفرهم. وقال فريق: لا تقتلهم لنطقهم بالشهادتين. والعتاب في الحقيقة للفريق الثاني القائل: «لا تقتلهم» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 [سورة النساء (4) : آية 89] وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) الإعراب: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا) كلام مستأنف مسوق لمتابعة وصفهم. وودوا فعل وفاعل، ولو مصدرية وهي والفعل بعدها مصدر منصوب لأنه مفعول ودوا، أي ودوا كفركم. وكما كفروا نعت لمصدر محذوف، أي: ودوا كفركم مثل كفرهم، أو حال (فَتَكُونُونَ سَواءً) الفاء عاطفة، وتكونون معطوف على تكفرون، والواو اسمها وسواء خبرها (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الفاء الفصيحة، أي: إذا كانت هذه حالهم- وهي ودادة كفركم- فلا توالوهم. ولا ناهية وتتخذوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، ومنهم متعلقان بتتخذوا على أنه مفعول به أول، وأولياء مفعول به ثان، وحتى حرف غاية وجر، ويهاجروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والجار والمجرور متعلقان بتتخذوا، وفي سبيل الله متعلقان بيهاجروا (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) الفاء عاطفة وإن شرطية، وتولوا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، والفاء رابطة لجواب الشرط، وخذوهم فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة في محل جزم جواب الشرط، واقتلوهم عطف على خذوهم، وحيث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 ظرف مكان مبني على الضم متعلق باقتلوهم، وجملة وجدتموهم في محل جر بالاضافة (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) الواو عاطفة، ولا ناهية، وتتخذوا فعل مضارع مجزوم وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو فاعل، ومنهم مفعول تتخذوا الأول، ووليا مفعول تتخذوا الثاني، ولا نصيرا عطف على «وليا» . الفوائد: مناقشة طريفة: قال الزمخشري في صدد تفسيره لهذه الآية: «ولو نصب على جواب التمني لجاز، والمعنى: ودوا كفركم، فكونكم معهم شرعا واحدا فيما هم عليه من الضلال واتباع دين الآباء» . تعقيب أبي حيان: وتعقّبه أبو حيان فقال: وكون التمني بلفظ الفعل ويكون له جواب فيه نظر، وإنما المنقول أن الفعل ينتصب في جواب التمني إذا كان بالحرف نحو: ليت، ولو إذا أشربتا معنى التمني، أما إذا كان بالفعل فيحتاج الى سماع من العرب، بل لو جاء لم تتحقق فيه الجوابية، لأن «ودّ» التي تدل على معنى التمني إنما متعلقها المصادر لا الذوات، فاذا نصب الفعل بعد الفاء لم يتعين أن تكون فاء جواب، لاحتمال أن يكون من باب عطف المصدر المقدر على المصدر الملفوظ به، فيكون من باب: ولبس عباءة وتقر عيني ... أحبّ إليّ من لبس الشفوف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 [سورة النساء (4) : آية 90] إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) اللغة: (حَصِرَتْ) : من الحصر، وهو الضيق والانقباض. وحصر الصدر حصرا من باب تعب. وحصر القارئ: منع من القراءة، فهو حصير. والحصور الذي لا يشتهي النساء، وحصير الأرض وجهها، والحصير: الحبس. (السَّلَمَ) : الصلح والاستلام. الإعراب: (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) إلا أداة استثناء، والذين مستثنى من الضمير في خذوهم واقتلوهم، وجملة يصلون الى قوم، أي: يمتّون إليهم بنسبة، لا محل لها لأنها صلة الموصول، والى قوم متعلقان بيصلون، وبينكم ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، وبينهم ظرف معطوف على الظرف قبله، وميثاق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية في محل جر صفة لقوم وجملة الاستثناء حالية (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) أو حرف عطف على يصلون، داخل في حيز الصلة، وقيل: هو عطف على صفة قوم، والوجه الأول أظهر، وجملة «حصرت صدورهم» حالية بتقدير: وقد، أو من غير تقديرها، وسيأتي مزيد بيان عنها في باب الفوائد. وأن يقاتلوكم مصدر مؤول منصوب بنزع الخافض، أي: عن مقاتلتكم، والجار والمجرور متعلقان بحصرت. ولك أن تجعل المصدر المؤول مفعولا لأجله. أو يقاتلوا قومهم عطف على يقاتلوكم، وقومهم مفعول به (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ) الواو استئنافية، والكلام مستأنف مسوق لاستثناء الطائفة الأخيرة من حكم الأخذ والقتل، وادخالهم في زمرة المعاهدين. ولو شرطية وشاء الله فعل وفاعل، واللام رابطة لجواب الشرط وجملة لسلطهم عليكم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ) الفاء عاطفة ولقاتلوكم عطف على سلطكم، فهو بمثابة التوكيد للجواب، أو بمثابة البدل من الاول. وسيأتي بحث عن هذه اللام في باب الفوائد. فإن: الفاء استئنافية وإن شرطية، واعتزلوكم فعل وفاعل ومفعول به في محل جزم فعل الشرط، والفاء عاطفة ولم يقاتلوكم عطف على اعتزلوكم (وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) عطف أيضا (فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) الفاء رابطة للجواب وما نافية، والجملة في محل جزم جواب الشرط، وجعل فعل ماض ينصب مفعولين، والله فاعل، ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف مفعول به أول، وعليهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وسبيلا مفعول به ثان. الفوائد: تحدث ابن هشام عن هذه الآية فأتى بالممتع حيث قال: قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 «أو جاءوكم حصرت صدورهم» فذهب الجمهور الى أن «حصرت صدورهم» جملة خبرية، ثم اختلفوا، فقال جماعة منهم الأخفش: هي حال من فاعل «جاء» على إضمار «قد» ، واعلم أن إضمار «قد» واجب عند البصريين، فيقولون: إن الجملة الماضوية إذا وقعت حالا لا بد من اقترانها بقد ظاهرة أو مقدرة. وأما الأخفش فلا يرى وجوبها مع الماضي إذا وقع حالا، فيقول: إن الجملة الماضوية تقع حالا وتقترن ب «قد» إن وجدت، فإن لم توجد فلا تحتاج الى تقدير. ويؤيده قراءة الحسن: «حصرة صدورهم» أي: حال كونها حصرة، أي: ضيقة. وقال آخرون: هي صفة فلا تحتاج الى إضمار «قد» . ثم اختلف هؤلاء، فقيل: الموصوف منصوب محذوف، أي: قوما حصرت صدورهم، ورأوا أن إضمار الاسم أسهل من إضمار حرف. وقيل: مخفوض مذكور، وهم «قوم» المتقدم ذكرهم، فلا إضمار البتة. وما بينهما اعتراض. ويؤيده أنه قرىء بإسقاط «أو» ، وعلى ذلك يكون «جاءوكم» صفة لقوم ويكون «حصرت» صفة ثانية. وقيل: بدل اشتمال من «جاءوكم» ، لأن المجيء مشتمل على الحصر، وفيه بعد، لأن الحصر صفة الجائين. قال أبو العباس المبرد: الجملة انشائية، ومعناها الدعاء، مثل غلت أيديهم، فهي مستأنفة. وردّ بأن الدعاء عليهم بضيق قلوبهم عن قتال قومهم لا يتجه. وأجيب بأن المراد الدعاء عليهم بسلب أهلية القتال بالمرة تحقيرا لهم. مناقشة حول اللام في «ولقاتلوكم» : سمى ابن عطية هذه اللام لام المحاذاة والازدواج، لأنها بمثابة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 الأولى. ولو لم تكن الأولى كنت تقول: لقاتلوكم، وقال أبو حيّان تعقيبا على ذلك: «وتسمية هذه اللام لام المحاذاة والازدواج تسمية غريبة، ولم أر ذلك إلا في عبارة هذا الرجل وعبارة مكي قبله» . تعقيب على هذه المناقشة: قلت: ولا طائل تحت هذه المناقشة التي تضل الطالب، ولا تجدي شيئا. ولقد أشرت الى هذا في باب الإعراب، فهي ليست أكثر من توكيد للجواب، فهي من باب التكرير والإبدال. وإنما أوردناها للاستئناس، وليكون الطالب في منجاة من الاغترار بالتسمية الموهمة عند ما يقع عليها في إعرابهم. [سورة النساء (4) : آية 91] سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91) اللغة: (أُرْكِسُوا فِيها) : انقلبوا فيها شر منقلب. وقد مر ذكره. (ثَقِفْتُمُوهُمْ) ثقف الشيء ثقفا من باب تعب: أخذه، وثقفت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 الرجل في الحرب: أدركته، وثقفته: ظفرت به، وثقفت الحديث: فهمته بسرعة. والتثقيف في الأصل: تقويم المعوّج من الرماح والقصب وتسويته. وقد نجم عن هذا المعنى: تثقيف الغلام أي: تهذيبه وتقويم سلوكه، ثم صار الثقف يعني الحذر وسرعة الفهم. وتجدد المعنى أخيرا في عصرنا فأصبح خاصا بالعلم والثقافة في المعرفة، وعلى هذا الأساس نلاحظ تطور اللغة في كل قطر عربي، كما رأى أبناء كل جيل في كل بلد من بلاد الناس كيف ارتقت لغتهم بارتقائهم، وتردّت بتردّيهم. التطور الحي في اللغة: وهكذا ما من حدث اجتماعي أو نهضة علمية أو سياسية إلا صحبها تطور في اللغة أو المعاني أو في كليهما معا، نعني في إحداث ألفاظ جديدة لبعض المعاني، أو احداث معان جديدة لبعض الألفاظ، أو في ذلك كله. وما من أحد ألمّ بتاريخ العرب وآدابهم يجهل ما أحدث الإسلام مثلا من ثورة لغوية الى جانب الثورة الدينية والاجتماعية والفكرية. وستأتي معنا نماذج حية من هذا التطور الحيّ في هذا الكتاب العجيب. ومن هذا المنطلق تتبين ضرورة هذا الكتاب لناشئتنا المتطورة، لترى على ضوئه أسرار ما تجمع، وتبصر على وهجه معنى الحركة في عقل الماضين، وبذلك يستمر العقل اللغوي في منحى الحركة المتطورة بدلا من ركوده في سكون مادة كانت يوما من مقذوفات العقل اللغوي المتحرك. الإعراب: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ) كلام مستأنف مسوق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 لتقرير حال قوم آخرين من المنافقين غير من سبق الإلماع إليهم. والسين للاستقبال الاستمراري، وسيأتي بحث ظريف عنها في باب الفوائد. وتجدون فعل مضارع وفاعله، وآخرين مفعول به وجملة يريدون صفة لآخرين، وأن وما في حيزها مصدر مؤول مفعول ليريدون (وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) عطف على ما تقدم (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها) كلما ظرف زمان متضمن معنى الشرط، وقد تقدم إعرابه. وجملة ردوا الى الفتنة في محل جر بالاضافة، أو لا محل لها لأنها صلة الموصول الحرفي، والواو نائب فاعل وجملة أركسوا فيها لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وفيها متعلقان بأركسوا (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) الفاء استئنافية، وإن شرطية، ولم حرف نفي وقلب وجزم ويعتزلوكم فعل مضارع مجزوم بلم وهو في محل جزم فعل الشرط، ويلقوا إليكم السلم عطف عليه (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) الفاء رابطة للجواب، وجملة خذوهم في محل جزم جواب الشرط، واقتلوهم: عطف على خذوهم، وحيث ظرف مكان مبني على الضم متعلق باقتلوهم، وجملة ثقفتموهم في محل جر بالاضافة (وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) الواو عاطفة، وأولئكم اسم اشارة مبتدأ. وجملة جعلنا خبر، لكم جار ومجرور في محل نصب مفعول به أول وعليهم متعلقان بمحذوف حال، وسلطانا مفعول به ثان، ومبينا صفة. الفوائد: بحث هام عن السين: السين حرف يدخل على الفعل المضارع فيخلصه الى الاستقبال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 والاستمرار، وأتى بالسين هنا إشارة الى أن عبثهم بالمؤمنين هذا أمر مستمر، وإن كان قد مضى، وذلك أن رجالا من الكفار كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا لأجل أن لا يقاتلوهم، وإذا أتوا لقومهم كفروا. فأتى المولى سبحانه وتعالى بالسين إشارة الى أن حالتهم هذه هي ديدن مستمر لهم، وأنهم لم يتركوه، وإن كان ذلك قد وقع فيما مضى. وزعم ابن هشام أن الاستمرار إنما استفيد من المضارع، كما تقول: فلان يقري الضيف، ويصنع الجميل. تريد أن ذلك دأبه. والسين مفيدة للاستقبال، إذ الاستمرار لا يكون إلا في المستقبل. وزعم الزمخشري أنها إذا دخلت على فعل محبوب أو مكروه أفادت أنه واقع لا محالة، ولم أر من فهم وجه ذلك. ووجهه أنها تفيد الوعد بحصول الفعل، فدخولها على ما يفيد الوعد أو الوعيد مقتض لتوكيده وتثبيت معناه، لأنه إخبار على إخبار، والمتعلق واحد. [سورة النساء (4) : آية 92] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 اللغة: (الدية) : هي في الأصل مصدر، ثم أطلقت على المال المأخوذ في القتل. يقال: ودى يدي دية،، كوشى يشي شية ووشيا فحذفت فاء الكلمة. الإعراب: (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) كلام مستأنف مسوق لتقرير أحكام القتل. والواو استئنافية وما نافية وهي هنا بمعنى النهي المقتضي للتحريم، وكان فعل ماض ناقص ولمؤمن متعلقان بمحذوف خبر كان المقدم، وأن يقتل مؤمنا مصدر مؤول اسم كان المؤخر، وإلا أداة حصر، وخطأ يجوز فيه أن يكون حالا مؤوّلة بالمشتقّ أي: مخطئا، أو منصوب بنزع الخافض أي: إلا بخطأ، أو مفعول مطلق على الوصف، أي: قتلا خطأ، أو مفعولا لأجله، وقدمه الزمخشري على غيره من الوجوه، قال: «فإن قلت بم انتصب خطأ؟ قلت: بأنه مفعول له، أي: ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده» . وعندي أن الأوجه متساوية، وسيرد في باب الفوائد مزيد من البحث فيه. (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) الواو استئنافية، ومن اسم شرط جازم مبتدأ، وقتل فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، ومؤمنا مفعول به وخطأ تقدم القول في إعرابه، فتحرير الفاء رابطة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 لجواب الشرط، وتحرير مبتدأ خبره محذوف، أي: فعليه تحرير رقبة وهو أولى وأنسب من جعله خبرا لمبتدأ محذوف، أي: فالواجب تحرير رقبة، ومؤمنة صفة لرقبة، والجملة الاسمية المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) الواو عاطفة ودية عطف على تحرير رقبة، ومسلمة صفة، والى أهله متعلقان بمسلّمة، وإلا أن يصدقوا استثناء من أعم الأحوال أو من أعم الظروف، أي إلا في حال الصدقة، فهي حال أو حين يتصدّقون، فهي ظرف متعلق بمسلمة. وسيأتي بسط لذلك في باب الفوائد. هذا وقيل: إنه مستثنى منقطع (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) الفاء استئنافية وإن شرطية جازمة، وكان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط، واسم كان مستتر تقديره هو، ومن قوم متعلقان بمحذوف خبر كان، وعدو صفة لقوم، ولكم متعلقان بمحذوف صفة لعدو (وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) الواو حالية، وهو مبتدأ ومؤمن خبر، والجملة في محل نصب حال، وتحرير مبتدأ خبره محذوف أي: فعليه تحرير رقبة، وقد تقدم إعرابه (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) الواو عاطفة، وإن شرطية، وكان واسمها المستتر، ومن قوم خبرها، وبينكم ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم، وبينهم عطف على بينكم، وميثاق مبتدأ مؤخر. (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) الفاء رابطة، ودية مبتدأ خبره محذوف، أي: فعليه دية، ويجوز العكس، وقد تقدم. ومسلمة صفة، والى أهله متعلقان بمسلمة (وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) عطف على ما تقدم (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) الفاء استئنافية، ومن اسم شرط جازم مبتدأ، ولم يجد في محل جزم فعل الشرط، والفاء رابطة لجواب الشرط، وصيام مبتدأ خبره محذوف، أو بالعكس، وجملة فصيام في محل جزم جواب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 الشرط وشهرين مضاف اليه ومتتابعين صفة وفعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر «من» . (تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) توبة مفعول لأجله، أي: شرع ذلك لكم رحمة منه ومتابا. ويجوز نصبه على المفعولية المطلقة، أي تاب عليكم توبة، ومن الله صفة، والواو استئنافية، وكان واسمها، وعليما حكيما خبراها. الفوائد: 1- القول في خطأ: قلت في الإعراب: إنه يجوز إعراب خطأ مستثنى منقطعا، لأنه ليس من الاول، ولا يدخل الخطأ تحت التكليف. والمعنى: لكن إن قتل خطأ فحكمه كذا، وهو إعراب جميل. وقد جنح الى هذا الإعراب أبو البقاء وأبو حيان، وهو ما اختاره أيضا سيبويه والزّجّاج والطبري، وهو من الاستثناء المنقطع الواجب النصب، والذي يسميه أهل العربية: منقطعا، ومنه قول جرير: من البيض لم تظعن بعيدا ولم تطأ ... على الأرض إلا ريط برد مرحّل يعني: ولم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد، وليس ذيل البرد من الأرض. 2- القول في «إلا أن يصدقوا» : قلت في الإعراب: إنه يجوز جعل «أن يصدقوا» مستثنى من أعم الظروف، فهو ظرف. وقد استبعد أبو حيان هذا التخريج قال: «أما جعل أن وما بعدها ظرفا فلا يجوز. نص النحويون على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 ذلك، ومنعوا أن يقال: «أجيئك أن يصيح الديك» تريد وقت صياح الديك. وأما أن ينسبك منها مصدر فيكون في موضع الحال، فنصوا أيضا على أنه لا يجوز. قال سيبويه: في قول العرب: «أنت الرجل أن تنازل وتخاصم» في معنى أنت الرجل نزالا وخصومة، أن انتصاب المفعول من أجله، لأن المستقبل لا يكون حالا، فعلى هذا الذي قررناه يكون كونه استثناء منقطعا هو الصواب. [سورة النساء (4) : آية 93] وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) الإعراب: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) الواو استئنافية، والكلام مستأنف مسوق لتهديد القاتل وتجريمه. ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويقتل فعل الشرط، ومؤمنا مفعول به، ومتعمدا حال، فجزاؤه الفاء رابطة لجواب الشرط، وجزاؤه مبتدأ وجهنم خبره أو بالعكس، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» ، وخالدا حال، وفيها متعلقان ب «خالدا» (وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ) الواو عاطفة على مقدر لا بدّ منه لينسجم الكلام، وهذا المقدر تدل عليه الشرطية، أي: حكم الله بأن جزاءه ذلك وغضب عليه (وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) عطف أيضا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 البلاغة: في هذه الآية فنّ مراعاة النظير، وقد سبق القول فيه. وهو أن يأتي المتكلم بما يناسب المحتوى، وقد حفلت هذه الآية بالألفاظ الدالة على الغضب والتهديد والوعيد والإرعاد والإبراق، للاشارة الى أن جريمة القتل من أكبر الجرائم وأشدها إمعانا في الشر، لما يترتب عليها من هدم لبناء المجتمع. وما أجمل قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد: «إن هذا الإنسان بنيان الله، ملعون من هدم بنيانه» . [سورة النساء (4) : آية 94] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) اللغة: (السَّلامَ) والسّلم بفتح السين واللام: التحية والاستسلام. وقد قرىء بهما. (ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ) : سرتم فيها لتجارة أو غزوة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدّم إعرابها (إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا) كلام مستأنف مسوق للتحذير من الإقدام على القتل. وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب، وجملة ضربتم في محل جر بالاضافة، وفي سبيل الله متعلقان بضربتم، والفاء رابطة لجواب إذا، وتبينوا فعل أمر والواو فاعل، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ: لَسْتَ مُؤْمِناً) الواو عاطفة، ولا ناهية، وتقولوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل، ولمن متعلقان بتقولوا، وجملة ألقى إليكم السلام صلة الموصول، وإليكم متعلقان بألقى، والسلام مفعول به، وجملة «لست مؤمنا» في محل نصب مقول القول، ومؤمنا خبر لست (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) الجملة حالية من فاعل تقولوا، أي: لا تقولوا تلك المقالة طالبين الغنيمة والعرض الفاني (فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) الفاء تعليلية للنهي، والجملة لا محل لها، وعند الله ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم، ومغانم مبتدأ مؤخر، وكثيرة صفة (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) الجملة مستأنفة مسوقة لتشبيه حالتهم الراهنة بحالتهم التي كانوا عليها، وكذلك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم لكنتم أو الكاف الاسمية وحدها خبر كنتم المقدم وذلك مضاف اليه، ومن حرف جر وقبل ظرف مبني على الضم لقطعه عن الاضافة لفظا لا معنى، متعلق بمحذوف حال، فمنّ الفاء عاطفة، وجملة منّ الله معطوفة على كنتم، وعليكم متعلقان ب «منّ» (فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) جعلها المعربون عامة عاطفة على تبينوا الأولى، وكرر الأمر بالتبيين تأكيدا. وعندي أن الفاء هي الفصيحة، وأنه ليس هناك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 تأكيد، لأن الأمر الأول خاص بمن تقتلونه، والأمر الثاني عام، كأنما هو يقرر حكما شاملا، أي: إذا عرفتم هذا وأدركتم عواقبه فتبينوا. وإن الله إن واسمها، وجملة كان وما بعدها خبرها، والجملة للتعليل، وخبيرا خبر كان، وجملة تعملون لا محل لها صلة ما، وبما متعلقان ب «خبيرا» . [سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96] لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) اللغة: غير أولى الضرر: أي أصحاب العاهات، من عمى أو عرج أو زمانة، ونحوها. الإعراب: (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) كلام مستأنف مسوق لبيان تفاوت طبقات المؤمنين بحسب التفاوت الحاصل بينهم في الجهاد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 ولا نافية ويستوي فعل مضارع مرفوع، والضمة مقدرة على الياء، والقاعدون فاعله، ومن المؤمنين متعلقان بمحذوف حال من «القاعدون» ومن الضمير المستكنّ فيه (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) غير: بدل من «القاعدون» ، ولم نجعلها صفة، لأن «غيرا» لا تتعرف بالإضافة، لإيغالها في التنكير، ولا يجوز اختلاف الصفة والموصوف. ولم يأبه الزمخشري لما تقرر في علم النحو، فجعلها صفة. ويجوز نصبها على الاستثناء، والأول أرجح كما هو مقرر في كتب النحو، لأن الكلام منفي، وقد قرىء به. ويجوز جرها على أنها صفة للمؤمنين، وقد قرأها الأعمش بالجر أيضا. وسيأتي بحث عنها في باب الفوائد. وأولي الضرر مضاف اليه مجرور وعلامة جره الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والمجاهدون عطف على «القاعدون» ، وفي سبيل الله متعلقان ب «المجاهدون» ، وبأموالهم متعلقان به أيضا، وأنفسهم عطف على «بأموالهم» (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) الجملة مفسرة لا محل لها لعدم الاستواء بين الفريقين. وفضل الله فعل وفاعل، المجاهدين مفعول به منصوب بالياء وجملة فضل الله المجاهدين مفسرة لعدم الاستواء بين الفريقين، وبأموالهم جار ومجرور متعلقان ب «المجاهدين» وأنفسهم معطوفة على أموالهم، وعلى القاعدين متعلقان بفضل ودرجة مفعول مطلق لأنها آلة التفضيل ورفع المرتبة، فهو كقولك: ضربته سوطا. وأعربه بعضهم ظرفا، وليس ببعيد. وأعربه آخرون حالا، وهو يحتاج عندئذ الى تقدير مضاف، أي: ذوي درجة. وقال بعضهم: هو تمييز، ولا بأس بهذا القول. وما ارتأيناه هو الأرجح (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى) الواو اعتراضية، وكلّا مفعول به مقدم ل «وعد» ، والله فاعل، والحسنى مفعول به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 ثان، والجملة لا محل لها لأنها اعتراضية (وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) الواو عاطفة، والجملة عطف على ما تقدم، وأجرا مفعول مطلق لأنه مرادف لفضل، أو لأنه آلته، على حد قوله: درجة وسوطا، وسيأتي مزيد بحث عنه في باب الفوائد. وعظيما صفة. (دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) درجات بدل من «أجرا» ومنه متعلقان بمحذوف صفة لدرجات، ومغفرة ورحمة عطف على درجات، ونصبهما الزمخشريّ على المفعولية المطلقة بإضمار فعلهما، بمعنى: وغفر لهم ورحمهم مغفرة ورحمة، ولعله أولى لمراعاة التناسب (وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) الواو استئنافية أو حالية، وكان واسمها، وغفورا رحيما خبراها، والجملة مستأنفة أو حالية. الفوائد: ما يقوله ابن يعيش: قال ابن يعيش عند كلامه على «غير أولي الضرر» : «وقرىء بالرفع والجر والنصب، فالرفع على النعت ل «القاعدون» ، ولا يكون ارتفاعه على البدل في الاستثناء لأنه يصير التقدير فيه: لا يستوي إلا أولو الضرر، وليس المعنى على ذلك، إنما المعنى: لا يستوي القاعدون الأصحاء والمجاهدون. والجر على النعت للمؤمنين، والمعنى: لا يستوي القاعدون من المؤمنين الأصحاء والمجاهدون، والمعنى فيهما واحد. والنصب على الاستثناء. النحاة بين البدلية والوصفية لغير: هذا وقد ترجح النحاة في البدلية والوصفية ل «غير» . فمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 احتجّ للبدلية قال: إن جعل «غير» صفة يوجب التأويل، لأن «غير» لا تتعرف بالاضافة، ولا يجوز اختلاف النعت والمنعوت تعريفا وتنكيرا، وتأويله إما بأن «القاعدون» لما لم يكونوا بأعيانهم بل أريد بهم الجنس أشبهوا النكرة فوصفوا بها كما توصف، وإما بأن «غير» قد تتعرف إذا وقعت بين ضدين. ومن احتجّ للوصفية قال: لا يكون ارتفاعه على البدل في الاستثناء، لأنه يصير التقدير فيه: لا يستوي القاعدون الأصحاء والمجاهدون- كما قال ابن يعيش- وهذا من طرائفهم التي تدل على ألمعية وثقوب ذهن، فتأمل والله يرشدك. رأي الزمخشري في اعراب أجرا: قال الزمخشري: «لم نصب درجة وأجرا ودرجات؟ قلت: نصب قوله «درجة» لوقوعها موقع المرّة من التفضيل، كأنه قيل: فضّلهم تفضيلة واحدة ونظيره قولك: ضربه سوطا، بمعنى: ضربه ضربة. وأما أجرا فقد انتصب بفضل لأنه في معنى آجرهم أجرا ودرجات ورحمة بدل من أجرا ويجوز أن ينتصب «درجات» نصب «درجة» كما تقول: ضربه أسواطا، بمعنى ضربات. كأنه قيل: وفضله تفضيلات. ونصب «أجرا عظيما» على أنه حال من النكرة التي هي «درجات» مقدمة عليها. وانتصب «مغفرة ورحمة» بإضمار فعلهما، بمعنى: وغفر لهم ورحمهم مغفرة ورحمة. [سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 99] إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) كلام مستأنف لتقرير حال جماعة أسلموا ولم يهاجروا، فقتلوا يوم بدر مع الكفار، مع أن الهجرة كانت ركنا أو شرطا في الإسلام، ثم نسخ بعد الفتح. وإن واسمها، وجملة توفاهم الملائكة لا محل لها لأنها صلة الموصول، وأصل توفاهم: تتوفاهم، فحذفت إحدى التاءين حسب القاعدة المقررة، وأجاز ابن جرير وغيره أن تكون فعلا ماضيا مبنيا على الفتح المقدر. وليس ببعيد. والملائكة فاعل وظالمي أنفسهم حال. أما خبر إن فيجوز أن يكون محذوفا تقديره: إن الذين توفاهم الملائكة هلكوا، ويجوز أن يكون الخبر قوله: قالوا فيم كنتم؟ ويجوز أن يكون: فأولئك مأواهم جهنم، ودخلت الفاء زائدة في الخبر تشبيها للموصول باسم الشرط (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ؟) الضمير في قالوا يعود الى الملائكة، والجملة إما خبر كما قدمنا وإما مستأنفة مبنية للجملة المحذوفة، وفيم: في حرف جر وما الاستفهامية في محل جر بفي، وحذفت ألفها لدخول حرف الجر عليها، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر كنتم المقدم، والجملة في محل نصب مقول القول (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) الضمير في قالوا يعود الى الذين تتوفاهم الملائكة، وجملة القول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 مستأنفة، وجملة كنا مستضعفين في الأرض في محل نصب مقول القول، ومستضعفين خبر كنا، وفي الأرض متعلقان بمستضعفين (قالُوا: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) الضمير في قالوا يعود الى الملائكة، والجملة مستأنفة، والهمزة للاستفهام الإنكاري للتبكيت، ولم حرف نفي وقلب وجزم، وتكن فعل مضارع ناقص مجزوم ب «لم» ، وأرض الله اسم تكن، وواسعة خبرها، والجملة في محل نصب مقول القول، والفاء فاء السببية، وتهاجروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية والواو فاعل، وفيها متعلقان بتهاجروا (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) الفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط، وأولئك مبتدأ ومأواهم مبتدأ وجهنم خبر المبتدأ الثاني والجملة الاسمية خبر اسم الاشارة وجملة فأولئك إما خبر ل «إن الذين» كما قدمنا وإما استئنافية. (وَساءَتْ مَصِيراً) الواو استئنافية أو حالية، وساءت فعل ماض للذم، ومصيرا تمييز، والمخصوص بالذم محذوف أي: جهنم (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) إلا أداة استثناء والمستضعفين مستثنى منهم لضعفهم وعدم تمكنهم من الهجرة، فالاستثناء متصل، وقيل: الاستثناء منقطع، لأن المستثنى منه إما كفارا وإما عصاة بالتخلف، وهم قادرون على الهجرة، فلم يندرج فيهم المستضعفون. ومن الرجال متعلقان بمحذوف حال، والنساء والولدان عطف على الرجال (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا) جملة لا يستطيعون صفة للمستضعفين، وجاز وصف المعرفة بالجملة وهي نكرة، لأن المعرفة هنا ليست لشيء معين بالذات، على حد قول الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمّت قلت: لا يعنيني وحيلة مفعول يستطيعون، وجملة ولا يهتدون عطف على جملة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 لا يستطيعون، وسبيلا مفعول يهتدون، أو منصوب بنزع الخافض، ولعله أقعد بالفصاحة، أي: الى سبيل من السبل المختلفة (فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) الفاء الفصيحة لأنها وقعت في جواب شرط مقدر، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، أي إذا أردت أن تعرف مصيرهم فأولئك، وأولئك مبتدأ، وعسى فعل ماض جامد من أفعال الرجاء، والله اسم عسى، والمصدر المؤول خبرها، والجملة الفعلية خبر اسم الاشارة (وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً) الواو حالية أو استئنافية، وكان واسمها، وعفوا غفورا خبراها. [سورة النساء (4) : آية 100] وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) اللغة: (المراغم) بضم الميم وفتح الغين المعجمة: المذهب والحصن والمضطرب، فهو اسم مكان، وعبّر به للإشعار بأن المهاجر يرغم أنف قومه أي: يذلهم، والرغم الذل والهوان، وأصله لصوق الأنف بالرّغام- بفتح الراء- وهو التراب، ورغم أنفه رغما من باب قتل: كناية عن الذل، كأنه لصق بالرغام هوانا وذلّا. ويتعدى بالألف، فيقال: أرغم الله أنفه، وفعلته على رغم أنفه- بفتح الراء وضمها- أي: غاضبته، وهذا ترغيم له أي: إذلال. وهذا من الأمثال التي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 جرت في كلامهم بأسماء الأعضاء، ولا يراد أعيانها، بل وضعوها لمعان غير المعاني الظاهرة، ولا حظّ لظاهر الأسماء من طريق الحقيقة، ومنه قولهم: كلامه تحت قدمي، وحاجته خلف ظهري، يريدون الإهمال وعدم الاحتفال. وفي القاموس: الرغم: الكره،- ويثلث- كالمرغمة، ورغمه كعلمه ومنعه: كرهه. الإعراب: (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) كلام مستأنف مسوق لبيان حال المهاجرين في سبيل الله. والواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ، ويهاجر فعل مضارع فعل الشرط، وفي سبيل الله متعلقان بيهاجر، ويجد فعل مضارع جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر «من» ، ومراغما مفعول به، وكثيرا صفة، وسعة عطف على «مراغما» . (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) تقدم إعراب نظيرها، ومهاجرا حال والى الله ورسوله متعلقان ب «مهاجرا» (ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) ثم حرف عطف، ويدركه عطف على يخرج، والهاء مفعول به، والموت فاعل يدركه، فقد الفاء رابطة لجواب الشرط، وقد حرف تحقيق، وجملة وقع أجره على الله في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» ، وعلى الله متعلقان بوقع (وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) جملة مستأنفة وقد تقدم اعرابها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 [سورة النساء (4) : آية 101] وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) الإعراب: (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام قصر الصلاة. والواو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط، وجملة ضربتم في الأرض في محل جر بالاضافة، والفاء رابطة لجواب إذا وليس فعل ماض ناقص، وعليكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ليس المقدم، وجناح اسمها المؤخر، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) المصدر المؤول منصوب بنزع الخافض، أي: في قصر الصلاة والجار والمجرور صفة لجناح، ومن الصلاة متعلقان بتقصروا. وبحث القصر من الصلاة مبسوط في كتب الفقه (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) إن شرطية وخفتم فعل ماض وفاعل، وهو في محل جزم فعل الشرط، وأن وما في حيزها مصدر مؤول مفعول به لخفتم، والذين كفروا فاعل وجملة كفروا صلة وجملة الشرط مستأنفة وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي: فليس عليكم جناح أن تقصروا. (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) الجملة تعليل لما تقدم من إباحة القصر، وإن واسمها، وجملة كانوا خبرها، والواو اسم كان ولكم متعلقان بمحذوف حال، وعدوا خبر كان. ومبينا صفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 [سورة النساء (4) : آية 102] وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) الإعراب: (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) الواو استئنافية، والكلام مستأنف للشروع في أحكام صلاة الخوف، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولا حجة فيه لمن ذهب الى أنه لا يرى صلاة الخوف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل الخطاب شامل متناول لكل إمام. ويجوز أن تكون الواو عاطفة، فيكون الكلام منسوقا على ما تقدم. وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط، وجملة كنت في محل جر بالإضافة، والتاء اسم كان، وفيهم متعلقان بمحذوف خبر كنت، والضمير يعود على الضاربين في الأرض أو على الخائفين، وكلاهما محتمل. والفاء عاطفة، وأقمت فعل وفاعل، ولهم متعلقان بأقمت، والجملة معطوفة على جملة كنت، والصلاة مفعول به (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) الفاء رابطة، واللام لام الأمر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 وتقم فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وطائفة فاعل ومنهم متعلقان بمحذوف صفة، ومعك ظرف مكان متعلق بتقم (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) . وليأخذوا عطف على فلتقم، وأسلحتهم مفعول به (فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) تقدم إعراب نظيره، ومن ورائكم متعلقان بمحذوف خبر فليكونوا (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) عطف أيضا، وجملة «لم يصلوا» صفة ثانية لطائفة، فليصلوا فعل مضارع وفاعله، ومعك ظرف مكان متعلق ب: فليصلوا (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) عطف أيضا (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ) الجملة مستأنفة مسوقة للتأكيد على زيادة الحذر لظن العدو أن الصلاة مظنة لإلقاء السلاح. وود الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة الموصول ولو مصدرية فهي موصول حرفي، وهي منسبكة مع ما بعدها بمصدر منصوب لأنه مفعول تود، وجملة تغفلون لا محل لها لأنها صلة الموصول الحرفي، وعن أسلحتكم متعلقان بتغفلون، وأمتعتكم عطف على أسلحتكم (فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) الفاء عاطفة، ويميلون عطف على تغفلون، وعليكم متعلقان بيميلون، وميلة مفعول مطلق وواحدة صفة (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ) الواو عاطفة، ولا نافية للجنس، وجناح اسمها، وعليكم متعلقان بمحذوف خبر «لا» ، وإن شرطية وكان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط، وبكم متعلقان بمحذوف خبر كان المقدم، وأذى اسمها المؤخر، ومن مطر متعلقان بمحذوف صفة لأذى، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، أي: فلا جناح عليكم (أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) أو حرف عطف، وكنتم عطف على: كان بكم أذى، ومرضى خبر كنتم، وأن تضعوا مصدر مؤول منصوب بنزع الخافض، أي: في أن تضعوا، والجار والمجرور متعلقان بجناح أو بمحذوف صفة له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 وأسلحتكم مفعول به (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) عطف أيضا (إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) إن واسمها، وجملة أعد للكافرين خبرها، وعذابا مفعول أعد، ومهينا صفة. البلاغة: في الآية عطف الحقيقة على المجاز، وهو من البلاغة في ذروتها، ومن الفصاحة في سدّتها، فالأسلحة حقيقة، والحذر مجاز لأنه أراد به آلة من الآلات التي يستعملها الغازون في حروبهم، فلذلك جمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ، جعلهما معا كالمأخوذين. ومن طريف هذا المجاز الذي استعمل مع الحقيقة قول أبي تمّام الطائي يصف ركبا: وركب يساقون الركاب زجاجة ... من السير لم تقصد لها كفّ قاطب والمجاز في قوله: «زجاجة» أي: شرابا في زجاجة. والمعنى يسكرون المطيّ بالتعب، فكأنهم سقوها شرابا لم تقصد له كف قاطب، أي: ليس على الحقيقة شرابا يناوله الساقي صاحبه بقصد. وهذا التناسب بين المجاز والحقيقة لا يسهل إدراكه إلا على أهل الطبع المرهف، والذوق المترف، فافهمه، وقس عليه، والله يعصمك. [سورة النساء (4) : الآيات 103 الى 104] فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 الإعراب: (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) الفاء استئنافية، والكلام مستأنف مسوق لتقرير ما يندب بعد أداء صلاة الخوف على الوجه الكامل المبين. وإذا ظرف مستقبل متضمّن معنى الشرط، وجملة قضيتم الصلاة في محل جر بالاضافة، والفاء رابطة، وجملة اذكروا الله لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وقياما حال وقعودا حال ثانية، وعلى جنوبكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ثالثة عن طريق العطف (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) تقدم إعرابها، والجملة معطوفة على ما تقدم (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) الجملة تعليل لما سبق، وإن واسمها، وجملة كانت خبر إن، وعلى المؤمنين متعلقان ب «موقوتا» وكتابا خبر كانت، وموقوتا صفة، أي: محدودا بأوقات (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) الواو عاطفة أو استئنافية، ولا ناهية، وتهنوا فعل مضارع مجزوم ب «لا» وفي ابتغاء القوم متعلقان بتهنوا (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ) إن شرطية جازمة، وتكونوا فعل مضارع ناقص فعل الشرط، والواو اسم كان، وجملة تألمون خبرها، وجملة الشرط لا محل لها لأنها تعليلية للنهي، فانهم الفاء رابطة للجواب، وان واسمها، وجملة يألمون خبرها والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط وكما تألمون في محل نصب على المفعولية المطلقة أو على الحالية، وقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 تقدمت له نظائر (وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ) عطف على جملة يألمون، وما اسم موصول مفعول به لترجون، وجملة لا يرجون لا محل لها لأنها صلة (وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) تقدم إعرابه كثيرا. [سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 106] إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) الإعراب: (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) كلام مستأنف للتحذير من التعجل في الحكم، وهو عام، وإن واسمها، وجملة أنزلنا خبرها، وإليك متعلقان بأنزلنا والكتاب مفعول به، وبالحق متعلقان بمحذوف حال (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ) اللام للتعليل وتحكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام، والجار والمجرور: لام التعليل والمصدر المؤول من أن المضمرة والفعل تحكم متعلقان بأنزلنا وبين الناس ظرف متعلق بتحكم، وبما متعلقان بتحكم وجملة أراك الله لا محل لها لأنها صلة للموصول، والإراءة هنا بمعنى المعرفة والعلم، فالكاف مفعوله الأول والثاني محذوف، وهو العائد المحذوف، أي: بما أراكه الله (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) الواو عاطفة ولا ناهية وتكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلا، واسم تكن مستتر تقديره أنت، وللخائنين جار ومجرور متعلقان بخصيما، وخصيما خبرها. (وَاسْتَغْفِرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) عطف على ما تقدم، وقد تقدم إعراب نظائره. [سورة النساء (4) : الآيات 107 الى 108] وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) اللغة: (يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) : يستريبون بها ويخونونها بالمعاصي. (يَسْتَخْفُونَ) : يستترون. (يُبَيِّتُونَ) يدبرون الأمر بليل. ولا يكاد يستعمل إلا في الشر، وعبارة المبرّد في كامله: «يقال بيّت فلان كذا وكذا إذا فعله ليلا، وفي القرآن: «وإذ يبيتون ما لا يرضى من القول» أي: أداروا ذلك ليلا بينهم» . الإعراب: (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) الواو عاطفة ولا ناهية، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 وتجادل فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل أنت، وعن الذين متعلقان بتجادل، وجملة يختانون أنفسهم لا محل لها لأنها صلة الموصول (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً) تعليل للنهي، وان واسمها، وجملة لا يحب خبرها ومن اسم موصول مفعول به، وجملة كان صلة الموصول وخوانا خبر كان، وأثيما صفة، أو هما خبران لكان (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) الجملة مستأنفة مسوقة لمجرد الإخبار بأنهم يطلبون الستر، أو حالية من «من» على أنها موصولة، وجملة ولا يستخفون من الله عطف على الاولى، الواو حالية، وهو مبتدأ، والظرف معهم متعلق بمحذوف خبر، والجملة حالية (إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) إذ ظرف لحكاية الحال الماضية، وجملة يبيتون في محل جر بالاضافة، وما اسم موصول مفعول به وجملة لا يرضى صلة الموصول، ومن القول متعلقان بمحذوف حال (وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) تقدم اعراب نظائرها كثيرا. البلاغة: 1- المبالغة في قوله: «خوانا أثيما» : فقد استعمل صيغتين من صيغ المبالغة، لأن الله كان عالما من طعمة بن أبيرق الذي سرق درعا من جار له وأودعها عند يهودي، الإفراط في الخيانة وركوب المآثم. 2- المجاز في الاستخفاء: إذ الاستخفاء من الله محال، لأن الله يعلم الجهر وما يخفى، فيكون مجازا عن الحياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 [سورة النساء (4) : آية 109] ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) الإعراب: (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) كلام مستأنف مسوق لتبكيت قوم طعمة بن أبيرق، وهم بنو ظفر من الأنصار الذين حاولوا ستر جنايته وسرقته. وها للتنبيه وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره، وجملة جادلتم خبر ثان، وأعرب بعضهم هؤلاء منادى محذوف منه حرف النداء، وجملة النداء اعتراضية وهو صحيح. وعنهم جار ومجرور متعلقان بجادلتم، وفي الحياة متعلقان بمحذوف حال، والدنيا صفة (فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الفاء عاطفة، ومن اسم استفهام انكاري مبتدأ، وجملة يجادل الله خبر، وعنهم متعلقان بيجادل، ويوم القيامة ظرف متعلق بمحذوف حال (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا) أم حرف عطف، ومن اسم استفهام مبتدأ، ويكون فعل مضارع ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره «هو» يعود على «من» والجملة في محل رفع خبر «من» ، وعليهم جار ومجرور متعلقان ب «وكيلا» ووكيلا خبر يكون. البلاغة: في هذه الآية الالتفات، في قوله: «ها أنتم جادلتم عنهم ... » فقد انتقل من الغيبة الى الخطاب، لمشافهتهم بالتوبيخ والإنكار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 [سورة النساء (4) : الآيات 110 الى 112] وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) الإعراب: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) كلام مستأنف مسوق لحمل طعمة على التوبة، ومع ذلك أصر على ركوب متن الشطط، وأبى أن يتوب، والواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ، ويعمل فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل هو، وسوءا مفعول به، وأو حرف عطف. ويظلم نفسه عطف على يعمل، ونفسه مفعول به (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً) ثم حرف عطف، ويستغفر الله عطف على ما تقدم، ويجد الله جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» ، وغفورا مفعول به ثان، ورحيما صفة (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) عطف على ما تقدم، وهو مماثل له في إعرابه. وجملة فإنما جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر من، وعلى نفسه متعلقان بيكسبه، لأن وبال الإثم متعلق بها (وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) تقدم إعرابها. (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً) تقدم إعرابه (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) عطف على يكسب ووحد الضمير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 تغليبا للإثم، وبه متعلقان ب «يرم» ، وبريئا مفعول به (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) الجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر «من» ، والمعنى: فله عقوبتان. [سورة النساء (4) : آية 113] وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) الإعراب: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) الواو عاطفة أو استئنافية إتماما لقصة بني ظفر الذين حاولوا إضلال النبي، ولكن الله عصمه. والواقع أن الخطاب عام، يتناول الناس جميعا في مختلف ظروف الزمان والمكان. ولولا حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط، وفضل الله مبتدأ محذوف الخبر، وعليك متعلقان بفضل ورحمته عطف على فضل (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) اللام واقعة في جواب لولا، وجملة همت طائفة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وقد يرد على ذلك انتفاء الهمّ، لأن لولا لا تقتضي انتفاء جوابها لوجود شرطها، ولكن المنفي في الحقيقة أثر الهمّ، وسيرد هذا كله في مكانه من هذا الكتاب، وأن يضلوك مصدر مؤول منصوب بنزع الخافض، والجار والمجرور متعلقان بهمت، أي همّت بإضلالك (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) الواو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 حالية وما نافية، ويضلون فعل مضارع علامة رفعه ثبوت النون، وإلا أداة حصر، وأنفسهم مفعول يضلون، والجملة في محل نصب على الحال (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) الواو عاطفة وما نافية ويضرونك فعل مضارع وفاعل ومفعول به، وهو معطوف على يضلون، ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا منصوب على المفعولية المطلقة محلّا، أي: شيئا من الضرر (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة فيها معنى العلة لما تقدم، والكتاب مفعول به، والحكمة عطف على الكتاب (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) عطف على ما تقدم، وما اسم موصول مفعول علمك الثاني، وجملة لم تكن صلة وجملة تعمل خبر تكن (وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) عطف أيضا، وكان فعل ماض ناقص وفضل الله اسمها، وعظيما خبرها، وعليك جار ومجرور متعلقان بفضل. [سورة النساء (4) : آية 114] لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) اللغة: (نَجْواهُمْ) : النجوى في الأصل مصدر، وهو التناجي في السر، وقد يطلق على الأشخاص مجازا، قال تعالى: «وإذ هم نجوى» ، ولا تكون النجوى إلا بين اثنين فصاعدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 الإعراب: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) كلام مستأنف مسوق لإتمام قصة بني ظفر. وهي عامة في حق الناس جميعا. ولا نافية للجنس وخير اسمها المبني على الفتح، وفي كثير جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها، ومن نجواهم متعلقان بمحذوف صفة لكثير (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) إلا أداة حصر، ومن اسم موصول بدل من «كثير» أو من «نجوى» ، فالاستثناء على هذا متصل على حذف مضاف، وقيل: هي نصب على الاستثناء المنقطع، لأن «من» للاشخاص، وليس التناجي من جنسها، ويكون المعنى: لكن من أمر بصدقة ففي نجواه خير كثير. وبصدقة جار ومجرور متعلقان بأمر، وما بعدها معطوف عليها، وبين الناس ظرف مكان متعلق بإصلاح (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، ويفعل فعل الشرط، وذلك مفعول به وابتغاء مرضاة الله مفعول لأجله (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) الفاء رابطه للجواب وسوف حرف استقبال ونؤتيه فعل مضارع ومفعول به أول. وأجرا مفعول به ثان، والفاعل مستتر تقديره «نحن» . وعظيما صفة، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» . [سورة النساء (4) : آية 115] وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 اللغة: (المشّاقّة) : المخاصمة والمخالفة. (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) نجعله واليا لما تولى من الضلال، أي ما اختاره. الإعراب: (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) كلام مستأنف مسوق للتعقيب على قصة طعمة المرتدّ، والمراد عموم الحكم وشموله الناس. ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، يشاقق فعل مضارع فعل الشرط والرسول مفعول به، ومن بعد متعلقان بيشاقق، وما مصدرية وهي مع تبين في تأويل مصدر مجرور بالاضافة، وله متعلقان بتبين، والهدى فاعل (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على يشاقق، وغير سبيل المؤمنين مفعول به (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) نوله جواب الشرط، والهاء مفعوله الأول، وما اسم موصول مفعوله الثاني، وجملة تولى صلة الموصول وجملة فعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر «من» (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) عطف على نوله، وجهنم مفعول به ثان لنصله، ومصيرا نصب على التمييز، والمخصوص بالذم محذوف، أي: جهنم. الفوائد: روي أن الامام الشافعي رحمه الله سئل عن آية في كتاب الله تعالى تذل على أن الإجماع حجة، فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتى وجده في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 هذه الآية: «ومن يشاقق الرسول..» إلخ، وتقرير الاستدلال أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام، فيجب أن يكون اتباع سبيل المؤمنين واجبا، وبيان المقدمة الاولى أنه تعالى ألحق الوعيد بمن يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين ومشاققة الرسول وحدها موجبة لهذا الوعيد، فلو لم يكن اتباع غير سبيل المؤمنين موجبا له لكان ذلك ضمّا لما لا أثر له في الوعيد الى ما هو مستقل باقتضاء ذلك الوعيد، وأنه غير جائز، فثبت أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام، وإذا ثبت هذا لزم أن يكون عدم اتباع سبيلهم واجبا، وذلك لأن عدم اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه اتباع لغير سبيل المؤمنين، فاذا كان اتباع سبيل غير المؤمنين لزم أن يكون عدم اتباع سبيل المؤمنين حراما وإذا كان عدم اتباعهم حراما كان اتباع سبيلهم واجبا. هذا ولعلماء الأصول مناقشات طويلة، وأسئلة وأجوبة، حول صحة الاستدلال بهذه الآية، يرجع إليها في مظانّها. [سورة النساء (4) : الآيات 116 الى 117] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) اللغة: (مَرِيداً) المريد والمارد هو الذي بلغ الغاية في الشرّ والفساد، يقال: مرد من بابي نصر وظرف إذا عتا وتجّبر فهو مارد ومريد، وأنّث الأصنام لأنها في عرفهم كذلك، وأشهرها اللات والعزّى ومناة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 وعن الحسن أنه لم يكن حيّ من أحياء العرب إلا كان لهم صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان. وسيأتي مزيد تفصيل عن هذه الأصنام عند ذكرها بأسمائها. الإعراب: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) كلام مستأنف مسوق للتأكيد على عدم غفران الشرك. وإن واسمها، وجملة لا يغفر خبرها، والمصدر المؤول من أن وما في حيزها مفعول يغفر، وبه متعلق بيشرك (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) الواو عاطفة، ويغفر فعل مضارع والفاعل هو، وما اسم موصول مفعول به، ودون ذلك ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول، والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول، ولمن يشاء متعلقان بيغفر، وجملة يشاء صلة الموصول (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ) الواو حرف عطف، ومن اسم شرط جازم مبتدأ، ويشرك فعل الشرط والجار والمجرور متعلقان بيشرك (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً) الفاء رابطة، والجملة في محل جزم جواب الشرط، وضلالا مفعول مطلق وبعيدا صفة، وجملة الشرط والجواب خبر «من» (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) الجملة تعليلية لا محل لها، وإن نافية، ويدعون فعل مضارع وفاعل، ومن دونه متعلقان بيدعون، وإلا أداة حصر، وإناثا مفعول به أو صفة لمفعول به محذوف، أي: أصناما مؤنثة لتأنيث أسمائها كاللات والعزى ومناة، وقيل: لأنهم كانوا يلبسونها أنواع الحليّ، ويزينونها على هيئات النساء (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) الواو عاطفة وإن نافية، ويدعون فعل وفاعل، وإلا أداة حصر شيطانا مفعول به، ومريدا صفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 [سورة النساء (4) : الآيات 118 الى 121] لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) اللغة: (تبكيت الآذان) : قطعها أو شقها، كانوا يشقون أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا، وحرّموا على أنفسهم الانتفاع بها. وذلك من عاداتهم. كما كانوا يغيّرون خلق الله، فيفقئون عيون الأنعام إعفاء لها من الركوب، أو يخصونها. ومن التغيير في خلق الله الوشم، وفي الحديث: لعن الله الواشرات المرققات أسنانهن والمتنضات والمتنفشات، أي اللواتي ينتفن شعورهن. (مَحِيصاً) مصدر حاص عنه إذا عدل وحاد. وله مصادر متعددة، منها أيضا حيوصا ومحاصا وحيصانا، بفتح الياء. الإعراب: (لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) الجملة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 لا محل لها من الإعراب لأنها دعائية أو مستأنفة، وجعلها بعضهم صفة ل «شيطانا» في الآية السابقة، وأرى فيه بعدا وتكلفا، ولعنه الله فعل ومفعول به وفاعل، وقال الواو استئنافية أو حالية بتقدير «قد» ، وجملة القسم مقول القول، واللام جواب قسم محذوف، وأتخذن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وجملة اتخذن لا محل لها لأنها جواب قسم محذوف، ومن عبادك متعلقان بأتخذن، ونصيبا مفعول به، ومفروضا صفة (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ) الجمل الثلاث معطوفات على أتخذن، فهي مقولات الشيطان الخمس (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) الفاء عاصفة، وآذان الانعام مفعول به (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) عطف أيضا، وأصل يغيرن: يغيروننّ، فحذف النون للجزم بلام الأمر، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين، وخلق الله مفعول به (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ، ويتخذ فعل الشرط والشيطان مفعول به أول ووليا مفعول به ثان ومن دون الله متعلقان بمحذوف صفة ل «وليا» (فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) الفاء رابطة، وقد حرف تحقيق، وخسرانا مفعول مطلق، ومبينا صفة، والجملة في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان حقيقة مواعيد الشيطان الكاذبة. ومفعولا يعدهم ويمنيهم محذوفان للعلم بهما، وما الواو حالية، وما نافية ويعدهم الشيطان فعل ومفعول به وفاعل، وإلا أداة حصر، وغرورا يحتمل أن يكون مفعولا ثانيا ل «يمنيهم» أو مفعولا لأجله أو مفعولا مطلقا، أي: ذا غرور، وهي متساوية الرجحان (أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) الجملة مستأنفة، وأولئك مبتدأ، ومأواهم مبتدأ ثان، وجهنم خبر مأواهم، والجملة الاسمية خبر أولئك (وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 الواو عاطفة، ولا نافية، ويجدون فعل مضارع وفاعل، ومحيصا مفعول به، وعنها متعلقان بمحذوف حال، لأن المصدر لا يعمل فيما قبله. [سورة النساء (4) : آية 122] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122) اللغة: (قِيلًا) مصدر كالقول والقال، وقال ابن السّكّيت: القال والقيل: اسمان لا مصدران. الإعراب: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الواو استئنافية، والذين مبتدأ، وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات فعل وفاعل ومفعول به (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) سندخلهم فعل مضارع ومفعوله الأول، والفاعل مستتر تقديره نحن والجملة خبر اسم الموصول، وجنات مفعول به ثان على السعة أو منصوب بنزع الخافض وقد تقدم، وجملة تجري إلخ صفة لجنات، وخالدين حال، وفيها متعلقان بخالدين، وأبدا ظرف متعلق بخالدين أيضا (وَعْدَ اللَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 حَقًّا) وعد الله مفعول مطلق لفعل محذوف، وحقا مفعول مطلق لفعل محذوف أيضا، وقيل: هو نصب على الحال، وفي النفس منه شيء (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) الواو استئنافية، ومن اسم استفهام مبتدأ وأصدق خبر ومن الله متعلقان بأصدق، وقيلا تمييز. [سورة النساء (4) : الآيات 123 الى 124] لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) اللغة: (النقير) : أصله النكتة في ظهر النواة كما تقدم، وهو كناية عن القلة. وللنون مع القاف إذا كانتا فاء للفعل وعينا له معنى فريد يكاد يكون مطّردا، وهو التأثير وترك الأثر بعده، فنقب الحائط معروف، ونقب البيطار سرّة الدابة بالمنقب فأخرج ماء أصفر، ونقح الكلام والشعر، ونقحته السنون نالت منه، ونقده الثمن، ونقد الدرهم أي: ميز جيده ورديئه، وهو من نقدة الشعر ونقاده، ونقر الطائر الحب بمنقاره، ونقر العود والدف: استحدث لهما صوتا بعيد الأثر. وهذا من أوابد هذه اللغة وغرائبها. الإعراب: (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) كلام مستأنف مسوق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 لبيان أن المفاضلة إنما تكون بالعمل الصالح والإنتاج المثمر وأن الايمان ما وقر في القلب ودعمه العمل. وليس فعل ماض ناقص، واسمها فيه خلاف عند النحاة والمعربين، فقيل: هو الوعد، لأنه ليس منوطا بالأماني، وقيل: هو الإيمان المفهوم من قوله: «والذين آمنوا» ، وذلك كله وارد وجيد والمرجع واحد. والباء حرف جر زائد، وأمانيكم مجرور لفظا منصوب محلا لأنه خبر ليس، ولا أماني أهل الكتاب عطف على أمانيكم (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) الجملة استئنافية أو مفسرة، وعلى كل حال لا محل لها من الإعراب، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، ويعمل فعل الشرط، وسوءا مفعول به، ويجز جواب الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وبه متعلقان ب «يجز» ، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» (وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) عطف على «يجز» مجزوم مثله، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، لأنه كان في الأصل صفة ل «وليا» فتقدم عليها، ومن دون الله متعلقان بيجد، بمثابة المفعول الأول، ووليا هو المفعول الثاني ونصيرا عطف على «وليا» (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) الواو عاطفة، ومن اسم شرط جازم مبتدأ، ويعمل فعل الشرط، ومن الصالحات متعلقان بيعمل، ومعنى «من» التبعيض، لأن استيعاب الصالحات غير متاح للمكلفين، وعجيب قول الطبري: إنها زائدة، وليس بشيء. ومن ذكر متعلقان بمحذوف حال لأنها أزالت الإبهام عن «من» ، أو أنثى معطوفة، الواو حالية وهو مبتدأ ومؤمن خبر والجملة نصب على الحال، (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) الفاء رابطة لجواب الشرط، واسم الاشارة مبتدأ وجملة يدخلون الجنة خبر، ولا يظلمون عطف على يدخلون، ونقيرا مفعول مطلق وقد تقدم بحثه. وجملة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 أولئك يدخلون في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط، وجوابه في محل رفع خبر «من» . [سورة النساء (4) : الآيات 125 الى 126] وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126) الإعراب: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) الواو استئنافية، ومن اسم استفهام مبتدأ، وأحسن خبره، ودينا تمييز محوّل عن المبتدأ، وممن متعلقان بأحسن، وجملة أسلم وجهه صلة الموصول لا محل لها، ولله متعلقان ب «أسلم» ، والواو حالية، وهو مبتدأ ومحسن خبر، والجملة حال من الضمير في «أسلم» ، (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) الواو عاطفة، وجملة اتبع معطوفة على جملة أسلم داخلة في حيز الصلة، وملة ابراهيم مفعول به، وحنيفا حال من فاعل اتبع أو من ابراهيم أي: مائلا الى الدين القويم (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا) الواو واو الاعتراض، وجملة اتخذ الله ابراهيم اعتراضية، فائدتها التوكيد على تقريب ابراهيم وتمييزه بأنه اتخذه الله خليلا، وخليلا مفعول به ثان لاتخذ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الواو استئنافية، ولله متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وما اسم موصول مبتدأ مؤخر، وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة الموصول، وما في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 الأرض عطف على ما في السموات (وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) الواو عاطفة أو استئنافية، وكان واسمها، ومحيطا خبرها، وبكل شيء متعلقان ب «محيطا» . البلاغة: في قوله تعالى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا) اعتراض والاعتراض عبارة عن جملة أو أكثر تعترض أثناء الكلام أو بين الكلامين المتصلين وتفيد زيادة في معنى غرض المتكلم غير دفع الإيهام وقد تقدم الكلام عليه عند قوله في البقرة «ولن تفعلوا» ونضيف اليه انه يكون لأغراض متعددة فقد يكون للتنبيه والبيان، قال الشاعر: واعلم فعلم المرء ينفعه ... ان سوف يأتي كل ما قدرا فقوله «فعلم المرء ينفعه» اعتراض للتنبيه والبيان ومثله ما يحكى أن الراضي بالله كتب يعتذر الى أخيه المقتفي وهما في المكتب، وكان المقتفي قد اعتدى على الراضي والراضي هو الكبير منهما فكتب اليه الراضي. يا ذا الذي يغضب من غير شي ... اعتب فعتباك حبيب إليّ أنت على انك لي ظالم ... أعز خلق الله كلّا عليّ فقوله: على انك لي ظالم اعتراض للتنبيه أما في الآية المتقدمة فهي تفيد التأكيد على وجوب اتباع ملة ابراهيم لأن من بلغت به الرتبة والزلفى عند الله أن اتخذه خليلا يوافقه في الخلال كان جديرا بأن تتبع ملته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 وقيل في سبب تسميته ابراهيم خليل الله ان ابراهيم عليه السلام بعث الى خليل له بمصر في أزمة أصابت الناس يمتار منه فقال خليله: لو كان ابراهيم يطلب الميرة لنفسه لفعلت ولكنه يريدها للاضياف فاجتاز غلمانه ببطحاء لينة، فملئوا منها الغرائر (أي العدول) حياء من الناس فلما أخبروا ابراهيم عليه السلام ساءه الخبر وحملته عيناه وعمدت امرأته الى غرارة منها فأخرجت أحسن حواري (أي دقيق) واختبزت واشتم ابراهيم رائحة الخبز فقال: من أين لكم؟ فقالت امرأته: من خليلك المصري فقال: بل من عند خليلي الله عز وجل فسماه الله خليلا. [سورة النساء (4) : آية 127] وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) اللغة: (يَسْتَفْتُونَكَ) : يطلبون منك الفتوى. والفتوى بفتح الفاء، والفتيا بضمها، والجمع الفتاوي بكسر الواو، ويجوز الفتاوى بفتحها للتخفيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 الإعراب: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة للعودة الى ذكر النساء، وبقية ما يتعلق بهنّ من أحكام. ويستفتونك فعل مضارع وفاعل ومفعول به، وفي النساء متعلقان به، وقل فعل أمر وفاعله أنت، والجملة مستأنفة أيضا، والله مبتدأ، ويفتيكم فعل مضارع ومفعول به، والجملة خبر، وجملة الله يفتيكم في محل نصب مقول القول، وفيهن متعلقان بيفتيكم (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ) لك أن تجعل الواو عاطفة فيكون اسم الموصول معطوفا على الله، أي: الله يفتيكم والمتلوّ في كتابه. ولك أن تجعلها اعتراضية فتكون الجملة معترضة لا محل لها، وتكون «ما» مبتدأ خبره محذوف دل عليه ما قبله، أي: يفتيكم. وعليكم متعلقان بيتلى، وفي الكتاب متعلقان بمحذوف حال، وفي يتامى النساء متعلقان بمحذوف بدل من «فيهن» . وإضافة «يتامى» الى «النساء» من باب اضافة الصفة الى الموصوف (اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ) اللاتي اسم موصول صفة للنساء، وجملة لا تؤتونهن صلة، وما اسم موصول مفعول به ثان، وجملة كتب صلة، ولهن متعلقان بكتب (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) عطف على تؤتونهن. وأن تنكحوهن مصدر مؤوّل منصوب بنزع الخافض وهو «في» ، أي: في أن تنكحوهن لجمالهن وما لهنّ، أو «عن» ، أي: ترغبون عن نكاحهن لدمامتهن وفقرهن، فهو من الكلام الموجه كما سيأتي في باب البلاغة (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) عطف على يتامى النساء ومن الولدان متعلقان بمحذوف حال (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) الواو عاطفة والمصدر المؤول مجرور عطفا على المستضعفين، أو تجعل المصدر منصوبا بنزع الخافض، فيكون الجار والمجرور متعلقين بمحذوف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 معطوف على ما تقدم، أي: ويأمركم بأن تقوموا. ولليتامى متعلقان بمحذوف حال، وبالقسط متعلقان بتقوموا (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) الواو استئنافية، وما اسم شرط جازم مبتدأ، وتفعلوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون، ومن خير متعلقان بتفعلوا، والفاء رابطة، وجملة إن الله في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «ما» ، وجملة كان في محل رفع خبر «إن» وعليما خبر كان. وبه الجار والمجرور متعلقان ب «عليما» . البلاغة: في هذه الآية الكلام الموجه، وهو الذي يحتمل معنيين متضادين، وقد سبقت الاشارة اليه، وذلك في قوله: «وترغبون أن تنكحوهن» ، فهن إما جميلات أو دميمات حسب تقدير الجار. روي أن عمر بن الخطاب كان إذا جاءه ولي اليتيمة نظر فان كانت جميلة قال: زوجها غيرك. والتمس لها من هو خير منك، وإن كانت دميمة ولا مال لها قال: تزوجها فأنت أحق بها، وروى مسلم عن عائشة قالت: هذه اليتيمة تكون في حجر وليّها، فيرغب في جمالها ومالها، ويريد أن ينقص من صداقها، فنهوا عن نكاحهنّ إلا أن تقسطوا لهنّ في إكمال الصّداق، وأمروا بنكاح سواهن. قالت عائشة: فاستفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: «ويستفتونك في النساء» الى قوله: «وترغبون أن تنكحوهن» فبيّن لهم أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها، ولم يلحقوها بسنّتها في إكمال الصداق، وإذا كانت مرغوبا عنها في قلة الجمال تركوها تركوها والتمسوا غيرها. هذا وقد تقدم القول في الكلام الموجه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 وبقي أن نقول: إن مما يحتمل المعنيين المتضادين قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام» فهذا الحديث يستخرج منه معنيان ضدان: أحدهما أن المسجد الحرام أفضل من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من المسجد الحرام بل تفضل ما دونها، بخلاف المساجد الباقية، فإن ألف صلاة تقصر عن صلاة واحدة فيه. ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه: «أطولكنّ يدا أسرعكن لحوقا بي» . فلما مات صلوات الله عليه جعلن يطاولن بين أيديهن، حتى ينظرن أيتهنّ أطول يدا، ثم كانت زينب أسرعهن لحوقا به، وكانت كثيرة الصدقة، فعلمن حينئذ أنه لم يرد الجارحة وإنما أراد الصدقة. فهذا القول يدل على المعنيين المشار إليهما. ومن ذلك ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فلم يقل لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته؟ وهذا القول يحتمل وجهين من التأويل، أحدهما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر على خلق من يصحبه، والآخر أنه وصف نفسه بالفطنة والذكاء فيما يقصده من الأعمال، كأنه متفطّن لما في نفس الرسول، فيفعله من غير حاجة الى استئذانه. ومن ذلك ما ورد في أحد الأدعية النبوية، فانه صلى الله عليه وسلم دعا على رجل من المشركين فقال: «اللهمّ اقطع أثره» وهذا يحتمل ثلاثة أوجه من التأويل: الأول أنه دعا عليه بالزّمانة، لأنه إذا زمن لا يستطيع أن يمشي على الأرض، فينقطع حينئذ أثره. الوجه الثاني: أنه دعا عليه بأن لا يكون له نسل من بعده ولا عقب. الوجه الثالث: أنه دعا عليه بأن لا يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 له أثر من الآثار مطلقا، وهو أن لا يفعل فعلا يبقى أثره من بعده، كائنا ما كان، من عقب أو بناء أو غراس أو غير ذلك. قصة خالد بن الوليد وعبد المسيح: ومن ذلك ما يحكى عن عبد المسيح بن بقيلة لما نزل بهم خالد بن الوليد على الحيرة، وذلك أنه خرج اليه عبد المسيح بن بقلية، فلما مثل بين يديه قال: أنعم صباحا أيها الملك فقال له خالد: - قد أغنانا الله عن تحيتك هذه بسلام عليكم، ثم قال له: - من أين أقصى أثرك؟ قال: من ظهر أبي. قال: فمن أين خرجت؟ قال: من بطن أمي. قال: فعلام أنت؟ قال: على الأرض. قال: ففيم أنت؟ قال: في ثيابي. قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل واحد. قال خالد: ما رأيت كاليوم قطّ، أنا أسأله عن الشيء وهو ينحو في غيره! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 وهذا من توجيه الكلام على نمط حسن، وهو يصلح أن يكون جوابا لخالد عما سأل، وهو يصلح أن يكون جوابا لغيره مما ذكره عبد المسيح بن بقيلة. توجيه طريف لافلاطون: ومما يجري على هذا النهج ما يحكى عن أفلاطون أنه قال: «ترك الدواء دواء» ، فذهب بعض الأطباء أنه أراد: إن لطف المزاج وانتهى الى غاية لا يحتمل الدواء فتركه حينئذ والاضراب عنه دواء. وذهب آخرون أنه أراد بالترك الوضع، أي وضع الدواء على الداء دواء. يشير بذلك الى حذق الطبيب في أوقات علاجه. التوجيه المضاد في الشعر: فاذا عدنا الى الشعر وأينا الفرزدق ينحو في شعره هذا النحو من التوجيه فيقول: إذا جعفر مرّت على هضبة الحمى ... فقد أخزت الاحياء منها قبورها وهذا- كما ترى- يدل على معنيين متضادين: أحدهما ذمّ الاحياء، والآخر ذم الأموات. أما ذم الاحياء فهو أنهم خذلوا الأموات، يريد أنهم تلاقوا في قتالهم وقوما آخرين ففرّ الاحياء عنهم وأسلموهم، أو أنهم استنجدوهم فلم ينجدوهم. وأما ذم الأموات فهو أن لهم مخازي وفضائح توجب عارا وشنارا، فهم يعيرون بها الاحياء ويلصقونها بهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 بيت لأبي تمام: وعلى هذا ورد قول أبي تمّام: بالشعر طول إذا اصطكّت قصائده ... في معشر وبه عن معشر قصر فهذا البيت يحتمل تأويلين متضادين: أحدهما أن الشعر يتسع مجاله بمدحك، ويضيق بمدح غيرك. يريد بذلك أن مآثره كثيرة، ومآثر غيره قليلة. والآخر: أن الشعر يكون ذا فخر ونباهة بمدحك، وذا خسول وتبليد بمدح غيرك. فلفظة الطول يفهم منها ضدّ القصر، ويفهم منها الفخر، من قولنا: طال فلان على فلان أي فخر عليه. بيت أبي كبير الهذليّ: ومما ينتظم بهذا السلك قول أبي كبير الهذلي: عجبت لسعي الدهر بيني وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر وهذا يحتمل وجهين من التأويل: أحدهما أنه أراد بسعي الدهر سرعة تقضّي الأوقات مدة الوصال، فلما انقضى الوصل عاد الدهر الى حالته في السكون والبطء، والآخر أنه أراد بسعي الدهر سعي أهل الدهر بالنمائم والوشايات، فلما انقضى ما كان بينهما من الوصل سكنوا وتركوا السعاية. وهذا من باب وضع المضاف اليه مكان المضاف، كقوله تعالى: «واسأل القرية» أي: أهل القرية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 بيت أبي الطيب المتنبي: ومن المعنى الدقيق في هذا الصدد قول أبي الطيب المتنبي في مديح عضد الدولة: لو فطنت خيله لنائله ... لم يرضها أن تراه يرضاها وهذا يستنبط منه معنيان ضدان: أحدهما أن خيله لو علمت مقدار عطاياه النفيسة لما رضيت له بأن تكون من جملة عطاياه، لأن عطاياه أنفس منها. والآخر أن خيله لو علمت أنّه يهبها من جملة عطاياه لما رضيت ذلك إذ تكره خروجها عن ملكه. وبين الحقيقة والمجاز: وهذا كله لا يعدو الحقيقة، فإذا احتمل الحقيقة والمجاز وتجاذباه، بلغ أسمى درجات الإعجاز، وسيأتي في مواطنه. ولكننا حرصا على إتمام البحث نورد مثالا واحدا من الشعر، وفيه نرى المعنيين مجازيين كقول أبي تمام: قد بلونا أبا سعيد حديثا ... وبلونا أبا سعيد قديما ووردناه ساحلا وقليبا ... ورعيناه بارضا وجميما فعلمنا أن ليس إلّا بشق ... النفس صار الكريم يدعى كريما فالساحل والقليب يستخرج منهما تأويلان مجازيان، أحدهما أنه أراد بهما الكثير والقليل بالنسبة الى الساحل والقليب، والآخر أنه أراد بهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 السبب وغير السبب، فإن الساحل لا يحتاج في ورده الى سبب، والقليب يحتاج في ورده الى سبب، وكلا هذين المعنيين مجاز، فإن حقيقة الساحل والقليب غيرهما، والوجه هو الثاني لأنه أدلّ على بلاغة القائل، ومدح المقول فيه. أما بلاغة القائل فالسلامة من هجنة التكرير، والمخالفة بين صدر البيت وعجزه يدلّ على القليل والكثير، لأن البارض هو أول النبت حين يبدو، فإذا كثر وتكاثف سمي جميما، فكأنه قال: أخذنا منه تبرعا ومسألة، وقليلا وكثيرا، وأما مدح المقول فيه فلتعداد حالاته الأربع في تبرعه وسؤاله، وإكثاره وإقلاله، وما في معاناة هذه الأحوال من المشاق. والكلام في هذا يطول، ولكنه كالحسن غير مملول. الفوائد: 1- يقاس حذف الجار في أنّ وأن بشرط أمن اللبس، ويشكل عليه قوله تعالى: «وترغبون أن تنكحوهن» فحذف الجار هنا مع أن اللبس موجود، بدليل أن المفسرين اختلفوا في المراد، فبعضهم قدر «في» وبعضهم قدر «عن» ، واستدل كلّ على ما ذهب اليه، وأجيب عنه بجوابين: أ- أن يكون حذف الجر اعتمادا على القرينة الرافعة للّبس. ب- أن يكون حذف لقصد الإبهام ليرتدع بذلك من يرغب فيهن لجمالهنّ ومالهنّ، ومن يرغب عنهن لدمامتهن وفقرهن. فالاختلاف إذن في القرينة. 2- أجازوا في يتامى النساء أوجها أخرى نوردها ترويضا للذهن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 منها انهما بدل اشتمال من قوله في الكتاب ولا بد من تقدير مضاف أي في حكم يتامى النساء ولا شك أن الكتاب مشتمل على ذكر أحكامهن ومنها أنهما متعلقان بيتلى وساغ تعلق حرفي جر بلفظ واحد لأن معناهما مختلف. قال أبو البقاء: كما تقول: جئتك في يوم الجمعة في أمر زيد ومنها أنهما متعلقان بمحذوف حال أي كائنا في حكم يتامى النساء. [سورة النساء (4) : الآيات 128 الى 130] وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) اللغة: (النّشوز) النبوة والتجافي عنها، وأن يمنعها نفسه وثقته ومحبته، وتطمح عيناه الى أجمل منها. (الإعراض:) أن يقلّ محادثتها ومؤانستها ومضاجعتها. (المعلقة:) هي التي ليست بذات بعل ولا مطلقة، قالت: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 هل هي إلا حظة أو تطليق ... أو صلف أو بين ذاك تعليق وهذا بيت طريف، تستنكر الشاعرة حالة الزوجة مع زوجها، وتصفها بأنها ليست سوى حظة صغيرة بحظوة الزوج بها، أو تطليق لها، أو صلف، أي عدم حظوة من الزوج. يقال: نساء صلائف وصالفات: لم يحظهنّ الزوج، أو تعليق بين ذلك المذكور من الأحوال. والحظ النصيب والجد، ولعل الحظة واحد الحظّ، وصلفت المرأة صلفا إذا لم تحظ عند زوجها وأبغضها. الإعراب: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة لتقرير حكم من أهم الأحكام، ومعالجة لأخطر موضوع اجتماعي. وأن شرطية وامرأة فاعل لفعل محذوف يفسره ما بعده، ولا يجوز رفعها على الابتداء، لأن الشرط يتقاضى الفعل، وجملة خافت من بعلها مفسرة لا محل لها، ومن بعلها متعلقان بخافت أو بمحذوف حال، لأنه كان صفة في الأصل ل «نشوزا» فلما قدم عليها أعرب حالا. ونشوزا مفعول به وإعراضا عطف على «نشوزا» (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) الفاء رابطة، ولا نافية للجنس، وجناح اسمها، وعليهما متعلقان بمحذوف خبرها، وأن يصلحا بينهما مصدر مؤول منصوب بنزع الخافض أي: في أن يصلحا، والجار والمجرور متعلقان بجناح أو بمحذوف صفة له، وبينهما ظرف متعلق بمحذوف حال، لأنه كان صفة ل «صلحا» ثم تقدمت الصفة على الموصوف فأعربت حالا. وصلحا مفعول مطلق وتفاصيل الصلح مبسوطة في كتب الفقه (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) الواو اعتراضية، والجملة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 المبتدأ والخبر معترضة لا محل لها (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) الواو اعتراضية أيضا، وأحضرت فعل ماض مبني للمجهول، والأنفس نائب فاعل، والشحّ مفعول به ثان، والجملة معترضة أيضا (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) الواو عاطفة أو استئنافية، وإن شرطية وتحسنوا فعل الشرط وتتقوا عطف عليه، وجواب الشرط محذوف للعلم به، أي: فالاحسان والاتقاء خير، والفاء تعليلية، وإن واسمها، وجملة كان خبرها، وبما تعملون متعلقان ب «خبيرا» ، وجملة تعملون لا محل لها لأنها صلة الموصول، وخبيرا خبر كان (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) الواو استئنافية، ولن حرف نفي ونصب واستقبال، وتستطيعوا مضارع منصوب بلن وعلامة نصبه حذف النون، وأن تعدلوا مصدر مؤول مفعول به لتستطيعوا، وبين النساء ظرف متعلق بتعدلوا (وَلَوْ حَرَصْتُمْ) الواو حالية، ويسميها بعضهم وصلية، ولو شرطية، وحرصتم فعل وفاعل (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) الفاء الفصيحة، أي: إذا عرفتم ذلك فلا تميلوا، فتكون الجملة لا محل لها، ولا ناهية، وتميلوا مضارع مجزوم بلا، وكل الميل مفعول مطلق، فتذروها الفاء هي السببية، فتنصب تذروها بأن مضمرة بعدها، لأنها وقعت في جواب النهي، ويجوز أن تكون الفاء عاطفة، فتجزم «تذروها» عطفا على تميلوا، وكالمعلقة الكاف اسم بمعنى مثل فتكون في محل نصب على الحال من الهاء في تذروها، أو هي جارّة فيتعلق الجار والمجرور بمحذوف على الحالية كما تقدم، أي: مشابهة للمعلقة. (وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) تقدم اعراب مثيلتها قريبا (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) الواو عاطفة، وإن شرطية، ويتفرقا فعل الشرط وألف الاثنين فاعل، ويغن جواب الشرط علامة جزمه حذف حرف العلة، والله فاعل، وكلّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 مفعول به، ومن سعته متعلقان ب «يغن» (وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً) تقدم إعرابه كثيرا. الفوائد: 1- إذا وقع ما هو فاعل في المعنى بعد أداة مختصة بالأفعال أعرب فاعلا لفعل محذوف يفسّره الفعل المذكور بعده، لأن اختصاص هذه الأدوات بالفعل يحتم ذلك، وإلا وقع التناقض، وذلك مثل أدوات الشرط. وأجاز الكوفيون وبعض البصريين إعرابه مبتدأ، وساغ الابتداء به إذا كان نكرة تقدمت أداة الشرط عليه، أما إذا كانت الأداة مترجحة بين الفعل والاسم نحو: «أبشر يهدوننا» فيجوز إعرابه «بشر» مبتدأ، وهو الأرجح، وجملة يهدوننا خبره، ويجوز إعرابه فاعلا لفعل محذوف يفسره الفعل المذكور بعده، وهو «يهدوننا» ، لأن همزة الاستفهام تتعاور كلّا من الاسم والفعل. 2- يجوز حذف ما علم من شرط إذا كانت الأداة «إن» أو «من» حال كونها مقرونة ب «لا» النافية، كقول الأحوص: فطلّقها فلست لها بكفء ... وإلا يعل مفرقك الحسام أي وإلّا تطلقها يعل مفرقك الحسام. وقد يتخلف واحد من «إن» والاقتران بلا، وقد يتخلفان معا. فالأول ما حكاه ابن الأنباري في الإنصاف عن العرب: من يسلّم عليك فسلم عليه، ومن لا فلا تعبأ به. أي: ومن لا يسلم عليك فلا تعبأ به. والثاني نحو: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 «وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا» فحذف الشرط مع انتفاء الاقتران ب «لا» ، أي: وإن خافت امرأة خافت ... والثالث كقوله: متى تؤخذوا قسرا بظنّة عامر ... ولم ينج إلا في الصفاد أسير أي متى تثقفوا تؤخذوا، فحذف الشرط مع انتفاء الأمرين. [سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 132] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) الإعراب: (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الواو استئنافية، ولله متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وما اسم موصول مبتدأ مؤخر، وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة الموصول، وما في الأرض عطف على ما في السموات (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ) الواو استئنافية، واللام جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق ووصينا فعل وفاعل والذين مفعول به وجملة أوتوا الكتاب صلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 والكتاب مفعول به ثان ل «أوتوا» وجملة قد وصينا لا محل لها لأنها جواب للقسم المقدّر، ومن قبلكم متعلقان بمحذوف حال، وإياكم عطف على الذين، أي: ووصيناكم (أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) أن مفسرة بمعنى أي، لأن التوصية في معنى القول، أو مصدرية، وهي والفعل بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، أي: بأن اتقوا والجار والمجرور متعلقان بوصينا (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الواو حرف عطف، وإن حرف شرط جازم، وتكفروا فعل الشرط والجواب محذوف تقديره: فلن تضروه شيئا، والفاء عاطفة، وإن حرف مشبه بالفعل ولله متعلقان بمحذوف خبر إن المقدم، وما اسم موصول اسم إنّ المؤخر، وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة الموصول، وما في الأرض عطف على ما في السموات (وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً) الواو عاطفة وكان واسمها وخبراها (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر «ما» المقدم وما اسم موصول مبتدأ مؤخر، وفي السموات جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول، وما في الأرض عطف على ما في السموات (وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) الواو استئنافية وكفى فعل ماض، والباء حرف جر زيد بالفاعل وهو الله، ووكيلا تمييز. [سورة النساء (4) : الآيات 133 الى 134] إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 الإعراب: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) إن شرطية ويشأ فعل الشرط، ويذهبكم جواب الشرط وأيها الناس تقدم إعرابه ويأت عطف على بذهبكم، وبآخرين جار ومجرور متعلقان بيأت (وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) الواو حالية أو استئنافية، وكان واسمها، وقديرا خبرها، وعلى ذلك متعلقان ب «قديرا» (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا) من اسم شرط جازم مبتدأ، وكان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط، واسمها مستتر يعود على «من» ، وجملة يريد خبرها، وثواب الدنيا مفعول به (فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الفاء رابطة للجواب، وعند ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، ولفظ الجلالة مضاف اليه، وثواب الدنيا والآخرة مبتدأ مؤخر، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» ، (وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً) الواو استئنافية، وكان واسمها وخبراها. [سورة النساء (4) : آية 135] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 اللغة: (القسط) العدل. وفي المصباح المنير: قسط يقسط قسطا، من باب ضرب: جار وعدل أيضا، فهو من الأضداد، قاله ابن القطّاع. وأقسط بالألف: عدل، والاسم القسط بالكسر. (تَلْوُوا) : تميلوا ألسنتكم معرضين عن الحق. ويقال: لواني الرجل حقي، والقوم يلوونني ديني وذلك إذا مطلوه ليّا. فالمراد باللي المطل، قال الأعشى: يلوينني ديني النّهار وأقتضي ... ديني إذا وقذ النّعاس الراقدا وهذا البيت من أبيات جياد أولها: إن الغواني لا يواصلن امرأ ... فقد الشباب وقد يصلن الأمردا الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعراب نظائره (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) كلام مستأنف مسوق للقيام بالقسط مع الغنيّ والفقير على السواء، وكونوا فعل أمر ناقص والواو اسمها، وقوامين خبرها، وبالقسط متعلقان بقوامين (شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) شهداء خبر ثان لكونوا، ولله جار ومجرور متعلقان بشهداء والواو حالية، ولو شرطية، وعلى أنفسكم متعلقان بمحذوف خبر لكان المحذوفة هي واسمها بعد لو الشرطية، أي: ولو كانت الشهادة على أنفسكم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 وجواب لو محذوف، أي فلا تحجموا عن أداء الشهادة. (أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) عطف على أنفسكم (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما) إن شرطية ويكن فعل مضارع ناقص فعل الشرط واسم يكن ضمير مستتر تقديره: المشهود عليه، وغنيا خبر يكن، أو حرف عطف وفقيرا عطف على «غنيا» ، فالله الفاء رابطة لجواب الشرط، والله مبتدأ وأولى خبر وبهما متعلقان بأولى، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) الفاء الفصيحة ولا ناهية، وتتبعوا فعل مضارع مجزوم بلا، والواو فاعل، والهوى مفعول به، وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول لأجله من «تعدلوا» ، إما من العدل فيكون التقدير كراهية أن تعدلوا وإما من العدول فيكون التقدير: بغية أن أن تعدلوا (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) الواو عاطفة وإن شرطية، تلووا فعل الشرط، أو تعرضوا عطف عليه، وجواب الشرط محذوف دلت عليه الفاء الرابطة، والتقدير يعاقبكم، وإن واسمها، وجملة كان خبرها وبما تعملون متعلقان ب «خبيرا» ، وجملة تعملون لا محل لها لأنها صلة الموصول، وخبيرا خبر «كان» والجملة كلها تعليل لما تقدم لا محل لها. الفوائد: 1- اختلف النحاة في عود الضمير في قوله: «بهما» ، والقاعدة أنه إذا عطفت ب «أو» كان الحكم في عود الضمير أو الاخبار وغيرهما لأحد الشيئين أو الأشياء، فتقول: زيد أو عمرو أكرمته، ولا يقال: أكرمتهما، وعلى هذا يرد الاعتراض الآتي: كيف ثنى الضمير في قوله «بهما» والعطف ب «أو» ؟ وتقرير الجواب يتلخص فيما يلي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 أ- إن الضمير في «بهما» ليس عائدا على الغني والفقير المذكورين، بل على جنس الغني والفقير، والجنس واحد. ب- إن «أو» ليست للتخيير بل للتفصيل، وهذا ما جنح اليه أبو البقاء، فقال ما معناه: إن كل واحد من المشهود له والمشهود عليه يجوز أن يكون غنيا وأن يكون فقيرا، وقد يكونان غنيين وقد يكونان فقيرين، فلما كانت الأقسام عند التفصيل على ذلك، ولم تذكر، أتى ب «أو» لتدل على التفصيل، فعلى هذا يكون الضمير في «بهما» عائدا على المشهود له والمشهود عليه. على أيّ وصف كانا عليه. عبارة ابن جرير: أما ابن جرير فقال: أريد: فالله أولى بغنى الغنيّ وفقر الفقير، لأن ذلك منه لا من غيره، فلذلك قال: «بهما» ولم يقل «به» . وقال آخرون: أو بمعنى الواو في هذا الموضع. 2- كثر حذف «كان» واسمها بعد «إن» و «لو» الشرطيتين. لأن «إن» أمّ الأدوات الجازمة، و «لو» أم الأدوات غير الجازمة، كما أن «كان» أمّ بابها. وهم يتوسّعون في الأمهات ما لم يتوسعوا في غيرها. ومن أمثلة حذف كان واسمها بعد إن في الشعر قول النعمان بن المنذر: قد قيل ما قيل إن صدقا وإن كذبا ... فما اعتذارك من قول إذا قيلا أي: إن كان المقول صدقا وإن كان المقول كذبا. ومن أمثلة حذفها مع اسمها بعد «لو» قول الآخر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 لا يأمن الدهر ذو بغي ولو ملكا ... جنوده ضاق عنها السهل والجبل أي: ولو كان الباغي ملكا. [سورة النساء (4) : آية 136] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) كلام مستأنف مسوق للأمر بالثبات على الايمان. وآمنوا فعل أمر والواو فاعل، وبالله متعلقان بآمنوا، ورسوله عطف على الله، والكتاب عطف أيضا، والذي صفة للكتاب، وجملة نزل على رسوله صلة الموصول (وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) والكتاب عطف أيضا، أي جنس الكتاب، فالمراد الكتب المنزّلة، والذي صفة وجملة أنزل صلة الموصول ومن حرف جر، وقبل ظرف مبني على الضم لانقطاعه عن الاضافة لفظا لا معنى، والجار والمجرور متعلقان بأنزل (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويكفر فعل الشرط، وبالله متعلقان بيكفر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 وما بعده عطف عليه (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً) فقد الفاء رابطة لجواب الشرط، وقد حرف تحقيق، وضل فعل ماض وضلالا مفعول مطلق، وبعيدا صفة. والجملة في محل جزم جواب الشرط، وجملة فعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر «من» . [سورة النساء (4) : آية 137] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) كلام مستأنف مسوق لوصف ترجح اليهود والمنافقين في مهاوي الفتن والقلق. وإن واسمها، وجملة آمنوا صلة، وكرر العطف تبيانا لمآلهم وصيرورتهم وترجحهم بين الكفر والايمان، وكفرا تمييز (لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا) الجملة خبر إنّ، ولم حرف نفي وقلب وجزم، ويكن فعل مضارع ناقص، والله اسمها وليغفر اللام لام الجحود، ويغفر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعدها، والجار والمجرور- لام الجحود والمصدر المؤول- متعلقان بمحذوف خبر يكن، أي: مريدا ليغفر لهم، والجار والمجرور «لهم» متعلقان بيغفر ولا ليهديهم عطف على ما تقدم وسبيلا مفعول به ثان ليهديهم، أو منصوب بنزع الخافض، والجار والمجرور متعلقان بيهديهم. [سورة النساء (4) : الآيات 138 الى 140] بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 اللغة: (بَشِّرِ) البشارة: الخبر السارّ، وسمي الخبر السار بشارة لأنه يظهر سرورا في البشرة، أي ظاهر الجلد. وسيأتي مزيد منه في باب البلاغة. (العزة) : معروفة، وأصلها في اللغة: الشدة. ومنه قيل للارض الصلبة الشديدة عزاز بفتح العين، وقيل: قد استعزّ على المريض: إذا اشتد، ومنه قيل: عزّ عليّ أن يكون كذا وكذا أي: اشتدّ. الإعراب: (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) كلام مستأنف مسوق للتنديد بالمنافقين. وبشر المنافقين فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به، والباء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 حرف جر وأن وما في حيزها في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان ب «بشّر» ، ولهم متعلقان بمحذوف خبر أن المقدم، وعذابا اسمها المؤخر، وأليما صفة (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) الذين نعت للمنافقين أو منصوب على الذم لأنهم يوالون اليهود، وجملة يتخذون صلة الموصول، والواو فاعل والمؤمنين مفعول به أول، وأولياء مفعول به ثان، ومن دون المؤمنين متعلقان بمحذوف حال من فاعل يتخذون أو صفة لأولياء (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ؟) الهمزة للاستفهام الإنكاري، ويبتغون فعل مضارع والواو فاعل، وعندهم ظرف متعلق بيبتغون، والعزة مفعول به، والجملة مستأنفة مسوقة للإنكار عليهم، ولك أن تجعلها نصبا على الحال، أي: متوهمين أن لديهم العزة (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) الفاء للتعليل وإن واسمها، ولله الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبرها، وجميعا حال، والجملة تعليلية لا محل لها (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) الواو استئنافية وقد حرف تحقيق، ونزل فعل ماض وفاعله مستتر، وعليكم متعلقان بنزل، وفي الكتاب متعلقان بنزل أيضا أو بمحذوف حال. وأن المفتوحة الهمزة هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وهي في تأويل مصدر مفعول «نزل» ، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط، وجملة سمعتم في محل جر بالإضافة، وآيات الله مفعول به وجملة إذا وشرطها وجزاؤها خبر «أن» وجملة يكفر بها حالية. وجملة ويستهزأ بها عطف عليها، وبها جار ومجرور سد مسد نائب الفاعل في الفعلين (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) الفاء رابطة لجواب إذا، ولا ناهية وتقعدوا فعل مضارع مجزوم بلا، ومعهم ظرف مكان متعلق بمحذوف حال، وحتى حرف غاية وجر ويخوضوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى، والجار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 والمجرور متعلقان بتقعدوا، وفي حديث متعلقان بيخوضوا وغيره صفة لحديث (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) إن واسمها، واذن حرف جواب وجزء مهمل لتوسطه، ومثلهم خبر إن، ولم يطابق بين الاسم والخبر فأفرد «مثل» وأخبر بها عن الجمع كما طابق في موضع آخر فقال: «وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون» لأن «مثل» بمعنى المصدر، وتقدير المعنى إن عصيانكم مثل عصيانهم والجملة لا محل لها لأنها تعليل للنهي (إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) الجملة تعليل ثان للمثلية، وسيأتي مزيد من هذه المثلية في باب البلاغة، وإن واسمها وخبرها. وفي جهنم متعلقان بجامع، وجميعا حال. البلاغة: 1- التهكم في قوله «بشر» . والتهكم في الأصل اللغوي تهدّم البناء، يقال: تهكمت البئر إذا تهدمت، والغضب الشديد والتندّم على الأمر الفائت. وفي الاصطلاح البلاغي هو الاستهزاء والسخرية من المتكبرين لمخاطبتهم بلفظ الإجلال في موضع التحقير، والبشارة في موضع التحذير، والوعد في موضع الوعيد. وإنما بسطنا القول في هذا الفن بشيء من التفصيل لأن القرآن طافح بأمثلة التهكم، وستأتي في مواضعها. ومن طريف هذا الفن في الشعر قول ابن الرومي: فيا له من عمل صالح ... يرفعه الله الى أسفل وله في وصف ابن حصينة الأحدب من أبيات غاية في التهكم الذي وضع المديح موضع الهزء والسخرية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 لا تظنّنّ حدبة الظهر عيبا ... فهي في الحسن من صفات الهلال وكذاك القسيّ محدودبات ... وهي أنكى من الظّبا والعوالي وإذا ما علا السنام ففيه ... لقدوم الجمال أي جمال!! وأرى الانحناء في منسر البا ... زي ولم يعد مخلب الرئبال ما رأتها النساء إلا تمنّت ... لو غدت حلية لكل الرجال وختم ابن الرومي هذه الصورة الفنية الساخرة بقوله: وإذا لم يكن من الهجر بدّ ... فعسى أن تزورني في الخيال 2- الاستعارة التصريحية التبعية في قوله «بشر» لأن البشارة الخبر السار، وسمي بشارة لأنه يظهر سرورا في البشرة، أي: ظاهر الجلد. 3- التشبيه في قوله: «إنكم إذن مثلهم» ، والمثلية بين الكافرين والمنافقين تظهر في الآية بين القاعدين والمقعود معهم، فإن الذين يشايعون الكفرة ويوالونهم ويمدون أيدي الاستخذاء والذل إليهم مع قدرتهم على الصمود والتحدي هم مثل الكفرة، وإن لم يكونوا منهم، بل إن شرهم أشد والخطر منهم أجدر بالحذر، لأنهم إذا لم ينكروا عليهم كانوا راضين، والراضي بالكفر كافر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 [سورة النساء (4) : آية 141] الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) اللغة: (يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) ينتظرون ما يتجدد لكم من ظفر أو إخفاق. وفي المصباح: «تربصت الأمر تربّصا: انتظرته. والرّبصة وزان غرفة: اسم منه، وتربصت الأمر بفلان: انتظرت وقوعه به. ويغلب أن تردفه كلمة الدوائر، وهي تكون دائما في الشر، لأنها دائرة، أي الأمور التي تدور وتحدث في الزمن من النوائب والمحن، ولكنها هنا محتلة للخير والشر معا، بدليل التفصيل بقوله: «فإن كان لكم فتح» إلخ ... (نَسْتَحْوِذْ) : مضارع استحوذ، وهو ما شذّ قياسا وفصح استعمالا، لأن من حقه نقل حركة حرف علته الى الساكن قبلها وقلبها ألفا. كاستقام واستعاد ونحوهما. والاستحواذ: التغلب على الشيء والاستيلاء عليه، يقال: حاذ وأحاذ، فهو ثلاثي ورباعي بمعنى. وأحوذ، ومن لغة من قال أحوذ قول لبيد في صفة غير وأتن: إذا اجتمعت وأحوذ جانبيها ... وأوردها على عوج طوال الإعراب: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) اسم الموصول صفة للمنافقين أو منصوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 على الذم، وجملة يتربصون بكم صلة الموصول (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟) الفاء استئنافية، وإن شرطية، وكان فعل ماض ناقص فعل الشرط، ولكم متعلقان بمحذوف خبرها المقدم، وفتح اسمها المؤخر، ومن الله متعلقان بمحذوف صفة لفتح، وقالوا فعل وفاعل في محل جزم جواب الشرط، وجملة ألم نكن معكم في محل نصب مقول القول، ومعكم ظرف متعلق بمحذوف خبر نكن (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) الواو عاطفة وإن شرطية، وكان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط، وللكافرين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كان المقدم، ونصيب اسمها المؤخر (قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) قالوا فعل وفاعل في محل جزم جواب الشرط، وجملة ألم نستحوذ عليكم في محل نصب مقول القول (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) نمنعكم عطف على نستحوذ، ومن المؤمنين متعلقان بنمنعكم (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الفاء استئنافية، والله مبتدأ، وجملة يحكم خبر، وبينكم ظرف متعلق بيحكم، وكذلك يوم القيامة (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) الواو عاطفة، ولن حرف نفي ونصب واستقبال، ويجعل مضارع منصوب بلن، والله فاعل، وللكافرين متعلقان بيجعل بمثابة مفعولها الاول، وسبيلا مفعولها الثاني. وعلى المؤمنين متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لسبيلا وتقدمت عليه. البلاغة: في هذه الآية مجاز مرسل، وذلك في قوله «فتح» فقد سمى الظفر الذي ناله المسلمون فتحا باعتبار ما يئول اليه الظفر. لأنه أمر تبتهج له النفوس، وتطمئن اليه القلوب، وتتفتح له أبواب السماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 وقد رمق الشعراء سماء هذا المعنى وكان السابق في هذا الميدان أبا تمام الطائي في قصيدته فتح الفتوح التي مدح بها المعتصم بالله، ووصف وقعة عمورية، وقد قالها سنة مئتين وثلاث وعشرين للهجرة. وعمّورية من أعظم بلاد الروم في آسية الصغرى. وكان السبب في زحف المعتصم إليها أن تيوفيل بن ميخائيل ملك الروم خرج الى بلاد المسلمين فبلغ زبطرة، وهي بلدة في آسية الصغرى بين ملطية وسميساط، وفيها ولد المعتصم، فاستباحها قتلا وسبيا، ثم أغار على ملطيه وغيرها، فقتل وسبى ومثّل بالأسرى. وبلغ الخبر المعتصم فاستعظمه، وقيل: إن عربية صاحت وهي في أيدي الروم: وا معتصماه! فأجاب وهو على سريره: لبيك، لبيك. ونهض ونادى بالنفير وسار الى عمورية. وتقول الرواية العربية: إنها المدينة التي ولد فيها تيوفيل، وحاصرها واستدل على عورة في السور فرمى السور من هذه الناحية فتصدع، ودخل العرب المدينة، وذبحوا سكانها وأحرقوها وسبوا نساءها وأولادها، وكان أبو تمام في صحبته وشهد الواقعة بنفسه، وكان المنجمون قد زعموا للمعتصم أن الزمان لا يوافق الفتح، وأن المدينة لا تفتح إلا في وقت نضج التين والعنب، فلم يسمع المعتصم لقولهم وسار بجيشه ففتحها. ونجد أبا تمام يتحدث عن هذا كله في قصيدته فكأنها سجل تاريخي لهذه الموقعة العظيمة، وقد استهلها بقوله: السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والريب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 فتح الفتوح تعالى أن يحيط به ... نظم من الشعر أو نثر من ا لخطب فتح تفتح أبواب السماء له ... وتبرز الأرض في أثوابها القشب ثم يقول مخاطبا المعتصم: لقد تركت أمير المؤمنين بها ... للنار يوما ذليل الصخر والخشب ويتحدث عن هزيمة ملك الروم: لما رأى الحرب رأي العين توفلس ... والحرب مشتقة المعنى من الحرب ولى وقد ألجم الخطي منطقه ... بسكتة تحتها الأحشاء في صخب تسعون ألفا كآساد الشرى نضجت ... جلودهم قبل نضج التين والعنب ومن البلاغة بالمكانة العالية أنه سمى ظفر المسلمين فتحا، وسمى ظفر الكافرين نصيبا، تعظيما لشأن الأولين وتنويها بأن النتيجة الحتمية هي للصابرين المؤمنين المتذرعين بالعقيدة التي لا تتحلحل ولا تهون، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 وللإشعار بأن ظفر الكافرين ما هو في عمر الزمن إلا حظ دنيّ، ولحظة من الدنيا يصيبونها، وملاوة من العيش يسبحون في تيارها. [سورة النساء (4) : الآيات 142 الى 143] إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) اللغة: (مُذَبْذَبِينَ) : المذبذب: الذي يذبّ عن كلا الجانبين. أي: يذاد ويدفع فلا يقرّ في جانب واحد. وفي الذبذبة تكرير ليس في الذّب، كأن تكرير الحروف إشعار بتكرير المعنى، فهم مترجحون متطوحون في سيّال الحيرة، كلما مال بهم الهوى الى جانب دفعوا الى جانب آخر. الإعراب: (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان نمط آخر من أعمالهم القبيحة. وإن واسمها، وجملة يخادعون الله خبرها، والواو واو الحال، وهو مبتدأ وخادعهم خبر، والجملة نصب على الحال (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) الواو عاطفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط، وجملة قاموا في محل جر بالإضافة، والى الصلاة جار ومجرور متعلقان بقاموا، وجملة قاموا الثانية لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وكسالى حال (يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) الجملة حالية، وقد التبس الأمر على أبي البقاء فأعربها بدلا من «كسالى» ، وهي ليست كلّا له، ولا بعضا منه، وليس هو مشتملا عليها. وأصل يراءون يرائيون، فجري عليها الإعلال المعروف. والناس مفعول به، ولا يذكرون الله عطف على يراءون الناس، وإلا أداة حصر وقليلا مفعول مطلق، أي: ذكرا قليلا، أو ظرف أي: وقتا قليلا (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ) مذبذبين حال، لأنه اسم مشتق، وبين ظرف متعلق بمذبذبين، وذلك مضاف إليه، والاشارة الى الكفر والايمان (لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، أي لا منسوبين الى هؤلاء ولا إلى هؤلاء (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) الواو استئنافية، ومن اسم شرط جازم مبتدأ، ويضلل الله فعل الشرط، والفاء رابطة وجملة لن تجد له سبيلا في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» . البلاغة: 1- المشاكلة في قوله: «وهو خادعهم» وقد مرت، فجدد بها عهدا. وقد سمى العقاب والجزاء باسم الذنب. 2- جناس التحريف: وهو ما تماثل ركناه لفظا واختلف أحد ركنيه عن الآخر هيئة، وذلك في قوله: «مذبذبين بين ذلك» . ومن أمثلته في الشعر قول صفي الدين الحلي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 شديد البأس في أمر مطاع ... مضارب كل أقوام مطاعن [سورة النساء (4) : الآيات 144 الى 146] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) اللغة: (الدرك) : بسكون الراء وفتحها: أقصى قعر الشيء، يقال بلغ الغواص درك البحر. وقال الحريري في درّة الغواص: ويقولون لما ينحدر فيه درجا وهو درك، وما يرتقى فيه درج. وفي الحديث: «إن الجنة درجات والنار دركات» وتعقّبه بعضهم فقال: إن الأمر في هذا سهل، لأن ما ينحدر فيه يرتقى فيه أيضا. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم اعراب هذا النداء، فجدّد به عهدا (لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) كلام مستأنف مسوق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 للنهي عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصفياء. ولا ناهية، وتتخذوا فعل مضارع مجزوم بلا، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعل، والكافرين مفعول به أول وأولياء مفعول به ثان، ومن دون المؤمنين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لأولياء (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) كلام مستأنف مسوق للإنكار عليهم لجنوحهم الى اقامة الحجة على أنفسهم بأيديهم. والهمزة للاستفهام الإنكاري، وتريدون فعل مضارع وفاعل، وأن تجعلوا المصدر المؤول من أن وما في حيزها مفعول تريدون، ولله جار ومجرور متعلقان بتجعلوا بمثابة المفعول الاول، وعليكم متعلقان بمحذوف حال، وسلطانا مفعول به ثان لتجعلوا، ومبينا صفة (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) الجملة مستأنفة لبيان مصير المنافقين وهو الدرك الأسفل من النار. وإن واسمها، وفي الدرك متعلقان بمحذوف خبر إن، والأسفل صفة للدرك، ومن النار جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) الواو عاطفة، ولن حرف نفي ونصب واستقبال، وتجد فعل مضارع منصوب بلن، ولهم جار ومجرور متعلقان ب «نصيرا» ، ونصيرا مفعول تجد (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) إلا أداة استثناء، والذين مستثنى وجملة الاستثناء حالية، وجملة تابوا لا محل لها صلة الموصول (وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) عطف على تابوا، ودينهم مفعول أخلصوا، ولله جار ومجرور متعلقان بأخلصوا (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) الفاء استئنافية، واسم الاشارة مبتدأ، ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر أولئك، والمؤمنين مضاف اليه مجرور بالياء (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) الواو استئنافية، وسوف حرف استقبال، ويؤتي الله فعل وفاعل، والمؤمنين مفعول به أول، وأجرا مفعول به ثان، وعظيما صفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 [سورة النساء (4) : آية 147] ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147) الإعراب: (ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ) كلام مستأنف مسوق لتقرير أن الله سبحانه لا يجلب لنفسه بعذابكم نفعا، ولا يدفع عنها به ضررا. فأي حاجة له في عذابكم؟ وما اسم استفهام في محل نصب مفعول به مقدم ليفعل، ويفعل الله فعل مضارع وفاعل، والجار والمجرور متعلقان بيفعل، والاستفهام هنا معناه النفي، والجملة مستأنفة مسوقة لزيادة الإنكار عليهم (إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) إن شرطية، وشكرتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، وجواب الشرط محذوف تقديره: فقد تفاديتم العذاب، والجملة مستأنفة أيضا، وآمنتم عطف على شكرتم (وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً) الواو استئنافية، وكان واسمها وخبراها. الفوائد: الشكر من الله هو الرضا بالقليل من عمل عباده، وإضعاف الثواب على هذا القليل. والشكر من العباد الطاعة. لمحة عن المنافقين: اتفق العلماء على أن المنافق هو من أظهر الايمان وأبطن الكفر. واتفقوا على أن المنافق أشد عذابا من الكافر، لأنه ساواه في الكفر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 وضمّ الى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله، وموالاة الكافرين، ومدّ أيدي الاستسلام إليهم حجة بينة على النفاق. وعنه عليه السلام: ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صلى وصام: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان. وقيل لحذيفة: من المنافق؟ فقال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به. [سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 149] لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) اللغة: (الْجَهْرَ) : رفع الصوت بالقول وغيره وجهر الأرض: سلكها من غير معرفة وجهر الشيء: كشفه وحزره وجهر الأمر علن وانتشر. الإعراب: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) كلام مستأنف مسوق لتنبيه العاقل الى الاشتغال بنفسه والجهر بعيوبه قبل البحث عن عيوب الناس ولا نافية ويحب الله الجهر فعل مضارع وفاعل ومفعول به وبالسوء جار ومجرور متعلقان بالجهر ومن القول جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من السوء (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) إلا أداة استثناء ومن مستثنى منقطع لأن جهر المظلوم لا يندرج في عداد الذين يجهرون بالسيىء من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 القول، ويجوز أن يكون متصلا على تقدير حذف مضاف أي إلا جهر من ظلم، أو في محل رفع على البدلية من فاعل المصدر الذي هو الجهر والمعنى: لا يحب أن يجهر أحد بالسوء إلا من ظلم فيجهر أي يدعو الله بكشف السوء الذي أصابه، وظلم بالبناء للمجهول أي لا يؤاخذه الله بالجهر به بأن يخبر عن ظلم ظالمه ويدعو عليه (وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً) الواو استئنافية وكان واسمها وسميعا خبرها الأول وعليما خبرها الثاني (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) الجملة مستأنفة وإن شرطية وتبدوا فعل الشرط والواو فاعل وخيرا مفعول به وأو حرف عطف وتعفوا عطف على تبدوا وعن سوء جار ومجرور متعلقان بتعفوا (فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) الفاء رابطة وان واسمها وجملة كان واسمها المستتر وخبريها في محل رفع خبر إن والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط: وهو تعليل للجواب المحذوف أي: فالعفو خير وهو أدنى. [سورة النساء (4) : الآيات 150 الى 151] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) الجملة مستأنفة مستوقة لبيان أن الطريق واضحة لا لبس فيها وان واسمها وجملة يكفرون صلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 الموصول وبالله متعلقان بيكفرون ورسله عطف على الله (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ) عطف على يكفرون وان وما بعدها في تأويل مصدر مفعول به وبين ظرف متعلق بيفرقوا، ولفظ الجلالة مضاف اليه ورسله عطف على لفظ الجلالة (وَيَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) عطف على ما تقدم وجملة نؤمن ببعض إلخ مقول القول وببعض جار ومجرور متعلقان بنؤمن، والثانية بنكفر (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا) عطف على يريدون الاولى وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول به أول والظرف متعلق بمحذوف حال والاشارة الى الكفر والايمان وسبيلا مفعول به ثان (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) اسم الاشارة مبتدأ أول وهم مبتدأ ثان والكافرون خبر «هم» والجملة الاسمية خبر اسم الاشارة وجملة الاشارة وما بعدها خبر إن وحقا مفعول مطلق لتأكيد مضمون الجملة والتقدير حق ذلك حقا واعتراض الواحدي بأن الكفر لا يكون حقا بوجه من الوجوه غير وارد لأن الحق هنا لا يراد به ما يقابل الباطل بل المراد أنه كائن لا محالة (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) الواو استئنافية واعتدنا فعل وفاعل وللكافرين جار ومجرور متعلقان باعتدنا وعذابا مفعول به ومهينا صفة. البلاغة: في قوله «للكافرين» فن الإظهار في مقام الإضمار ذما لهم وتجسيدا لكفرهم كأنه بمثابة المرئي بالبصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 [سورة النساء (4) : آية 152] وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) الإعراب: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) الواو استئنافية والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وبالله جار ومجرور متعلقان بآمنوا ورسله عطف على الله (وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) الواو عاطفة والجملة معطوفة على آمنوا داخلة في حيز الصلة وبين ظرف متعلق بيفرقوا وإنما دخلت بين على أحد، والظرف يقتضي متعددا، لعموم أحد من حيث انه وقع في سياق النفي والمعنى لم يفرقوا بين اثنين منهم أو بين جماعة منهم ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لأحد (أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) اسم الاشارة مبتدأ وجملة سوف يؤتيهم خبره والجملة الاسمية خبر الموصول «الذين» (وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) تقدم إعرابها. [سورة النساء (4) : آية 153] يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 الإعراب: (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) كلام مستأنف مسوق لحكاية سؤال أحبار اليهود الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء كما يأتي به موسى، وما سؤالهم إلا التعنت واللجاج ويسألك فعل ومفعول به أول وأهل الكتاب فاعل وان تنزل مصدر مؤول في محل نصب مفعول به ثان وعليهم متعلقان بتنزّل وكتابا مفعول به ومن السماء جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لكتابا (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) الفاء هي الفصيحة وهي الواقعة جوابا لشرط مقدّر أي إذا استكبرت ما قالوه ودهشت مما سألوه تعنتا واشتطاطا فقد سألوا موسى من قبلك، وموسى مفعول به أول وأكبر مفعول به ثان ويجوز أن يعرب مفعولا مطلقا ومن ذلك جار ومجرور متعلقان بأكبر (فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) الفاء عاطفة وقالوا عطف على سألوا وجملة أرنا الله في محل نصب مقول القول وأر فعل أمر مبني على حذف حرف العلة و «نا» مفعول به والله مفعول به ثان وجهرة أي عيانا فهو مفعول مطلق لأن الجهرة من نوع مطلق الرؤية فتلاقي صاحبها في الفعل ويجوز أن تعرب حالا فتكون مصدرا في موضع الحال أي مجاهرة (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) عطف على ما تقدم وبظلمهم جار ومجرور متعلقان بأخذتهم أي بسب ظلمهم (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) ثم حرف عطف للترتيب في الإخبار أي ثم كان من أمرهم أن اتخذوا العجل، ومن بعد متعلقان باتخذوا وما مصدرية مؤوّلة مع الفعل بمصدر مضاف لبعد أي من بعد مجيء البينات (فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) الفاء عاطفة على ما تقدم وعن ذلك جار ومجرور متعلقان بعفونا (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) الواو عاطفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 وآتينا فعل وفاعل وموسى مفعول به أول وسلطانا مفعول به ثان ومبينا صفة. [سورة النساء (4) : الآيات 154 الى 155] وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) اللغة: (الطُّورَ) الجبل. (لا تَعْدُوا) : لا تعتدوا وأصله تعدووا استثقلت الضمة على الواو الاولى فحذفت فالتقى ساكنان فحذفت الواو لالتقاء الساكنين. (غُلْفٌ) : جمع أغلف كحمر جمع أحمر ويصح أن يكون جمع غلاف ككتاب وكتب وسكّن للتخفيف. الإعراب: (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ) الواو عاطفة ورفعنا عطف على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 ما تقدم وفوقهم ظرف متعلق برفعنا وكذلك يتعلق به بميثاقهم والطور مفعول به (وَقُلْنا لَهُمُ: ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) وقلنا عطف على ما تقدم ولهم جار ومجرور متعلقان بقلنا وجملة ادخلوا الباب مقول القول وسجدا حال (وَقُلْنا لَهُمْ: لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) عطف على ما تقدم أيضا وجملة لا تعدوا في محل نصب مقول القول وفي السبت متعلقان بتعدوا (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) عطف على ما تقدم أيضا ومنهم جار ومجرور متعلقان بأخذنا وغليظا صفة لميثاقا (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ) الفاء استئنافية والباء حرف جر وما زائدة للتوكيد ونقضهم مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره فعلنا بهم ما فعلنا بسبب نقضهم، وميثاقهم مفعول به للمصدر وهو نقض وكفرهم عطف على نقضهم وبآيات الله جار ومجرور متعلقان بكفرهم (وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) عطف على ما تقدم والأنبياء مفعول به للمصدر وهو قتلهم وبغير حق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ) عطف أيضا وجملة قلوبنا غلف من المبتدأ والخبر مقول القول (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) بل حرف إضراب وعطف أي ليس الأمر كما قالوا وطبع الله فعل وفاعل، وعليها جار ومجرور متعلقان بطبع وبكفرهم متعلقان بطبع أي بسبب كفرهم، والفاء عاطفة ولا نافية ويؤمنون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وإلا أداة حصر وقليلا صفة لمصدر محذوف أي: إلا إيمانا قليلا فهو مفعول مطلق أو صفة لزمان محذوف أي إلا زمانا قليلا فهو ظرف زمان متعلق بيؤمنون ويجوز أن يكون منصوبا على الاستثناء من فاعل يؤمنون أي: إلا قليلا منهم. [سورة النساء (4) : الآيات 156 الى 158] وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 الإعراب: (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) في هذا العطف وجهان أحدهما انه معطوف على ما في قوله «فبما نقضهم» فيكون متعلقا بما تعلق به الاول، والثاني انه معطوف على قوله «بكفرهم» الذي بعد «طبع» ويجوز أن يعطف مجموع هذا وما عطف عليه على مجموع ما قبله ويكون تكرير ذكر الكفر إيذانا بتكرير كفرهم فانهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد صلوات الله عليهم أجمعين فكأنه قيل فبجمعهم بين نقض الميثاق والكفر بآيات الله وقتل الأنبياء وقولهم قلوبنا غلف وجمعهم بين كفرهم وبهتهم مريم وافتخارهم بقتل عيسى عليه السلام عاقبناهم، أو بل طبع الله عليها بكفرهم وجمعهم بين كفرهم وكذا وكذا، وعلى مريم جار ومجرور متعلقان بقولهم، وبهتانا مصدر يعمل فيه القول لأنه ضرب منه فهو كقولهم قعد القرفصاء وقال قوم: تقديره قولا بهتانا فهو مفعول مطلق على كل حال وقيل هو مصدر في موضع الحال أي مباهتين ولا يبعد جعله مفعولا به لقولهم فانه متضمن معنى كلام نحو قلت خطبة وشعرا، وعظيما صفة (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) وقولهم عطف على ما تقدم وان واسمها وجملة قتلنا المسيح خبرها والمسيح مفعول به وعيسى بدل من المسيح وابن بدل أو نعت ومريم مضاف اليه (رَسُولَ اللَّهِ) صفة لعيسى أو بدل منه أو هو منصوب على المدح بفعل محذوف قالوا ذلك تهكما (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) الواو حالية وما نافية وقتلوه فعل وفاعل ومفعول به وما صلبوه عطف على وما قتلوه والواو حرف عطف ولكن مخففة للاستدراك فقط وشبه فعل ماض مبني للمجهول وهو مسند الى الجار والمجرور بعده وهو لهم ويجوز أن يسند الى ضمير المقتول لأن قولهم إنا قتلنا يدل عليه كأنه قيل ولكن شبه لهم من قتلوه ولا يصح جعله مسندا الى المسيح لأنه مشبه به وليس بمشبه (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) الواو استئنافية وان واسمها وجملة اختلفوا صلة الموصول وفيه متعلقان باختلفوا واللام المزحلقة وفي شك متعلقان بمحذوف خبر «إن» ومنه متعلقان بمحذوف صفة شك أي لفي شك حادث من جهة قتله فتكون من لابتداء الغاية ولا يجوز تعليقهما بشك إذ لا يقال شككت منه (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) هذه الجملة المنفية مستأنفة ولك أن تجعلها في موضع نصب على الحال، أو في موضع جر صفة ثانية لشك أي غير معلوم، وما نافية ولهم متعلقان بمحذوف خبر مقدم وبه متعلقان ب «علم» أو حال منه لأنه كان صفة وتقدمت ومن حرف جر زائد، وعلم مجرور لفظا مرفوع لأنه مبتدأ مؤخر وإلا اتباع الظن استثناء منقطع لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم والواو عاطفة وما نافية وقتلوه فعل وفاعل ومفعول به ويقينا حال مؤكدة من فاعل قتلوه أو نعت لمصدر محذوف أي قتلا يقينا (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) بل حرف عطف وإضراب ورفعه فعل ومفعول به مقدم والله فاعل واليه جار ومجرور متعلقان برفعه والواو استئنافية وكان واسمها وخبراها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 [سورة النساء (4) : آية 159] وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) الإعراب: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) الواو استئنافية وإن نافية، من أهل الكتاب جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمبتدأ محذوف وخبره هو جملة القسم المجاب بقوله: «إلا ليؤمنن» وإنما كانت جملة القسم خبرا للمبتدأ لأنها محط الفائدة وإلا أداة حصر واللام موطئة للقسم ويؤمنن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وبه متعلقان بيؤمنن وقبل موته ظرف زمان متعلق بيؤمنن (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) الواو عاطفة ويوم القيامة ظرف متعلق بشهيدا وشهيدا خبر يكون واسمها محذوف وعليهم متعلقان بشهيدا. [سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 161] فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) الإعراب: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 الفاء استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبيان ما حرم عليهم بسبب ظلمهم من الطيبات والجار والمجرور متعلقان بحرمنا والباء سببية وقدمت على عاملها تنبيها على مدى قبح سبب التحريم ومن الذين متعلقان بمحذوف صفة لظلم وجملة هادوا صلة الموصول وحرمنا فعل وفاعل وعليهم الجار والمجرور متعلقان بحرمنا وطيبات مفعول به وجملة أحلت لهم صفة لطيبات (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً) وبصدهم عطف على قوله فبظلم وعن سبيل الله متعلقان ب «صد» وكثيرا منصوب على المصدر أي صدا كثيرا أو مفعول به بمعنى جمعا كثيرا، ولك أن تعربه ظرفا أي مرارا، والصد يستعمل لازما ومتعديا ومعناه المنع. أي صدودهم أنفسهم عن سبيل الله مرارا كثيرة بما كانوا يعصون موسى عليه السلام ويعاندونه، أو صدوهم الناس عن سبيل الله بسوء القدوة أو بالأمر بالمنكر والنهي عن المعروف (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) عطف على صدهم والربا مفعول به ل «أخذ» لأنه مصدر والواو حالية وقد حرف تحقيق ونهوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل وعنه متعلقان بنهوا وجملة قد نهوا في محل نصب على الحال. (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) عطف على ما تقدم، وأموال الناس مفعول به لأكل وبالباطل الجار والمجرور يجوز أن يتعلقا بأكلهم لأن الباء سببية، أو بمحذوف حال أي متلبسين بالباطل كالرشوة والخيانة وغير ذلك (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) عطف على حرمنا، وأعتدنا فعل وفاعل وللكافرين متعلقان بأعتدنا، منهم متعلقان بمحذوف حال أي المصرين على الكفر لا من آمن وتاب منهم وعذابا مفعول به وأليما صفة. البلاغة: الإبهام في قوله «فبظلم» بالتنوين ليعلم القارئ أو السامع أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 أي نوع من أنواع الظلم يكون سببا للعقاب في الدنيا قبل الآخرة، والعقاب قسمان: دنيوي وأخروي والأول قسمان: وضعيّ كالتكاليف الشرعية الشاقة في زمن التشريع والجزاء الوارد فيها على الظلم من حدّ أو تعزير، وطبيعي وهو ما اقتضته سنة الله تعالى في نظام الاجتماع من كون الظلم سببا لضعف الأمم وفساد عمرانها واستيلاء أمة على أخرى. [سورة النساء (4) : آية 162] لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) الإعراب: (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ) كلام مستأنف مسوق لإزالة الإيهام الناجم من اطلاق القول ببيان سوء حال اليهود وكفرهم وعصيانهم وان ذلك يوهم ان ما ذكر عنهم عام مستغرق لجميع أفرادهم جاء الاستدراك عقبه في بيان حال خيارهم الذين لم يذهب عمى التقليد ببصيرتهم ولكن حرف استدراك مهمل لتخفيف النون ولا بد من وقوعه بين نقيضين كما وقع هنا بين الكفار والمؤمنين والراسخون مبتدأ وفي العلم جار ومجرور متعلقان به لأنه اسم فاعل ومنهم متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستكن في الراسخون، والمؤمنون عطف على الراسخون (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) جملة يؤمنون خبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 الراسخون أو حال منهم إذا اعتبرنا جملة سنؤتيهم خبرا وبما جار ومجرور متعلقان بيؤمنون وجملة أنزل إليك صلة وما أنزل من قبلك عطف على الصلة داخل في حيزها ومن قبلك جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وسيأتي مزيد من القول في اعراب هذه الآية في باب الفوائد (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) الواو معترضة والمقيمين نصب على المدح بإضمار فعل لبيان فضل الصلاة على ما قاله سيبويه وغيره والتقدير أعني أو أحص المقيمين الصلاة الذين يؤدونها على وجه الكمال فانهم أجدر المؤمنين بالرسوخ في الايمان، والنصب على المدح أو العناية لا يأتي في الكلام البليغ إلا لنكتة، والنكتة هنا هي ما ذكرنا آنفا من مزية الصلاة، على أن تغيير الإعراب في كلمة بين أمثالها ينبّه الذهن الى وجوب التأمل فيها، ويهدي التفكير لاستخراج مزيتها وهو من أركان البلاغة وسيأتي مزيد بيان لذلك، على انه قرىء بالرفع أيضا على انه عطف على المؤمنون والصلاة مفعول به للمقيمين (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) عطف على ما تقدم، والزكاة مفعول به للمؤتون لأنه اسم فاعل (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) والمؤمنون عطف على ما تقدم وبالله جار ومجرور متعلقان بالمؤمنون واليوم عطف على الله والآخر صفة (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) جملة أولئك وما بعدها خبر الراسخون أو استئنافية وأولئك مبتدأ وجملة سنؤتيهم خبر وأجرا مفعول به ثان وعظيما صفة. الفوائد: 1- جزم الرازي بأن قوله الراسخون مبتدأ خبره يؤمنون، وإذا هو يفسر الراسخين بالمستدلين وعلل ذلك بأن المقلد يكون بحيث إذا شكك يشكّ وأما المستدل فانه لا يشك البتة وأورد في قوله والمؤمنون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 وجهين أحدهما انهم المؤمنون منهم والثاني انهم المؤمنون من المهاجرين والأنصار والمعنى ان الراسخين في العلم منهم هم، ومؤمنو المهاجرين والأنصار سواء في كونهم يؤمنون بما أنزل الى محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل الى من قبله من الرسل لا يفرقون بينهم. أبو السعود يرجح الثاني: على أن أبا السعود- وقد ألمعنا في كلام مضى الى ثقوب ذهنه- أصر على أن الخبر هو قوله «أولئك سنؤتيهم» قال: «وقوله أولئك إشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما عدد من الصفات الجميلة وما فيه من معنى البعد للاشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم في الفضل وهو مبتدأ وقوله سنؤتيهم أجرا عظيما خبره والجملة خبر للمبتدأ الذي هو الراسخون وما عطف عليه والسين لتأكيد الوعد وتنكير الاجر للتفخيم وهذا الإعراب أنسب بتجاوب طرفي حيث أوعد الأولون بالعذاب الأليم ووعد الآخرون بالأجر العظيم، واما ما جنح اليه الجمهور من جعل قوله يؤمنون بما انزل إليك إلخ خبرا للمبتدأ ففيه كمال السداد غير انه غير متعرض لتقابل الطرفين» وانما أثبتنا كلام أبي السعود لما فيه من توئب ذهني مع أن الاول هو الأولى. 2- تغيير الإعراب- كما قلنا- آنفا فيه حفز للذهن الى التفكير، في سبب التغيير، واستخراج المزية الكامنة فيه ونظيره في النطق أن يغيّر المتكلم جرس صوته، وكيفية أدائه للكلمة التي يريد تنبيه المخاطب لها كرفع الصوت أو خفضه أو مده بها وقد عدّ مثل هذا بعض الجاهلين والمتجاهلين من الغلط في أصحّ الكلام وأبلغه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 رد الزمخشري البليغ: ومن المفيد هنا أن نورد ما قاله الزمخشري في هذا الصدد قال: «وهو باب واسع قد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد ولا يلتفت الى ما زعموا من وقوعه لحنا في خطّ المصحف وربما التفت اليه من لم ينظره في الكتاب (أي كتاب سيبويه) ولم يعرف مذاهب العرب، وما لهم من النصب على الاختصاص من الافتنان وغبي عليه أن السابقين الأولين كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم، وخرقا يرفوه من يلحق بهم» . ما يقوله ابن جرير: أما ابن جرير فقد ذكر أنها في مصحف ابن مسعود والمقيمون الصلاة قال: والصحيح قراءة الجميع وردّ على من زعم أن ذلك من غلط الكتاب ثم ذكر اختلاف الناس فقال بعضهم هو منصوب على المدح كما جاء في قوله «والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس» قال: وهذا سائغ في كلام العرب كما قال الشاعر: لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر النازلين بكل معترك ... والطيبون معاقد الأزر وقال آخرون: هو مخفوض عطفا على قوله بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 نص عبارة سيبويه: أما عبارة سيبويه في كتابه فهي: «هذا باب ما ينتصب على التعظيم» ومن ذلك: والمقيمين الصلاة وأنشد: وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم ... إلا نميرا أطاعت أمر غاويها الطاعنين ولما يطعنوا أحدا ... والقائلون: لمن دار تخلّيها [سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 165] إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) اللغة: (الوحي) : في اللغة يطلق على الإشارة والإيماء، ومنه قوله تعالى: «فأوحى إليهم أن سبّحوا بكرة وعشيّا» ، وعلى الإلهام الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 يقع في النفس، وهو أخفى من الإيماء. ومنه قوله تعالى: «وأوحينا الى أم موسى» . ويظهر أن هذا بعناية من الله عز وجل، ومنه ما يكون غريزيا دائما، ومنه قوله تعالى: «وأوحى ربك الى النحل» ، وعلى الإعلام في الخفاء، وهو أن تعلم إنسانا بأمر تخفيه عن غيره، ومنه قوله تعالى: «شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم الى بعض» ، وأطلق على الكتابة والرسالة لما يكون فيها من التخصيص، ووحي الله الى أنبيائه هو ما يلقيه إليهم من العلم الضروري الذي يخفيه عن غيرهم بعد أن يكون أعدهم لتلقّيه بواسطة كالملك أو بغير واسطة. رأي محمد عبده: وعرفه الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده في رسالة التوحيد بأنه «عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله، بواسطة أو بغير واسطة. والأول يتمثل لسمعه بصوت أو بغير صوت. ويفرّق بينه وبين الإلهام بأن الإلهام وجدان تستيقنه النفس، وتنساق الى ما يطلب، على غير شعور منها من أين أتى. وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور» . ثم أفاض الأستاذ الامام في بيان وجه إمكانه ووقوعه. (الْأَسْباطِ) جمع سبط، وهو يطلق على ولد الولد. وأسباط بني إسرائيل اثنا عشر سبطا. (الزبور) : بمعنى المزبور، كالركوب بمعنى المركوب. وقرأه حمزة وخلف بضم الزاي، وهو جمع وزن مفرده، وقيل: هو مصدر. وهو على كل حال بمعنى كتاب ومكتوب. وفي المختار: والزبر بالكسر، والجمع زبور كقدر وقدور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 الإعراب: (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) كلام مستأنف مسوق لتطمين رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر الأنبياء الذين بعثهم الله الى البشر قبله وإن واسمها، وجملة أوحينا خبر، وإليك جار ومجرور متعلقان بأوحينا، والكاف نعت لمصدر محذوف أي إيحاء مثل إيحائنا، و «ما» تحتمل أن تكون مصدرية فتكون مع ما بعدها مصدرا مؤولا في محل جر بالإضافة، كوحينا وأن تكون اسم موصول بمعنى الذي والعائد محذوف، أي كالذي أوحيناه الى نوح، وجملة أوحينا لا محل لها لأنها صلة الموصول. والى نوح جار ومجرور متعلقان بأوحينا، والنبيين عطف على نوح، ومن بعده متعلقان بمحذوف حال. وبدأ بذكر نوح لأنه أقدم نبي مرسل ذكر في كتب القوم. وإنما تنهض الحجة دليلا على الناس إذا كانت مقدماتها معروفة عندهم، ثم خص بعض النبيين بالذكر فقال: (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ) الواو عاطفة، وأوحينا فعل وفاعل، والى ابراهيم متعلقان بأوحينا، وما بعده من أسماء النبيين معطوفة عليه (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) آتينا فعل وفاعل، داود مفعول به أول، وزبورا مفعول به ثان (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) رسلا مفعول به لفعل محذوف معطوف على أوحينا تقديره وآتينا، وجملة قد قصصناهم صفة، وعليك متعلقان بقصصنا، ومن قبل متعلقان بمحذوف حال (وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) عطف على ما تقدم (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً) الواو عاطفة وكلّم الله فعل وفاعل، وموسى مفعول به، وتكليما مفعول مطلق مؤكد لرفع احتمال المجاز. قال الفراء: العرب تسمي ما وصل الى الإنسان كلاما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 بأي طريق وصل، ما لم يؤكد بالمصدر، فإن أكد به لم يكن إلا حقيقة (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) رسلا بدل من «رسلا» قبله أو منصوب على المدح، ومبشرين صفة، ومنذرين عطف على مبشرين (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) هذه اللام لام «كي» وتتعلق بمنذرين أو بمبشرين، فالمسألة من باب التنازع، وسيأني ذكره في باب الفوائد، ويجوز أن تتعلق اللام بمحذوف أي: أرسلناهم لذلك، وأن حرف ناصب ولا نافية، ويكون فعل مضارع ناقص منصوب بأن وللناس متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وعلى الله متعلقان بمحذوف حال، وحجة اسم يكون المؤخر، وبعد الرسل ظرف زمان متعلق بمعنى النفي، أي: لتنتفي حجتهم واعتذارهم بعد إرسال الرسل. (وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) تقدم إعرابه كثيرا. الفوائد: 1- جميع أسماء الأنبياء ممنوعة من الصرف ما عدا ستة يجمعها قولك: «صن شمله» وهي: صالح ونوح وشعيب ومحمد ولوط وهود، وتمنع من الصرف للعلمية والعجمة. والمراد بالعجميّ ما نقل عن لسان غير العرب بأي لغة كانت، وتعرف عجمة الاسم بوجوه: 1- نقل الأئمة. 2- خروج الاسم عن أوزان الأسماء العربية كإبراهيم. 3- أن يكون رباعيا أو خماسيا خاليا من حروف الذّلاقة، وحروف الذّلاقة ستة: وهي الميم والرّاء والباء الموحّدة والنون والفاء واللام ويجمعها: (مر بنفل) . 4- أن يجتمع فيه من الحروف ما لا يجتمع في كلام العرب، كالجيم والقاف بفاصل نحو: جرموق وبغير فاصل نحو: قج وجقّة، والصاد والجيم نحو: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 الصولجان، والكاف والجيم نحو: السكرجة، والراء بعد النون في أول الكلمة نحو: نرجس، والزاي بعد الدال في آخر الكلمة نحو: مهندز. 2- التنازع: في العمل هو أن يتقدم فعلان متصرفان أو اسمان يشبهانهما في العمل، أو فعل متصرف واسم يشبهه في العمل، ويتأخر عنهما معمول، وهو مطلوب لكل منهما من حيث المعنى. مثال الفعلين: «آتوني أفرغ عليه قطرا» ومثال الاسمين قوله: عهدت مغيثا مغنيا من أجرته ... فلم أتخذ إلا فناءك موئلا ومثال المختلفين: «هاؤم اقرءوا كتابيه» . وإذا تنازع العاملان جاز إعمال أيهما شئت، فاختار البصريون الأخير لقربه واختار الكوفيون الأول لسبقه. وتفصيل الحديث في التنازع مبسوط في كتب النحو، والآية من إعمال الثاني لأنه لو كان من إعمال الأول لأضمر في الثاني، فكان يقال: مبشرين ومنذرين له، ولم يقل كذلك، فدل على مذهب البصريين. وله في القرآن نظائر. 3- أراد بقوله: «ورسلا لم نقصصهم عليك» المرسلين الى الأمم المجهول علمها وتاريخها عند قومك وعند أهل الكتاب المجاورين لبلادك، كأمم الشرق وأمم بلاد الشمال وأمم القسم الآخر من الأرض. 4- علم الكلام: قال ثعلب: لولا التأكيد بالمصدر بقوله: «وكلم الله موسى تكليما» لجاز أن تقول: قد كلمت لك فلانا، يعني كتبت إليه رقعة، وبعثت إليه رسولا، فلما قال: «تكليما» لم يكن إلا كلاما مسموعا من الله تعالى. وبمسألة الكلام: سمي علم أصول الدين بعلم الكلام، وهي مسألة يبحث عنها في أصولها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 [سورة النساء (4) : الآيات 166 الى 169] لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) الإعراب: (لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) هذه الجملة الاستدراكية مستأنفة لبيان جملة محذوفة لا بد منها، لتكون هذه الجملة مستدركة عنها. والجملة المحذوفة هي ما روي في أسباب النزول: لما سأل أهل الكتاب إنزال الكتاب من السماء وتعنّتوا في ذلك ما شاء لهم التعنت، قال: لكن الله يشهد، بمعنى أنهم لا يشهدون ولكن الله يشهد. ولكن مخففة مهملة والله مبتدأ وجملة يشهد خبر، وبما جار ومجرور متعلقان بيشهد، وجملة أنزل إليك صلة الموصول (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) الجملة مفسرة لا محل لها، وأنزله فعل ومفعول به، والفاعل مستتر تقديره هو، وبعلمه متعلقان بمحذوف حال، أي متلبسا بعلمه الخاص، أو حال كونه معلوما لله تعالى. والملائكة الواو عاطفة والملائكة مبتدأ خبره جملة يشهدون (وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً) الواو استئنافية، وكفى فعل ماض، والباء حرف جر زائد والله فاعل مجرور لفظا مرفوع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 محلا، وشهيدا تمييز (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) الجملة مستأنفة، وإن واسمها، وجملة كفروا صلة الموصول وجملة صدوا عطف عليها وعن سبيل الله متعلقان بصدوا (قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً) الجملة خبر إن، وضلالا مفعول مطلق، وبعيدا صفة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) الجملة مستأنفة لبيان مصيرهم. وإن واسمها، وجملة كفروا صلة، وجملة ظلموا عطف على الصلة، وجملة لم يكن الله خبرها، ولم حرف نفي وقلب وجزم، ويكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم، والله اسمها، وليغفر اللام لام الجحود، ويغفر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود. والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر يكن، أي: مريدا ليغفر لهم، وقد تقدم تقرير ذلك. ولا الواو حرف عطف، ولا نافية، ليهديهم عطف على ليغفر، وطريقا مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) إلا أداة استثناء، وطريق مستثنى متصل، وجهنم مضاف اليه مجرور وعلامة جره الفتحة، لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث، وخالدين حال من مفعول يهديهم، وأبدا ظرف زمان متعلق بخالدين بمثابة التأكيد، لئلا يحمل على طول المكث. وسيأتي مزيد بحث عنه (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) الواو استئنافية وكان واسمها وعلى الله جار ومجرور متعلقان بيسيرا أو بمحذوف حال ويسيرا خبر كان. الفوائد: معنى الخلود في اللغة: بقاء الشيء مدة طويلة، على حال واحدة، لا يطرأ عليه تغيير، ولا فساد. كقولهم للأثافي، أي: حجارة الموقد: خوالد. وذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها. والأبد عبارة عن مدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 الزمان الممتدّ الذي لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان. وتأبّد الشيء: بقي أبدا. ويعبّر به عن كل ما يبقى مدة طويلة. وفي لسان العرب: الأبد: الدهر، وفيه تساهل وفي المثل: (طال الأبد على لبد) يضرب ذلك لكل ما قدم. وقالوا: أبد بالمكان- من باب ضرب- أبودا: أقام به ولم يبرحه. ولم يكن عندهم شيء بمعنى اللانهاية يدور في كلامهم. وفسر الخلد في اللسان بدوام البقاء في دار لا يخرج منها. والمراد بالسكنى الدائمة في العرف ما يقابل السكنى الموقتة المتحوّلة، كسكنى البادية. فالذين لهم بيوت في المدن يسكنونها يقال في اللغة: إنهم خالدون فيها. قال في اللسان: وخلد بالمكان يخلد خلودا- من باب نصر- وأخلد أقام، وخلد كضرب ونصر خلدا وخلودا أيضا: أبطأ عنه الشيب. ومن كبر ولم يشب ولم تسقط أسنانه يقال له: المخلد بكسر اللام، وقيل: بفتحها. وقال زهير: لمن الدّيار غشيتها بالفدفد ... كالوحي في حجر المسيل المخلد [سورة النساء (4) : آية 170] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) الإعراب: (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) كلام مستأنف مسوق لأمر المكلفين بصورة عامة بالايمان بعد أن سدت عليهم منافذ الاعتذار، والنداء عام للناس جميعا لا أهل مكة وحدهم، وإن كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 الغالب أن «يا أيها الناس» خطاب لأهل مكة، و «يا أيها الذين آمنوا» خطاب لأهل المدينة. وقد حرف تحقيق، وجاءكم الرسول فعل ومفعول به وفاعل، وبالحق جار ومجرور متعلقان بجاءكم، ومن ربكم متعلقان بمحذوف حال (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) الفاء الفصيحة، وآمنوا فعل أمر وفاعله، أي: إذا كان الأمر كما عرفتم فآمنوا يكن الايمان خيرا لكم لأنه يزكيكم ويطهّركم من الأدناس الحسية والمعنوية، ويؤهلكم للسعادة الأبدية. وهذا هو التقدير المتبادر الى الذهن، وعليه الكسائيّ فهو خبر لكان المحذوفة مع اسمها. وأما الخليل وسيبويه فيقدّران: واهتدوا بالايمان خيرا لكم، أي: مما أنتم عليه. وقال الفراء: فآمنوا إيمانا خيرا لكم، فانتصابه على أنه صفة لمصدر محذوف. وقال الزمخشري: وانتصابه بمضمر، وذلك أنه لما بعثهم على الايمان علم أنه يحملهم على أمر، فقال: خيرا لكم، أي: اقصدوا أو ائتوا خيرا لكم مما أنتم فيه. ولكم متعلقان ب «خيرا» (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الواو عاطفة وإن شرطية، وتفكروا فعل مضارع فعل الشرط، والجواب محذوف تقديره: فلا يضره كفركم، لأنه غني عنكم. ونبه على غناه بقوله: «فإن لله ما في السموات والأرض» فالفاء للتعليل، وإن حرف مشبه بالفعل ولله متعلقان بمحذوف خبرها المقدم، وما اسم موصول اسمها المؤخر، وفي السموات والأرض متعلقان بمحذوف صلة الموصول (وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) تقدم إعرابها كثيرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 [سورة النساء (4) : آية 171] يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) اللغة: (لا تَغْلُوا) لا تتجاوزوا الحد المعقول. وأصل الغلوّ في كل شيء مجاوزة حده. وغلا بالجارية عظمها ولحمها إذا أسرعت في الشباب فجاوزت لداتها، يغلو بها غلوّا وغلاء. ومن ذلك قول الحارث بن خالد المخزومي، وهي أبيات جميلة، يذكر فيها صاحبته وما مضى من أيامه وأيامها: إذ ودّها صاف ورؤيتها ... أمنية وكلاهما غنم لفّاء مملوء مخلخلها ... عجزاء ليس لعظمها حجم خمصانة قلق موشّحها ... رود الشباب غلا بها عظم وكأن غالية تباشرها ... تحت الثياب إذا صفا النجم الإعراب: (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) كلام مستأنف مسوق لتحذير أهل الكتاب من المغالاة. ويا حرف نداء وأهل الكتاب منادى مضاف، ولا ناهية وتغلوا فعل مضارع مجزوم بلا، وفي دينكم متعلقان بتغلوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) الواو عاطفة، ولا ناهية وتقولوا فعل مضارع مجزوم، وعلى الله متعلقان بتقولوا، وإلا أداة حصر، والحق مفعول مطلق على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: إلا القول الحق، أو مفعول به لأنه تضمن معنى القول، نحو: قلت قصيدة (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) كلام مستأنف مسوق للتعريف بالسيد المسيح عليه السلام. وإنما كافة ومكفوفة، والمسيح مبتدأ وعيسى بدل منه، وابن مريم بدل أيضا أو صفة، ورسول الله خبر المبتدأ، وكلمته عطف على رسول، وجملة ألقاها حالية، ولا بد من تقدير «قد» معها، والعامل في الحال معنى «كلمته» ، لأن معنى الكلمة أنه مكون بها من غير أب. والى مريم جار ومجرور متعلقان بألقاها وروح عطف على كلمته، ومنه متعلقان بمحذوف صفة لروح، ومن لابتداء الغاية (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) الفاء الفصيحة، أي: فإذا كان الأمر كذلك فآمنوا بالله إيمانا يليق به تعالى، بالله جار ومجرور متعلقان بآمنوا ورسله عطف على لفظ الجلالة، والواو عاطفة، ولا ناهية، وتقولوا فعل مضارع مجزوم بها، وثلاثة خبر لمبتدأ محذوف، أي: ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة، وجملة آلهتنا ثلاثة في محل نصب مقول القول (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) الجملة مستأنفة، وانتهوا فعل أمر وفاعل وخيرا تقدم إعرابها قبل قليل، فجدّد به عهدا، ولكم متعلقان ب «خيرا» (إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ) كلام مستأنف مسوق لتأكيد الوحدانية. وإنما كافة ومكفوفة، والله مبتدأ وإله خبر، وواحد صفة (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) سبحان مفعول مطلق لفعل محذوف، أي سبحه تسبيحا، وأن وما في حيزها مصدر مؤول منصوب بنزع الخافض أي: من أن يكون، والجار والمجرور متعلقان بسبحان، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر يكون المقدم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 وولد اسمها المؤخر، والجملة التنزيهية في محل نصب على الحال، أي: منزها (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) له متعلقان بخبر مقدم محذوف وما اسم موصول مبتدأ وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة، وجملة الصلة لا محل لها من الإعراب، وما في الأرض عطف على ما في السموات، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل التنزيه، أي: إذا كان يملك جميع ما فيهما فكيف يتوهم حاجته الى ولد (وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) تقدم إعرابه كثيرا. الفوائد: تعقب أحد الأذكياء اعراب قوله تعالى: «ثلاثة» فقال: ومن المشكلات أيضا قوله تعالى: «ثلاثة» ، ذهبوا في رفع ثلاثة الى أنها خبر لمبتدأ محذوف، والمعنى: ولا تقولوا: آلهتنا ثلاثة، وهو أيضا باطل لانصراف التكذيب الى الخبر فقط. وإذا قلنا: ولا تقولوا: آلهتنا ثلاثة، كنا قد نفينا الثلاثة ولم ننف الآلهة، جل الله عن ذلك. والوجه أن يقال: الثلاثة صفة المبتدأ الأخير، ولا تقولوا لنا آلهة ثلاثة، ثم حذفت الخبر الذي هو «لنا» حذفك «لنا» في قولك «لا إله إلا الله» فبقي ولا تقولوا: آلهة ثلاثة ولا إلهان، فصح الفرق. ولا يخلو كلامه من ذكاء نادر، فتدبر ذلك والله يعصمك. [سورة النساء (4) : الآيات 172 الى 173] لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 اللغة: َسْتَنْكِفَ) الاستنكاف: الامتناع من الشيء، أنفة وانقباضا منه. قيل: أصله من نكف الدمع إذا نحّاه عن خده بأصبعه حتى لا يظهر، ونكف منه أنف، وأنكفه عنه برأه. وفي المصباح: نكفت من الشيء نكفا من باب تعب، ونكفت أنكف من باب قتل، لغة. واستنكفت إذا امتنعت أنفة واستكبارا. الإعراب: َنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما سبق من التنزيه، والمعنى لن يأنف المسيح ولا يتبرّأ من أن يكون عبدا لله، ولا هو بالذي يترفع عن ذلك لأنه من أعلم خلق الله بعظمة الله، وما يجب له على العقلاء من خلقه من الشكر والعبودية، التي يتفاضلون بها. ولن حرف نفي ونصب واستقبال، ويستنكف فعل مضارع منصوب بها، والمسيح فاعل، وأن وما في حيّزها مصدر مؤول منصوب بنزع الخافض، والتقدير: عن أن يكون..، والجار والمجرور متعلقان بيستنكف، وعبدا خبر يكون، ولله متعلقان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 بمحذوف صفة ل «عبدا» َ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) الواو عاطفة، ولا نافية، والملائكة عطف على المسيح، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي ويستنكفون والمقربون صفة للملائكةَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ) الواو استئنافية، ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويستنكف فعل الشرط وعن عبادته متعلقان بيستنكفَ سَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) يجوز في الفاء أن تكون جوابا للشرط، والتقدير: ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فيعذّبه عند حشره اليه، ومن لم يستنكف ولم يستكبر فيثيبه. ويجوز أن يكون الجواب محذوفا، أي: فيجازيه، ثم عطف عليه قوله: فسيحشرهم، والهاء مفعول به، واليه متعلقان بيحشرهم، وجميعا حال من الهاء، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) الفاء للتفريع، والجملة بعدها لا محل لها من الإعراب لأنها بمثابة الاستئناف، وأما حرف شرط وتفصيل، والذين اسم موصول مبتدأ، وجملة آمنوا صلة، وجملة عملوا الصالحات عطف على الصلة، والفاء رابطة، ويوفيهم فعل مضارع، وفاعله مستتر تقديره هو، والهاء مفعوله الأول، وأجورهم مفعوله الثاني، ويزيدهم عطف على فيوفيهم، ومن فضله متعلقان بيزيدهم، والجملة خبر الذين (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً) الجملة معطوفة على ما قبلها وقد تقدم اعرابها، وعذابا مفعول مطلق، وأليما صفة (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) عطف على ما تقدم، ولهم جار ومجرور متعلقان ب «وليا» ، ومن دون الله متعلقان بمحذوف حال، ووليا مفعول به، ولا نصيرا عطف عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 الفوائد: استدل بهذه الآية القائلون بتفضيل الملائكة على الأنبياء، وهم أبو بكر الباقلاني والحليميّ من أئمة الأشعرية وجمهور المعتزلة، وقرر الزمخشريّ وجه الدلالة بما لا يسمن ولا يغني من جوع، وأطال البيضاوي وابن المنير في الرد عليه. والمنصف يرى أن التفاضل في هذا الباب من قبيل الرجم بالغيب، إذ لا يعلم ذلك إلا بنص من الشارع، ولا نصّ. وليس للخلاف في هذا فائدة ولا عائدة في إيمان ولا عمل، ولكنه من توسيع مسافة التفرّق بالمراء والجدل. [سورة النساء (4) : الآيات 174 الى 175] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) الإعراب: (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) كلام مستأنف لتقرير ما انتهت اليه الأمور من إقامة الحجج الباهرة على المخالفين، وإهابة الله تعالى بالناس كافة الى اتباع برهانه والاهتداء بالنور الذي جاء به. وقد حرف تحقيق، وجاءكم برهان فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر، ومن ربكم متعلقان بمحذوف صفة لبرهان (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 الواو عاطفة، وأنزلنا فعل وفاعل، وإليكم متعلقان بأنزلنا، ونورا مفعول به، ومبينا صفة (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ) الفاء للتفريع، والجملة لا محل لها، وأما حرف شرط وتفصيل، والذين مبتدأ، وجملة آمنوا صلة، وبالله متعلقان بآمنوا، واعتصموا به عطف على آمنوا (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) الفاء رابطة لجواب «أما» وجملة يدخلهم خبر الذين، في رحمة متعلقان بيدخلهم ومنه متعلقان بمحذوف صفة لرحمة وفضل معطوف على رحمة (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) عطف على يدخلهم، واليه متعلقان بمحذوف حال من «صراطا» قدم عليه، وصراطا مفعول به ثان ليهديهم، أو مفعول به لفعل محذوف دل عليه «يهديهم» ، ومستقيما صفة. البلاغة: المجاز المرسل في قوله: «في رحمة منه» ، لأن الرحمة لا يحل فيها الإنسان، لأنها معنى من المعاني، وإنما يحل في مكانها وهو الجنة. فاستعمال الرحمة في مكانها مجاز أطلق فيه الحالّ وأريد المحل، فعلاقته الحالية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 [سورة النساء (4) : آية 176] يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) الإعراب: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) كلام مستأنف مسوق لذكر إرث الإخوة والأخوات الأشقاء أو لأب. ويستفتونك فعل مضارع مرفوع وفاعل ومفعول به، وقل فعل أمر والفاعل أنت، والله مبتدأ ويفتيكم فعل مضارع ومفعوله، والفاعل هو والجملة خبر، وجملة الله يفتيكم في محل نصب مقول القول، وفي الكلالة متعلقان بيستفتونك على إعمال الأول، أو بيفتيكم على إعمال الثاني (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ) كلام مستأنف لتفصيل الحكم. وإن شرطية وامرؤ فاعل لفعل محذوف يفسره ما بعده، وجملة هلك مفسرة لا محل لها وليس فعل ماض ناقص وله متعلقان بخبر مقدم محذوف، وولد اسمها المؤخر، والجملة صفة لامرؤ له متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وأخت مبتدأ مؤخر، والجملة حالية لأنها وقعت بعد واو الحال (فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) الفاء رابطة لجواب الشرط، ولها متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ونصف مبتدأ مؤخر، وما اسم موصول مضاف اليه، وجملة ترك صلة، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط (وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) الواو استئنافية، هو مبتدأ، وجملة يرثها خبره، وإن شرطية، ولم حرف نفي وقلب وجزم، ويكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم وهو فعل الشرط، ولها متعلقان بمحذوف خبر يكن المقدم، ولد اسمها المؤخر، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، أي فهو يرثها. (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ) الفاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 استئنافية، وإن شرطية، وكانتا فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والألف في «كانتا» اسمها، واثنتين خبرها (فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) الفاء رابطة، ولهما متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والثلثان مبتدأ مؤخر، ومما متعلقان بمحذوف حال، وجملة ترك صلة، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفاعل ترك مستتر يعود على الأخ (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) الواو عاطفة، وإن شرطية، وكانوا فعل الشرط والواو اسمها وإخوة خبرها، ورجالا بدل من «إخوة» ونساء عطف على «رجالا» والفاء رابطة لجواب الشرط، وللذكر جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ومثل حظ الأنثيين مبتدأ مؤخر والجملة في محل جزم جواب الشرط (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الجملة في محل نصب على الحال، ولك أن تجعلها مستأنفة بيانية، ويبين الله فعل مضارع وفاعل ولكم متعلقان بيبين، وأن تضلوا مصدر مؤول في محل نصب مفعول لأجله على حذف مضاف، أي: كراهية أن تضلوا، ومفعول يبين محذوف وهو عام، والله الواو استئنافية، والله مبتدأ وبكل شيء متعلقان بقوله: «عليم» ، وعليم خبر «الله» الفوائد: اختتمت صورة النساء بذكر الأموال وأحكام الميراث، كما افتتحت بذلك، لتحصل المشاكلة بين المبدأ والختام. وتتلخص آيات المواريث في السورة بثلاثة: 1- الأولى في بيان إرث الأصول والفروع. 2- والثانية في بيان إرث الزوجين والإخوة والأخوات من الأم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 3- والثالثة وهي هذه الآية في إرث الإخوة والأخوات الأشقاء أو لأب. وأما أولو الأرحام فسيأتي حكمهم في سورة الأنفال. والمستفتي عن الكلالة هو جابر بن عبد الله لما عاده النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه فقال: يا رسول الله، إني كلالة فكيف أصنع في مالي؟ فنزلت. نبذة من أقوال علماء اللغة في الكلالة: قيل: إن أصل الكلالة في اللغة ما لم يكن من النسب لحّا، أي: لاصقا بلا وساطة، وقيل: إنه ما عدا الوالد والولد من القرابة. وقيل: ما عدا الولد فقط. وقيل الإخوة من الأم. وقال في لسان العرب عند ذكره وهو المستعمل: وقيل: الكلالة من العصبة من ورث معه الإخوة، ويطلق هذا اللفظ على الميت الذي يرثه من ذكر، وقيل: بل على الورثة غير من ذكر، وقيل: على كل منهما. والمرجح هو القرينة. والجمهور على أن الكلالة من الموروثين من لا ولد له ولا والد. هذا وفي الكلالة أحكام مبسوطة في المطولات، ولا مجال لها هنا. آخر آية أنزلت: روى الشيخان والترمذي والنسائي وغيرهم عن البراء قال: آخر سورة نزلت كاملة سورة براءة، أي التوبة، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء: «يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة» أي من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 آيات الفرائض. وبهذا لا تنافي في ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت آية الربا. على أنه لا سبيل الى القطع بآخر آية نزلت من القرآن، وإنما نقول: إن هذه الآية من آخر ما نزل قطعا، ويجوز أن تكون آخرها كلها، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 (5) سورة المائدة مدنية بناء على المشهور من أن المدنيّ ما نزل بعد الهجرة ولو في مكة. وآياتها مائة وعشرون آية، أو مائة وثنتان وعشرون آية، أو مائة وثلاث وعشرون آية. [سورة المائدة (5) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) اللغة: (وفى) بالوعد وفاء، وأوفى به إيفاء: أي أتى به تاما لا نقص فيه. وقد جمع بينهما الشاعر: أما ابن طوف فقد أوفى بذمته ... كما وفى بقلاص النجم حاديها ويقال لمن لم يوف الكيل: أخسر الكيل، ولمن لم يوف العهد: غدر ونقض. ونقض العهد والوعد، وهما شىء واحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 (العقود) : جمع عقد بالفتح، وهو مصدر استعمل اسما فجمع، وهو العهد الموثق شبه بعقد الخيل ونحوه، قال الحطيئة: قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدّوا العناج وشدّوا فوقها الكربا وهو في الأصل موضوع للأجسام الصلبة، كعقد الحبل وعقد البناء، ثم يستعار ذلك للمعاني، نحو عقد البيع والعهد وغيرهما، فالعقد أخصّ من العهد والمراد بالعقود ما يتعاقدون عليه. (البهيمة) كل ذات أربع في البر والبحر، وقيل: ما لا نطق له، وذلك لما في صوته من الإبهام، ولكن خص في التعارف بما عدا السباع والطير، قاله الراغب. وروي عن الزجّاج أن البهيمة من الحيوان ما لا عقل له مطلقا. وفي القاموس: البهيمة كل ذات أربع قوائم ولو في الماء، أو كل حيّ لا يميز، جمعه بهائم. (الْأَنْعامِ) : هي الإبل والبقر والغنم والجواميس. وإضافة بهيمة الى الأنعام للبيان. كشجر الأراك. أي: أحل لكم أكل البهيمة من الأنعام. وذهب بعضهم الى أن الاضافة على معنى التشبيه، أي: أحلت لكم البهيمة المشابهة للأنعام، قيل: في الاجترار وعدم الأنياب، والأولى أن يقال: إن وجه الشبه المقتضي للحل هو كونها من الطيبات التي هي الأصل في الحلّ. وقال الحريري في درة الغواص: «ومن ذلك أنهم يظنون الأنعام بمعنى النّعم، وقد فرقت العرب بينهما فجعلت النعم اسما للإبل خاصة، أو للماشية التي هي فيها، وجعلت الأنعام اسما لأنواع المواشي. حتى إن بعضهم أدخل فيها الظباء وحمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 الوحش تعلقا بقوله تعالى: «أحلت لكم بهيمة الأنعام» . وقال الراغب: النعم يختص بالإبل، وجمعه أنعام. سميت بذلك لأنها من أعظم النعم عندهم. لكن الأنعام تقال للإبل والبقر والغنم، ولا يقال لها أنعام حتى يكون في جملتها الإبل» . وقال ابن برّي: هو من التغليب، إذ غلبوا النعم على غيرها، ولا فرق بينهما في الحقيقة وكونها شاملة. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) كلام مستأنف مسوق للقيام بموجب العقد. وقد تقدم اعراب النداء. وأوفوا فعل أمر وفاعل، وبالعقود جار ومجرور متعلقان بأوفوا (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) الجملة مفسرة لأنها تفصيل بعد الإجمال، بناء على أن العقود شاملة لجميع الاحكام التي شرعها الله تعالى، وأمر المكلفين بالإيفاء بها وأحلت فعل ماض مبني للمجهول، ولكم متعلقان بأحلت، وبهيمة نائب فاعل، والانعام مضاف اليه (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) إلا أداة استثناء، وما مستثنى، قيل: هو منقطع، لأن اللفظ ليس من جنس البهيمة، والتحريم لما طرأ من الموت ونحوه، وجملة يتلى عليكم صلة الموصول، وغير حال من ضمير «لكم» ، ومحلي مضاف الى «غير» والصيد مضاف الى «محلي» ، وجملة وأنتم حرم من المبتدأ والخبر حال من «محلي الصيد» كأنه قيل: أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون لئلا يكون عليكم حرج (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) الجملة تعليل للحكم، وإن واسمها، وجملة يحكم خبرها، وما يجوز أن تكون مصدرية أو موصولة، وهي على كل حال منصوبة بنزع الخافض، أي: يحكم بإرادته، أو بالذي يريده، ولا عبث في أحكامه ولا خلل ولا ظلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 الفوائد: أفاض العلماء والمفسرون في ذكر المقصود من العقود، وعندنا أنها عامة شاملة لكل عهود الله التي عهد بها الى عباده من عبادات ومعاملات، بها انتظام أمر الدنيا والآخرة معا، وجميل قول الراغب: «العقود باعتبار المعقود والعاقد ثلاثة أضرب: عقد بين الله تعالى وبين العبد، وعقد بين العبد ونفسه، وعقد بين العبد وغيره من البشر» . وقد توسّع الفقهاء وعلماء التشريع فيها، ووضعوا المصنفات الطويلة بصددها، وتناولوا الاحكام الشرعية فيها، مما يسهل إليه الرجوع في مظانه. جملة بليغة: والأساس الذي تنهض عليه العقود في الإسلام هو هذه الجملة البليغة المختصرة المفيدة، وهي «أوفوا بالعقود» وهي تفيد بقوة ورشاقة أنه يجب على كل مؤمن أن يفي بما عقده وارتبط به، وليس لأحد أن يقيّد ما أطلقه الشارع إلا بنص منه، فكل قول أو فعل يعدّه الناس عقدا فهو عقد يجب أن يوفوا به، كما أمر الله تعالى، ما لم يتضمن تحريم حلال أو تحليل حرام، مما ثبت في الشرع، كالعقد بالإكراه، أو على إحراق دار أحد أو شجرة بستان، أو على الفاحشة، أو على أكل شيء من أموال الناس بالباطل، كالربا والمسير والرشوة. العرف والتراضي: وينتظم في ذلك جميع الأمور الدنيوية كالبيع والإجارة والشركات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 وغيرها من المعاملات الدنيوية، فالاصل فيها عرف الناس وتراضيهم ما لم يخالف حكم الشرع، وهذا في منتهى الوضوح والإحكام. هذا وقد صنّف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابا سماه «مدارك القياس» في موضوع العقود استوفى فيه هذا الموضوع، مؤيدا بدلائل الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح، فليرجع اليه من شاء. رواية عن الفيلسوف الكنديّ: ذكروا أن الكندي الفيلسوف قال له أصحابه: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن. فقال: نعم أعمل مثل بعضه. فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت فاذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث، وحلّل تحليلا عاما، ثم استثنى استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، لا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد. أي مجلدات كثيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 [سورة المائدة (5) : آية 2] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) اللغة: (الشعائر) : جمع شعيرة، وهي العلامة. ثم جعلت علامة لشعائر الحجّ ومناسكه. (الهدي) ما يهدى الى الكعبة ليذبح هناك ويتقرب به الى الله، قال: يقولون: من هذا الغريب بأرضنا ... أما والهدايا إنني لغريب (القلائد) : جمع قلادة وهي ما يعلق في العنق. وكانوا يعلقون في أعناق الإبل من الهدي نعلا أو حبلا أو عروة مزادة أو لحاء شجر وغيره ليعرف، فلا يتعرض له أحد. فهو على حذف مضاف، أي: ولأصحاب القلائد. (آمِّينَ) بتشديد الميم المكسورة، أي: قاصدين. (يَجْرِمَنَّكُمْ) : مضارع جرمه الشيء إذا حمله عليه وجعله يجرمه أي يكسبه ويفعله، وهو يجري مجرى «كسب» في تعديه الى مفعول واحد واثنين. (الشنآن) : شدة البغض. يقال: شنئت الرجل أشنؤه، أي: أبغضه. وهذا المصدر سماعي مخالف للقياس من وجهين: تعدي فعله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 وكسر عينه، لأنه لا ينقاس إلا في مفتوحها اللازم. وله مصادر كثيرة، أنهاها بعضهم الى ثلاثة عشر مصدرا، وأشهرها: شنئا وشنئا وشنئا وشنأة وشنآنا وشنآنا ومشنأ ومشنأة ومشنوءة. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ) يا أيها الذين آمنوا تقدم اعرابها كثيرا، ولا ناهية وتحلوا مضارع مجزوم بها والواو فاعل وشعائر الله مفعول به (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) ولا الشهر الحرام عطف على شعائر، والحرام صفة للشهر، وهو شهر الحج، وهو ذو القعدة، وأكد الطبري أنه رجب. وما بعده عطف عليه أيضا. ولا آمّين أي: ولا تحلوا قوما آمّين، فهو صفة لموصوف محذوف، والمعنى: لا تحلّوا قتالهم ما داموا قاصدين البيت الحرام. وهذا رمز للسلام الذي نادى به القرآن. والبيت مفعول لآمّين لأنه اسم فاعل (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) الجملة حال من الضمير في «آمّين» أي: حال كون الآمّين مبتغين فضلا. وفضلا مفعول به، ومن ربهم متعلقان بيبتغون، أو بمحذوف صفة ل «فضلا» ورضوانا معطوف عليه (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) الواو عاطفة، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط، وجملة حللتم في محل جر بالإضافة، والفاء رابطة لجواب إذا، واصطادوا (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) الواو حرف عطف، ولا ناهية، ويجرمنكم فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم بلا، والكاف مفعوله الأول، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 وشنآن قوم فاعل، وأن صدوكم مصدر مؤوّل منصوب بنزع الخافض وهو علة للشنآن متعلق به، وعن المسجد جار ومجرور متعلقان بصدوكم، وأن تعتدوا مصدر مؤول مفعول به ثان ليجرمنكم، والمعنى: ولا يكسبنكم بغض قوم لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام الاعتداء ولا يحملنكم عليه (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) الواو عاطفة، وتعاونوا فعل أمر والواو فاعل، وعلى البر متعلقان بتعاونوا، والتقوى عطف على البر (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) الواو عاطفة، ولا ناهية، وتعاونوا فعل مضارع حذفت منه إحدى التاءين مجزوم بلا، أي: لا تتعاونوا، وعلى الإثم متعلقان به، والعدوان عطف عليه (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) عطف أيضا، وجملة إن واسمها وخبرها لا محل لها لأنها تعليلية. الفوائد: كانت العرب مجمعة على تعظيم ذي القعدة وذي الحجة، ومختلفة في رجب، فشدّد تعالى أمره. وهذا هو وجه التخصيص بذكره. وقيل الشهر مفرد محلى بأل الجنسية، فالمراد عموم الأشهر الحرم، وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 [سورة المائدة (5) : آية 3] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) اللغة: (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ) : الإهلال رفع الصوت به لغير الله، وهو قولهم عند ذبحه: «باسم اللّات والعزّى» ويقال: «أهلّ فلان بالحج» إذا رفع صوته بالتلبية. ومنه: «استهلّ الصبيّ» إذا رفع صوته بالبكاء عند الولادة. (الْمُنْخَنِقَةُ) قال صاحب القاموس: خنقه خنقا ككتف فهو خنق، وانخنقت الشاة بنفسها، ولا يسري على هذا الفعل حكم المطاوعة، وإنما المطاوع هو اختنق، وعلى هذا تشمل المنخنقة التي خنقوها حتى ماتت أو انخنقت بسبب، ولهذا تفصيل في كتب الفقه. (الْمَوْقُوذَةُ) : هي التي أثخنوها ضربا بعصا أو حجر غير محدّد حتى ماتت. قال في القاموس: الوقذ: شدة الضرب. وقال في شرحه تاج العروس: الموقوذة هي التي تقتل بعصا أو بحجارة لا حدّ لها حتى انحلّت قواها وماتت. ولا يخفى ما في الوقذ من تعذيب للحيوان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 (الْمُتَرَدِّيَةُ) : هي التي تردّت من مكان مرتفع فماتت. (النَّطِيحَةُ) هي التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح. وسيأتي بحث ممتع عن هذه الصيغة في باب الفوائد. (ذَكَّيْتُمْ) أي أدركتم ذكاته، وهو يضطرب وتشخب أوداجه. والذكاة والتذكية في أصل اللغة إتمام فعل خاص، يقال: ذكت النار تذكو ذكوّا وذكا وذكاء إذا تم اشتعالها، وذكت الشمس إذا اشتدت حرارتها، وذكى وذكي كرمى ورضي تمت فطنته، قال في اللسان: «والذّكاء شدة وهج النار، يقال: ذكيت النار إذا أتممت إشعالها ورفعتها، والذّكا: تمام إيقاد النار، مقصور يكتب بالألف» والذّكاء في الفهم أن يكون فهما تاما سريع القبول. (النُّصُبِ) : قال الراغب في مفرداته: نصب الشيء وضعه وضعا ناتئا كنصب الرمح والبناء والحجر، والنّصيب: الحجارة تنصب على الشيء، وجمعه نصائب ونصب بضمتين، وكان للعرب حجارة تعبدها وتذبح عليها، قال: «كأنّهم إلى نصب يوفضون» وقد يقال في جمعه أنصاب. وقال في اللسان: «والنّصب بالفتح والنّصب بالضم والنّصب بضمتين الداء والبلاء والشرّ وفي التنزيل: «مسّني الشيطان بنصب وعذاب» والنّصيبة والنّصب بضمتين كلّ ما نصب فجعل علما، فالنصب مفرد وجمع، قال الأعشى: وذا النّصب المنصوب لا تعبدنّه ... لعاقبة والله ربّك فاعبدا واستعماله اليوم للنصب التذكاري سليم لا غبار عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 (الأزلام) جمع زلم بفتحتين وكصرد أي بضم ففتح: قدح صغير لا ريش له ولا نصل، وهي سهام كانوا يستقسمونها في الجاهلية، جمعه أزلام، كان أحدهم إذا أراد سفرا أو غزوا أو تجارة أو نكاحا أو أمرا من معاظم الأمور ضرب بالقداح أي أجالها، وكانت ثلاثة مكتوب على إحداها: أمرني ربي، وعلى الثاني: نهاني ربي، والثالث غفل، ليس عليه شيء. فإن خرج الآمر مضى لطيته، أي: لنيته التي انتواها، وإن خرج الناهي لم يفعل وأمسك، وإن خرج الغفل أعاد الاستقسام. (المخمصة) : المجاعة. (مُتَجانِفٍ) : منحرف مائل، من الجنف وهو الميل والجور. الإعراب: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) كلام مستأنف مسوق لبيان ما أجمله في السابق وهو قوله تعالى: «إلا ما يتلى عليكم» . وحرمت فعل ماض مبني للمجهول وعليكم متعلقان بحرمت، والميتة نائب فاعل، والدم ولحم الخنزير معطوفان على الميتة (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) عطف أيضا، وما اسم موصول، وأهل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل هو، والجملة صلة الموصول، ولغير الله متعلقان بأهل، وبه متعلقان بأهلّ أيضا (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ) كلها معطوفة داخلة في حكم المحرمات (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) إلا أداة استثناء وما اسم موصول مستثنى متصل منصوب، وجملة ذكيتم صلة الموصول، وجملة الاستثناء حالية (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 الجملة معطوفة على المحرمات (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) المصدر المؤوّل معطوف أيضا، أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام (ذلِكُمْ فِسْقٌ) مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، واسم الاشارة راجع الى الاستقسام بالأزلام خاصة، وقيل: الى جميع ما تقدم (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) اليوم ظرف زمان متعلق بيئس وأراد به مطلق الحال، لا يوما بعينه، على حد قول أبي العلاء المعري: الآن لما ابيضّ مسربتي ... وعضضت من نابي على جذم حلبت هذا الدهر أشطره ... وأتيت ما آتي على علم فقوله: «الآن» أراد به الزمان الحاضر، والمسربة: شعر الصدر، وهو آخر ما يشيب من الإنسان، فبياض المسربة كناية عن بلوغه غاية الشوط في الشيب، وخاتمة المطاف في العمر. ومعنى البيتين: صارت عادتي أني أفعل ما أفعله على علم عندي من طول تجربتي لحوادث الدهر، والجملة مستأنفة، والذين اسم موصول فاعل وجملة كفروا صلة، ومن دينكم متعلقان بيئس، أي: من إبطال أمر دينكم (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) الفاء الفصيحة، ولا ناهية، وتخشوهم فعل مضارع مجزوم بلا، واخشوني فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة لا محل لها (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) اليوم ظرف زمان متعلق بأكملت، ولكم متعلقان بها أيضا، ودينكم مفعول به لأكملت، والجملة مستأنفة (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) عطف على ما تقدم، وعليكم متعلقان بأتممت ونعمتي مفعول به لأتممت (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) الواو استئنافية، ورضيت فعل وفاعل، لكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة ل «دينا» ، ودينا مفعول به أو تمييز، لأن معنى رضيت جعلت. وإذا كانت بمعنى الرضا كانت «دينا» حالا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 الإسلام ولكم متعلقان برضيت (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) الفاء استئنافية، ومن اسم شرط جازم مبتدأ، واضطر فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط ونائب الفاعل هو يعود على من، وفي مخمصة متعلقان باضطر (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) غير متجانف نصب على الحال ولإثم جار ومجرور متعلقان بمتجانف، والفاء رابطة لجواب الشرط، وإن واسمها وخبراها، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» . الفوائد: صيغة «فعيل» إذا كانت بمعنى مفعول يستوي فيها المذكر والمؤنث، فلا تلحقها علامة التأنيث، إذ تقول العرب: عين كحيل لا كحيلة، وكف خضيب لا خضيبة، فكيف لحقت التاء «نطيحة» وهي بمعنى منطوحة؟ وقد قيل في الجواب: إن التاء هنا للنقل من الوصفية الى الاسمية، أو إن فعيلا هنا بمعنى فاعل، كأنه قال: والناطحة التي تموت بالنطاح، أي تنطح غيرها، وغيرها ينطحها، فتموت. وقال الكوفيون: إنما يمتنع إلحاق التاء بفعيل بمعنى مفعول إذا كان وصفا لموصوف مذكور، كعين كحيل، فأما إذا لم يسبق للموصوف ذكر فلا يمتنع إلحاق التاء. وهذا تعليل جميل، فإن «ذبيحة» و «نطيحة» ونحوهما إذا لم يسبقهما موصوف لم يعلم: أهي مذكر أم مؤنث؟ مثل: رأيت جريحة، أما إذا علم فلا، نحو: رأيت امرأة جريحا، أو رأيت جريحا ملقاة في الطريق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 [سورة المائدة (5) : آية 4] يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) اللغة: (الْجَوارِحِ) : الكواسب من سباع البهائم والطير، كالكلب والعقاب. (مُكَلِّبِينَ) : المكلّب اسم مفعول من كلّب، أي: المضرى بالصيد من هذه الجوارح، والمروّض منها على الافتراس، لأن الترويض أكثر ما يكون للكلب، فاشتقّ من لفظه لشيوع الغلبة عليه. الإعراب: (يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ) جملة مستأنفة مسوقة للاجابة عن سؤالهم: ماذا أحل لهم؟ ويسألونك فعل مضارع وفاعل ومفعول به، وماذا: تقدم أن لنا في اعرابها وجهين: إما أن نجعل ماذا كلها اسم استفهام مبتدأ، وجملة أحل لهم خبره، وإما أن نجعل ما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبر، وجملة أحل لهم صلة الموصول. والجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني ليسألونك، وقد نصوا على أن فعل السؤال يعلّق عن العمل وإن لم يكن من أفعال القلوب، لأنه سبب العلم، فكما يعلق العلم فكذلك يعلق سببه (قُلْ: أُحِلَّ لَكُمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 الطَّيِّباتُ) جملة قل استئنافية، وجملة أحل لكم الطيبات في محل نصب مقول القول، ولكم متعلقان بأحل والطيبات نائب فاعل (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) الواو عاطفة، وما اسم موصول معطوف على الطيبات، وجملة علمتم صلة الموصول، ومن الجوارح متعلقان بمحذوف حال، وفي صاحبها وجهان: أحدهما اسم الموصول وهو «ما» ، والثاني أنه العائد المحذوف على اسم الموصول، أي: علمتموه. ومكلبين حال من علمتم، أفادت أن التعليم يحتاج الى الخبرة التامة والمقدرة المتناهية، وأن على المتعلم أن يأخذ العلم عن أربابه الأكفياء. وأجاز بعضهم أن تكون الواو استئنافية وما شرطية في محل رفع على الابتداء، وجواب الشرط هو فكلوا، وهو اعراب سائغ (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ) جملة تعلمونهن حال ثانية أو استئنافية، ومما متعلقان بتعلمونهن، وجملة علمكم الله صلة الموصول. ومفعولا علمتم وتعلمونهن الثانيين محذوفان، والتقدير: وما علمتموه طلب الصيد لكم لا لأنفسهن، تعلمونهن ذلك (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) الفاء الفصيحة أو رابطة لجواب الشرط على الإعراب الثاني، ومما متعلقان بكلوا، وجملة أمسكن صلة «ما» وعليكم متعلقان بأمسكن (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) الواو عاطفة، والجملة عطف على جملة فكلوا، وجملة فكلوا لا محل لها، أو في محل جزم جواب الشرط (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) عطف على ما تقدم، وإن واسمها وخبرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 [سورة المائدة (5) : آية 5] الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) اللغة: (حِلٌّ) : مصدر بمعنى حلال، فلا يثنى ولا يجمع. (مُحْصِنِينَ) : أعفاء، أحصنوا أنفسهم بالزواج، ولم يتطلعوا الى الزنا فعلا ولا قصدا. (أَخْدانٍ) : جمع خدن بكسر الخاء، وهو يقع على المذكّر والمؤنّث. الإعراب: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) كلام مستأنف مسوق لتكرير ذكر الطيبات التي أحلت لكم يوم السؤال عنها، أو اليوم الذي أكملت لكم دينكم. وقيل: ليس يوما معينا. واليوم ظرف زمان متعلق بأحل، وأحل فعل ماض مبني للمجهول، ولكم متعلقان بأحل، والطيبات نائب فاعل (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) الواو استئنافية، وطعام مبتدأ، والذين مضاف اليه، وأوتوا فعل ماض مبني للمجهول ونائب فاعل، والكتاب مفعول به ثان، والجملة صلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 الموصول، وحل خبر طعام، ولكم متعلقان بحل، وطعامكم حل لهم عطف على ما تقدم (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الواو استئنافية أو عاطفة، والمحصنات مبتدأ خبره محذوف دل عليه ما قبله، أي: حلّ لكم، ومن المؤمنات متعلقان بمحذوف حال من المحصنات، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم عطف على ما تقدم، ومن قبلكم متعلقان بمحذوف حال (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) الظرف إذا متعلق «بحل» المحذوفة، آتيتموهن فعل ماض وفاعل ومفعول به أول، والجملة في محل جر بالإضافة، وأجورهن مفعول به ثان، ومحصنين حال وغير مسافحين حال ثانية، ولا متخذي أخدان عطف على مسافحين (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) الواو استئنافية، ومن اسم شرط جازم مبتدأ، ويكفر فعل الشرط، وبالايمان متعلقان بيكفر، والفاء رابطة لجواب الشرط، وقد حرف تحقيق، وحبط عمله فعل وفاعل، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) الواو حرف عطف وهو مبتدأ وفي الآخرة متعلقان بمحذوف حال ومن الخاسرين متعلقان بمحذوف خبر «هو» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 [سورة المائدة (5) : آية 6] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) اللغة: (الْمَرافِقِ) : جمع مرفق بكسر الميم وفتح الفاء، وبفتح الميم وكسر الفاء، وهو الموصل بين الساعد والعضد. وجمعه وثنّى الكعبين لأن للانسان مرفقا واحدا في كل يد، فناسب أن يذكر بالنسبة للجميع بالجمع، بعكس الكعبين فان الكعبين هما العظمان الناشزان من جانبي القدم، فناسب أن يذكر الاثنان من كل رجل. وسبب آخر وهو أن جمع المرفق لفظ مأنوس في الكلام، أما جمع الكعب فهو لفظ لا يخلو ذكره في الكلام، إذ يجمع على كعاب وكعوب وأكعب، وهذا أمر مرّده الى الذوق وحده. (الْغائِطِ) : المطمئن من الأرض والمنخفض منها، ويقصد به هنا قضاء الحاجة كما سيأتي في باب البلاغة. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم اعرابها (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام الوضوء لأداء فريضة الصلاة، وهي أعظم الطاعات بعد الايمان. وإذا ظرف مستقبل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 متضمن معنى الشرط متعلق بقوله فاغسلوا، وجملة قمتم في محل جر بالإضافة، والى الصلاة متعلقان بقمتم، والفاء رابطة، وجملة اغسلوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، ووجوهكم مفعول به (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) وأيديكم عطف على وجوهكم، والى حرف جر يدل على معنى الغاية والانتهاء مطلقا، ودخولها في الحكم وخروجها منه أمر يدور مع الدليل، فمما فيه دليل على الخروج قوله تعالى: «فنظرة الى ميسرة» لأن الإعسار علة الإنظار، وبوجود الميسرة تزول العلة، ولو دخلت الميسرة فيه لكان منتظرا في كلتا الحالين معسرا وموسرا. وكذلك «ثم أتموا الصيام الى الليل» ولو دخل الليل لوجب الوصال. ومما فيه دليل على الدخول قولك: حفظت القرآن من أوله الى آخره، لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله. ومنه في القرآن: «سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى» ومعلوم أنه لا يسري به الى بيت المقدس من غير أن يدخله. وقوله تعالى: «إلى المرافق» و «إلى الكعبين» لا دليل فيه على أحد الأمرين، فأخذ العلماء بالأحوط، فحكموا بدخولها في الغسل. والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) عطف على ما تقدم. وقد كثر الاختلاف حول هذه الباء، فقال بعضهم هي زائدة، وقال بعضهم: هي للتبعيض، كقول عمر بن أبي ربيعة: فلثمت فاها آخذا بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج وقال بدر الدين بن مالك: وفيه تأييد لمذهب الشافعي في مسح بعض الرأس. وأنكر ذلك محب الدين أبو البقاء العكبري، وقال الشيخ شهاب الدين القرافي: إذا قلت: مسحت بالمنديل، وكتبت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 بالقلم، وطفت بالبيت، فمن المعلوم أنك ما مسحت بكل المنديل، ولا كتبت بكل القلم، ولا طفت بكل البيت، علوا وسفلا، وظهرا وبطنا، وإنما مسحت ببعض ذا وكتبت ببعض ذا وطفت بظاهر ذا، واختار ابن هشام والزمخشري أن تكون الباء للإلصاق، وما مسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح برأسه. وقد أخذ مالك وأحمد بالاحتياط فأوجبا الاستيعاب، وأخذ الشافعي باليقين فأوجب أقل ما يقع عليه اسم المسح، وأخذ أبو حنيفة ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما روي أنه مسح على ناصيته، وقدّر الناصية بربع الرأس. وإنما أطلنا في هذا البحث لطرافته، ورياضته للذهن. والجار والمجرور متعلقان بامسحوا، وسيأتي مزيد بحث عنه. (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) قرأ نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب: وأرجلكم، بالفتح، أي: واغسلوا أرجلكم الى الكعبين، وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق من الجانبين. وقرأها الباقون: ابن كثير وحمزة وأبو عمرو بالجر، والظاهر أنه عطف على الرأس، أي: وامسحوا بأرجلكم الى الكعبين. ومن هنا اختلف المسلمون في غسل الرجلين ومسحهما، فجماهير أهل السنة على أن الواجب هو الغسل وحده، والشيعة والإمامية أنه المسح. وقال داود بن علي والناصر للحق من الزيدية: يجب الجمع بينهما. وقد رأى ابن جرير الجمع بين القولين للاحتياط. وقد عللوا تأخيره في قراءة النصب بأن صب الماء مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه، فعطفت على الثالث المسوح لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها. وقد أطالوا في التخريج والتأويل إطالة لا يتسع لها صدر هذا الكتاب، وهي ناشئة عن الولع بالتحقيق والوصول الى ما هو أجدى وأسلم، ولهذا جنح ابن جرير الى الجمع، وفيه من حسن النية، وسلامة الطوية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 الشيء الكثير. (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) الواو عاطفة، وإن شرطية، وكنتم كان واسمها، وهي فعل الشرط، وجنبا خبر كنتم، وجملة اطهروا جواب الشرط (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) الواو عاطفة وإن شرطية وكنتم فعل الشرط والتاء اسمها ومرضى خبرها، أو حرف عطف، وعلى سفر متعلقان بمحذوف خبر ثان لكنتم، وجاء عطف على كنتم، وأحد فاعل جاء منكم متعلقان بمحذوف صفة لأحد، ومن الغائط متعلقان بجاء، وأو حرف عطف، ولامستم النساء عطف على ما تقدم (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) الفاء حرف عطف ولم تجدوا عطف أيضا، وماء مفعول به، والفاء رابطة لجواب الشرط وجملة فتيمموا صعيدا في محل جزم جواب الشرط، وطيبا صفة (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) عطف على ما تقدم، ومنه متعلقان بامسحوا (ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان الحكمة من شرائع الدين. وما نافية، يريد الله فعل وفاعل، واللام للتعليل، ويجعل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وأن المضمرة والفعل المضارع مصدر مؤول مفعول يريد والجعل إما بمعنى الإيجاد والخلق فيتعدى لمفعول به واحد، وعليكم متعلقان به، ومن حرف جر زائد، وحرج مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول بجعل: وإما من الجعل، أي: التصيير، فيكون عليكم هو المفعول الثاني (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الواو عاطفة ولكن حرف استدراك وهي هنا مهملة لأنها مخففة ويريد فعل مضارع، وفاعله هو واللام للتعليل، ويطهركم منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بيريد. وليتم نعمته عليكم عطف عليه، ولعل واسمها، وجملة تشكرون في محل رفع خبرها، وجملة الرجاء حالية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 البلاغة: الكناية في قوله تعالى: «أو جاء أحد منكم من الغائط» فالمجيء من الغائط- وهو المطمئن أو المنخفض من الأرض- كناية عن الحدث، جريا على عادة العرب، وهي أن الإنسان منهم إذا أراد قضاء حاجة قصد مكانا منخفضا من الأرض وقضى حاجته فيه. الفوائد: اشتملت آية الوضوء على فوائد هامة لا يجوز إغفالها، ونشير إليها فيما يلي: 1- استغنى ببناء القلة في قوله: «وأرجلكم» عن بناء الكثرة لأنها لم يستعمل لها بناء كثرة، وقد يستغني ببعض أبنية القلة عن بناء الكثرة وضعا واستعمالا اتكالا على القرينة. وقد وضع الشاطبيّ قاعدة جميلة نلخصها فيما يلي: «وحقيقة الوضع أن تكون العرب لم تضع أحد البناءين استغناء عنه بالآخر، والاستعمال أن تكون وضعتهما معا، ولكنها استغنت في بعض المواضع عن أحدهما بالآخر، فالأول: كأرجل جمع رجل، وأعناق جمع عنق، وأفئدة جمع فؤاد، قال تعالى: «وأرجلكم الى الكعبين» ، «فاضربوا فوق الأعناق» ، «وأفئدتهم هواء» ، فاستغنى فيها ببناء القلة عن بناء الكثرة، لأنها لم يوضع لها بناء كثرة. والثاني: كأقلام. 2- لا شك في أن من أمر غيره بأن يمسح رأسه كان ممتثلا فعل ما يصدق عليه مسح، وليس في اللغة ما يقتضي أنه لا بد في مثل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 هذا الفعل من مسح جميع الرأس، وهكذا سائر الأفعال المتعدية، نحو: اضرب زيدا أو أطعنه، أو ارجمه. فإنه يوجد المعنى بوقوع الضرب أو الطعن أو الرجم على عضو من أعضائه، ولا يقول قائل من أهل اللغة أو من هو عالم بها: إنه لا يكون ضاربا إلا بإيقاع الضرب على كل جزء من أجزاء زيد، وكذلك الطعن والرجم وسائر الافعال. 3- قال تعالى: «إذا قمتم الى الصلاة» ، وفي الجنابة «وإن كنتم مرضى» لأن «إذا» تدخل على كائن أو منتظر لا محالة، «وإن» تدخل على أمر ربما كان وربما لا يكون. والقيام الى الصلاة ملازم والجنابة ليست بملازمة، فإنها قد توجد وقد لا توجد. ولهذا درج المفسرون على تفسير «إذا قمتم» أي: إذا أردتم القيام، من إقامة المسبب مقام السبب، والقيام متسبب عن الإرادة، والارادة سببه. 4- من طريف الأبحاث اختلاف العلماء في دخول المرفق في الغسل، فقال قوم: إن المرفق داخل في مسمى اليد، لأن اليد من رأس الأنامل الى الإبط. وهذا ينتقض بقولك: نمت البارحة الى نصفها، ولا يجوز أن يقال: إنه نام البارحة كلها. وقال الجمهور بغسل المرفقين مع اليدين، وقال مالك وزفر لا يجب غسل المرفقين. وهذا الخلاف أيضا في الكعبين، حجة زفر أن «إلى» لانتهاء الغاية، والمنتهى غير النهاية، فلا يتعين غسل النهاية. والجواب من وجهين: آ- الأول مذهب الزجاج: قال: سلمنا أن المرفق لا يجب غسله، لكن المرفق اسم لما جاوز طرف العظم، فإنه هو المكان الذي يرتفق به، أي يتكأ عليه. ولا نزاع في أن ما وراء أطراف العظم لا يجب غسله. ب- الثاني: أن حد الشيء قد يكون منفصلا عن المحدود، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 كقوله تعالى: «ثم أتموا الصيام الى الليل» فإن النهار منفصل عن الليل في الحسّ، وقد لا يكون منفصلا، كقولك: بعتك هذا الثوب من هنا الى هنا. فهذا الحد غير منفصل، ولا شك في أن امتياز المرفق عن الساعد ليس منفصلا معينا، وإذا كان كذلك فليس إيجاب الغسل الى حيز أولى من إيجابه الى حيز آخر، فوجب القول بغسل كل المرفق. وقال بعضهم: النهاية غير المتناهي، وغسل المرافق لم يفهم من الآية الكريمة، وإنما فهم من فعله صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا لو قلت: بعتك من هذه الشجرة الى هذه الشجرة، لم تدخل الغاية هاهنا. وإذا قلت: بعتك من هذا الحائط الى هذا الحائط، دخل الحائطان في المبيع. والفرق بينهما أن الغاية في الأولى من جنس ما دخلت فيه فهي خارجة عنه، وكذلك المرفق من جنس اليد فهو خارج عن الغسل. وفي الثانية أن الغاية خارجة، لأن الحائط ليس من جنس البستان، فلهذا دخل الحائطان في المبيع. ألا ترى أن قوله تعالى: «ثم أتموا الصيام الى الليل» لما كان الليل من غير جنس النهار اعتبر دخول أول الليل؟ قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أدبر النهار من هاهنا، وأقبل الليل من هاهنا، فقد أفطر الصائم» فاعتبر دخول الليل لأنه خارج عن النهار. [سورة المائدة (5) : الآيات 7 الى 8] وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 الإعراب: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) الواو الواو استئنافية، والكلام مستأنف مسوق لتذكير المؤمنين بنعمه عليهم وميثاقه الذي واثقهم به. واذكروا نعمة الله فعل أمر وفاعل ومفعول به، وعليكم جار ومجرور متعلقان بنعمة وميثاقه عطف على نعمة الله، والذي صفة لميثاق وجملة واثقكم به صلة الموصول (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بواثقكم، وجملة قلتم في محل جر بالاضافة، وجملة سمعنا مقول القول، وجملة وأطعنا عطف عليها (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) كلام مستأنف، واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به، وجملة إن وما في حيزها تعليلية، وذات الصدور الأمور المكنونة في الصدور (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان الأمور المتعلقة بما يجري بينهم وبين غيرهم. وكونوا فعل أمر ناقص، والواو اسمها، وقوامين خبرها، ولله متعلقان بقوامين، وشهداء خبر ثان لكونوا، وبالقسط متعلقان بشهداء (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) الواو عاطفة، ولا ناهية، ويجرمنكم فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم بلا، والكاف مفعول به، وشنآن قوم فاعل، وعلى حرف جر، وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مجرور بعلى، والجار والمجرور متعلقان بيجرمنكم، لأنه تضمن معنى لا يحملنكم (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) جملة اعدلوا مفسرة، وهو ضمير منفصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 مبتدأ يعود على المصدر المفهوم من قوله: «اعدلوا» وأقرب خبر، والجملة مستأنفة، وللتقوى متعلقان بأقرب (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) تقدم إعراب مثيلها قريبا. البلاغة: التكرير في طلب المعدلة، والسر فيه التأكيد على العدل والتشويق اليه. وخلاصة المعنى: لا يحملنكم بغضكم للمشركين على ترك المعدلة فتعتدوا عليهم. وهذا منتهى ما تصل اليه المثل العليا، والقيم الانسانية السامية. [سورة المائدة (5) : الآيات 9 الى 11] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) الإعراب: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) كلام مستأنف مسوق لبيان وعده سبحانه، فإن النفس الانسانية مفطورة على التوجه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 بالسؤال عن بيان هذا الوعد. ووعد الله فعل وفاعل، والذين مفعول به. وجملة آمنوا صلة الموصول، وعملوا الصالحات عطف على الصلة (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) لهم الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ومغفرة مبتدأ مؤخر، والجملة يجوز أن تكون مفسرة للمفعول به الثاني المحذوف للفعل «وعد» ، وتقديره «الجنة» ، ويجوز أن تكون استئنافا بيانيا، كأنه قال: قوم لهم وعد، فقيل: أي شيء وعده؟ فقال: لهم مغفرة وأجر عظيم. وعلى هذا لا محل لها أيضا. ولك أن تجعلها مقولا لقول محذوف تتضمن زيادة التقرير الموعود به والتأكيد لوقوعه. وقيل: هي جملة في محل نصب على أنها المفعول الثاني لقوله «وعد» على معنى: وعدهم أن لهم مغفرة، أو وعدهم مغفرة. فوقعت الجملة موقع المفرد، فأغنت عنه (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) الواو استئنافية، والذين مبتدأ، وجملة كفروا صلة، وجملة كذبوا بآياتنا عطف على الصلة، وأولئك مبتدأ ثان، وأصحاب الجحيم خبر أولئك، والجملة الاسمية خبر الذين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها كثيرا (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) تقدم اعرابها قريبا والجملة مستأنفة (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) إذ ظرف للنعمة متعلق بها، ويجوز أن يتعلق باذكروا، وجملة همّ قوم في محل جر بالاضافة، وأن يبسطوا مصدر مؤول منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان ب «همّ» ، وإليكم متعلقان بيبسطوا، وأيديهم مفعول به (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) عطف على ما تقدم (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) الواو استئنافية واتقوا الله فعل وفاعل ومفعول، وعلى الله متعلقان بتوكل، والفاء استئنافية واللام لام الأمر، ويتوكل فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، والمؤمنون فاعل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 البلاغة: بسط اليد: عبارة مجازية مرسلة بعلاقة السببية، لأن اليد سبب الإيذاء، كما أن بسط اللسان عبارة مجازية، علاقتها السببية. [سورة المائدة (5) : آية 12] وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) اللغة: (نَقِيباً) : النقيب في القوم من ينقب عن أحوالهم، ويبحث عن شئونهم، وهو «فعيل» بمعنى فاعل مشتق من التنقيب، وهو التفتيش. ومنه قوله تعالى: «فنقّبوا في البلاد» ، وسمي بذلك لأنه يفتش عن أحوال القوم وأسرارهم وقيل: هو بمعنى «مفعول» كأن القوم اختاروه على علم منهم. وقيل: هو للمبالغة كعليم وخبير. (عَزَّرْتُمُوهُمْ) نصرتموهم. وفي المختار: التعزير: التوقير والتعظيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 الإعراب: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) كلام مستأنف مسوق لذكر بعض ما صدر عن بني إسرائيل، وفيه تحريص للمؤمنين على ذكر نعمة الله، ومراعاة حق الميثاق، وتحذير من نقضه. واللام جواب قسم محذوف، وقد حرف تحقيق، وأخذ الله فعل وفاعل، وميثاق مفعول به، وبني إسرائيل مضاف اليه (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) وبعثنا عطف على أخذ، ومنهم متعلقان ب «نقيبا» أو حال من «اثني عشر» ، واثني عشر مفعول به لبعثنا، ونقيبا تمييز (وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ) الواو عاطفة، على طريق الالتفات، وقال الله فعل وفاعل، وإني إن واسمها، ومعكم ظرف متعلق بمحذوف خبرها، وإن وما في حيزها مقول القول (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ) اللام موطئة للقسم المحذوف، وإن شرطية، وأقمتم فعل وفاعل، وهو في محل جزم فعل الشرط، والصلاة مفعول به، وآتيتم الزكاة عطف على أقمتم الصلاة والجملة القسمية مستأنفة (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) عطف على ما تقدم، وبرسلي متعلقان بآمنتم، وعزرتموهم عطف أيضا، وهو فعل وفاعل والواو لإشباع الضمة، والهاء مفعول به، وأقرضتم الله فعل وفاعل ومفعول به، وقرضا مفعول مطلق، وحسنا صفة (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) اللام واقعة في جواب القسم، والجملة لا محل لها لأنها جواب للقسم، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم المتقدم عليه، وعنكم متعلقان بأكفرنّ، وسيئاتكم مفعول به، ولأدخلنكم عطف على «لأكفرن» ، وجنات مفعول به ثان على السعة أو منصوب بنزع الخافض، وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة لجنات (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) الفاء استئنافية. ومن شرطية مبتدأ، وكفر فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، وبعد ذلك ظرف متعلق بكفر، ومنكم متعلقان بمحذوف حال، فقد الفاء رابطة لجواب الشرط، والجملة في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» ، وسواء السبيل مفعول ضل. البلاغة: في قوله تعالى: «وأقرضتم الله قرضا حسنا» استعارة تصريحية. فقد شبه الإنفاق في سبيل الله لوجهه بالقرض، على سبيل المجاز، لأنه بإعطاء المستحق ما له لوجه الله، فكأنه أقرضه إياه. [سورة المائدة (5) : آية 13] فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) اللغة: (لَعَنَّاهُمْ) : طردناهم وأبعدناهم عن رحمتنا. (خائِنَةٍ) : الخائنة هنا: الخيانة. والعرب تعبر بصيغة اسم الفاعل عن المصدر أحيانا وبالعكس، فاستعملت القائلة بمعنى القيلولة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 والخاطئة بمعنى الخطيئة. أو هي وصف لمحذوف، إما مذكر والهاء للمبالغة، كما قالوا: راوية للشعر، لكثير الرواية، قال: حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن ... للغدر خائنة مغلّ الإصبع وداعية لمن جرد نفسه للدعوة الى الشيء. وإما مؤنث بتقدير: أو فرقة. الإعراب: (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان أن ما أصابهم من طرد وإبعاد عن الرحمة ناشىء عن نقضهم الميثاق. والباء حرف جر، وما زائدة لتوكيد الكلام، ونقضهم مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بلعناهم، وميثاقهم مفعول به للمصدر وهو النقض، ولعناهم، فعل وفاعل ومفعول به، (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) وجعلنا عطف عل ى لعناهم، وقلوبهم مفعول به أول، وقاسية مفعول ثان (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان مدى قسوة قلوبهم، والكلم مفعول يحرفون، وعن مواضعه جار ومجرور متعلقان بيحرفون (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) عطف على ما تقدم، ونسوا حظا فعل وفاعل ومفعول به، ومما جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ل «حظا» وجملة ذكروا به لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) الواو عاطفة، ولا تزال فعل مضارع ناقص، والاسم مستتر تقديره أنت، وجملة تطلع خبر لا تزال، وعلى خائنة متعلقان بتطلع، ومنهم متعلقان بمحذوف صفة لخائنة، وإلا أداة استثناء وقليلا مستثنى من الضمير المجرور في «منهم» ، ومنهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 متعلقان بمحذوف صفة ل «قليلا» ، وأراد بالقليل منهم من أسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) الفاء الفصيحة، أي: إذا عرفت هذا فاعف عمن جاءك معلنا توبته وانضواءه تحت لواء الدين القويم، واعف فعل أمر وعنهم متعلقان ب «اعف» واصفح عطف على فاعف (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) إن واسمها، وجملة يحب المحسنين خبر إن، وجملة إن وما في حيزها تعليلية لا محل لها. [سورة المائدة (5) : آية 14] وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) اللغة: (نَصارى) : في مختار الصحاح: النصير: الناصر وجمعه أنصار، كشريف وأشراف، وجمع الناصر نصر كصاحب وصحب. والنصارى جمع نصران ونصرانة، كالندامى جمع ندمان وندمانة. ولم يستعمل نصران إلا بياء النسب. وفي المصباح: ورجل نصراني بفتح النون، وامرأة نصرانية. ويقال: إنه نسبة الى قرية اسمها نصرى، ولهذا يقال في الواحد: نصري، على القياس، ثم أطلق النصراني على كل من تعبد بهذا الدين. وقال في المنجد: النصراني نسبة الى مدينة الناصرة على غير القياس: من يتبع دين السيد المسيح، والجمع نصارى، والمؤنث نصرانية. وقال في اللسان: ونصرى بفتحتين، ونصرى بفتح فسكون، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 وناصرة ونصورية: قرية بالشام، والنصارى منسوبون إليها، قال ابن سيده: هذا قول أهل اللغة، قال: وهو ضعيف، إلا أن نادر النسب يسعه. قال: وأما سيبويه فقال: أما نصارى فذهب الخليل الى أن جمع نصري ونصران، كما قالوا: ندمان وندامى، ولكنهم حذفوا إحدى الياءين، كما حذفوا من أثفيّة، وأبدلوا مكانها ألفا، كما قالوا: صحارى. قال: وأما الذين نوجهه نحن عليه فإنه جاء على نصران لأنه قد تكلم به، فكأنك جمعت نصرا كما جمعت مسمعا وقلت نصارى كما قلت ندامى. (أغرينا) : ألصقنا وألزمنا، وهي من غري بالشيء إذا لزمه ولصق به، ومعنى الغراء الذي يلصق به، والغراء مثل كتاب، وفي المصباح: غري بالشيء غريا من باب تعب أولع به من حيث لا يحمله عليه حامل، وأغريته به إغراء فأغري به بالبناء للمفعول، والاسم الغراء بالفتح والمد والغراء مثل كتاب: ما يلصق به، معمول من الجلود، وقد يعمل من السمك. والغرا مثل العصا: لغة فيه، وغروت الجلد أغروه من باب عدا: ألصقته بالغراء، وأغريت بين القوم: مثل أفسدت وزنا ومعنى، وغروت غروا من باب قتل: عجبت، ولا غرو: ولا عجب. الإعراب: (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) كلام مستأنف مسوق للحديث عن النصارى. والجار والمجرور متعلقان بأخذنا، وجملة قالوا لا محل لها لأنها صلة الموصول، وإن واسمها، ونصارى خبرها، وجملة أخذنا مستأنفة كما تقدم، وميثاقهم مفعول به، وجملة إنا نصارى مقول القول. وهناك أوجه أخرى تراها في باب الفوائد. (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) الفاء عاطفة، ونسوا عطف على أخذنا، والواو فاعل، وحظا مفعول به، ومما متعلقان بمحذوف صفة ل «حظا» ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 وجملة ذكروا صلة الموصول، وبه جار ومجرور متعلقان بذكروا، والواو نائب فاعل (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) عطف على ما تقدم، وأغرينا فعل وفاعل، والظرف متعلق بأغرينا، والعداوة مفعول به، والى يوم القيامة متعلقان بمحذوف حال، أي: ممتدة الى يوم القيامة (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) الواو عاطفة، وسوف حرف استقبال، وينبئهم فعل وفاعل ومفعول به، وبما متعلقان بينبئهم، وجملة كانوا صلة الموصول، وجملة يصنعون خبر كانوا. الفوائد: أنهى بعض المعربين الأوجه التي أجازوها في هذه الآية الى وجوه منها ما اخترناه، وهو ما ذهب اليه الزمخشري، ولكنه جعل الضمير في ميثاقهم عائدا على بني إسرائيل، والتقدير: وأخذنا من النصارى ميثاقا مثل ميثاق بني إسرائيل، وهناك وجه جدير بالذكر وهو أن يتعلق قوله: «ومن الذين» بمحذوف على أنه خبر لمبتدأ محذوف قامت صفته مقامه، والتقدير: ومن الذين قالوا إنا نصارى قوم أخذنا ميثاقهم. [سورة المائدة (5) : الآيات 15 الى 16] يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 الإعراب: (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) كلام مستأنف مسوق لخطاب أهل الكتاب عامة على طريق الالتفات. ويا حرف نداء للمتوسط، وأهل الكتاب منادى مضاف منصوب، وقد حرف تحقيق، وجاءكم فعل ماض ومفعول به مقدم، ورسولنا فاعل مؤخر (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) الجملة حالية من «رسولنا» ولكم متعلقان بيبيّن، وكثير مفعول به، ومما جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ل «كثيرا» وما اسم موصول وكنتم كان واسمها، والجملة صلة، وجملة تخفون في محل نصب خبر كنتم، ومن الكتاب جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من العائد المحذوف (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) الجملة معطوفة على جملة «يبين» الحالية داخلة في حكمها (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان الفائدة من مجيء الرسول. ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، لأنه كان في الأصل صفة لنور، وتقدم عليه. ونور فاعل «جاءكم» ، وكتاب عطف على «نور» ، ومبين صفة (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) الجملة صفة لكتاب، وبه متعلقان بيهدي، والله فاعل، ومن اسم موصول مفعول به، وجملة اتبع رضوانه صلة الموصول، وسبل السلام مفعول به ثان على السعة ليهدي، أو منصوب بنزع الخافض، والجار والمجرور متعلقان بيهدي (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ) الواو عاطفة، ويخرجهم معطوف على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 يهدي، والهاء مفعول به، ومن الظلمات متعلقان بيخرجهم، وكذلك الى النور، وبإذنه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) عطف على ما تقدم، وقد تقدم إعرابه كثيرا. البلاغة: في قوله تعالى: «من الظلمات الى النور» استعارتان تصريحيتان أصليتان، يقصد بالأولى الضلال وبالثانية الهدى والايمان، والعلاقة المشابهة، وقد لفظ المشبه واستعير بدله لفظ المشبه به، ليقوم مقامه، بادعاء أن المشبه به هو عين المشبه، وهذا أبعد مدى في البلاغة، وأدخل في بابها، ولما كان المشبه به مصرحا به في هذا المجاز سميت الاستعارة تصريحية، وسميت أصلية لأنها جارية في الاسم. ومن الاستعارة التصريحية قول أبي الطيب: وأقبل يمشي في البساط فما درى ... إلى البحر يسعى أم الى البدر يرتقي فقد شبه سيف الدولة بالبحر ثم استعير اللفظ الدال على المشبه به وهو البحر للمشبه وهو سيف الدولة، على سبيل الاستعارة التصريحية، والقرينة: فأقبل يمشي في البساط، وكذلك يقال في تشبيه سيف الدولة بالبدر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 [سورة المائدة (5) : آية 17] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) اللغة: (يَمْلِكُ) : تقول العرب: ملك فلان على فلان أمره إذا استولى عليه فضار لا يستطيع أن ينفذ أمرا ولا أن يفعل شيئا إلا به وبإذنه. قال ابن دريد في وصف الخمر التي لم يكسر المزاج حدتها ولم تبطل النار تأثيرها: لم يملك الماء عليها أمرها ... ولم يدنّسها الضّرم المحتضى وقوله تعالى: «فمن يملك من الله شيئا» أبلغ من مثل هذا القول، لأنه نفى أن يملك أحد بعض أمره تعالى، فضلا عن ملك أمره كله، فصار المعنى أنه لا يوجد أحد يستطيع أن يردّ أمره ويحوّله عن إرادته بوجه ما. الإعراب: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) اللام واقعة في جواب قسم محذوف، وقد حرف تحقيق، وكفر فعل ماض والذين فاعله، وجملة قالوا صلة الموصول، وجملة القسم مستأنفة، وجملة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 قد كفر لا محل لها لأنها جواب القسم، وإن واسمها وخبرها مقول القول وهو ضمير فصل يفيد الحصر لا عمل له والمسيح خبر إن، أو «هو» مبتدأ والمسيح خبر، والجملة خبر إن، وابن مريم بدل أو نعت (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) الجملة مستأنفة، وقل فعل أمر وفاعله أنت، والفاء عاطفة على جملة محذوفة هي مقول «قل» ، أي: قل تبكيتا وإظهارا لبطلان قولهم. ومن اسم استفهام انكاري مبتدأ، وجملة يملك خبر، ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أو بيملك، وشيئا مفعول به (إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ) الجملة الشرطية مفسرة لا محل لها، وإن شرطية، وأراد فعل الشرط، وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول أراد، والمسيح مفعول به، وابن مريم بدل أو نعت، وأمه عطف على المسيح، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، أي: فمن يملك من الله شيئا (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) الواو عاطفة، ومن اسم موصول معطوف على المسيح وأمه، وفي الأرض متعلقان بمحذوف صلة الموصول، وجميعا حال (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) الواو حالية، ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وملك السموات والأرض مبتدأ مؤخر، وما بينهما: الواو عاطفة على ملك وما اسم موصول، والظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان أنه سبحانه خالق الخلق حسب مشيئته (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الكلام مستأنف مسوق لبيان قدرته تعالى على كل شيء، فكل ما تعلقت به مشيئته ينفذ بقدرته، وإنما يعد بعض خلقه غريبا بالنسبة الى علم البشر الناقص، لا بالنسبة اليه تعالى. وقد تقدم اعرابها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 [سورة المائدة (5) : الآيات 18 الى 19] وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) اللغة: (فترة) من فتر الشيء إذا سكن أو زالت حدته، وقال الراغب: الفتور: سكون بعد حدة، ولين بعد شدة، وضعف بعد قوة. وذكر الآية. والمراد بها هنا انقطاع الوحي وظهور الرسل عدّة قرون. الإعراب: (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى) الواو استئنافية، وقالت اليهود فعل وفاعل، والنصارى عطف على اليهود (نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) الجملة مقول قولهم، ونحن مبتدأ وأبناء الله خبر، وأحباؤه عطف على أبناء الله (قُلْ: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟) الكلام مستأنف مسوق للرد على هذه الأقوال. وقل فعل أمر، والفاعل أنت والفاء هي الفصيحة، أي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 إذا كنتم كما تزعمون فما باله يعذبكم بما تقترفونه من الذنوب! ولم اللام حرف جر، وما اسم استفهام حذفت ألفه لدخول حرف الجر عليه، والجار والمجرور متعلقان بيعذبكم، ويعذبكم فعل مضارع ومفعوله، والفاعل هو، وبذنوبكم جار ومجرور متعلقان بيعذبكم أيضا، والجملة كلها مقول قولهم، وجملة لم يعذبكم لا محل لها لأنها واقعة جواب شرط غير جازم (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) بل حرف إضراب وعطف على محذوف متصيّد من مفهوم الكلام السابق. أي: فلستم حينئذ بهذه المثابة من القرب اليه سبحانه. وأنتم مبتدأ وبشر خبر، وممن جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبشر، وجملة خلق صلة الموصول «من» (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) الجملة مستأنفة، ولمن جار ومجرور متعلقان بيغفر، وجملة يشاء صلة، وجملة يعذب من يشاء عطف على الجملة الآنفة (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) الجملة مستأنفة، ولله متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وملك السموات مبتدأ مؤخر، والأرض عطف على السموات، وما عطف أيضا، والظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول، واليه المصير الواو عاطفة واليه جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والمصير مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة ولله ملك السموات والأرض (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) يا حرف نداء، وأهل الكتاب منادى مضاف، وقد حرف تحقيق، وجاءكم رسولنا فعل ومفعول به وفاعل، والجملة مستأنفة (يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) جملة يبين في محل نصب على الحال من «رسولنا» ، أي: مبينا لكم ولكم متعلقان بيبين، وعلى فترة جار ومجرور متعلقان بجاءكم، أي: جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل وانقطاع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 الوحي، أو بمحذوف وقع حالا من ضمير يبين، أو من ضمير لكم. أي: يبين لكم ما ذكر حال كونه على فترة من الرسل، أو حال كونكم عليها أحوج ما كنتم الى البيان. ومن الرسل جار ومجرور متعلقان بمحذوف وقع صفة لفترة، أي: كائنة من الرسل (أَنْ تَقُولُوا: ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) أن تقولوا المصدر المنسبك من أن والفعل بعدها مفعول لأجله على حذف مضاف، أي: كراهة قولكم، أو منصوب بنزع الخافض، مع تقدير النفي، أي: لئلا تقولوا، وجملة ما جاءنا في محل نصب مقول القول، ومن حرف جر زائد، وبشير فاعل محلا لجاءنا، ولا نذير عطف على من بشير (فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) الفاء هي الفصيحة، أي: إذا اعتذرتم بذلك فقد جاءكم بشير ونذير. وجاءكم بشير فعل ومفعول به وفاعل، ونذير عطف على بشير، والجملة لا محلّ لها من الإعراب لأنها واقعة في جواب شرط غير جازم (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الواو استئنافية، والله مبتدأ، وقدير خبره، والجار والمجرور متعلقان بقدير. [سورة المائدة (5) : الآيات 20 الى 21] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 الإعراب: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) : كلام مستأنف مسوق لبيان ما فعلوه، وما صدر عن بعضهم بعد أخذ الميثاق. وإذ ظرف لما مضى متعلق باذكر محذوفا، والخطاب للنبي ليعدّد عليه ما صدر عنهم، وجملة قال موسى من الفعل والفاعل في محل جر بالإضافة، ولقومه متعلقان بقال (يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) الجملة في محل نصب مقول القول، ويا حرف نداء، وقوم منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة، واذكروا نعمة الله فعل أمر وفاعل ومفعول به، وعليكم متعلقان بنعمة (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) إذ ظرف لما مضى متعلق بالنعمة، وجملة جعل في محل جر بالاضافة، وفيكم متعلقان بجعل على أنه مفعول به أول لجعل، وأنبياء مفعوله الثاني، وجعلكم ملوكا عطف على ما تقدم، وملوكا مفعول به ثان (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) الواو عاطفة، وآتاكم فعل ومفعول به أول، والفاعل هو، وما اسم موصول مفعول به ثان، وجملة لم يؤت أحدا صلة الموصول «ما» ، ومن العالمين متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والمراد بالعالمين الأمم الخالية الى زمانهم وعالم زمانهم، من خلق البحر، وتظليل الغمام، والمن والسلوى، وغير ذلك من الأمور العظيمة (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) الجملة استئنافية وادخلوا فعل أمر وفاعل، والأرض مفعول به على السعة، أو منصوب بنزع الخافض، والجار والمجرور متعلقان بادخلوا، والمقدسة صفة للأرض (الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) التي صفة ثانية للأرض، وجملة كتب الله صلة، ولكم جار ومجرور متعلقان بكتب (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) الواو عاطفة، ولا ناهية وترتدوا فعل مضارع مجزوم بلا، والواو فاعل، وعلى أدباركم متعلقان بمحذوف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 حال من فاعل ترتدوا (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) الفاء عاطفة، وتنقلبوا معطوف على ترتدوا فهو مجزوم مثله، ويجوز أن تكون الفاء هي السببية لتقدم النهي عليها، فهو منصوب بأن مضمرة بعدها، وخاسرين حال. الفوائد: المنادى المضاف الى ياء المتكلم أربعة أقسام: 1- ما فيه لغة واحدة، وهو المعتل بالياء أو بالألف، فإن ياءه المضاف إليها واجبة الثبوت والفتح نحو: يا قاضيّ ويا فتاي. 2- ما فيه لغتان: وهو الوصف المشبه للفعل المضارع، ونعني به اسمي الفاعل والمفعول ومبالغة اسم الفاعل، فان ياءه ثابتة دائما، وهي إما مفتوحة وإما مكسورة، نحو: يا مكرمي ويا ضاربي. 3- ما فيه ست لغات: وهو ما عدا ذلك، وليس أبا ولا أمّا، نحو: يا غلامي، فالأكثر فيه حذف الياء والاكتفاء بالكسرة، نحو: يا غلام، ثم ثبوتها ساكنة على الأصل، نحو يا غلامي، أو مفتوحة، نحو: يا غلامي. ثم قلب الكسرة فتحة والياء ألفا، نحو: يا حسرتا. ثم حذف الألف المنقلبة والاجتزاء بالفتح، فتقول: يا حسرة، ثم حذف الياء والاكتفاء بنيتها وضم الاسم المضاف للياء، مثل: يا غلام. 4- ما فيه عشر لغات: وهو الأب والأم، ففيهما مع اللغات الست المتقدمة أربع لغات أخر، وهي أن تعوض تاء التأنيث من ياء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 المتكلم وتكسرها وهو الأكثر، أو تفتحها أو تضمها وهو قليل، وربما جمع بين التاء والألف، فقيل: يا أبتا ويا أمتا. [سورة المائدة (5) : الآيات 22 الى 23] قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) اللغة: (جَبَّارِينَ) : الجبار: العاتي المتمرد، فعّال، من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه، وهو الذي يجبر الناس على ما يريد. والمراد هنا أنهم ذوو قوّة. الإعراب: (قالُوا: يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) الجملة مستأنفة، وقالوا فعل وفاعل، وجملة النداء وما بعدها مقول قولهم، وفيها متعلقان بمحذوف خبر إن المقدم، وقوما اسمها المؤخر، وجبارين: صفة ل «قوما» (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها) الواو عاطفة على ما تقدم، وإن واسمها، وجملة لن ندخلها خبرها، وحتى حرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 غاية وجر، ويخرجوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعدها والجار والمجرور متعلقان بندخلها، ومنها متعلقان بيخرجوا (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) الفاء استئنافية، وإن شرطية، ويخرجوا فعل الشرط، والفاء رابطة لأن الجملة بعدها اسمية لا تصلح جوابا، وإن واسمها وداخلون خبرها، والجملة في محل جزم جواب الشرط (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا) الجملة استئنافية، وقال رجلان: فعل وفاعل، ومن الذين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة، وجملة يخافون لا محل لها لأنها صلة الموصول، وجملة أنعم الله صفة ثانية أو معترضة فتكون لا محل لها، ولابن هشام قول فيها نورده في باب الفوائد، وعليهما متعلقان بأنعم (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) الجملة في محل نصب مقول قول الرجلين (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) الفاء استئنافية، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وهو متعلق ب «غالبون» وجملة دخلتموه في محل جر بالاضافة، والفاء رابطة لجواب إذا، وإن واسمها، وغالبون: خبرها (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة لتوصيتهم بالاتكال على الله أولا، والأخذ بأسباب الحيطة والحذر ثانيا، والفاء في قوله: «فتوكلوا» جواب أمر محذوف لا بد من تقديره: تنبّهوا فتوكلوا على الله، وعلى الله متعلقان بتوكلوا، كما قالت العرب: زيدا فاضرب، تقديره: تنبه فاضرب زيدا، وكثيرا ما يأتي معمول ما بعد الفاء متقدما عليها. وإن شرطية، وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمها ومؤمنين خبرها، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، أي: فتوكلوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 الفوائد: 1- قال ابن هشام في صدر حديثه عن هذه الآية: قوله تعالى: «قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما» فإن جملة: «أنعم الله عليهما» تحتمل الدعاء فتكون معترضة والإخبار فتكون صفة ثانية، ويضعف من حيث المعنى أن تكون حالا، ولا يضعف في الصناعة لوصفها» . هذا ما قاله ابن هشام، ولم يبين ابن هشام رحمه لله وجه الضعف من حيث المعنى، فإن جعلها حالا يقتضي أن قولهم في وقت إنعامه فقط، مع أن قولهم لا يتقيد بذلك. والحاصل أن الحالية تقتضي تقييد العامل مع أن المعنى ليس على التقييد. 2- عبارة السمين: وقال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين: في هذه الجملة خمسة أوجه، أظهرها أنها صفة ثانية فمحلها الرفع، وجيء هنا بأفصح الاستعمالين من كونه قدّم الوصف بالجار على الوصف بالجملة لقربه من المفرد. الثاني أنها متعرضة، وهو أيضا ظاهر. الثالث: أنها حال من الضمير في «يخافون» ، قاله مكيّ. الرابع: أنها حال من «رجلان» ، وجاءت الحال من النكرة لتخصصها بالوصف. الخامس: أنها حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور، وهو «من الذين» لوقوعه صفة لموصوف، وإذا جعلتها حالا فلا بد من إضمار «قد» مع الماضي، على خلاف في المسألة. 3- الرجلان اللذان أنعم الله عليهما هما يوشع بن نون، وهو الذي نبئ بعد موسى. وكالب بن يوقنا، وكالب بفتح اللام وكسرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 [سورة المائدة (5) : الآيات 24 الى 26] قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26) اللغة: (أَبَداً) : ظرف زمان، وهو هنا تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول. (يَتِيهُونَ) : يسيرون في الأرض متحيرين لا يهتدون طريقا. والتيه: المفازة التي يتاه فيها. (تَأْسَ) : تندم وتحزن والأسى: الحزن. ولامه يحتمل أن تكون من واو لقولهم: رجل أسواة، أي: كثير الحزن، ويحتمل أن تكون من ياء، فقد حكي: رجل أسيان، وفي مختار الصحاح: «وأسي على مصيبته من باب «صدي» أي: حزن، وقد أسي له أي حزن له. الإعراب: (قالُوا: يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها) كلام مستأنف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 مسوق للدلالة على تماديهم في العصيان. وقالوا: فعل وفاعل، وجملة النداء وما بعدها في محل نصب مقول قولهم، وإن واسمها، وجملة لن ندخلها خبر، وأبدا ظرف زمان متعلق بندخلها، وما داموا ما: مصدرية ظرفية، وداموا هي دام الناقصة، والواو اسمها، وفيها متعلقان بمحذوف خبرها، وهذا الظرف بدل من «أبدا» لأنه بمثابة البيان له، فهو بدل مطابق أو كل من كل، وقيل: هو بدل بعض من كل، لأن الأبد يعم الزمن المستقبل كله، وديمومة الجبارين فيها بعضه (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) الفاء الفصيحة، كأنهم قد أضمروا كلاما ينطوي على الاستهانة والسخرية بالله ورسوله. واذهب فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت، وأنت تأكيد للفاعل المستتر، وربك عطف على الفاعل المستتر في «اذهب» ، وجاز للتأكيد بالضمير، كما نصّ على ذلك ابن مالك في الخلاصة: وإن على ضمير رفع متصل ... عطفت فافصل بالضمير المنفصل فقاتلا عطف على «اذهب» ، والألف فاعل قاتل (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان إصرارهم على أنهم لن يتقدموا، وإن واسمها، والهاء للتنبيه وهنا اسم اشارة في محل نصب على الظرفية المكانية، والظرف متعلق ب «قاعدون» ، وقاعدون خبر إن (قالَ: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) الجملة مستأنفة مسوقة للبثّ والشكوى الى الله، والحسرة ورقة القلب، وهي من الوسائل التي تستمطر فيها الرحمة ويستنزل النصر. وقال فعل ماض والفاعل هو، ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة، وقد تقدم القول مسهبا في المنادى المضاف الى ياء المتكلم، وإن واسمها، والجملة مقول القول، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 وجملة لا أملك خبر إن، وإلا أداة حصر، ونفسي مفعول به، وأخي من طريف الإعراب وهو يحتمل الرفع والنصب والجر، وكلها متساوية. أوجه الرفع: فالرفع من ثلاثة أوجه هي: 1- أن يكون عطفا على الضمير المستتر في «أملك» . 2- أن يكون عطفا على محل إن واسمها. 3- أن يكون مبتدأ حذف خبره، والتقدير: وأخي لا يملك إلا نفسه. وجها النصب: والنصب من وجهين: 1- أن يكون معطوفا على اسم إنّ. 2- أن يكون معطوفا على نفسي. وجه الجر: والجر من وجه واحد: أن يكون معطوفا على الياء المجرور باضافة نفس إليها. (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الفاء استئنافية، وافرق فعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 دعاء بمعنى: احكم لنا بما نستحقه، واحكم عليهم بما يستحقونه. وبيننا ظرف متعلق ب «افرق» ، وبين القوم الفاسقين عطف على «بيننا» (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) الجملة مستأنفة، وفاعل «قال» مستتر تقديره: الله تعالى، والفاء زائدة في الإعراب لتمكين التأكيد، وإن واسمها، ومحرمة خبرها، وعليهم متعلقان بمحرمة، وأربعين ظرف زمان متعلق بيتيهون، فيكون التحريم على هذا غير مؤقت بهذه المدة، أو متعلقان بمحرمة، فيكون التحريم مقيدا بهذه المدة، وسنة تمييز، وجملة فانها محرمة مقول القول، وجملة يتيهون في الأرض حالية، أي: حالة كونهم تائهين ضاربين في متاهات الأرض ومناكب الصحاري تتخبطهم الحسرة، وتتعاورهم الحيرة. (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الفاء الفصيحة، أي: إذا عرفت هذا فلا تحزن، ولا ناهية، وتأس فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وعلى القوم متعلقان ب «تأس» ، والفاسقين صفة لقوم. الفوائد: قد يتساءل متسائل فيقول: كيف قال موسى: إني لا أملك إلا نفسي وأخي، مع أنه كان معهما الرجلان المذكوران، وهما يوشع وكالب؟ فالجواب أنه لم يطمئن الى ثباتهما بعد أن رأى الأكثرية الساحقة مصرة على التعنت، ولم تكن النبوة قد هبطت على يوشع بن نون، فلم يذكر معه إلا النبي المعصوم، وهو أخوه هارون. وهنا أقاصيص مطوّلة، يرجع إليها القارئ في المطولات من التفاسير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 [سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 29] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) اللغة: (قُرْباناً) : القربان: بضم القاف، وفيه وجهان: 1- إنه اسم لما يتقرب به الى الله عز وجل، من صدقة أو نسك أو غير ذلك، كالحلوان بضم الحاء أيضا: اسم ما يحلى، أي: يعطى. يقال: قرب صدقة، وتقرب بها، لأن «تقرّب» مطاوع «قرّب» . 2- أن يكون مصدرا في الأصل، ثم أطلق على الشيء المتقرّب به كقولهم: نسج اليمن، ويدلّ على ذلك أنه لم يثن، والموضع موضع تثنية، لأن كلّا من قابيل وهابيل له قربان يخصّه، والأصل أن يقول: قربانين. وقال أصحاب الرأي الأول: لا حجة في هذا، لأن المعنى: إذ قرّب كل واحد منهما قربانا، كقوله تعالى: «فاجلدوهم ثمانين جلدة» ، أي كل واحد منهم ثمانين جلدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 (تَبُوءَ) : ترجع. الإعراب: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) الجملة معطوفة على الفعل المقدر في قوله: «وإذ قال موسى لقومه» ، يعني: اذكر يا محمد لقومك وأخبرهم خبر ابني آدم، وهما: هابيل وقابيل، وقصة القربان وسببه. وقصة قتل قابيل لهابيل طفحت بها المطوّلات من التفاسير. واتل فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وعليهم متعلقان ب «اتل» ، ونبأ مفعول به، وابني مضاف الى «نبأ» وحذفت النون للاضافة، وآدم مضاف الى «ابني» ، وبالحق متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف، أي: تلاوة ملتبسة بالحق، أو حال من الفاعل، فيكون التقدير: حال كونك ملتبسا بالحق، أي: بالصدق، أو من المفعول به، أي: اتل نبأهما ملتبسا بالحق والصدق (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بنبإ، أي: اتل قصتهما وخبرهما الواقع في ذلك الوقت، أو هو بدل منه، أي: واتل عليهم النبأ، نبأ ذلك الوقت، على تقدير حذف المضاف وجملة قربا في محل جر بالاضافة، وقربا فعل وفاعل، وقربانا مفعول به، فتقبل: الفاء عاطفة وتقبل فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل مستتر تقديره هو يعود على «قربانا» ، ومن أحدهما جار ومجرور متعلقان بتقبل، ولم يتقبل من الآخر عطف على تقبل (قالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) جملة لأقتلنك في محل نصب مقول القول، واللام موطئة للقسم، وأقتلنك فعل مضارع مبني على الفتح لوجوب توكيده بالنون الثقيلة، والكاف مفعول به، وإنما كافة ومكفوفة، وجملة إنما يتقبل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 الله من المتقين مقول القول. (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) اللام موطئة للقسم، وان شرطية، وبسطت فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعل، وإلي متعلقان ببسطت، ويدك مفعول به، والجملة مستأنفة مبينة لما أراد قوله، ولتقتلني اللام لام التعليل، وتقتلني فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والنون للوقاية، والياء مفعول به، والجار والمجرور متعلقان ببسطت، وما نافية حجازية تعمل عمل ليس، وأنا اسمها، والباء حرف جر زائد، وباسط اسم مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبرها، ويدي مفعول به لباسط لأنه اسم فاعل، وإليك متعلقان بباسط، ولأقتلك اللام لام التعليل، وأقتلك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والجملة جواب القسم لتقدمه على الشرط، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه (إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) الجملة تعليلية، وإن واسمها، وجملة أخاف الله خبرها، ورب العالمين بدل من الله أو صفة (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) الجملة تعليل ثان لامتناعه عن المقاتلة بعد التعليل الأول، وإن واسمها، وجملة أريد خبرها، والفاعل مستتر تقديره أنا، وأن تبوء مصدر مؤوّل في محل نصب مفعول به لأريد، وبإثمي جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب على الحال من فاعل تبوء، أي: ترجع حاملا له، أو ملابسا له. فتكون الفاء عاطفة، وتكون فعل مضارع ناقص معطوف على تبوء تبعه في النصب واسمها أنت، ومن أصحاب النار متعلقان بمحذوف خبر تكون (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) الواو استئنافية وذلك اسم اشارة في محل رفع مبتدأ، وجزاء الظالمين خبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 البلاغة: 1- في قوله: «إنما يتقبل الله من المتقين» الكلام الجامع المانع، فقد جمعت هذه الجملة الكثير من المعاني بكلام مختصر، فقد اشتملت على فحوى القصة من أولها الى آخرها، والقصة مطولة يجدها القارئ في المطوّلات. وخلاصة المعنى أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متّق، وعن عامر بن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له: ما يبكيك؟ فقد كنت وكنت. قال: إني أسمع الله يقول: إنما يتقبل الله من المتقين. 2- في قوله: «إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك» فن الاتساع. وهو أن يأتي المتكلم بكلام يتسع فيه التأويل بحسب ما تحتمله ألفاظه، فيتّسع التأويل فيه على قدر عقول الناس وتفاوت أفهامهم. وهو في الآية في إرادته إثم أخيه، لأن معناه: إني لا أريد أن أقتلك فأعاقب. ولما لم يكن بدّ من إرادة أحد الأمرين: وهما إما إثمه بتقدير أن يدفع عن نفسه فيقتل أخاه، وإما إثم أخيه بتقدير أن يستسلم وكان غير مريد للأول فاضطر الى الثاني، فلم يرد إذن إثم أخيه لعينه، وإنما أراد أن الإثم هو بالمدافعة المؤدية الى القتل، ولم تكن حينئذ مشروعة، فلزم من ذلك إرادة إثم أخيه. وهذا كما يتمنى الإنسان الشهادة. ومعناها أن يبوء الكافر بقتله وبما عليه في ذلك من الإثم، ولكن لم يقصد هو إثم الكافر لعينه وإنما أراد أن يبذل نفسه في سبيل الله رجاء إثم الكافر بقتل الكافر ضمنا وتبعا. والذي يدل على ذلك أنه لا فرق في حصول درجة الشهادة وفضيلتها بين أن يموت القاتل على الكفر وبين أن يختم له بالإيمان، فيحبط عنه إثم القتل الذي كان به الشهيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 شهيدا، أعني بقي الإثم على قاتله وأحبط عنه، إذ ذلك لا ينقص من فضيلة شهادته ولا يزيدها، ولو كان إثم الكافر بالقتل مقصودا لاختلف التمني باعتبار بقائه وإحباطه، فدلّ على أنه أمر لازم تبع لا مقصود. أقوال للعلماء: هذا وقد أقاض علماء التفسير والنحو والبلاغة في هذه الآية، ويتلخص مما أوردوه أن هناك ثلاثة تأويلات: أ- إنه على حذف همزة الاستفهام أي: إني أريد أأن تبوء؟ وهو استفهام استنكاري لأن إرادة المعصية معصية. ب- أن «لا» محذوفة، تقديره: إني أريد أن لا تبوء بإثمي، كقوله تعالى: «يبين الله لكم أن تضلوا» أي: أن لا تضلوا. ج- إن الإرادة على حالها، وهي إما ارادة مجازية أو حقيقية، وجازت إرادة ذلك به لمعان ذكرها المفسرون، ومن جملتها أنه ظهرت له قرائن تدل على قرب أجله، وأن أخاه كافر، وأن ارادة العقوبة بالكافر حسنة. 3- جاء الشرط بلفظ الفعل، وهو قوله: بسطت، والجواب بلفظ اسم الفاعل، وهو قوله: «ما أنا بباسط» لإفادة أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا العمل المنكر، ولذلك أكده بالباء الزائدة المؤكدة للنفي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 المتنبي والاتساع: وعلى كل حال تبدو هذه الآية والاتساع فيها مما يدق على الأفهام، ولكنها دقة لازمة تنطوي على الكثير من المعاني المتصيّدة من الكلام. وقد رمق المتنبي سماءها فكثيرا ما كان يجنح الى هذا الضرب من البلاغة فيدق كلامه. فمن اتساعه قوله: لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا الى أرواحنا سبلا فظاهر الكلام يوحي بالبداهة الأولى أن «لها» جار ومجرور متعلقان بوجدت، ولكن فيه تعدّي فعل الفعل الظاهر الى ضميره المتصل، وذلك ممتنع، فيجب أن يقدر صفة في الأصل ل «سبلا» فلما تقدم عليه صار حالا، كما أن قوله: «الى أرواحنا» ، كذلك إذ المعنى: سبلا مسلوكة الى أرواحنا. ولك في «لها» وجه غريب، وهو أن تقدر «لها» جمعا للهاة، كحصى وحصاة، وتكون «المنايا» مضافة إليها، ويكون إثبات اللهوات للمنايا استعارة، شبهت بشيء يبتلع الناس، ويكون أقام اللها مقام الأفواه لمجاورة اللهوات للنعم، فاللهاة بالفتح هي اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم. ومن ذلك قوله في الغزل. كشفت ثلاث ذوائب من شعرها ... في ليلة فأرت ليالي أربعا واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقت معا فليس المعنى كما يظنه الناس من أنه رأى قمرين في وقت واحد القمر ووجهها، وإنما التحقيق أنها لما استقبلت قمر السماء ارتسم خياله في وجهها فرآهما في وقت واحد، كما تقابل الأشكال المرآة، فتنطبع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 الصورة فيها، فترى المرآة والأشكال المنطبقة فيها في وقت واحد معا. وقد أخطا التبريزي حين شرح البيت وقد قال: يجوز أنه أراد قمرا وقمرا، لأنه لا يجتمع قمران حقيقيان في ليلة، كما لا تجتمع الشمس والقمر. وقد تشبث أحد الشعراء بأهداب المتنبي فنظم بيتين أشبه ما يكونان بالشعوذة والألاعيب وهما: رأت قمر السماء فذكرتني ... ليالي وصلها بالرقمتين كلانا ناظر قمرا ولكن ... رأيت بعينها ورأت بعيني وأحسن ما يمكن أن يقال فيهما: إن معنى قمرين: قمر حقيقي وهو قمر السماء، وقمر مجازي وهو وجه المحبوبة، فهو يقول: هي رأت القمر المجازي وهو قمر السماء، وأنا رايت وجهها وهو القمر الحقيقي، لأنها هي نظرت الى قمر السماء وهو نظر الى وجهها، فصحّ أنه رأى بعينها وهي رأت بعينه. وهذه مبالغة وإفراط في الوصف، ولكن الشعراء درجوا على أن يجعلوا المحبوب هو القمر الحقيقي، والذي في السماء هو القمر المجازي. وقال آخرون في شرحهما: يتسير هذا الشاعر الى أن قمر السماء من عشاق محبوبته، وأن محبوبته رأته ذات ليلة فكسته برؤيتها له نور جمالها ومحاسن صفاتها، وألقت عليه شبهها، وأعارته اسمها. فأذكرت هذا العاشق بتلك الليالي التي وصلت بالرقمتين وأنها بوصالها له أفنته وغلبت عليه بصفاتها، حتى صارت معه كالقمر الواحد، وكلاهما ينظره. ولهذا قال كلانا ناظر قمرا أي: قمر واحد تعدّد مظهره، ولكنها تنظره بعينه، وهي عين المحبة، لأن المحب صار محبوبا وهو ينظر بعينها، لأنها أعارته عينا رآها بها، فكأن المبصر لها نفسها. والكلام في الاتساع طويل نجتزىء منه هنا بما تقدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 [سورة المائدة (5) : الآيات 30 الى 31] فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) اللغة: (طوّعت) : وسّعت وزيّنت، من طاع المرعى له: إذا اتسع. (سَوْأَةَ) : السّوءة: بفتح السين: العورة، وما لا يجوز أن ينكشف من الجسد. والسوءة: الفضيحة. وخص السوءة بالذكر لأن الاهتمام بسترها آكد. الإعراب: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) الفاء عاطفة، وطوعت فعل ماض، وله متعلقان بطوعت، ونفسه فاعل، وقتل أخيه مفعول به، فقتله عطف أيضا، فأصبح عطف أيضا، واسمها ضمير مستتر تقديره هو، ومن الخاسرين: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها (فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) الفاء عاطفة، وبعث فعل ماض والله فاعل وغرابا مفعول به، وجملة يبحث في الأرض في محل نصب صفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 ل «غرابا» ، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بيبحث (لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) اللام للتعليل ويريه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والهاء مفعول به، وكيف: اسم استفهام في محل نصب على الحال، والجار والمجرور متعلقان ببعث، فالضمير المستتر في الفعل يعود لله، ويجوز أن يتعلقا بيبحث، أي: ينبش ويثير التراب للإراءة، فالضمير المستتر يعود للغراب. وجملة الاستفهام معلقة للرؤية البصرية، فهي في محل نصب مفعول به ثان سادّة مسده، لأن رأي البصرية قبل تعديتها بالهمزة متعدية لواحد، فاكتسبت بالهمزة مفعولا آخر هو المفعول الأول، وقد تقدم نظيرها في قوله تعالى: «رب أرني كيف تحيي الموتى» (قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ) الجملة مستأنفة، كأنها قيلت لتكون جوابا على سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال عند ما شاهد الغراب يفعل ذلك؟ ويا حرف نداء، وويلتا كلمة جزع وتحسر، وقد ناداها كأن الويل غير حاضر عنده، فناداه ليحضر، أي: أيها الويل احضر، فهذا أوان حضورك. ويجوز أن تجعل المنادى محذوفا وتنصب الويل على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف أماته العرب، والألف بدل من ياء المتكلم، والجملة مقول القول، والهمزة للاستفهام والتعجب كأنه يتعجب من نفسه: كيف لم يهتد الى ما اهتدى اليه الغراب؟ وعجزت فعل وفاعل، والجملة مندرجة في مقول القول، وأن حرف مصدري ونصب، وأكون فعل مضارع ناقص منصوب بأن، والمصدر المؤول منصوب بنزع الخافض، والجار والمجرور متعلقان بعجزت، أي: أعجزت، واسم أكون ضمير مستتر تقديره أنا، ومثل خبر أكون، وهذا اسم اشارة مضاف اليه، والغراب بدل من اسم الاشارة (فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) الفاء عاطفة، وأواري فعل مضارع معطوف على أن أكون، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 وهذا أولى من جعلها سببية، لأنها مسبوقة بالاستفهام، وأواري فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية، لأن الفاء الواقعة جوابا للاستفهام تنعقد من الجملة الاستفهامية والجواب شرط وجزاء، وهنا لا تنعقد، تقول: أتزورني فأكرمك، والمعنى: إن تزرني أكرمك، ولو قلت هنا: إن أعجز عن أن أكون مثل هذا الغراب أوار سوءة أخي، لم يصحّ، لأن المواراة لا تترتب على عجزه عن كونه مثل الغراب، ولهذا اعتبرنا العطف أولى. وسوءة أخي مفعول به، فأصبح الفاء عاطفة، وأصبح فعل ماض ناقص، واسمها ضمير مستتر تقديره هو، ومن النادمين خبرها. البلاغة: المجاز في قوله: «يا ويلتا» ، لأنه نادى ما لا يعقل. وأصل النداء أن يكون لمن يعقل. الفوائد: هذه القصة التي أوردها القرآن تصلح نواة لقصة عظيمة، وهي بحاجة الى القلم المبدع، ليعد منها قصة فنية رائعة. روي أن آدم مكث بعد مقتل هابيل مائة سنة لا يضحك، وأنه رثاه بشعر، وهو كذب منحول، فقد صح أن الأنبياء لا يقولون الشعر. وروى ميمون ابن مهران عن ابن عباس أنه قال: من قال إن آدم قال شعرا فهو كذب، ولكنه كان ينوح عليه، ويصف حزنه نثرا من الكلام، شبه المرثية، فتناسخته القرون، فلما وصل الى يعرب بن قحطان وهو أول من خط بالعربية نظمه شعرا فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 تغيّرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغير قبيح وقد ذكروا بعد هذا البيت ستة أبيات، ولم يكتفوا بذلك بل لفقوا حديثا فحواه أن إبليس أجابه في الوزن والقافية بخمسة أبيات، قال الزمخشري: «وكل ذلك كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون» . يشير الزمخشري الى البيت الثاني وهو: تغيّر كل ذي لون وطعم ... وقل بشاشة الوجه المليح ورووه على الإقواء، أي: بجر المليح. ويرويه بعضهم «بشاشة» بالنصب من غير تنوين، ورفع «الوجه المليح» فليس بلحن. وقد خرجوه على حذف التنوين من «بشاشة» ، ونصبه على التمييز. وقد أشار شاعرنا الفيلسوف أبو العلاء المعري الى هذه القصة في رسالة الغفران، فارجع إليها إن شئت، والله يعصمك. وإنما خص بني إسرائيل بهذه القصة كما سيأتي، لأن القتل ديدنهم، حتى تناول الأنبياء. [سورة المائدة (5) : آية 32] مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 اللغة: (أَجْلِ) : الأجل بسكون الجيم مصدر. يقال: أجل عليهم شرا أي جناه وهيجه، ثم استعمل في الجنايات، كما في قولهم: «من جراك فعلته» أي: من أن جررته، أي: جنيته، ثم اتسع فيه، فاستعمل في كل تعليل. الإعراب: (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) الجملة مستأنفة، والجار والمجرور متعلقان بكتبنا، وعلى بني إسرائيل جار ومجرور متعلقان بكتبنا أيضا، أي: شرّعنا القصاص على القاتل لتكون شرعية القصاص حكما ثابتا في جميع الأمم. وإنما خص بني إسرائيل كما ذكرنا آنفا لأن بني إسرائيل كان دأبهم وديدنهم القتل، حتى أقدموا على قتل الأنبياء والرسل. لأن الغرض هو تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والتسرية عنه لمحاولتهم الفتك به وبأصحابه. (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) أن وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول به لكتبنا، والهاء اسم أنّ، وهي ضمير الشأن، ومن اسم شرط جازم مبتدأ، قتل فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، ونفسا مفعول به، وبغير نفس جار ومجرور متعلقان بقتل، أو بمحذوف حال من ضمير الفاعل في «قتل» ، أي: قتلها ظالما، وأو حرف عطف، وفساد معطوف على نفس المجرورة بإضافة غير إليها، وفي الأرض متعلقان بمحذوف صفة لفساد (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) الفاء رابطة لجواب الشرط، وكأنما كافة ومكفوفة وقتل الناس فعل ماض وفاعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 مستتر ومفعول به، وجميعا حال، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» ، والجملة الشرطية في محل رفع خبر «أنه» (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) تقدم اعراب نظيره (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ) الواو عاطفة، واللام واقعة في جواب قسم محذوف، وقد حرف تحقيق، وجملة قد جاءتهم: لا محل لها لأنها جواب القسم، ورسلنا فاعل، وبالبينات متعلقان بجاءتهم (ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي، وإن واسمها، ومنهم متعلقان بمحذوف صفة ل «كثيرا» والظرف متعلق بمحذوف حال، وذلك اسم اشارة في محل جر بالإضافة، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان ب «مسرفون» واللام المزحلقة، ومسرفون خبر «إن» . البلاغة: التشبيه التمثيلي: ومناط التشبيه اشتراك فعلي القتل في هتك حرمة الدماء والتجرؤ على الله وتشجيع الناس على القتل. ووجه التشبيه هو تهويل أمر القتل، وتفخيم شأن الاحياء، بتصوير كل منهما بصورة لائقة به. [سورة المائدة (5) : الآيات 33 الى 34] إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 الإعراب: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) كلام مستأنف مسوق لبيان حكم الله في كل قاطع طريق، كافرا كان أو مسلما، لأن محاربة المسلمين في حكم محاربة الله ورسوله، وقد نزلت في الأصل في العرنيين. وإنما كافة ومكفوفة، وجزاء مبتدأ والذين مضاف اليه، وجملة يحاربون صلة الموصول، والله مفعوله، ورسوله عطف على الله (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) ويسعون عطف على يحاربون، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بيسعون، وفسادا يصح أن يكون مفعولا من أجله، أي يحاربون ويسعون لأجل الفساد، وشروط النصب متوفرة. ويصح أن يكون مصدرا واقعا موقع الحال، أي: ويسعون في الأرض مفسدين، أو ذوي فساد، وجعلوا نفس الفساد مبالغة. ويصح أن يكون منصوبا على المصدر، أي أنه نوع من العامل قبله، لأن يسعون في الأرض معناه في الحقيقة يفسدون، ففسادا اسم مصدر قائم مقام الإفساد، والتقدير يفسدون في الأرض بسعيهم إفسادا (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) المصدر المؤول من أن وما في حيزها خبر جزاء، وأو حرف عطف، ويصلبوا عطف على يقتلوا، أو حرف عطف، وتقطع عطف على يقتلوا أيضا. وأيديهم نائب فاعل لتقطع، وأرجلهم عطف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 على أيديهم، ومن خلاف متعلقان بمحذوف حال من أيديهم وأرجلهم، أي: تقطع مختلفة، بمعنى أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى. وينفوا عطف أيضا، ومن الأرض متعلقان بينفوا (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا) الجملة مستأنفة، مبينة للغاية من هذه العقوبات. واسم الاشارة في محل رفع مبتدأ، ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وخزي مبتدأ مؤخر، وفي الدنيا متعلقان بمحذوف صفة لخزي، والجملة الاسمية خبر اسم الاشارة، ويجوز أن يعرب «خزي» خبرا ل «ذلك» ، ولهم متعلقان بمحذوف في محل نصب على الحال من خزي، لأنه كان في الأصل صفة له، فلما تقدم عليه صار حالا (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) الواو عاطفة، ولهم متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وفي الآخرة متعلقان بمحذوف حال، وعذاب مبتدأ مؤخر، وعظيم صفة (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) جملة الاستثناء نصب على الحال من المعاقبين، وإلا حرف استثناء، والذين مستثنى، وجملة تابوا صلة الموصول، ومن قبل متعلقان بتابوا، وجرّت «قبل» بالكسرة للاضافة وأن تقدروا مصدر مؤول في محل جر بالاضافة، وعليهم جار ومجرور متعلقان بتقدروا (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الفاء استئنافية، واعلموا فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، وأن واسمها وخبراها سدت مسدّ مفعولي «اعلموا» . الفوائد: أو: حرف عطف، ولها معان أنهاها صاحب المغني الى اثني عشر معنى، نكتفي منها بالمعاني الرئيسية التالية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 1- الشك: لتشكيك السامع بأمر قصده، فأبهم عليه، وهو عالم به. ومنه قوله تعالى: «وأرسلناه الى مائة ألف أو يزيدون» . 2- التخيير: نحو خذ ثوبا أو عشرة دراهم، قال الله تعالى: «فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة» فأوجب أحد هذه الثلاثة، وزمام الخيرة بيد المكلف، فأيها فعل فقد كفّر وخرج عن العهدة ولا يلزمه الجمع بينها. 3- الإباحة: جالس فلانا أو فلانا، وقوله تعالى: «ولا تطع منهم آثما أو كفورا» . 4- التقسيم والتنويع كما في الآية، أي: تقسيم عقوبتهم تقسيما موزعا على حالاتهم وجناياتهم. قال الشافعي: «أو» في جميع القرآن للتخيير، إلا في هذه الآية. 2- اختلف أهل التأويل في معنى النفي الذي ذكره الله تعالى في هذا الموضع فقال بعضهم: معنى النفي أي نفيه من بلد الى آخر، وحبسه في السجن في البلد الذي نفي اليه. وأصل معنى النفي في كلام العرب الطرد، قال أوس بن حجر: تنفون عن طرق الكرام كما ... تنفي المطارق ما يلي القرد والقرد بفتحتين: ما تمعّط من الوبر والصوف وتلبّد وانعقدت أطرافه، وهو نفاية الصوف. ومنه قيل للدراهم الرديئة وغيرها: النفاية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 [سورة المائدة (5) : الآيات 35 الى 37] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37) اللغة: (الْوَسِيلَةَ) : كل ما يتوسل به أي يتقرّب من قرابة أو صنيعة أو غير ذلك، فاستعيرت لما يتوسل به الى الله تعالى من فعل الطاعات وترك المعاصي. قال لبيد بن ربيعة: أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم ... ألا كل ذي لبّ الى الله وأسل وفي المصباح وسلت الى الله أسل من باب وعد: رغبت وتقربت، ومنه اشتقاق الوسيلة وهي ما يتقرب به الى الشيء، والجمع الوسائل، والوسيل، قيل: جمع وسيلة، وقيل: لغة فيها. ومنه قول عنترة لامرأة لامته في فرس كان يؤثره على سائر خيله، ويسقيه ألبان إبله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 لا تذكري مهري وما أطعمته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب إنّ الغبوق له وأنت مسوءة ... إن كنت سائلتي غبوقا فاذهبي إن الرجال لهم إليك وسيلة ... إن يأخذوك تكحلي وتخضبي ويكون مركبك العقود وحدجه ... وابن النعامة يوم ذلك مركبي الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعراب نظائره كثيرا (اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) كلام مستأنف مسوق لبيان التقوى وابتغاء الوسيلة الى الله بعد ما بين عظم القتل والفساد في الأرض، وأشار الى الذين غفر لهم بعد توبتهم. واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به، وابتغوا عطف على اتقوا، واليه متعلقان بابتغوا أو بالوسيلة، لأنها فعيلة بمعنى مفعول، أي: المتوسل به، وليست بمصدر حتى يستنع أن يتقدم معمولها عليها، والوسيلة مفعول به (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) عطف على ما تقدم، ولعل واسمها، وجملة تفلحون خبرها، وجملة الرجاء حالية. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) كلام مستأنف مسوق لتأكيد وجوب الامتثال للأوامر السابقة، وترغيب المؤمنين في المسارعة الى اتخاذ الوسيلة إليه. وإن واسمها، ولو شرطية، وأن حرف مشبه بالفعل، ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر «أن المقدم» ، وما اسم موصول اسمها المؤخر، وأن وما في حيزها مصدر مرفوع على الفاعلية بفعل محذوف تقديره: نبت، أو في محل رفع مبتدأ، وقد تقدم بحث ذلك مفصلا. وفي الأرض متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول، والشرط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 وجوابه خبر «إن» ، وجميعا حال (وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ) لك أن تجعل الواو عاطفة، ومثله عطف على اسم أن وهو «ما» الموصولية. ولك أن تجعل الواو للمعية، ومثله مفعول معه، وناصبه الفعل الذي حذف قبل الفاعل، أو بفعل مماثل إن أعربت أن وما بعدها جملة ابتدائية. ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف حال، واللام لام التعليل، ويفتدوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالاستقرار الذي تعلق به الخبر وهو «لهم» ، وبه متعلقان بيفتدوا، ومن عذاب يوم القيامة متعلقان بيفتدوا أيضا، لاختلاف معناهما، ووحد الضمير مع أن الراجع اليه شيئان، لأن الضمير بمعنى اسم الاشارة، أي بذلك، أو بمعنى «مع» فيتوحد المرجوع اليه، أو هو من باب قول عمير بن ضابىء البرجمي: فمن يك أمنى بالمدينة رحله ... فإني وقيّار بها لغريب وسيأتي شرح هذا البيت في باب الفوائد. (ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ما تقبل منهم الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وجاء الجواب على الأكثر بغير لام لأنه منفي، والواو استئنافية أو عاطفة، ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وعذاب مبتدأ مؤخر، وأليم صفة (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) الجملة ابتدائية، ويريدون فعل مضارع وفاعل، وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول به ليريدون، ومن النار متعلقان بيخرجون، والواو حالية، وما نافية حجازية تعمل عمل ليس، وهم ضمير منفصل في محل رفع اسمها، والباء حرف جر زائد، وخارجين مجرور لفظا بالباء منصوب محلا لأنه خبر «ما» الحجازية، والجملة في محل نصب على الحال (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) الواو استئنافية أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 عاطفة، ولهم متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وعذاب مبتدأ مؤخر، ومقيم: صفة. البلاغة: في قوله: ليفتدوا به استعارة تمثيلية، للزوم العذاب بهم وديمومته عليهم، وأنه لا سبيل لهم الى النجاة منه. وفي الحديث الشريف: «يقال للكافر يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم. فيقال له: قد سئلت أيسر من ذلك» . الفوائد: قول عمير بن ضابىء البرجمي في البيت: «وقيار» : قيار اسم فرسه، وقيل جمله، وقيل غلامه. وهو مبتدأ أو معطوف على محل إن واسمها، وإذا أعرب مبتدأ فيكون خبره محذوفا اختصارا لدلالة المذكور عليه بالعطف وفيه العطف قبل تمام المعطوف عليه، وهو سماعي، ولا يجوز القياس عليه، ولا يجوز جعل «غريب» خبرا عنهما لئلا يتوارد عاملان على معمول واحد، ولا يجوز جعله خبرا عن «قيار» لأن لام الابتداء لا تدخل على الخبر. وقد جئنا به شاهدا على أنه حذف من الثاني لدلالة ما في الأول عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 [سورة المائدة (5) : الآيات 38 الى 39] وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) اللغة: (نَكالًا) : قال في المصباح: نكل به ينكل من باب قتل نكلة قبيحة: أصابه بنازلة. ونكّل به بالتشديد: مبالغة، والاسم: النكال. الإعراب: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان حكم السرقة. والسارق مبتدأ خبره محذوف تقديره: فيما يتلى عليكم، أو فيما فرض عليكم السارق والسارقة. أي: حكمهما. فحذف المضاف الذي هو «حكم» ، وأقيم المضاف اليه مقامه، وهو السارق والسارقة، وحذف الخبر وهو الجار والمجرور، لأن الفاء بعده نمنع من نصبه على الاشتغال، كما هي القاعدة، إذ يترجح النصب قبل الطلب، وهي أي: الفاء التي جاءت لشبهه بالشرط تمنع أن يكون ما بعدها الخبر، لأنها لا تدخل عليه أبدا، فلم يبق إلا الرفع. وهذا باب أفرده سيبويه في كتابه، ويرى القارئ خلاصته في باب الفوائد. وهي قراءة الجمهور. وارتأى الأخفش والمبرد وجماعة أن الخبر هو الجملة الأمرية، وهي قوله: «فاقطعوا» ، وإنما دخلت الفاء في الخبر لأنه يشبه الشرط، إذ الألف واللام فيه موصولة بمعنى: الذي والتي، والصفة صلتها، فهي في قوة قولك: «والذي يسرق والتي تسرق فاقطعوا» ، وأجاز الزمخشري ذلك، وإن رجح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 ما ارتآه سيبويه. والسارقة عطف على السارق، والفاء واقعة في جواب «ال» الموصولية، واقطعوا فعل أمر والواو فاعل، وأيديهما مفعول به (جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ) جزاء مفعول لأجله، أي: لأجل الجزاء، وشروط النصب متوفرة. ويجوز أن ينصب على المصدر بفعل مقدّر، أي: جازوهما جزاء. ويجور أن يعرب حالا من الفاعل، أي: مجازين لهما بالقطع. وبما الباء حرف جر معناها السببية، أي: بسبب كسبهما، وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالباء، والجار والمجرور متعلقان بجزاء. ويجوز أن تكون ما موصولة، أي: بسبب الذي كسباه من السرقة التي تباشر بالأيدي، والجملة صلة الموصول. ونكالا منصوب كما نصب جزاء، أو هو بدل منه، ومن الله متعلقان بمحذوف صفة ل «نكالا» (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الواو استئنافية، والله مبتدأ، وعزيز خبر أوّل، وحكيم ثان. وسترد قصة طريفة لأحد الأعراب يراها القارئ في باب الفوائد (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) الفاء استئنافية، ومن اسم شرط حازم مبتدأ، وتاب فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، والفاء رابطه للجواب، وإن واسمها، وجملة يتوب خبرها، وفعل الشرط وجوابه خبر من (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الجملة استئنافية، وإن واسمها وخبراها. الفوائد: 1- نورد فيما يلي خلاصة الفصل الممتع الذي أورده سيبويه في كتابه لطرافته وفائدته وتوثّب الذهن فيه. قال في باب ترجمته: «باب الأمر والنهي» ، بعد أن ذكر المواضع التي يختار فيها النصب، وملخصها: أنه متى بني الاسم على فعل الأمر فذاك موضع اختيار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 النصب. ثم قال كالموضح لامتياز هذه الآية عما اختار فيها النصب: وأما قوله عز وجل: «والسارق والسارقة فاقطعوا» الآية، وقوله: «الزانية والزاني فاجلدوا» الآية، فإن هذا لم يبن على الفعل، ولكنه جاء على مثال قوله تعالى: «مثل الجنة التي وعد المتقون» . ثم قال بعد: «فيها أنهار» . كذا يريد سيبويه تمييز هذه الآي عن المواضع التي بيّن فيها اختيار النصب. ووجه التمييز بأن الكلام حيث يختار النصب يكون الاسم فيه مبنيا على الفعل، وأما في هذه الآي فليس بمبني عليه، فلا يلزم فيه اختيار النصب. ثم قال: وإنما وضع المثل للحديث الذي بعده، فذكر أخبارا وقصصا، فكأنه قال: ومن القصص مثل الجنة، فهو محمول هذا على الإضمار، والله أعلم. وكذلك «الزانية والزاني» كما قال جل ثناؤه: «سورة أنزلناها وفرضناها» ، قال: في جملة الفرائض الزانية والزاني، ثم جاء: «فاجلدوا» بعد أن مضى فيهما الرفع. يريد سيبويه: لم يكن الاسم مبنيا على الفعل المذكور بعد، بل بني على محذوف متقدّم وجاء الفعل طارئا. وعاد كلامه فقال: كما جاء: وقائلة «خولان فانكح فتاتهم» فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر، وكذلك قوله: «والسارق والسارقة» : وفيما فرض عليكم السارق والسارقة، فإنما دخلت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث. وقد قرأ ناس: والسارق والسارقة بالنصب، وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة، ولكن أبت العامة إلا الرفع. يريد سيبويه أن قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنيا على الفعل غير معتمد على ما تقدم، فكان النصب قويا بالنسبة الى الرفع، حيث يعتمد الاسم على المحذوف المتقدم، فإنه قد بين أن ذلك يخرجه من الباب الذي يختار فيه النصب، فكيف يفهم عنه ترجيحه عليه؟ والباب مع القراءتين مختلف، وإنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 يقع الترجيح بعد التساوي في الباب. فالنصب أرجح من الرفع حيث ينبني الاسم على الفعل، والرفع متعين لا نقول: حيث بني الاسم على كلام متقدم ثم حقق سيبويه هذا المقدر بأن الكلام واقع بعد قصص وأخبار، ولو كان كما ظنه الزمخشريّ لم يحتج سيبويه الى تقدير، بل كان يرفعه على الابتداء، ويجعل الأمر خبره، كما أعربه الزمخشري. وإنما لخصنا هذا الفصل مع التعليق عليه، لأن بعض المفسرين ظن أن سيبويه يرجح قراءة النصب من دون هذا التقييد. والملخص من هذا كله: أن النصب على وجه واحد، وهو بناء الاسم على فعل الأمر والرفع على وجهين، أحدهما: ضعيف، وهو الابتداء، وبناء الكلام على الفعل. والآخر قوي كوجه النصب، وهو رفعه على خبر ابتداء محذوف دل عليه السياق. وحيثما تعارض لنا وجهان في الرفع وأحدهما قوي والآخر ضعيف، تعين حمل القراءة على القوي، كما أعربه سيبويه. الفخر الرازي يرد: هذا وقد انبرى الفخر الرازي للرد على سيبويه فقال: «والذي ذهب اليه سيبويه ليس بشيء، فيدل على فساده وجوه» وأورد بعد كلام طويل خمسة وجوه، يضيق عن استيعابها صدر هذا الكتاب. أبو حيان يرد على الرازي: وقد تصدى أبو حيان للرد على الرازي، ففند بتطويل زائد في تفسيره «البحر المحيط» الوجوه الخمسة التي أوردها، وقال في نهاية المناقشة: «والعجب من هذا الرجل وتجاسره على العلوم حتى صنّف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 كتابا في النحو سماه «المحرر» ، وسلك فيه طريقة غريبة بعيدة عن مصطلح أهل النحو وعن مقاصدهم» . فليرجع القارئ الى هذه المناقشة، فإنها لطيفة جدا. رأي لابن جرير الطبري: ورأينا لابن جرير الطبريّ تعليلا طريفا في اختيار الرفع ندرجه فيما يلي: يقول جلّ ثناؤه ما معناه: ومن سرق من رجل أو امرأة فاقطعوا أيها الناس يده. ولذلك رفع السارق والسارقة لأنهما غير معينين، ولو أريد بذلك سارق وسارقة بأعيانهما لكان وجه الكلام النصب. 2- جمع الأيدي من حيث كان لكل سارق يمين واحدة، وهي المعرضة للقطع في السرقة، وللسّرّاق أيد، وللسارقات أيد، كأنه قال: اقطعوا أيمان النوعين. فالتثنية للضمير إنما هي للنوعين. 3- روي أن أعرابيا سمع الأصمعي يتلو هذه الآية، فقرأ في آخرها: «والله غفور رحيم» فأنكر الأعراب ي أن يكون هذا قرآنا. قال الأصمعي: فرجعت الى المصحف فاذا هو: «والله عزيز حكيم» فلما قلت ذلك للأعرابي قال: نعم، عز فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع. وهذه وثبة من وثبات الذهن العالية. [سورة المائدة (5) : الآيات 40 الى 41] أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 الإعراب: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لخطاب الرسول، والمقصود به كل أحد، وأنه هو المتصرف الوحيد في شئون التعذيب والغفران لمن يشاء. والهمزة للاستفهام التقريري لما بعد النفي، ولم حرف نفي وقلب وجزم، وتعلم فعل مضارع مجزوم بلم، وأن وما في حيزها سدت مسدّ مفعولي تعلم، وأن واسمها، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم، وملك السموات مبتدأ مؤخر، والأرض معطوف على المضاف اليه السموات، والجملة الاسمية خبر أن (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الجملة الفعلية خبر ثان لأن أو حالية، وإنما قدم التعذيب لأن السياق للوعيد، فيناسب ذلك تقديم ما يليق به من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 الزواجر. ومن اسم موصول مفعول يعذب، وجملة يشاء صلة، ويغفر عطف على يعذب، ولمن يشاء متعلقان بيغفر، والواو استئنافية، والله مبتدأ، وعلى كل شيء متعلقان بقدير، وقدير خبر الله (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) كلام مستأنف مسوق لخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم، تحذيرا له من التأثر بما يعمله الكافرون ليحزنوه. ويا أيها الرسول تقدم إعرابها كثيرا، ولا ناهية، ويحزنك فعل مضارع مجزوم بلا، والكاف مفعول به، والذين اسم موصول في محل رفع فاعل، وجملة يسارعون لا محل لها لأنها صلة الموصول، وفي الكفر جار ومجرور متعلقان بيسارعون (مِنَ الَّذِينَ قالُوا: آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، وجملة قالوا لا محل لها لأنها صلة، وجملة آمنا مقول القول، وبأفواههم متعلقان بقالوا، أي: إن قولهم لا يتجاوز أفواههم، والواو حالية، ولم حرف نفي وقلب وجزم، وتؤمن فعل مضارع مجزوم بلم، وقلوبهم فاعل، والجملة في محل نصب حال (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ) الواو عاطفة، ومن الذين هادوا عطف على من الذين قالوا، فيكون حالا مبينة لشيء واحد، وقيل: الواو استئنافية، ومن الذين خبر مقدم، وسماعون مبتدأ مؤخر، فيكون البيان بشيئين، وعلى الوجه الأول تكون «سماعون» خبر لمبتدأ محذوف، أي: هم سماعون، وللكذب متعلقان بسماعون، و «سماعون» الثانية بدل من «سماعون» الأولى أو تأكيد لها، ولقوم متعلقان ب «سماعون» ، وآخرين صفة (لَمْ يَأْتُوكَ) الجملة صفة ثانية لقوم ولم حرف نفي وقلب وجزم، ويأتوك فعل مضارع مجزوم وفاعل ومفعول به (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) الجملة صفة ثالثة، ولا بد من حذف مضاف، أي: حكم الكلم، ومن بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 مواضعه متعلقان بمحذوف حال، أي: حال كونها من بعد وضع الله الكلم مواضعه، وقد يحتمل أن يكون معناه: يحرفون الكلم عن مواضعه، فتكون «بعد» وضعت موضع «عن» ، كما يقال: جئتك عن فراغي من الشغل، يريد: بعد فراغي من الشغل، والمراد بهم اليهود (يَقُولُونَ: إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ) الجملة صفة رابعة، ويقولون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعل، وإن شرطية، وأوتيتم فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط، وهذا مفعول به ثان، والأول التاء التي هي نائب فاعل، والفاء رابطة لجواب الشرط، وجملة خذوه في محل جزم جواب الشرط، ولم يصلح أن يكون جوابا لأنه طلب والجملة الشرطية في محل نصب مقول القول. (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) الواو حرف عطف، وإن شرطية، ولم حرف نفي وقلب وجزم، وتؤتوه فعل مضارع مجزوم بلم، وهو في الوقت نفسه فعل الشرط، والواو نائب فاعل، والهاء مفعول به ثان، فاحذروا الفاء رابطة لجواب الشرط، وجملة احذروا في محل جزم جواب الشرط (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) الواو استئنافية، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، ويرد فعل الشرط، والله فاعل، وفتنة مفعول به، والفاء رابطة لجواب الشرط، ولن حرف نفي ونصب واستقبال، وتملك فعل مضارع منصوب بلن، والجملة في محل جزم جواب الشرط، وله متعلقان بتملك، ومن الله متعلقان بمحذوف حال من «شيئا» لأنه في الأصل صفة، وتقدم عليه، وشيئا مفعول به أو مفعول مطلق، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) الجملة مستأنفة مسوقة للإيذان ببعد منزلة المنافقين في الفساد، وإيغالهم في الضلالة. واسم الإشارة مبتدأ، والذين خبر، وجملة لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 يرد الله صلة الموصول، وأن وما في حيزها في موضع نصب على أنه مفعول يرد، وقلوبهم مفعول به ليطهر (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) لهم متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وفي الدنيا متعلقان بمحذوف حال، وخزي مبتدأ مؤخر، والجملة خبر ثان لاسم الإشارة، ولهم في الآخرة عذاب عظيم عطف على ما تقدم. [سورة المائدة (5) : آية 42] سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) اللغة: (السحت) بضم الحاء وسكونها: الحرام، وما خبث وقبح من المكاسب، فلزم عنه العار، كالرشوة، والجمع أسحات. وكان اليهود يأخذون الرشا على الأحكام. وترى في باب الفوائد نبذة عنه. ومن عجيب أمر السين والحاء إذا كانتا فاء للكلمة وعينا لها أنها تدل على السحب والتأثير البعيد، فسحب ذيله فانسحب هي أمّ هذا الباب. ومن مجاز الكلام سحبت الريح أذيالها. وانسحبت فيها ذلاذل الريح، واسحب ذيلك على ما كان مني. ويقولون: ما استبقى الرجل ودّ صاحبه بمثل سحب الذيل على معايبه. ومادة السحت تقدمت، ويقال: سحت الشحم من اللحم قشره، وفلان مسحوت المعدة شره، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 عاميّ فصيح، وسحجت الرياح الأرض أزالت ما على أديمها، وسحّ الماء صبّه، وسحّ المطر والدمع انثالا، ولا يخفى ما في ذلك من معنى السحب والانزلاق، وسحره معروف، وإنه لمسحّر: سحر مرة بعد أخرى حتى تخبّل عقله. ولقيته سحرا وسحرة. وجاء فلان بالسحر من القول: أي خلب العقول، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا» . وعلى هذا النحو تطّرد هذه المادة، ولا تختلّ عن هذا المعنى، وهذا من الأعاجيب. الإعراب: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) سماعون خبر لمبتدأ محذوف أي: هم سماعون، والجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد ما قبله، أو التمهيد لما بعده. وللكذب متعلقان ب «سماعون» ، ومثلها: أكالون للسحت (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) الفاء استئنافية، والكلام مستأنف مسوق لسرد بعض ما يترتب على هذه الأحكام. وإن شرطية، وجاءوك فعل ماض وفاعل ومفعول به، وهو في محل جزم فعل الشرط، والفاء رابطة لجواب الشرط لأنه جملة طلبية، واحكم فعل أمر، وبينهم ظرف متعلق ب «احكم» وأو حرف عطف للتخيير، وأعرض معطوف على «احكم» ، وعنهم متعلقان ب «أعرض» ، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) الواو عاطفة، وإن شرطية، وتعرض فعل الشرط مبني للمجهول، وعنهم متعلقان بتعرض، والفاء رابطة لجواب الشرط، ولن حرف نفي ونصب واستقبال، ويضروك فعل مضارع منصوب بلن، والواو فاعل، والكاف مفعول به، وشيئا مفعول مطلق والجملة في محل جزم جواب الشرط، (وَإِنْ حَكَمْتَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) الواو عاطفة، وإن شرطية، وحكمت فعل ماض وفاعل، في محل جزم فعل الشرط، والفاء رابطة للجواب، واحكم فعل أمر، وبينهم ظرف متعلق به، والجملة في محل جزم جواب الشرط، وبالقسط متعلقان بمحذوف حال، أي: عادلا (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) إن واسمها، وجملة يحب المقسطين خبرها، والجملة مستأنفة للتعليل. الفوائد: روى الحسن قال: كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمه، فأراها إياه، فيسمع منه ولا ينظر الى خصمه، فيأكل الرشوة، ويسمع الكذب. وحكي أن عاملا قدم من عمله، فجاءه قومه، فقدم إليهم العراضة، وجعل يحدثهم بما جرى له. فقال أعرابي من القوم: نحن كما قال تعالى: «سمّاعون للكذب أكّالون للسحت» . وفي الحديث: «كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به» . [سورة المائدة (5) : الآيات 43 الى 44] وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 اللغة: (الرَّبَّانِيُّونَ) نسبة الى الرب، على خلاف القياس. ويقال أيضا: ربّيّ بكسر الراء، وربوبيّ بفتح الراء، وسنورد أشهر الأسماء التي أتت منسوبة على خلاف القياس في باب الفوائد. والرّبانيّ: هو المتألّه المتعبد. (الْأَحْبارُ) : الفقهاء، واحده حبر، بالفتح والكسر. قال الفرّاء: الكسر أفصح. وهو مأخوذ من التحبير والتحسين، فإنهم يحبرونه ويزينونه. والحبر الأعظم عند المسيحيين: خلف السيد المسيح على الأرض، وعند اليهود رئيس الكهنة. الإعراب: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ) كلام مستأنف مسوق للتعجب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه، مع أنه الحق، كما نص على ذلك كتابهم الذي يدعون الإيمان به. وكيف استفهام تعجّبي في محل نصب على الحال، ويحكمونك فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والكاف مفعول به، والواو للحال، وعندهم ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، والتوراة مبتدأ مؤخر، والجملة في محل نصب على الحال من الواو في يحكمونك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 (فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) فيها جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وحكم الله مبتدأ مؤخر، والجملة في محل نصب على الحال من التوراة، ثم حرف عطف، للترتيب مع التراخي، ويتولون عطف على يحكمونك، وفائدة العطف بثم الدالة على التراخي للدلالة على رسوخ تولّيهم وإعراضهم وإصرارهم على الإعراض عن الحكم الطويل، بعد التأمل الطويل، وظهور الآيات الدالة على صدق التحكيم. ومن بعد ذلك جار ومجرور متعلقان بيتولون أو حال، والواو عاطفة أو استئنافية، وما نافية حجازية، واسم الاشارة مبني على الكسر في محل رفع اسمها، والباء حرف جر زائد، والمؤمنين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر «ما» (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ) كلام مستأنف مسوق لبيان رفعة التوراة، وسمو مرتبتها، ووجوب مراعاة أحكامها. وإن واسمها وجملة أنزلنا خبرها، والتوراة مفعول به (فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) الجملة في محل نصب حال من التوراة، وفيها متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وهدى مبتدأ مؤخر، ونور عطف على هدى، وجملة يحكم بها النبيون مستأنفة مبينة لعلو شأن التوراة، ولك أن تجعلها حالا ثانية من التوراة، وبها متعلقان بيحكم، والنبيون فاعل يحكم، والذين صفة، وجملة أسلموا صلة الموصول (لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بيحكم، وجملة هادوا صلة الموصول، والمعنى: يحكمون بها فيما بينهم. ويجوز أن يتعلقا بأنزلنا، أو بمحذوف صفة لهدى ونور، والربانيون والأحبار معطوفان على «النبيون» ، و «بما استحفظوا» متعلقان بيحكم، ومن كتاب الله متعلقان باستحفظوا، واستحفظوا فعل ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعل، ويجوز في «ما» أن تكون مصدرية أو موصولية، ويجوز أن يتعلق قوله: «من كتاب الله» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 بمحذوف حال (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) عطف على «استحفظوا» ، والواو اسم كان، وعليه متعلقان بشهداء، وشهداء خبر كانوا (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) الفاء الفصيحة، أي: إذا عرفتم هذا فلا تخشوا الناس، ولا ناهية، وتخشوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، والواو فاعل، والناس مفعول به، واخشون الواو عاطفة، واخشون فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعول به (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا) عطف على ما تقدم، ولا ناهية، وتشتروا فعل مضارع مجزوم بلا، وبآياتي متعلقان بتشتروا، والباء داخلة على المتروك كما تقرر، وثمنا مفعول به، وقليلا صفة (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) الواو استئنافية ليكون الحكم عاما، فكل من ارتشى وحكم بغير حكم الله فقد كفر، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، ولم حرف نفي وقلب وجزم، ويحكم فعل مضارع مجزوم بلم، وهو فعل الشرط، وبما متعلقان بيحكم، وجملة أنزل الله صلة الموصول، فأولئك الفاء رابطة لجواب الشرط، واسم الإشارة مبتدأ، وهم مبتدأ ثان، والكافرون خبر، والجملة الاسمية خبر اسم الاشارة، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر «من» . البلاغة: في هذه الآية فن من فنون البلاغة دقيق المسلك، قلّ من يتفطن اليه لأنه عميق الدلالة، لا يسبر غوره إلا الملهمون الذين أشرقت نفوسهم بضياء اليقين والإلهام، ولم يبوّب له أحد من علماء البلاغة من قبل ولكنه مندرج في سلك الإطناب من علم المعاني، وذلك في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 سياق قوله في صفة النبيين: «الذين أسلموا» . ومعلوم أن الإسلام من البداءة التي يفترض وجودها في الأنبياء، وهم يتساوون فيها مع أقل أتباعهم من الآحاد، ولكن كما يراد إعظام الموصوف بالصفة العظيمة يراد إعظام الصفة بموصوفها العظيم، فاذا قلت: قرأت قصيدة للمتنبي الشاعر فليس المراد أن تمدح المتنبي بالشاعرية، لأن هذه الصفة، على عظمتها، لا يتميز بها، فإن أقل شاعر يوصف بها، ولكنك تمدح الشاعرية بأن يندرج في عداد المتسمين بها هذا الشاعر العظيم، ولهذا كان القائل في مديح النبي صلى الله عليه وسلم محسنا غاية الإحسان: فلئن مدحت محمدا بقصيدتي ... فلقد مدحت قصيدتي بمحمد وإلا فلو اقتصرنا على جعلها للمدح كما قرر الزمخشري وغيره لخرجنا على قانون البلاغة المألوف، وهو الترقي من الأدنى الى الأعلى. فكيف يتفق هذا مع ما ورد في القرآن لو لم يكن الغرض مدح الصفة بالموصوف، ألا ترى أن أبا الطيب المتنبي نفسه تزحزح عن مقام البلاغة الأسمى في قوله: شمس ضحاها هلال ليلتها ... درّ تقاصيرها زبرجدها فقد نزل عن الشمس الى الهلال وعن الدرّ الى الزبرجد، ومن ثم أخذ عليه النقاد القدامى هذه الهنة اليسيرة. الفوائد: قواعد النسبة مبسوطة في كتب النحو، ولكن هناك أسماء كثيرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 الاستعمال خالفت قواعد النسبة، فأحببنا أن نورد أكثرها استعمالا ليستظهرها الأديب، فوضعنا جدولا لبعض هذه الأسماء مرتبة على حروف الهجاء: أنافي: نسبة الى أنف كبير. أموي: نسبة الى أمية. بهرانيّ: نسبة الى بهراء، وهي قبيلة من بني قضاعة، كانت مساكنها في سهل حمص، وكانت تدين بالنصرانية شأن جاراتها تنوخ وتغلب. بدوي: نسبة الى بادية. بحراني: نسبة الى البحرين. تهامي وتهام: نسبة الى تهامة. ثقفي: نسبة الى ثقيف. جذميّ: نسبة الى جذيمة. جلولي: نسبة الى جلولاء، وهي مدينة في العراق على طريق خراسان، عند ما انتصر العرب على جيش ملك ساسان. حروري: نسبة الى حروراء، وهو موضع في العراق، غير بعيد عن الكوفة، اجتمع فيه الخوارج الأولون عند ما جهروا بالخروج على علي بن أبي طالب، فقاتلهم وأبادهم في وقعة النهروان. حرميّ: بكسر الحاء، نسبة الى الحرمين، أي: مسجدي مكة والمدينة. حضرميّ: نسبة الى حضرموت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 دهريّ بضم الدال: نسبة الى دهر. ديرانيّ: نسبة الى دير. روحانيّ: نسبة الى روح. رباني: نسبة الى رب. رقباني: نسبة الى عظيم الرقبة. رديني: نسبة الى ردينة، وهو الرمح وردينة وهي امرأة اشتهرت بتقويم الرماح. سليقي: نسبة الى سليقة. شآم: نسبة الى الشام. شعراني: نسبة الى كثير الشعر. صدراني: نسبة الى كبير الصّدر. صنعاني: نسبة الى صنعاء. طائيّ: نسبة الى طيّء. عبديّ: نسبة الى بني عبيدة. عبشمي: نسبة الى عبد شمس. عبدريّ: نسبة الى عبد الدار. يمان: نسبة الى اليمن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 عبدلي: نسبة الى عبد الله. فرهوديّ: نسبة الى فراهيد. قرشي: نسبة الى قريش. كنتي: نسبة الى كنت. لحياني: نسبة الى كبير اللحية. مروزي: نسبة الى مرو. نباطي: نسبة الى الأنباط. ناصري: نسبة الى الناصرة. [سورة المائدة (5) : آية 45] وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) الإعراب: (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ) الواو عاطفة وكتبنا فعل وفاعل، والفعل معطوف على «أنزلنا» ، وعليهم متعلقان بكتبنا، والضمير في «عليهم» يعود للذين هادوا، وفيها متعلقان بمحذوف حال، والضمير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 يعود للتوراة، وأن واسمها، وبالنفس متعلقان بمحذوف خبرها، وأن وما بعدها في تأويل مصدر محذوف في محل نصب مفعول به لكتبنا، لأن الكتابة تقع عليه، أي: قتل النفس بالنفس، أي: مقتولة بالنفس، والعين بالعين عطف، أي: وفقء العين بفقء العين، وجدع الأنف بجدع الأنف، وصلم الأذن بصلم الأذن، وقلع السنّ بقلع السنّ. وفي قراءة برفع هذه الأربعة على الابتداء والخبر (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) عطف أيضا. وقرىء بالرفع أيضا. والمراد بالجروح ما لا يمكن البتّ في الحكم فيه وأرى أن الأولى في الجروح الرفع ليكون «قصاص» خبره، والتفاصيل في المطولات (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) الفاء استئنافية، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، وتصدق فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، وبه متعلقان بتصدق، والفاء رابطة للجواب، وهو مبتدأ، وكفارة خبر، والجملة الاسمية المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الواو عاطفة، ومن اسم شرط جازم مبتدأ، ولم حرف نفي وقلب وجزم، ويحكم فعل مضارع مجزوم بلم، وهو فعل الشرط، وبما جار ومجرور متعلقان بيحكم، وجملة أنزل الله صلة الموصول، فأولئك الفاء رابطة للجواب، واسم الاشارة مبتدأ، وهم مبتدأ ثان، والظالمون خبره، والجملة الاسمية «هم الظالمون» خبر أولئك، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 [سورة المائدة (5) : الآيات 46 الى 47] وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) اللغة: (قَفَّيْنا) قفّى: أتى، وقفى فلان زيدا وبزيد: أتبعه إياه، ويقال: قفّيت على أثره بفلان: أي أتبعته إياه. بين أبي حيان والزمخشري: وقد ثارت مناقشة لطيفة بين الزمخشري وأبي حيان، وهذه خلاصتها: قال أبو حيّان على تضمين قفينا معنى جئنا، أي: ثم جئنا على آثارهم بعيسى بن مريم قافيا لهم. وليس التضعيف في «قفينا» للتعدية، وذلك لأن «قفا» يتعدّى لواحد، قال تعالى: «ولا تقف ما ليس لك به علم» . وتقول: قفا فلان الأثر إذا اتبعه، فلو كان التضعيف للتعدي لتعدى الى اثنين منصوبين، وكان يكون التركيب، ثم قفينا على آثارهم عيسى بن مريم، وكان يكون عيسى هو المفعول الأول، وآثارهم المفعول الثاني. لكنه ضمن معنى «جاء» وعدّي بالباء، وتعدى «الى آثارهم» بعلى. هذه خلاصة ما قاله أبو حيان، وأطال في هذه المسألة ليرد على الزمخشري ما أعربه إذ قال ما نصه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 ما يقوله الزمخشري: «قفيته مثل عقبته إذا أتبعته، ثم يقال: قفيته بفلان وعقبته به، فتعديه الى الثاني بزيادة الباء، فإن قلت: فأين المفعول الأول في الآية؟ قلت: هو محذوف، والظرف الذي هو «على آثارهم» كالساد مسدّه، لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه» . استطراد أبي حيّان: واستطرد أبو حيان في الرد على الزمخشري فقال: وكلامه يحتاج الى تأويل، وذلك أنه جعل «قفيّته» المضعف بمعنى «فقوته» ، فيكون «فعّل» بمعنى «فعل» ، نحو: قدّر الله وقدر الله، وهو أحد المعاني التي جاءت لها «فعل» . ثم عداه بالباء، وتعدية المتعدي لمفعول بالباء لثان قلّ أن يوجد، حتى زعم بعضهم أنه لا يوجد، ولا يجوز. فلا يقال في: طعم زيد اللحم: أطعمت زيدا باللحم، والصحيح أنه جاء على قلة، تقول: دفع زيد عمرا، ثم تعديه بالباء فتقول: دفعت زيدا بعمرو، أي جعلت زيدا يدفع عمرا. وكذلك صكّ الحجر الحجر، ثم تقول: صككت الحجر بالحجر، أي جعلته يصكّه. وأما قوله: المفعول الأول محذوف والظرف كالسّاد مسدّه، فلا يتجه. لأن المفعول هو مفعول به صريح ولا يسد الظرف مسده. الى أن يقول: وقول الزمخشري: «فقد قفى به إياه» فصل الضمير، وحقه أن يكون متصلا. الإعراب: (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان أحكام الإنجيل بعد بيان حكم التوراة. وقفينا فعل وفاعل، وعلى آثارهم وبعيسى متعلقان بقفينا، وابن مريم بدل أو صفة، ومصدقا حال، ولما متعلقان ب «مصدقا» ، وبين يديه ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول وهو «ما» ، ومن التوراة متعلقان بمحذوف حال (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) الواو عاطفة، وآتيناه فعل ماض وفاعل ومفعول به، والإنجيل مفعول به ثان، وفيه جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وهدى مبتدأ مؤخر، ونور عطف على هدى، والجملة الاسمية في محل نصب على الحال (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) ومصدقا عطف على محل الجملة، فهو في حكم المنصوب على الحال، ولما متعلقان ب «مصدقا» ، وبين يديه ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول، ومن التوراة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) الواو عاطفة وهدى عطف منتظم في سلك «مصدقا» فهما نصب على الحال. وأجاز بعضهم أن يكونا مفعولين لأجلهما، وفيه بعد، لوجود الواو وموعظة عطف على هدى، وللمتقين متعلقان بمحذوف صفة (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ) الواو عاطفة واللام لام الأمر، ويحكم فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، وأهل الإنجيل فاعل يحكم، وبما متعلقان بيحكم، وفي قراءة سبعية: «وليحكم» ، بجعل اللام للتعليل، ويحكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بآتينا أو بقفينا، فيه جار ومجرور متعلقان بيحكم (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) تكرر إعراب هذه الجملة، وأفاد التكرار معنى التوكيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 البلاغة: 1- التشبيه البليغ، وهو تشبيه الإنجيل بالنور والهدى، وحذف الأداة ليكونا نفس الإنجيل للمبالغة. 2- التكرار: في الجمل زيادة في التوكيد كما تقدم. [سورة المائدة (5) : آية 48] وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) اللغة: (مُهَيْمِناً) أي: شاهدا ورقيبا على سائر الكتب، لأنه يشهد لها بالصّحة والثبات. قال حسان بن ثابت: إنّ الكتاب مهيمن لنبيّا ... والحقّ يعرفه ذوو الألباب وقد اختلف في أصل فعله، هل هو أصل بنفسه؟ أي: إنه ليس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 مبدلا من شيء. يقال: هيمن يهيمن، واسم الفاعل مهيمن. كبيطر يبيطر، فهو مبيطر. أو أن هاءه مبدلة من همزة، وأنه اسم فاعل من آمن غيره من الخوف، والأصل مؤأيمن بهمزتين، أبدلت الثانية ياء كراهية اجتماع همزتين، ثم أبدلت الأولى هاء. (شِرْعَةً:) الشرعة بكسر الشين: الدين، والشرع مثله، مأخوذ من الشريعة، وهي مورد الناس للاستسقاء. وسميت بذلك لوضوحها وظهورها. وجمعها شرائع. وشرّع الله لنا كذا يشرعه: أظهره وأوضحه. والمشرعة بفتح الميم والراء: شريعة الماء، قال الأزهري: ولا تسميها العرب مشرعة حتى يكون الماء عدّا لا انقطاع له، كماء الأنهار، ويكون ظاهرا أيضا، ولا يستسقى منه برشاء. فإن كان من مياه الأمطار فهو الكرع بفتحتين والناس في هذا الأمر شرع بفتحتين، وتسكن الراء للتخفيف: أي سواء. (مِنْهاجاً) : في المختار: النهج بوزن الفلس: المنهج، أي المذهب. والمنهاج: الطريق الواضح، ونهج الطريق: أبانه، ونهجه أيضا: سلكه، وبابهما قطع. والنهج بفتحتين: تتابع النفس. وفي المصباح: «ونهج الطريق ينهج بفتحتين وضح واستبان، وأنهج بالألف مثله، ونهجته وانتهجته: أوضحته، يستعملان لازمين ومتعديين» . الإعراب: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) الواو عاطفة وأنزلنا فعل وفاعل، وإليك متعلقان بأنزلنا، وبالحق متعلقان بمحذوف حال من الكتاب (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) مصدقا حال من الكتاب، ولما متعلقان ب «مصدقا» وبين ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول، ويديه مضاف اليه، ومن الكتاب جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 وعنى بالكتاب الجنس، أي: جنس الكتب المنزلة من السماء (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) ومهيمنا عطف على «مصدقا» وعليه متعلقان ب «مهيمنا» ، فاحكم: الفاء الفصيحة، أي: إذا كان شأن القرآن هذا فاحكم بين أهل الكتاب عند تحاكمهم إليك بما أنزل الله، واحكم فعل أمر وبينهم ظرف متعلق ب «فاحكم» وبما متعلقان باحكم، وجملة أنزل الله صلة الموصول (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) الواو عاطفة، ولا ناهية، وتتبع فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وأهواءهم مفعول به، وعما جاءك متعلقان بمحذوف حال، أي: منحرفا، وجملة جاءك صلة، وقيل: تضمن «تتبع» معنى «تنحرف» أو «تتزحزح» ، فيتعلق الجار والمجرور به، ومن الحق متعلقان بمحذوف حال من فاعل جاءك، أو من نفس «ما» الموصولة (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) كلام مستأنف مسوق لحمل أهل الكتابين من معاصريه على الانصياع لما جاء به. ولكل متعلقان ب «جعلنا» ، أو أنه مفعول أول لجعلنا، ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة للاسم المحذوف الذي ناب عنه تنوين العوض اللاحق ب «لكل «، أي لكل أمة منكم، وشرعة مفعول جعلنا، ومنهاجا عطف على شرعة (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) الواو استئنافية، ولو شرطية، وشاء الله فعل وفاعل، واللام واقعة في جواب لو، وجملة جعلكم لا محل لها لأنها واقعة جواب شرط غير جازم، وأمة مفعول جعلكم الثاني، وواحدة صفة (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) الواو حالية، ولكن حرف استدراك مهمل لأنه مخفف، وليبلوكم اللام للتعليل، ويبلوكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره: أراد، وفيما متعلقان بيبلوكم، وجملة آتاكم صلة الموصول (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) الفاء الفصيحة، أي: إذا تبينتم وجه الحكمة في هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 فاستبقوا، واستبقوا: فعل وفاعل، والخيرات مفعول به، أو منصوب بنزع الخافض، ولعله أولى، لأن الأصل في «استبق» أن يعدّى الفعل ب «إلى» إلا إذا ضمنت «استبق» معنى «ابتدر» ، فيتعدى بنفسه. والى الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ومرجعكم مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة مسوقة سياق التعليل لاستباق الخيرات، وجميعا حال من الكاف لأنها فاعل في المعنى، أي: ترجعون جميعا (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) الفاء عاطفة على معنى مرجعكم، أي: ترجعون فينبئكم، والكاف مفعول به، وبما متعلقان بينبئكم، وجملة كنتم صلة الموصول، والتاء اسم كان، وجملة تختلفون خبرها. البلاغة: في إظهار الضمير بقوله: «الكتاب» بيان لأهميته، وأنه المرجع والملاذ والمعتصم إذا حزب الأمر، وهو داخل في نطاق علم المعاني. ومنه في الشعر قول البحتري في مطلع سينيته: صنت نفسي عما يدنس نفسي ... وترفعت عن جدا كلّ جبس [سورة المائدة (5) : آية 49] وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 الإعراب: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) الواو مستأنفة، والكلام مستأنف لبيان كيفية الحكم بينهم، وجعلها الزمخشري عاطفة على الكتاب، ولا يخفى ما فيه من بعد، وأن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، ومتعلق الجار والمجرور محذوف، أي: ووصّيناك بأن احكم، واختار أبو حيّان أن يكون المصدر المؤول مبتدأ محذوف الخبر، والتقدير: وحكمك بما أنزل الله أمرنا وقولنا، أو تقدره بقولك: ومن الواجب حكمك بما أنزل الله، ولا بأس بقوله. وبينهم ظرف متعلق بمحذوف حال، وبما متعلقان ب «احكم» ، وجملة أنزل الله صلة الموصول (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) الجملة معطوفة على «احكم» ، ولا ناهية، وتتبع فعل مضارع مجزوم ب «لا» ، وأهواءهم مفعول به، واحذرهم عطف أيضا، وأن يفتنوك مصدر مؤول منصوب بنزع الخافض، أي: من أن يفتنوك. ولك أن تجعل المصدر المؤول بدل اشتمال من الهاء في «واحذرهم» لأنهم اشتملوا على الفتنة، وأجازوا أن يكون المصدر مفعولا لأجله، على تقدير لام العلة، ولا النافية، وأرى فيه تكلفا، ولكن كثيرا من المعربين أعربوه كذلك (عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) الجار والمجرور متعلقان بيفتنوك، وما اسم موصول في محل جر بالاضافة، وجملة أنزل الله صلة، وإليك متعلقان بأنزل (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) الفاء استئنافية، وإن شرطية، وتولوا فعل ماض وفاعل، وهو في محل جزم فعل الشرط، والفاء رابطة للجواب، وجملة اعلم في محل جزم جواب الشرط، وأنما كافة ومكفوفة، وهي وما في حيزها سدت مسد مفعولي اعلم، ويريد فعل مضارع، والله فاعل، والمصدر المؤول مفعول يريد، وببعض متعلقان بيصيبهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) الواو استئنافية، وإن واسمها، ومن الناس متعلقان بمحذوف صفة لكثير، واللام المزحلقة، وفاسقون خبر «إن» . البلاغة: الإبهام في قوله: «ببعض ذنوبهم» . والتولّي- على عظمه وجسامته وفداحة التطاول به- واحد منها. والمراد أن لهم ذنوبا كثيرة العدد، والتولي من جملتها وواحد منها. فما أخسر صفقتهم وما أبشع ما اقترفوه. واستعمال «بعض» في الإبهام وارد كثيرا في كلامهم، ومن ذلك قول لبيد بن ربيعة في معلقته: ترّاك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يعتلق بعض النفوس حمامها أراد نفسه، وإنما قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام، يقول: إني تراك أماكن إذا لم أرضها إلا أن يعتلق بنفسي حمامها فلا يتسنى لها البراح. ومن جعل «بعض النفوس» بمعنى كل النفوس فقد أخطأه، لأن بعضا لا يفيد العموم والاستيعاب، فكأنه قال: نفسا كبيرة. [سورة المائدة (5) : الآيات 50 الى 51] أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 الإعراب: (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) الكلام معطوف على ما تقدم، مسوق لبيان نمط من تعنّتهم، وجريهم على سبيل الباطل. والهمزة للاستفهام الإنكاري، والفاء عاطفة على مقدّر يقتضيه المقام، أي: أيتولون عن حكمك فيبغون حكم الجاهلية؟ وحكم مفعول به مقدم لقوله: «يبغون» ، والجاهلية مضاف اليه، ويبغون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعل (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) الواو استئنافية، ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ، وأحسن خبره، ومن الله متعلقان بأحسن، وحكما تمييز، ولقوم متعلقان بمحذوف حال، وقال الجلال وغيره: اللام بمعنى عند، متعلقة بأحسن، أي: عند قوم يوقنون، وجملة يوقنون صفة لقوم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) تقدم إعراب النداء، ولا ناهية، وتتخذوا فعل مضارع مجزوم ب «لا» ، والواو فاعل، واليهود مفعول به، والنصارى عطف على اليهود، وأولياء مفعول به ثان، والجملة مستأنفة (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) بعضهم مبتدأ، وأولياء بعض خبر، والجملة الاسمية صفة لأولياء أو ابتدائية، ذكرت بمثابة التعليل للنهي (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) الواو استئنافية، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، ويتولهم فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة، ومنكم متعلقان بمحذوف حال، فإنه: الفاء رابطة، وان واسمها، ومنهم خبرها، والجملة الاسمية المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إن واسمها، ولا نافية، ويهدي فعل مضارع، والقوم مفعول به، والظالمين صفة، والجملة تعليلية لا محل لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 البلاغة: في قوله: «أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون» فنّ طريف، وهو فن الإيغال، وفحواه أن يستكمل المتكلّم كلامه قبل أن يأتي بمقطعه، فإذا أراد الإتيان بذلك أتى بما يفيد معنى زائدا على معنى ذلك الكلام. وهو ضربان: 1- إيغال تخيير: كما في هذه الآية، فإن المعنى قد تمّ بقوله: «ومن أحسن من الله حكما» ، ولما احتاج الكلام الى فاصلة تناسب ما قبلها وما بعدها، أتت تفيد معنى زائدا، لولاها لم يحصل، وذلك أنه لا يعلم أن حكم الله أحسن من كل حكم إلا من أيقن أنه واحد حكيم عادل ليبقى توحيده الشريك في الحكم الذي انفرد به، ولم يكن له معارض فيه ولا مناقض له، ويحصل من حكمته وضع الشيء في موضعه فيؤمن منه وضع الحق في غير موضعه، وينفي العدل عنه الجور في الحكم، ثم عدل عن قوله: «يعلمون» الى قوله: «يوقنون» ليكون علمهم بربهم علم قطع ويقين. الإيغال الاحتياطي في الشعر: أما الإيغال الاحتياطي في الشعر فهو في القوافي خاصة لا يعدوها، ويسميه بعضهم التبليغ، حكى الحاتميّ عن عبد الله بن جعفر عن محمد ابن يريد المبرّد قال: حدثنى التوزيّ قال: قلت للأصمعي: من أشعر الناس؟ قال: الذي يجعل المعنى الخسيس بلفظه كبيرا، أو يأتي الى المعنى الكبير فيجعله خسيسا، أو ينقض كلامه قبل القافية، فاذا احتاج إليها أفاد بها معنى. قلت: نحو من؟ قال: نحو الأعشى إذ يقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 كناطح صخرة يوما ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل فقد تم المثل بقوله: وأوهى قرنه، فلما احتاج الى القافية قال: «الوعل» . قلت: وكيف صار الوعل مفضلا على كل ما ينطح؟ قال: لأنه ينحطّ من قنّة الجبل على قرنه فلا يضيره. قلت: ثمّ نحو من؟ قال: نحو ذي الرمة بقوله: قف العيس في أطلال ميّة واسأل ... رسوما كأخلاق الرّداء المسلسل فتم كلامه، ثم احتاج الى القافية فقال: المسلسل، فزاد شيئا. وقوله: أظن الذي يجدي عليك سؤالها ... دموعا كتبديد الجمان المفصّل فتمّم كلامه، ثم احتاج الى القافية، فقال: «المفصل» ، فزاد شيئا أيضا. وليس بين الناس اختلاف في أن امرأ القيس أول من ابتكر هذا المعنى بقوله يصف الفرس: إذا ماجرى شأوين وابتل عطفه ... تقول: هزيز الريح مرت بأثأب فبالغ في صفته وجعله على هذه الصفة بعد أن يجري شأوين، ويبتل عطفه بالعرق، ثم زاد «الأثأب» إيغالا في صفته، وهو شجر للريح في أضعاف غصونه حفيف عظيم وشدّة صوت. وأتبعه زهير ابن أبي سلمى فقال: كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حبّ الفنا لم يحطّم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 فأوغل في التشبيه إيغالا بتشبيه ما يتناثر من فتات الأرجوان بحب الفنا الذي لم يحطم، لأنه أحمر الظاهر أبيض الباطن، فإذا لم يحطم لم يظهر فيه بياض البتة، وكان خالص الحمرة. وتبعهما الأعشى فقال يصف امرأة: غرّاء فرعاء مصقول عوارضها ... تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل فأوغل بقوله: «الوحل» بعد أن قال: «الوجي» وكان الرشيد كثير العجب بقول صريع الغواني: إذا ما علت منّا ذؤابة شارب ... تمشّت به مشي المقيّد في الوحل ويقول: قاتله الله ما كفاه أن جعله مقيدا حتى جعله في وحل. 2- إيغال احتياط: وهو أن يستكمل المتكلم معنى كلامه قبل أن يقطعه، فإذا أراد الإتيان بذلك أتى بما يفيد معنى زائدا تتمة للمبالغة، كقوله تعالى: «ولا تسمع الصم الدعاء» ، ثم علم عز وجل أن الكلام يحتاج الى فاصلة تماثل مقاطع ما قبلها وما بعدها فأتى بها تفيد معنى زائدا على معنى الكلام حيث قال: «إذا ولّوا مدبرين» . فإن قيل: ما معنى مدبرين؟ وقد أغنى عنها ذكر التولي؟ قلنا: ذلك لا يغنى عنها، إذ التولي قد يكون بجانب دون جانب، كما يكون الإعراض. وسيأتي المزيد منها عند الكلام على سورة النمل إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 [سورة المائدة (5) : الآيات 52 الى 53] فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) اللغة: (دائِرَةٌ) : الدائرة من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها. وفرق الراغب في مفرداته: بين الدائرة والدولة بأن الدائرة هي الخط المحيط، ثم عبّر بها عن الحادثة، وإنما تقال في المكروه، والدولة في المحبوب. وعن عبادة بن الصامت أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي موالي من يهود، كثيرا عددهم، وإني أبرأ الى الله ورسوله من ولايتهم، وأوالي الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبيّ: إني رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية مواليّ. وهم يهود بني قينقاع. (حَبِطَتْ) أي بطلت التي كانوا يتكلفونها في رأي الناس. الإعراب: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ) يجوز أن تكون الفاء استئنافية، والكلام مستأنفا مسوقا لبيان كيفية ولائهم ولسببه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 ولما يئول اليه أمرهم ومصيرهم. ويجوز أن تكون عاطفة والكلام معطوفا على قوله: «إن الله لا يهدي القوم الظالمين» . وعلى كل حال لا محل لها، وترى فعل مضارع، والرؤية إما بصرية أو علمية، والذين مفعول به، وفي قلوبهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ومرض مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية صلة الموصول، وجملة يسارعون إما حال إذا كانت الرؤية بصرية، وإما مفعول به ثان إذا كانت الرؤية علمية، وفيهم جار ومجرور متعلقان بيسارعون. (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) الجملة في محل نصب على الحال من ضمير «يسارعون» وجملة نخشى في محل نصب مقول القول، والمصدر المؤول من أن وما في حيزها مفعول نخشى، ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به، ودائرة فاعل (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) الفاء استئنافية، وعسى من أفعال الرجاء وتعمل عمل «كان» ، والله اسمها، وأن يأتي مصدر مؤول خبرها، وقد تقدم أن الأكثر في خبر عسى أن يكون فعلا مضارعا مقترنا بأن، وبالفتح متعلقان بيأتي، أو أمر معطوف على الفتح، ومن عنده متعلقان بمحذوف صفة لأمر (فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) الفاء عاطفة أو سببية، ويصبحوا معطوفة على يأتي، أو منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية، لأنها سبقت بعسى، وهي للرجاء، ويصبحوا فعل مضارع ناقص، الواو اسمها، وعلى ما متعلقان بنادمين، وجملة أسروا لا محل لها لأنها صلة الموصول، وفي أنفسهم متعلقان بأسروا، ونادمين خبر «أصبح» (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) الواو استئنافية، والكلام مستأنف مسوق لبيان ما يقوله المؤمنون. ويقول الذين فعل مضارع وفاعل، وجملة آمنوا صلة الموصول، وقرىء بنصب «يقول» عطفا على «أن يأتي» ، وقرىء من دون واو، فهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 مستأنفة أيضا. والهمزة للاستفهام التعجبي، واسم الاشارة مبتدأ، والذين خبر، والجملة في محل نصب مقول القول، وجملة أقسموا صلة الموصول، وبالله متعلقان بأقسموا، وجهد أيمانهم مفعول مطلق أو حال (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) الجملة لا محل لها لأنها جواب القسم، وإن واسمها، واللام المزحلقة، ومعكم ظرف متعلق بمحذوف خبر إن (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) جملة مستأنفة، قيل: هي من كلام الله، وعليه أكثر المعربين. وقيل: هي من قول المؤمنين، وعليه الزمخشري وأبو حيّان. وأعمالهم فاعل حبطت، والفاء عاطفة، وأصبحوا فعل ماض ناقص، والواو اسمها، وخاسرين خبرها. البلاغة: في قوله تعالى: «حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين» فن سماه قدامة الإغراب والطرفة. وهو على ثلاثة أقسام: 1- قسم يكون الإغراب منه في اللفظ، وهو كثير. 2- قسم يكون الإغراب منه في المعنى، كقول المتنبي: يطمّع الطير فيهم طول أكلهم ... حتى تكاد على أحيائهم تقع فإنه عمد الى المعنى المعروف من كون الطير إنما تقع على القتلى وتتبع الجيوش، ثقة بالشبع، فتجاوزه بزيادة المبالغة المستحسنة لاقترانها ب «تكاد» الى ما قال، فحصل في بيته من الإغراب والطرفة، ما لا يحصل لغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 3- وقسم لا يكون الإغراب في معناه ولا في ظاهر لفظه، بل في تأويله، وهو الذي إذا حمل على ظاهره كان الكلام معيبا وإذا تؤوّل رده التأويل الى نمط من الكلام الفصيح، فأماط عن ظاهره العيب. والآية الكريمة منه، فإن لقائل أن يقول: إن لفظة «أصبحوا» في الظاهر حشو لا فائدة فيه، فإن هؤلاء المخبر عنهم بالخسران قد أمسوا في مثل ما أصبحوا، ومتى قلت: أصبح العسل حلوا، كانت لفظة «أصبح» زائدة من الحشو الذي لا فائدة فيه، لأنه أمسى كذلك. وقد تحيل الرمانيّ لهذه اللفظة في تأويل تحصل به الفائدة لجليلة التي لولا مجيئها لم تحصل، وهي أنه لما قال: لما كان العليل الذي قد بات مكابدا آلاما شديدة تعتبر حاله عند الصباح، فاذا أصبح مفيقا مستريحا من تلك الآلام رجي له الخير، وغلب على الظنّ برؤه وإفاقته من ذلك المرض، وإذا أصبح كما أمسى تعيّن هلاكه، بجريان العادة بهيجان الإعلال في الليل وسكونه عند الصباح. وشبهت حال الأشقياء بالعليل الذي أصبح من الألم على ما أمسى، فهو ممن ييئس من إصلاحه، وعلى هذا تكون لفظة «فأصبحوا» قد أفادت معنى حسنا جميلا، وخرجت عن كونها حشوا غير مفيد. ولما أخبر الله سبحانه بأنه حبطت أعمالهم علم بالقطع أنهم أصبحوا خاسرين، فلفظة «أصبحوا» لا يصلح غيرها في موضعها، ولا يتم المعنى إلا بها. وما مثّل به الرماني من قوله: «أصبح العسل حلوا وقد أمسى كذلك» إنما يقال هذا في الأمور الواقعة في دار الدنيا، لأن زمانها فيه صباح ومساء، فلما أصبح فيه على الحال التي يمسي عليها فذكر الصباح فيه والمساء حشو لا فائدة فيه، وأما يوم القيامة الذي لا مساء فيه فإن تمثيله بما أصبح في الزمن الذي يصاحبه مساء تمثيل غير مطابق له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 [سورة المائدة (5) : آية 54] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) الكلام مستأنف مسوق لبيان حال المرتدين على الإطلاق. وقد تقدم اعراب النداء كثيرا. ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، ويرتد فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه السكون وحرك بالفتحة لخفتها كما تقدم في قاعدة المضعّف، ومنكم متعلقان بمحذوف حال، وقرىء «يرتدد» بفكّ الإدغام. وعن دينه متعلقان بيرتد، والفاء رابطة لجواب الشرط، وجملة سوف يأتي الله في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» ، ويأتي الله فعل وفاعل، وبقوم متعلقان بيأتي، وجملة يحبهم صفة لقوم، وجملة يحبونه عطف على جملة يحبهم. وفي محبة الله للعبد، وجب العبد لله، أبحاث شيقة اشتجر حولها الخلاف، وليس هذا مقام بحثها، فليرجع إليها القارئ في المطوّلات (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) أذلة صفة ثانية لقوم، وعلى المؤمنين متعلقان بأذلة، وهو صفة مشبهة، وأعزة صفة ثالثة، وعلى الكافرين متعلقان بأعزّة (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) جملة يجاهدون صفة رابعة لقوم، وجملة ولا يخافون عطف على جملة يجاهدون، فهي بمثابة صفة خامسة (ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) الجملة مستأنفة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 واسم الاشارة مبتدأ، وفضل الله خبره، و «ذلك» قد يشار به الى المفرد والمثنى والمجموع، وهو هنا يشير به الى الأوصاف التي أولها: يحبهم ويحبونه، وجملة يؤتيه خبر ثان، ولك أن تجعلها مستأنفة، والهاء مفعول به أول ومن اسم موصول في محل نصب مفعول به ثان ليؤتيه، والواو استئنافية، والله مبتدأ، وواسع خبر أول، وعليم خبر ثان. البلاغة: 1- محبة العبد لله بطاعته له، وهو من المجاز الذي يسمى فيه المسبّب بالسبب. 2- الطباق بين أذلة وأعزّة. [سورة المائدة (5) : الآيات 55 الى 56] إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) الإعراب: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) كلام مستأنف مسوق لتقرير الحكم فيمن يوالي الله ورسوله والمؤمنين. وإنما كافة ومكفوفة، ووليكم خبر مقدم، والله مبتدأ مرفوع ويجوز العكس، ورسوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 عطف على الله، وكذلك الذين آمنوا، وجملة آمنوا صلة الموصول (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) اسم الموصول بدل من الذين، وجملة يقيمون صلة، والصلاة مفعول به، ويؤتون الزكاة عطف على ما قبلهء (وَهُمْ راكِعُونَ) الواو حالية، وهم مبتدأ، وراكعون خبر، والجملة في محل نصب على الحال، ويجوز أن تكون الواو عاطفة، والجملة معطوفة على ما سبقها، فتكون مندرجة في خبر الصلة لاسم الموصول (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الواو استئنافية، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، ويتولّ فعل الشرط، والله مفعوله، ورسوله عطف على الله، والذين آمنوا عطف أيضا (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ) الفاء رابطة لجواب الشرط، وإن واسمها، وهم ضمير فصل لا محل له، والغالبون خبر إن، أو «هم» مبتدأ، والغالبون خبر «هم» ، وجملة «هم الغالبون» خبر «إن» ، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» ، ويجوز أن يكون جواب الشرط محذوفا لدلالة الكلام عليه، أي: يغلب، ويكون قوله: «فإن حزب الله هم الغالبون» دالّا عليه، وقد رجح هذا القول ابن هشام في المغني. [سورة المائدة (5) : الآيات 57 الى 58] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً) كلام مستأنف مسوق لخطاب بعض المؤمنين وتحذيرهم من المنافقين. وقد تقدم إعراب كلمة النداء، ولا ناهية، وتتخذوا فعل مضارع مجزوم بلا، والواو فاعل، والذين مفعول به، وجملة اتخذوا صلة الموصول، ودينكم مفعول به أول، وهزوا مفعول به ثان، ولعبا عطف على «هزوا» (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) من الذين الجار والمجرور حال من الموصول الأول، أو من فاعل اتخذوا، وجملة أوتوا صلة، وأتوا فعل مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعل، والكتاب مفعول به ثان، ومن قبلكم متعلقان بأتوا، والكفار معطوف على الذين أوتوا، وقرىء بالجر عطفا على الموصول المجرور بمن. قال مكّي: لولا اتفاق الجماعة على النصب لاخترت الخفض لقوته في الإعراب وفي المعنى. وأولياء مفعول به ثان لتتخذوا (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة، واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به، وإن شرطية، وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمها، ومؤمنين خبر كنتم، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله، أي فاتقوا الله (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً) الواو عاطفة، على صلة الذين الواقع مفعولا به، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط، وجملة ناديتم في محل جر بالإضافة، والى الصلاة متعلقان بناديتم، وجملة اتخذوها لا محل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 لها لأنها جواب شرط غير جازم، والواو فاعل، والهاء مفعول به أول، وهزوا مفعول به ثان، ولعبا عطف عليه (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) اسم الاشارة مبتدأ والباء حرف جر، وأن واسمها وخبرها في تأويل مصدر مجرور بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر، ولا نافية، ويعقلون فعل مضارع، والواو فاعل، والجملة صفة لقوم. [سورة المائدة (5) : آية 59] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) اللغة: (تَنْقِمُونَ) : مضارع نقم، وفيه لغتان: الفصحى حكاها ثعلب في فصيحه: نقم بفتح القاف ينقم بكسرها، والأخرى: نقم بكسر القاف ينقم بفتح القاف، حكاها الكسائي. ومعناه تسخطون وتكرهون، وقيل: تنكرون. قال عبيد الله بن قيس الرّقيّات: ما نقموا من بني أمية إلّا ... أنّهم يحلمون إن غضبوا الإعراب: (قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ) كلام مستأنف مسوق لمخاطبة أهل الكتاب من بني إسرائيل. وقل: فعل أمر، ويا حرف نداء، وأهل الكتاب منادى مضاف (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ) الجملة مقول القول، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 وهل حرف استفهام إنكاري وتنقمون فعل مضارع والواو فاعل، ومنا متعلقان بتنقمون، وإلا أداة حصر، وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول تنقمون، وقيل المصدر منصوب على أنه مفعول لأجله، والمفعول به محذوف، والأول أرجح، وبالله متعلقان بآمنا، والمعنى ما تكرهون منا إلا الإيمان أو لا تسخطون علينا إلا لأجل إيماننا (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) عطف على المصدر المؤول، وجملة أنزل صلة الموصول، وإلينا متعلقان بأنزل، و «ما» الثانية عطف على «ما» الأولى، وجملة أنزل صلة الموصول، ومن قبل جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) الواو عاطفة، وقرأ الجمهور بفتح «أن» فهي في تأويل مصدر محله الرفع على الابتداء، والخبر محذوف، والتقدير: وفسقكم ثابت معلوم عندكم، لأنكم علمتم أننا على الحق، وأنكم على الباطل، فإن عنصريتكم وحبكم للرئاسة وجمع الأموال أهاب بكم الى ركوب هذا المركب الخشن. ويحتمل أن يكون محل المصدر النصب عطفا على «أن آمنا» ، والمعنى: وما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين تمردكم وخروجكم عن الإيمان. أو تكون الواو للمعية، ويكون المصدر المؤول مفعول معه، والتقدير: وما تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم فاسقون. ويحتمل أن يكون محله الجر عطفا على الله، أي: وما تنقمون منا إلا الإيمان بالله، وبما أنزل، وبأن أكثركم فاسقون. البلاغة: في هذه الآية فن طريف، وهو توكيد المدح بما يشبه الذم. وهو فنّ ذائع الشهرة، ولكنه قليل الأمثلة. ولم أجد منه في القرآن إلا هذه الآية، فإن الاستثناء بعد الاستفهام الجاري مجرى التوبيخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 على ما عابوا به المؤمنين من الإيمان يوهم بأن يأتي بعد الاستفهام ما يجب أن ينقم على فاعله بما يذم به، فلما أتى بعد الاستفهام ما يوجب مدح فاعله كان الكلام متضمنا تأكيد المدح بما يشبه الذم. وقد عرف علماء البلاغة هذا الفنّ بأنه استثناء صفة مدح من صفة ذم، منفية عن الشيء، بتقدير دخولها في صفة الذم المنفية. ومنه قول النابغة الذبياني: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب والتأكيد فيه واضح، فذكر أداة الاستثناء وهي «غير» قبل ذكر ما بعدها بوهم إخراج شيء مما قبلها، فاذا وليتها صفة مدح جاء التأكيد. وفلول السيوف من كثرة الضراب في الحروب من مجال الفخر ودواعي الشجاعة. ومن هذا النوع أن تثبت لشيء صفة مدح، وتعقب ذلك بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى لذلك الشيء، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش» . فذكر أداة الاستثناء، وهي «بيد» الموازنة ل «غير» وزنا ومعنى قبل ذكر ما بعدها، ثم التعقيب بصفة مدح أخرى وهي كونه من قريش التي هي أفصح العرب، تزيد تأكيد المعنى حسنا. وقال النابغة منه: فتى كملت أوصافه غير أنه ... جواد فما يبقي على المال باقيا [سورة المائدة (5) : آية 60] قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 الإعراب: (قُلْ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق لمخاطبة اليهود بما يليق بتحديهم وتعنتهم وإيغالهم في الكفر. وقل فعل أمر، والجملة الاستفهامية مقول القول، وهل حرف استفهام، وأنبئكم فعل مضارع في محل نصب، والكاف مفعوله الأول، وبشرّ جار ومجرور متعلقان بمحذوف هو المفعول الثاني، ومن ذلك جار ومجرور متعلقان ب «شرّ» ، لأنه اسم تفضيل، ومثوبة تمييز لشر، وهو تمييز نسبة، لأن الشر واقع على الأشخاص، وسيأتي مزيد من التفصيل في باب البلاغة. وعند ذلك متعلقان بمحذوف حال (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) من اسم موصول في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، فإنه لما قال: هل أنبئكم بشر من ذلك؟ فكأن قائلا قال: من ذلك؟ فقيل: هو من لعنه الله، والجملة لا محل لها لأنها مفسرة ويجوز أن يكون محل «من» الجر على البدلية من «شر» ، وجملة لعنه الله لا محل لها لأنها صلة الموصول، وجملة غضب عليه عطف على الصلة (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) الواو عاطفة، وجعل عطف على لعنه الله، ومنهم متعلقان بمحذوف مفعول به أول، والقردة هو المفعول الثاني، والخنازير عطف على القردة، وعبد فعل ماض وهو عطف على صلة «ما» ، كأنه قيل: ومن عبد الطاغوت، حذف الموصول وأقيمت الصفة مقامه (أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) الجملة مفسرة لا محل لها، واسم الإشارة مبتدأ، وشر خبر، ومكانا تمييز، وأضل عطف على شر، وعن سواء السبيل متعلقان بأضلّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 البلاغة: اشتملت هذه الآية على ضروب من أنواع البلاغة ندرجها فيما يلي: 1- المجاز المرسل في قوله: «مثوبة» ، والعلاقة الضدية، مثل: «فبشرهم بعذاب أليم» . والمراد بهذا المجاز التهكم. ومجمل المعنى: قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم لعبا ولهوا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار: هل أنبئكم بشرّ من أهل ذلك الذي تنقمونه منا، وشر من مثوبته؟ أي: عقابه. وقد أخرج الكلام على حسب قولهم واعتقادهم، وإلا فلا شركة بين المؤمنين وبينهم في أصل العقوبة، حتى يقال: إن عقوبة أحد الفريقين شرّ من عقوبة الآخر، ولكنهم حكموا بأن دين الإسلام شرّ فقيل لهم: هبوا الأمر كذلك، ولكن لعنة الله تعالى وغضبه، والإبعاد عن رحمته، والطرد من ساحة رضاه، ومسخ الصورة الى أقبح أنواع الحيوان وأرذله شرّ من ذلك الذي تزعمون أنه شر، وأنت تعرف ما لنوعي القردة والخنازير من الخسة والحقارة، وما لهما في صدور الدهماء والخاصة من القبح والتشويه وشناعة المنظر، ونذالة النفس، وحقارة القدر، ووضاعة الطبع، وسماجة الشكل والخلق، وقبح الصوت ودناءة الهمة، مما ليس لغيرهما من سائر أنواع الحيوان. 2- التهكم- وقد انطوى في المجاز المرسل. وتقدم الكلام على التهكم مفصلا. 3- المجاز المرسل: في قوله: «شر مكانا» ، وعلاقته المحلية. فقد ذكر المكان وأراد أهله، وقد تقدم أيضا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 الفوائد: قد تقول: إنه لا بد في اسم التفضيل من مفضّل ومفضل عليه، فكيف يقال: إنهم شر من المؤمنين، والمؤمنون لا شر عندهم البتة؟ والجواب أنه جاء على سبيل التنزيل والتسليم للخصم على زعمه، تبكيتا له ومناداة عليه بالحجة الدامغة، أو أنه خاص بالكفار، وهم طبقات متفاوتة في نسبة الشر إليها. [سورة المائدة (5) : الآيات 61 الى 62] وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) الإعراب: (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط، وجملة جاءوكم في محل جر بالإضافة، وجاءوكم فعل وفاعل ومفعول به، وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وجملة آمنا في محل نصب مقول القول (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) الواو حالية، وقد حرف تحقيق، وجملة دخلوا في محل نصب حال من الواو في «قالوا» ، وبالكفر جار ومجرور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 متعلقان بمحذوف حال من فاعل دخلوا، والواو الثانية حالية أيضا، والجملة في محل نصب حال من الواو في «قالوا» أيضا، وبه متعلقان بمحذوف حال من فاعل خرجوا، أي: قد دخلوا كافرين وخرجوا كافرين (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) الواو استئنافية، والله مبتدأ، وأعلم خبر، وبما جار ومجرور متعلقان بأعلم وجملة كانوا لا محل لها لأنها صلة الموصول، وجملة يكتمون في محل نصب خبر كانوا (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) الواو عاطفة أو استئنافية، وترى فعل مضارع، وكثيرا مفعول به، ومنهم متعلقان بمحذوف صفة، وجملة يسارعون حال من «كثيرا» ، أو نعت له، وفي الإثم متعلقان بيسارعون، والعدوان عطف على الإثم (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وأكلهم عطف على الإثم والعدوان، والسحت مفعول به للمصدر وهو «أكل» ، واللام جواب قسم محذوف، وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم، وما نكرة تامة في محل نصب على التمييز، أو موصولة فهي فاعل، وجملة كانوا لا محل لها على الحالين، وجملة يعملون في محل نصب خبر كانوا. [سورة المائدة (5) : الآيات 63 الى 64] لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 الإعراب: (لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) كلام مستأنف مسوق للتحضيض والتخويف للعلماء والأحبار منهم لصدوفهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيها تعميم لتوبيخ العلماء من كل أمة وملة لهذه الخلة الشائنة، ولذلك قال ابن عباس: هذه أشد آية في القرآن، يعني في حقّ العلماء لتهاونهم في النهي عن المنكرات. وقال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها. ولولا أداة للتحضيض بمعنى «هلّا» ، وينهاهم الربانيون فعل مضارع ومفعول به وفاعل، والأحبار عطف على قوله: «الربانيون» ، وعن قولهم متعلقان بينهاهم، والإثم مفعول به ل «قول» ، وأكلهم معطوف على قولهم، والسحت مفعول به لأكل (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) تقدم إعرابها قريبا، والعمل لا يقال فيه: صنع، إلا إذا صار عادة وديدنا (وَقالَتِ الْيَهُودُ: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) الواو استئنافية، وقالت اليهود فعل وفاعل، ويد الله مبتدأ، ومغلولة خبر، والجملة في محل نصب مقول القول (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) الجملة دعائية معترضة، وغلت فعل ماض مبني للمجهول، وأيديهم نائب فاعل، ولعنوا عطف على غلت أيديهم (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) بل حرف إضراب وعطف، ويداه مبتدأ، ومبسوطتان خبر، والجملة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 عطف على جملة يد الله مغلولة، وجملة ينفق يجوز أن تكون مستأنفة سيقت تأكيدا لكمال جوده سبحانه، والمعنى: إنفاقه على ما تقتضيه مشيئته، فهو القابض الباسط. ولا أعلم كيف أجازوا أن تكون خبرا ثانيا ل «يداه» تبعا لأبي حيّان؟ وكيف هنا شرطية في محل نصب حال (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) الواو واو القسم المحذوف والقسم المحذوف مجرور بالواو، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره: أقسم، واللام واقعة في جواب القسم، ويزيدن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم، وكثيرا مفعول به، ومنهم متعلقان بمحذوف صفة، وما اسم موصول فاعل يزيدن، والمراد أنهم يزدادون حقدا وتماديا في الجحود، وجملة أنزل لا محل لها لأنها صلة الموصول، وإليك متعلقان بأنزل، ومن ربك متعلقان بمحذوف حال، وطغيانا تمييز أو مفعول به ثان ليزيدن، وكفرا عطف على «طغيانا» (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) الواو استئنافية وألقينا فعل وفاعل، وبينهم ظرف متعلق بألقينا، والعداوة مفعول به، والبغضاء عطف على العداوة والى يوم القيامة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ) كلما نصب على الظرفية الزمانية، والجملة في محل جر بالاضافة، ونارا مفعول به، وللحرب جار ومجرور متعلقان بأوقدوا، وجملة أطفأها الله لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، والجملة كلها مستأنفة أيضا (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) الواو استئنافية، ويسعون فعل مضارع وفاعل، وفي الأرض متعلقان بيسعون، وفسادا يجوز أن يكون مفعولا مطلقا، ويجوز أن يكون حالا بمعنى مفسدين، وأن يكون مفعولا لأجله، أي: يسعون لأجل الفساد. والأوجه الثلاثة متساوية الرجحان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) الواو استئنافية، والله مبتدأ، وجملة لا يحب خبر، والمفسدين مفعول به. البلاغة: حفلت هذه الآية بضروب من البلاغة نوجزها فيما يلي: 1- المجاز المرسل في غلّ اليد وبسطها عن البخل والجود، وعلاقة هذا المجاز السببية، لأن اليد هي سبب الإنفاق، والفائدة من هذا المجاز تصوير الحقيقة بصورة حسية تلازمها غالبا. وجعل بعضهم قوله: «بل يداه مبسوطتان» استعارة، فالمستعار البسط، والمستعار منه يد المنفق، والمستعار له يد الحق، وذلك ليتخيّل السامع أن ثم يدين مبسوطتين بالإنفاق، ولا يدان في الحقيقة ولا بسط. أثر حاسة البصر: وذلك لأن التصوير الحسي يجعلها أرسخ في الذهن، وأكثر تأثيرا. وحاسة البصر هي في مقدمة الحواسّ المقدرة للجمال، والتي تدركه وتنقله الى النفس، وبهذا الصدد يقول «جوير» الناقد العصري المعروف: إن الإحساسات التي يصح نعتها بالجمال على أتمّ وجه هي الإحساسات البصرية. حتى لقد ذهب «ديكارت» الفيلسوف الفرنسي الى أبعد من ذلك، فعرّف الجمال بقوله: هو ما يروق في العين. ولما كان الجود والبخل معنويين لا يدركان بالحسّ وتلازمهما صورتان تدركان بالحس، وهما بسط اليد للجود، وغلها للبخل، عبّر عنهما بلازمهما، لفائدة الإيضاح والانتقال الى المحسوسات من المعنويات. 2- المشاكلة: بقوله: «غلت أيديهم» فقد دعا عليهم بما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 افتاتوا به، وأرجفوا فيه. ومن ثم كان اليهود أبخل خلق الله على الإطلاق، وأكثرهم جمعا للمال من أي وجه أتى. وقد كان العرب يتفادون هذا الوصف الذميم، ويتورعون عنه، قال الأشتر: بقّيت وفري وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس ومعظم أهل السنة ذهبوا الى أن يد الله صفة من صفات ذاته سبحانه، كالسمع والبصر والوجه، فيجب علينا الايمان بها وإثباتها له بلا كيف ولا تشبيه. 3- التنكيت: بقوله: «بل يداه مبسوطتان» . وكان السياق يقتضي أن يقول: يده مبسوطة، فإنهم عبروا عنها بالمفرد بقولهم: «يد الله مغلولة» ولكنه عدل عن المطابقة لنكتة تدق على الأفهام البدائية، وهي نفي الجسمية عنه سبحانه، لأنهم أرادوا أنه يعطي بيده، والمرء لا يعطي بكلتا يديه، فردّ عليهم مبطلا أن يكون له شيء مما هو جسم معروف، له يد يمنى ويد يسرى. فلما أثبت أن كلتيهما يد نفى الجسمية، لأن كلتيهما متساوية في الكرم والعطاء. 4- الكناية: في إيقاد الحرب عن الحرب واشتعالها. 5- الطباق: بين الإيقاد والإطفاء. [سورة المائدة (5) : آية 65] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 الإعراب: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبيان حالهم في الآخرة. ولو شرطية غير جازمة، وأن واسمها وخبرها في محل رفع فاعل لفعل محذوف، وقد تقدم الحديث عن ذلك. وجملة آمنوا خبر «أن» وجملة اتقوا عطف على جملة آمنوا (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) اللام واقعة في جواب «لو» وكفرنا فعل وفاعل، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وعنهم متعلقان بكفرنا، وسيئاتهم مفعول به، وجملة ولأدخلناهم عطف على جملة لكفرنا. وجنات مفعول به ثان على السعة، أو منصوب بنزع الخافض، والجار والمجرور متعلقان بأدخلناهم، والنعيم مضاف اليه. [سورة المائدة (5) : آية 66] وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) الإعراب: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) الواو استئنافية، وأنهم أقاموا التوراة والإنجيل: تقدم إعرابها قريبا، وما عطف على التوراة والإنجيل، وجملة أنزل صلة الموصول، وأراد بالموصول غيرهما من الكتب، ككتاب أشعيا وكتاب دانيال وزبور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 داود، وإليهم متعلقان بأنزل، ومن ربهم متعلقان بمحذوف حال (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) اللام واقعة في جواب لو، وجملة أكلوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، ومن فوقهم متعلقان بأكلوا، ومن تحت أرجلهم عطف على «من فوقهم» ، وسيأتي سر حذف المفعول في باب البلاغة (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) الجملة في محل نصب على الحال، ومنهم متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وأمة مبتدأ مؤخر، ومقتصدة صفة، كثير الواو عاطفة. وكثير مبتدأ، وساغ الابتداء به لوصفه بالجار والمجرور، وجملة ساء ما يعملون خبر كثير، وجملة يعملون صلة «ما» . البلاغة: في هذه الآية حذفان بليغان، داخلان في نطاق المجاز الذي هو عنصر البلاغة وإكسيرها، وهما: 1- حذف المضاف في قوله: «أقاموا التوراة والإنجيل» والمراد أحكام التوراة والإنجيل وحدودهما، وما انطوى تحتهما من أحكام بالغة، وعبر شائعة. 2- حذف المفعول به، واللطائف فيه تتجدد دائما. وقوله تعالى: «لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم» بالغ أبعد آماد البلاغة، فمفعول «أكلوا» محذوف لقصد التعميم أو للقصد الى نفس الفعل، كما في قولهم: «فلان يحل ويعقد، ويبرم وينقض، ويضر وينفع» ، والأصل في ذلك كله على إثبات المعنى المقصود في نفسك للشيء على الإطلاق. وفي الحذف الذي بصدده ثلاثة أوجه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 آ- أن يفيض عليهم بركات السماء وبركات الأرض. ب- وأن يكثر الأشجار المثمرة والزروع المغلة. ج- وأن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار، يجنون ما تهدّل من رؤوس الشجر، ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم. [سورة المائدة (5) : آية 67] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) الإعراب: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) تقدم إعرابها (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) كلام مستأنف مسوق للتسرية عن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضاق ذرعه بالدعوة. وبلغ فعل أمر، وفاعله أنت، وما مفعول به، وجملة أنزل صلة الموصول، وإليك متعلقان بأنزل، ومن ربك متعلقان بمحذوف حال (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) الواو استئنافية، وإن شرطية، ولم تفعل فعل الشرط، والفاء رابطة للجواب، وما نافية، وجملة بلغت في محل جزم جواب الشرط، وفي اتحاد الشرط والجواب سرّ بديع، سوف نبسطه في باب البلاغة، ورسالته مفعول به (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) الواو استئنافية، والله مبتدأ، وجملة يعصمك خبره، ومن الناس متعلقان بيعصمك (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) إن واسمها، وجملة لا يهدي خبرها، والقوم مفعول به، والظالمين صفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 البلاغة: في اتحاد الشرط والجواب سرّ منقطع النظير، وذلك أنه لا بدّ أن يكون الجزاء مغايرا للشرط لتحصل الفائدة. ومتى اتحدا اختل الكلام لأنه يئول ظاها الى: وان لم تفعل فما فعلت، ولكنه أراد هنا أن يتحدا، لأن عدم تبليغ الرسالة أمر معلوم عند الناس، مستقرّ في الأفهام أنه عظيم شنيع ينقم على مرتكبه، ولأن عدم نشر العلم من العالم أمر يستوجب المذمة، فما بالك بالرسالة؟ فجعل الجزاء عين الشرط ليتضح مدى الاهتمام بالتبليغ. وقيل أيضا في هذا الصدد: أي إن تركت شيئا فقد تركت الكل، وصار ما بلغته غير معتدّ به، فصار المعنى: وإن لم تستوف ما أمرت بتبليغه فحكمك في العصيان وعدم الامتثال حكم من لم يبلغ شيئا أصلا. [سورة المائدة (5) : آية 68] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) الإعراب: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) كلام مستأنف مسوق لنفي تخرّ صاتهم بأنهم يتبعون التوراة. وقل فعل أمر، ويا أهل الكتاب منادى مضاف، ولستم: فعل ماض ناقص، والتاء اسمها، وعلى شيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها، وسيأتي مزيد عن ليس في باب الفوائد (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) حتى حرف غاية وجر، وتقيموا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى، والجار والمجرور متعلقان ب «لستم» والتوراة مفعول تقيموا، ولا بد من تقدير مضاف، أي: أحكامهما وما ينطويان عليه من مثل عليا (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) الواو استئنافية واللام جواب قسم محذوف، ويزيدن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم، وكثيرا مفعول به، ومنهم متعلقان بمحذوف صفة ل «كثيرا» وما اسم موصول فاعل يزيدن، ومن ربك متعلقان بمحذوف حال، وطغيانا مفعول به ثان أو تمييز، وكفرا عطف على طغيانا (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) الفاء الفصيحة، أي: إذا علمت هذا فلا تأس، ولا ناهية، وتأس فعل مضارع مجزوم بلا، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وعلى القوم متعلقان بتأس، والكافرين صفة. البلاغة: التنوين في «شيء» يفيد التقليل والتحقير، أي: لستم على شيء يعتدّ به حتى تقيموا أحكام التوراة والإنجيل. الفوائد: (لَسْتُمْ) حذفت عين «ليس» وهي الياء، لالتقاء الساكنين، أي: الياء والسين، إذ أصله: ليس بكسر الياء، ثم سكنت الياء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 للتخفيف ولم تقلب الفاء على القياس، لأن التخفيف بالتسكين في الجامد أسهل من القلب، فلما اتصلت بضمير رفع متحرّك سكنت العين، فالتقى ساكنان: الياء والسين، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين. [سورة المائدة (5) : آية 69] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) اللغة: (الصَّابِئُونَ) من صبأ، أي: خرج عن دينه، وهم قوم كانوا يعبدون الكواكب، مقرهم في حرّان بين النهرين، خرج منهم علماء وفلاسفة ومنجمون، ومنهم الكاتب الشاعر أبو إسحق الصابىء. الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) كلام مستأنف مسوق لبيان المؤمنين بالله والعاملين عملا صالحا. وإن واسمها، وجملة آمنوا صلة الموصول، والذين هادوا عطف على الذين آمنوا (وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) الواو استئنافية، والصابئون رفع على الابتداء، وخبره محذوف، والنية به التأخير عما في «إنّ» من اسمها وخبرها، كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا، والصابئون كذلك. هذا ما رجّحه سيبويه في مخالفة الإعراب، وأنشد شاهدا له: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم ... بغاة ما بقينا على شقاق أي: فاعلموا أنّا بغاة وأنتم كذلك. ويكون العطف من باب عطف الجمل، فالصابئون وخبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله: إن الذين آمنوا، ولا محل لها، كما لا محل للجملة التي عطفت عليها، وإنما قدّم «الصابئون» تنبيها على أن هؤلاء أشد إيغالا في الضلالة واسترسالا في الغواية، لأنهم جردوا من كل عقيدة. وسترد في باب الفوائد أوجه أخرى في هذه المخالفة الإعرابية. والنصارى عطف على الذين، ومن اسم موصول بدل من الذين، ولك أن تعرب النصارى مبتدأ خبره: «فلا خوف عليهم» ، والجملة خبر «إن» ، وجملة آمن بالله صلة الموصول، واليوم الآخر عطف على الله، وعمل عطف على آمن، وصالحا مفعول به أو صفة لمفعول مطلق محذوف، أي: عملا صالحا (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) الجملة خبر إن، ودخلت الفاء لما في الموصول من رائحة الشرط، وخوف مبتدأ ساغ الابتداء به لتقدم النفي، وعليهم متعلقان بمحذوف خبره، ولا هم يحزنون: عطف على ما تقدم. الفوائد: قدّمنا الوجه المختار الذي ذهب إليه الخليل وسيبويه ونحاة البصرة في إعراب «والصابئون» ، وهناك أوجه أخرى نوردها فيما يلي باقتضاب: آ- إن الواو عاطفة، والصابئون معطوف على موضع اسم إن لأنه قبل دخول «إن» كان في موضع رفع، وهذا مذهب الكسائي والفراء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 ب- إنه مرفوع عطفا على الضمير المرفوع في «هادوا» وروي هذا عن الكسائي. ج- أن تكون «إن» بمعنى نعم، أي: حرف جواب، وما بعده مرفوع بالابتداء، فيكون «والصابئون» معطوفا على ما قبله. ما يقوله ابن هشام: وتخريج ابن هشام للآية يتلخص بأمرين: آ- إن خبر «إن» محذوف، أي: مأجورون أو آمنون أو فرحون، والصابئون مبتدأ وما بعده الخبر، ويشهد له قوله: خليليّ هل طبّ فإني وأنتما ... وإن لم تبوحا بالهوى نفان ويضعفه أنه حذف من الأول لدلالة الثاني عليه، وإنما الكثير العكس. ب- الخبر المذكور ل «إن» ، وخبر «الصابئون» محذوف، ويشهد له قوله: فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب إذ لا تدخل اللام في خبر المبتدأ حتى يقدم نحو: القائم لزيد، ويضعفه تقديم الجملة المعطوفة على بعض الجملة المعطوف عليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 [سورة المائدة (5) : الآيات 70 الى 71] لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) الإعراب: (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) كلام مستأنف مسوق لبيان نماذج أخرى من جناياتهم التي تنادي باستبعاد الإيمان منهم. واللام جواب قسم محذوف، وقد حرف تحقيق، وأخذنا فعل وفاعل، وميثاق مفعول به، وبني إسرائيل مضاف اليه، (وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا) الواو حرف عطف، وأرسلنا فعل وفاعل، وإليهم متعلقان بأرسلنا، ورسلا مفعول به (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) كلما ظرف زمان متضمن معنى الشرط متعلق بجوابه المحذوف، أي: عصوه، وجاءهم فعل ومفعول به مقدم، ورسول فاعل مؤخر، وبما متعلقان بجاءهم، وجملة لا تهوى أنفسهم صلة الموصول (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) فريقا مفعول مقدم لكذبوا، وفريقا الثانية مفعول مقدّم ليقتلون، والجملة مستأنفة نشأت عن جواب سؤال ناشىء عن الجواب الأول، كأنه قيل: كيف فعلوا بهم؟ فقيل: فريقا منهم كذبوهم ولم يتعرضوا لهم بضرر، وفريقا آخر منهم قتلوهم (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) الواو عاطفة، وحسبوا فعل وفاعل، وأن حرف مصدري ونصب، ولا نافية، فتكون فعل مضارع تام منصوب بأن، وفتنة فاعل، وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي حسبوا. وقرىء برفع «تكون» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 فتكون «أن» مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن تقديره: أنه (فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) الفاء: عاطفة، وعموا معطوف على حسبوا، وصموا عطف على قوله: فعموا، وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي، وتاب الله فعل وفاعل، والجملة عطف على قوله: فعموا وصموا، وعليهم متعلقان بتاب (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) ثم عموا وصموا عطف على ما تقدم، كثير بدل من الضمير في عموا أو صموا، ومنهم متعلقان بمحذوف صفة لكثير، والواو استئنافية، والله مبتدأ وبصير خبره، وبما جار ومجرور متعلقان ببصير، وجملة يعملون صلة الموصول. البلاغة: في الآية نوع من الالتفات البليغ بقوله: «فريقا كذبوا وفريقا يقتلون» ، وهو التفات من الإخبار بالفعل الماضي الى الإخبار بالفعل المضارع، وهذا من أدقّ الأمور، ولا يتاح في الاستعمال إلا للعارف برموز الفصاحة والبلاغة. وقد طفح القرآن الكريم به، فقد جاء بالفعل الماضي أولا فقرر أمرا وقع ثم جاء يقتلون على حكاية الحال الماضية استفظاعا للقتل واستحضارا لتلك الصورة الشنيعة للتعجب منها واستخلاص العبرة من مطاويها. وسيرد منه في القرآن الشيء العجيب، وعلى هذا ورد قول تأبط شرّا: بأنّي قد لقيت الغول تهوي ... بسهب كالصحيفة صحصحان فأضربها بلا دهش فخرّت ... صريعا لليدين وللجران فإنه قصد أن يصور لقومه الحال التي تهيأت له حتى تشجّع على ضرب الغول، كأنه يجسّدها لهم ليثير إعجابهم بجراءته على ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 الهول. والأمثال على ذلك أكثر من أن تحصى. وعلى هذا الأسلوب ما ورد من حديث الزبير بن العوّام في غزوة بدر، فإنه قال: لقيت عبيدة بن سعيد بن العاص، وهو على فرس، وعليه لأمة كاملة لا يرى منه إلا عيناه، وهو يقول: أنا أبو ذات الكؤوس، وفي يدي عنزة- وهي مثل نصف الرمح- فأطعن بها في عينه، فوقع، وأطأ برجلي على خدّه، خرجت العنزة متعقّفة. فقوله: «فأطعن بها في عينه، وأطأ برجلي» معدول به عن لفظة الماضي الى المستقبل ليمثّل للسامع الصورة التي فعل فيها ما فعل من الإقدام والجراءة على قتل ذلك الفارس المستلئم. [سورة المائدة (5) : آية 72] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) الإعراب: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) اللام جواب قسم محذوف، وقد حرف تحقيق، وجملة القسم مستأنفة. وكفر الذين فعل وفاعل، والجملة لا محلّ لها لأنها جواب قسم محذوف، وجملة قالوا لا محل لها لأنها صلة الذين، وجملة إن الله في محل نصب مقول القول، وإن واسمها، وهو مبتدأ، والمسيح خبر هو، والجملة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 الاسمية خبر إن، وابن بدل من المسيح، ومريم مضاف إليه (وَقالَ الْمَسِيحُ: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) الواو حالية، وقال المسيح فعل وفاعل، والجملة في محل نصب على الحال من الواو في «قالوا» ، ويا بني إسرائيل منادى مضاف، وجملة اعبدوا الله في محل نصب مقول قول المسيح، وربي بدل من الله، وربكم عطف على ربي (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) الجملة مستأنفة، وإن واسمها، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، ويشرك فعل الشرط، وبالله متعلقان بيشرك، والفاء رابطة لجواب الشرط، وجملة فقد حرم في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» ، والجملة الشرطية كلها في محل رفع خبر إنّ، وحرم الله فعل وفاعل، وعليه متعلقان بحرّم، والجنة مفعول به (وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) الواو استئنافية، ومأواه خبر مقدم، والنار مبتدأ مؤخر، ويجوز العكس، والواو عاطفة، وما نافية، وللظالمين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ومن حرف جر زائد، وأنصار مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه مبتدأ مؤخر. [سورة المائدة (5) : الآيات 73 الى 75] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 اللغة: (يُؤْفَكُونَ:) يصرفون. الإعراب: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) الجملة مستأنفة، واللام جواب قسم محذوف، وجملة كفر الذين قالوا: لا محل لها لأنها جواب القسم، وجملة قالوا صلة الموصول، وإن واسمها، وثالث ثلاثة خبرها، والجملة المصدّرة بأن في محل نصب مقول القول (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) الواو حالية، وما نافية، ومن حرف جر زائد، وإله مجرور لفظا مرفوع على الابتداء محلا، والخبر محذوف، أي موجود، وإله بدل من الضمير فيه، وإلا أداة حصر. وقد مرّ هذا الإعراب مفصلا في كلمة الشهادة، والمعنى: والحال ما إله كائن أو موجود إلا إله واحد (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) الواو استئنافية، وإن شرطية، ولم ينتهوا فعل الشرط، وعما متعلقان بينتهوا، وجملة يقولون صلة الموصول (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) اللام واقعة في جواب قسم محذوف ويمسّن فعل مضارع مبني على الفتح، والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم، والذين مفعول به، وجملة كفروا صلة الموصول، ومنهم متعلقان بمحذوف حال، وعذاب أليم فاعل، وجواب الشرط محذوف سد مسده جواب القسم لأن التقدير: ولئن لم ينتهوا، والقاعدة أنه إذا اجتمع شرط وقسم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 فالجواب للسابق، وإنما لجأنا الى هذا لوجود اللام الموطئة للقسم (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الجملة مستأنفة مسوقة للتعجب من إصرارهم. والهمزة للاستفهام التعجبي الإنكاري، والفاء عاطفة على مقدر، أي: ألا ينتهون فلا يتوبون، والى الله متعلقان بيتوبون، ويستغفرونه عطف على يتوبون، والواو حالية، والله مبتدأ، وغفور رحيم خبران له، والجملة في محل نصب على الحال (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) كلام مستأنف مسوق لتحقيق الحق. وما نافية، ولم تعمل عمل ليس لانتقاض النفي بإلا، والمسيح مبتدأ وابن مريم بدل أو نعت، وإلا أداة حصر، ورسول خبر المبتدأ، وجملت قد خلت صفة، ومن قبله متعلقان بخلت، أي: مضت وفنيت، والرسل فاعل (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) الواو عاطفة، وأمه مبتدأ، وصديقة خبر، وجملة كانا مفسرة لا محل لها. وألف الاثنين اسم كان، وجملة يأكلان خبر كانا، والطعام مفعول به (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) الجملة استئنافية، وكيف اسم استفهام في محل نصب حال، والجملة الاستفهامية في محل نصب مفعول انظر، وقد علقت «كيف» «انظر» عن العمل لفظا فيما بعدها، ونبين لهم الآيات فعل وفاعل مضمر ومفعول به، وثم حرف عطف للترتيب والتراخي، والمعنى أن بيان هذه الآيات كان عجبا وإعراضهم عنها وصدوفهم عن التأمل فيها كان أعجب، وأنى اسم استفهام بمعنى كيف، في محل نصب على الحال، ويؤفكون فعل مضارع والواو نائب فاعل. البلاغة: في قوله: «كانا يأكلان الطعام» كناية عن أنهما، صلوات الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 عليهما، بشر، لأن أكل الطعام يستتبعه الهضم والنفض، فاكتفى بذكر أكل الطعام عن كل هذا تهذيبا وتصوّنا، وهذا من غريب الكنايات في اللغة العربية. وقد قدمنا عن الكناية كثيرا، ولا بد هنا من لفت النظر الى أن الكناية- حيث وردت- يتعاورها جانبا حقيقة ومجاز، وجاز حملها عليهما معا، كقوله تعالى: «أو لامستم النساء» فإنه يجوز حمل الكناية على الحقيقة والمجاز، وكلّ منهما يصح به المعنى، ولا تختل العبارة، فمن حمل على الحقيقة كالشافعي اعتبر أن اللمس هو مصافحة الجسد للجسد، فأوجب الوضوء، وتلك هي الحقيقة في اللمس، ومن حمل على المجاز كأبي حنيفة اعتبر أن اللمس هو الجماع فذلك هو المجاز. وسيرد معنى المزيد من الكناية وطرائفها في هذا الكتاب. 2- التكرير في قوله: «انظر» أولا، ثم قال: «ثم انظر» ثانيا. وفي ذلك دليل على الاهتمام بالنظر والتدبر، وإن اختلفت النظرتان، فالأولى متعلقة بكيفية إيضاح الله لخلقه الآيات، والثانية متعلقة بانصرافهم عنها، وصدوفهم عن التأمل في مراميها وأهدافها. [سورة المائدة (5) : الآيات 76 الى 77] قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 اللغة: (لا تَغْلُوا) : لا تتجاوزوا الحدّ، والغلاء هو الارتفاع. قال الحارث بن حلزة اليشكري في معلقته: أو منعتم ما تسألون فمن حدّ ... ثتموه له علينا الغلاء (الأهواء) : جمع هوى، وهو ما تدعو اليه شهوة النفس، قال أبو عبيدة: «لم نجد الهوى يوضع إلا موضع الشرّ، لأنه لا يقال: فلان يهوى، إلا أنه يقال: يحب الخير» . والهاء مع الواو إذا كانتا فاء للكلمة وعينا لها دلتا على معنى السقوط والانحدار الى جانب، يقال: هوى من الجبل، وهوت الدلو من البئر هويّا بفتح الهاء، وطاح في المهواة والهاوية، وهي ما بين الجبلين، وتهاووا فيها: تساقطوا، وهذه هوة عميقة، «وأمه هاوية» وجلست عنده هويا، أي: مليا، ومضى هوي من الليل، و «استهوته الشياطين» . ومن المجاز قولهم للجبان: إنه الهواء، أي: خالي القلب من الجرأة، وقد تشبث شوقي بهذه الطرافة اللغوية فقال: فاتقوا الله في قلوب العذارى ... فالعذارى قلوبهنّ هواء ويقال: رجل أهوج: شجاع يرمي نفسه في المهالك والمتالف، وناقة هوجاء كأن بها هوجا، لسرعتها لا تتعهد موضع المناسم من الأرض، وريح هو جاء ورياح هوج، وهاد الرجل وتهوّد وهودّ ابنه جعله يهوديا، وهوّر البناء فتهوّر أي: تهدّم، إلى آخر هذه المادة. وهذا كله من خصائص لغتنا الشريفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 الإعراب: (قُلْ: أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) كلام مستأنف مسوق لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبكيتهم وإلزامهم بالحجة. وقل فعل أمر، والهمزة حرف استفهام توبيخي تعجبيّ، وجملة أتعبدون في محل نصب مقول القول، ومن دون الله متعلقان بمحذوف حال، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به واختار بعضهم أن تكون نكرة موصوفة، وجملة لا يملك صلة على الأول لا محل لها أو في محل نصب صفة، ولعل هذا أولى. ولكم متعلقان بيملك، وضرا مفعول به ليملك، ولا نفعا عطف على «ضرا» (وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الواو حالية، والرابط بين الحال وصاحبها هو الواو، ومجيء الحال بعد هذا الكلام مناسب لمقتضى الحال، والله مبتدأ، وهو ضمير فصل لا محل له، أو ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ، والسميع العليم خبران ل «الله» أو ل «هو» ، وقد تقدمت نظائره (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ) جملة القول استئنافية، وما بعدها في محل نصب مقول القول، ولا ناهية، وتغلوا فعل مضارع مجزوم بلا، وفي دينكم متعلقان بتغلوا، وغير الحق صفة لمفعول مطلق، أي: غلوا غير الحق، ويصح كونه حالا من ضمير الفاعل، وهو الواو، أي: مجاوزين الحق، وقيل: إن النصب على الاستثناء المتصل، وقيل: على المنقطع (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً) الواو عاطفة، ولا ناهية، تتبعوا فعل مضارع مجزوم ب «لا» وأهواء مفعول به، وقوم مضاف اليه، وجملة قد ضلوا صفة لقوم، ومن قبل جار ومجرور متعلقان بضلوا، وبنيت قبل على الضم لانقطاع الظرف عن الإضافة لفظا لا معنى، وأضلوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 عطف على قد ضلوا، وكثيرا مفعول به (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) عطف على ما تقدم. [سورة المائدة (5) : الآيات 78 الى 79] لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) الإعراب: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) الكلام مستأنف، ولعن فعل ماض مبني للمجهول، والذين نائب فاعل، وجملة كفروا صلة الموصول، ومن بني إسرائيل جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وعلى لسان متعلقان بلعن، وفي إفراد اللسان بحث شيق سيأتي في باب الفوائد، وداود مضاف إليه، وعيسى عطف على داود، وابن بدل أو نعت، ومريم مضاف اليه (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) اسم الإشارة مبتدأ، وبما جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر، وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر، أي: بسبب عصيانهم، والجملة استئنافية، ويجوز في «ما» أن تكون موصولة، وعلى كل حال جملة عصوا لا محل لها من الإعراب، وجملة كانوا عطف على عصوا، منتظمة في حكمها، والواو اسم كان، وجملة يعتدون خبرها (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) الجملة لا محل لها لأنها مفسرة للمعصية والاعتداء، وكان واسمها، وجملة لا يتناهون خبرها، وعن منكر متعلقان بيتناهون، وجملة فعلوه صفة لمنكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) اللام جواب قسم محذوف، وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم، وما نكرة تامة في محل نصب تمييز، أو موصولة فهي في محل رفع فاعل، أي: الذي فعلوه، وجملة كانوا صفة لما، أو لا محل لها لأنها صلة الموصول، وجملة يفعلون في محل نصب خبر كانوا. البلاغة: انطوى توبيخ اليهود على الإخبار بأمرين غاية في القبح والسماجة، أولهما: ما كانوا يجترحونه من المناكر، والثاني صدوفهم عن التناهي عن هذه المناكر، وعدم الجنوح إليها في المستقبل، وقد دل على ذلك قوله تعالى: «فعلوه» ، فلولا ذكرها لتوهّم متوهم أن النهي عن المنكر عند استحقاق النهي عنه والإشراف على تعاطيه، فانتظم ذكرها الأمرين معا بوجه بليغ وأسلوب رفيع، هو الذروة في البلاغة. وليس المراد بالتناهي أن ينهى كل واحد منهم الآخر عما يجترحه من المنكر، كما هو المتبادر والمشهور لصيغة التفاعل، بل المراد مجرد صدور النهي عن أشخاص متعددة، من غير اعتبار أن يكون كل واحد ناهيا ومنهيّا، فكان الإخلال بالتناهي بعد الأمر به معصية. الفوائد: القاعدة تقول: إن كل جزأين مفردين من صاحبيهما إذا أضيفا الى كليهما من غير تفريق جاز فيهما ثلاثة أوجه: 1- لفظ الجمع تقول: قطعت رؤوس الكبشين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 2- لفظ التثنية تقول: قطعت رأسي الكبشين. 3- لفظ الإفراد تقول: قطعت رأس الكبشين. وقوله في الآية على لسان داود وعيسى بالإفراد دون التثنية والجمع. [سورة المائدة (5) : الآيات 80 الى 81] تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81) الإعراب: (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) كلام مستأنف مسوق لمخاطبة النبي بشأن بني إسرائيل الذين يوالون الكفار من أهل مكة. وترى فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت، وكثيرا مفعول به، ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ل «كثيرا» ، وجملة يتولون في محل نصب على الحال، لأن الرؤية هنا بصرية، والذين مفعول به، وجملة كفروا صلة الموصول (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) اللام واقعة في جواب قسم محذوف، وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم، وفاعله مضمر فسرته كلمة «ما» و «ما» نكرة تامة في محل نصب على التمييز، ويجوز أن تكون «ما» موصولة في محل رفع فاعل، وجملة الذم لا محل لها لأنها جواب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 القسم، وجملة قدمت صفة على الأول، وصلة على الثاني. ولهم متعلقان بقدمت، وأنفسهم فاعل، وأن سخط: أن وما في حيزها في تأويل مصدر مبتدأ مؤخر، خبره جملة القسم، كأنه قيل: بئس زادهم في الآخرة سخط الله عليهم. وقال بعضهم: ليس المصدر هو المخصوص بالذم، لأن نفس السخط المضاف الى البارئ عزّ وجلّ لا يقال فيه هو المخصوص بالذم، وإنما هو سبب السخط، وعلى هذا أعربوه خبرا لمبتدأ محذوف (وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) الواو عاطفة، وفي العذاب متعلقان ب «خالدون» ، وهم مبتدأ، وخالدون خبر (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ) الواو استئنافية، ولو شرطية، وكان واسمها، وجملة يؤمنون خبرها، وبالله متعلقان بيؤمنون، والنبي عطف على الله، وما أنزل اليه عطف أيضا (مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وأولياء مفعول اتخذ الثاني، ولكن واسمها وخبرها. [سورة المائدة (5) : آية 82] لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) اللغة: (قِسِّيسِينَ) : جمع قسّيس، بكسر القاف وتشديد السين، المكسورة، بمعنى القسّ بفتح القاف وتشديد السين، وهو من كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 بين الأسقف والشمّاس، وهو أيضا الكاهن، ويجمع على قسوس، والقسّيس يجمع أيضا على قسّان، بضم القاف، وأقسّة وقساوسة، قال الفرّاء: هو مثل مهالبة، كثرت السينات فأبدلوا إحداهن واوا. وقال الراغب: قسيسين جمع قسيس، على فعيّل، وهو مثال مبالغة كصدّيق، وهو هنا رئيس النصارى وعالمهم. وأصله من تقسّس الشيء إذا اتبعه وتطلّبه بالليل، يقال تقسّست أصواتهم أي: تتبّعتها بالليل. وقال غيره: القسّ بفتح القاف: تتبّع الشيء، ومنه سمي عالم النصارى قسيسا لتتبعه العلم، ويقال: قسّ الأثر وقصّه بالصاد أيضا، ويقال: قس وقس بفتح القاف وكسرها وقسيس. فأما قسّ بن ساعدة الإيادي بضم القاف فهو علم، ويجوز أن يكون ما غيّر عن طريق العلمية، ويكون أصله قس أو قس بفتح القاف وكسرها، وكان أعلم أهل زمانه. (رُهْباناً) يكون واحدا وجمعا، فأما إذا كان جمعا فإن واحدهم يكون راهبا، ويكون الراهب حينئذ فاعلا من قول القائل: رهب الله فلان بمعنى خافه يرهبه رهبا بفتحتين ورهبا بفتح الراء وسكون الهاء، ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب جمعا قول كثير عزّة: رهبان مدين والذين عهدتهم ... يبكون من حذر العذاب قعودا لو يسمعون كما سمعت كلامها ... خرّوا لعزّة ركّعا وسجودا وقد يكون الرهبان واحدا، وإذا كان واحدا كان جمعه رهابين، مثل قربان وقرابين، ويجوز جمعه أيضا على رهابنة إذا كان كذلك. ومن الدليل على انه قد يكون عند العرب جمعا قول الراجز: لو عاينت رهبان دير في القلل ... لانحدر الرهبان يمشي ونزل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 الإعراب: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) كلام مستأنف مسوق لتصنيف أهل الكتاب بالنسبة الى مودة المؤمنين، وتكرير قبائح اليهود، ولين عريكة النصارى، وسهولة انصياعهم للحق. واللام جواب لقسم محذوف، وتجدن فعل مضارع مبني على الفتح والجملة لا محل لها لأنها جواب للقسم، وأشد الناس مفعول أول لتجد، وعداوة تمييز، وللذين متعلقان بأشد، واليهود مفعول به ثان ويجوز العكس، والذين عطف على اليهود وجملة أشركوا صلة. (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا: إِنَّا نَصارى) الواو عاطفة، والجملة معطوفة على ما تقدم، وقد تقدم إعرابها، وجملة إنا نصارى في محل نصب مقول القول (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) الجملة مستأنفة مبينة، واسم الاشارة مبتدأ، والباء حرف جر، وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مجرور بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر ذلك، ومنهم متعلقان بمحذوف خبر أن المقدم، وقسيسين اسم أن، ورهبانا عطف على قسيسين (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عطف على «بأن منهم» ، وجملة لا يستكبرون خبر أن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 [المجلد الثالث] [تتمة سورة المائدة] [سورة المائدة (5) : الآيات 83 الى 84] وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) الإعراب: (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) الواو استئنافية، ويجوز أن تكون عاطفة، فتكون الجملة معطوفة على قوله: «لا يستكبرون» ، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط، وجملة سمعوا في محل جر بإضافة الظرف إليها، والواو فاعل، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة أنزل لا محل لها لأنها صلة الموصول، والى الرسول متعلقان بأنزل (تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) الجملة لا محلّ لها لأنها جواب شرط غير جازم، وترى فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت، وأعينهم مفعول ترى البصرية، وجملة تفيض حالية، ومن الدمع جار ومجرور في محل نصب على التمييز، وسيأتي المزيد من بيان هذا الإعراب في باب البلاغة (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) الجار والمجرور متعلقان بتفيض، وجملة عرفوا صلة الموصول، ومن الحق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (يَقُولُونَ: رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) جملة يقولون في محل نصب حال من الضمير في «عرفوا» وهو الواو، أو من الضمير المجرور في «أعينهم» ، وجاز مجيء الحال من المضاف اليه لأن المضاف جزؤه، ويجوز أن تكون مستأنفة مسوقة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 لجواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فما حالهم عند سماع القرآن؟ وربنا منادى مضاف، وآمنا فعل وفاعل، والجملة في محل نصب مقول القول، فاكتبنا الفاء استئنافية واكتبنا فعل أمر ومفعول به، والفاعل مستتر، ومع الشاهدين ظرف متعلق باكتبنا (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ) الواو استئنافية، وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ، ولنا متعلقان بمحذوف خبر، وجملة لا نؤمن بالله في محل نصب على الحال، وبالله متعلقان بنؤمن، وما عطف على الله، وجملة جاءنا لا محل لها لأنها صلة، ومن الحق متعلقان بمحذوف حال (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) الواو عاطفة ونطمع فعل مضارع، وفاعله نحن، وأن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، والجار والمجرور متعلقان بنطمع، وربنا فاعل، ومع القوم الصالحين الظرف متعلق بيدخلنا، والجملة كلها معطوفة على جملة نؤمن، ويجوز أن تكون الواو حالية والجملة نصب على الحال. البلاغة: 1- المجاز في فيض الأعين، والعلاقة هي الامتلاء. 2- المبالغة في التمييز، وهي من أبلغ التراكيب، لأن الترقية فيه تترقى ثلاث مراتب، فالأولى فاض دمع عينه، والثانية في تحويل الفاعل تمييزا، والثالثة في إبراز التمييز في صورة التعليل، فأفاد الى جانب التمييز التعليل، وإنما كان الكلام مع التعليل أبعد عن الأصل منه مع التمييز، لأن التمييز في مثله قد استقرّ كونه فاعلا في الأصل، في مثل: طاب محمد نفسا، واشتعل الرأس شيبا، فإذا قلت: فاضت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 عينه دمعا، فهم هذا الأصل مع العادة في أمثاله، وأما التعليل فلم يعهد فيه ذلك. [سورة المائدة (5) : الآيات 85 الى 86] فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86) الإعراب: (فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) الفاء عاطفة، وأثابهم فعل ومفعول به مقدم، والله فاعل، والجملة معطوفة على جملة قالوا آمنا، وبما متعلقان بأثابهم، وجملة قالوا صلة، ونسق الثواب على قولهم: «آمنا» ، لأن القول إذا اقترن بالعمل المخلص فهو الايمان. وجنات مفعول به ثان لأثابهم، لأنها تضمنت معنى الإعطاء، وجملة تجري صفة لجنات، ومن تحتها متعلقان بتجري، والأنهار فاعل تجري (خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) خالدين حال من الضمير في: «أثابهم» ، وفيها متعلقان بخالدين، والواو حالية أو استئنافية، وذلك مبتدأ، وجزاء المحسنين خبره، والجملة نصب على الحال أو مستأنفة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) الواو استئنافية، والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة، وكذبوا عطف على كفروا، ونسق التكذيب على الكفر لأن الكذب ضرب منه، وبآياتنا متعلقان بكذبوا (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) اسم الاشارة مبتدأ، وأصحاب الجحيم خبر اسم الإشارة، والجملة خبر الذين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 [سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 88] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) كلام مستأنف مسوق لخطاب بعض المؤمنين الذين اتفقوا على التقشّف والترهب، ولبس الصوف والصدوف عن اللذائذ المباحة، ونهيهم عن ذلك. ولا ناهية، وتحرموا فعل مضارع مجزوم بلا، والواو فاعل، وطيبات مفعول به، وما اسم موصول في محل جر بالاضافة، وجملة أحل صلة، والله فاعل، ولكم متعلقان بأحل (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) الواو حرف عطف، ولا ناهية، وتعتدوا فعل مضارع مجزوم بلا، والجملة عطف على جملة لا تحرموا، ومعنى الاعتداء هنا تجاوز الحلال الى الحرام، وإن واسمها، وجملة لا يحب المعتدين خبرها، وجملة إن الله إلخ تعليلية لا محل لها (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً) الواو عاطفة، وكلوا فعل أمر مبني على حذف النون، ومما متعلقان بكلوا، وجملة رزقكم الله صلة الموصول، وحلالا مفعول به، أو حال من الموصول، أو من عائده المحذوف، أو مفعول مطلق، فهو صفة لمصدر محذوف، أي: أكلا حلالا، والأول أسهل (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) الواو عاطفة، واتقوا فعل أمر، معطوف على كلوا، والله مفعوله، والذي صفة لله، وأنتم مبتدأ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 وبه متعلقان ب «مؤمنون» ، والجملة الاسمية لا محل لها لأنها صلة الموصول. [سورة المائدة (5) : آية 89] لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) اللغة: (اللغو) من اليمين: الساقط الذي لا يتعلق به حكم، وحوله خلاف فقهي فعند الشافعي ما يبدو من المرء من غير قصد، كقوله: لا والله وبلى والله، وعند أبي حنيفة أن يحلف على الشيء يرى أنه كذلك، وليس كما ظن. (عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) قرئ بالتشديد والتخفيف، كما قرئ أيضا: «عاقدتم» . وتعقيد الأيمان توثيقها بالقصد والنية. وقد نظم الفرزدق هذا المعنى، فقد روي أن الحسن سئل عن لغو اليمين، وكان عنده الفرزدق، فقال: دعني أجب عنك يا أبا سعيد، وأنشد: ولست بمأخوذ بلغو تقوله ... إذا لم تعمّد عاقدات العزائم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 أي: لست مؤاخذا باللغو الساقط من الكلام. وتعمد أصله: تتعمد، حذفت منه إحدى التاءين، وعاقدات العزائم: أي العزائم الجازمات، ونسبة الجزاء إليها مجاز عقلي. (فَكَفَّارَتُهُ) الكفّارة: الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة، أي تسترها. الإعراب: (لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) كلام مستأنف لتقرير حكم اللغو في الأيمان، ولا نافية، ويؤاخذكم الله فعل مضارع ومفعول به وفاعل، وباللغو متعلقان بيؤاخذكم، وفي أيمانكم متعلقان بمحذوف حال (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) الواو عاطفة، ولكن مهملة، وبما الباء حرف جر، وما مصدرية مؤولة مع عقدتم بمصدر مجرور بالباء، والجار والمجرور متعلقان بيؤاخذكم، والأيمان مفعول به (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) الفاء الفصيحة، أي: إذا خنثتم فيما عقدتم الأيمان، فهي جواب شرط مقدر. وكفارته مبتدأ، والضمير يعود على الحنث المفهوم من الشرط المقدر كما تقدم، وارتأى الزمخشري أن يعود على ما الموصولية، ولا بد من تقدير مضاف، أي: كفارة حنثه. وهناك أقوال أخرى ضربنا عنها صفحا لبعدها. وإطعام خبر، وعشرة مساكين مضاف اليه، ومن أوسط متعلقان بمحذوف صفة لعشرة مساكين، وما اسم موصول مضاف إليه، وجملة تطعمون صلة، والعائد محذوف، أي: تطعمونه، أي: لا هو بالعالي، ولا الدون وأهليكم مفعول تطعمون. (أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) عطف على طعام، وكذلك تحرير رقبة (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) الفاء استئنافية، ومن اسم شرط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 جازم مبتدأ، ولم حرف نفي وقلب وجزم، ويجد فعل مضارع مجزوم بلم، وهو فعل الشرط، والفاء رابطة لجوابه، وصيام مبتدأ خبره محذوف، أي: فعليه صيام، أو كفارته، وثلاثة أيام مضاف إليه (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) الجملة تفسيرية، واسم الاشارة مبتدأ، وكفارة خبر، وأيمانكم مضاف إليه، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب المحذوف والذي دل عليه ما قبله، وجملة حلفتم في محل جر بالإضافة (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الواو عاطفة، واحفظوا فعل أمر وفاعل، وأيمانكم مفعول به، وكذلك جار ومجرور متعلقان بمحذوف مفعول مطلق أو حال، ويبين الله فعل مضارع وفاعل، ولكم متعلقان بيبين، وآياته مفعول به، ولعلكم لعل واسمها، وجملة تشكرون خبرها وجملة الرجاء حالية. [سورة المائدة (5) : الآيات 90 الى 91] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) كلام مستأنف لبيان أن الخمر والميسر لا ينتظمان في الطيبات التي أحلّها الله. وإنما كافة ومكفوفة، والخمر مبتدأ، والميسر والأنصاب والأزلام عطف عليها، ورجس خبر، ومن عمل الشيطان متعلقان بمحذوف صفة لرجس، أو هو خبر ثان للخمر (فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الفاء الفصيحة، واجتنبوه فعل أمر وفاعل ومفعول به، ولعل واسمها، وجملة تفلحون خبرها، وجملة الرجاء حالية (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) كلام مستأنف لزيادة التوضيح للأسباب المؤدية الى تحريمهما. وإنما كافة ومكفوفة، ويريد الشيطان فعل مضارع وفاعل، وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول ليريد، وبينكم ظرف متعلق بيوقع أو بمحذوف حال، والعداوة مفعول به، والبغضاء عطف على العداوة، وفي الخمر متعلقان بمحذوف حال، والميسر معطوف على الخمر. (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) الواو حرف عطف، ويصدكم عطف على يوقع، وعن ذكر الله متعلقان بيصدكم، وعن الصلاة متعلقان أيضا بيصدكم، والفاء استئنافية، وهل حرف استفهام معناه الأمر، وأنتم مبتدأ، ومنتهون خبر. [سورة المائدة (5) : الآيات 92 الى 93] وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 الإعراب: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) الواو عاطفة، والكلام معطوف على الاستفهام في الآية المتقدمة، لأن الاستفهام بمعنى الأمر كما تقدم. والمعنى انتهوا وأطيعوا. ولك أن تجعلها استئنافية، وأطيعوا الله فعل وفاعل ومفعول به، وأطيعوا الرسول عطف على أطيعوا الله، واحذروا عطف أيضا (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الفاء استئنافية، وإن شرطية، وتوليتم فعل ماض وفاعل، وهو في محل جزم فعل الشرط، والفاء رابطة لجواب الشرط، والجواب محذوف تقديره: فجزاؤكم علينا، وجملة فاعلموا عطف على الجواب، وأنما كافة ومكفوفة، وهي مع مدخولها سدت مسد مفعولي اعلموا، وعلى رسولنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والبلاغ مبتدأ مؤخر، والمبين صفة (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) الجملة مستأنفة مسوقة للرد على تساؤل بعض الصحابة الذين قالوا: يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم بشربون الخمر ويأكلون الميسر؟ فنزلت: ليس ... وليس فعل ماض ناقص، وعلى الذين متعلقان بمحذوف خبر ليس المقدم، وجملة آمنوا لا محل لها لأنها صلة الموصول، وجملة وعملوا الصالحات عطف على الصلة، وجناح اسم ليس المؤخر، وفيما متعلقان بمحذوف صفة لجناح، وجملة طعموا لا محل لها لأنها صلة الموصول (إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) إذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط، وما زائدة، وجملة اتقوا في محل جر بإضافة الظرف إليها، والعامل في إذا معنى النفي في ليس، أي: انتفى الإثم عنهم، وجواب إذا محذوف دل عليه ما قبله، أي: فليس عليهم جناح، وآمنوا عطف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 على اتقوا، وعملوا الصالحات عطف على ما تقدم أيضا (ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا) عطف أيضا، وسيأتي سر التكرير البديع في باب البلاغة (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الواو استئنافية، والله مبتدأ، وجملة يحب خبر، والمحسنين مفعول به. البلاغة: تقدم البحث في التكرار أو التكرير، وهما مصدران لكرّر المضعفة، وقلنا: إن حده أن يكرر الكاتب أو الشاعر الكلمة أو الكلمتين فصاعدا، لتأكيد ما يتحدث عنه، ليزداد رسوخا في الذهن، أو لغرض آخر. وفي هذه الآية يحتمل أن يكون التكرار إشارة إلى العلاقات التي يرتبط بها الإنسان في حياته، وهي: علاقة الإنسان بنفسه، وعلاقة الإنسان بغيره، وعلاقة الإنسان بربه، ولذلك عقّب عليها بالإحسان في الكرة الثالثة، ويحتمل أن يكون إشارة إلى مراحل العمر الثلاث التي يجتازها الإنسان في رحلته الحياتية، وهي: مرحلة البدء بالحياة، ومرحلة الوسط في العمر، ومرحلة المنتهى. ولعل الاحتمالين مرادان في هذا التكرار البديع، زيادة في التقوى والتجمّل وإقامة الموازين القسط في جميع مراحل حياته وحالاته الثلاث، وسيأتي من التكرير في هذا الكتاب ما يسحر الألباب، واستمع الى قول البحتري متغزّلا: ويوم تثنّت للوداع وسلّمت ... بعينين موصول بلحظهما السحر توهمتها ألوى بأجفانها الكرى ... كرى النوم أو مالت بأعطافها الخمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 فالكرى هو النوم، ولكن في تكريره هنا معنى يدرك بالبداهة، أشبه بأخذة السحر. واستمع الى قول المساور بن هند: جزى الله عنّي غالبا من عشيرة ... إذا حدثان الدهر نابت نوائبه فكم دافعوا من كربة قد تلاحمت ... عليّ وموج قد علتني غواربه فصدر البيت الثاني وعجزه يدلّان على معنى واحد، لأن تلاحم الكرب عليه كتعالي الموج من فوقه، وإنما سوّغ ذلك أنه مقام مدح وإطراء، ألا ترى أنه يصف إحسان هؤلاء القوم عند حدثان دهره، في التكرير! وفي قبالته لو كان القائل هاجيا فإن الهجاء في هذا كالمدح. ونحب هنا أن نستدرك فنقول ليس كل تكرير حسنا، فبعضه يكون غثا كقول أبي الطيب المتنبي من قصيدته البديعة التي يقول في مطلعها: أفاضل الناس أغراض لذا الزمن ... يخلو من الهمّ أخلاهم من الفطن وهذا من أجمل الشعر وأروعه، على أنه ما لبث أن قال: العارض الهتن ابن العارض ال ... هتن العارض الهتن ابن العارض الهتن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 فهذا ليس من التكرير المستحسن، لأنه كقولك: الموصوف بكذا ابن الموصوف بكذا وكذا، أي إنه عريق النسب بهذا الوصف، فلم يأت بجديد، ثم اللفظ ليس بمرضي على هذا الوجه الذي قد استعمل فيه، فإن استعمالها في حالة التركيب يذهب بحسنها. ومن طريف التكرير قول المقنع الكندي: وإنّ الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمي لمختلف جدا إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم ... وإن هم هووا غيّي هويت لهم رشدا وحسبنا ما تقدم الآن. [سورة المائدة (5) : آية 94] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) اللغة: (لَيَبْلُوَنَّكُمُ) : ليختبرن طاعتكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) كلام مستأنف مسوق لاختبارهم بالنسبة لما يفهم العباد، أما حقيقة الاختبار فمحال في حقه تعالى، وليبلونكم اللام جواب لقسم محذوف، أي: والله ليبلونكم، فيبلون فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والله فاعله، وبشيء متعلقان بيبلونكم، ومن الصيد متعلقان بمحذوف صفة لشيء وجملة يبلونكم لا محل لها لأنها جواب القسم المحذوف (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) الجملة صفة لشيء، وأيديكم فاعل تناله، ورماحكم عطف على أيديكم، واللام للتعليل، ويعلم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام، والله فاعل يعلم، ومن اسم موصول مفعول يعلم، وجملة يخافه لا محل لها لأنها صلة الموصول، وبالغيب جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل يخاف، أي: يخاف الله حالة كونه غائبا عن الله، أو من المفعول به، أي يخاف الله حال كونه متلبسا بالغيب (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) الفاء استئنافية، ومن اسم شرط جازم، واعتدى فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، وبعد ذلك الظرف متعلق باعتدى، واسم الاشارة مضاف اليه، فله الفاء رابطة للجواب، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وعذاب مبتدأ مؤخر، وأليم صفة، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر «من» . البلاغة: في قوله: «بشيء من الصيد» تقليل واحتقار لهذا الابتلاء، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 كأنه يقول: إن هذا الابتلاء ليس من قبيل الفتن العظام، والمحن العظام، التي لا تثبت أمامها القوى ولا الأجسام، هذا ما ذكره المفسرون الكبار، وخاصة الزمخشري الذي نقل معظمهم عبارته بنصها تقريبا، وهي وثبة ذهنية قوية، ولكنها تضؤل وتشيل في الميزان عند ما نذكر أنه سبحانه استعملها في الفتن العظيمة والمحن الجسيمة، فقال في موضع آخر: «ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين» . وهذا اعتراض يطيح بما قاله الزمخشري وتناقله عنه الكثيرون من المفسرين كالخازن والنسفي والبيضاوي وغيرهم. وخير ما يقال في الاجابة عن هذا الاعتراض هو أن جميع المحن والأرزاء والبلاء والفتن ليست بالنسبة الى مقدور الله تعالى سوى جزء يسير خليق به أن يحقّر ويصغر، وأنه سبحانه جنح الى خطاب المؤمنين بهذه الصيغة تخفيفا لهم، وباعثا لهم على الصبر، وحافزا لهم على الاحتمال تلطفا بهم، وترفقا بما يكابدونه منه فسبحان المتفرد بهذه البلاغة. [سورة المائدة (5) : آية 95] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 اللغة: (حُرُمٌ) : جمع حرام. والحرام يستوي فيه المذكر والمؤنث. تقول: هذا رجل حرام، وهذه امرأة حرام، فإذا قيل: محرم قيل للمرأة: محرمة، والإحرام هو الدخول فيه، يقال: أحرم القوم إذا دخلوا في الشهر الحرام أو في الحرم. فتأويل الكلام لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون بحج أو عمرة. (عَدْلٍ) : مثل. (وَبالَ) الوبال: بفتح الواو: المكروه والضرر الذي يناله في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه، قال الراغب: الوابل: المطر الثقيل القطر، ولمراعاة الثقل قيل للأمر الذي يخاف ضرره: وبال، قال تعالى: «فذاقوا وبال أمرهم» . ويقال: طعام وبيل، وكلأ وبيل يخاف وباله، قال تعالى: «فأخذناه أخذا وبيلا» . واستوبلت الأرض: كرهتها خوفا من وبالها. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان ما تنطوي عليه كلمة الاعتداء في الآية السابقة. ولا ناهية، وتقتلوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، والواو فاعل، والصيد مفعول به، وأنتم الواو حالية، وأنتم مبتدأ، وحرم خبره، والجملة حال من فاعل تقتلوا (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) الواو استئنافية، ومن اسم شرط جازم في محل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 رفع مبتدأ خبره جملة الشرط والجواب، وقتله فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به، وهو في محل جزم فعل الشرط، ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل قتل، ومتعمدا حال من فاعل قتل أيضا، أي: ذاكرا لإحرامه أو عالما أن ما يقتله مما يحرم عليه قتله، والتفاصيل في كتب الفقه. فجزاء: الفاء رابطة لجواب الشرط، وجزاء مبتدأ خبره محذوف، أي: فعليه جزاء، ويجوز العكس، أي: فالواجب عليه جزاء، والجملة في محل جزم جواب الشرط، ومثل صفة لجزاء، وما اسم موصول في محل جر بالاضافة لمثل، وجملة قتل صلة، ومن النعم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من مثل (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) جملة يحكم صفة ثانية لجزاء، وبه متعلقان بيحكم، وذوا فاعل مرفوع وعلامة رفعه الألف لأنه مثنى، وعدل مضاف اليه، ومنكم متعلقان بمحذوف صفة ل «ذوا» ، وهديا حال من جزاء، أو منصوب على المصدرية، أي يهديه هديا، أو منصوب على التمييز، والأوجه الثلاثة متساوية الرّجحان، وبالغ الكعبة صفة ل «هديا» ، لأن الاضافة غير محضة، وهي لا تقيد تعريفا كما سيأتي في باب الفوائد (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) أو عاطفة، وكفارة عطف على جزاء، وطعام مساكين بدل من كفارة، وأو حرف عطف، وعدل عطف على كفارة، وذلك مضاف اليه، وصياما تمييز للعدل، كقولك: لي مثله رجلا (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) اللام للتعليل، ويذوق فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالاستقرار المستكن في الخبر، أي: عليه الجزاء ليذوق، ويجوز أن يتعلقا بطعام أو صيام ويجوز أن يتعلقا ب «جزاء» ، أي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 فعليه أن يجازى ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام، وجملة عفا الله استئنافية أي: لم يؤاخذ بما سلف لكم من الصيد في حال الإحرام قبل أن يحرم، وعما جار ومجرور متعلقان بعفا وجملة سلف صلة الموصول، (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) الواو استئنافية، ومن أسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، وعاد فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، والفاء رابطه، وينتقم الله فعل مضارع وفاعل، والجملة في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، أي: فهو ينتقم الله منه، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» ، ومنه متعلقان بينتقم، والواو استئنافية، والله مبتدأ، وعزيز خبر أول وذو انتقام خبر ثان. البلاغة: الذوق في الآية استعارة مكنية تبعية، شبّه سوء العاقبة الناجمة عن هتك حرمة الإحرام بطعام مستوبل مستوخم يذوقه، فحذف المشبه وأبقى شيئا من خصائصه وهو الذوق، وقد تقدمت نظائرها. الفوائد: الإضافة على ثلاثة أنواع: 1- نوع يفيد تعريف المضاف بالمضاف إليه إن كان معرفة، أو تخصيصه به إن كان نكرة، مثل كتاب علي، وكتاب تلميذ. 2- نوع يفيد تخصيص المضاف دون تعريفه. وضابطه أن يكون المضاف متوغّلا في الإبهام، كغير ومثل وشبه، وتسمى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 الإضافة في هذين النوعين محضة أو حقيقية، ومعنى قولهم: محضة أنها خالصة من تقدير الانفصال. 3- نوع لا يفيد شيئا من التعريف أو التخصيص، وهو أن يكون المضاف صفة تشبه الفعل المضارع في الدلالة على الحال أو الاستقبال، كاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهه، وتوصف بها النكرة كالآية التي نحن بصددها فإنّ هديا نكرة منصوبة على الحال، وبالغ الكعبة صفتها، فمعنى «بالغ الكعبة» أن يذبح بالحرم ولا توصف النكرة بالمعرفة. ومن خصائصها أيضا أن تأتي حالا نحو: «ثاني عطفه» ، فثاني حال كما سيأتي، والحال واجبة التنكير، ومنه قول أبي كبير الهذلي: فأتت به حوش الفؤاد مبطّنا ... سهدا إذا ما نام ليل الهوجل فحوش صفة مشبهة معناها حديد الفؤاد، وقد نصبت على الحال لأنها لم تكتسب معرفة ولا تخصيصا. ومن خصائصها أيضا دخول «ربّ» عليها، كقول جرير: يا ربّ غابطنا لو كان يطلبكم ... لاقى مباعدة منكم وحرمانا فأدخل «ربّ» على «غابطنا» ، ولو كان معرفة لما صح ذلك، ولذلك سميت هذه الاضافة لفظية، لأنها أفادت أمرا لفظيا وهو حذف التنوين ونون التثنية والجمع، وهي أمور مردها الى اللفظ وحده. وهناك أبحاث أخرى تتعلق بالإضافة يرجع إليها في مظانها من الكتب النحوية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 [سورة المائدة (5) : آية 96] أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) اللغة: (وَلِلسَّيَّارَةِ) أي المسافرين. جمع سيار، وأنّث على معنى الرفقة والجماعة. الإعراب: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) أحل فعل ماض مبني للمجهول، ولكم متعلقان بأحلّ، وصيد البحر نائب فاعل، وطعامه عطف على «صيد» ، ومتاعا مفعول لأجله، أي: لأجل تمتعكم، ويصح أن يكون مفعولا مطلقا، أي: متعكم تمتيعا. ولكم متعلقان ب «متاعا» ، وللسيارة عطف على «لكم» ، والجملة مستأنفة، (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) الواو عاطفة، وحرم فعل ماض مبني للمجهول، وعليكم متعلقان بحرّم، والجملة عطف على الجملة السابقة، وصيد البر نائب فاعل، ما دمتم فعل ماض ناقص و «ما» وما بعدها في محل نصب على الظرفية، والظرف متعلق بحرم، والتاء اسم ما دام، وحرما خبرها (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) الواو عاطفة، واتقوا الله فعل أمر ومفعول به، والذي نعت، واليه متعلقان بتحشرون، وتحشرون فعل مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعل، وجملة تحشرون صلة الموصول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 [سورة المائدة (5) : الآيات 97 الى 98] جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) الإعراب: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) كلام مستأنف مسوق لتوضيح الكعبة التي هي البيت الحرام. و «جعل» : لك أن تعتبرها بمعنى «صيّر» ، وأن تعتبرها بمعنى «خلق» . وجعل الله فعل وفاعل، والكعبة مفعول به، والبيت الحرام بدل من الكعبة، والفائدة من البدلية المديح، وقياما على الأول مفعول به ثان، وعلى الثاني حال من الكعبة، وهو من ذوات الواو، وقيل: قياما لكسرة القاف، وإنما هي في الأصل قواما وصواما. وللناس متعلقان ب «قياما» أي: يقومون بقصدها بأمر معايشهم ومنافعهم. والشهر عطف على الكعبة، والحرام صفة، والهدي والقلائد عطف على الكعبة أيضا. (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الجملة مستأنفة، واسم الاشارة مبتدأ. والاشارة الى مجموع ما تقدم ذكره، ولتعلموا اللام لام التعليل، وتعلموا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر ذلك أي: ذلك الحكم هو الحق لا غيره، وقيل: ذلك في موضع خبر لمبتدأ محذوف، أي: الحكم الذي قررناه ذلك. ويجوز أن يكون اسم الاشارة منصوبا بفعل مقدّر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 ولتعلموا متعلقان به، أي: شرعنا ذلك. والأوجه كلها متساوية الرجحان. وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي تعلموا، وأن واسمها، وجملة يعلم خبرها، وما اسم موصول مفعول به، وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة الموصول، وما في الأرض عطف على «ما في السموات» (وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) عطف على «أن» الأولى، وأن واسمها، وبكل شيء متعلقان ب «عليم» ، وعليم خبر أن (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) عطف على ما تقدم، وغفور رحيم خبران لأن. [سورة المائدة (5) : الآيات 99 الى 100] ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) اللغة: (الْخَبِيثُ) ضد الطيب، والجمع خبث بضمتين، وخبثاء وأخباث وخبثة بفتحتين. وخبثت نفسه: ثقلت وغثّت. وللخاء والباء فاء وعينا للفعل خاصة عجيبة، وهي أنهما تدلان على التأثير والسرعة في الإخفاء، يقال: خبّ أي خدع وأفسد، ولا يخفى ما فيه من معنى التأثير في المخدوع وإفساده، والخبب ضرب من العدو والسير، وخبأ الشيء ستره وأخفاه، وخبر الشيء يخبر وخبرا، بضم الخاء، وخبرا بكسرها: علمه عن تجربة، وخبز الخبز عمله، وخبس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 فلانا حقه أي ظلمه وغشمه، وخبش الأشياء تناولها من هاهنا وهاهنا، وخبص الشيء بالشيء خلطه، وخبّص بالتشديد عمل الخبيصة أو الخبيص، أي: الحلواء المخبوصة، وخبطه خبطا أي: ضربه ضربا شديدا، وخبله وخبّله بالتشديد: أفسده، وخبن الثوب عطفه وخاطه، وخبن الشاعر أتى بالخبن في شعره، وهو حذف الثاني الساكن. وهذا من غريب أمر لغتنا الشريفة وخصائصها التي تنفرد بها. الإعراب: (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) الكلام مستأنف مسوق للتشديد على إيجاب القيام بما أمر به، أي: لقد قامت عليكم الحجة، ولزمتكم الطاعة، فلا عذر لكم إذا تجاوزتم الحدود. وقد جرى هذا الكلام مجرى المثل، وسيأتي الحديث عنه مفصلا في باب البلاغة. وما نافية، وعلى الرسول جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وإلا أداة حصر، والبلاغ مبتدأ مؤخر (وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) الواو استئنافية، والله مبتدأ، وجملة يعلم خبر، وما اسم موصول مفعول تعلمون، وجملة تبدون صلة الموصول، وما تكتمون عطف على قوله ما تبدون (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) الجملة مستأنفة، وقل فعل أمر، وجملة لا يستوي الخبيث والطيب في محل نصب مقول القول، وهذه الجملة مما سارت مسير الأمثال أيضا (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) الواو حالية، ولو شرطية، وأعجبك فعل ماض ومفعول به، وكثرة الخبيث فاعل أعجبك، والجملة في محل نصب على الحال من فاعل لا يستوي، أي: لا يستويان حالة كونهما على كل حال، وجواب لو محذوف دل عليه ما قبله، أي: فلا يستويان (فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الفاء الفصيحة، أي: إذا تبين لكم هذا فاتقوا الله، واتقوا الله فعل وفاعل ومفعول به، ويا حرف نداء، وأولي الألباب منادى مضاف، ولعلكم: لعل واسمها، وجملة تفلحون خبرها. البلاغة: في الآية إرسال المثل، وهو عبارة عن أن يأتي المتكلم في بعض كلامه بما يجري مجرى المثل السائر من حكمة أو نعت أو غير ذلك، ومنه قول أبي الطيب المتنبي: لأن حلمك حلم لا تكلفه ... ليس التكحل في العينين كالكحل وقد اشتهر أبو الطيب بهذه الميزة حتى صارت مضرب المثل، قال: خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل وسيأتي من أمثاله ما يذهل العقول، وحسبنا الآن أن نورد مختارات من قصيدة ابن زيدون: ما على ظني بأس ... يجرح الدهر وياسو ولقد ينجيك إغفا ... ل ويرديك احتراس ولكم أجدى قعود ... ولكم أكدى التماس وكذا الحكم إذا ما ... عزّ ناس ذلّ ناس لا يكن عهدك وردا ... إن عهدي لك آس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 فأدر ذكري كأسا ... ما امتطت كفّك كاس واغتنم صفو الليالي ... إنما العيش اختلاس 2- الطباق بين «تبدون» و «تكتمون» . [سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 102] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) كلام مستأنف مسوق للنهي عن كثرة السؤال عن أمور لا تعنيهم، لأن التكليف بها مما يشق على النفوس. وفي ذلك من السموّ ما هو حريّ بالاتعاظ والتأدّب. ولا ناهية، وتسألوا فعل مضارع مجزوم بلا، والواو فاعل، وعن أشياء جار ومجرور متعلقان بتسألوا، وأشياء ممنوعة من الصرف، وسيأتي الحديث عنها مسهبا في باب الفوائد، وإن شرطية، وتبد فعل الشرط، وهو مبني للمجهول، ونائب الفاعل بعود على أشياء، ولكم متعلقان ب «تبد» ، وتسؤكم جواب الشرط، والكاف مفعول به، وجملة الشرط صفة ل «أشياء» (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) الواو عاطفة، وإن شرطية، وتسألوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 فعل الشرط، وحين ظرف زمان متعلق بتسألوا، وجملة ينزل القرآن في محل جر بالإضافة، وتبد جواب الشرط، ولكم متعلقان ب «تبد» . (عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) جملة عفا الله عنها مستأنفة، مسوقة لبيان أن النهي عنها إنما جرى لاستقصائها وتعذر القيام بها على الوجه الأكمل، وقد عفا الله عنها. ويجوز أن تكون الجملة صفة ثانية ل «أشياء» ، والواو استئنافية، والله مبتدأ، وغفور خبر أول، وحليم خبر ثان. (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) . الجملة إما مستأنفة وهو الأولى، ولك أن تجعلها نعتا ثانيا ل «أشياء» ، وسألها فعل ماض ومفعول به مقدم، والضمير يعود على «أشياء» ، ولا بد من تقدير مضاف، أي: سأل مثلها، باعتبارها مماثلة لها في المغبّة وجرّ الوبال. وقد أطالوا الكلام في عودة الضمير من غير فائدة. وقوم فاعل، ومن قبلكم متعلقان بمحذوف صفة قوم، وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي، وأصبحوا فعل ماض ناقص، والواو اسمها، وبها جار ومجرور متعلقان ب «كافرين» وكافرين خبر أصبحوا. الفوائد: 1- روي أن سراقة بن مالك أو عكاشة بن محصن قال: يا رسول الله، الحج علينا كل عام؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أعاد مسألته ثلاث مرات. فقال صلى الله عليه وسلم: «ويحك ما يؤمنك أن أقول نعم! والله لو قلت نعم لوجبت، ولو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 وجبت ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» . 2- أشياء: ممنوعة من الصرف، وقد خاض علماء اللغة والنحو في سبب منعها، ويتلخص مما أوردوه في المذاهب الآتية: 1- مذهب سيبويه والخليل وجمهور البصريين: أنها منعت من الصرف لألف التأنيث الممدودة، وهي اسم جمع ل «شيء» والأصل «شيئاء» بوزن فعلاء، فقدمت اللام على الألف كراهية اجتماع همزتين بينهما ألف. 2- مذهب الفرّاء: وهو أن أشياء جمع ل «شيء» وإن أصلها «أشيئاء» ، فلما اجتمع همزتان بينهما ألف حذفوا الهمزة الأولى تخفيفا. 3- مذهب الكسائي: فقد ذهب الى أن وزن أشياء: أفعال، وإنما منعوا صرفه تشبيها له بما في آخره ألف التأنيث. وهناك مذاهب أخرى أضربنا عنها لأنها لا تخرج عن هذه الفحوى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 [سورة المائدة (5) : آية 103] ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) اللغة: (بَحِيرَةٍ) : بفتح الباء وكسر الحاء، فعيلة بمعنى مفعولة، ولحقتها التاء على غير قياس، لأنها جردت من الوصفية وأصبحت بمعنى الجوامد. وقد اختلف أهل اللغة فيها اختلافا كثيرا، وأقوى الأقوال فيها أن أهل الجاهلية كانوا إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن، آخرها ذكر، شقّوا أذنها وحرموا ركوبها، ولا تطرد عن ماء ولا مرعى، وإذا لقيها المعيي لم يركبها، وهي تختلف باختلاف عادات العرب. (سائِبَةٍ) : كان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم: إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة. وقيل: كان الرجل إذا أعتق عبدا قال: هو سائبة. فهي اسم فاعل من ساب يسيب أي: سرح، كسيّب الماء فهو مطاوع سيّبته، يقال: سيّبه فساب وانساب. (وَصِيلَةٍ) وقد اختلفوا في معناها اختلافا شديدا لا يتسع له المقام، وأقرب ما قيل فيها أن الجاهلية كانوا إذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم، فهي فعيلة بمعنى فاعلة، فتاؤها على القياس. (حامٍ) : اسم فاعل من حمى يحمي إذا منع، والخلاف شديد حولها فقد كانوا يقولون: إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قد حمى ظهره، فلا يركب، ولا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء، ولا مرعى. وكلها عادات لم يأمر الله بشيء منها، وما شرعها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 الإعراب: (ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) كلام مستأنف مسوق لشجب عادات وأعمال من عاداتهم وأعمالهم مبتدعة، لم يأمر الله بها ولم يشرعها. وما نافية، وجعل بمعنى خلق، فهي تتعدى لواحد، أو بمعنى صيّر فتتعدى لاثنين، ويكون الثاني محذوفا، أي: صيرها مشروعة. والله فاعل، ومن حرف جر زائد، وبحيرة مجرورا لفظا مفعول به منصوب محلا، وما بعده عطف عليه (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) الواو عاطفة أو حالية، ولكن واسمها، وجملة كفروا صلة الموصول لا محل لها. وجملة يفترون خبر لكن، وعلى الله متعلقان بيفترون، والكذب مفعول به. والواو عاطفة أو حالية، وأكثرهم مبتدأ، وجملة لا يعقلون خبر أكثرهم. [سورة المائدة (5) : الآيات 104 الى 105] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 الإعراب: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) الواو استئنافية أو عاطفة، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب الآتي، وجملة تعالوا في محل نصب مقول القول، والى ما أنزل الله الجار والمجرور متعلقان بتعالوا، وأنزل الله فعل وفاعل، والجملة صلة، والى الرسول عطف عليه (قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) جملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وحسبنا مبتدأ، وما اسم موصول في محل رفع خبر، وجملة وجدنا لا محل لها لأنها صلة الموصول، وعليه متعلقان بوجدنا، وآباءنا مفعول به (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي، والواو عاطفة على مقدر، تقديره: أحسبهم ذلك؟ أو حالية، أي: ولو كان آباؤهم جهلة ضالين. ولو شرطية وجوابها محذوف تقديره: يقولون ذلك. وكان واسمها، وجملة لا يعلمون خبرها، وشيئا مفعول به، وجملة لا يهتدون عطف على جملة لا يعلمون (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان أن كل إنسان مسئول عن نفسه، ولا يرد على هذا أن فيه مندوحة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن ذلك مرهون بالطاقة. قال صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه» . وعليكم اسم فعل أمر منقول بمعنى الزموا، وأنفسكم مفعول به لاسم الفعل (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) الجملة مستأنفة، ولا نافية، يضركم فعل مضارع، والكاف مفعول به، ومن اسم موصول في محل رفع فاعل بضركم. وجملة ضل صلة الموصول، وإذا ظرف مستقبل متضمن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 معنى الشرط متعلق بالجواب المقدر، أي: فلا يضركم، وجملة اهتديتم في محل جر بالاضافة (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الجملة مستأنفة، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ومرجعكم مبتدأ مؤخر، وجميعا حال، فينبئكم الفاء عاطفة، وينبئكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به، وبما متعلقان بينبئكم، وجملة كنتم صلة الموصول، والتاء اسم كان، وجملة تعملون خبرها. الفوائد: اختلف النحاة في الضمير المتصل ب «عليكم» و «إليكم» و «لديكم» و «مكانكم» ، والصحيح أنه في موضع جر، كما كان قبل أن تنقل الكلمة الى الإغراء، فإما أن يكون مجرورا بالحرف نحو: «عليكم» بحسب ما كان، أو بالإضافة نحو: «لديكم» . وقيل: إن الكاف حرف خطاب، وهذا القول عندي أسهل، وقد أيده ابن بابشاذ، ونورد هنا تلخيصا هاما لأسماء الأفعال، فهي ضربان: 1- مرتجل: وهو ما وضع من أول الأمر كذلك، أي: اسما للفعل، كشتان وأفّ وصه. 2- منقول: وهو ما وضع من أول الأمر لغير اسم الفعل، ثم نقل من غيره إليه، وهو ثلاثة أنواع: آ- من جار ومجرور نحو: عليك بمعنى الزم. ب- من ظرف المكان نحو: دونك الكتاب، أي: خذه، ومكانك، أي: اثبت، وأمامك، أي: تقدم، ووراءك، أي: تنح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 ج- منقول من مصدر نحو: رويد خالدا، أي: أمهله، وبله هذا الأمر، أي: دعه. قال يصف السيوف: تذر الجماجم ضاحيا هاماتها ... بله الأكفّ كأنها لم تخلق واستعمله أبو الطيب المتنبي فقال: أقلّ فعالي بله أكثره مجد ... وذا الجد فيه نلت أم لم أنل جدّ ولأسماء الأفعال تفاصيل أخرى يرجع إليها في مظانها. [سورة المائدة (5) : الآيات 106 الى 108] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 اللغة: (ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي: سافرتم. (الْأَوْلَيانِ) : مثنى الأولى، أي: الأحق بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام تتعلق بأمور الدنيا بعد بيان الأحوال المتعلقة بأمور الآخرة. وشهادة مبتدأ، وبينكم مضاف اليه، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب المحذوف، أي: فشهادة اثنين، وجملة حضر أحدكم الموت في محل جر بالاضافة، وحين الوصية ظرف متعلق بحضر، واثنان خبر شهادة، ولا بد من تقدير مضاف محذوف، وذلك ليتطابق المبتدأ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 والخبر، وذلك لأن الشهادة لا تكون هي الاثنان، إذ الجثة لا تكون خبرا عن المصدر. وجوّز الزمخشري أن تكون شهادة مبتدأ، والخبر محذوف، أي: فيما فرض عليكم شهادة، واثنان فاعل بشهادة، أي: أن يشهد اثنان. وهذا ما جرى عليه ابن هشام أيضا. وذوا عدل صفة ل «اثنان» ، ومنكم صفة أيضا (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أو حرف عطف، وآخران عطف على «اثنان» ، ومن غيركم متعلقان بمحذوف صفة ل «آخران» أي: من غير ملتكم، وإن شرطية، وأنتم فاعل لفعل محذوف يفسره ما بعده، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، أي: فالشاهدان آخران، وجملة ضربتم مفسرة لا محل لها، وفي الأرض متعلقان بضربتم، وجملة الشرط معترضة لا محل لها (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) الفاء عاطفة للترتيب مع التعقيب، وأصابتكم عطف على ضربتم، ومصيبة الموت فاعل أصابتكم، وتحبسونهما فعل مضارع ومفعول به، وقد اختلفوا في موضع هذه الجملة، والأظهر أنها صفة ل «آخران» . وقال الزمخشري: «فإن قلت: ما موضع تحبسونهما؟ قلت: هو استئناف كلام: كأنه قيل بعد اشتراط العدالة فيهما: فكيف نعمل إن ارتبنا بهما؟ فقيل: تحبسونهما» . وعقب أبو حيّان على ذلك فقال: وما قاله الزمخشري من الاستئناف أظهر من الوصف لطول الفصل بالشرط والمعطوف عليه بين الموصوف وصفته، ولا موجب لهذا الزعم. ومن بعد الصلاة متعلقان بتحبسونهما (فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) الفاء عاطفة، ويقسمان عطف على تحبسونهما، وبالله متعلقان بيقسمان، وإن شرطية، وارتبتم فعل وفاعل في محل جزم فعل الشرط، والجواب محذوف دل عليه ما قبله، وتقديره: إن ارتبتم فيهما فحلفوهما. وفعل الشرط وجوابه المقدر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 جملة لا محل لها لأنها معترضة بين القسم وجوابه، وليست هذه الآية مما اجتمع فيه شرط وقسم فأجيب بالمتقدم منهما، وحذف جواب الآخر لدلالة جواب الشرط عليه، لأن تلك المسألة مشروطة بأن يكون القسم صالحا لأن يكون جوابا للشرط، حتى يسدّ مسد جوابه، نحو: والله إن تزرني لأكرمنّك، لأنك إن قدّرت: «إن تزرني أكرمك» صح، وهنا لا يقدر جواب الشرط ما هو جواب للقسم، بل يقدر جوابه قسما برأسه. ألا ترى أن تقديره هنا: «إن ارتبتم فحلفوهما» ، ولو قدرته غير ذلك لم يصحّ! وقال آخرون: إن ثمّ قولا محذوفا تقديره: فيقسمان بالله ويقولان هذا القول في أيمانهما. والعرب تضمر كثيرا القول، كقوله تعالى: «والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام» ، أي: يقولون: «سلام عليكم» ، ولا نافية، ونشتري فعل مضارع مرفوع، والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم، وبه متعلقان بنشتري، وثمنا مفعول به، والواو حالية، ولو شرطية، وكان فعل ماض ناقص، واسمها مستتر، أي: المقسم له، وذا قربى خبر كان، وجواب «لو» محذوف دل عليه ما قبله، أي: فلا نشتري به، وجملة لو الشرطية وما في حيزها في محل نصب حال (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) الواو عاطفة، وجملة لا نكتم عطف على منتظم معه في حكم القسم، وشهادة الله مفعول به، وإن واسمها، وإذن حرف جواب وجزاء مهملة، واللام المزحلقة، ومن الآثمين متعلقان بمحذوف خبر إن، وجملة إن وما في حيزها لا محل لها بمثابة التعليل لعدم الكتمان (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) الفاء استئنافية، وإن شرطية، وعثر فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط، وعلى أنهما جار ومجرور نائب فاعل، أي: فإن اطلع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 على استحقاقهما الإثم، وأن واسمها، وجملة استحقا في محل رفع خبر أن، والألف فاعل استحقا، وإثما مفعول استحقا (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) الفاء رابطة لجواب الشرط، وآخران مبتدأ، ساغ الابتداء به لأنه وصف، أو هو خبر لمبتدأ محذوف، وجملة يقومان في محل رفع خبر على الأول أو صفة على الثاني، ومقامهما مفعول مطلق، ومن الذين صفة ل «آخران» وجملة استحق لا محل لها لأنها صلة الموصول، وعليهم متعلقان باستحق، والأوليان خبر لمبتدأ محذوف، أي: هما الأوليان، أو فاعل استحق، وجملة فآخران في محل جزم جواب الشرط (فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) الفاء عاطفة، ويقسمان فعل مضارع مرفوع عطفا على يقومان، والألف فاعل، وبالله متعلقان بيقسمان، واللام واقعة في جواب القسم، وشهادتنا مبتدأ، وأحق خبر، ومن شهادتهما متعلقان بأحق، وجملة شهادتنا لا محل لها لأنها واقعة في جواب القسم (وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) الواو استئنافية، وما نافية، واعتدينا فعل ماض وفاعل، وإن واسمها، وإذن حرف جواب وجزاء مهمل، ومن الظالمين خبر إن، والجملة تعليلية لا محل لها (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) اسم الإشارة مبتدأ، وأدنى خبر، والجملة مستأنفة، وأن وما بعدها في تأويل مصدر مضاف لأدنى، وبالشهادة متعلقان بيأتوا، وعلى وجهها متعلقان بمحذوف حال (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) أو حرف عطف، ويخافوا عطف على يأتوا، وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول ليخافوا، وأيمان نائب فاعل ترد، والظرف بعد متعلق ب «ترد» ، وأيمانهم مضاف إليه (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الواو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 استئنافية، واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به، واسمعوا عطف على اتقوا، والواو استئنافية والله مبتدأ، وجملة لا يهدي خبر، والقوم مفعول به، والفاسقين صفة للقوم. الفوائد: هذه الآيات الثلاث شغلت المفسرين والمعربين كثيرا فأطالوا الحديث، وليس ثمة ما يستدعي الإطالة، فقد ذكر مكي بن أبي طالب في كتابه المسمى ب «الكشف» أن هذه الآيات في قراءاتها وإعرابها وتفسيرها ومعانيها وأحكامها من أصعب آي القرآن. وقال السخاوي: لم أر أحدا من العلماء تخلص كلامه فيها من أولها إلى آخرها. وقال السمين الحلبي: وأنا أستعين الله في توجيه إعرابها واشتقاق مفرداتها وتصريف كلماتها وقراءاتها ومعرفة تأليفها، وأما بقية علومها فنسأل الله العون في تهذيبه. وقد حاولنا نحن الاختصار جهد الطاقة، واكتفينا بقراءة حفص، أما بقية أحكامها فلا بد من النظر في كتب الحديث وكتب التفسير المطوّلة. [سورة المائدة (5) : الآيات 109 الى 110] يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 اللغة: (الْأَكْمَهَ) : الأعمى المطموس البصر. الإعراب: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ: ماذا أُجِبْتُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان ما جرى بينه وبين الرسل جميعا. ويوم ظرف زمان متعلق بمحذوف تقديره: اذكر، وجملة يجمع في محل جر بالاضافة، والله فاعل، والرسل مفعول به، والفاء حرف عطف، ويقول فعل مضارع معطوف على يجمع، ماذا اسم استفهام في محل نصب مفعول مطلق، أي: أيّ إجابة أجبتم، ولك أن تعرب «ما» اسم استفهام في محل رفع مبتدأ، و «ذا» اسم موصول خبر «ما» ، وجملة أجبتم لا محل لها على كل حال، وقد تقدمت نظائره، وجملة ماذا أجبتم مقول القول. (قالُوا: لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) قالوا فعل وفاعل، والجملة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 مستأنفة، ولا نافية للجنس، وعلم اسمها المبني على الفتح، ولنا متعلقان بمحذوف خبرها، وجملة لا علم لنا في محل نصب مقول القول، وإن واسمها، وأنت مبتدأ وعلام الغيوب خبر أنت، والجملة في محل رفع خبر إن، وجملة إن وما في حيزها تعليلية لا محل لها (إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بما تعلق به يوم لأنه بدل منه، وجملة قال في محل جر بالإضافة، ويا حرف نداء وعيسى منادى مفرد علم مبني على الضم المقدر على الألف في محل نصب، وابن بدل أو نعت لعيسى، ومريم مضاف إليه (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) الجملة كلها في محل نصب مقول القول، واذكر فعل أمر، ونعمتي مفعول به، وعليك متعلقان بنعمتي، وعلى والدتك عطف على «عليك» (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) الظرف بدل من نعمتي بدل اشتمال، ويجوز أن يتعلق بنعمتي أيضا، وجملة أيدتك في محل جر بالإضافة، وبروح القدس متعلقان بأيدتك، وجملة تكلم الناس في محل نصب حال من الكاف في أيدتك، وفي المهد متعلقان بمحذوف حال، أي: حالة كونك طفلا، وكهلا عطف عليه، فهو حال أيضا، والمعنى: إلحاق حالة الطفولة بحالة الكهولة، في كمال العقل، وتمام الرّويّة (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) الواو حرف عطف، والظرف معطوف على إذ أيدتك، وجملة علمتك في محل جر بالإضافة، وهي فعل وفاعل ومفعول به أول، والكتاب مفعول به ثان، أي: الكتابة، وما بعده عطف عليه (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) الظرف معطوف على ما سبقه، وجملة تخلق في محل جر بالإضافة، ومن الطين متعلقان بتخلق، وكهيئة الكاف اسم بمعنى مثل في محل نصب مفعول به لتخلق، وهيئة مضاف إليه وهو مضاف، والطير مضاف إليه، وبإذني متعلقان بمحذوف حال (فَتَنْفُخُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) الفاء حرف عطف، وتنفخ عطف على تخلق، وفيها متعلقان بتنفخ، فتكون عطف على فتنفخ، وطيرا خبر تكون، وبإذني متعلقان بمحذوف حال (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي) عطف على ما تقدم (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) عطف أيضا (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ) عطف أيضا، وبني إسرائيل مفعول كففت، وعنك متعلقان ب «كففت» (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) الظرف متعلق بكففت لا باعتبار المجيء بالبينات فقط بل باعتبار ما يعقب ذلك ويترتب عليه حين همّهم بقتله، وجملة جئتهم في محل جر بالإضافة، وبالبينات متعلقان بجئتهم، فقال: الفاء عاطفة، وقال فعل ماض معطوف على جئتهم، والذين فاعل وجملة كفروا صلة، ومنهم متعلقان بكفروا، وإن نافية، وهذا اسم إشارة في محل رفع مبتدأ، وإلا أداة حصر، وسحر خبر هذا، ومبين صفة، والجملة في محل نصب مقول القول. [سورة المائدة (5) : الآيات 111 الى 113] وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 اللغة: (مائِدَةً) المائدة: الخوان إذا كان عليه الطعام، فإن لم يكن عليه طعام فليس بمائدة، وهذا هو المشهور كما نصّ عليه الثعالبي، غير أن الراغب قال: المائدة الطبق الذي عليه الطعام. وتقال أيضا المطعام نفسه. إلا أن هذا مخالف لما هو مشهور متعالم عند علماء اللغة. وهذه المسألة لها نظائر في اللغة: لا يقال للخوان مائدة إلا إذا كان عليه طعام وإلا فهو خوان، بتثليث الخاء. ولا يقال: كأس إلا وفيها خمر، وإلا فهي قدح. ولا يقال ذنوب وسجل إلا وفيه ماء، وإلا فهو دلو، ولا يقال: جراب إلا وهو مدبوغ، وإلا فهو إهاب. ولا يقال: قلم إلا وهو مبريّ، وإلا فهو أنبوب. ولا يقال: كوز إلا إذا كانت له عروة، وإلا فهو كوب. ولا يقال: فرو إلا إذا كان عليه صوف. وإلا فهو جلده ولا يقال: ريطة إلا إذا كانت ذات لفقين وإلا فهي ملاءة. ولا يقال: رمح إلا إذا كان عليه سنان، وإلا فهو قناة. ولا يقال: لطيمة إلا إذا كان عليها طيب، وإلا فهي عير. ولا يقال: خاتم إلا إذا كان فيه فصّ، وإلا فهو فتخة. هذا ما ذكره الثعالبي نقلا عن أبي عبيدة. ونقل عن غير أبي عبيدة من أئمة اللغة: أنه لا يقال: نفق إلا إذا كان له منفذ، وإلا فهو سرب. ولا يقال: عهن إلا إذا كان مصبوغا، وإلا فهو صوف. ولا يقال خدر إلا إذا كان مشتملا على جارية، وإلا فهو ستر. ولا يقال: ركيّة إلا إذا كان فيها ماء قلّ أو كثر، وإلا فهي بئر. ولا يقال: وقود إلا إذا تقدمت فيه النار، وإلا فهو حطب. ولا يقال: سياع إلا إذا كان فيه تبن، وإلا فهو طين. ولا يقال: عويل إلا إذا كان فيه رفع صوت، وإلا فهو بكاء. ولا يقال: ثرى إلا إذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 كان نديا، وإلا فهو تراب. ولا يقال للعبد: آبق إلا إذا كان ذهابه من غير خوف ولا كدّ عمل، وإلا فهو هارب. ولا يقال لماء الفم: رضاب إلا ما دام في الفم، وإلا فهو بزاق. ولا يقال للشجاع: كميّ إلا إذا كان شاكي السلاح، وإلا فهو بطل. ولا يقال للمرأة ظعينه إلا ما دامت راكبة في الهودج. هذا وقد اختلف اللغويون في اشتقاق المائدة، فقال أبو عبيدة. واختاره الزمخشريّ: هي فاعلة بمعنى مفعولة، مشتقة من: ماده أي أعطاه، وامتاده بمعنى استعطاه، فهي بمعنى مفعولة كعيشة راضية. الإعراب: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) الواو حرف عطف، والكلام معطوف على ما تقدم، وجملة أوحيت في محل جر بالإضافة، وأن مفسرة، لأنها وردت بعد ما هو بمعنى القول دون حروفه، وجملة آمنوا لا محل لها لأنها مفسرة (قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) الجملة مستأنفة، وجملة آمنا في محل نصب مقول القول، والباء حرف جر وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مجرور بالباء، والجار والمجرور متعلقان ب «اشهد» ، ومسلمون خبر أنّ (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) الجملة مستأنفة لحكاية حال ماضية، والظرف متعلق بمحذوف تقديره: اذكر، وجملة قال في محل جرّ بالإضافة، والحواريون فاعل، ويا حرف نداء، وعيسى منادى مفرد علم مبني على الضم، وابن بدل من «عيسى» على اللفظ أو على المعنى، فيجوز ضم النون وفتحها، كما سيأتي في باب الفوائد، ومريم مضاف إليه (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) الجملة في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 محل نصب مقول القول، وهل حرف استفهام، ويستطيع ربك فعل مضارع وفاعل، وأن ينزل أن المصدرية وما بعدها في تأويل مصدر مفعول يستطيع، ومائدة مفعول ينزل، ومن السماء جار ومجرور متعلقان بينزل، ولا بأس بأن يتعلقان بمحذوف صفة لمائدة (قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما قاله لهم بصدد سؤالهم. وجملة اتقوا الله في محل نصب مقول القول، وإن شرطية، وكان واسمها وخبرها، وكان فعل الشرط، والجواب محذوف يفهم من سياق الكلام، أي إن كنتم مؤمنين بقدرته تعالى وبصحة نبوتي فتجنبوا هذه السؤالات المتعنتة (قالُوا: نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) الكلام مستأنف مسوق لبيان ما قالوه تسويفا لسؤالهم، وجملة نريد في محل نصب مقول القول، وأن وما في حيزها مصدر مؤول مفعول نريد، ومنها متعلقان بنأكل، وتطمئن قلوبنا الجملة معطوفة على «أن نأكل منها» (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) الواو عاطفة، ونعلم عطف على نأكل وتطمئن وتكون حجة لنا أمام الذين لم يشهدوها من بني إسرائيل ليزداد المؤمنون رسوخا في الإيمان، ويزول الشك من صدور الشّاكّين والمرتابين، ويؤمن الكافرون. وأن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن المحذوف، وجملة قد صدقتنا خبرها، ونكون عطف على نعلم، واسم نكون مستتر تقديره نحن، ومن الشاهدين متعلقان بمحذوف خبر نكون، وعليها متعلقان بالشاهدين. الفوائد: إذا كان المنادى مفردا علما متبوعا ب «ابن» ولا فاصل بينهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 و «ابن» مضافا الى علم جاز في المنادى وجهان: ضمه للبناء ونصبه لاتباع حركة «ابن» ، قال عمرو بن كلثوم: بأي مشيئة عمرو بن هند ... تطيع بنا الوشاة وتزدرينا [سورة المائدة (5) : الآيات 114 الى 115] قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115) اللغة: (عِيداً) العيد: معروف، وهو مشتق من العود، لأنه يعول كل سنة. وإنما كسرت عينه لأن الواو وقعت بعد كسرة، والأصل: عويد، كميزان أصلها: موزان، فقلبت الواو ياء لوقوعها بعد الكسرة. الإعراب: (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) كلام مستأنف مسوق لشروعه بالدعاء بعد أن تبيّن له صدقهم. وقال عيسى فعل وفاعل، وابن بدل أو نعت، ومريم مضاف إليه (اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 اللهم أصله: يا الله، فحذف حرف النداء وعوضت منه الميم المشددة، وقد تقدم بحثه. وربنا نداء ثان، وأنزل فعل أمر للدعاء، وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت، وعلينا متعلقان بأنزل، ومائدة مفعول به ومن السماء متعلقان بمحذوف صفة لمائدة، أو متعلقان بأنزل أيضا. (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ) جملة تكون صفة ثانية لمائدة، أي: يكون يوم نزولها عيدا، واسم تكون مستتر تقديره هي، وعيدا خبر تكون، ولنا متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة تقدمت على موصوفها، وهو قوله: «عيدا» ، ولأولنا الجار والمجرور متعلقان بمحذوف بدل من «لنا» بتكرير العامل، وآخرنا عطف على «أولنا» ، وآية عطف على «عيدا» ، ومنك متعلقان بمحذوف صفة لآية (وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) الواو حرف عطف، وارزقنا فعل أمر للدعاء، وفاعله مستتر، ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والواو استئنافية أو حالية، وأنت مبتدأ، وخير الرازقين خبر، والجملة لا محل لها لأنها مستأنفة أو في محل نصب على الحال (قالَ اللَّهُ: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان استجابة الله لدعائه. وإني وما في حيزها في محل نصب مقول القول، وإن واسمها، ومنزلها خبر، وعليكم جار ومجرور متعلقان بمنزلها لأنه اسم فاعل (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) الفاء استئنافية، ومن اسم شرط جازم مبتدأ، ويكفر فعل الشرط، وبعد ظرف قطع عن الإضافة لفظا لا معنى فبني على الضمّ وهو متعلق بيكفر، ومنكم متعلقان بمحذوف حال (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) الفاء رابطة للجواب، وإن واسمها، وجملة أعذبه خبرها، وجملة إني أعذبه في محل جزم جواب الشرط، وعذابا مفعول مطلق وهو اسم مصدر بمعنى التعذيب، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 ولا نافية، وأعذبه فعل مضارع، والضمير في «أعذبه» الثانية ناب عن المفعول المطلق لأنه يعود عليه، والتقدير فإني أعذبه تعذيبا لا أعذب مثل ذلك التعذيب أحدا، وأحدا مفعول به، والجملة المنفية صفة ل «عذابا» ، ومن العالمين متعلقان بمحذوف صفة ل «أحدا» . وجملة فعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ «من» . الفوائد: ينوب عن المصدر ثلاثة عشر شيئا فتعطى حكمه وهي: 1- اسم المصدر: أعطيتك عطاء. 2- صفته: اذكروا الله كثيرا. 3- ضميره العائد اليه: كالآية المتقدمة. 4- مرادفه: فرح جذلا. 5- مصدر يلاقيه في الاشتقاق: أنبتكم نباتا. 6- ما يدل على نوعه: رجع القهقرى، وقول الأعشى: غراء فرعاء مصقول عوارضها ... تمشي الهويني كما يمشي الوجي الوحل 7- ما يدل على آلته: ضربت اللص سوطا. 8- أيّ الاستفهامية وكم الاستفهامية أو الخبرية نحو: «وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون» ، وقول المتنبي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 كم قد قتلت وكم قد متّ عندكم ... ثم انتفضت فزال القبر والكفن 9- ما يدل على عدده: «فاجلدوا كلّ واحد منهما مئة جلدة» . 10- ما ومهما وأي الشرطيات: ما تفعل أفعل، ومهما تقف أقف وأي عمل تعمله تجاز عليه. 11- لفظا كل وبعض مضافين إلى المصدر: «فلا تميلوا كل الميل» واجتهد بعض الاجتهاد. 12- اسم الاشارة مشارا به إلى المصدر: اجتهدت ذلك الاجتهاد. 13- أيّ الكمالية: وهي التي تدل على معنى الكمال إذا وقعت مضافة للمصدر، نحو: اجتهدت أي اجتهاد. وإذا وقعت بعد النكرة كانت صفة لها، كقول أبي العتاهية: إنّ الشّباب والفراغ والجده ... مفسدة للمرء أيّ مفسده ف «أي» صفة ل «مفسدة» ، وإذا وقعت بعد المعرفة كانت حالا، نحو: مررت بعبد الله أيّ رجل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 [سورة المائدة (5) : الآيات 116 الى 120] وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) الإعراب: (وَإِذْ قالَ اللَّهُ: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) الواو حرف عطف، والكلام منسوق على «إذ قال الحواريون» فالظرف متعلق بمحذوف تقديره: اذكر، وجملة قال الله في محل جر بالإضافة وجملة يا عيسى بن مريم في محل نصب مقول القول (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) الهمزة للاستفهام، وأنت مبتدأ، وجملة قلت للناس خبر، والجملة الاستفهامة مقول القول، وجملة اتخذوني من فعل الأمر والفاعل والمفعول به في محل نصب مقول القول، وأمي الواو للمعية أو العطف، وأمي مفعول معه أو معطوف على الياء، وإلهين مفعول به ثان لاتخذوني، ومن دون الله متعلقان بمحذوف صفة لإلهين، أي: كائنين من دونه تعالى، ولا مانع من تعليقهما بمحذوف حال من فاعل اتخذوني، أي: متجاوزين (قالَ: سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) الجملة مستأنفة مسوقة للتبرؤ مما نسب إليه. وقال فعل ماض، وسبحانك مفعول مطلق والجملة مقول القول، وما نافية ويكون فعل مضارع ناقص، ولي جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر يكون المقدم، وأن وما بعدها في تأويل مصدر اسم يكون المؤخر، وجملة ما يكون لي استئنافية، وجملة ليس لا محل لها لأنها صلة الموصول، واسم ليس مستتر تقديره هو، وبحق الباء حرف جر زائد، وحق خبر ليس، ولي متعلقان بمحذوف حال لأنه تقدم على موصوفه، وما اسم موصول مفعول أقول لأنها متضمنة معنى الجملة وهناك أعاريب أخرى ضربنا عنها صفحا (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) الجملة مستأنفة، وإن شرطية، وكنت فعل ماض ناقص، والتاء اسمها، والفعل الناقص هو فعل الشرط، وجملة «قلته» خبر كنت، والفاء رابطة، وجملة قد علمته في محل جزم جواب الشرط الجازم، وعلمته فعل وفاعل ومفعول به (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) الجملة مستأنفة، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به، وفي نفسي جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول، وجملة ولا أعلم ما في نفسك عطف على ما تقدم (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) إن واسمها، وأنت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 مبتدأ وعلام الغيوب خبر، والجملة خبر «إن» ، أو «أنت» ضمير فعل، وعلام خبر «إن» ، والجملة الاسمية خبر إن وجملة إنك وما بعدها لا محل لها لأنها تعليلية (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) ما نافية، وقلت فعل وفاعل، ولهم متعلقان بقلت، وإلا أداة حصر، وما اسم موصول مفعول قلت، وجملة أمرتني به صلة الموصول (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) المصدر المؤول بدل من «ما» ، أو من الهاء في «به» ، أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره «هو» ، وجعلها بعضهم مفسرة، وأكد أن عيسى عليه السلام نقل معنى كلام الله بهذه العبارة، كأنه قال: ما قلت لهم شيئا سوى قولك لي: قل لهم أن اعبدوا الله ربي وربكم. وربي بدل من الله أو صفة، وسيأتي في باب الفوائد مزيد من إعراب هذا الكلام (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) الواو حرف عطف، وكان واسمها، وشهيدا خبرها، وعليهم متعلقان ب «شهيدا» وما دمت فعل ماض ناقص، والتاء اسمها، وفيهم متعلقان بمحذوف خبرها، والظرف المنسبك من ما دمت متعلقان ب «شهيدا» ، أي مدة دوامي مستقرا فيهم (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) الفاء استئنافية، ولما حينية أو رابطة، فهي ظرف أو حرف متضمن معنى الشرط، وجملة توفيتني في محل جرّ بالإضافة أو لا محل لها، وتوفيتني فعل وفاعل ومفعول به، أي: أخذتني أخذا وافيا بالرفع إلى السماء، وهو الأصل في معنى الوفاة، وجملة كنت لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وكان واسمها، وأنت ضمير منفصل في محل رفع تأكيد للضمير في كنت، ولك أن تعربه ضمير منفصل لا محل له، والرقيب خبر كنت، وعليهم متعلقان بالرقيب، والواو استئنافية أو حالية، وأنت مبتدأ، وشهيد خبر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 وعلى كل شيء متعلقان بشهيد (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إن شرطية وتعذبهم فعل الشرط والهاء مفعول به والفاء رابطة لجواب الشرط والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط وإن واسمها وخبرها والجملة الشرطية مستأنفة مسوقة على وجه الاستعطاف ولهذا لم يقل إن تعذبهم فإنهم عصوك (قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) كلام مستأنف مسوق لاختتام ما بدأ الحديث به عند ما قال: يوم يجمع الله الرسل، وجملة الاشارة في محل نصب مقول القول وهذا مبتدأ ويوم خبر وجملة ينفع في محل جر بالاضافة، والصادقين مفعول به مقدم، وصدقهم فاعل مؤخر (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان النفع المذكور، ولهم متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وجنات مبتدأ مؤخر، وجملة تجري صفة لجنات، ومن تحتها متعلقان بتجري، والأنهار فاعل، وخالدين حال، وأبدا ظرف زمان متعلق بخالدين (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الجملة دعائية معترضة لا محل لها، وجملة ورضوا عنه عطف عليها، وذلك مبتدأ، والفوز خبر، والعظيم صفة (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الجملة مستأنفة مسوقة لتحقيق الحق، والله متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وملك السماوات والأرض مبتدأ مؤخر، والواو عاطفة، وما اسم موصول معطوف على الملك، وفيهن متعلقان بمحذوف صلة الموصول، وأتى ب «ما» تغليبا لغير العاقل لأنه أدل على العظمة، وهو مبتدأ، وقدير خبره، وعلى كل شيء متعلقان بقدير. البلاغة: في قوله: «إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 العزيز الحكيم» فن من فنون البلاغة، منقطع النظير، صعب الإدراك، يحتاج المتأمل فيه الى الكثير من رهافة الحسّ، وشعوف الطبع، ويسمى فن التخيير. وحدّده علماء البلاغة بأن يأتي الشاعر أو الناثر بفصل من الكلام أو بيت من الشعر يسوغ أن يقفّى بقواف شتى فيتخير منها قافية مرجحة على سائرها، ويستدل بإيثاره إياها على حسن اختياره وصدق حسه، وقد تقضي البداهة الأولى بأن تكون غير ما اختاره، ولكنه عزف عن ذلك لسرّ دقيق كقول أحدهم: إنّ الغريب الطويل الذيل ممتهن ... فكيف حال غريب ما له قوت فإنه يسوغ أن يقول: ما له نشب، أو ما له سيد، أو ما له أحد. وإذا نظرت الى ما قاله وهو: «ماله قوت» وجدتها أبلغ من الجميع، وأدلّ على الفاقة والعوز، وأمسّ بذكر الحاجة، وأشجى للقلوب، وأدعى للاستعطاف. فذلك رجحت على ما سواها. القول في الآية: ونعود بعد هذا التعريف السريع لهذا الفن الى الآية التي نحن بصددها فنقول: إن البداهة البدائية تقضي بأن تكون الفاصلة: «إنك أنت الغفور الرحيم» لملاءمتها لقوله: «إن تغفر» ولمناسبته ما بين الغفران والغفور، ولكنّ هذا الوهم الناجم عن هذه البداهة سرعان ما يزول أثره عند ما يذكر المتوهم أن هؤلاء قد استحقوا العذاب دون الغفران، فيجب أن تكون الفاصلة: «العزيز الحكيم» إذ لو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 جاءت «الغفور الرحيم» بعد ذكر الغفران- وهو لا يغفر لهم- فوجب أن تكون الفاصلة كما وردت، لأن الله سبحانه ممتنع عن القهر والمعارضة، والعزيز هو الممتنع، ولا بد من أن يصف نفسه بعد وصفه بالعزة بالحكمة، لأنه الحكيم الذي يضع كل شيء موضعه. طرفة الأصمعي: وقد مرت معنا في السابق طرفة الأصمعي، وهي ما ذكره أنه كان يقرأ يوما فقرأ: «والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله غفور رحيم» وكان يسمعه أعرابي، فاعترضه وغلّطه، فراجع الأصمعي الآية، فإذا بها «والله عزيز حكيم» ، فقال للأعرابيّ: كيف عرفت ذلك؟ فقال: يا هذا عزّ فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع. فدهش الأصمعي وأفحم. وخفي هذا السر على أبي حيان: وقد خفي سر هذا الفن على أبي حيان- على جلالة قدره- فقال في «البحر» محاولا تعليل الاعتراض ما نصه: «وقال أبو بكر ابن الأنباري: وقد طعن على القرآن من قال: إن قوله: «فإنك أنت العزيز الحكيم» لا يناسب قوله: «وإن تغفر لهم» لأن المناسب «فإنك أنت الغفور الرحيم» . والجواب أنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله تعالى، ومتى نقل إلى ما قاله هذا الطاعن ضعف معناه، فإن ينفرد الغفور الرحيم بالشرط الثاني ولا يكون له بالشرط الأول تعلّق. وهو ما أنزله الله تعالى وأجمع على قراءته المسلمون» . ونقول: ولو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 عرف أبو حيّان هذا الفنّ لأجاب بما قدّمناه، ولم يتكلّف الأجوبة البعيدة. الفوائد: بين ابن هشام والزمخشريّ: ذكر ابن هشام في مغني اللبيب ما يلي: «وذكر الزمخشري في قوله تعالى: «ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله» أنه يجوز أن تكون مفسرة للقول على تأويله بالأمر، أي: ما أمرتهم إلا بما أمرتني أن اعبدوا الله، وهو حسن. وعلى هذا فيقال في الضابط: أن يكون فيها حروف القول إلا والقول مؤوّل بغيره، ولا يجوز في الآية أن تكون مفسرة لأمرتني، لأنه لا يصح أن يقال: اعبدوا الله ربي وربكم مقولا لله تعالى، فلا يصح أن تكون مفسرة لأمره لأن المفسر عين تفسيره. عبارة ابن يعيش: وعبارة ابن يعيش: ف «أن» بمعنى «أي» ، وهو تفسير «ما أمرتني به» ، لأن الأمر في معنى القول، ولأن هذه إذا كانت تفسيرا ثلاث شرائط: 1- أولها أن يكون الفعل الذي تفسره وتعبر عنه فيه معنى القول وليس بقول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 2- والثاني أن لا يتصل ب «أن» شيء من صلة الفعل الذي تفسره، لأنه إذا اتصل بها شيء من ذلك صارت جملته، ولم تكن تفسيرا له، وذلك نحو: أوعزت إليه بأن قم، وكتبت إليه بأن قم، لأن الباء هاهنا متعلقة بالفعل، وإذا كانت متعلقة به صارت من جملته، والتفسير إنما يكون بجملة غير الأولى. 3- والثالث أن يكون ما قبلها كلاما تاما لما ذكرناه من أنها وما بعدها جملة مفسرة جملة قبلها، ولذلك قالوا في قوله تعالى: «أن الحمد لله رب العالمين» أنّ «أن» فيه مخففة من الثقيلة، والمعنى: أنه الحمد لله، ولا يكون تفسيرا لأنه ليس ما قبلها جملة تامة، ألا ترى أنك لو وقفت على قوله: «وآخر دعواهم» لم يكن كلاما» . قلت: ولهذا جنحنا الى ما اخترناه في إعرابها مصدرية تفاديا للوقوع في هذه المزالق. 2- إذا وقعت «ما» قبل «ليس» أو «لم» أو «لا» أو بعد «إلّا» فهي موصولة، وإذا وقعت بعد كاف التشبيه فهي مصدرية، وإذا وقعت بعد الباء فهي تحتملهما، وإذا وقعت بين فعلين والأول علم أو دراية أو نظر احتملت الموصولية والاستفهامية. 3- كل ما كان من أسماء الزمان مبهما لما مضى تجوز إضافته الى الجملة، فإن كان ما بعده مبنيا فالبناء على الفتح أرجح للتناسب، قال النابغة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت: ألمّا أصح والشيب وازع يروى «على حين» بالجر على الإعراب، و «على حين» بالبناء على الفتح، وهو الأرجح. وإن كان ما بعده فعلا معربا أو جملة اسمية فالإعراب أرجح كما ورد في الآية: «هذا يوم ينفع» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 (6) سورة الأنعام مكيّة وآياتها خمس وستون ومائة [سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) اللغة: (جَعَلَ) : تكون بمعنى أنشأ وأحدث فتنصب مفعولا واحدا، وتكون بمعنى صيّر فتتعدى الى مفعولين. وقال ابن جنّي في الخصائص: «إن العرب قد تتسع فتوقع أحد الفعلين موقع الآخر إيذانا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر» . والفرق بين الجعل والخلق دقيق يلتقطه الخاطر المرهف، وهو أن الخلق فيه معنى التقدير، والجعل فيه معنى التضمين، كإنشاء شيء من شيء، أو تصيير شيء شيئا، أو نقله من مكان الى مكان آخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 (يمترون) يشكّون، والامتراء الشك، وفعله: مرى في الأمر وامترى وتمارى، وما فيه مرية أي شك، ومريت الناقة وأمريتها حلبتها فأمرت، ومن المجاز قرع مروته، قال أبو ذؤيب الهذلي: حتى كأني للحوادث مروة ... بصفا المشقّر كل يوم تقرع وماريته مماراة: جادلته ولاججته، وتماروا ومعناه المحالبة. كأنّ كل واحد يحلب ما عند صاحبه. الإعراب: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) كلام مستأنف للحث على التفكير والتأمل، والعدول عن الجدل والمماراة. والحمد مبتدأ، ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبره، والذي اسم موصول في محل جر صفة، وجملة خلق السموات والأرض صلة الموصول والسموات مفعول به وجملة وجعل الظلمات والنور عطف على الجملة الأولى (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي والعطف على قوله الحمد الله وما بعده على معنى أن الله خليق بالحمد على ما خلق لأنه خلق ما خلق نعمة للبشر ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته. والذين مبتدأ وكفروا فعل وفاعل والجملة صلة الموصول وبربهم متعلقان بكفروا فيكون يعدلون بمعنى يميلون عنه من العدول ويجوز أن يتعلقا بيعدلون وقدم الجار والمجرور للفاصلة ويكون يعدلون من العدل وهو التسوية بين الشيئين، أي: ثم الذين كفروا يسوّون بربهم غيره من المخلوقين فيكون المفعول محذوفا (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) كلام مستأنف مسوق لإقامة الحجة على امترائهم وهو مبتدأ والذي خبر وجملة خلقكم لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول ومن طين جار ومجرور متعلقان بخلقكم، ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وقضى أجلا فعل ماض ومفعول به، والجملة عطف على جملة خلقكم، وأجل الواو استئنافية، وأجل مبتدأ، ساغ الابتداء به مع أنه نكرة لأنه وصف بقوله: «مسمى» ، وعنده ظرف مكان متعلق بمحذوف خبره، ثم حرف عطف واستبعاد لتراخي الرتبتين، وأنتم مبتدأ وجملة تمترون خبر. البلاغة: في الآيتين فنون متعددة من البلاغة نوجزها فيما يلي: 1- ثبوت الديمومة التي يستحقها سبحانه، وهي ديمومة الحمد له بسبب كونه منعما، والكلام خبري أريد به الأمر. 2- الطباق بين السموات والأرض، والظلمات والنور، وإذا تعدد الطباق سمّي مقابلة. 3- المخالفة في الإفراد والجمع، فقد أفرد النور وجمع الظلمات، لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة، ولها أسباب كثيرة، ولأن النور من جنس متحد، وهو النار. 4- الإظهار في موضع الإضمار: فقد أظهر الضمير فقال: «ربهم» مع أن ذكر الله تقدم، تفخيما لجلاله. وهي سنة من سنن العرب في كلامهم، يعيدون الاسم ظاهرا وإن تقدّم، دون تعبير عنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 بالضمير، للدلالة على كمال العناية. وقد تقدم هذا البحث والاستشهاد عليه بمطلع سينية البحتري. 5- التنكير: فقد ابتدأ بالنكرة، وهو «أجل» ، وكان الظاهر أن يؤخر المبتدأ، تقول: عندي كتاب، ولا تقول كتاب عندي. ولكن الذي أوجب تقديم النكرة تعظيم شأن الأجل المضروب عنده سبحانه، والمراد به الساعة وتهويل أمرها. 6- حذف المفعول به لظهوره، أي: يعدلون به، أي: يسوون بربهم غيره مما لا يقدر على شيء مما يقدر عليه. وهذه نهاية الحمق، وغاية الرّقاعة. 7- العطف بثمّ لاستبعاد صدور الشك منهم مع وجود ما يقتضي عدمه. [سورة الأنعام (6) : الآيات 3 الى 5] وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) الإعراب: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 ما تَكْسِبُونَ) الكلام مستأنف مسوق للتنبيه على صفات الألوهية التي لا يستحقها غيره. وهو ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ أو هو ضمير الشأن، والله خبر، وفي السموات جار ومجرور متعلقان بمعنى اسم الله، أي: المعبود فيها وفي الأرض جار ومجرور متعلقان أيضا بمعنى اسم الله. وسيرد في باب الفوائد المزيد من تعليق هذا الجار والمجرور. وجملة يعلم خبر ثان أو حالية، وسركم مفعول به، وجهركم عطف على سركم، وجملة ويعلم عطف على جملة يعلم، وما اسم موصول مفعول به، وجملة تكسبون صلة لا محل لها (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) الواو استئنافية، والكلام مستأنف لبيان إصرار هم على الكفر، والإعراض عن الآيات الباهرة الدّالة على التوحيد. وما نافية، وتأتيهم فعل مضارع ومفعول به مقدم، ومن حرف جر زائد، وآية مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل تأتيهم، ومن آيات ربهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لآية، وإلا أداة حصر، وكان واسمها، وعنها جار ومجرور متعلقان بالخبر «معرضين» وجملة كانوا حالية (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) الفاء الفصيحة، وقد حرف تحقيق، وكذبوا فعل وفاعل، وبالحق جار ومجرور متعلقان بكذبوا، أي: إذا كانوا معرضين عنها فقد كذبوا بما هو أعظم منها، وهو الحق. والجملة على كل حال لا محل لها من الإعراب. ولما حينية أو رابطة، وعلى الأول فهي متعلقة، وجملة جاءهم في محل جرّ بالإضافة، وعلى الثاني لا محل لها (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الفاء عاطفة، وسوف حرف استقبال، ويأتيهم فعل مضارع ومفعول به مقدم، وأنباء فاعل مؤخر، وما اسم موصول مضاف اليه، وجملة كانوا صلة، والواو اسم كان، وجملة يستهزئون خبرها، وبه جار ومجرور متعلقان بيستهزئون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 الفوائد: ما اخترناه في تعليق قوله تعالى: «في السموات» هو وجه من اثني عشر وجها أوردها المفسرون والمعربون في إعراب هذا التعبير، وقد اختاره الزّجاج والزمخشريّ وابن عطية وأبو السعود، كأنه قيل: وهو المعبود فيها، وقال ابن عطية: هو عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازا. لفصاحة اللفظ، وجزالة المعنى. وفيما يلي بعض الوجوه المستساغة. 1- في السموات: متعلقان بمحذوف صفة لله تعالى، حذفت لفهم المعنى، والتقدير: وهو الله المعبود أو المدبر. 2- الكلام تمّ عند قوله: «وهو الله» ، والجار والمجرور متعلقان بمفعول يعلم وهو: سركم وجهركم فيهما. 3- متعلقان بيعلم، وجملة يعلم على هذا الوجه مستأنفة. ونتجاوز بقية الأوجه لأنها لم تستقم معنا. [سورة الأنعام (6) : آية 6] أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 اللغة: (مكّن له في الأرض) جعل له مكانا ومكنته أثبته. (المدرار) : المغزار، ومفعال صيغة مبالغة تدل على الكثرة، كمذكار للمرأة التي كثرت ولادتها للذكور، ومئناث للتي تلد الإناث. (قَرْناً) القرن اسم جمع، كقوم ورهط. وقد اختلف الناس في القرن حالة إطلاقه على الزمان، فجمهور أهل اللغة على أنه مائة سنة، ويطلق على الجماعة من الناس أهل زمان واحد، كما في الآية، ويجمع على قرون. الإعراب: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) الكلام مستأنف مسوق للشروع في توبيخ الذين لا يؤمنون، لأنهم غمطوا نعمة ربهم، وكذبوا بالحق لما جاءهم. والهمزة للاستفهام التقريري والتوبيخي في وقت واحد، ولم حرف نفي وقلب وجزم، ويروا فعل مضارع مجزوم بلم، والرؤية بصرية أو علمية، وكم خبرية أو استفهامية في محل نصب مفعول مقدم لأهلكنا، وجملة أهلكنا سدت مسد مفعول أو مفعولي الرؤية، ومن قبلهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، ومن الجارة ومجرورها في موضع نصب تميز كم. (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) الجملة في محل جر صفة لقرن، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بمكناهم، ومكناهم فعل وفاعل ومفعول به، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بمكناهم، و «ما» يجوز أن تكون نكرة تامة بمعنى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 شيء في محل نصب مفعول مطلق، أي: شيئا من التمكين لم نمكنه لكم، فتكون الجملة بعدها في محل نصب صفة، ويجوز أن تكون مصدرية ظرفية أي: مدة تمكنهم أطول من مدة تمكنكم، وتكون الجملة صفة أيضا. وقيل: «ما» اسم موصول بمعنى الذي، ويكون التقدير: التمكين الذي لم نمكن لكم، فحذف المنعوت وأقيم النعت مقامه، والجملة بعده صلة، والضمير العائد على «ما» محذوف، أي: الذي لم نمكنه لكم، والأول أسهلها. ولم حرف نفي وقلب وجزم، ونكن فعل مضارع مجزوم بلم، ولكم متعلقان بنمكن (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) الواو عاطفة، وأرسلنا السماء فعل وفاعل ومفعول به، وعليهم جار ومجرور متعلقان بأرسلنا، ومدرارا حال (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) عطف أيضا على ما تقدم، وجملة تجري من تحتهم في محل نصب مفعول به ثان لجعلنا، فأهلكناهم الفاء عاطفة، وأهلكناهم فعل وفاعل ومفعول به، وبذنوبهم جار ومجرور متعلقان بأهلكناهم (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) عطف أيضا، وأنشأنا فعل وفاعل، ومن بعدهم جار ومجرور متعلقان بأنشأنا، وقرنا مفعول به، وآخرين صفة. البلاغة: 1- الالتفات في قوله: «ما لم نمكن لكم» ، والسياق يقتضي: ما لم نمكن لهم، لتخصيص المرسل إليهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالمواجهة، فضلا عن تطرية نشاط السامع. 2- المجاز المرسل: في قوله: «وأرسلنا السماء عليهم مدرارا» ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 والعلاقة المحلية، يريد المطر الكثير، عبر عنه بالسماء لأنه ينزل منها، وقد رمق هذا المجاز الشاعر بقوله: إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا [سورة الأنعام (6) : الآيات 7 الى 8] وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) اللغة: (قِرْطاسٍ) القرطاس: ما يكتب فيه، وكسر القاف فيه أشهر من ضمها. والقرطس: وزن «جعفر» : لغة فيه، وفي القاموس: «مثلث القاف، وكجعفر ودرهم: الكاغد، والكاغد معروف، بفتح الغين والدال المهملة، وربما قيل بالذال المعجمة وهو معرّب» وهو المراد هنا، وله معان أخرى منها الغرض، وبرد مصريّ، والجارية البيضاء المديدة القامة، والناقة الفتية، والجمع قراطيس. الإعراب: (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان فرط تعنتهم وتماديهم في المكابرة واللجاج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 ولو شرطية ونزلنا فعل وفاعل، وعليك جار ومجرور متعلقان بنزلنا، وكتابا مفعول به، وفي قرطاس جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ل «كتابا» ، فلمسوه الفاء عاطفة، ولمسوه فعل وفاعل ومفعول به، عطف على نزلنا، وبأيديهم جار ومجرور متعلقان بلمسوه (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) اللام واقعة في جواب لو، وقال الذين فعل وفاعل، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وجملة كفروا لا محل لها لأنها صلة الموصول، وإن نافية، وهذا مبتدأ، وإلا أداة حصر، وسحر خبر هذا، ومبين صفة، وجملة النفي مقول القول (وَقالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) الجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد لجاجتهم وتماديهم في التعنت والمكابرة، وقالوا فعل وفاعل، ولولا حرف تحضيض لا تحتاج الى جواب، وأنزل فعل ماض مبني للمجهول، وعليه جار ومجرور متعلقان بأنزل، وملك نائب فاعل، وجملة التحضيض في محل نصب مقول القول (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة للردّ عليهم بجوابين على تعنتهم ومكابرتهم. ولو شرطية، وأنزلنا ملكا فعل وفاعل ومفعول، واللام واقعة في جواب لو، وجملة قضي الأمر لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي لبعد ما بين الأمرين: قضاء الأمر وعدم الإنظار، أي: إن بعد قضاء الأمر شدة، أين منها منها ما رأوه! والمفاجأة بالشدة أصعب من الشدة نفسها. ولا نافية، وينظرون فعل مضارع مرفوع مبني للمجهول معطوف على قضى الأمر، والواو نائب فاعل. البلاغة: الإطناب في قوله: «فلمسوه بأيديهم» ، وإنما ذكر الأيدي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 واللمس لا يكون إلا بها حتى يجتمع لهم إدراك الحاسّتين: حاسة البصر وحاسة اللمس. [سورة الأنعام (6) : الآيات 9 الى 11] وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) اللغة: (يَلْبِسُونَ) : يقال لبس عليه الأمر يلبسه، بضم الباء في المضارع، لبسا: جعله يلتبس في أمره، وشبهته وجعله مشكلا عليه، وأصله الستر بالثوب. الإعراب: (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة للرد عليهم بالجواب الثاني، ولو شرطية، وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به، وملكا مفعول به ثان، والضمير يعود على النذير الذي اقترحوه، والمعنى: لو جعلنا ذلك النذير ملكا لمثلنا ذلك الملك رجلا لعدم تمكّن الآحاد من رؤية الملك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 بزيه وهيكله، واللام رابطة لجواب لو، وجملة جعلناه رجلا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وللبسنا عطف على «لجعلنا» وعليهم متعلقان بلبسنا، و «ما» يجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي، أي: لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم أو على غيرهم، وتكون مفعولا به ويجوز أن تكون مصدرية، أي: وللبسنا عليهم لبسا مثل ما يلبسون على غيرهم، فتكون منسبكة بمصدر مفعول مطلق، وجملة يلبسون لا محل لها على الحالين (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) كلام مستأنف مسوق لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم، واللام جواب للقسم المحذوف، وقد حرف تحقيق، واستهزئ فعل ماض مبني للمجهول، وبرسل جار ومجرور متعلقان باستهزئ وقد نابا عن نائب الفاعل، ومن قبلك جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الفاء عاطفة، وحاق فعل ماض معطوف على استهزئ، وبالذين جار ومجرور متعلقان بحاق، وجملة سخروا لا محل لها لأنها صلة الموصول، ومنهم جار ومجرور متعلقان بسخروا، وما فاعل حاق، وهي إما موصولة وإما مصدرية، وكان واسمها، وجملة يستهزئون خبرها، وبه جار ومجرور متعلقان بيستهزئون، والضمير في به يعود على الرسول، والمعنى أنه حاق بهم عاقبة استهزائهم بالرسول المنتظم في سلك الرسل، أو على كلمة ما المصدرية أو الموصولية (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا) كلام مستأنف مسوق للحض على التفكير والسير في الأرض للتأمل في مغاب الأمم السابقة ومصائرها. وجملة سيروا في محل نصب مقول القول، وأتى بثم للإشارة الى البعد الكامن في السير المؤدي الى الاستبصار والتأمل، ولأن وجوب السير لم يكن إلا لبلوغ هذه المرتبة السامية التي هي قصارى ما تطمع إليه الهمم العالية، وفي الأرض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 جار ومجرور متعلقان بسيروا، وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي، وانظروا فعل أمر وفاعل (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) الجملة في محل نصب مفعول انظروا، وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر مقدم لكان، وعاقبة اسمها، ولم تؤنث كان لأن العاقبة مؤنث مجازي، وقد علقت النظر عن العمل لفظا، والمكذبين مضاف إليه. البلاغة: 1- المجاز المرسل في قوله: «عاقبة المكذبين» ، والعلاقة هي المصير والمآل الذي ينتهي اليه مصير المكذبين ومآلهم. 2- في قوله: «ولقد استهزئ» الى قوله: «ما كانوا به يستهزئون» فن يسمى رد الاعجاز على الصدور، وهو عبارة عن كل كلام بين صدره وعجزه رابطة لفظية غالبا، أو معنوية نادرا، ما تحصل بها الملاءمة والتلاحم بين قسمي كل كلام، وهو ثلاثة أقسام: 1- ما وافق آخر كلمة في الكلام آخر كلمة في صدره أو كانت مجانسة لها، كقوله تعالى في سورة «النساء» : «أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا» . 2- ما وافق آخر كلمة من الكلام أول كلمة منه، كقوله تعالى في سورة «آل عمران» : «وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهّاب» . 3- ما وافق آخر كلمة من الكلام بعض كلمات صدره، حيث كانت كالآية التي نحن بصددها. وهذه الروابط كلها لفظية، وقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 تكون معنوية كقوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم» . نماذج شعرية: ومن أمثلة هذا الفن في الشعر قول البحتري: ضرائب أبدعتها في السماح ... فلسنا نرى لك فيها ضريبا وقول أبي تمام: ولم يحفظ مضاع المجد شيء ... من الأشياء كالمال المضاع وأبيات الحماسة المشهورة الرائعة: تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهنّ ولا سرار وتظرّف الثعالبي فجمع بين هذا الفن وفن التجنيس، فقال- ويكاد يكون طريفا لولا مسحة التكلف-: وإذا البلابل أفصحت بلغاتها ... فانف البلابل باحتساء بلابل فالبلابل الأولى جمع بلبل، وهو طائر غرد معروف، والثانية: جمع بلبال، وهو الحزن، والثالثة: جمع بلبلة، بالضم، وهي إبريق الخمر. وتظرّف آخر فجمع بين هذا الفنّ وفنّ التجنيس وفن التورية فقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 لا كان إنسان تيمّم قاصدا ... صيد المها فاصطاده إنسانها فالإنسان الأول هو الشخص المعروف، والإنسان الثاني بؤبؤ العين. وفيما يلي طائفة من أمثلة هذا الفنّ موزّعة على أقسامه الثلاثة المتقدمة. قال أبو العلاء: لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر والخصر بفتحتين: البرودة. وقال أبو تمام: ومن يك بالبيض الكواعب مغرما ... فما زلت بالبيض القواضب مغريا وما أجمل قول بعضهم: فدع الوعيد فما وعيدك ضائري ... أطنين أجنحة الذباب يضير؟ وقال أبو تمام راثيا: ثوى بالثّرى من كان يحيا به الثّرى ... ويغمر حرف الدهر نائله الغمر وقد كانت البيض القواضب قبله ... بواتر فهي الآن من بعده بتر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 [سورة الأنعام (6) : آية 12] قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) الإعراب: (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لتبكيت الكفار وتوبيخهم على ما بدر منهم من تخلّف في الكفر، وعجز عن التأمل والاستبصار. ولمن جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ومن اسم استفهام للتوبيخ والإنكار، وما اسم موصول مبتدأ مؤخر، والجملة في محل نصب مقول القول، وفي السموات جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة «ما» ، والأرض عطف على السموات (قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) كلام مستأنف مسوق ليبدأ الرسول بالجواب الذي ليس ثمة جواب غيره. ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، أي: هو لله، والجملة في محل نصب مقول القول، وجملة كتب على نفسه الرحمة مستأنفة، لأنها مستقلة عما قبلها، غير مندرجة في سلك المقول، وعلى نفسه جار ومجرور متعلقان بكتب، والرحمة مفعول به (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) اللام جواب للقسم المحذوف المفهوم من قوله: «كتب على نفسه» ، كأنه أقسم على ذلك، وجملة يجمعنكم لا محل لها من الإعراب لأنها جواب للقسم، وقد اختلف في هذه الجملة كثيرا ولكن ما ارتأيناه أولى بالصواب. والى يوم القيامة جار ومجرور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 متعلقان بمحذوف حال، أي: مبعوثين أو محشورين الى يوم القيامة، ولا نافية للجنس، وريب اسمها، وفيه جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها، والجملة حالية (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) الذين نصب على الذم، ويجوز أن تعربها مبتدأ خبره جملة فهم لا يؤمنون، وجيء بالفاء لما في الموصول من رائحة الشرط، وجملة خسروا أنفسهم لا محل لها لأنها صلة الموصول، وهم مبتدأ، وجملة لا يؤمنون خبره، وجملة الذين خسروا أنفسهم على وجه النصب على الذم في محل نصب على الحال، وعلى وجه الرفع مستأنفة مسوقة لبيان سبب خسرانهم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 13 الى 14] وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) اللغة: (سَكَنَ) : يحتمل أن يكون من السكنى، ويتعدى بفي، ومعناه حل وثبت. ويحتمل أن يكون من السكون ضد التحرك. واكتفى بأحد الضدين، لأنه يدل على ضده، وخصه بالذكر لأن السكون هو الأصل، والحركة طارئة، ويتعدى بفي أيضا. (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : مبدعهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 ويروى عن ابن عباس قوله: ما عرفت فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: ابتدعتها. وسيأتي مزيد بحث عن هذه المادة. الإعراب: (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) الواو استئنافية، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وما اسم موصول مبتدأ مؤخر، وجملة سكن في الليل والنهار صلة الموصول، واختار الزمخشري أن تكون الواو عاطفة نسقا على قوله: «لله» ، أي على الجملة المحكية ب «قل» ، أي قل: هو لله، وقل: وله ما سكن. ولا بأس بذلك (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الواو عاطفة، وهو مبتدأ، والسميع خبر أول، والعليم خبر ثان (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) كلام مستأنف مسوق لمتابعة الرد عليهم حين دعوه إلى دين آبائه. وقل فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره أنت، والهمزة للاستفهام الإنكاري، وغير الله مفعول به أول لأتخذ، ووليا مفعول به ثان، والجملة في محل نصب مقول القول (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) فاطر السموات والأرض نعت أو بدل لله، والواو عاطفة، وهو مبتدأ، وجملة يطعم بالبناء للمعلوم خبر، وجملة لا يطعم بالبناء للمجهول عطف عليها (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كلام مستأنف مسوق لتكرير الرد عليهم. وإن واسمها، وجملة أمرت خبرها. وإن واسمها وخبرها في محل نصب مقول القول، وأمرت فعل ماض مبني للمجهول، والتاء نائب فاعل، وأن وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، والجار والمجرور متعلقان بأمرت، وأول خبر أكون، ومن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 اسم موصول في محل جر بالإضافة، وجملة أسلم صلة الموصول، ولا تكونن الواو عاطفة، ولا ناهية، وتكونن فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم ب «لا» ، والجملة مقول القول محذوف معطوف على ما تقدم، أي: وقيل لي: لا تكونن، ومن المشركين خبر تكونن. والمعنى أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك. [سورة الأنعام (6) : الآيات 15 الى 18] قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) الإعراب: (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) كلام مستأنف ليكون جوابا ثالثا للردّ عليهم. وإن واسمها، وجملة أخاف خبرها، والجملة في محل نصب مقول القول، وإن شرطية، وعصيت ربي فعل ماض وفاعل ومفعول به في محل جزم فعل الشرط، والجواب محذوف دلّ عليه ما قبله، والجملة الشرطية يجوز أن تكون معترضة بين فعل أخاف ومفعوله، وهو: عذاب يوم عظيم، ويجوز أن تكون حالية، والأول أولى، ويوم مضاف اليه، وعظيم صفة (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 رَحِمَهُ) الجملة صفة لعذاب يوم عظيم، ومن شرطية في محل رفع مبتدأ، ويصرف فعل الشرط وهو مبني للمجهول، ونائب الفاعل مستتر تقديره هو، وعنه جار ومجرور متعلقان بيصرف، ويومئذ ظرف مضاف الى مثله متعلق بيصرف، والتنوين في «إذ» عوض عن جملة، وسيأتي بحثه في باب الفوائد. والفاء رابطة لجواب الشرط، وقد حرف تحقيق، ورحمه فعل ومفعول به، والجملة في محل جزم جواب الشرط، وجملة فعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر «من» . (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) الواو استئنافية أو حالية، وذلك اسم إشارة في محل رفع مبتدأ، والفوز خبر، والمبين صفة والجملة مستأنفة أو حالية (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) الواو عاطفة، وإن شرطية ويمسسك فعل الشرط، والكاف مفعول به المقدم، والله فاعله المؤخر لفظا، وبضرّ جار ومجرور متعلقان بيمسسك، فلا الفاء رابطة للجواب لأن الجواب جملة اسمية، ولا نافية للجنس، وكاشف اسمها المبني على الفتح، وله جار ومجرور متعلقان بكاشف، وإلا أداة حصر وهو بدل من محل لا واسمها، وخبر «لا» محذوف، أي: موجود والجملة في محل جزم جواب الشرط (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) عطف على ما تقدم، وجملة: «وهو على كل شيء قدير» تعليلية لجواب الشرط المحذوف، أي: فلا رادّ له غيره، وهو مبتدأ، وقدير خبر، وعلى كل شيء متعلقان بقدير (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) الواو استئنافية أو حالية، وهو مبتدأ، والقاهر خبر، وفوق عباده ظرف متعلق بالقاهر، ويجوز أن يتعلق بمحذوف خبر ثان أو بمحذوف حال، أي: مستعليا. والصورة رائعة للقهر والعلوّ بالغلبة والقدرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 الفوائد: (يَوْمَئِذٍ) التنوين اللاحق ل «إذ» في نحو: يومئذ وحينئذ، عوض عن الجملة التي تضاف «إذ» إليها، والأصل: يوم إذ يصرف عنه فقد رحمه، فحذفت جملة «يصرف عنه» وجيء بالتنوين عوضا عن الجملة المحذوفة، إيجازا وتحسينا، فالتقى ساكنان: ذال «إذ» والتنوين، فكسرت الذال على أصل التقاء الساكنين، وليست هذه الكسرة كسرة إعراب باضافة «يوم» إليها لأن «إذ» ملازمة للبناء لشبهها بالحرف في الافتقار الى جملة وفي الوضع على حرفين، وليست الاضافة في «يومئذ» ونحوها من إضافة أحد المترادفين للآخر، بل من إضافة الأعم الى الأخص، كشجر أراك. [سورة الأنعام (6) : آية 19] قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) اللغة: (شَيْءٍ) الشيء: ما يصحّ أن يعلم ويخبر عنه، ويجمع على أشياء. وقد تقدم القول في منع أشياء من الصرف، والشيء في اصطلاح المتكلمين هو أعم العام لوقوعه على كل ما يصح أن يندرج تحته. وقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 شجر بين المتكلمين خلاف نلمح إليه لطرافته، فقد ذهب الأشاعرة- وهم من أهل السنة- إلى أنه الموجود ليس إلّا، وخالفهم المعتزلة بأنه الذي يصح وجوده، فشمل المعدوم. ولكن الفريقين اتفقا على خروج المستحيل من مفهومه. والمفهوم اللغوي أنه لا يتناوله، قال أبو الطيب المتنبي: وضاقت الأرض حتى كاد هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنّه رجلا الإعراب: (قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) كلام مستأنف مسوق للردّ على من طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يريهم من يشهد له بأنه رسول الله. وقل فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت، وأي شيء مبتدأ، وأكبر خبر، وشهادة تمييز محوّل عن المبتدأ، والجملة في محل نصب مقول القول (قُلِ: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) الجملة مستأنفة مسوقة لتهيئة الرد عليهم، والله مبتدأ، وشهيد خبره، والظرفان متعلقان بشهيد، والجملة في محل نصب مقول القول. وإذا كان الله هو الشهيد بينهم وبينه فهو أكبر شهادة (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) الواو عاطفة أو استئنافية، وأوحي فعل ماض مبني للمجهول، وإلى جار ومجرور متعلقان بأوحي، وهذا اسم إشارة في محل رفع نائب فاعل أوحي، والقرآن بدل من اسم الاشارة، والجملة معطوفة أو مستأنفة بمثابة التعليل، والمعنى أن شهادة الله لي بأني رسوله كافية في نزول هذا القرآن، واللام للتعليل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 وأنذركم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام، والكاف مفعول، ومن الواو عاطفة، ومن اسم موصول منسوق على الكاف في أنذركم، أي: لأنذركم وأنذر كل من بلغه القرآن (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى) الهمزة للاستفهام الإنكاري التقريري، وإن واسمها، واللام المزحلقة، وجملة تشهدون خبرها، وأن واسمها وخبرها سدت مسد مفعول تشهدون، والجملة الاستفهامية في محل نصب مقول قول محذوف أي: ويقول: أئنكم لتشهدون، وأن حرف مشبه بالفعل ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر أن المقدم، وآلهة اسمها المؤخر، وأخرى صفة لآلهة (قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير الردّ عليهم، لا نافية وأشهد فعل مضارع، والجملة نصب على أنها مقول القول، وقل فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت، والجملة مستأنفة أيضا للغرض نفسه، وإنما كافة ومكفوفة، وهو مبتدأ وإله خبر، وواحد صفة، وإنني الواو عاطفة، وإن واسمها، وبريء خبرها، والجملة منسوقة على ما قبلها، ومما جار ومجرور متعلقان ببريء، و «ما» يحتمل أن تكون مصدرية أو موصولة، أي: من إشراككم بالله، أو من الأصنام التي تشركونها مع الله. [سورة الأنعام (6) : الآيات 20 الى 21] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 الإعراب: (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) كلام مستأنف مسوق للرد على الذين يزعمون أن أهل الكتاب لا يعرفونه، أي الرسول، ويجوز أن يعود الضمير على القرآن. والذين اسم موصول في محل رفع مبتدأ، وجملة آتيناهم صلة الموصول، والكتاب مفعول به ثان، وجملة يعرفونه خبر الذين، وكما الكاف حرف جر، وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالكاف، والجار والمجرور نصب على المفعولية المطلقة، وقد تقدمت له نظائر كثيرة. وأبناءهم مفعول به (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) الذين مبتدأ أيضا، وجملة خسروا صلة الموصول، وأنفسهم مفعول به، والفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط، وهم مبتدأ ثان وجملة لا يؤمنون خبر «هم» ، والمبتدأ الثاني وخبره خبر الذين، ولك أن تعربه خبرا لمبتدأ محذوف، أي: هم الذين خسروا أنفسهم، وأعربها ابن جرير نعتا ل «الذين» الأولى، وهو سائغ. وقيل: هو منصوب على الذّم، وهو محتمل أيضا (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) الواو استئنافية، ومن اسم استفهام معناه النفي والتوبيخ، أي لا أحد أظلم، وهو مبتدأ، وأظلم خبر، وممن جار ومجرور متعلقان بأظلم، وجملة افترى صلة الموصول، وعلى الله جار ومجرور متعلقان بافترى، وكذبا مفعول به (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) عطف على جملة افترى داخلة في حيز الصلة (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) إن واسمها، وجملة لا يفلح الظالمون خبر، والجملة تعليل لما سبق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 [سورة الأنعام (6) : الآيات 22 الى 23] وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) الإعراب: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) الواو استئنافية، ويوم ظرف ناصبه محذوف مبهم زيادة في التخويف والتهويل، والمعنى: ويوم نحشرهم كان كذا وكذا. ويجوز أن يكون مفعول ل «اذكر» مقدرا، وجملة نحشرهم في محل جر بإضافة الظرف إليها، والهاء مفعول به، وجميعا حال (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) ثم حرف عطف للتراخي، لطول المدة بين الحشر والقول، وللذين جار ومجرور متعلقان بنقول، وجملة أشركوا صلة الموصول، وأين اسم استفهام في محل نصب ظرف مكان، والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم، وشركاؤكم مبتدأ مؤخر، والذين اسم موصول صفة لشركاء، وجملة كنتم صلة، والتاء اسم كنتم، وجملة تزعمون خبرها، ومفعولا تزعمون محذوفان للعلم بهما، أي: تزعمونهم شركاء (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) ثم حرف عطف للتراخي، ولم حرف نفي وقلب وجزم، وتكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم، وفتنتهم اسم تكن. وإلا أداة حصر، وأن ما في حيزها في تأويل مصدر خبر تكن (وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) الواو حرف قسم وجر، ولفظ الجلالة مجرور بالواو، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره «نقسم» ، وربنا بدل أو نعت ل «الله» ، وجملة القسم في محل نصب مقول قولهم، وما نافية، وكان واسمها، ومشركين خبرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 [سورة الأنعام (6) : الآيات 24 الى 25] انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) اللغة: (أَكِنَّةً) الأكنّة: جمع كنان بكسر الكاف، وهو وقاء كل شيء وستره، ويجمع على أكنان أيضا. وكنّه وأكنّه: ستره، قال أبو زيد: الثلاثي والرباعي لغتان في الستر والإخفاء جميعا، واستكن استتر، وأكننته في نفسي: سترته وأضمرته. وسميت جعبة السهام كنانة لأنها تسترها فإذا أراد إخراجها نثرها، ومنه قول الحجاج في خطبته «نثر كنانته بين يديه» . وكانون الشتاء الذي هو أشده بردا، ومن أقوالهم: «أحسن من الكانون في الكانون» ، والكانون الأول المصطلى. والكنة بفتح الكاف امرأة الابن أو الأخ، وجمعها كنائن، ومن معاني الكانون: الثقيل، ومنه قول الحطيئة يهجو أمه: أغر بالًا إذا استودعت سرّا ... وكانونا على المتحدثينا ومن العاميّ الفصيح قولهم: «كنكن في البيت» أي: رزمه واستقر فيه، وخاصة في الشتاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 (وَقْراً) الوقر: بفتح الواو مصدر وقرت أذنه، أي ثقلت وذهب سمعه، والكلمة من المجاز. ومن غريب أمر هذه المادة أنها تدل على الثقل والرزانة، يقال: وقر يقر- بكسر عين المضارع- العظم: صدعه، ووقر يقر قرة ووقارة ووقرا الرجل كان رزينا ذا وقار وثبت. ووقرت أذنه من باب تعب: ثقلت أو ذهب سمعه. والوقار: الحلم والرزانة، وهو مصدر وقر بالضم، والمرأة وقور: فعول بمعنى فاعل، مثل صبور وشكور، قال أبو فراس: وقور وريعان الصبا يستفزّها ... فتأرن أحيانا كما يأرن المهر (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) : في مختار الصحاح: الأساطير: الأباطيل، والواحدة أسطورة بالضم، وإسطارة بالكسر. وقال غيره: إنه جمع جمع، فأساطير جمع أسطار، وأسطار جمع سطر بفتح الطاء. وأما سطر بسكونها فجمعه في القلة على أسطر، وفي الكثرة على سطور، وقيل: إنه جمع جمع الجمع، فأساطير جمع أسطار، وأسطار جمع أسطر، وأسطر جمع سطر، وقال المبرّد: إنه جمع أسطورة، نحو: أرجوحة وأراجيح، وأحدوثة وأحاديث. ومعنى الأساطير الأحاديث الباطلة. الإعراب: (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) كلام مستأنف مسوق للإخبار عنهم بالكذب. وانظر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت، وكيف اسم استفهام في محل نصب حال، وكذبوا فعل وفاعل، والجملة في محل نصب بانظر لأنها معلقة لها عن العمل، وعلى أنفسهم جار ومجرور متعلقان بكذبوا (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) يجوز أن تكون الواو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 عاطفة، فتكون الجملة منسوقة على جملة كذبوا، فتكون داخلة في حيّز النظر، ويجوز أن تكون الواو استئنافية، فتكون الجملة مستأنفة، مسوقة للإخبار بها عن كذبهم. وضلّ فعل ماض، وعنهم جار ومجرور متعلقان بضل، وما يجوز أن تكون موصولة اسمية، فتكون فاعلًا لضلّ، وجملة كانوا يفترون صلة، ويجوز أن تكون مصدرية فالمصدر المؤوّل هو فاعل ضلّ، وجملة يفترون خبر كان (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) الواو عاطفة، أو استئنافية، ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ومن اسم موصول مبتدأ مؤخر، وجملة يستمع صلة، وإليك جار ومجرور متعلقان بيستمع، وسيأتي سر إفراد الصلة في باب البلاغة (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) الواو عاطفة على الجملة قبلها من عطف الفعلية على الاسمية. وقيل: الواو للحال بتقدير «قد» ، أي: وقد جعلنا. وجعلنا فعل وفاعل، وعلى قلوبهم جار ومجرور متعلقان بجعلنا على أنه مفعوله الثاني، هذا إذا اعتبرنا جعلنا للتصيير، وأما إذا كانت بمعنى خلقنا فتتعدى لواحد وهو أكنة، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال منه، لأنهما لو تأخرا لوقعا صفة له، وأن يفقهوه مصدر مؤول في محل نصب مفعول لأجله على حذف مضاف، أي: كراهية أن يفقهوه، وفي آذانهم وقرا عطف على الجملة السابقة (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) الواو عاطفة، وإن شرطية ويروا فعل الشرط والواو فاعل وكل آية مفعول به ولا نافية ويؤمنوا جواب الشرط وبها جار ومجرور متعلقان بيؤمنوا (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) يجوز أن تكون «حتى» هنا غاية وجر، ويكون «إذا جاءوك» في محل الجر، بمعنى: حتى وقت مجيئهم، وجملة يجادلونك حال، ويجوز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 أن تكون حتى ابتدائية، وهي التي تقع بعدها الجمل، وعلى كل حال جملة يجادلونك حال من الواو في جاءوك (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، والذين فاعل، وجملة كفروا صلة، وإن نافية، وهذا اسم إشارة مبتدأ، وإلا أداة حصر، وأساطير الأولين خبر، والجملة المنفية في محل نصب مقول القول. البلاغة: الكناية- في جعل الأكنة- على القلوب والوقر في الآذان عن نبوّ قلوبهم ومسامعهم عن قبول الحق والاعتقاد بصحته، ونزيد هنا أن الكناية مزية إعطاء المعاني صورة المحسسات، وهذه المزية من أبرز خواص الفنون، فان المصوّر إذا رسم لك صورة للأمل أو اليأس بهرك وجعلك ترى ما كنت تعجز عن التعبير عنه واضحا ملموسا، وعلى هذا تتضح لك روعة الصورة لهؤلاء الذين ضربت على قلوبهم الأسداد، وتبلدت منهم الأذهان، فما تتمخض عن ذوق ولا تسفر عن فنّ، ولا تهيج إلى معرفة، ومن هذا القبيل في إظهار الروعة قول البحتريّ: يغضّون فضل اللحظ من حيث ما بدا ... لهم عن مهيب في الصدور محبّب فإنه كنى عن إكبار الناس للمدوح وهيبتهم إياه بعض الأبصار الذي هو في الحقيقة برهان على الهيبة والإجلال، وتظهر هذه الخاصة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 جلية في الكنايات التي سترد عليك في القرآن عن الصفة والموصوف والنسبة، مما سنشير إليه في مواطنه. [سورة الأنعام (6) : الآيات 26 الى 27] وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) الإعراب: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) الواو استئنافية، وهم مبتدأ، وجملة ينهون خبر، وعنه جار ومجرور متعلقان بينهون، وضمير «هم» يعود على الكفار، وضمير «عنه» يعود على القرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم وجملة ينأون عنه عطف على ينهون عنه (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) الواو حالية، وإن نافية، ويهلكون فعل مضارع وفاعل، وإلا أداة حصر، وأنفسهم مفعول به، والواو حرف عطف، وما نافية، وجملة يشعرون معطوفة على يهلكون (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في وصف ما يصدر عنهم يوم القيامة من أحوال متناقضة متهافتة، والواو شرطية، وترى فعل مضارع، وجواب لو محذوف لفهم المعنى، والتقدير: لرأيت شيئا مذهلًا عظيما. والرؤية هنا يجوز أن تكون قلبية: أي لو انصرفت إليهم بقلبك وفكرك لتتدبر أحوالهم وتكتنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 حقيقة أمرهم في ذلك الوقت تزداد يقينا. ويجوز أن تكون بصرية ومفعولها محذوف، أي: لو ترى أحوالهم وتعاينها عن كثب. وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بتري، وجملة وقفوا في محل جر بالاضافة، والواو نائب فاعل، وعلى النار جار ومجرور متعلقان بوقفوا (فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الفاء حرف عطف، وقالوا عطف على وقفوا، ويا حرف نداء، والمنادى محذوف، أو هي لمجرد التنبيه، وليت واسمها، وجملة نرد خبرها، والواو للمعية، ولا نافية، ونكذب فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد واو المعية، وأن وما بعدها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متوهم، والتقدير: يا ليتنا لنا رد وانتفاء تكذيب والكون من المؤمنين، وجملة التمني في محل نصب مقول القول، ولأبي جعفر الطبري كلام مطوّل حول قراءة «ولا نكذب» بالرفع، وانتهى الى ترجيحها على قراءة النصب، وهو مجرّد تعسف. والواو حرف عطف، ونكون عطف على نكذب، واسم نكون مستتر تقديره نحن، ومن المؤمنين خبرها. البلاغة: في هذه الآية فنان جميلان: 1- الجناس بين ينهون وينأون، وهو جناس التصريف الذي هو اختلاف صيغة الكلمتين بإبدال حرف من حرف أو من قريب من مخرجه، سواء أكان الإبدال في الأول أم في الوسط أم في الآخر، ومن طربف هذا التجنيس في الشعر قول البحتري: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 عجب الناس لاغترابي وفي الأطراف تلقى منازل الأشراف وقعودي عن التقلب والأر ... ض لمثلي رحيبة الأكناف ليس عن ثروة بلغت مداها ... غير أني امرؤ كفاني كفافي وجميل قول أبي فراس الحمدانيّ: تعس الحريص وقل ما يأتي به ... عوضا عن الإلحاح والإلحاف إن الغنيّ هو الغنيّ بنفسه ... ولو انه عاري المناكب حافي ما كلّ ما فوق البسيطة كافيا ... وإذا قنعت فكلّ شيء كاف وبلغ الشريف الرضيّ الغاية منه حيث قال: لا يذكر الرمل إلا حنّ مغترب ... له إلى الرمل أوطار وأوطان 2- والفن الثاني: هو الإيجاز بحذف جواب «لو» في الآية الثانية، ومفعول ترى فيها أيضا. والحذف كثير شائع في القرآن، وفائدته أن النفس تذهب في تقدير المحذوف كل مذهب، والخيال يتسع للتقدير، ومما جاء من حذف جواب لو قول أبي تمام في قصيدته البائية التي يمدح بها المعتصم بالله عند فتحه عمورية: لو يعلم الكفر كم من أعصر كمنت ... له المنيّة بين السّمر والقضب أي لو يعلم الكفر ذلك لأخذ أهبته، أو لما أقدم على ما فرط منه. على أن حذف الجواب لا بد له من دليل يدل عليه، ولذلك ورد الجواب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 في قوله تعالى: «ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلّوا فيه يعرجون لقالوا: إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون» إذ لو حذف الجواب لما علم مكان المحذوف. الفوائد: كان المشركون يظنون أنهم يستطيعون أن يضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستطيعون إيذاءه وكان عمّه أبو طالب يحول بينهم وبين ابن أخيه فقال من نظمه: والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وابشر بذاك وقرّ منه عيونا ودعوتني وزعمت أنك ناصح ... ولقد صدقت وكنت ثمّ أمينا وعرضت دينا لا محالة أنه ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذاري سبّةً ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا [سورة الأنعام (6) : الآيات 28 الى 29] بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) الإعراب: (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) بل حرف إضراب وعطف، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 والمراد بالإضراب هنا إبطال كلام الكفرة، وبدا فعل ماض، ولهم جار ومجرور متعلقان ببدا، وما اسم موصول في محل رفع فاعل بدا، وجملة كانوا صلة الموصول، وكان واسمها، وجملة يخفون خبر كانوا، ومن قبل جار ومجرور متعلقان بيخفون (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) الواو عاطفة، ولو شرطية، وردوا فعل ماض ونائب فاعل، واللام واقعة في جواب لو، وجملة لعادوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، ولما اللام حرف جر، وما اسم موصول في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بعادوا، وجملة نهوا عنه صلة الموصول، والجار والمجرور متعلقان بنهوا (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) الواو حالية، وإن واسمها، واللام المزحلقة وكاذبون خبر إن (وَقالُوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) يجوز أن تكون الواو عاطفة على جملة عادوا، فالجملة داخلة في حيز الجواب، أو على قوله «وإنهم لكاذبون» ، ويجوز أن تكون استئنافية وإن نافية وهي مبتدأ، وإلا أداة حصر، وحياتنا خبر، والدنيا صفة، والواو عاطفة، وما حجازية تعمل عمل ليس، ونحن ضمير منفصل في محل رفع اسمها، والباء حرف جر زائد ومبعوثين مجرور لفظا خبر «ما» الحجازية محلًا. [سورة الأنعام (6) : آية 30] وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) الإعراب: (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) الواو استئنافية، ولو شرطية، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 وترى فعل مضارع وهو شرط لو، وجوابها محذوف لفهم المعنى، والتقدير: لرأيت شيئا عظيما، و «ترى» يجوز أن تكون بصرية ومفعولها محذوف، ويجوز أن تكون قلبية، والمعنى لو حرفت قلبك وفكرك لتتدبر أحوالهم وتكتنه حقيقة أمرهم في ذلك الوقت لازددت يقينا. وإذ ظرف لما مضى متعلق بتري، وجملة وقفوا في محل جر بالاضافة، والواو نائب فاعل، وعلى ربهم جار ومجرور متعلقان بوقفوا (قالَ: أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ) الجملة مستأنفة مسوقة لتكون جواب سؤال مقدر تقديره: ماذا قال لهم ربهم إذا وقفوا عليه؟ ويجوز أن تكون حالية وصاحب الحال «ربهم» ، كأنه قيل: وقفوا عليه قائلًا لهم: أليس هذا بالحق؟ والهمزة للاستفهام التوبيخي الإنكاري، وليس فعل ماض ناقص، وهذا اسم اشارة في محل رفع اسمها، والباء حرف جر زائد، والحق مجرور بالباء لفظا منصوب محلًا على أنه خبر ليس (قالُوا: بَلى وَرَبِّنا) كلام مستأنف مسوق لتأكيد اعترافهم باليمين. وبلى حرف جواب لإثبات النفي، وربنا الواو حرف قسم وجر، وربنا مجرور بواو القسم، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره، نقسم (قالَ: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان ما قال لهم. والفاء الفصيحة، أي: إذا علمتم هذا ثم انحرفتم عن مقتضاه فذوقوا العذاب، والعذاب مفعول به لذوقوا، والباء حرف جر، وما موصولية أو مصدرية، أي: بالذي كنتم، أو بكونكم كفرتم، وكان واسمها، وجملة تكفرون خبر كنتم. البلاغة: الاستعارة المكنية في قوله: «فذوقوا العذاب» ، وقد تقدم القول فيها، فجدّد به عهدا: والله يعصمك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 [سورة الأنعام (6) : آية 31] قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) اللغة: (أَوْزارَهُمْ) الأوزار: جمع وزر بكسر الواو، وهو الحمل الثقيل، والوزر في الأصل: الثقل، ومنه وزرته، ووزير الملك من هذا، لأنه يتحمل أعباء ما قلده من أمور الرعية، ومنه أوزار الحرب لسلاحها وعتادها وآلتها، قال الأعشى: وأعددت للحرب أوزارها ... رماحا طوالًا وخيلًا ذكورا ووضعت الحرب أوزارها: أي أثقالها، كناية عن توقفها. الإعراب: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان مصير هؤلاء الذين حكيت أقوالهم. وقد حرف تحقيق، وخسر فعل ماض، والذين اسم موصول فاعله، وجملة كذبوا صلة، وبلقاء الله جار ومجرور متعلقان بكذبوا (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) تقدم القول قريبا في أن «حتى» في مثل هذا التركيب يجوز أن تكون غاية للتكذيب لا للخسران، أو ابتدائية، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 الشرط، وجملة جاءتهم الساعة في محل جر بالإضافة. وبغتة حال أو منصوب على المصدر، قال سيبويه: وهي مصدر في موضع الحال، قال. ولا يجوز أن يقاس عليه. فلا يقال: جاء فلان سرعة (قالُوا: يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم. وقالوا فعل وفاعل، ويا حرف نداء، وحسرتنا منادى مضاف، وعلى ما فرطنا متعلقان بالحسرة، وجملة فرطنا فيها صلة «ما» (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) الواو حالية، وهم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ، وجملة يحملون خبر، وعلى ظهور هم جار ومجرور متعلقان بيحملون (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) ألا أداة تنبيه، وساء فعل ماض لإنشاء الذم، وما نكرة تامة منصوبة على التمييز، أو اسم موصول فاعل، وجملة يزرون صفة على الأول، وصلة على الثاني. البلاغة: 1- الاستعارة التصريحية، فقد شبه الذنوب بالأوزار الثقيلة، ثم حذف المشبه وأبقى المشبه به. 2- فنّ المقارنة: فقد اقترن ضربان من فنون البديع في الكلام، وهما التنكيت والمبالغة، فإن لقائل أن يقول: ما النكتة التي رجّحت اختصاص الظهور بالحمل دون الرؤوس؟ والجواب أن النكتة في ذلك الإشارة الى ثقل الأوزار، لأن الظهور أحمل للثقل من الرؤوس، وما يلزم من ذكر الظهور عن عجز الرؤوس عن حمل هذه الأوزار من المبالغة في ثقلها مقترن بالتنكيت، وما اكتنف هذا الاقتران من تجنيس المزاوجة في قوله تعالى: «أوزارهم» قبل قوله: «على ظهورهم» ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 وقوله تعالى: «يزرون» بعدها، وترشيح هذا التجنيس لتمكين الفاصلة بالتصدير، واقتران الترشيح بالتصدير. نموذج شعري: ومن نماذج هذا الفنّ الشعري قول إدريس بن اليمان: وكنت إذا استنزلت من جانب الرضا ... نزلت نزول الغيث في البلد المحل وإن هيّج الأعداء منك حفيظة ... وقعت وقوع النار في الحطب الجزل فإن الشاعر قرن في البيت الاستعارة في قوله «نزلت نزول الغيث» بالتشبيه فقد استعار الشاعر النزول للمدوح، لأن حقيقة ما أراد: إذا استرضيت رضيت، وأما التشبيه ففي قوله: «نزول الغيث» فإن التقدير: نزلت نزولا مثل نزول الغيث، وقرن تجنيس التغاير في قوله «نزلت نزول الغيث» فإن اللفظة الأولى فعل والثانية اسم بالترشيح، فإنه رشح بذلك التجنيس للإيغال، وجاءت المبالغة مدمجة في التشبيه، إذ شبه نزوله بنزول الغيث، وقرن في البيت الثاني الاستعارة التي في قوله: «وقعت» بالتشبيه الذي في لفظ: «وقوع النار» وأدمج المبالغة في هذا التشبيه، لأن قوله: «وقعت وقوع النار» مبالغة، وأدمج في تجنيس التغاير الذي في لفظتي «وقعت» و «وقوع» ، والترشيح للإيغال. وجميلة المقارنة في قول تميم بن مقبل: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 لدن غدوة حتى نزعنا عشيّة ... وقد مات شطر الشمس والشطر مدنف فإنه قرن في هذا البيت الإرداف والاستعارة، لأنه عبر عن الغروب بموت شطر الشمس في أوائل العجز، وهذا هو الإرداف، واستعار للشطر الآخر الدنف وهو شدة المرض، وهذا بليغ جدا حيث أتت المقارنة في عجز البيت وحده. [سورة الأنعام (6) : الآيات 32 الى 33] وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) الإعراب: (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد ما وراء الطبيعة، وأن هناك حياة أخرى، وتبيان حقيقة تينك الحياتين. وما نافية، والحياة مبتدأ والدنيا صفة، وإلا أداة حصر، ولعب خبر الحياة، ولهو عطف على لعب (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) الواو حالية، واللام لام الابتداء، والدار مبتدأ والآخرة صفة، وخير خبر، وللذين جار ومجرور متعلقان بخير، وجملة يتقون صلة الموصول، والجملة نصب على الحال. ولك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 أن تجعل الواو استئنافية فتكون الجملة مستأنفة مسوقة لإتمام بيان حال الحياتين، والهمزة للاستفهام الإنكاري داخلة على مقدر، والفاء حرف عطف، والمعطوف عليه محذوف، والتقدير: أتغفلون فلا تعقلون، والجملة الاستفهامية مستأنفة (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة للتسرية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد في الأصل للتقليل، ولكن أريد بها التكثير، وسيرد تفسير ذلك في باب البلاغة. ونعلم فعل مضارع متعد لاثنين، وما بعده سادّ مسدّهما، فانه معلق عن العمل بلام الابتداء، وكسرت همزة إن لدخول اللام في حيزها، وإنه واسمها، وجملة يحزنك خبر إن، والذي فاعل يحزنك، وجملة يقولون صلة (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) الفاء تعليلية، وإن واسمها، ولا نافية، وجملة لا يكذبونك خبرها، ولكن الواو حالية أو عاطفة، ولكن واسمها، وبآيات الله جار ومجرور متعلقان بيجحدون، وجملة يجحدون خبر لكن. البلاغة: في الآية الثانية نوعان من البلاغة: 1- الرجوع الى الضد فيما بلغ الغاية، وهي سنة من سنن العرب ولطائفهم، فيسمون الجميلة المفرطة في جمالها قبيحة، ويعبرون عن الشيء بضده، وقد رمق أبو الطيب المتنبي سماء هذه البلاغة بقوله: ولجدت حتى كدت تبخل حائلا ... للمنتهى ومن السرور بكاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 يريد أنك بلغت في الجود أقصى غايته وطلبت شيئا آخر وراءه فلم تجد فكدت تحول أي ترجع عن آخره لما انت هيت اليه، إذ ليس من شأنك أن تقف في الكرم على غاية بعد بلوغك غايته. وهذا من أحسن الكلام أي إذا تناهى الإنسان في الجود كاد يعود الى البخل. وفي الآية عبر ب «قد» التي هي للتقليل إذا دخلت على الفعل المضارع تنبيها على زيادة الفعل، والمراد بكثرة علمه تعالى كثرة متعلقاته. وسيرد الكثير منه في هذا الكتاب. 2- أقام الظاهر مقام المضمر بقوله: «ولكن الظالمين» وقياس الظاهر يقتضي إضماره، ولكنه عدل عن القياس للإسهاب في ذمهم وللتصريح بلفظ الظلم وتسميتهم به، ليكون سمة يتميزون بها زيادة في تأكيد ذمهم. [سورة الأنعام (6) : آية 34] وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) الإعراب: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة للتسرية عنه، صلى الله عليه وسلم، واللام جواب للقسم المحذوف، وقد حرف تحقيق، وكذبت فعل ماض مبني للمجهول، والتاء تاء التأنيث الساكنة، ورسل نائب فاعل، ومن قبلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لرسل (فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) الفاء عاطفة، وصبروا فعل وفاعل عطف على كذبت، و «على ما» جار ومجرور متعلقان بصبروا و «ما» مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر، أي: على تكذيبهم، وأوذوا عطف على «صبروا» ، وحتى تحتمل الغاية- ولعلها هنا أرجح- وتحتمل أن تكون ابتدائية، وأتاهم نصرنا فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) الواو حالية، ولا نافية للجنس، ومبدل اسمها المبني على الفتح، ولكلمات الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر، والواو استئنافية، واللام جواب القسم محذوف، وقد حرف تحقيق، وجاءك فعل ومفعول به، وفاعل جاءك مشكل، والظاهر أن الجار والمجرور متعلقان بمحذوف هو صفة للفاعل نابت منابه، أي جاءك بعض أنبائهم أو مزيد من أنبائهم وقصصهم، ويجوز أن يعلق الجار والمجرور بمحذوف حال من الفاعل المستتر في جاء، والعائد الى ما هو مفهوم من الجملة السابقة، أي: ولقد جاءك هذا الخبر كائنا من نبأ المرسلين. والأول أسهل، وأبعد عن التكلف. البلاغة: الالتفات البديع من ضمير الغيبة الى ضمير المتكلم في قوله تعالى: «حتى أتاهم نصرنا» ، إذ قبله: «بآيات الله يجحدون» ، ولو جرى الكلام على نسقه لقيل: نصره، وفائدة هذا الالتفات- بالإضافة الى تطرية الكلام وتنويعه- إسناد النصر الى ضمير المتكلم المشعر بالعظمة، والحافز على وجوب مداومة الجهاد والنضال والصمود في سبيل تحقيق المطمح الكبير، وتأدية الرسالة السامية المثلى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 [سورة الأنعام (6) : آية 35] وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) اللغة: (نَفَقاً) النفق: سرب في الأرض له مخرج الى مكان معهود، ومنه نفق السكة الحديدية. وقد تقدم البحث مستوفى في هذه المادة. (السلم) : هو المصعد، وقيل: هو الدّرج، وقيل: هو السبب أيّا كان، تقول العرب: اتخذني سلما لحاجتك، أي: سببا، وهو مشتق من السلامة، لأن الصاعد به تكتب له السلامة. والأفصح تذكيره، وحكى الفرّاء تأنيثه عن العرب. الإعراب: (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) كلام مستأنف مسوق لتأكيد وجوب صبره صلى الله عليه وسلم. وإن شرطية، وكان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط، واسم كان هو ضمير الشأن، وجملة كبر عليك إعراضهم خبر، وعليك جار ومجرور متعلقان بكبر، وإعراضهم فاعل (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ) الفاء رابطة لجواب الشرط، والجملة في محل جزم جواب الشرط، وإن شرطية أيضا، واستطعت فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف، أي: فافعل. والمعنى: إن استطعت منفذا تحت الأرض تنفذ فيه فتطلع لهم بآية، أو سلما تصعد به الى السماء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 فتنزل منها بآية فافعل، وأن تبتغي مصدر مؤول في محل نصب مفعول استطعت، والشرط الثاني وجوابه جواب الشرط الأول، وفي الأرض صفة ل «نفقا» وفي السماء جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ل «سلما» (فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) الفاء حرف عطف، وتأتيهم فعل مضارع معطوف على تبتغي، والواو استئنافية، ولو شرطية، وشاء الله فعل وفاعل، واللام واقعة في جواب لو، وجملة جمعهم على الهدى لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) الفاء الفصيحة، أي: إذا عرفت هذا فلا تكونن، ولا ناهية، وتكونن فعل مضارع ناقص مبني على الفتح في محل جزم ب «لا» ، ومن الجاهلين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر تكونن. [سورة الأنعام (6) : الآيات 36 الى 38] إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 الإعراب: (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) كلام مستأنف مسوق لتأكيد أن عدم استجابتهم ناشىء عن وجود الأكنة على قلوبهم والوقر في آذانهم، لأنهم يحسبون في عداد الأحياء وهم في الحقيقة موتى. وإنما كافة ومكفوفة، ويستجيب فعل مضارع مرفوع، والذين فاعله، وجملة يسمعون صلة الموصول لا محل لها، والموتى الواو يجوز أن تكون مستأنفة، والموتى مبتدأ، وجملة يبعثهم الله خبره، ويجوز أن تكون الواو عاطفة، والموتى منصوب على الاشتغال بفعل مضمر يفسره الاسم الظاهر بعده وتكون جملة يبعثهم الله مفسرة لا محل لها، ولعل هذا الوجه أولى، لينسجم التركيب. وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي، واليه جار ومجرور متعلقان بيرجعون، ويرجعون فعل مضارع عطف على جملة يبعثهم (وَقالُوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) الواو استئنافية، وقالوا فعل وفاعل، والجملة مستأنفة لحكاية نمط آخر من أنماط جناياتهم، ولولا حرف تحضيض، ونزل فعل ماض مبني للمجهول، وعليه جار ومجرور متعلقان بنزل، وآية نائب فاعل، ومن ربه جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لآية، والجملة في محل نصب مقول قولهم. (قُلْ: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) الجملة مستأنفة مسوقة للدلالة على إفراطهم في اللجاجة، وتماديهم في الفساد، مع ترادف الآيات وتتابعها. وإن واسمها وخبرها، والجملة في محل نصب مقول القول، وعلى حرف جر، وإن وما في حيزها في تأويل مصدر مجرور بعلى، والجار والمجرور متعلقان بقادر، وآية مفعول به لينزل (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الواو حالية، ولكن واسمها، ولا نافية، وجملة يعلمون خبرها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 والجملة نصب على الحال (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان قدرته تعالى وعلمه وتدبيره. وما نافية، ومن حرف جر زائد، ودابة اسم مجرور بمن لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لدابة، والواو حرف عطف، ولا نافية، وطائر اسم معطوف على دابة، وجملة يطير بجناحيه صفة لطائر، وسيأتي مزيد من بحث هذه الآية في باب البلاغة (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) إلا أداة حصر، وأمم خبر دابة، وأمثالكم صفة لأمم (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) ما نافية، وفرطنا فعل وفاعل، وفي الكتاب جار ومجرور متعلقان بفرطنا، ومن حرف جر زائد، وشيء مجرور لفظا منصوب محلا على المصدرية أو المفعولية وجملة ما فرطنا استئنافية، وسيأتي مزيد من إعراب هذا الكلام في باب الفوائد، وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي، والى ربهم جار ومجرور متعلقان بيحشرون، ويحشرون فعل مضارع معطوف على ما تقدم. البلاغة: في قوله: «يطير بجناحيه» فن الانفصال لزيادة التعميم والشمول، فإن لقائل أن يقول: جملة قوله تعالى: «يطير بجناحيه» لا فائدة في الإتيان بها ظاهرا، إذ كل طائر يطير بجناحيه، وهذا إخبار بمعلوم، والانفصال عن ذلك أن يقال: إنه سبحانه أراد أن يدمج في هذا الخبر النهي عن قتل الحيوان الذي لا يؤذي عبثا بدليل قوله: «إلا أمم أمثالكم» ، ففي مساواته بين ذلك وبين المكلفين إشارة الى أن الإنسان يدان بما يفعله مع كل جسم قابل للحياة، وفي دواب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 الأرض ما لا حرج على قاتله، كالذباب والبعوض والنمل والعقارب والجعلان وسائر الهمج. فأراد تبيين هذا الصنف من هذا النوع، وهو أشرف أصنافه الذي امتنّ الله سبحانه على نبيّه داود عليه السلام بتسخيره له وعلى ابنه سليمان بتعليم منطقه، وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصرحا بأن الإنسان يدان به: «من قتل عصفورا عبثا ... » الحديث، فخصّص هذا الصنف بصفة مميزة له من بقية الأصناف فقال «يطير بجناحيه» ، لأنه لا يطلق الجناح حقيقة إلا على العضو الذي ليس له ريش وقصب وأباهر وخوافي وقوارم، ليستدل يكون هذا الصنف من بين جميع أصناف الطائر هو المقصود بالنهي عن قتله وتعذيبه، على أن المراد بالدابة المذكورة في صدر الآية هي الصنف الشريف من أصناف الدواب، لتخرج الحشرات من ذلك النوع كما خرجت الهمج من نوع الطائر بتمييز الصنف المشار اليه منه، واكتفى بتبيين الثاني عن تبيين الأول لعلمه أن العارف بترتيب نظم الكلام يقيس الأول منه على الثاني. وفي صحيح مسلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لتؤدنّ الحقوق الى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء. الفوائد: هل تزاد «من» في بقية المفاعيل؟ الجواب إنها لا تزاد في المفعول معه والمفعول لأجله والمفعول فيه، ووجه منع زيادتها أنهن في المعنى بمنزلة المجرور بالإضافة وباللام وبفي، ولا تجامعهن «من» ، ولكن لا يظهر وجه للمنع في المفعول المطلق، وقد خرّج عليه أبو البقاء قوله تعالى: «ما فرطنا في الكتاب من شيء» ، فقال: من زائدة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 وشيء في موضع المصدر، أي: تفريطا شيئا، فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه، ثم زيدت «من» ، قال: ولا يكون مفعولا به، لأنّ «فرط» إنما يتعدى إليه ب «في» ، وقد عدّي بها الى الكتاب، قال: وعلى هذا فلا حجة في الآية لمن ظنّ أن الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء صريحا. والردّ على هؤلاء الظانّين بأن هذا لا يسلم إلا لو كان «من شيء» مفعولا به لأن المعنى: ما فرطنا أي: ما تركنا شيئا في الكتاب، وأما لو جعل المفعول به «في الكتاب» وجعل قوله: «من شيء» مصدرا، أي: ما فرطنا في الكتاب فلا دلالة له على ذلك. وزاد ابن هشام فقال: «وكذا لا حجة فيها لو كان «شيء» مفعولا به، لأن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، كما في قوله تعالى: «ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين» وهو رأي الزمخشري، والسياق يقتضيه. [سورة الأنعام (6) : آية 39] وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) الإعراب: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ) الواو استئنافية، والكلام مستأنف مسوق لبيان مصير المكذبين. والذين مبتدأ، وجملة كذبوا صلة الموصول لا محل لها، وبآياتنا جار ومجرور متعلقان بكذبوا، وصم خبر، وبكم عطف على صم، وفي الظلمات جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ثان، وقد وهم أبو البقاء فظنّ أنهما من باب «الرمان حلو حامض» ، فجعل الكلمتين خبرا، وليس الأمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 كذلك، لأن الاختلاف واضح بين التعبيرين، فكلمتا حلو حامض تعبران عن معنى واحد، وهو مزّ، أما صم وبكم فلكل واحدة منهما معناها القائم بها، فالصمم عدم السمع، والبكم عدم النطق، وسيأتي مزيد لهذا البحث الفريد. (مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) كلام مستأنف مسوق لتقدير ما سبق من حالهم، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، ويشأ فعل الشرط، ويضلله جوابه، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» ، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم عطف على الجملة السابقة، ومفعول المشيئة في كلا الفعلين محذوف، وهو مضمون الجزاء، أي: إضلاله وهدايته. الفوائد: يجوز أن يتعدد الخبر، نحو: «زيد كاتب شاعر» ، وليس من تعدّد الخبر ما ذكره بعضهم من قولهم: «الرّمان حلو حامض» لأن معنى الخبرين راجع الى شيء واحد، إذ معناهما مزّ. [سورة الأنعام (6) : الآيات 40 الى 41] قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41) الإعراب: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) الكلام مستأنف مسوق لطلب الإخبار عن حالتهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 العجيبة، وأ رأيتكم تعبير استفاض في كلامهم وكثرت فيهم أقوال العلماء والمعربين، وسترى تلخيصا مفيدا في باب الفوائد لما قيل فيه، وهو على وجه الاختصار. الهمزة للاستفهام، ورأى فعل ماض مبني على السكون، والتاء فاعل، والكاف حرف خطاب يدل على اختلاف المخاطب، والتاء مفتوحة دائما في جميع أحواله، ومعنى الكلام: أخبروني عن حالتكم العجيبة، وقد جرى ذلك على سبيل المجاز، لأنه لما كان العلم بشيء سببا للإخبار عنه أو الإبصار به طريقا للإحاطة به علما والى صحة الإخبار عنه استعملت الصيغة التي هي لطلب العلم أو لطلب الإبصار في طلب الخبر لاشتراكهما في الطلب، ففيه مجازان: رأى بمعنى علم أو أبصر في الإخبار، واستعمال الهمزة التي هي لطلب الرؤية في طلب الإخبار. هذا ولا يلزم من كون «أرأيت» بمعنى «أخبرني» أن يتعدى تعديته لأن أخبرني يتعدّى ب «عن» ، وأ رأيت يتعدى لمفعول به صريح، وإلى جملة استفهامية في موضع المفعول الثاني. والمفعول الأول في هذه الآية محذوف، تقديره: «أرأيتم إياه» أي: العذاب، والثاني هو الجملة الاستفهامية، وهي: «أغير الله تدعون» ، (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) إن شرطية، وأتاكم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، والكاف مفعول به، وعذاب الله فاعل، وأو حرف عطف، وأتتكم الساعة عطف على أتاكم، وجواب الشرط محذوف تقديره: «فمن تدعون» ، وقيل: تقديره: «فأخبروني عنه أتدعون غير الله لكشفه» ؟ (أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الجملة استئنافية والهمزة للاستفهام، وغير الله مفعول به مقدم لتدعون، وإن شرطية، وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط، وصادقين خبرها، وجواب إن محذوف، أي: إن كنتم صادقين في أن الأصنام تنفعكم فادعوها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) بل حرف إضراب وعطف، وإياه ضمير منفصل في محل نصب مفعول به مقدم لتدعون، فيكشف عطف على تدعون، وما اسم موصول في محل نصب مفعول يكشف، وجملة تدعون إليه صلة، الواو حرف عطف وإن شرطية، وشاء فعل الشرط، والجواب محذوف لفهم المعنى ودلالة ما قبله عليه، والمراد بها ما عبد من دون الله مطلقا من العقلاء وغيرهم، وغلب «غير الله» زيادة في التنديد بهم، وتنسون معطوفة على تدعون، وما اسم موصول مفعول به، وجملة تشركون صلة «ما» . الفوائد: (أَرَأَيْتَكُمْ) هذه التاء من الأمور الغريبة في لغتنا، وذلك أنه إذا أريد ب «أرأيت» معنى «أخبرني» جاز أن تتصل به تاء الخطاب، فإن لم تتصل به وجب للتاء ما يجب لها مع سائر الأفعال، من تذكير وتأنيث، وتثنية وجمع، عما يلحق التاء مما يلزمها في خطاب المفرد المذكّر، ولو كان الخطاب لاثنين لقيل: أرأيتكما، أو للجمع لقيل: أرأيتكم، أو للإناث لقيل: أرأيتكن، فتلزم التاء الفتح والتجريد عن الخطاب، والكاف في هذا حرف خطاب لا موضع لها من الإعراب، واستدل سيبويه على ذلك بقول العرب: أرأيتك فلانا ما حاله؟ أما إذا لم يرد ب «أرأيت» معنى أخبرني فإنه يجب للتاء والكاف مجتمعتين ما يجب لهما منفردتين، فيقال: أرأيتك قادرا أو أرأيتكما قادرين أو أرأيتكم قادرين أو أرأيتكنّ قادرات، كما تقول: أعلمتك قادرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 خلاصة المذاهب في هذا التعبير: إذا قررنا هذا فنقول: اختلف العلماء في هذه الآية على ثلاثة أقوال: المذهب الأول: إن المفعول الأول والجملة التي سدّت مسد المفعول الثاني محذوفان لفهم المعنى، والتقدير: أرأيتكم عبادتكم الأصنام هل تنفعكم؟ أو اتخاذكم غير الله إلها هل يكشف عنكم العذاب؟ ونحو ذلك، فعبادتكم واتخاذكم مفعول أول، والجملة الاستفهامية مسد الثاني، والتاء هي الفاعل، والكاف حرف خطاب. المذهب الثاني: إن الشرط وجوابه قد سدّا مسدّ المفعولين، لأنهما قد حصلا المعنى المقصود، فلم يحتج هذا الفعل الى مفعول. المذهب الثالث: إن المفعول الأول محذوف، والمسألة من باب التنازع بين أرأيتكم وأتاكم، والمتنازع فيه هو لفظ العذاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 [سورة الأنعام (6) : الآيات 42 الى 43] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) الإعراب: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) الجملة القسمية كلام مستأنف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم. والواو استئنافية، واللام جواب قسم محذوف، وأرسلنا فعل وفاعل، وإلى أمم جار ومجرور متعلقان بأرسلنا، ومن قبلك جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لأمم، وجملة قد أرسلنا لا محل لها لأنها جواب للقسم المحذوف (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) الفاء حرف عطف، وأخذناهم فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: فكذبوا فأخذناهم، وبالبأساء جار ومجرور متعلقان بأخذناهم، والضراء عطف على قوله: بالبأساء، ولعل واسمها، وجملة يتضرعون خبرها، وجملة الرجاء حالية (فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) الفاء استئنافية، والكلام مستأنف مسوق لتوبيخهم وحثهم على الندامة والتخويف من العاقبة واللياذ بالتضرّع إليه تعالى. ولولا وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بتضرعوا، وجملة جاءهم في محل جر بالإضافة، وبأسنا فاعل تضرعوا (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) الواو حالية، ولكن مخففة من الثقيلة مهملة، فهي لمجرد الاستدراك، وقست قلوبهم فعل ماض وفاعل، والجملة حالية، أي: والحال أنها استمرت على ما هي عليه من القساوة وجفاء الطبع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 وزين فعل ماض، ولهم جار ومجرور متعلقان بزين، والشيطان فاعل، والجملة معطوفة، وما اسم موصول مفعول به، وجملة كانوا صلة، والواو اسم كان، وجملة يعملون خبرها. الفوائد: (لولا) تكون على ثلاثة أوجه: 1- حرف امتناع لوجود، يمتنع الشرط لوجود الجواب، والاسم بعدها مبتدأ محذوف الخبر وجوبا، ويجب كون الخبر كونا مطلقا. أما إذا كان مقيدا كالقيام والقعود فيجب ذكره، ولذلك لحنوا أبا العلاء المعري بقوله يصف السيف: يذيب الرّعب منه كلّ عضب ... فلولا الغمد يمسكه لسالا وأجيب عنه بأن جملة يمسكه ليست خبرا وإنما هي بدل اشتمال من الغمد أو حالية، وإذا وليها مضمر فحقه أن يكون ضمير رفع، نحو قوله: «لولا أنتم لكنّا مؤمنين» . وسمع قليلا: لولاي ولولاك ولولاه فهي عندئذ حرف جر ولا تتعلق بشيء. 2- حرف تحضيض وعرض، فتختص بالمضارع أو ما في تأويله، نحو: «لولا تستغفرون الله» و «لولا أخرتني إلى أجل قريب» . 3- حرف توبيخ وتنديم، فتختص بالماضي كهذه الآية، وكثيرا ما ترافقها إذ الظرفية أو إذا، كقوله تعالى: «فلولا إذا بلغت الحلقوم» . وسيأتي مزيد بحث عنها في مواطنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 [سورة الأنعام (6) : الآيات 44 الى 45] فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) اللغة: (مُبْلِسُونَ) : واجمون متحيرون آيسون. (دابِرُ) : الدابر: التابع من خلف، أي آخرهم. الإعراب: (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) الفاء استئنافية، ولما ظرفية، ونسوا فعل وفاعل، وجملة نسوا في محل جر بالإضافة، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة ذكروا صلة الموصول، وبه جار ومجرور متعلقان بذكروا، وفتحنا فعل وفاعل. والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وعليهم جار ومجرور متعلقان بفتحنا، وأبواب مفعول به، وكل شيء مضاف إليه (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) حتى ابتدائية أو غائية، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بأخذناهم، وجملة فرحوا في محل جر بالإضافة، وبما جار ومجرور متعلقان بفرحوا، وجملة أوتوا صلة الموصول، وأوتوا فعل ماض مبني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 للمجهول والواو نائب فاعل، وجملة أخذناهم من الفعل والفاعل والمفعول لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وبغتة حال أو مفعول مطلق، فإذا الفاء عاطفة، وإذا هي الفجائية وهي حرف على ما اخترناه، وهم مبتدأ، ومبلسون خبر، والجملة استئنافية. (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الفاء عاطفة، وقطع فعل ماض مبني للمجهول، ودابر نائب فاعل، والقوم مضاف إليه، والذين اسم موصول في محل جر نعت للقوم، وجملة ظلموا لا محل لها لأنها صلة الموصول، والحمد الواو استئنافية، والحمد مبتدأ، ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر، ورب نعت أو بدل، والعالمين مضاف اليه. الفوائد: (إذا الفجائية) فيها ثلاثة مذاهب: 1- مذهب سيبويه: وهو أنها ظرف مكان أو زمان. 2- مذهب جماعة آخرين من البصريين: وهو أنها ظرف زمان. وفي الحالين تتعلق بالخبر وهو قوله: مبلسون، أي أبلسوا في زمان إقامتهم أو مكانها. 3- مذهب الكوفيين: وهو أنها حرف فلا تتعلق بشيء. وهذا ما اخترناه. وسترد تفاصيل عنها في مواطنها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 [سورة الأنعام (6) : الآيات 46 الى 47] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) اللغة: (يَصْدِفُونَ) في المختار: «صدف عنه: أعرض، وبابه ضرب وجلس. وأصدفه عنه كذا: أماله عنه» ، وصادفه قابله على قصد وبدونه، فما تقوله العامة: صدفة خطأ ولحن. وزعم صاحب المنجد أن الصدفة بكسر الصاد: لفظة مولّدة بمعنى المصادفة والاتفاق. الإعراب: (قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) كلام مستأنف مسوق لأخذ الحجة عليهم، وقطع الطريق على مكابرتهم. وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت يا محمد، والهمزة للاستفهام التقريري، ومفعول رأيتم الأول محذوف تقديره: أرأيتم سمعكم وأبصاركم إن أخذها الله؟ والجملة الاستفهامية الآتية وهي: «من إله» في موضع المفعول الثاني، وإن شرطية، وأخذ فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، والجواب محذوف، وقد تقدم إعراب نظيره في: «أرأيتكم» ، ولم يؤت هنا بكاف الخطاب كما أتى به هناك لهول التهديد في الأول، ووحد السمع وجمع الأبصار لسرّ تقدم ذكره في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 سورة البقرة، وقيل: جائز أن تكون الهاء عائدة على السمع فتكون موحدة لتوحيده، وجائز أن تكون موحدة لتوحيد «من» ، أي: من إله غير الله يأتيكم بما أخذ منكم من السمع والأبصار والأفئدة؟ وسمعكم مفعول به وأبصاركم عطف، وجملة ختم معطوفة وعلى قلوبكم متعلقان بختم. (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) من اسم استفهام للتوبيخ، وهو مبتدأ، وإله خبره، وغير الله صفة، وجملة يأتيكم صفة ثانية، وبه جار ومجرور متعلقان بيأتيكم (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) الجملة مستأنفة، وانظر فعل أمر، وكيف اسم استفهام في محل نصب حال، وقد علقت انظر عن العمل، وجملة نصرف الآيات في محل نصب مفعول به، والآيات مفعول به، وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي، وهم مبتدأ، وجملة يصدفون خبر (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً) تقدم الكلام في أرأيتكم قريبا، وإعراب بغتة أو جهرة (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) إلا أداة حصر، والقوم نائب فاعل، والظالمون صفة. [سورة الأنعام (6) : الآيات 48 الى 49] وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49) الإعراب: (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) الواو استئنافية، والكلام مستأنف مسوق لتبيان مهام الرسالة، ودقة التكليف الذي يتمرس به المرسلون. ونرسل المرسلين فعل وفاعل مستتر ومفعول به، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 وإلا أداة حصر، ومبشرين حال، ومنذرين عطف على مبشرين (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) الفاء استئنافية، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، وآمن فعل ماض وهو فعل الشرط، وأصلح عطف عليه والفاء رابطة لجواب الشرط، ولا نافية مهملة وخوف مبتدأ، وعليهم خبر، ولا هم يحزنون الجملة عطف على الجملة الأولى، وجملة «لا خوف عليهم» في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» ، ويجوز أن تكون «من» موصولة لمناسبة ما بعدها، فتكون في محل رفع مبتدأ، وتكون جملة: «لا خوف عليهم» هي الخبر للموصول، وجيء بالفاء لما في الموصول من رائحة الشرط (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) الواو عاطفة أو استئنافية، والذين مبتدأ، وجملة كذبوا صلة، وبآياتنا جار ومجرور متعلقان بكذبوا، وجملة يمسهم العذاب خبر اسم الموصول، وبما الباء حرف جر، وما مصدرية، والمصدر المؤول مجرور بالباء، والجار والمجرور متعلقان بيمسهم، أي: بسبب فسقهم، وكان واسمها، وجملة يفسقون خبرها. البلاغة: في قوله: «يمسهم العذاب» استعارة تصريحية تبعية كأن العذاب كائن حيّ يفعل بهم ما يريده من الآلام. وقد تقدم أمثالها كثيرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 [سورة الأنعام (6) : آية 50] قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) الإعراب: (قُلْ: لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ) الكلام مستأنف مسوق لتنزيه نفسه مما يقترحونه عليه. وقل فعل أمر، ولا نافية، وأقول فعل مضارع، ولكم جار ومجرور متعلقان بأقول، وجملة لا أقول مقول القول الأول، ولكم متعلقان بأقول وعندي ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، وخزائن الله مبتدأ مؤخر، والجملة في محل نصب مقول القول الثاني (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) جملة ولا أعلم الغيب معطوفة على جملة عندي خزائن الله لأنه من جملة مقول القول وجملة لا أقول لكم إني ملك معطوفة على جملة لا أقول لكم الأولى، وإني ملك: إن واسمها وخبرها مقول القول أيضا. (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) الجملة داخلة في حيز المقول الذي لم ينته بعد، وإن نافية، وإلا أداة حصر، و «ما» اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة يوحى صلة الموصول، ونائب الفاعل مستتر، وإليّ جار ومجرور متعلقان بيوحى (قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) كلام مستأنف لتتمة الوصايا، وهل حرف استفهام معناه النفي، أي: لا يستويان، ويستوي فعل مضارع، والأعمى فاعله، والبصير عطف على الأعمى، والجملة في محل نصب مقول القول، أفلا الهمزة للاستفهام الإنكاري، والفاء عاطفة، ولا نافية، وتتفكرون عطف على مقدر محذوف تقديره أي لا يستمعون هذا الكلام الذي يتلى عليكم فلا تتفكرون فيه وتتبينون مغابّه؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 البلاغة: الطباق بين الأعمى والبصير، وهما تشبيهان بليغان للضّالّ والمهتدي. ويجوز أن يعتبرا من باب الاستعارة التصريحية، لأن المشبّه لم يذكر وذكر المشبه به. [سورة الأنعام (6) : الآيات 51 الى 52] وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) الإعراب: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) الواو عاطفة، والكلام معطوف على ما تقدم معدولا به إلى توجيه الانذار للذين يتفرس فيهم قبول الاتعاظ والاستعداد لتقبّله، وهم المؤمنون العاصون. وأنذر فعل أمر، وبه جار ومجرور متعلقان بأنذر، والذين اسم موصول مفعول به، وجملة يخافون صلة الموصول، وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول يخافون (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الجملة حال من الضمير في أن يحشروا، أي: أنذر به هؤلاء الذين يخافون الحشر حال كونهم لا ولي لهم يواليهم ولا نصير ولا شفيع يشفع لهم من دون الله، وليس فعل ماض ناقص، ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ليس، ومن دونه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وولي اسم ليس، ولا شفيع عطف على ولي، ولعل واسمها، وجملة يتقون خبرها، وجملة الرجاء حالية (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ) الواو حرف عطف، ولا ناهية، وتطرد فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والفاعل مستتر تقديره أنت، والذين اسم موصول مفعول به وجملة يدعون صلة وربهم مفعول به وبالغداة جار ومجرور متعلقان بيدعون، والعشي عطف على الغداة (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) الجملة حال من ضمير يدعون، أي: يدعونه مخلصين، ووجهه مفعول به (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ما يجوز أن تكون الحجازية العاملة عمل ليس فيكون «علبك» في محل نصب على أنه خبرها، عند من يجوز إعمالها في الخبر المقدّم، إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا، أما في حال المنع فيكون الجار والمجرور متعلقين بمحذوف خبر مقدم، والمبتدأ المؤخر هو «شيء» زيدت فيه «من» . وقوله من حسابهم حال، وصاحب الحال هو «شيء» لأن الجار والمجرور لو تأخرا عنه لتعلقا بمحذوف صفة له، وصفة النكرة متى تقدمت انتصبت على الحال، وجملة ما عليك إلخ حال أيضا (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) الواو عاطفة، وما من حسابك عليهم من شيء تقدم إعرابها، إلا أن من حسابك يشكل جعلها حالًا لأنه يلزم تقدم الحال على عامله المعنوي، وهو ضعيف، ولو جاءت الجملة الثانية على نمط الأولى لكان التركيب: وما عليهم من حسابك من شيء، فتقدم المجرور بعلى كما قدمته في الأولى، لكنه قدمه تشريفا له صلى الله عليه وسلم ليكون الخطاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 مواجها له، وإذن أنت مضطر أن تجعله صفة مقدمة على موصوفها. فتطردهم الفاء هي السببية وهي جواب النفي، وتطردهم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة، فتكون الفاء أيضا سببية، وهي جواب النهي، فتأمل دقّة الفرق بين معنى الفاءين. ويجوز أن تجعل الفاء الثانية عاطفة، وتكون معطوفة على تطردهم على وجه التسبيب، لأن كونه ظالما مسبب عن طردهم، ومن الظالمين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر تكون. البلاغة: 1- في قوله: «يريدون وجهه» أي: ذاته وحقيقته: مجاز مرسل، والعلاقة ذكر البعض وإرادة الكل، وهو مجاز سائغ في كلامهم. 2- في قوله: «وما من حسابك عليهم من شيء» فنّ ردّ العجز على الصدر، وهو أن يجعل المتكلم أحد اللفظين المتفقين في النطق والمعنى، أو المتشابهين في النطق دون المعنى أو اللذين يجمعهما الاشتقاق أو شبه الاشتقاق، في آخر الكلام بعد جعل اللفظ الآخر له في أوله. ومنه قول البحتري: ضرائب أبدعتها في السّماح ... فلسنا نرى لك فيها ضريبا وقول أبي تمام: ولم يحفظ مضاع المجد شيء ... من الأشياء كالمال المضاع وقول المعرّي: لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 وبيت الحماسة المشهور: تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشيّة من عرار الفوائد: روي أن رؤساء المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو طردت عنا هؤلاء الأعبد، يعنون فقراء المسلمين، وهم عمار بن ياسر وصهيب وبلال وأرواح جبابهم- وكانت عليهم جباب من صوف لمداومة لبسها ولعدم وجود غيرها- جلسنا إليك وحادثناك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ما أنا بطارد المؤمنين. فقالوا: فأقمهم عنّا إذا جئنا، فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت. فقال: نعم، طمعا في إسلامهم. فقالوا فاكتب لنا كتابا عليك بذلك، فأتى بالصحيفة ودعا عليّا ليكتب، فنزل عليه جبريل بقوله: «ولا تطرد..» الآية. وهذا من أروع مثل المساواة الاسلامية. [سورة الأنعام (6) : الآيات 53 الى 54] وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 اللغة: (فَتَنَّا) : اختبرنا وابتلينا. (مَنَّ) : أنعم، وله عليّ منّة ومنن، ومنّ عليّ بما صنع، وامتننت منك بما فعلت منّة جسيمة أي: احتملت منّة، وليس لقلبه منّة أي: قوّة. ومادة الميم والنون تفيد الإعطاء والمنع على الأغلب، ومنه: منح وفلان منّاح، وفلان يعطي المنائح والمنح، ومنح الشيء ومنه وعنه، وهو منوع ومنّاع. وهذا من غرائب لغتنا التي لا تقف عند حدّ. الإعراب: (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) الكلام مستأنف مسوق لبيان أن الإسلام جعل المساواة شرعة ومنهاجا، لأن الله ابتلى الغني بالفقير والفقير بالغنيّ، وكل مبتلى بضده حتى تعم المساواة، فلا رفيع ولا وضيع، ولا كبير ولا صغير، والكاف في محل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف، أو هي حرف جر، واسم الاشارة في محل جر، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لموصوف محذوف، وقد تقدم بحثه، وسيبويه يختار إعرابه حالا، وبعضهم مفعول به، وببعض جار ومجرور متعلقان بفتنّا (لِيَقُولُوا: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) اللام للتعليل، ويقولوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام، والتقدير: ومثل ذلك الفتون فتنا ليقولوا هذه المقالة ابتلاء منا وامتحانا، ويجوز أن تكون اللام هي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 لام الصيرورة أو العاقبة، ويكون قوله: «أهؤلاء» صادرا عنهم على سبيل الاستخفاف بالمؤمنين، والجملة الاستفهامية في محل نصب مقول القول، والهمزة للاستفهام التقريري والتهكمي، وهؤلاء اسم إشارة في محل رفع مبتدأ، وجملة «منّ» الله خبر، وعليهم جار ومجرور متعلقان ب «منّ» ، ومن بيننا جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، ويجوز أن نعرب «هؤلاء» نصبا على الاشتغال بفعل محذوف يفسره الفعل الظاهر العامل في ضميره بواسطة «على» ، ويكون المفسر من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، والتقدير: أفضل الله هؤلاء ومنّ عليهم أو اختارهم، وتكون جملة منّ الله عليهم لا محل لها من الإعراب لأنها مفسرة، وإنما ساغ هذا الوجه وفضله الكثيرون لأنه ولي همزة الاستفهام، وهي أداة يغلب إيلاء الفعل بعدها. وقوله: أليس الهمزة للاستفهام التقريري، وليس فعل ماض ناقص، والله اسمها، والباء حرف جر زائد، وأعلم مجرور لفظا بالباء منصوب محلا على أنه خبر ليس، وبالشاكرين جار ومجرور متعلقان بأعلم، والجملة الاستفهامية مستأنفة مسوقة لتكون جوابا للاستفهام التقريري (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) الواو استئنافية، والكلام مستأنف مسوق للعودة الى ذكر المؤمنين الذين نهي عن طردهم وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب، أي: فقل سلام عليكم وقت مجيئهم، وجملة جاءك في محل جر بالإضافة، والذين فاعل، وجملة يؤمنون صلة، فقل الفاء واقعة في جواب الشرط، وسلام مبتدأ ساغ الابتداء به مع أنه نكرة لما فيه من معنى الدعاء، وعليكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر، وجملة قل لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وجملة سلام عليكم في محل نصب مقول القول (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) الجملة داخلة في حيز المقول لأنه من جملة ما يقوله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 لهم، وكتب ربكم فعل وفاعل، وعلى نفسه جار ومجرور متعلقان بكتب، والرحمة مفعول به (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قرئ بفتح الهمزة، فتكون أن واسمها في موضع نصب بدل من الرحمة، وتكون الجملة منتظمة في حيز القول. وفي قراءة بكسر الهمزة، فالجملة استئنافية مسوقة لتفسير الرحمة، وتكون الهاء ضمير الشأن اسم إن. ومن اسم شرط جازم أو موصولية، وهي مبتدأ على كل حال، وعمل فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، وسوءا مفعول به، ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل عمل، وبجهالة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أيضا من الفاعل نفسه، أي: عمل وهو جاهل بحقيقة ما ينجم عنه من المضارّ والمثالب، وسوء العواقب، ثم حرف عطف، وتاب عطف على تاب، وأصلح عطف عليه أيضا، والفاء رابطة لجواب الشرط، وأن المفتوحة الهمزة وما في حيزها خبر لمبتدأ محذوف، أي: فأمره ومآله غفران الله له، وغفور رحيم خبران لأن، وقرئ بكسر همزة إن على الاستئناف، ورجحها ابن جرير على أنه استئناف لوقوعها بعد الفاء، وجملة من عمل خبر إن، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» . [سورة الأنعام (6) : الآيات 55 الى 56] وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 الإعراب: (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) كلام مستأنف مسوق لبيان الغاية من تفصيل الآيات. وكذلك في محل نصب مفعول مطلق، والآيات مفعول به، والواو عاطفة على محذوف، والتقدير: ليظهر الحق ولتظهر سبيل المجرمين، واللام للتعليل، وتستبين فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وسبيل فاعل، والسبيل مؤنثة وقد تذكر، وقد قرئ: «ليستبين» ، فتأنيث الفعل لتأنيث السبيل وتذكيره لتذكيره (قُلْ: إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق للرجوع إلى مخاطبتهم حسما لأطماعهم الفارغة. وقل فعل أمر، وإن واسمها، وجملة نهيت خبرها، والجملة في محل نصب مقول القول، وأن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، والجار والمجرور متعلقان بنهيت، والمعنى: ونهيت عن عبادة الذين تدعون. والذين اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة تدعون صلة الموصول، ومن دون الله جار ومجرور متعلقان بتدعون (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) الكلام مستأنف مسوق ليرجع صلى الله عليه وسلم إلى مخاطبتهم وكرره مع قرب ذكره زيادة في التأكيد. وجملة لا أتبع أهواءكم في محل نصب مقول القول، وجملة قد ضللت مستأنفة مسوقة منه صلى الله عليه وسلم لتأكيد انتهائه عما نهي عنه. وإذن حرف جواب وجزاء، فيه معنى الشرط، والمعنى: إن اتبعت أهواءكم ضللت وما اهتديت. فهي في قوة شرط وجواب، والواو حرف عطف، وما نافية حجازية تعمل عمل ليس، وأنا اسمها، ومن المهتدين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها، وإنما عدل عن الفعلية إلى الاسمية للدلالة على الديمومة والاستمرار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 [سورة الأنعام (6) : الآيات 57 الى 58] قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) الإعراب: (قُلْ: إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) كلام مستأنف لبيان الحق الذي يتبعه النبي صلى الله عليه وسلم، وإزهاق الباطل الذي يتبعونه. قل فعل أمر وجملة إني على بينة مقول القول، وإن واسمها، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبرها، ومن ربي جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبينة (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) الواو استئنافية، والكلام مستأنف مسوق لاستقباح تكذيبهم، ويجوز أن تكون حالية، فالجملة في محل نصب على الحال، ولا بدّ من تقدير «قد» عندئذ. وكذبتم فعل وفاعل، وبه متعلقان بتستعجلون، وما نافية، وعندي ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، وما اسم موصول في محلّ رفع مبتدأ مؤخر، وجملة تستعجلون صلة الموصول، وبه جار ومجرور متعلقان بتستعجلون، وجملة ما عندي مستأنفة (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) كلام مستأنف مسوق لبيان أن الحكم هو لله سبحانه. وإن نافية، والحكم مبتدأ، وإلا أداة حصر، ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر الحكم، وجملة يقصّ الحق في محل نصب على الحال، والحق مفعول به، وفي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 قراءة: «يقضي الحق» بالضاد، من القضاء بمعنى الحكم والفصل بالقضاء، ورجّحها ابن جرير قال: «لأن الفصل بين المختلفين إنما يكون بالقضاء لا بالقصيص، والحق عندئذ صفة لمصدر محذوف أي: ليقضي القضاء الحق، والواو استئنافية أو حالية، وهو مبتدأ، وخير الفاصلين خبر (قُلْ: لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) الجملة مستأنفة لبيان أن الأمر راجع إلى الله تعالى، ولو شرطية. وأن وما في حيزها في محل رفع فاعل لفعل محذوف، تقديره ثبت، والجملة في محل نصب مقول القول، والظرف متعلق بمحذوف خبر أن المقدم، وما اسم موصول في محل نصب اسم أن المؤخر، وجملة تستعجلون صلة الموصول، وبه جار ومجرور متعلقان بتستعجلون، واللام واقعة في جواب لو، وقضي فعل ماض مبني للمجهول. والأمر نائب فاعل، والجملة لا محل لها لأنها جواب لشرط غير جازم، وبيني ظرف مكان متعلق بقضي، وبينكم ظرف أيضا معطوف على الظرف السابق (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) كلام مستأنف، والله مبتدأ، وأعلم خبر، وبالظالمين جار ومجرور متعلقان بأعلم. [سورة الأنعام (6) : آية 59] وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) اللغة: (المفاتح) : جمع مفتح بكسر الميم، وهو المفتاح، وقرئ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 مفاتيح. وقيل: مفاتيح جمع مفتاح، وهو الذي يتوصل به إلى ما في المخازن المتوثّق منها بالإغلاق. وقيل: هو جمع مفتح: بفتح الميم وكسر التاء، وهو المخزن، وزنا ومعنى. الإعراب: (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) الكلام مستأنف مسوق لبيان أن الأمور الغيبية مختصة به سبحانه والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم، ومفاتح الغيب مبتدأ مؤخر، وجملة لا يعلمها في محل نصب على الحال من مفاتح، والعامل فيها الاستقرار الذي تعلق به الظرف، وإلا أداة حصر، وهو فاعل أو تأكيد للفاعل المستتر، ولعله أولى (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) الواو استئنافية، وما نافية، ويعلم فعل مضارع، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به وفي البر جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة «ما» والبحر عطف على البر، والواو حرف عطف وما نافية، وتسقط فعل مضارع مرفوع، ومن حرف جر زائد، وورقة مجرور لفظا بمن مرفوع محلا على أنه فاعل تسقط، وإلا أداة حصر، وجملة يعلمها حال من ورقة. وجاء الحال من النكرة لاعتمادها على النفي (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) الواو حرف عطف، وحبة معطوفة على ورقة بالجر لفظا، ولو قرئ «حبة» بالرفع بالعطف على المعنى لجاز، ولا رطب ولا يابس عطف على ورقة أيضا، وإلا أداة حصر، وفي كتاب جار ومجرور وهو تكرار لقوله: إلا يعلمها، على أنه بدل اشتمال، فهو في محل نصب على الحال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 البلاغة: اشتملت هذه الآية على ضروب من البلاغة نلخصها فيما يلي: 1- الاستعارة التصريحية في قوله: «مفاتح الغيب» ، كأن للغيب مفاتيح بيده تعالى يكشف بها ما غمض على الناس. 2- الاستعارة التصريحية في قوله: «ظلمات» لشدائد البر والبحر وأهوالهما التي تبطل الحواس وتدهش العقول، لأن الظلمات تبطل حاسة البصر، ومن ثم قيل لليوم الشديد العصيب: يوم مظلم، ويوم ذو كواكب، لأن الكواكب لا تظهر إلا في الظلمة، على طريق الاستعارة التصريحية. 3- الطباق بين البر والبحر، والرطب واليابس، فهي مقابلة. 4- التكرير في قوله: «إلا يعلمها» ، وفي قوله: «إلا في كتاب مبين» ، لأنه بمثابة «إلا يعلمها» ، وفائدة هذا التكرير التطرية لما بعد عهده، لأنه لما عطف على «ورقة» بعد أن سلب الإيجاب المقصود للعلم في قوله: «إلا يعلمها» وكانت هذه المعطوفات داخلة في إيجاب العلم، وهو المقصود، وبعد ارتباط آخرها بالإيجاب السالف، كان ذلك جديرا بتجديد العهد بالمقصود، ثم كان اللائق بالبلاغة المألوفة في القرآن التجديد بعبارة أخرى، ليتلقّاها السامع غضّة جديدة غير مملولة بالتكرير. 5- حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي: وهو أن يأتي المتكلم إلى نوع ما فيجعله بالتعظيم له جنسا بعد حصر أقسام الأنواع منه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 والأجناس، فإنه سبحانه بعد أن أخبر بأن عنده مفاتيح كلّ غيب، إذ اللام للجنس ها هنا مجملا في القول، تمدّح بأنه يعلم ما في البر والبحر من أصناف الحيوان والنبات والجماد، وحاصر الكليات المولدات، ورأى سبحانه أن الاختصار على ذلك لا بكمل به معنى التمدح لاحتمال أن يظنّ ضعيف أنه يعلم الكليات دون الجزئيات، فإن المولدات الثلاث- وإن كانت جزئيات بالنسبة إلى العالم- فكل واحد منها كليّ بالنسبة الى ما تحته من الأجناس المتوسطة والأنواع وأصنافها، فقال لكمال التّمدّح: «وما تسقط من ورقة إلا يعلمها» ، وعلم أن علم ذلك قد يشاركه فيه من مخلوقاته كل من خلق له إدراكا وهداه إلى طريق ذلك. فشارك فيه فتمدح بما لا يشارك فيه بقوله: «ولا حبة في ظلمات الأرض» ، ثم ألحق هذه الجزئيات بعد حصرها بالكليات حيث قال: «ولا رطب ولا يابس» لأن جميع المولّدات وعناصرها التي تولدت منها- ما كان منها في باطن الأرض وما خرج الى ظاهرها- لا يخرج عن هذين القسمين. وألغى ذكر المعتدل فإنه ممتزج من هذين القسمين. فاستغنى بذكر الأصل عن الفرع. ثم قال: «إلا في كتاب مبين» إشارة إلى أن علمه بذلك علم من معلومه مفيد في كتاب مبين. فهو يأمن الضلال والنسيان. نماذج شعرية: وقال أبو الطّيّب المتنبي رامقا هذه السّماء العالية من البيان: هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 فقد قصد تعظيم ممدوحه، فجعل منزلة الّذي هو الجزئي كلّيّا. وهو الدنيا، وجعل ذاته التي هي جزئية كلية، وهي الخلائق، فجعل الجزئيّ كلّيّا. وأما حصر أقسام الجزئيّ فلان العالم إما حيوان بجسمه وعرضه، والمنزل شامل لهما، ومثله لأبي الفرج الببغا: ما بأرض لم تبد فيها صباح ... ما بدار حللت فيها ظلام وإذا ما أقمت في بلد فه ... ي جميع الدّنيا وأنت الأنام فقد حصر جميع أقسام الجزئيّ بالطّريقة التي ذكرناها، وألحقه بالكليّ. وقال أبو الحسن السّلاميّ: إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر فكنت وعزمي والظّلام وصارمي ... ثلاثة أشباه كما اجتمع النسر فسرت بآمالي لملك هو الورى ... ودار هي الدّنيا ويوم هو الدهر والبيت الأخير هو المراد، فقد أراد الشاعر تعظيم ممدوحه، وتفخيم أمر داره التي قصده فيها، وتبجيل يومه الذي لقيه، فجعل الممدوح جميع الورى، وجعل داره التي قصده فيها كل الدنيا، وجعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 يومه الذي لقيه فيه جملة الدهر، فجعل الجزئي كلّيّا بعد حصر أقسام الجزئي. أما جعله الجزئيّ كلّيّا فإن الممدوح جزء من الورى، وداره جزء من الدنيا، ويوم لقائه جزء من الدهر. وأما حصر أقسام الجزئي فلأن العالم عبارة عن أجسام وظروف زمان وظروف مكان، وقد حصر ذلك كلّه في ذكر الممدوح، وذكر داره، وذكر يوم لقائه. وأما الحاق الجزئي بالكلّيّ فلكونه ألحق الممدوح بجميع الورى في كونه جعله وزن جميع الورى، على حدّ قول أبي نواس: ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد [سورة الأنعام (6) : آية 60] وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) اللغة: (جَرَحْتُمْ) كسبتم وفي المصباح: وجرح من باب نفح واجترح: عمل بيده واكتسب: ومنه قيل لكواسب الطير والسّباع: جوارح، لأنها تكسب بيدها. الإعراب: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) كلام مستأنف مسوق لخطاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 الكفرة. وهو مبتدأ، والذي خبره، وجملة يتوفاكم لا محل لها لأنها صلة الموصول، وبالليل جار ومجرور متعلقان بيتوفّاكم (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) الواو حرف عطف، ويعلم عطف على يتوفاكم، وما اسم موصول في محل نصب مفعول يعلم، وجملة جرحتم لا محل لها لأنّها صلة الموصول، ويجوز أن تكون «ما» مصدرية والمصدر المؤول مفعول جرحتم (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي، ويبعثكم عطف على يتوفاكم، وفيه جار ومجرور متعلقان بيبعثكم، واللام للتعليل، ويقضى فعل مضارع مبني للمجهول منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بيبعثكم، وأجل نائب فاعل ومسمى صفة (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) عطف على الجملة السابقة، وإليه جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ومرجعكم مبتدأ مؤخر، ثم ينبئكم عطف أيضا، وبما جار ومجرور متعلقان بينبئكم، وجملة كنتم تعملون لا محل لها لأنها صلة، وجملة تعملون خبر كنتم. البلاغة: في هذه الآية «التنزيل المنظوم» ، وهو ما ورد في القرآن موزونا بغير قصد الشعر، وذلك في قوله: «ويعلم ما جرحتم بالنهار» فهو شطر بيت من البحر الوافر. وقد وجد في القرآن ما هو بيت تامّ أو مصراع، فلا يكتسب اسم الشعر ولا صاحبه اسم الشاعر. وسنورد لك طائفة من الآيات التي وردت منظومة، ولا تعرّج على القائلين بأنها شعر. فمن ذلك قوله تعالى من الطويل وهو مصراع بيت: «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» . ومن المديد «واصنع الفلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 بأعيننا» . ومن البسيط: «فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم» . ومن الخفيف: «لا يكادون يفقهون حدبثا» . وقد يكون بيتا كاملا كقوله وهو من مجزوء الرمل: «وجفان كالجوابي وقدور راسيات» . وجفان كالجوابي ... وقدور راسيات وقوله من البحر نفسه: لن تنالوا البرّ حتى ... تنفقوا مما تحبّون ومن مجزوء الكامل: والله يهدي من يشاء ... إلى صراط مستقيم ومن المجتثّ: نبّىء عبادي أنّي ... أنا الغفور الرحيم وقد تلاعب الشعراء في هذا الموضوع وضمنوا أبياتهم آيات وردت منظومة بغير قصد، فورد بعضها طريفا حلوا. وقد ذكر عن أبي نواس أنه ضمن ذلك بقوله: وفتية في مجلس وجوههم ... ريحانهم قد عدموا التّثقيلا دانية عليهم ظلالها ... وذلّلت قطوفها تذليلا وهو من الرّجز ولا بد من إشباع الميم في «عليهم» ليستقيم الوزن. ولا مندوحة هنا عن الاشارة إلى أنه قد نشب بين العلماء خلاف حول جواز اقتباس الآيات الكريمة، والذي عليه الجمهور منهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 أنه جائز شريطة ألا يسف الناظم الى المعاني والموضوعات التي لا تتفق مع جلال القرآن. ومن طريف ما يذكر بهذا الصدد أن بعضهم نظم بيتا قال فيه: وما حسن بيت له زخرف ... تراه إذا زلزلت لم يكن ثمّ توقّف لأنه استعمل فيه هذه الألفاظ القرآنية في الشعر فجاء إلى شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد ليسأله عن ذلك، وأنشده البيت، فقال له الشيخ: قل: فما حسن كهف، فقال له: يا سيدي أفدتني وأفتيتني. [سورة الأنعام (6) : الآيات 61 الى 62] وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62) الإعراب: (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) كلام مستأنف مسوق لبيان أنه سبحانه هو الغالب القاهر المتصرف بأمور العباد. وهو مبتدأ، والقاهر خبره، وفوق ظرف متعلق بمحذوف حال، أي: مستعليا، ويرسل الواو استئنافية، ولا بأس بأن تكون عاطفة، من باب عطف الجملة الفعلية على الجملة الاسمية، وعليكم جار ومجرور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 متعلقان بيرسل، وحفظة مفعول به، ويجوز تعليق الجار والمجرور بحفظة، لأنه جمع حافظ، وهو اسم فاعل، أي: يرسل من يحفظ عليكم أعمالكم (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) حتى ابتدائية أو غائية، وقد تقدمت كثيرا، وإذا ظرف مستقبل متعلق بتوفته، وجملة جاء في محل جر بالإضافة، وأحدكم مفعول به مقدم، والموت فاعل مؤخر، وجملة توفته رسلنا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) الواو حالية، وهم مبتدأ، وجملة لا يفرطون في محل رفع خبر، والجملة حال. ولك أن تجعل الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان أنهم لا يفرطون بشيء من أمور العباد (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي، وردوا فعل ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعل، وجملة ردوا عطف على توفته، وإلى الله جار ومجرور متعلقان بردوا، ومولاهم بدل من الله أو نعت له، والحق نعت لمولاهم (أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) ألا حرف تنبيه واستفتاح، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والحكم مبتدأ مؤخر، والواو حرف عطف، وهو مبتدأ، وأسرع الحاسبين خبره، والجملة مستأنفة. [سورة الأنعام (6) : الآيات 63 الى 64] قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 الإعراب: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) كلام مستأنف لإقامة الحجة على البشر الظالم الذي يبدو ضعيفا حين يقع في الشدة، فإذا انزاحت عنه رجع إلى غيّه وعنفوانه وغطرسته. وقل فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره أنت، ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ، وجملة ينجيكم خبر، ومن ظلمات جار ومجرور متعلقان بينجيكم، والجملة الاستفهامية في محل نصب مقول القول، والبر مضاف إليه، والبحر عطف على البرّ (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) جملة تدعونه في محل نصب على الحال من الكاف في ينجيكم، أي: ينجيكم حال كونكم داعين إياه. أما ما جنح إليه الجلال من تقدير ظرف، وجعلها في محل جر بالإضافة، فهو بعيد جدا، لأن حذف المضاف إلى الجملة لم يسمع في كلامهم. وتدعونه فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعل، والهاء مفعول به، وتضرعا وخفية مصدران في موضع الحال من الواو، أي: تدعونه حال كونكم متضرعين مسرّين. ويجوز إعرابهما على أنهما مصدران من معنى العامل لا من لفظه، كقولهم: قعدت جلوسا (لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) هذه الجملة منصوبة بإرادة القول، والقول حال، أي: تدعونه قائلين ذلك. ويجوز أن تكون لا محل لها من الإعراب لأنها مفسرة للدعاء، واللام موطئة للقسم، وإن شرطية وأنجانا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، والفاعل هو، ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به، ومن هذه جار ومجرور متعلقان بأنجانا، والإشارة الى الظلمات، وهي تجري مجرى الواحدة، ولنكونن اللام واقعة في جواب القسم، وجملة نكونن من الشاكرين لا محل لها لأنها جواب القسم لتقدمه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 حسب القاعدة، وحذف جواب الشرط لتأخره، على حد قول ابن مالك: واحذف لدى اجتماع شرط وقسم ... جواب ما أخرت فهو ملتزم ومن الشاكرين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر نكونن (قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها) الجملة مستأنفة، والله مبتدأ، وجملة ينجيكم خبره، ومنها جار ومجرور متعلقان بينجيكم، أي من الظلمات، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول (وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) الواو حرف عطف، ومن كل كرب عطف على الضمير المجرور وإعادة حرف الجر، كما هي القاعدة، وثم حرف عطف، وأنتم مبتدأ، وجملة تشركون خبر. [سورة الأنعام (6) : آية 65] قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) اللغة: (يَلْبِسَكُمْ) : يخلطكم، ومعنى خلطهم أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا أو يشتبكوا في ملاحم القتال، على حد قوله: وكتيبة لبّستها بكتيبة ... حتى إذا التبست نفضت لها يدي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 (شِيَعاً) : جمع شيعة، كسدرة وسدر، قال الراغب، والشيعة من يتقوى بهم الإنسان، والجمع شيع أشياع. الإعراب: (قُلْ: هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) الكلام مستأنف مسوق لبيان قدرته تعالى على التطويح بهم في المتالف والمهالك. وهو مبتدأ والقادر خبر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وعلى حرف جر، وأن يبعث مصدر مؤول مجرور بعلى، والجار والمجرور متعلقان بالقادر، وعليكم جار ومجرور متعلقان بيبعث، وعذابا مفعول به، ومن فوقكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لقوله «عذابا» ، أو من تحت أرجلكم عطف على قوله من فوقكم (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) أو حرف عطف، ويلبسكم معطوف على يبعث، وشيعا نصب على الحال، ويذيق عطف على يلبس، وبعضكم مفعول به أول ليذيق وبأس بعض مفعول يذيق الثاني (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) الجملة مستأنفة. وكيف اسم استفهام في محل نصب على الحال أو مفعول مطلق، ونصرف الآيات فعل مضارع ومفعول به، والجملة في محل نصب مفعول لانظر، ولعلهم لعل واسمها، وجملة يفقهون خبرها، وجملة الرجاء حالية. [سورة الأنعام (6) : الآيات 66 الى 67] وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 اللغة: (مُسْتَقَرٌّ) اسم زمان، ويجوز أن يكون اسم مكان، ومن استقر بمعنى ثبت. الإعراب: (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ) كلام مستأنف لبيان تكذيبهم بالعذاب المتقدم ذكره. ويجوز أن يعود الضمير على القرآن. والجار والمجرور متعلقان بكذب، وقومك فاعل، والواو استئنافية أو حالية، فتكون الجملة مستأنفة أو حالية من الهاء في: «به» ، أي: حال كونه حقا، وهو أشد إيغالا في القبح (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) الجملة مستأنفة مسوقة للرد عليهم. وجملة لست في محل نصب مقول القول، وليس فعل ماض ناقص، والتاء اسمها، وعليكم جار ومجرور متعلقان بوكيل، والباء حرف زائد، ووكيل اسم مجرور لفظا منصوب محلا لأنه خبر ليس (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة للدلالة على أن الأمور مرهونة بأوقاتها أو أماكنها. والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ونبأ مضاف إليه، ومستقر مبتدأ مؤخر، والواو حرف عطف وسوف حرف استقبال، وتعلمون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 [سورة الأنعام (6) : آية 68] وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) الإعراب: (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) الكلام مستأنف مسوق لأمره صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم في خوضهم في آياتنا. وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب، وهو: فأعرض عنهم، ورأيت فعل وفاعل، والرؤية هنا بصرية، ولذلك تعدّت لواحد، ولا بد حينئذ من تقدير حال محذوفة، أي: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا متلبسين بالخوض فيها، ويجوز أن تكون الرؤية قلبية، وحذف المفعول الثاني للاختصار، والذين مفعول به، وجملة يخوضون صلة الموصول، وفي آياتنا جار ومجرور متعلقان بيخوضون (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) الفاء رابطة لجواب الشرط، وأعرض فعل أمر، وعنهم جار ومجرور متعلقان بأعرض، وحتى حرف غاية وجر، ويخوضوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى، وفي حديث جار ومجرور متعلقان بيخوضوا، وحتى الجارة ومجرورها المؤول متعلقان ب «أعرض» ، وغيره صفة لحديث، والضمير يعود على الآيات، والتذكير باعتبارها قرآنا أو حديثا (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الكلام مستأنف مسوق لتقدير طروء النسيان بوسوسة الشيطان. وإن شرطية، وما زائدة، أدغمت فيها نون «إن» ، أي: إن شغلك الشيطان بوسوسته حتى تنسى النهي عند مجالستهم. وينسينك فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والنون نون التوكيد الثقيلة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 والكاف مفعول ينسينّك، والشيطان فاعله، والفاء رابطة لجواب الشرط، ولا ناهية، وتقعد فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وبعد الذكرى ظرف زمان متعلق بتقعد ومع ظرف مكان متعلق بتقعد أيضا، والقوم مضاف اليه، والظالمين صفة. البلاغة: 1- الاستعارة في الخوض لأنه في اللغة: الشروع في خوض الماء والعبور فيه، وقد استعير للأخذ في الحديث والشروع فيه على أفانين متنوعة، وأساليب متعددة، على وجه العبث واللهو، فهي استعارة مكنية تبعية. 2- الاختلاف في الشرط: قيل في الآية: «وإذا رأيت» فجاء الشرط بإذا لأن خوضهم في الآيات أمر غير مشكوك فيه، وجاء الشرط الثاني بإن لأن إنساء الشيطان أمر مشكوك فيه، قد يقع وقد لا يقع، لأنه معصوم منه، وقد تقدمت القاعدة، فسبحان قائل هذا الكلام. 3- وضع الظاهر موضع المضمر. وقد تقدم بحثه للتنبيه على ظلمهم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 69 الى 70] وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 اللغة: (ذِكْرى) مصدر ذكر، ولم يجيء على فعلى بكسر الفاء غيره. (عَدْلٍ) بفتح العين، أي: فداء لأن الفادي يعدل المفديّ بمثله. والعدل الفدية. (تُبْسَلَ) من البسل، وأصله في اللغة التحريم والمنع، يقال: هذا عليك بسل، أي، حرام ممنوع. والإبسال: مصدر مثل البسل، وهو المنع. ومنه: أسد باسل، لأن فريسته لا تفلت منه، أو لأنه ممتنع. والباسل: الشجاع لامتناعه من قرنه. وفي المختار: «وأبسله: أسلسه للهلكة، فهو مبسل، وقوله تعالى: «أن تبسل نفس بما كسبت» قال أبو عبيدة: أي أن تسلم، والمستبسل هو الذي يوطّن نفسه على الموت أو الضرب. وقد استبسل أي استقتل، وهو أن يطرح نفسه في الحرب، ويريد أن يقتل أو يقتل لا محالة» . الإعراب: (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) يجوز في الواو أن تكون عاطفة لتتمة الحديث، وأن تكون مستأنفة مسوقة للغرض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 نفسه. وما نافية، وعلى الذين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وجملة يتقون صلة الموصول، ومن حسابهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال. ومن حرف جر زائد، وشيء مجرور لفظا بمن مرفوع محلا على أنه مبتدأ مؤخر (وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الواو عاطفة، ولكن مخففة مهملة، وذكرى يجوز أن تكون نصبا على المصدرية بفعل مضمر، أي: ولكن يذكرونهم ذكرى، وأن تكون رفعا على أنها خبر لمبتدأ محذوف. أي: هي ذكرى، أو أنها مبتدأ والخبر محذوف، أي: ولكن عليهم ذكرى، ولعل واسمها، وجملة يتقون خبرها، وجملة الرجاء حالية (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) الواو عاطفة، وذر فعل أمر، أمات العرب ماضيه، وسيأتي بحثه في هذا الكتاب. وفاعله مستتر تقديره أنت، والذين اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة اتخذوا صلة الموصول، ودينهم مفعول به أول لاتخذوا، ولعبا مفعول به ثان، ولهوا عطف عليه. ويجوز أن تكون اتخذوا بمعنى اكتسبوا، فتتعدى لمفعول واحد، وتكون لعبا ولهوا نصبا على المفعول لأجله (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) الجملة معطوفة، وهي فعل ومفعول به وفاعل وصفة (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) وذكّر فعل أمر وبه جار ومجرور متعلقان بذكّر وأنّ وما بعدها في تأويل مصدر مفعول لأجله، أي: مخافة أن تسلم إلى العذاب والهلكة، والباء حرف جر، وما مصدرية، والمصدر المؤول في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بتبسل. وجملة ليس وما في حيزها صفة لنفس أو مستأنفة، ولها جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ومن دون الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وولي اسم ليس، وشفيع عطف على ولي (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) الواو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 عاطفة، وإن شرطية، وتعدل فعل الشرط، وكل عدل نصب على المصدرية، ولا نافية، ويؤخذ فعل مضارع مبني للمجهول، ومنها جار ومجرور في محل رفع نائب فاعل يؤخذ، ولا يجوز أن يكون نائب الفاعل ضمير العدل لأنه هنا باق على مصدريته، لأن الفعل تعدّى اليه بغير واسطة، ولو كان المراد المعدى به لكان مفعولا به، فلم يتعدّ إليه الفعل إلا بالباء، وكان وجه الكلام: وإن تعدل بكل عدل، فلما عدل عنه علم أنه مصدر، وهذا من الدقائق التي تندّ عن الأذهان (أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان قبح ما ارتكبوه. وأولئك مبتدأ، والذين خبره، وجملة أبسلوا صلة الموصول، وبما كسبوا جار ومجرور متعلقان بأبسلوا، وما مصدرية، أي: بسبب كسبهم، ويجوز أن يكون اسم الموصول بدلا من اسم الإشارة، فيكون قوله: (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) هو الخبر والاشارة الى الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا، ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وشراب مبتدأ مؤخر، وعلى الإعراب الأول تكون الجملة خبرا ثانيا أو حالا أو استئنافية، ومن حميم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لشراب، وعذاب عطف على شراب، وأليم نعت. وقوله: «بما كانوا يكفرون» الجار والمجرور متعلقان بمحذوف، تقديره: أعدلهم، فيكون بمثابة التفسير لأبسلوا، وما مصدرية، وجملة كانوا لا محل لها، وجملة يكفرون في محل نصب خبر كانوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 [سورة الأنعام (6) : آية 71] قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) اللغة: (اسْتَهْوَتْهُ) : أصله من الهويّ، وهو النزول من علوّ إلى سفل، فكأن الشياطين حين استهوته في الأرض طلبت هويّه فيها. (حَيْرانَ) تائها ضالا عن جادة الطريق، وهو صفة مشبهة، ومؤنثة حيرى ولذلك لم ينصرف، وفعله حار يحار حيرة وحيرانا وحيرورة، وتخطىء العامة فتقول: احتار. الإعراب: (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) كلام مستأنف مسوق لبيان حال الذي يدعو إلى عبادة الأصنام، كما سيأتي في باب البلاغة. والهمزة للاستفهام الإنكاري، وندعو فعل مضارع، والجملة مقول القول، ومن دون الله جار ومجرور متعلقان بندعو، وما اسم موصول في محل نصب مفعول ندعو، وجملة لا ينفعنا صلة الموصول، وكذلك جملة ولا يضرنا المعطوفة عليها (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ) الواو عاطفة، ونرد فعل مضارع معطوف على ندعو، داخل في حكم الإنكار والنفي، ونائب الفاعل مستتر تقديره نحن، وعلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 أعقابنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، أي: راجعين إلى الشرك بعد إذ أنقذنا الله منه، وبعد ظرف متعلق ب «نردّ» ، وإذ ظرف لما مضى من الزمن في محل جر بالإضافة، وجملة هدانا الله في محل جر بالإضافة ل «إذ» ، وهدانا الله فعل ومفعول به وفاعل (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ) يجوز في هذه الكاف أن تكون نعتا لمصدر محذوف، أي: نردّ ردّا مثل ردّ الذي استهوته الشياطين، ويجوز أن تكون حالا من نائب فاعل نرد، أي: نرد مشبهين الذي استهوته الشياطين، وجملة استهوته الشياطين صلة الموصول، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان باستهوته، وحيران حال من مفعول استهوته (لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا) له جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وأصحاب مبتدأ مؤخر، والجملة في محل نصب حال من ضمير حيران، ويجوز أن تكون مستأنفة، وجملة يدعونه صفة لأصحاب، وإلى الهدى جار ومجرور متعلقان بيدعونه، وائتنا فعل أمر ونا مفعوله، والجملة في محل نصب مقول قول محذوف، أي: يقولون: ائتنا، وجملة القول في محل نصب حال (قُلْ: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) الجملة مستأنفة، وإن واسمها، وهو ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ، والهدى خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر إن، وجملة إن وما في حيزها في محل نصب مقول القول، وأمرنا الواو حرف عطف، وأمرنا فعل ماض مبني للمجهول، ونا ضمير متصل في محل رفع نائب فاعل، والجملة عطف على جملة: إن هدى الله هو الهدى، منتظمة في حيز القول، ولنسلم الواو حرف عطف، وفي هذه اللام أقوال كثيرة لا طائل تحتها، ضربنا عنها صفحا، وأقرب ما يبدو فيها أنها على بابها من التعليل، فهي تعليل للأمر، والمعنى قيل لنا: أسلموا لأجل أن نسلم، والغرض من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 دخولها إفادة الاستقبال على وجه أوثق، إذ لا يتعلق الأمر والإرادة إلا بمستقبل، ونسلم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعدها، ولرب العالمين جار ومجرور متعلقان بنسلم. البلاغة: التشبيه التمثيلي المنفي في قوله: «كالذي استهوته الشياطين في الأرض» ، والمشبه هو أنه لا ينبغي لنا ولا يمكن أن نعبد غير الله بعد أن هدانا، لأنا لو فعلنا ذلك لكنا مثل من حيرته الشياطين، فهو تشبيه جملة بجملة، واستفيد النفي من الإنكار في قوله: «أندعو» . [سورة الأنعام (6) : الآيات 72 الى 73] وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) اللغة: (الصُّورِ) : القرن ينفخ فيه، وهو المعروف اليوم بالبوق. الإعراب: (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) الواو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 حرف عطف، وأن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، أي: وأمرنا بأن أقيموا الصلاة، وقد اختلف في هذا العطف، فقيل: إنه في محل نصب بالقول نسقا على قوله: إن هدى الله هو الهدى، أي: قل هذين الشيئين، وقال سيبويه: إنه نسق على: لنسلم، والتقدير: أمرنا بكذا للإسلام ولنقيم الصلاة، و «أن» توصل بالأمر كقولهم: كتبت إليه بأن قم، وقد اختار الزمخشري هذا الوجه قال: «فإن قلت علام عطف قوله: وأن أقيموا؟ قلت: على موضع «لنسلم» ، كأنه قيل: أمرنا أن نسلم وأن أقيموا» . وأقيموا فعل أمر، والصلاة مفعول به، واتقوه عطف على أقيموا، وهو الواو استئنافية، وهو مبتدأ، والذي خبره، وجملة تحشرون صلة، وإليه جار ومجرور متعلقان بتحشرون (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) الواو استئنافية، وهو مبتدأ، والذي خبره، وجملة خلق السموات والأرض صلة الموصول، وبالحق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، أي: محقا جادا لا هازئا ولا عابثا (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ) الواو استئنافية، والظرف متعلق ب «اذكر» مقدرة، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان سرعة التكوين، وجملة يقول في محل جر بالإضافة، وكن فعل أمر تام لا ناقص، فيكتفي بمرفوعه، وفاعل كن ضمير جميع ما يخلقه الله تعالى يوم القيامة، والفاء عاطفة، ويكون فعل مضارع تام معطوف على كن (قَوْلُهُ الْحَقُّ) اختلفوا كثيرا في إعراب هذا الكلام، والذي أختاره أن يكون مبتدأ وخبرا، والجملة مستأنفة، ولا طائل تحت الأوجه التي أوردها، أخبر سبحانه عن قوله بأنه لا يكون إلا حقا (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) الواو عاطفة، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والملك مبتدأ مؤخر، ويوم ظرف زمان متعلق بمحذوف بدل من الظرف الأول في قوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 «يوم يقول» ، وجملة ينفخ في محل جر بالإضافة، وفي الصور جار ومجرور في محل رفع نائب فاعل ينفخ (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) عالم خبر مبتدأ محذوف، والواو حرف عطف، والحكيم الخبير خبراه. والجملة استئنافية. [سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 75] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) اللغة: (آزَرَ) : اختلف المفسرون وعلماء اللغة في لفظة آزر بما لا طائل تحته، وأقرب ما يقال فيه أنه علم أعجمي، ولذلك منع من الصرف. (مَلَكُوتَ) : يعني ملكه، وزيدت فيه التاء كما زيدت في الجبروت. الإعراب: (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) الواو حرف عطف، وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق باذكر مضمرة، عطفا على: قل أندعو، أي: واذكر لقريش، بعد أن أنكرت عليهم عبادة مالا ينفع ولا يضر، وقت قول إبراهيم الذي يدعون أنهم على ملته. وجملة قال إبراهيم في محل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 جر بالإضافة، ولأبيه جار ومجرور متعلقان بقال، وآزر بدل من أبيه (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الهمزة للاستفهام الإنكاري، والجملة في محل نصب مقول القول، وأصناما مفعول تتخذ الأول، وآلهة مفعول به ثان، وإن واسمها، وجملة أراك خبرها، والجملة تعليل للإنكار، وقومك عطف على الكاف، أو مفعول معه، وفي ضلال: إما مفعول به ثان إذا كانت الرؤية قلبية، وإما بمحذوف حال إذا كانت الرؤية بصرية، ومبين صفة (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الواو اعتراضية، والكاف مع مجرورها في محل نصب نعت لمفعول مطلق محذوف تقديره: ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرف إبراهيم ونبصره ملكوت السموات والأرض. وقد اعترض أبو حيان على هذا التقدير فقال: «وهذا بعيد من دلالة اللفظ» . وتعقبه بعضهم فقال: وإنما كان بعيدا لأن المحذوف من غير الملفوظ به، ولو قدره بقوله: وكما أريناك يا محمد الهداية، لكان قريبا لدلالة اللفظ والمعنى عليه معا، وقدره أبو البقاء بوجهين، أحدهما: قال: «هو نصب على إضمار «أريناه» وتقديره: وكما رأى أباه وقومه في ضلال مبين أريناه، ذلك ويجوز أن يكون منصوبا ب «نري» التي بعده، على أنه صفة لمصدر محذوف، تقديره: نريه ملكوت السموات والأرض رؤية كرؤية ضلال أبيه. ويجوز أن تكون الكاف في محل رفع على خبر ابتداء مضمر، أي: والأمر كذلك، وابراهيم مفعول به أول، وملكوت السموات والأرض هو المفعول الثاني، والجملة كلها لا محل لها لأنها معترضة بين قوله: «وإذ قال» وبين الاستدلال على ذلك بقوله: «فلما جن عليه الليل» . (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) الواو عاطفة، والمعطوف محذوف، أي: وفعلنا ذلك ليكون، فاللام للتعليل، ويكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 بعد لام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالمعطوف المحذوف، واسم يكون مستتر تقديره هو، ومن الموقنين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر يكون. [سورة الأنعام (6) : الآيات 76 الى 78] فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) اللغة. (جَنَّ) تقدم اشتقاق هذه المادة عند ذكر الجنة، وهنا ما يختص بالفعل المسند إلى الليل، يقال: جنّ عليه الليل وأجنّ عليه: بمعنى أظلم، فيستعمل لازما، وجنّه وأجنّه، فيستعمل متعديا. فهذا ما اتفق عليه الثلاثي والرباعي، غير أن الأجود في الاستعمال: جنّ عليه الليل، وأجنّه الليل، فيكون الثلاثي لازما والرباعي متعديا. (أَفَلَ) : الشيء وأفولًا من بابي ضرب وقعد: غاب. (بازِغاً) : البزوغ: الطلوع، يقال: بزغ بفتح الزاي، يبزغ بضمها، يستعمل لازما ومتعديا. وللباء مع الزاي، فاء وعينا للفعل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 خاصة متشابهة، تلك هي معنى الطلوع والبروز. يقال: بزّه ثوبه وابتزّه: سلبه على مرأى منه، وابتزت من ثيابها تجردت فظهرت يعريها، ومنه قول امرئ القيس: إذا ما الضجيع ابتزّها من ثيابها ... تميل عليه هونة غير متعال وبزل الشراب من المبزل: أساله منه، قال زهير بن أبي سلمى: سعى ساعيا غيظ بن مرّة بعد ما ... تبزّل ما بين العشيرة بالدم والبازي طائر معروف، ويقال: فلان يتحيّن كالحازي، ثم ينقضّ كالبازيّ. وهذا من العجب بمكان. الإعراب: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ: هذا رَبِّي) الفاء حرف عطف، والجملة معطوفة على جملة قال إبراهيم لأبيه، فيكون قوله: «وكذلك نري إبراهيم» معترضا كما تقدم، ولما حينية أو رابطة، وجن فعل ماض، وعليه جار ومجرور متعلقان بجن، والليل فاعل، وجملة جن في محل جر بالإضافة، أو لا محل لها على الثاني، وجملة رأى كوكبا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وجملة: قال هذا ربي مستأنفة، وجملة هذا ربي في محل نصب مقول القول (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) فلما الفاء عاطفة، ولما حينية أو رابطة، وجملة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 أفل في محل جر بالإضافة، أو لا محلّ لها، وجملة قال جواب شرط غير جازم، وجملة لا أحب الآفلين في محل نصب مقول القول، وإنما قال ذلك لأن الربّ لا يجوز عليه التغير والانتقال (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي) الفاء عاطفة، وبازغا حال، لأن الرؤية بصرية، وهذا مبتدأ، وربي خبره، والجملة في محل نصب مقول القول وجملة قال هذا ربي لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) اللام موطئة للقسم، وإن شرطية، ولم حرف نفي وقلب وجزم، ويهدني فعل مضارع مجزوم بلم، والنون للوقاية، والياء مفعول به، وربي فاعل، واللام جواب القسم، وجملة أكوننّ جواب القسم لا محل لها، ومن القوم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر أكونن، والضالين نعت (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ: هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ) تقدم إعرابها، وجعل المبتدأ نظير الخبر وإن كانت الاشارة الى الشمس لكونهما عبارة عن شيء واحد، ولصيانة الربّ عن شبهة التأنيث، ألا تراهم قالوا في صفته: علام، ولم يقولوا: علامة، وإن كان علّامة أبلغ احترازا من علامة التأنيث، وسيأتي مزيد من هذا البحث في باب الفوائد (فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) مما جار ومجرور متعلقان ببريء، وما مصدرية أي بريء من اشراككم، ويجوز أن تكون موصولة، أي من الذي تشركونه مع الله في عبادته، فحذف العائد. ويلاحظ أن إبراهيم عليه السلام احتجّ على قومه بالأفول دون البزوغ، مع أن كليهما يفيد الانتقال من حال إلى حال، لسرّ دقيق وهو أن الأفول انتقال مع الخفاء والانطماس، والبزوغ انتقال مع الظهور والسطوع والائتلاق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 البلاغة: في الآية فن التعريض، وقد تقدم بحثه، وإنما عرض بضلالهم. ويلاحظ أنه عرض بضلالهم في أمر القمر لأنه أيس منهم في أمر الكوكب، ولهذا أعلن في أمر الشمس البراءة منها عن طريق استدراج الخصم وإيقاعه تحت الحجة. الفوائد: قيل: الشمس تذكر وتؤنث، فأنثت أولا على المشهور، وذكرت في الاشارة على اللغة القليلة، مراعاة ومناسبة للخبر، فرجحت كفة التذكير- التي هي أقل- على لغة التأنيث. [سورة الأنعام (6) : الآيات 79 الى 80] إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) الإعراب: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كلام مستأنف مسوق لإعلان إبراهيم عليه السلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 تمسكه بالهدى ودين الحق. وإن واسمها، وجملة وجهت خبرها، ووجهي مفعول به، وللذي جار ومجرور متعلقان بوجهت، وجملة فطر السموات والأرض صلة الموصول، والسموات مفعول به، والأرض عطف على السموات، وحنيفا حال من التاء في وجهت، والواو حرف عطف، وما نافية حجازية، تعمل عمل ليس، وأنا اسمها، ومن المشركين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ: أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ) كلام مستأنف مسوق لذكر المحاجّة بين إبراهيم عليه السلام وقومه. روي أنه لما كثر استهزاؤه بالأصنام والتنديد بها جادله قومه، وأرادوا أن يقيموا عليه الحجة. وحاجّه فعل ماض، والهاء مفعول به، وقومه فاعل، وقال فعل ماض، وفاعله مستتر تقديره هو، والجملة مستأنفة، والهمزة للاستفهام الإنكاري، وتحاجوني بالنون المشددة على إدغام نون الرفع في نون الوقاية، والأصل أتحاجونني! وفي الله جار ومجرور متعلقان بتحاجوني، والواو حالية، وقد حرف تحقيق، وهدان فعل ماض، والنون للوقاية، والياء المحذوفة رسما مفعول به ويجوز حذفها وإثباتها في الوصل، والجملة في محل نصب على الحال من الياء في أتحاجّوني، أي: أتجادلونني في الله حال كوني مهديا من لدنه؟ ويجوز أن تكون حالا من الله، أي: أتجادلونني فيه حال كونه هاديا لي؟ فحجتكم متهافتة من أساسها (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) الواو يجوز أن تكون استئنافية، والجملة مستأنفة، أخبرهم عليه السلام أنه لا يخاف ما يشركونه بالله ثقة به وارتكانا على دعمه وكلاءته، ويحتمل أن تكون عاطفة، فهي تابعة لجملة: «وقد هدان» ، أي: في النصب على الحال، وما اسم موصول مفعول به، والضمير في «به» يعود على «ما» ، والمعنى: ولا أخاف الذي تشركون الله به. وإلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 أداة استثناء، والمصدر المؤول من أن والفعل مستثنى متصل، لأنه من جنس الأول، والمستثنى منه الزمان، وقد قدره الزمخشري بقوله: إلا وقت مشيئة ربي شيئا يخاف، فحذف الوقت. ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا، فتكون «إلا» بمعنى «لكن» ، فإن المشيئة ليست مما يشركونه به. والمصدر المؤوّل مبتدأ خبره محذوف، تقديره: لكن مشيئة ربي أخافها وشيئا مفعول به (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) الجملة تعليل للاستثناء لا محل لها، ووسع ربي فعل وفاعل، وكل شيء مفعول به، وعلما تمييز، محوّل عن الفاعل، والتقدير: وسع علم ربي كل شيء، والهمزة للاستفهام الإنكاري، والفاء عاطفة، ولا نافية، وتتذكرون معطوف على محذوف، أي: أتعرضون عن التأمل في أن آلهتكم جمادات لا تضرّ ولا تنفع فلا تتذكرون أنها بهذه المثابة؟ [سورة الأنعام (6) : الآيات 81 الى 82] وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) الإعراب: (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة لنفي الخوف عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكيف اسم استفهام في محل نصب حال، وأخاف فعل مضارع، وما اسم موصول مفعول به، وجملة أشركتم صلة، ويجوز أن تكون ما مصدرية، والمصدر المؤول مفعول أخاف، ولا تخافون عطف على أخاف، فتكون داخلة في حيز الإنكار، ويجوز أن تكون الواو للحال، فتكون الجملة في محل نصب على الحال، أي: وكيف أخاف الذي تشركون به غيره، وإشراككم حال كونكم أنتم غير خائفين. وأن واسمها، وجملة أشركتم بالله خبرها، وما اسم موصول مفعول به لأشركتم، وبه جار ومجرور متعلقان بينزل، وعليكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، لأنه كان في الأصل صفة لقوله: سلطانا، فلما تقدم أعرب حالا، وسلطانا مفعول به (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الفاء الفصيحة، وأي أداة استفهام مبتدأ، وأحق خبرها، وإن شرطية، وكان فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمها، وجملة تعلمون خبرها، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي: فأخبروني أي الفريقين أحق بالاتباع؟ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) الذين خبر لمبتدأ محذوف، بناء على أن الكلام مسوق من إبراهيم جوابا عن السؤال في قوله: فأي الفريقين؟ ويجوز أن تكون مبتدأ بناء على أن الكلام من الله تعالى، وجملة آمنوا صلة، ولم الواو عاطفة، ولم حرف نفي وقلب وجزم، ويلبسوا فعل مضارع مجزوم بلم، معطوف على الصلة، وبظلم جار ومجرور متعلقان بيلبسوا (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أولئك مبتدأ، ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والأمن مبتدأ مؤخر ثان، والجملة الاسمية خبر اسم الإشارة، وجملة الاشارة وما في حيزها في محل نصب مقول قول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 محذوف على الوجه الأول، أو مرفوعة على أنها خبر الذين على الوجه الثاني، والواو حرف عطف، وهم مبتدأ، ومهتدون خبره، والجملة عطف على ما تقدم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 83 الى 87] وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) الإعراب: (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) كلام مستأنف مسوق للاشارة الى الدلائل المتقدمة، والأنبياء التي أنزلت على أيديهم، وتلك: اسم إشارة مبتدأ، وحجتنا خبره، وجملة آتيناها خبر ثان أو حال، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 والعامل فيها معنى الاشارة، وآتيناها فعل وفاعل ومفعول به، وإبراهيم مفعول به ثان، وعلى قومه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أو بحجتنا (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) الجملة مستأنفة لا محل لها، وأعربها أبو البقاء حالا من فاعل آتيناها، أي: في حال كوننا رافعين، ودرجات مفعول فيه، ومن اسم موصول مفعول به، وجملة نشاء صلة الموصول، والمعنى نرفع من نشاء في درجات، أي: مراتب. وإن واسمها وخبراها، والجملة تعليلية لا محل لها (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا) الواو عاطفة على قوله: وتلك حجتنا، ولا مشاحة في جواز عطف كل من الفعلية والاسمية على الأخرى، ووهبنا فعل وفاعل، وإسحق مفعول به، ويعقوب عطف على إسحق، وكلا مفعول به مقدم لهدينا، وهدينا فعل وفاعل، والجملة عطف على وهبنا (وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) ونوحا مفعول مقدم لهدينا، والجملة معطوفة على ما تقدم، ومن قبل جار ومجرور متعلقان بهدينا، وبني قبل على الضم لانقطاعه عن الإضافة لفظا لا معنى، أي: قبل ابراهيم (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) الواو حرف عطف، ومن ذريته جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، أي: وهدينا داود وسليمان إلى آخر من ذكرهم من الأنبياء حال كونهم من ذريته، فجملة الأربعة عشر نبيا بعد نوح منصوبة بفعل الهداية الذي نصب «نوحا» ، والواو استئنافية، وكذلك جار ومجرور متعلقان بمحذوف مفعول مطلق، ونجزي فعل مضارع، والمحسنين مفعول به (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) الواو عاطفة، وكل مبتدأ، وساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم، والتنوين في كل عوض عن كلمة، أي: كل واحد، ومن الصالحين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) كلّا مفعول به مقدم لفضلنا، وعلى العالمين جار ومجرور متعلقان بفضلنا (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ) أي: وهدينا كلّا من آبائهم. واجتبيناهم فعل وفاعل ومفعول به، والجملة عطف على ما تقدم (وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الواو عاطفة، وكرر الهداية لتكرير التأكيد وتمهيدا لبيان ما هدوا إليه، وإلى صراط جار ومجرور متعلقان بهديناهم، ومستقيم صفة. [سورة الأنعام (6) : الآيات 88 الى 90] ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90) الإعراب: (ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان ما أشير إليه، وهو إما الاجتباء وإما الهداية. وذلك اسم إشارة مبتدأ، وهدى الله خبر، وجملة يهدي حالية أو خبر ثان، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 ويجوز إعراب هدى الله بدلا من اسم الإشارة وجملة يهدي خبر، وبه جار ومجرور متعلقان بيهدي، ومن اسم موصول مفعول به، وجملة يشاء صلة الموصول، ومن عباده جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من اسم الموصول (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) الواو حالية، ولو شرطية، وأشركوا فعل وفاعل، وهو فعل الشّرط، واللام واقعة في جواب الشرط، وجملة حبط لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وعنهم جار ومجرور متعلقان بحبط، وما اسم موصول فاعل، وجملة كانوا صلة الموصول، وجملة يعملون خبر كانوا (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) الجملة مستأنفة، وأولئك اسم إشارة مبتدأ والإشارة الى الأنبياء الثمانية عشر المذكورين والذين خبر اسم الإشارة، وجملة آتيناهم صلة الموصول، والكتاب مفعول به ثان، وما بعده عطف عليه (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) الفاء استئنافية، وإن شرطية، ويكفر فعل الشرط، وبها جار ومجرور متعلقان بيكفر، وهؤلاء فاعل، والإشارة الى أهل مكة الذين أرسل محمد عليه الصلاة والسلام لهدايتهم، فقد الفاء رابطة لجواب الشرط، وقد حرف تحقيق، ووكلنا فعل وفاعل، وبها جار ومجرور متعلقان بوكلنا، وقوما مفعول به، وجملة ليسوا صفة، وبها جار ومجرور متعلقان بكافرين، والباء حرف جر زائد، وكافرين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليسوا (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) الجملة مستأنفة، وأولئك مبتدأ، أي الأنبياء المذكورون، والذين اسم موصول في محل رفع خبر، وجملة هدى الله صلة، فبهداهم الفاء الفصيحة، أي إذا شئت سلوك الطريق القويم والارتفاع الى أسمى المسئوليّات فاقتد بهداهم، وقد جمع الله له خصائص الأنبياء الكبرى التي كانت متوزعة عليهم، اقتد فعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 أمر مبني على حذف حرف العلة، والهاء للسكت. وقد تقدّم بحثها والجملة الواقعة بعد الفاء الفصيحة جواب شرط لا محل لها (قُلْ: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) جملة قل مستأنفه، وجملة لا أسألكم في محل نصب مقول القول، وعليه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، والضمير في «عليه» يعود على التبليغ المفهوم من سياق الكلام، وأجرا مفعول به ثان لأسألكم، وإن نافية، وهو مبتدأ، وإلا أداة حصر، وذكرى خبر، وللعالمين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة. وجملة إن هو إلا ذكرى استئنافية. [سورة الأنعام (6) : آية 91] وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) الإعراب: (وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) كلام مستأنف مسوق للرّد على اليهود الذين قالوا ما يأتي مما ينسجم مع طبعهم الأصيل في التّعنّت والملاحاة. وما نافية، وقدروا الله فعل وفاعل ومفعوله، وحق قدره مفعول مطلق، والأصل: قدره الحقّ، ثم أضيفت الصّفة الى الموصوف، يقال: قدر الشيء إذا سبره وحزره ليعرف مقداره ومداه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 ثم استعمل في صفة الشّيء (إِذْ قالُوا: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بقدروا، وجملة قالوا: في محل جر بالإضافة، والقائلون هم اليهود، فلم تكن ثمّة مندوحة عن إلزامهم ما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التّوراة على موسى، وأدرج تحت إلزامهم تبويخهم والانحناء عليهم باللائمة، ووصمهم بالغباء المفرط والجهالة الرعناء، وجملة ما أنزل الله في محل نصب مقول القول، ومن حرف جر زائد، وشيء مجرور لفظا مفعول به منصوب محلا، (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) الجملة مستأنفة مسوقة للرّد عليهم وإسقاطهم في حضيض المذلة. ومن اسم استفهام مبتدأ، وجملة أنزل الكتاب خبر، والذي اسم موصول صفة للكتاب، وجملة جاء به موسى صلة، ونورا منصوب على الحال، وهدى عطف على: نورا وللناس جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لهدى (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) الجملة حالية من الكتاب، أو من الضمير في به، وتجعلونه فعل وفاعل ومفعول به أول، وقراطيس مفعول به ثان، نزلوه منزلة القراطيس، وقد تقدم القول في القرطاس، وجملة تبدونها في محل نصب صفة ل «قراطيس» ، وجملة وتخفون كثيرا عطف على جملة تبدونها، وكثيرا مفعول به ل «تخفون» (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) الواو عاطفة، وجملة علمتم عطف على جملة تجعلونه في نطاق الحال، وعلمتم فعل ماض مبني للمجهول، والتاء نائب فاعل، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به ثاني. وجملة لم تعلموا صلة الموصول، وأنتم تأكيد للفاعل وهو الواو في: «لم تعلموا» ولا الواو حرف عطف، وآباؤكم عطف على قوله «أنتم» . (قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة لمتابعة الرّدّ عليهم، والله مبتدأ حذف خبره، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 أو خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: الله أنزله، أو وهو الله، ثم حرف عطف، وذرهم فعل أمر أمات العرب ماضيه، وفي خوضهم جار ومجرور متعلقان بذرهم، أو بيلعبون أو بمحذوف حال، وجملة يلعبون في محل نصب على الحال من مفعول ذرهم. [سورة الأنعام (6) : آية 92] وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) اللغة: (أُمَّ الْقُرى) سميت مكة أم القرى لأنها مكان أول بيت وضع للناس، ولأنها قبلة أهل القرى ومحجهم، ولأنها أعظم القرى شأنا. وأنشد الزمخشري لبعض المجاورين، ولعله يريد نفسه، فهو من نظمه: فمن يلق في بعض القريّات رحله ... فأمّ القرى ملقى رحالي ومنتابي الإعراب: (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) الواو استئنافية، وهذا اسم اشارة مبتدأ، وكتاب خبره، وجملة أنزلناه في محل رفع صفة أولى ل «كتاب» ، ومبارك صفة ثانية، ومصدق صفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 ثالثة، والذي اسم موصول في محل جر بالإضافة، والظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول، ويديه مضاف إليه (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) الواو عاطفة واللام للتعليل، وتنذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام، والجار والمجرور متعلقان بأنزلناه، أي: أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدّمه من الكتب وأم القرى مفعول به ومن عطف على أم القرى، وحولها ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) الواو استئنافية، والذين اسم موصول مبتدأ، وجملة يؤمنون بالآخرة صلة الموصول، وجملة يؤمنون به خبر، ويجوز أن تكون الواو عاطفة، والذين اسم موصول معطوف على أم القرى، أي: لتنذر أهل أم القرى ولتنذر الذين آمنوا، فتكون جملة يؤمنون الثانية حالا من الموصول، والواو حالية، وهم مبتدأ، وجملة يحافظون خبر، والجملة نصب على الحال. البلاغة: جاء بالصفة الأولى فعلية، وهي جملة أنزلناه، لأن الإنزال يتجدد وقتا بعد وقت، على حد قوله: وقال رائدهم: أرسو نزاولها ... فحتف كل امرئ يجري بمقدار ووقعت الصفة الثانية اسما، وكذلك الثالثة، للدّلالة على الثبوت والاستمرار وديمومة البركة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 [سورة الأنعام (6) : آية 93] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) اللغة: (غَمَراتِ الْمَوْتِ) : شدائده وسكراته، والغمرات: جمع غمرة، وهي الشدة الفظيعة، من غمره الماء إذا ستره، وفي المختار: «وقد غمره الماء أي علاه وبابه نصر، والغمرة: الشدة، والجمع غمر، كنوبة ونوب، وغمرات الموت شدائده» . ومن غريب أمر اشتقاق هذه الأحرف الثلاثة- وهي الغين والميم والرّاء- أنك تعقد على تراكيبها معنى واحدا يجمع تلك التراكيب وما تصرّف منها، فلهذه الأحرف ستة تراكيب وهي: غمر وغرم ومرغ ومغر ورغم ورمغ، ويجمعها معنى واحد وهو التغطية والستر والإخفاء وإزالة الأثر. وفي اجتماع الغين والميم فاء وعينا معنى التغطية تقول: سيف مغمود ومغمد، أي موضوع في غمده، وتغمّده الله برحمته أي: ستره، والغمز معروف، تقول: ما فيه مغمز ولا غميزة أي: أمر مغطّى معاب، وله جارية غمّازة أي: حسنة الغمز للأعضاء، وغمسه في الماء فانغمس واغتمس أي: أخفاه فيه، وغمس النجم غموسا غاب، ومه اليمين الغموس لشدتها، وغمض الأمر: خفي، وكلام غامض: غير واضح، وغمط النعمة: احتقرها ولم يشكرها، وغمّ الشيء إذا غطّاه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 (الْهُونِ) : بضم الهاء: مصدرها هوانا وهونا، أي: ذلّ، والعرب إذا أرادت بالهون معنى الهوان ضمّت الهاء، وإذا أرادت به الرفق والدّعة وخفّة المئونة فتحت الهاء، فقالوا: هو قليل هون المئونة. الإعراب: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) الواو استئنافية، والكلام مستأنف مسوق لذكر بعض المتنبّئين ضلالة، ومن اسم استفهام يفيد معنى النفي، أي: لا أحد، في محل رفع مبتدأ، وأظلم خبره، وممّن جار ومجرور متعلقان بأظلم، وجملة افترى صلة الموصول، وعلى الله جار ومجرور متعلقان بافترى، وكذبا يجوز فيه أن يكون مفعولا به لفعل افترى، وأن يكون مصدرا على المعنى، أي افتراء، فيكون مفعولا مطلقا، وأن يكون مفعولا لأجله، وأن يكون مصدرا في موضع الحال (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) أو حرف عطف، وقال عطف على افترى، وأوحي فعل ماض مبني للمجهول، وإليّ الجار والمجرور في موضع رفع على أنهما نائب فاعل أوحي، والواو حالية. وجملة لم يوح في موضع نصب على الحال من ضمير الفاعل في «قال» ، أو الياء في «إليّ» ، وشيء نائب فاعل ل «يوح» (وَمَنْ قالَ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ) أو حرف عطف، ومن اسم موصول معطوف على المجرور ب «من» ، أي: ممّن افترى، وجملة سأنزل في محل نصب مقول القول، ومثل: يجوز أن تكون منصوبة على أنها مفعول به، وما اسم موصول في محل جر بالإضافة، وجملة أنزل الله صلة الموصول، ويجوز أن تكون نعتا لمصدر محذوف، والتقدير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 سأنزل إنزالا مثل ما أنزل الله، و «ما» على هذا الوجه مصدرية، وجملة أنزل الله لا محل لها لأنها وقعت بعد موصول حرفي (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) الواو استئنافية، ولو شرطية، وترى فعل مضارع شرطه لو، وجواب لو محذوف أي: لرأيت أمرا عظيما. وقد تقدمت نظائر لذلك. والرؤية بصرية، ومفعولها محذوف، أي: ولو ترى الظالمين إذ هم في غمرات الموت، وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بتري، والظالمون مبتدأ، وفي غمرات الموت جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر «الظالمون» ،، والجملة الاسمية في محل جر بالإضافة، والملائكة الواو حالية، والملائكة مبتدأ وباسطو خبر، وأيديهم مضاف اليه وهو مفعول به في المعنى، والجملة في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في الخبر، وهو في غمرات الموت (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ) جملة أخرجوا أنفسكم منصوبة بقول مضمر، أي: يقولون لهم تعنيفا وتقريعا، وهذا القول في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في اسم الفاعل، وهو باسطو، وأنفسكم مفعول به، واليوم ظرف زمان منصوب متعلق بأخرجوا أو بتجزون، وجملة تجزون مستأنفة، وهو فعل مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعل، وعذاب الهون مفعول به ثان، وبما الباء حرف جر، وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالباء، والجار والمجرور متعلقان بتجزون، أي: بسببه، وكان واسمها، وجملة تقولون خبر كنتم، وغير الحق نعت لمصدر محذوف، أي: تقولون القول غير الحق (وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) عطف على كنتم الأولى، داخلة في حيز صلة الموصول، وهو ما، وعن آياته جار ومجرور متعلقان بتستكبرون، وجملة تستكبرون خبر كنتم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 البلاغة: في قوله: «غمرات الموت» استعارة تصريحية تمثيلية، فقد استعار ما يغمر من الماء للشدة البالغة. [سورة الأنعام (6) : آية 94] وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) اللغة: (فُرادى) : اختلف علماء اللغة في فرادى: هل هو جمع أم لا! والقائلون بأنه جمع اختلفوا في مفرده، فقال الفراء: فرادى جمع فرد وفريد وفردان، وقال ابن قتيبة: هو جمع فردان كسكران وسكارى وعجلان وعجالى، وقال قوم: هو جمع فريد كرديف وردافى، وأسير وأسارى، قاله الراغب. وقيل: هو اسم جمع لأن فردا لا يجمع على فرادى، وقول من قال: إنه جمع له، فإنما يريد في المعنى، ومعنى فرادى: فردا فردا. الإعراب: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الواو استئنافية، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 واللام جواب قسم محذوف، وجئتمونا فعل وفاعل ومفعول به، والواو لإشباع ضمة الميم التي هي علامة جمع الذكور وفرادى منصوب على الحال من التاء، أي فاعل جاء، وكما خلقناكم يصح في الكاف ومجرورها- وهو المصدر المؤوّل من ما المصدرية والفعل- أن تكون في محل نصب نعت لمصدر محذوف، أي: مجيئا مثل مجيئكم يوم خلقناكم أول مرة، وأن تكون في محل نصب على الحال من فاعل جئتمونا، وأول مرة منصوب على الظرفية الزمانية، والعامل فيه خلقناكم، ومرة في الأصل مصدر لمرّ يمرّ مرّة، ثم اتسع فيها فصارت زمانا (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ) يجوز في الواو أن تكون استئنافية أو حالية، والجملة إما مستأنفة لا محل لها، أو في محل نصب على الحال من فاعل جئتمونا، بتقدير: قد، وتركتم فعل وفاعل، وترك هنا يجوز أن تتعدى لواحد لأنها بمعنى التخلية لا التصيير، أو بمعنى التصيير فتتعدى لمفعولين، أولهما «ما» الموصولية، والثاني الظرف، فيتعلق بمحذوف أي: وصيّرتم بالترك الذي خوّلناكموه كائنا وراء ظهوركم، وعلى الأول يتعلق الظرف بتركتم (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) الواو عاطفة، وما نافية، ونرى فعل مضارع مرفوع، ومعكم ظرف مكان متعلق بنرى، وشفعاءكم مفعول به، والذين نعت، وجملة زعمتم صلة الموصول، وأن وما في حيزها سد مسد مفعولي زعم، وأن واسمها، وفيكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لشركاء وقدم عليه، وشركاء خبر أن (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) اللام جواب لقسم محذوف، وقد حرف تحقيق، وتقطع فعل ماض وفاعله مضمر يعود على الاتصال الذي تدل عليه لفظة «شركاء» ، إذ يفهم منها الوصل، أي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 الارتباط والتعلق، والمعنى: لقد تقطع الاتصال بينكم، وقرئ بالرفع، وبينكم فاعل لأنه اسم غير ظرف، وهو من الأضداد يستعمل للوصل والفراق، أي: لقد تقطّع وصلكم. وضل الواو عاطفة، وضل فعل ماض، وعنكم جار ومجرور متعلقان بضل، وما اسم موصول فاعل، وجملة كنتم صلة الموصول، وجملة تزعمون خبر كنتم، ومفعولا تزعمون محذوفان، والتقدير: تزعمونهم شفعاء، وحذفا للدلالة عليهما، على حدّ قول الكميت: بأي كتاب أم بأية سنّة ... ترى حبهم عارا عليّ وتحسب أي: وتحسبه عارا. [سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 96] إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) اللغة: (فالِقُ) اسم فاعل من فلق، أي: شقّ الشيء، وفيده الراغب بإبانة بعضه عن بعض، أي: شاق الحبّ عن النبات، فيشق الجبة فيخرج منها ورق أخضر، ويشقّ النواة اليابسة فيخرج منها شجرة صاعدة في الهواء. والفرق بين الحب والنوى معروف، فالأول كالحنطة والشعير، والثاني كالخوخ والمشمش. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 (تُؤْفَكُونَ) : تصرفون، أي: كيف تصرفون عن الإيمان. (الْإِصْباحِ) بكسر الهمزة: مصدر سمي به الصبح، وقرئ بفتح الهمزة على أنه جمع صبح، قال: أفنى رياحا وبني رياح ... تناسخ الإمساء والإصباح وسيأتي المزيد من معناهما في باب البلاغة. (حُسْباناً) : بضم الحاء مصدر حسب الحساب، وتكسر هاؤه أيضا، والحساب العدّ. (سَكَناً) السكن: ما يسكن إليه من أهل ومال وغير ذلك، وهو مصدر سكنت إلى الشيء من باب طلب. قال أبو الطيب: بم التّعلّل لا أهل ولا وطن ... ولا نديم ولا كأس ولا سكن الإعراب: (إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) كلام مستأنف مسوق لذكر الدلائل على كمال قدرته تعالى، وأنه المبدع للأشياء. ومن كان هذا شأنه فهو المستحق للعبادة. وإن واسمها وخبرها، والحب مضاف لفالق، والإضافة غير محضة، على أنه بمعنى الحال أو الاستقبال، فيكون الحب مجرور اللفظ منصوب المحل، ويجوز أن تكون الإضافة محضة على أنه اسم فاعل بمعنى الماضي، لأن ذلك قد كان. والنوى عطف على الحب، وجملة يخرج الحي يجوز أن تكون مستأنفة، فلا محل لها، ويجوز أن تكون في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 محل رفع خبر ثان لإن، ومن الميت جار ومجرور متعلقان بيخرج، ومخرج عطف على فالق، أي: الله فالق ومخرج، ويجوز أن يعطف على يخرج، لممالأة الكلام بعضه لبعض، ولا بد حينئذ من تأويل الفعل بالاسم ليصح عطف الاسم عليه أو بالعكس. ومن الحي جار ومجرور متعلقان بمخرج (ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) الكلام مستأنف مسوق لبيان أن الله هو فاعل ذلك كله، والفاء استئنافية، واسم الاشارة مبتدأ، والله خبره، والفاء استئنافية، وأنى اسم استفهام بمعنى كيف في محل نصب حال، وتؤفكون فعل مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعل (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) فالق الإصباح نعت لله، والإصباح مضاف إليه، وجعل الواو عاطفة، جعل فعل ماض، والليل مفعوله الأول، وسكنا مفعوله الثاني، وفي قراءة ينسبونها إلى الجمهرة: «جاعل» بجر «الليل» بالإضافة مناسبة لقوله: «فالق الإصباح» ، ولك أن تنصب سكنا على الحال (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) الواو عاطفة، والشمس عطف على الليل، وحسبانا عطف على سكنا، ولك أن تنصب حسبانا على نزع الخافض، والجار والمجرور في محل نصب على الحال، أي: يجريان بحسبان، وتدل عليه آية الرحمن كما سيأتي (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) الكلام مستأنف، واسم الاشارة مبتدأ، وتقدير خبره، والعزيز مضاف إليه، والعليم صفة. البلاغة: انطوت هذه الآية على فنون رائعة من فنون البيان: 1- فن مخالفة الظاهر: فقد جاءت «يخرج الحي من الميت» بالفعل، وكان الظاهر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 ورودها بصيغة اسم الفاعل، أسوة بأمثالها من الصفات المذكورة من قوله: «فالق الإصباح» و «مخرج الميت من الحي» ، إلا أنه عدل عن اسم الفاعل إلى الفعل المضارع في هذا الوصف وحده، وهو قوله. «يخرج الحي من الميت» إرادة لتصوير إخراج الحيّ من الميت كالانسان والطائر من النطفة والبيضة، واستحضاره في ذهن السامع كأنه يشهده بعيان، وقد سبق التمثيل لهذا الفن بقوله: «ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة» فعدل عن الماضي المطابق لقوله «أنزل» لهذا المعنى. ولا شك في أن إخراج الحي من الميت أشهر في القدرة وأدل عليها من عكسه، والنظر أول ما يبدأ فيه كإخراج النطفة والبيضة من الحيوان. 2- فن الاشكال: وقد تقدمت الاشارة إليه في «آل عمران» ، والإشكال هنا مجيء «مخرج» على خلاف ما جاء عليه أمثاله، ولم يأت كما أتى في آل عمران: «وتخرج» ، ولا كما جاء في «يونس» وكما جاء في «الروم» . وعلى هذا يرد السؤال التالي: ما النكتة التي أوجبت مجيء هذا المكان على ما جاء عليه مخالفا لأمثاله؟ والجواب الذي يتضح به هذا الإشكال أن يقال: إنما جاء توخيا لحسن الجوار في النظم، لأنه قال: فالق الحب والنوى، وفالق الإصباح. والآية إنما سيقت للتمدّح بالقدرة المطلقة التي هي صفة ذاتية لله تعالى، فكان التمدّح بها مع الإتيان بصيغة اسم الفاعل أبلغ من الإتيان بصيغة الفعل، لما يدل عليه اسم الفاعل من المضيّ المطلق الدالّ على القدم، فإن مجيء ذلك على ما جاء عليه يستفاد منه قدم القدرة، ويلزم من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 قدمها قدم الموصوف بها. ولما علم سبحانه أن تمدّحه بمجرد فلق الحب والنوى في بطن الأرض غير تام، لأنه لا ينتفع به حتى يخرج نباته إلى ظاهر الأرض، ويشاهد الناس قدرة مخرجه ومخترعه، وصار قوله: «ومخرج الميت من الحي» مكملا، وأتى في هذه الجملة باسم الفاعل، وهذا من المعاجز التي تتقطّع دونها الأعناق. 3- فن الاستعارة التمثيلية: وذلك بقوله: «فالق الإصباح» ، وخلاصتها أنه تعالى شبّه انشقاق عمود الفجر وانصداع الفجر بفلق الإصباح. وقد رمق الشعراء سماء هذه البلاغة، فقال أبو تمام وتلاعب بهذا المعنى: وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه ... وأول الغيث قطر ثم ينسكب يقول: إن أوائل الأمور تبدو قليلة، ثم تكثر، فينبغي الحرص من أول الأمر قبل بلوغ غايته. وأتبعه ببيت آية في الحسن فقال: ومثل ذلك وجد العاشقين هوى ... بالمزح يبدو وبالإدمان ينتهب ومن النقاد من ينسب هذين البيتين إلى ابن الرومي، يريد أن الوجد في أوله هوى وفي آخره نار. 4- تشبيه الليل بالسكن: وفي تشبيه الليل بالسكن إعجاز يتجسد فيه عجز الإنسان، فالكلمة القرآنية في تعبيرها عن المعنى المراد تمتاز عن سائر مرادفاتها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 اللغوية بتطابق أتمّ من المعنى المراد، ومهما استبدلت بها غيرها لم يسدّ مسدّها، ولم يغن غناءها، ولم يؤدّ الصورة التي كانت تؤدّيها. وانظر الى طبيعة الأحرف التي تتكون منها كلمة «سكنا» وتوالي الفتحات على حروفها، كل ذلك يشعرك بذلك الهدوء الذي يبعث على الطمأنينة، وينشر الراحة في النفس. [سورة الأنعام (6) : الآيات 97 الى 98] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) اللغة: (يَفْقَهُونَ) : مضارع فقه الشيء، بكسر القاف: إذا فهمه ولو أدنى فهم، قاله الهروي في معرض الاستدلال على أن «فقه» أنزل من «علم» . وفي حديث سلمان أنه قال وقد سألته امرأة جاءته: فقهت؟ أي فهمت؟ كالمتعجب من فهم المرأة عنه. وإذا قيل: لا يفقه فلان شيئا، كان أوغل في الذمّ في العرف من قولك: لا يعلم شيئا، وكأن معنى قولك: لا يفقه شيئا، ليست له أهلية الفهم وإن فهم، وأما قولك: لا يعلم شيئا، فغايته نفي حصول العلم له، وقد تكون له أهلية الفهم والعلم لو يعلم، وسيأتي سرّ استعمال يفقهون هنا في باب البلاغة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 (مستقر) بفتح القاف، لأنه اسم مكان أو مصدر ميمي بمعنى الاستقرار. (مُسْتَوْدَعٌ) بفتح الدّال، لأنه اسم مكان من استودع، وسيأتي مزيد من معناهما في باب الإعراب. الإعراب: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الواو حرف عطف، وهو مبتدأ، والذي خبره، وجعل هنا بمعنى خلق فتتعدّى لواحد، ولكم جار ومجرور متعلّقان بجعل، والنجوم مفعول به، ولتهتدوا اللام للتعليل والجر، وتهتدوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التّعليل، والجار والمجرور متعلقان بجعل أيضا، عن طريق البدلية الاشتمالية، بإعادة العامل، والتقدير: جعل لكم النجوم لاهتدائكم، وفي ظلمات البر والبحر جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، أي: حال كونكم مدلجين في ظلمات الليل بالبر والبحر (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الجملة مستأنفة، مسوقة للتأكيد على وجوب إفراغ الجهد في سبيل التعليم والهداية، والآيات مفعول به، ولقوم جار ومجرور متعلقان بفصلنا، وجملة يعلمون صفة لقوم (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) الواو عاطفة على ما تقدم، وهو مبتدأ، واسم الموصول خبره، وجملة أنشأكم صلة الموصول، ومن نفس جار ومجرور متعلقان بأنشأكم، وواحدة صفة، فمستقر الفاء واقعة في جواب الموصول لما فيه من رائحة الشرط، ومستقر قرئ بفتح القاف، فهو مبتدأ حذف خبره، والتقدير: فلكم مستقر، لأنه اسم مكان أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 مصدر ميمي، ومن قرأ بكسر القاف والدال فهما اسم فاعل، والتقدير: فمنكم مستقر ومستودع (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) تقدم إعرابها، وسيأتي المزيد منها في باب البلاغة. البلاغة: التعريض بمن لا يتدبر آيات الله ولا يعتبر بما خلق. ومعلوم أن للجهل حالين متغايرين: أولهما جهل لا يعدو نفس الناظر ولا يتجاوزها، وثانيها جهل خارج عن أنفس النظار اي النجوم والنظر فيها وعلم الحكمة الإلهية، فاذا تمهد ذلك سهل عليك أن تعرف أن جهل الإنسان بنفسه وبأحواله وعدم النظر فيها والتفكر في تطوراتها أبشع من جهله الأمور الخارجة عنه، كالنجوم والأفلاك ومقادير سيرها، فلما كان الفقه أدنى درجات العلم خصّ به أسوأ الفريقين، وصار بالتالي تخصيص نفي أعلاها بالعلم بأسوأ الفريقين حالا. وهذا من دقائق لغتنا العربية، فاحرص عليه. الفوائد: وللشوكاني عبارة في «المستقر والمستودع» تروى الغليل قال: «قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وأبو عمرو وعيسى والأعرج والنخعي: بكسر القاف، والباقون بفتحها، وهما مرفوعان على أنها مبتدآن، وخبرهما محذوف، والتقدير: فمنكم مستقر، أو فلكم مستقر، التقدير الأول على القراءة الأولى، والثّانية على الثّانية، أي: فمنكم مستقر على ظهر الأرض، أو فلكم مستقر على ظهرها، ومنكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 مستودع في الرحم أو في باطن الأرض أو في الصلب. وقيل: المستقر ما كان في الرحم، والمستودع ما كان في الصلب. وقيل: المستقر من خلق. والمستودع من لم يخلق والاستيداع إشارة الى كونهم في القبور الى البعث» . [سورة الأنعام (6) : آية 99] وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) اللغة: (خَضِراً) بكسر الضّاد، صفة مشبهة، يقال: أخضر وخضر كأعور وعور. (مُتَراكِباً) يركب بعضه بعضا كسنابل الحنطة ونحوها. (قِنْوانٌ) جمع تكسير، مفرده قنو كصنو وصنوان. وهذا الجمع يلتبس بالمثنّى في حال الوقف، ويتميز بحركة النّون، فنون المثنى مكسورة دائما، ونون هذا الجمع تتوارد عليها الحركات الثلاث بحسب الإعراب. ويتميّزان أيضا في النسب، فإذا نسبت الى المثنّى رددته الى المفرد فقلت: قنويّ، وإذا نسبت الى الجمع أبقيته على حاله لأنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 جمع تكسير، فنقول: قنوانيّ. ويتميزان أيضا بالإضافة، فنون المثنّى تسقط لها بخلاف نون جمع التكسير، فتقول في المثنى: هذان قنواك، وفي الجمع: هذه قنوانك، ويقال مثل هذا في: صنوان، مثنى وجمعا، والقنو بكسر القاف، ويقال: بضمها: العذق، وهو من النخل كالعنقود من العنب. (دانِيَةٌ) سهلة المتجنى، قريبة للقاطف. (يَنْعِهِ) مصدر ينع بكسر النون، فهي مكسورة في الماضي مفتوحة في المضارع، أي: نضج واستوى. وقال أبو عبيدة في كتابه مجاز القرآن: إذا فتحت ياؤه هو جمع يانع، كما التجر جمع تاجر، والصّحب جمع صاحب، وقد يجوز في مصدره ينوعا، ومسموع من العرب: وأينعت الثمرة تونع إيناعا. ومن لغة الذين قالوا: ينع قول الشاعر يزيد بن معاوية في نصرانية ترهّبت في دير خرب عند الماطرون، وهو موضع بالشام، قال: آب هذا الهمّ فاكتنفا ... وأترّ النوم فامتنعا راعيا للنجم أرقبه ... فإذا ما كوكب طلعا في قباب عند سكرة ... حولها الزيتون قد ينعا الى آخر هذه القصيدة الممتعة. الإعراب: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) الواو عاطفة، والكلام معطوف على ما قبلها لمناسبة أول الكلام آخره وذكر ما يحتاج اليه الناس في معاشهم، وهو مبتدأ، والذي خبره، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 وجملة أنزل من السماء صلة، وماء مفعول به، والفاء عاطفة، وأخرجنا فعل وفاعل، وبه جار ومجرور متعلّقان بأخرجنا، ونبات كل شيء مفعول به (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً) الفاء: حرف عطف، وأخرجنا فعل وفاعل، ومنه جار ومجرور متعلقان بأخرجنا، وخضرا مفعول به وجملة نخرج صفة ل «خضرا» وعبر بالمضارع مع أن المقام للماضي لاستحضار الصورة القريبة، وقد مرت نظائره في أبواب البلاغة. ومنه جار ومجرور متعلقان بنخرج، وحبا مفعول به، ومتراكبا صفة. (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) الواو اعتراضية، ومن النّخل جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ومن طلعها بدل من الجار والمجرور قبله بإعادة الجار، والبدل هنا بدل بعض من كل، لأن الطلع أول ما يبدو للعيون منها، وقنوان مبتدأ مؤخر، ودانية صفة لقنوان، والجملة معترضة سيقت للمنّة، لأنه من أعظم أقوات العرب، ولأنه جامع بين اللذة والقوت (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) الواو عاطفة، وجنات عطف على نبات، فهو منصوب، أي: فأخرجنا بالماء النّبات، وجنات، فهو من عطف الخاص على العام، ومن أعناب جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة، وكذلك الزيتون والرمان، واختار الزمخشري أن ينصب الزيتون والرمان على الاختصاص تنويها بهذين الجنسين وتمييزا لهما، ومشتبها حال، والمراد تشابه أوراقهما، وغير متشابه عطف عليه، وقرأ بعضهم «وجنات» بالرفع، وضعفها أبو جعفر الطّبري، والرفع على عطفها على قنوان، أو على أنها مبتدأ خبره محذوف، أي: وثمّ جنات من أعناب، وقدره أبو البقاء ومن الكرم جنات (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم مقدم، وانظروا فعل أمر والواو فاعل، وإلى ثمره جار ومجرور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 متعلقان بانظروا، وإذا ظرف مستقل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب وهو انظروا وجملة أثمر في محل جر بالإضافة، وينعه عطف على ثمره (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) الكلام مستأنف مسوق لتعليل عبادته سبحانه، وبيان قدرته البالغة. وإن حرف مشبه بالفعل، وفي ذلكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر إن المقدم، واللّام المزحلقة، وآيات اسم إن، لقوم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لآيات، وجملة يؤمنون صفة لقوم، والإشارة تقع على جميع ما تقدم ذكره من قوله: «إن الله فالق الحب والنوى» إلى هنا. البلاغة: في الآية التفات بليغ بقوله: «فأخرجنا» ، وسره العناية بشأن هذا الإخراج والتنويه بالعظمة والقدرة البالغتين. [سورة الأنعام (6) : الآيات 100 الى 101] وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) اللغة: (وَخَرَقُوا) : اختلقوا، يقال: خلق الإفك وخرقه، واختلقه وافتراه وافتعله، بمعنى كذب، وهو من باب ضرب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 (بَدِيعُ) وردت كلمة بديع في القرآن مرتين، الأولى في البقرة، في قوله: «بديع السموات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون» ، والثانية في هذه الآية، ومعنى بديع في الآيتين منشئهما ومبدعهما على غير مثال سابق، ولهذه المادة معان كثيرة تنتهي الى أمرين اثنين: 1- الجدّة الّتي يدلّ عليها إنشاء الشيء ابتداء وعلى غير مثال سابق. 2- البراعة والغرابة التي يدلّ عليها العجيب، قال عمر بن أبي ربيعة: فأتتها فأخبرتها بعذري ... ثم قالت: أتيت أمرا بديعا الإعراب: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ) كلام مستأنف مسوق في بيان موقفهم من خالقهم، بعد أن بين المنن المسبغة عليهم، وكيف خالفوا ما يقتضيه العقل السّليم. وجعلوا فعل وفاعل، ولله: جار ومجرور متعلقان بشركاء أو حال منه، وشركاء مفعول جعلوا الثاني، وقدمه لاستعظام أن يتخذ لله شريك، والجن هو المفعول الأول. (وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) الواو حالية، ولا بد من تقدير قد بعدها وخرقوا الواو حرف عطف، وخرقوا فعل وفاعل، وله جار ومجرور متعلقان بخرقوا، وبنين مفعول به، وبنات عطف على بنين، وبغير علم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل خرقوا، أي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 افتعلوا الكذب مصاحبين للجهل وهو عدم العلم، والجملة عطف على جملة وخلقهم (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) سبحانه: مفعول مطلق لفعل محذوف، أي تنزه تنزيها، وتعالى عطف على الفعل المقدر العامل في سبحانه، وعما جار ومجرور متعلقان بتعالى، وجملة يصفون صلة الموصول، والجملة التنزيهية مستأنفة (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان استحالة ما ينسونه إليه، وتقرير تنزيهه عنه، وبديع السموات والأرض خبر لمبتدأ محذوف، أي: هو بديع، وأنى اسم استفهام بمعنى كيف أو من أين، في محل نصب حال، ويكون فعل مضارع ناقص، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر يكون المقدم، وولد اسمها المؤخر وجملة أنى يكون له ولد استئنافية (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الواو عاطفة، ولم حرف نفي وقلب وجزم، ولكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر تكن المقدم، وصاحبة اسمها المؤخر، وخلق كل شيء: هذه الجملة إما مستأنفة أو حالية، وعلى الإعراب الأخير يكون المعنى: كيف ومن أين يكون له ولد والحال أنه خلق جميع الأشياء ومن جملتها ما سموه ولدا له، فكيف يدور بخلد أحد أن يكون المولود ولدا لخالقه؟ وهو: الواو عاطفة أو حالية، وهو مبتدأ، وبكل شيء جار ومجرور متعلقان بعليم، وعليم خبر «هو» . [سورة الأنعام (6) : الآيات 102 الى 103] ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 الإعراب: (ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الكلام مستأنف، وهو وما بعده سرد لتقرير نعته سبحانه بهذه الأوصاف السّامية، واسم الإشارة مبتدأ، والله خبر أول، وربكم خبر ثان، وجملة لا إله إلا هو خبر ثالث، وقد تقدم إعراب كلمة الشهادة، فجدّد به عهدا (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) خالق كل شيء خبر رابع، فاعبدوه: الفاء تعليلية، واعبدوه فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة لا محل لها لأنها لبيان سبب العبادة، وهو الواو عاطفة، وهو مبتدأ، وعلى كل شيء جار ومجرور متعلقان بوكيل، ووكيل خبر هو (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الجملة خبر خامس، وتدركه الأبصار فعل ومفعول به مقدم وفاعل، وهو يدرك: الواو عاطفة، وهو مبتدأ، وجملة يدرك الأبصار خبره، وهو: الواو حرف عطف، وهو مبتدأ، واللطيف خبر أول، والخبير خبر ثان. البلاغة: في الآية الثانية فنون عديدة من البلاغة نوجزها فيما يلي: 1- المناسبة: وهي أن يبتدئ المتكلم بمعنى، ثم يتمّم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ، فإن معنى نفي إدراك الأبصار للشيء يناسب اللطف، وهذا الكلام خرج مخرج التمثيل، لأن المعهود عند المخاطب أن البصر لا يدرك الأجسام اللطيفة كالهواء وسائر العناصر، ولا الجواهر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 المفردة، إنما يدرك اللّون من كلّ متلوّن، والكون من كلّ متكوّن، فجاء هذا التّمثيل ليتخيّله السّامع فيقيس به الغائب على الشّاهد، وكذلك قوله تعالى: «وهو يدرك الأبصار» فإن ذلك يناسبه وصف المدرك بالخبرة. 2- فن الاحتراس: فإنه سبحانه لما أثبت له إدراك الأبصار اقتضت البلاغة فن الاحتراس تفاديا لأن يظنّ ظانّ أنه إذا لم يكن مدركا لم يكن موجودا، فوجب أن تقول «وهو يدرك الأبصار» لتثبت لذاته الوجود. 3- فن اللفّ والنّشر: وسماه بعضهم «فن تشابه الأطراف» ، فقوله: «اللّطيف» راجع الى قوله: «لا تدركه الأبصار» ، وقوله: «الخبير» راجع الى قوله: «وهو يدرك الأبصار» . 4- فن التّعطّف: الذي هو قوله: «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار» لمجيء الأبصار في أول الكلام وآخره. 5- فن المطابقة: بين قوله «لا تدركه الأبصار» وقوله: «وهو يدرك الأبصار» . فقد استكملت الآية خمسة فنون تامة من فنون البلاغة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 الفوائد: هذه الآية أقوى دلائل المعتزلة في الأدلّة السّمعيّة على أن الله تعالى لا يرى، لأنها صريحة. والجواب: إن الآية الأخرى تناقضها وهي قوله تعالى: «وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة» وأما شبهتهم في قوله تعالى: «لا تدركه الأبصار» فقد أجاب الأشاعرة عنها، بأن قوله: «لا تدركه الأبصار» نقيض لقوله تعالى: «يدرك الأبصار» يقتضي أن كلّ أحد لا يبصره، لأن الألف واللّام إذا دخلتا على الجمع أفادتا الاستغراق، ونقيض السالبة الكلّية الموجبة الجزئية، فكان معنى قوله: «لا تدركه الأبصار» : لا تدركه كل الأبصار، ونحن نقول بموجبه، فإن جميع الأبصار لا تراه، ولا يراه إلّا المؤمنون، وهذه النكتة هي معنى قولهم: سلب العموم لا يفيد السلب. [سورة الأنعام (6) : الآيات 104 الى 107] قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 اللغة: (بَصائِرُ) : جمع بصيرة، وهي نور القلب الذي به يستصر، والبصر نور العين الذي به تبصر، وتطلق على العقل والفطنة والعبرة والشاهد والحجة، يقال: جوارحه بصيرة عليه، وفراسة ذات بصيرة أي: صادقة. وفي القاموس: البصر محركة: حس العين، والجمع أبصار، مثل: سبب وأسباب. الإعراب: (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) كلام مستأنف مسوق على لسان النبي، والمراد بها آيات القرآن، وقد حرف تحقيق، وجاءكم بصائر فعل ومفعول به مقدّم وفاعل مؤخّر، ومن ربكم جار ومجرور متعلقان بجاءكم، أو بمحذوف صفة لبصائر (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) الفاء استئنافية للتفصيل، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، وأبصر فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، والفاء رابطة للجواب، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، أي: فالإبصار لنفسه، ومثله: ومن عمي فعليها، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) الواو استئنافية، ويجوز أن تكون حالية، وما نافية حجازية، وأنا ضمير منفصل في محل رفع اسمها، وعليكم جار ومجرور متعلقان بحفيظ، والباء حرف جر زائد، وحفيظ اسم مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الواو استئنافية، والكاف في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 محل نصب نعت لمصدر محذوف، أي: تصريفا مثل ما صرفناها فيما يتلى عليكم، والآيات مفعول به، والواو حرف عطف، واللام هي لام التعليل، والفعل بعدها يقولوا منصوب بإضمار أن، وسماها ابن عطية وأبو البقاء: لام العاقبة أو الصيرورة، وجملة ليقولوا معطوفة على مقدر، أي: ليعتبروا وليقولوا، وجملة درست في محل نصب مقول القول، ولنبينه: الواو عطف على اللام الأولى، والجار والمجرور متعلقان بنصرف، وسيأتي الفرق بين اللامين في باب البلاغة. والضمير في «لنبينه» يعود للقرآن وإن لم يجر له ذكر لكونه معلوما، ولقوم جار ومجرور متعلقان بنبينه، وجملة يعلمون صفة لقوم (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) الجملة مستأنفة لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم، واتبع فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت، و «ما» يجوز فيها أن تكون اسم موصول في محل نصب على المفعولية لاتبع، والعائد هو نائب فاعل أوحي، والجملة صلة الموصول، ويجوز أن تكون مصدرية، فيكون الجار والمجرور هما نائب الفاعل، ومن ربك جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، أي كائنا من ربك، وجملة لا إله إلا هو معترضة، وقد تقدم إعراب كلمة الشهادة كثيرا. وأعرض عطف على اتبع، وعن المشركين جار ومجزور متعلقان بأعرض (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا) الواو استئنافية أو حالية، ولو شرطية، وشاء ربك فعل وفاعل، ومفعول المشيئة محذوف، والتقدير عدم إشراكهم، وجملة ما أشركوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) الواو عاطفة، وما نافية، وجعلناك فعل وفاعل ومفعول به أول، وحفيظا مفعول جعلنا الثاني، وعليهم جار ومجرور متعلقان ب «حفيظا» . (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) عطف على ما تقدم، وقد تقدم إعرابها قريبا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 البلاغة: قال الزمخشري: وهو من عيون النكت التي جاء بها: «فإن قلت: أي فرق بين الامين في ليقولوا ولنبينه؟ قلت: الفرق بينهما أن الأولى مجاز والثانية حقيقة، وذلك أن الآيات صرفت للتبين، ولم تصرف ليقولوا، درست، ولكن لأنه حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين به شبه به فسيق مساقه» . الفوائد: في قوله «درست» ثلاث عشرة قراءة، ثلاث منها متواترة، وعشر منها شاذة، وقد أدرجناها باختصار: الثلاث المتواترة: 1- درست بوزن ضربت، مبنيا للفاعل، والتاء للفاعل، أي: درست يا محمد. 2- درست والتاء تاء التأنيث الساكنة ومعناها بليت وتكررت في الأسماع. 3- دارست: بوزن قاتلت، أي: دارست يا محمد غيرك. العشر الشّاذّة: 1- درّست: بالتشديد والخطاب، أي: درست الكتب القديمة. 2- درّست: مشدّدا مبنيا للمجهول المخاطب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 3- دورست: بالتخفيف والواو مبنيا للمجهول. 4- دورست: مبنيا للمجهول مسندا لضمير الآيات. 5- دارست: بتاء ساكنة للتأنيث لحقت آخر الفعل. 6- درست: بفتح الدال وضم الراء، مسندا إلى ضمير الآيات. 7- درس: فاعله النبيّ. 8- درسن: مسند لنون الإناث، وهي ضمير الآيات. 9- درّسن: كالذي قبله، إلا أنه بالتشديد، بمعنى: اشتد درسها. 10- دارسات: جمع دارسة، بمعنى: قديمات، أو بمعنى: ذات دروس. [سورة الأنعام (6) : الآيات 108 الى 109] وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) اللغة: (عَدْواً) : ظلما واعتداء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) : الجهد بفتح الجيم المشقة وبضمها الطاقة. (يُشْعِرُكُمْ) : يدريكم ويعلمكم. الإعراب: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق للنهي عن أمر هو واجب في حد ذاته، ولكنه يؤدّي إلى سبّ الله تعالى، فلذلك جرى النهي عنه، ورب طاعة جرت إلى معصية. ولا ناهية، وتسبوا فعل مضارع مجزوم بها، والواو فاعل، والذين اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة يدعون صلة الموصول، ومن دون الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) الفاء هي السببية، ويسبوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعدها، لأنها مسبوقة بالنهي، أي: لا تسبوا آلهتهم فقد يترتب على ذلك ما تكرهون من سب الله. ويجوز أن تكون الفاء عاطفة، ويسبوا معطوفة على تسبوا، ولفظ الجلالة مفعول به، وعدوا منصوب على المصدر لأنه مرادفه، ويصح أن يكون مفعولا لأجله، أي: لأجل الاعتداء، ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال، لأن السب لا يكون إلا عدوا. وبغير علم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال مؤكدة (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) كذلك الجار والمجرور نعت لمصدر محذوف، أي: زينا لهؤلاء أعمالهم تزيينا مثل تزييننا لكل أمة عملهم، وزينا فعل وفاعل، ولكل أمة جار ومجرور متعلقان بزينا، وعملهم مفعول به، والجملة نصب على الحال (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ثم عاطفة للترتيب مع التراخي، والعطف على محذوف تقديره: فأتوه، وإلى ربهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 خبر مقدم، ومرجعهم مبتدأ مؤخر، فينبئهم الفاء عاطفة للترتيب مع التعقيب لتقرير أن التوبيخ والتقريع تابعان للمرجع بسرعة لا هوادة فيها، وينبئهم فعل مضارع والهاء مفعول به أول، وبما جار ومجرور في موضع المفعول الثاني لينبئهم، وجملة كانوا صلة الموصول، وجملة يعلمون خبر كانوا (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) الواو استئنافية، وأقسموا فعل وفاعل، وبالله جار ومجرور متعلقان بأقسموا، وجهد أيمانهم منصوب على المصدرية، أي: أقسموا جهد اقساماتهم، والأيمان بمعنى الاقسامات، كما تقول: ضربته أشدّ الضربات، وقيل: مصدر في موضع الحال، أي: أقسموا مجتهدين في أيمانهم، وقال المبرد: منصوب بفعل من لفظه، وأيمانهم مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ) اللام موطئة للقسم، وإن شرطية وجاءتهم فعل الشرط ومفعوله، وآية فاعل، وليؤمنن: اللام واقعة في جواب القسم، والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم، لأنه متقدم على الشرط، ويؤمنن فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل، والنون المشددة هي نون التوكيد الثقيلة، وبها جار ومجرور متعلقان بيؤمنن، قل فعل أمر، والجملة مستأنفة، وإنما كافة ومكفوفة، والآيات مبتدأ، وعند الله ظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدأ (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان الحكمة التي دعت إلى أن يكون الجواب على هذا الشكل، وما اسم استفهام إنكاري في محل رفع مبتدأ، وجملة يشعركم خبرها، والكاف مفعول أول ليشعركم، وأنّ وما في حيزها في موضع المفعول الثاني، وإذا ظرف متعلق بيؤمنون، وجملة لا يؤمنون خبر أنها. وسيأتي مزيد من القول في هذا التركيب المعجز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 الفوائد: كثر اختلاف العلماء حول هذا التركيب المعجز، وسنختار ما هو أكثر ملاءمة للمنطق والذوق، فقد مثل بعضهم لهذا التركيب بمثال وهو: إذا قال لك قائل أكرم فلانا فإنه يكافئك، وأنت تعلم منه نفيها، قلت في الجواب: وما يدريك أني إذا أكرمته يكافئني، فتنكر عليه إثبات المكافأة، فإن انعكس الأمر فقال لك: لا تكرمه فإنه لا يكافئك، وكنت تعلم منه المكافأة، فأنكرت على المشير بحرمانه، قلت: وما يدريك أنه لا يكافئني، تريد: وأنا أعلم منه المكافأة، فكان مقتضى الإنكار على المؤمنين الذين أحسنوا الظن بالمعاندين فاعتقدوا أنهم يؤمنون عند نزول الآية المقترحة أن يقال: وما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون، بإسقاط «لا» ، فلما جاءت الآية على هذا الشكل، اختلف العلماء، فحمل بعضهم «لا» على أنها زائدة، وبعضهم أوّل «أنّ» ب «لعل» من قول العرب: أئت السوق أنك تشتري لحما، واستشهدوا بقول امرئ القيس: عوجا على الطّلل المحيل لأننا ... نبكي الديار كما بلى ابن حزام أي: لعلنا، وبعضهم جعل الكلام جواب قسم محذوف، وقد تفتح همزة أن بعد القسم، فقال: التقدير: والله أنها إذا جاءت لا يؤمنون. والأصح أن الآية باقية على ظاهرها، وأن هذا كله مجرد تكلّف، ولإيضاح ذلك يقال: إذا حرمت زيدا لعلمك بعدم مكافأته فأشير عليك بالإكرام، بناء على أن المشير يظن المكافأة، فلك معه حالتان: حالة تنكر عليه ادعاء العلم بما يعلم خلافه، وحالة تعذره في عدم العلم بما أحطت به علما، فان أنكرت عليه قلت: وما يدريك أنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 بكافئ، وإن عذرته في عدم علمه بأنه لا يكافىء قلت: وما يدريك أنه لا يكافىء؟ يعني ومن أين تعلم أنت ما علمته أنا من عدم مكافأته، وأنت لم تخبر أمره خبري، ولم تسبر غوره سبري؟ فكذلك الآية، إنما ورد فيها الكلام إقامة عذر للمؤمنين في عدم علمهم بالمغيب في علم الله تعالى، وهو عدم إيمان هؤلاء، فاستقام دخول «لا» وتبيّن أن سبب الاضطراب التباس الإنكار بإقامة الأعذار، وهذا من أسمى دلائل الإعجاز. [سورة الأنعام (6) : آية 110] وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) اللغة: (يَعْمَهُونَ) : مضارع «عمه» في طغيانه عمها، من باب تعب: إذا تردّد متحيرا، وهو مأخوذ من قولهم: أرض عمهاء، إذا لم تكن فيها أمارات النجاة، فهو عمه وأعمه. الإعراب: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الواو استئنافية أو عاطفة، ونقلب فعل مضارع، وأفئدتهم مفعوله، وأبصارهم عطف على أفئدتهم، وكما الجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره: فلا يؤمنون كما كانوا عند نزول الآيات على مقترحهم الأول، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 لكونهم مطبوعا على قلوبهم، فهو مفعول مطلق، وما مصدرية، ولم حرف نفي وقلب وجزم، ويؤمنوا فعل مضارع مجزوم بلم، وبه جار ومجرور متعلقان بيؤمنوا وأول مرة ظرف زمان متعلق بيؤمنوا (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) الواو عاطفة، ونذرهم عطف على لا يؤمنون، داخل في نطاق الإنكار، مقيّد بما تقيد به، وفي طغيانهم جار ومجرور متعلقان بيعمهون، وجملة يعمهون حال، أي متحيرين. [سورة الأنعام (6) : آية 111] وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) اللغة: (قُبُلًا) بضمتين جمع قبيل، ونظيره: رغيف ورغف، وقضيب وقضب، أو جمع قبيل، بمعنى كفيل. الإعراب: (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) الواو استئنافية، ولو شرطية، وأن وما في حيزها فاعل لفعل محذوف، أي: يثبت. وجملة نزلنا إليهم الملائكة خبر أن، وكلّمهم عطف على نزلنا، وذلك ما اقترحوه عند ما قالوا: لولا أنزل علينا الملائكة والموتى فاعل (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا) الواو عاطفة أيضا، وحشرنا فعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 وفاعل، معطوف على نزلنا، أي: كما قالوا أيضا. وعليهم جار ومجرور متعلقان بحشرنا، وكل شيء مفعول به، وقبلا حال، أي: فوجا فوجا، أو كفلاء، كما تقدم في باب اللغة (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وما نافية، واللام لام الجحود، ويؤمنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد لام الجحود، ويؤمنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد لام الجحود، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف هو الخبر، أي: ما كانوا أهلا للإيمان، وإلا أداة استثناء من أعم الأحوال، فهو استثناء متصل، والمعنى: ما كانوا ليؤمنوا في حال من الأحوال إلا في حال مشيئة الله، فأن وما بعدها مصدر في موضع نصب على الحال، أو استثناء من أعم الأزمنة، فالمصدر في موضع نصب على الظرفية الزمانية، إلا في زمان مشيئة الله، أو استثناء من علة عامة، أي: ما كانوا ليؤمنوا لشيء من الأشياء إلا لمشيئة الله الإيمان، فهو مفعول لأجله، ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا، وتكون أن ومدخولها في تأويل مبتدأ محذوف الخبر، أي: لكن مشيئة الله تحصل، وحجة القائلين بذلك أن مشيئة الله ليست من جنس إرادتهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) الواو حالية أو استئنافية، ولكن واسمها، وجملة يجهلون خبرها. [سورة الأنعام (6) : الآيات 112 الى 113] وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 الإعراب: (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) كلام مستأنف مسوق لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم عمّا شاهده من عداء قريش له، وما يبيتونه من مؤامرات. والكاف في محل نصب على أنها مع مدخولها نعت لمصدر محذوف مؤكد لما بعده، وجعلنا فعل وفاعل وهو يتعدى لمفعولين، ولكل نبي جار ومجرور في موضع نصب على الحال لأنه كان في الأصل صفة ل «عدوا» ، وعدوا مفعول جعلنا الثاني، وشياطين الإنس والجن مفعول جعلنا الأول (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) يجوز أن تكون الجملة مستأنفة لبيان حال العدو، وسمي وحيا لأنه إنما يكون خفية بينهم، وجعل تمويههم زخرفا من القول لتزيينهم إياه، ويجوز أن تكون حالا منه، ويوحي فعل مضارع، وبعضهم فاعل، وإلى بعض جار ومجرور متعلقان بيوحي، وزخرف القول مفعول به، وغرورا مفعول لأجله، أي: ليغرّوهم، أو مصدر في موضع نصب على الحال، أي غارّين، أو على المفعولية المطلقة، لأن معنى يوحي بعضهم إلى بعض: يغرونهم بذلك غرورا (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) الواو استئنافية، ولو شرطية، وشاء ربك فعل وفاعل وهو شرط لو، ومفعوله محذوف، وقد تقدم بحثه، وجملة ما فعلوه لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، والفاء هي الفصيحة، وذرهم فعل أمر وفاعل مستتر، والهاء مفعول به، والواو عاطفة، وما اسم موصول معطوف على الهاء في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 فذرهم، أي: اتركهم واترك الذي يفترونه، ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع، وما مفعول معه، ويجوز أن تكون ما مصدرية، أي: اتركهم واترك افتراءهم. وقد نزلت هذه الآية قبل الأمر بالقتال (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) الواو عاطفة، واللام للتعليل، وتصغى فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام، والجار والمجرور عطف على «غرورا» ، وإنما لم ينصب على أنه مفعول لأجله لاختلاف الفاعل، ففاعل تصغى المغرور وفاعل الأول الفارّون، ولأنه ليس صريح المصدرية، ففات شرطان من شروط نصب المفعول لأجله، ومعنى تصغى: تميل، وإليه جار ومجرور متعلقان بتصغى، وأفئدة فاعل تصغى، والذين مضاف إليه، وجملة لا يؤمنون صلة الموصول، وبالآخرة جار ومجرور متعلقان بيؤمنون (وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) عطف على «غرورا» أيضا، أي: فاللام للتعليل، وهي مكسورة، و «أن» مقدرة بعدها جوازا في الأفعال الثلاثة، وترتيبها حسن للغاية وفي منتهى الفصاحة، لأنه يكون أولا الخداع فيكون الميل فيكون الرضا فيكون الاقتراف، فكل واحد مسبّب عما قبله، وجنح الزمخشري إلى تسمية هذه اللامات بلام الصيرورة أو العاقبة، وليس ببعيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 [سورة الأنعام (6) : الآيات 114 الى 115] أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) اللغة: (حَكَماً) : حاكما لا يحكم إلا بالعدل، وهو أبلغ من حاكم، لأن الحكم لا يحكم إلا بالعدل، والحاكم قد يشتطّ ويجور، أو لأن الحكم تكرر منه، بخلاف الحاكم فإنه يصدق بمرّة واحدة، وقد رمق أبو الطيب المتنبي سماء هذه الكلمة بقوله: يا أعدل الناس إلّا في معاملتي ... فيك الخصام وأنت الخصم والحكم الإعراب: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً) الجملة عطف على مقدّر يقتضيه سياق الكلام، أي قل لهم: أأميل إلى زخارف الدنيا فأبتغي حكما؟ والهمزة للاستفهام الإنكاري، فهي مقول قول محذوف، وجملة القول مستأنفة، وغير الله مفعول به مقدم لأبتغي، وحكما حال أو تمييز، ويجوز أن يكون «حكما» هو المفعول به، و «غير» حال من «حكما» لأنه في الأصل وصف له (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا) الواو للحال، والجملة حال مؤكدة للإنكار، وهو مبتدأ، والذي خبر، وجملة أنزل صلة لا محل لها، وإليكم جار ومجرور متعلقان بأنزل، والكتاب مفعول به، ومفصلا حال من الكتاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة من الله تعالى لتقرير كون الكتاب حقيقة منزلة من عنده تعالى، والذين اسم موصول مبتدأ، وجملة آتيناهم صلة الموصول، والكتاب مفعول به ثان، وجملة يعلمون خبر اسم الموصول، وأنّ واسمها وخبرها، وقد سدت مسد مفعولي يعلمون، ومن ربك جار ومجرور متعلقان بمنزل، بالحق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المرفوع في «منزل» والذي هو نائب فاعل، والفاء في «فلا» الفصيحة، أي: إذا علمت هذا وتأكدت منه فلا تكونن، ولا ناهية، وتكونن فعل مضارع ناقص مبني على الفتح لاتصاله بنون الثقيلة وهو في محل جزم بلا الناهية، واسمها ضمير مستتر تقديره أنت، ومن الممترين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها، والخطاب، وإن كان في ظاهر الكلام موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه موجّه في الواقع إلى أمته (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في بيان كمال الكتاب، وكلمة ربك فاعل تمت، وصدقا وعدلا حال، وأعربهما أبو البقاء والطبريّ تمييزا، وتبعهما الجلال، وردّ ابن عطية هذا القول، وقال: «وهو غير صواب» . ولعل مراده أن كلمات الله من شأنها الصدق والعدل، والتمييز إنما يفسر ما انبهم، وليس في ذلك إبهام. وأعربهما الكواشي حالا من «ربك» أو على المفعولية من أجله، وإذا أعربناهما حالين فلا بد من تأويلهما بمعنى المشتق، أي صادقا وعادلا، واقتصر الزمخشري على الحالية. قلت: ولا أرى بعيدا أن ينصبا على نزع الخافض، أي بالصدق والعدل، تفادا للتأويل، أو على أنهما نعتان لمصدر محذوف، أي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 نمام صدق وعدل (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الجملة حالية من فاعل تمت، أو مستأنفة، ولا نافية للجنس، ومبدل اسمها المبني على الفتح، ولكلماته جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر «لا» . وهو السميع العليم الواو استئنافية، وهو مبتدأ، والسميع خبر أول، والعليم خبر ثان. [سورة الأنعام (6) : الآيات 116 الى 117] وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) اللغة: (يَخْرُصُونَ) : يكذبون، من الخرص: وهو الحزر والتخمين. وسمي الكذب خرصا لما يدخله من الظنون الكواذب، وقد خرص يخرص وبابه نصر، واخترص القول وتخرّصه: افتعله. الإعراب: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) الواو عاطفة. وإن شرطية، وتطع فعل الشرط، وأكثر مفعول به، ومن اسم موصول في محل جر بالإضافة، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول، ويضلوك جواب الشرط مجزوم، والواو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 فاعل، والكاف مفعول به، وعن سبيل الله جار ومجرور متعلقان بيضلوك (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) الجملة مستأنفة لا محل لها وإن نافية، ويتّبعون فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، وإلا أداة حصر، والظن مفعول به والواو حرف عطف، وإن نافية، وهم مبتدأ وإلا أداة حصر، وجملة يخرصون خبرهم (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) الجملة مستأنفة لتقرير مضمون الجملة الشرطية. وإن واسمها، وهو مبتدأ وأعلم خبر، والجملة خبر «إن» ، أو «هو» ضمير فصل، وأعلم خبر «إن» ، ومن اسم موصول منصوب بفعل مقدر لا بنفس أعلم، لأن اسم التفضيل لا ينصب الظاهر في مثل هذه الصورة وسيأتي مزيد من بحث هذا الإعراب في باب الفوائد، والتقدير: يعلم من يضل، وجملة يضل صلة الموصول، وعن سبيله جار ومجرور متعلقان بيضل، وهو مبتدأ، وأعلم خبر وبالمهتدين جار ومجرور متعلقان بأعلم. الفوائد: شغلت هذه الآية المعربين والمفسرين، وسنلخص لك ما قيل في هذا الصدد. فقد قال بعضهم: إن «أعلم» في الموضعين بمعنى يعلم قال حاتم الطائي: فحالفت طيء من دوننا حلفا ... والله أعلم ما كنا لهم خولا وقيل: إن اسم التفضيل على بابه، والنصب بفعل مقدر، كما اخترنا في باب الإعراب، وقيل: إنها منصوبة باسم التفضيل على مذهب الكوفيين. ويشكل على ذلك أن الإضافة تقتضي أن الله بعض الضالين، تعالى عن ذلك، وقيل: في محل نصب بنزع الخافض، أي: بمن يضل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 وقيل في محل جر بإضافة اسم التفضيل إليها، وقيل: «من» في موضع رفع، وهي استفهامية في محل رفع مبتدأ، والخبر جملة يضل: والجملة في موضع نصب أو معلقة عن العمل ب «أعلم» ، أي: أعلم أي الناس يضل: كقوله تعالى: «لنعلم أي الحزبين» ؟ فتدبّر، والله يعصمك. [سورة الأنعام (6) : الآيات 118 الى 119] فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) الإعراب: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) الفاء هي الفصيحة، لأنها أفصحت عن شرط مقدر، والتقدير: إذا كنتم متحقفين بالإيمان فكلوا. وهذا الأمر مرتب على النهي عن اتباع المضلّين الذين يحرّمون الحلال ويحللون الحرام. ومما جار ومجرور متعلقان بكلوا، وجملة ذكر اسم الله عليه صلة الموصول، واسم الله نائب فاعل ذكر، وعليه جار ومجرور متعلقان بذكر، وإن شرطية، وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمها، ومؤمنين خبرها، وبآياته جار ومجرور متعلقان بمؤمنين، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي: فكلوا (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 كلام مستأنف مسوق للتأكيد على إباحة ما ذبح على اسم الله. وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ، ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر «ما» ، وأن لا تأكلوا مصدر مؤوّل منصوب بنزع الخافض، أي: في أن لا تأكلوا، ولما حذف حرف الجر كان في موضع نصب، والجار والمجرور متعلقان بما تعلق به «لكم» الواقع خبر ل «ما» الاستفهامية، ومما جار ومجرور متعلقان بتأكلوا، وجملة ذكر اسم الله عليه صلة الموصول (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) الواو حالية، وقد حرف تحقيق، وفصل فعل ماض وفاعل مستتر، ولكم جار ومجرور متعلقان بفصّل، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة حرم عليكم لا محل لها لأنها صلة الموصول، وإلا أداة استثناء، وما اسم موصول في محل نصب على الاستثناء المنقطع، وجملة اضطررتم إليه صلة الموصول، ولك أن تجعله استثناء من ضمير «حرّم» ، وما مصدرية في معنى المدة، أي الأشياء التي حرّمت عليكم إلا اضطرارا إليها، كما فصله في آية حرمت عليكم الميتة، فيكون الاستثناء متصلا، ولعل هذا أولى، لأن الاستثناء من الجنس، وجملة اضطررتم لا محل لها على كل حال، وإليه جار ومجرور متعلقان باضطررتم المبني للمجهول، والتاء نائب فاعل، والجملة كلها نصب على الحال (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) الواو عاطفة أو حالية، وإن واسمها، واللام المزحلقة، وجملة يضلون خبر إن، وبأهوائهم جار ومجرور متعلقان بيضلون، وبغير علم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، أي: متلبسين بالجهل. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) الجملة تعليلية لا محل لها، وإن واسمها، وهو مبتدأ، أو ضمير فصل وأعلم خبر هو، أو خبر إن، وبالمعتدين جار ومجرور متعلقان بأعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 [سورة الأنعام (6) : الآيات 120 الى 121] وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) الإعراب: (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) الواو عاطفة على ما تقدم، وذروا فعل أمر، والواو فاعل، وظاهر الإثم مفعول به، وباطنه عطف على ظاهر (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) الجملة تعليلية لا محل لها، وإن واسمها، وجملة يكسبون صلة الموصول، والإثم مفعول به، وجملة سيجزون خبر إن، وبما جار ومجرور متعلقان بيجزون، وجملة كانوا صلة الموصول، والواو اسم كان، وجملة يقترفون خبرها، والعائد محذوف، أي: يقترفونه (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) الواو عاطفة، ولا ناهية، وتأكلوا فعل مضارع مجزوم بلا، والواو فاعل، ومما جار ومجرور متعلقان بتأكلوا، ولم حرف نفي وقلب وجزم، ويذكر فعل مضارع مجزوم بلم، واسم الله نائب فاعل يذكر، وعليه جار ومجرور متعلقان بيذكر، وإنه الواو حالية، وإن واسمها، واللام المزحلقة، وفسق خبر إن، والضمير في «إنه» يعود إلى مصدر الفعل الذي دخل عليه حرف النهي، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 أي: الأكل، أو من «ما» ، أي: من متروك التسمية. وسيأتي مزيد من القول في هذه المسألة (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) الواو عاطفة على «وإنه لفسق» ، أو استئنافية، وإن واسمها، واللام المزحلقة، وجملة يوحون خبر «إن» ، وإلى أوليائهم جار ومجرور متعلقان بيوحون، واللام للتعليل، ويجادلوكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام، والجار والمجرور متعلقان ب «يوحون» أيضا (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) الواو عاطفة، وإن شرطية، وأطعتموهم فعل وفاعل ومفعول به، في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعل، والواو لإشباع الضمة، وإن واسمها، واللام المزحلقة، ومشركون خبرها، ولم يقترن جواب الشرط بالفاء لأمرين: أولهما أن لام التوطئة للقسم مقدرة قبل إن الشرطية، لذلك أجيب القسم المقدر بقوله: «إنكم لمشركون» ، وحذف جواب الشرط لسد جواب القسم مسدّه، وقال أبو البقاء: حذف الفاء من جواب الشرط، وهو حسن، إذا كان الشرط بلفظ الماضي، وسيأتي مزيد بحث بهذا الصدد في باب الفوائد. الفوائد: 1- شغلت الواو في قوله تعالى: «وانه لفسق» المفسرين والمعربين والفقهاء بما لا يتسع صدر هذا الكتاب له، وقد اخترنا ما رأيناه أدنى إلى الفهم، ونرى من المفيد أن نلمح إلى خلافهم إلماحا سريعا، وعلى من يريد الاستيعاب أن يرجع إلى المطوّلات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 عبارة السمين: قال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين: «قوله: وإنه لفسق- هذه الجملة فيها أوجه: 1- انها مستأنفة: قالوا لا يجوز أن تكون نسقا على ما قبلها، لأن الأولى طلبية، وهذه خبرية، وتسمى هذه الواو واو الاستئناف. 2- أنها منسوقة على ما قبلها، ولا يبالي نتجا لفهمها، وهو مذهب سيبويه. 3- أنها حالية: لا تأكلوه والحال أنه فسق» . وعلى أساس هذه الأوجه اختلف الفقهاء في جواز أكل ما لم يذكر اسم الله عليه: 1- فذهب قوم إلى تحريمها سواء أتركها عمدا أو نسيانا، وهو قول ابن سيرين والشعبي ومالك بن أنس، ونقل عن عطاء أنه قال: كل ما لم يذكر اسم الله عليه من طعام أو شراب فهو حرام، واحتجوا عليه بظاهر هذه الآية. 2- وقال الثوري وأبو حنيفة: إن ترك التسمية عامدا لا تحل، وإن تركها ناسيا حلّت. 3- وقال الشافعي: تحل الذبيحة سواء أترك التسمية عامدا أو ناسيا. ونقله ابن الجوزيّ عن أحمد بن حنبل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 ما نقله الرازي عن الشافعي: وذكر الرازي في كتابه: مناقب الشافعي: أن مجلسا ضمه وجماعة من الحنفية، وأنهم زعموا أن قول الشافعي بحل أكل متروك التسمية مردود بقوله تعالى: «ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق» ، فقال: فقلت لهم: لا دليل فيها، بل هي حجة للشافعي، وذلك لأن الواو ليست للعطف، لتخالف الجملتين الاسمية والفعلية، ولا للاستئناف، لأن أصل الواو أن تربط ما بعدها بما قبلها، فبقي أن تكون للحال، فتكون جملة الحال مقيدة للنهي، والمعنى: لا تأكلوا منه في حالة كونه فسقا، ومفهومه جواز الأكل إذا لم يكن فسقا. ما يقوله الزمخشري: وقال الزمخشري في كشّافه: «فإن قلت: قد ذهب جماعة من المجتهدين إلى جواز أكل ما لم يذكر اسم الله عليه بنسيان أو عمد قلت: قد تأوّله هؤلاء بالميتة، وبما ذكر غير اسم الله عليه، كقوله: «أو فسقا أهل لغير الله به» . وواضح أن الزمخشري حنفي، فهو ينتصر لمذهبه. ويطول بنا القول إن رحنا نورد حجج الفريقين، مما لا يندرج في نطاق كتابنا، وحسبنا ما تقدم. 2- كل جواب يمتنع جعله شرطا فإن الفاء تجب فيه، لأن معناها التعقيب بلا فصل، كما أن الجزاء يتعقب فعل الشرط كذلك، وذلك في المواضع الآتية: 1- الجملة الاسمية نحو قوله تعالى: «وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 2- الجملة الطلبية، نحو قوله تعالى: «إن كنتم تحبون الله فاتبعوني» . 3- الجملة التي فعلها ماض، لفظا ومعنى، وحينئذ يجب أن يكون مقترنا ب «قد» ظاهرة، نحو قوله تعالى: «إن يسرق فقد سرق» ، أو مقدّرة، نحو قوله تعالى: «إن كان قميصه قد من قبل فصدقت» أي: فقد صدقت. 4- الجملة التي فعلها جامد، نحو قوله تعالى: «إن ترني أنا أقلّ منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنّتك» . 5- الجملة التي فعلها مقترن ب «قد» ، نحو قوله تعالى: «إن يسرق فقد سرق» . 6- الجملة التي فعلها مقترن بما النافية، نحو قوله تعالى: «فإن توليتم فما سألتكم من أجر» . 7- الجملة التي فعلها مقترن ب «لن» ، نحو قوله تعالى: «وما يفعلوا من خير فلن يكفروه» . 8- الجملة التي فعلها مقترن بالسين، نحو قوله تعالى: «ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا» . 9- الجملة التي فعلها مقترن بسوف، نحو قوله تعالى: «وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله» . 10- الجملة التي فعلها مصدر ب «ربّ» ، نحو: «إن تجيء فربما أجيء» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 11- الجملة التي فعلها مصدر بكأنما، نحو قوله تعالى: «أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا» . 12- الجملة التي فعلها مصدّر بأداة شرط، نحو قوله تعالى: «وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية» . وقد تحذف الفاء في الندرة كقوله صلى الله عليه وسلم لأبّي ابن كعب لما سأله عن اللقطة: «فإن جاء بها صاحبها وإلا استمتع بها» . أو في الضرورة كقول حسان بن ثابت: من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشرّ بالشرّ عند الله مثلان أراد فالله يشكرها. هذا وقد تخلف فاء الجزاء إذا الفجائية إن كانت الأداة «إن» ، نحو قوله تعالى: «وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون» . [سورة الأنعام (6) : آية 122] أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 الإعراب: (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) كلام مستأنف مسوق للتمثيل لحال الكافر والمؤمن. والهمزة للاستفهام الإنكاري، والواو عاطفة على جملة منتزعة من قوله: «وإن أطعتموهم» والتقدير: أأنتم مثلهم، لتستوي الجملتان في الاسمية. من اسم موصول في محل رفع مبتدأ، وجملة كان صلة الموصول، وميتا خبر كان، فأحييناه الفاء عاطفة، وأحييناه فعل وفاعل ومفعول به، وجعلنا عطف على قوله فأحييناه، وله جار ومجرور في موضع نصب مفعول جعلنا الأول، ونورا مفعول به ثان، أو تكون «جعلنا» بمعنى: خلقنا، فيكون الجار والمجرور في موضع نصب على الحال، لأنه كان في الأصل صفة له، نورا مفعول به إذا كانت جعلنا بمعنى خلقنا ومفعول ثان إذا كانت على حالها وجملة يمشي في محل نصب صفة ل «نورا» ، وبه جار ومجرور متعلقان بيمشي، وفي الناس جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، أي: كائنا بينهم (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) كمن الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر «من» ، ومثله مبتدأ، وفي الظلمات جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر، والجملة الاسمية صلة الموصول، وجملة ليس بخارج منها نصب على الحال، وليس فعل ماض ناقص، واسمها مستتر، والباء حرف جر زائد، وخارج مجرور بالباء لفظا منصوب على أنه خبر ليس محلا، ومنها جار ومجرور متعلقان بخارج (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) كذلك جار ومجرور في محل نصب نعت لمصدر محذوف، وقد تقدمت نظائره كثيرا. وزين بالبناء للمجهول، وللكافرين جار ومجرور متعلقان بزين، وما اسم موصول نائب فاعل، وجملة كانوا صلة الموصول، وجملة يعملون خبر كانوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 البلاغة: في الآية التشبيه التمثيلي، وقد سبقت الاشارة إليه كثيرا. وإن وجه الشبه فيه صورة منتزعة من متعدّد، وهذا مثل ضربه الله تعالى لحال المؤمن والكافر، فبّين أن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتا فأحياه وأعطاه نورا يهتدي به في مصالحه، وإن الكافر بمنزلة من هو في الظلمات منغمس فيها، ولم تأتلف هذه الأجناس المختلفة للتمثيل، ولم تتصادف هذه الأشياء المتباينة على حكم المشبه، إلا لأنه لم يراع ما يحضر العين، ولكن ما يستحضر العقل، ولم يعن بما تنال الرؤية بل بما تعلق به الرّويّة. ونحن نعتقد أن ما ورد في القرآن من أمثال هو عام بحق كل إنسان في مختلف ظروفه وأحواله، وهو الصحيح الذي يتناسب مع مدلول الهداية التي جاء بها القرآن، ولكن المفسرين، رحمهم الله، يتوسعون، فيجعلون لكل آية مناسبة تتعلق بها، وليس ثمة مانع من ذلك ما دامت أحوال الناس متناسبة متشابهة في مختلف ظروف الزمان والمكان. وقد ذكر غير واحد منهم أن في الآية رجلين معنيين، الأول هو حمزة بن عبد المطلب عمّ النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني هو أبو جهل بن هشام. ويوردون قصة طريقة لا بأس بإيرادها، وخلاصتها أن أبا جهل رمى النبي صلى الله عليه وسلم بفرث، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل- وكان حمزة قد رجع من صيد، وبيده قوس، وحمزة لم يؤمن بعد- فأقبل حمزة غضبان حتّى علا أبا جهل، وجعل يضربه بالقوس، وجعل أبو جهل يتضرّع إلى حمزة ويقول: يا أبا يعلى! أما ترى ما جاء به؟ سفّه عقولنا وسبّ آلهتنا وخالف آباءنا! فقال حمزة: ومن أسفه منكم عقولا؟ تعبدون الحجارة من دون الله! أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. فأسلم حمزة يومئذ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 [سورة الأنعام (6) : الآيات 123 الى 124] وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124) اللغة: (صَغارٌ) الصغار: بفتح الصاد الذل والهوان. يقال فيه صغر ككرم صغرا بكسر الصاد وفتح الغين، وصغرا بضمّ الصاد وسكون الغين، وصغار بفتح الصاد والغين، وصغارة وصغرانا بضم الصاد وسكون الغين. وأما صغر بفتح الصاد وكسر الغين، وصغر بضم الغين أيضا: فهو ضد كبر وعظم. الإعراب: (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها) كلام مستأنف للشروع في تقسيم الناس إلى أقوياء وضعفاء، وخص الأكابر بالإجرام لأنهم أقدر على بثّ الإجرام والفساد. وقيل عاطفة على ما قبلها. وليس ثمة مانع. وكذلك نعت لمصدر محذوف، وقد تقدم. وجعلنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 فعل وفاعل، وفي كل قرية مفعول جعلنا الثاني، وأكابر مفعول جعلنا الأول، ومجرميها مضاف لأكابر (لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) اللام للتعليل، وقيل للعاقبة أو الصيرورة، وكلاهما صحيح، والجار والمجرور متعلقان بجعلنا، والواو للحال، وما نافية، ويمكرون فعل مضارع، والجملة نصب على الحال من فاعل يمكروا، وإلا أداة حصر، وبأنفسهم جار ومجرور متعلقان بيمكرون، والواو حالية، وما نافية، وجملة ما يشعرون في محل نصب من ضمير يمكرون (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ) الواو عاطفة نسقا على ما تقدم، وإذا ظرف مستقبل متعلق بقالوا، وجملة جاءتهم في محل جر بالإضافة، وآية فاعل، وجملة قالوا لا محلّ لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم، ولن حرف نفي ونصب واستقبال، ونؤمن فعل مضارع منصوب بلن، والجملة في محلّ نصب مقول القول، وحتى حرف غاية وجر، ونؤتى فعل مضارع مبني للمجهول منصوب بأن مضمرة بعد حتى، ونائب الفاعل مستتر، ومثل مفعول به ثان، وما اسم موصول في محل جر بالإضافة، وجملة أوتي لا محل لها لأنها صلة الموصول، ورسل الله نائب فاعل (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) الله مبتدأ، وأعلم خبره، وحيث: اختلفت آراء المعربين فيها فقال قوم: إنها ليست ظرفا، لأنه تعالى أن يكون في مكان أعلم منه في مكان آخر، ولأن علمه لا يختلف باختلاف الأمكنة، وإنما هو مفعول به لفعل دل عليه «أعلم» ، أي: يعلم الموضع الصالح لوضع رسالته، وهؤلاء ليسوا أهلا لوضعها فيهم. وقال أبو حيّان في البحر: «الظاهر إقرارها على الظرفية المجازية، وتضمين «أعلم» معنى ما يتعدّى إلى الظرف، فيكون التقدير: الله أنفذ علما حيث يجعل، أي هو نافذ العلم في هذا الموضع الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 يجعل فيه رسالته» . وقال السفاقسي: «الظاهر أنه باق على معناه من الظرفية، والإشكال إنما يرد من حيث مفهوم الظرف، وكم من موضع ترك فيه المفهوم لقيام الدليل عليه، لا سيما وقد قام في هذا الموضع» . وجملة يجعل رسالته في محل جر بالإضافة، ورسالته مفعول به (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) الجملة مستأنفة، مسوقة لبيان ما يصل بهم يوم القيامة. والسين حرف استقبال، ويصيب فعل مضارع مرفوع، والذين اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة أجرموا لا محل لها لأنها صلة الموصول، وصغار فاعل، وعند الله ظرف متعلق بيصيب أو صفة لصغار، أي: ثابت عند الله، وعذاب شديد معطوفة على صغار، والباء حرف جر للسببية، وما مصدرية، أو موصولة، بمعنى الذي، وجملة كانوا لا محل لها من الإعراب على كل حال، وجملة يمكرون في محل نصب خبر كانوا. [سورة الأنعام (6) : الآيات 125 الى 126] فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) الإعراب: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) الفاء استئنافية، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 ومن اسم شرط جازم مبتدأ، ويرد فعل الشرط، والله فاعله، وأن يهديه مصدر مؤول منصوب لأنه مفعول به، أي: هداية، ويشرح جواب الشرط، وصدره مفعول به، وللاسلام جار ومجرور متعلقان بيشرح وفعل الشرط وجوابه خبر «من» . (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) الواو عاطفة، ومن اسم شرط جازم معطوفة على «من» الأولى، وأن يضلّه مصدر مؤول مفعول يرد، ويرد فعل الشرط، ويجعل جواب الشرط مجزوم، وصدره مفعول به، وضيقا مفعول به ثان، وحرجا نعت ل «ضيقا» ، وجملة كأنما التشبيهية في محل نصب على الحال من صدره، أو من الضمير المستكن في «ضيقا» ، وهي كافة ومكفوفة، ويصعّد فعل مضارع، وفي السماء جار ومجرور متعلقان بيصّعد (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) الجملة مستأنفة، وكذلك الجار والمجرور نعت لمصدر محذوف، ويجعل فعل مضارع، والله فاعل، والرجس مفعول به، وعلى الذين في موضع المفعول الثاني، وجملة لا يؤمنون صلة الموصول (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان أن ما يسير عليه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الإسلام. وهذا مبتدأ، وصراط ربك خبر، ومستقيما حال مؤكد للجملة، والعامل فيه اسم الإشارة، باعتبار ما فيه من معنى الفعل، فإنه في معنى أشير (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) الجملة مستأنفة، وقد حرف تحقيق، وفصلنا الآيات فعل وفاعل ومفعول به، ولقوم جار ومجرور متعلقان بفصّلنا، وجملة يذكرون صفة لقوم. البلاغة: في قوله: «كأنما يصّعد في السماء» تشبيه تمثيلي منتزع من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 متعدد، أي: إن حال من جعل صدره ضيقا حرجا كحال من يكلف الصعود إلى السماء. وقد مرت له نظائر. [سورة الأنعام (6) : الآيات 127 الى 128] لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) الإعراب: (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) جملة مستأنفة لا محل لها، كأنها جاءت جوابا عن سؤال سائل عما أعده الله لهم، فقيل له ذلك. ويحتمل أن تكون نصبا على الحال من فاعل يذكرون. ولهم جار ومجرور متعلّقان بمحذوف خبر مقدّم، ودار السلام مبتدأ مؤخّر، وعند ربهم ظرف متعلق بمحذوف حال من «دار السلام» والعامل فيها معنى الاستقرار المستكن في «لهم» ، والواو حالية، وهو مبتدأ، ووليهم خبر، والباء جارّة سببية، وما اسم موصول أو مصدرية، وجملة كانوا لا محلّ لها على كل حال، وجملة يعملون في محل نصب خبر كانوا (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) الواو استئنافية، ويوم ظرف منصوب بفعل محذوف، أي: واذكر يوم نحشرهم، وجملة نحشرهم- بالنون والياء، فهما قراءتان- في محل جر بالإضافة بعد الظرف، وجميعا حال، وقال أبو حيان: «أعرب بعضهم «يوم» مفعولا باذكر محذوفا، والأولى أن يكون الظرف معمولا لفعل القول المحكيّ به النداء، أي: ويوم نحشرهم نقول: يا معشر الجن، وهو أولى مما أجاز بعضهم من نصبه باذكر مفعولا به لخروجه عن الظرفية» ويا معشر الجن منادى مضاف، مقول قول محذوف، أي: ونقول لهم: يا معشر الجن، وقد حرف تحقيق، واستكثرتم فعل وفاعل، ومن الإنس جار ومجرور متعلقان باستكثرتم (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) الواو عاطفة، وقال أولياؤهم فعل وفاعل ومن الإنس جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وربنا منادى مضاف، حذف منه حرف النداء، واستمتع بعضنا فعل وفاعل، وببعض جار ومجرور متعلقان باستمتع، والجملة في محل نصب القول. (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) الواو حرف عطف، وبلغنا فعل وفاعل، وأجلنا مفعول، والذي اسم موصول في محل نصب صفة ل «أجلنا» ، وجملة أجلت لا محل لها لأنها صلة الموصول، ولنا جار ومجرور متعلقان بأجلت (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) الجملة مستأنفة مسوقة لرد الله تعالى عليهم. وقال فعل ماض، وفاعله يعود على الله، والنار مبتدأ، ومثواكم خبر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وخالدين حال من الكاف في «مثواكم» ، وفيها جار ومجرور متعلقان بخالدين، وإلا ما شاء الله: إلا أداة استثناء، وما اسم موصول أو مصدرية في محل نصب على الاستثناء من الجنس باعتبار الزمان أو المكان أو العذاب لدلالة خالدين عليهم، أي: خالدين في كل زمان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 من الأزمن زمن مشيئة الله، أو خالدين في مكان وعذاب مخصوصين إلا أن يشاء الله نقلهم إلى غيرهما. وسيأتي مزيد من البحث عن هذا الاستثناء المذهل في باب البلاغة (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) إن واسمها، وحكيم خبرها الأول، وعليم خبرها الثاني، والجملة لا محل لها لأنها بمثابة التعليل. البلاغة: تحدثنا في باب الإعراب عن الاستثناء المذهل حسب ما يرشد إليه سياق الكلام والنصوص النحوية، ولكن رائد البلاغة المثلى لا يقتنع بمثل هذه السهولة، ومن أجل ذلك عني العلماء البلاغيون بهذه الآية وبأختها من سورة هود، كما سيأتي، وكثرت الخلافات والمناقشات حولها، وسنجتزئ بأهمّ ما توصلنا إليه. رأي الزمخشري: 1- وللزمخشري رأي طريف بعيد عن التأويلات المتعسفة، وأدنى إلى الدقة قال: «أو يكون من قول الموتور الذي ظفر بواتره، ولم يزل يحرق عليه أنيابه، وقد طلب إليه أن ينفّس عن خناقه: أهلكني الله إن نفست عليك إلا إذا شئت، وقد علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد، فيكون قوله: إلا إذا شئت، من أشد الوعيد مع تهكم بالموعد، لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه أطماع» . وهذا الذي ذكره الزمخشري أولى من الروايات والتأويلات المتعسفة، مثل قولهم: «فقد روي أنهم يدخلون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 واديا فيه من الزمهرير ما يميّز بعض أوصالهم من بعض فيتعاوون ويطلبون الرد الى الجحيم» . رأي الزّجّاج: وقد عثرنا على رأي طريف للزجاج، ينقع الغليل. ولكنه مبتسر يحتاج إلى الإبانة والكشف، فقد قال الزجاج: «والمراد والله أعلم إلا ما شاء من زيادة العذاب» . بيد أنه- أي: الزجاج- لم يبيّن وجه استقامة الاستثناء، والمستثنى على هذا التأويل لم يغاير المستثنى منه في الحكم، والظاهر أن العذاب على درجات متباينة، ومراتب متفاوتة، ومقادير غير متناسبة، وكأن المراد أنهم مخلدون في حبس العذاب، إلا ما شاء ربك من زيادة تبلغ الغاية، وتربو على النهاية، حتى تكاد لبلوغها أقصى الغايات تعدّ خارجة عن العذاب، وكأنها ليست منه، ولا داخلة في حيّزه. والمعروف عن العرب في سنن كلامهم أنهم يعبرون عن الشيء إذا بلغ الغاية بالضّدّ، فكأنّ هؤلاء المعذبين وقد طمّ عليهم البلاء، وبلغوا من الشدة غايتها، ومن اللأواء نهايتها، وقد وصلوا إلى المدى الذي يكاد يخرجه من العذاب المطلق، فساغت معاملته في التعبير بمعاملة المغاير، وهذه وثبة من الزجاج، لا نتبين فحواها إلا بهذا البسط الذي يحتاج فهمه إلى رهافة ذوق، وشفوف طبع، والله الموفّق. [سورة الأنعام (6) : الآيات 129 الى 130] وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 اللغة: (نُوَلِّي) من الولاية، أي: الإمارة. يقال: ولّى فلانا الأمر تولية: جعله واليا عليه، وأصله من «ولي» بتخفيف اللام وكسرها، يلي ولاية بكسر الواو، وولاية بفتحها: الشيء، وعليه: قام به وملك أمره، وولي البلد: تسلّط عليه. الإعراب: (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) الواو استئنافية، وكذلك نعت لمصدر محذوف كما تقدم في نظائره، ويجوز أن يكون الجار والمجرور في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف، أي: الأمر مثل تولية بعض الظالمين، وإليه جنح الزّجّاج. ونولي فعل مضارع، وبعض الظالمين مفعوله الأول، وبعضا مفعوله الثاني، أو منصوب بنزع الخافض، أي: على بعض، والجار والمجرور متعلقان بنولي، وبما الباء حرف جر، وما اسم موصول في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بنولّي، وكان واسمها، وجملة يكسبون خبرها، وجملة كانوا صلة الموصول امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) يا حرف نداء، ومعشر الجن منادى مضاف، وجملة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 النداء مقول قول محذوف، أي: يقال لهم، وجملة القول المحذوف استئناف مسوق لحكاية حال توبيخهم، والهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي، ولم حرف نفي وقلب وجزم، ويأتكم فعل مضارع مجزوم بلم، والكاف مفعول به، ورسل فاعل مؤخر، ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفةَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) جملة يقصون صفة ثانية لرسل، وعليكم جار ومجرور متعلقان بيقصون، أو بمحذوف حال، لتخصص النكرة بالوصف. وآياتي مفعول به، والواو حرف عطف، وجملة ينذرونكم عطف على يقصون، والواو فاعل والكاف مفعول به، ولقاء مفعول به ثان، أو منصوب بنزع الخافض، والجار والمجرور متعلقان بينذرونكم، ويومكم مضاف إليه، وهذا صفة ليومكم، أو بدل منه الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) الجملة مستأنفة مسوقة لتكون جوابا عن سؤال كأنه قيل لهم: فماذا قالوا بعد التوبيخ؟ وجملة شهدنا على أنفسنا في محل نصب مقول قولهم، وعلى أنفسنا جار ومجرور متعلقان بشهدنا، أي: اعترفنا وأقررناَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) الواو اعتراضية، وجملة غرتهم الحياة الدنيا معترضة لبيان مدى تماديهم في الغرور، وكرر شهادتهم على أنفسهم لأنه في الأولى حكى قولهم وكيف يقولون ويعترفون، وفي الثانية أراد مجرّد ذمهم وتسفيه آرائهم، ووصمهم بقلة النظر، وأن وما بعدها في محل نصب بنزع الخافض، أي: بأنهم كانوا كافرين، وجملة كانوا خبر أن، وكافرين خبر كانوا. [سورة الأنعام (6) : الآيات 131 الى 134] ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 الإعراب: (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) الجملة مستأنفة بمثابة التعليل، واسم الاشارة مبتدأ، خبره ما بعده أي: ذلك ثابت، أو خبر لمبتدأ محذوف، أي: الأمر ذلك، والاشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم. وأن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، هي مع مدخولها في محل نصب بنزع الخافض، والجار والمجرور متعلقان بالخبر المحذوف ومتعلقان بمحذوف بدل من ذلك ان كانت خبرا لمبتدأ محذوف، ولم حرف نفي، ويكن فعل مضارع مجزوم بلم، وجملة «لم يكن» خبر «أن» وربك اسم يكن، ومهلك القرى خبرها، وبظلم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من ذلك، أي ملتبسا بظلم، أو من فاعل مهلك، وكلاهما بمعنى واحد، أو من القرى، أي ملتبسة بذنوبها. وأهلها الواو حالية، وأهلها مبتدأ، وغافلون خبر، والجملة في موضع نصب على الحال (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان حال المؤمنين والكفار. ولكل جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والتنوين في كل عوض عن المضاف إليه، أي: ولكل فريق، وسيأتي في باب الفوائد بحث هام عن التنوين وأقسامه. ودرجات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 مبتدأ مؤخّر، وما: من حرف جر، وما مصدرية أو موصولة، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لدرجات، وجملة عملوا لا محل لها على كل حال، وما ربك الواو استئنافية أو حالية، وما نافية حجازية تعمل عمل ليس، وربك اسمها، والباء حرف جر زائد، وغافل مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر «ما» ، وعما جار ومجرور متعلقان بغافل، وجملة يعملون صلة «ما» الموصولية (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) كلام مستأنف، وربك مبتدأ، والغني خبر أول، وذو الرحمة خبر ثان (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) الجملة الشرطية خبر ثالث، ويجوز أن نعرب «الغني» و «ذو الرحمة» صفتين ل «ربك» ، وتكون الجملة الشرطية خبرا ل «ربك» ، وإن شرطية. ويشأ فعل الشرط مجزوم، ويذهبكم جواب الشرط، ويستخلف الواو حرف عطف، ويستخلف فعل مضارع معطوف على يذهبكم. ومن بعدكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة يشاء صلة الموصول لا محل لها (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) كما الجار والمجرور نعت لمصدر محذوف، وقد تقدمت نظائره، وأنشأكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به، ومن ذرية جار ومجرور متعلقان بأنشأكم، وقوم مضاف إليه. وآخرين نعت لقوم (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) كلام مستأنف مسوق لتأكيد ما تقدم. وإن واسمها، وجملة توعدون صلة الموصول، وهو بالبناء للمجهول، والعائد محذوف، أي: به من الساعة والعذاب، واللام المزحلقة، وآت خبر إن، وما الواو عاطفة، وما نافية حجازية، وأنتم اسمها، والباء حرف جر زائد، ومعجزين مجرور لفظا منصوب محلا خبرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 الفوائد: التنوين: هو نون ساكنة تلحق الآخر لفظا لا خطّا لغير توكيد، وأنواعه المشهورة أربعة وهي: 1- تنوين التمكين: وهو اللاحق للأسماء المعربة، وفائدته الدلالة على تمكن الاسم في الاسمية، نحو: جاء زيد، ورأيت زيدا، ومررت بزيد. 2- تنوين التنكير: وهو اللاحق لبعض الأسماء المبنية للفرق بين ما هو معرفة منها وما هو نكرة، وذلك قياسي في باب العلم المختوم بويه، نحو: مررت بسيبويه وسيبويه آخر، وسماعي في باب أسماء الأفعال إذا نكرت، نحو إيه بكسر الهمزة وكسر الهاء بلا تنوين، وكقول حافظ ابراهيم في رثاء سعد زغلول: إيه يا ليل هل شهدت المصابا ... كيف ينصبّ في النفوس انصبابا فإذا أردت الاستزادة من حديث ما نوّنته فقلت: إيه. 3- تنوين المقابلة: وهو اللاحق لجمع المؤنث السالم، نحو: رأيت مؤمنات. وسمّي كذلك لأنه في مقابلة النون من جمع المذكر السالم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 4- تنوين العوض: وهو ما يأتي به إما عوضا عن كلمة هي مضاف إليه في كل وبعض، نحو الآية المتقدمة «ولكلّ» أي: لكل فريق، وإما عوضا عن حرف يقضي القياس بحذفه، وهو اللاحق للاسم المنقوص غير المنصرف، نحو: جوار وغواش. وإما عوضا عن جملة، وهو اللاحق لفظة «إذ» عند وقوعها مضافا إليه، نحو: وأنتم حينئذ تنظرون، فالتنوين عوض عن جملة، أي حين إذ بلغت الروح الحلقوم. وهذه الأقسام الأربعة هي الأصل في التنوين، وزاد جماعة- منهم ابن هشام في مغني اللبيب، وابن الخباز في شرح الجزولية- على هذه الأنواع الأربعة: 1- تنوين التّرنّم: وهو اللاحق للقوافي المطلقة، أي: التي آخرها حرف مد، وهي الألف والواو والياء المولّدات من إشباع الحركة، وتسمى أحرف الإطلاق، كقول جرير: أقلّى اللوم عاذل والعتابن ... وقولي إن أصبت لقد أصابن فلحق التنوين العروض والقافية، وهما: العتابن وأصابن، والأصل العتابا وأصابا، فجيء بالتنوين بدلا من الألف، والأول اسم، والثاني فعل. وقد يدخل الحرف أيضا كقول النّابغة الذّبيانيّ: أزف التّرحّل غير أنّ ركابنا ... لمّا تزل برحالنا وكأن قد والأصل: قدي، فجيء بالتنوين بدلا من الياء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 2- التنوين الغالي: وهو الّلاحق للقوافي المقيّدة، أي: التي يكون حرف رويّها ساكنا ليس حرف مدّ، زيادة على الوزن، ومن أجل هذا سمّي غاليا، اي: لتجاوزه حدّ الوزن، كقول رؤبة الرّجّاز: وقاتم الأعماق خاوي المخترقن ... مشتبه الأعلام لمّاع الخفقن 3- تنوين الضرورة: وهو اللاحق لما لا ينصرف كقول امرئ القيس: ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة ... فقالت: لك الويلات إنّك مرجلي وللمنادى المضموم كقول الأحوص: سلام الله يا مطر عليها ... وليس عليك يا مطر السلام 4- التنوين الشاذّ: كقول بعضهم حكاه أبو زيد: هؤلاء قومك. 5- تنوين الحكاية: مثل أن تسمي رجلا بعاقلة، فإنك تحكي اللفظ المسموع، فقد نحصّل تسعة أنواع. وجعل ابن الخباز كلا من تنوين المنادى المضموم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 وتنوين الممنوع من الصرف قسما برأسه، فتحصّل لديه عشرة أنواع أوردناها لمجرد الاطلاع والطرافة، وإلا فبعضها غير سائغ، ولا يقبله الذوق، وذلك مدرك بالبداهة. [سورة الأنعام (6) : الآيات 135 الى 136] قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) اللغة: (مَكانَتِكُمْ) : اختلف في ميم «مكان» و «مكانة» ، فقيل: هي أصلية، وهما من مكن يمكن. وقيل: هي زائدة، وهما من الكون، فالمعنى على القول الأول: على ممكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، فالمكانة مصدر. وعلى الثاني: اعملوا على حالتكم التي أنتم عليها. (ذَرَأَ) : خلق، وذرأ الله الخلق وذرأنا الأرض وذروناها، أي: بذرناها. وقد علته ذرأة، وهي: بياض الشيب أول ما يبدو في الفودين منه، ورجل أذرأ، وامرأة ذرآء، قال: فمرّ ولمّا تسخن الشمس غدوة ... بذرآء تدري كيف تمشي المنائح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 أي: منحت كثيرا فاعتادت ذلك، فهي تسامح بالمشي لا تأبى. (الزعم) بفتح الزاي وضمها، وفي المصباح: زعم زعما من باب قتل، وفي الزعم ثلاث لغات: فتح الزاي لأهل الحجاز، وضمها لبني أسد، وكسرها لبعض قيس. ويطلق الزعم بمعنى القول، ومنه: زعمت الحنفية، وزعم سيبويه، أي: قال، وعليه قوله تعالى: «أو تسقط السماء كما زعمت» أي: قلت. ويطلق على الظنّ، يقال: في زعمي كذا. وعلى الاعتقاد، ومنه قوله تعالى: «زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا» . قال الأزهري: وأكثر ما يكون الزعم فيما يشكّ فيه، ولا يتحقق. وقال بعضهم: هو كناية عن الكذب، وقال في أساس البلاغة: «وزعموا مطيّة الكذب، وفي قوله مزاعم: إذا لم يوثق به، وأفعل ذلك ولا زعماتك» وهذا القول: ولا زعماتك، أي: ولا أتوهم زعماتك. قال ذو الرمة: لقد خطّ رومي ولا زعماته ... لعتبة خطّا لم تطبّق مفاصله روميّ: عريف كان بالبادية، قضى عليه لعتبة بن طرثوث، رجل كان يخاصمه في بئر، وكتب له سجلا. الإعراب: (قُلْ: يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ) كلام مستأنف مسوق للوعيد والتهديد والمبالغة في الزجر عما هم عليه. ويا حرف نداء، وقوم منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة، وقد تقدّم بحثه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 واعملوا فعل أمر، والمقصود منه التهديد والزجر، وعلى مكانتكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وإن واسمها، وعامل خبرها، والجملة بمثابة التعليل للأمر (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) الفاء للتعليل، والجملة تعليلية لا محل لها، وإنما أتت لتأكيد مضمون الجملة وفحواها، ومن اسم موصول في محل نصب مفعول به لتعلمون التي هي بمعنى العرفان، فهي تتعدى لواحد، وجملة تكون لا محل لها لأنها صلة الموصول، ويجوز أن تكون «من» استفهامية في محل رفع مبتدأ، وخبرها جملة تكون، والجملة في محل نصب مفعول تعلمون، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر تكون المقدم، وعاقبة الدار اسمها المؤخر، وإن واسمها، وجملة لا يفلح الظالمون خبرها، والجملة تعليلية أيضا، وكأنها في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: وما عاقبتهم؟ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) كلام مستأنف مسوق لبيان نوع أو نمط من أحكامهم الفاسدة، وجعل هنا بمعنى: صير، فهي تنصب مفعولين، ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف هو المفعول به الثاني، والمفعول الأول نصيبا، ومما جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، لأنه كان صفة ل «نصيبا» ، وتقدمت عليه، وجملة ذرأ لا محل لها لأنها صلة الموصول، ومن الحرث جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أيضا من «نصيبا» ، والأنعام عطف على الحرث (فَقالُوا: هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) الفاء حرف عطف، وقالوا عطف على جعلوا، واسم الإشارة مبتدأ، والله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وبزعمهم جار ومجرور متعلقان بما تعلق به الاستقرار من قوله «لله» ، وهذا لشركائنا مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على: هذا لله (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ) الفاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 تفريعية، والجملة لا محل لها لأنها بمثابة الاستئنافية، وما اسم موصول في محل رفع مبتدأ، وجملة كان صلة لا محل لها، وكان فعل ماض ناقص، واسمها مستتر، ولشركائهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر، والفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط، ولا نافية، وجملة لا يصل إلى الله في محل رفع خبر «ما» (وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ) الواو عاطفة، وما كان لله تقدم إعرابها، والفاء رابطة، وهو مبتدأ، وجملة يصل إلى شركائهم خبره (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) الجملة مستأنفة، وساء فعل ماض جامد من أفعال الذم، وما اسم موصول فاعل، وقيل: ما نكرة تامة بمعنى شيء منصوبة على التمييز، والتقدير: ساء حكما حكمهم، وسيأتي تفصيل ذلك في باب الفوائد. الفوائد: اختلف النحاة في كلمة «ما» بعد أفعال المدح والذم: نعم وبئس وساء، فقال ابن مالك في الخلاصة: و «ما» مميّز، وقيل: فاعل ... في نحو: نعم ما يقول الفاضل وتفصيل ذلك أن يقال: إنّ «ما» هذه على ثلاثة أقسام: 1- مفردة: أي غير متلوّة بشيء. 2- متلوّة بمفرد. 3- متلوّة بجملة فعلية. فالأولى: نحو: دققته دقّا نعمّا، وفيها قولان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 آ- معرفة: فهي اسم موصول فاعل. ب- نكرة تامة: وعليها فالمخصوص محذوف أي: نعم الدقّ. والثانية نحو: فنعمّا هي وبئسما تزويج بلا مهر، وفيها ثلاثة أقوال: معرفة تامة فاعل، ونكرة تامة، ومركبة مع الفعل قبلها تركيب «ذا» مع «حبّ» ، فلا موضع لها، وما بعدها فاعل. والثالثة المتلوّة بجملة فعلية، نحو: «نعمّا يعظكم به» ، و «بئسما اشتروا به أنفسهم» ، وفيها أقوال، أهمها أربعة: آ- أنها نكرة في موضع نصب على التمييز. ب- أنها في موضع رفع على الفاعلية. ج- أنها هي المخصوص. د- أنها كافّة. فأما القائلون بأنها في موضع نصب على التمييز فاختلفوا فيها على ثلاثة أقوال: آ- أنها نكرة موصوفة بالفعل بعدها، والمخصوص محذوف. ب- أنها نكرة موصوفة والفعل بعدها صفة لمخصوص محذوف. ج- أنها تمييز، والمخصوص «ما» أخرى موصولة محذوفة، والفعل صلة ل «ما» الموصولة المحذوفة، وهذا ما نختاره للسهولة في الإعراب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 وأما القائلون بأنها في موضع رفع على الفاعلية فاختلفوا فيها على خمسة أقوال: آ- أنها اسم معرفة تام، أي: غير مفتقر إلى صلة، والفعل بعدها صفة لمحذوف. ب- أنها موصولة، والفعل صلتها، والمخصوص محذوف. ج- أنها موصولة، والفعل صلتها، مكتف بها وبصلتها عن المحذوف. د- أنها مصدرية سادة بصلتها- لاشتمالها على المسند والمسند إليه- مسد الفاعل والاسم المخصوص جميعا. هـ- أنها نكرة موصوفة، والمخصوص محذوف. وأما القائلون بأنها هي المخصوص فقالوا: إنها موصولة، والفاعل مستتر، و «ما» أخرى محذوفة هي التمييز وأما القائلون بأنها كافّة كفّت «نعم» عن العمل كما كفت: قلّ وطال وكثر وشدّ عنه، فصارت تدخل على الجملة الفعلية. تطبيق الخلاف على الآية: فإذا أردنا تطبيق ما أجملناه على «ساء ما يحكمون» فإن جعلنا «ما» تمييزا فهي نكرة موصوفة، أي: ساء شيئا يحكمونه، وإن جعلناها فاعلا فهي معرفة ناقصة، أي ساء الذي يحكمونه، وعليهما فالمخصوص بالذم محذوف دائما. أطلنا في هذا النقل لأن النحاة اضطرب كلامهم فيه اضطرابا شديدا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 [سورة الأنعام (6) : آية 137] وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) الإعراب: (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان التأثر بأقوال دعاة السوء المرجفين بالأكاذيب. وكذلك جار ومجرور في محل نصب نعت لمصدر محذوف كنظائره، ولكثير جار ومجرور متعلقان ب «زيّن» ، ومن المشركين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لكثير، وقتل مفعول به مقدم، وأولادهم مضاف إليه، وشركاؤهم فاعل زين المؤخر (لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) اللام للتعليل، ويردوهم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام، والجار والمجرور متعلقان بزيّن، وليلبسوا عطف على ليردوهم، وعليهم جار ومجرور متعلقان بيلبسوا، ودينهم مفعول به، فعلل التزيين بشيئين: بالإرداء، أي: بالإهلاك، وبإدخال الشبهة عليهم في دينهم. والجملة مستأنفة على الأصح، أي: وهكذا زين. (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) الواو استئنافية، ولو شرطية، وشاء الله فعل وفاعل والمفعول به محذوف، أي: عدم فعلهم، وما نافية، وفعلوه فعل وفاعل ومفعول به، والضمير المرفوع يعود على «كثير» ، والضمير المنصوب يعود على القتل، لأنه هو المسوق للحديث عنه، فذرهم الفاء الفصيحة، وذرهم فعل أمر وفاعل مستتر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 ومفعول به، والواو حرف عطف أو للمعية، وما اسم موصول أو مصدرية، أي: ذرهم والذي يفترونه من الكذب، أو ذرهم وافتراءهم. الفوائد: في هذه الآية قراءات كثيرة لا يتسع لها صدر هذا الكتاب، وقد درجنا على عدم الإشارة الى قراءة ما إلا إذا كانت تنطوي على بحث هام، فاكتفينا في باب الإعراب بقراءة العامة وقرأ ابن عامر وهو من السبعة: «وكذلك زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم» برفع «قتل» على النيابة عن الفاعل بزين المبني للمجهول، ونصب «أولادهم» وجر «شركائهم» . ف «قتل» على قراءة ابن عامر مصدر مضاف وشركائهم مضافة الى «قتل» من إضافة المصدر الى فاعله، وأولادهم مفعوله، وفصل به بين المضاف والمضاف إليه، وحسن ذلك ثلاثة أمور: 1- كون الفاصل فضلة، فإن ذلك مسوغ لعدم الاعتداد به. 2- كونه غير أجنبي لتعلّقه بالمضاف. 3- كونه مقدر التأخير من أجل أن المضاف إليه مقدر التقديم بمقتضى الفاعلية المعنوية. وبذلك يتبين مدى تهافت الزمخشري في قوله: ما قاله الزمخشري: «وأما قراءة ابن عامر «قتل أولادهم شركائهم» برفع القتل ونصب الأولاد وجر الشركاء، على إضافة القتل الى الشركاء والفصل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 بينهما بغير الظرف، فشيء لو كان في مكان الضرورات- وهو الشعر- لكان سمجا مردودا، فكيف به في الكلام المنثور؟ فكيف به في القرآن المعجز بحسب لفظه وجزالته» ؟. الفصل بين المتضايفين: هذا وقد زعم كثير من النحويين أنه لا يفصل بين المتضايفين إلا في الشعر خاصة، لأن المضاف منزل من المضاف إليه منزلة جزئه، لأنه واقع موقع تنوينه، فكما لا يفصل بين أجزاء الاسم لا يفصل بينه وبين ما نزّل منزلة الجزء منه، وهذا قول البصريين. وعند الكوفيين أن مسائل الفصل سبع، منها ثلاث جائزة في السعة، أي: النثر، وهي: 1- أن يكون المضاف مصدرا والمضاف إليه فاعله، والفاصل إما مفعوله كقراءة ابن عامر الآنفة الذكر، وقول الشاعر: عتوا إذ أجبناهم الى السلم رأفة ... فسقناهم سوق البغاث الأجادل فسوق مصدر مضاف، والأجادل مضاف إليه، من إضافة المصدر إلى فاعله، والبغاث مفعوله، وفصل به بين المضاف والمضاف إليه، والأصل: سوق الأجادل البغاث. وإما ظرفه كقول بعضهم: «ترك يوما نفسك وهواها موبق لها» ، فترك مصدر مضاف، ونفسك مضاف إليه، من إضافة المصدر إلى فاعله، ومفعوله محذوف، ويوما ظرف للمصدر، بمعنى أنه متعلق به، وفصل به بين المضاف والمضاف إليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 2- أن يكون المضاف وصفا والمضاف إليه مفعوله الأول، والفاصل مفعوله الثاني، كقراءة بعضهم: «فلا تحسبنّ الله مخلف وعده رسله» بنصب وعده وجر رسله، فمخلف اسم فاعل وهو متعد لاثنين، وهو مضاف، ورسله مضاف إليه، من إضافة الوصف إلى مفعوله الأول، ووعده مفعوله الثاني، وفصل به بين المضاف والمضاف إليه. 3- أن يكون الفاصل قسما كقولهم: «هذا غلام والله زيد» ، يجر زيد بإضافة الغلام إليه وفصل بينهما بالقسم. والمسائل الأربع الباقية من السبع تختص بالشعر وهي: 1- الفصل بالأجنبي كقول جرير: تسقي امتياحا ندى المسواك ريقتها ... كما تضمّن ماء المزنة الرّصف فتسقي مضارع سقى متعد لاثنين، وفاعله ضمير يرجع الى المحبوبة في البيت قبله، وندى مفعوله الأول وهو مضاف، وريقتها مضاف إليه والمسواك مفعوله الثاني، فصل به بين المضاف والمضاف إليه، أي: تسقي ندى ريقتها المسواك، والمسواك أجنبي من «ندى» لأنه ليس معمولا له وإن كان عاملهما واحدا. 2- الفصل بفاعل المضاف كقوله: ما إن وجدنا للهوى من طبّ ... ولا عدمنا قهر وجد صبّ فأضاف «قهر» الى مفعوله وهو «صب» ، وفصل بينهما بفاعل المصدر وهو «وجد» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 3- الفصل بنعت المضاف، بنعت المضاف، كقول معاوية بن أبي سفيان، لما اتفق ثلاثة من الخوارج على أن يقتل كل واحد منهم واحدا من علي بن أبي طالب وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان، فقتل علي، وسلم عمرو ومعاوية: نجوت وقد بل المرادي سيفه ... من ابن أبي شيخ الأباطح طالب ففصل بين المتضايفين، وهما: أبي وطالب، بنعت المضاف وهو: شيخ الأباطح، أي: من ابن أبي طالب شيخ الأباطح. والمرادي بفتح الميم نسبة الى مراد، بطن من مذحج، وهو عبد الرحمن بن ملجم، بضم الميم وفتح الجيم، على صيغة اسم المفعول. 4- الفصل بالنداء كقوله: كأن برذون أبا عصام ... زيد حمار دقّ باللجام فأضاف برذون الى زيد، وفصل بينهما بالمنادى الساقط حرفه، وحمار خبر كأن، والأصل كأن برذون زيد حمار يا أبا عصام. والى هذا كله أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله: فصل مضاف شبه فعل ما نصب ... مفعولا أو ظرفا أجز ولم يعب فصل يمين واضطرارا وجدا ... بأجنبي أو بنعت أو ندا بين أبي حيّان والزمخشري: هذا وقد رد أبو حيان على الزمخشري، وأغلظ في الردّ، قال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 بعد أن أورد كلام الزمخشري الذي أوردناه في مستهل هذا البحث: «وأعجب لعجمي ضعيف في النحو يرد على عربي صريح محض قراءة متواترة، وأعجب لسوء ظن هذا الرجل بالقراء الأئمة الذين تخيّرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله شرقا وغربا» . بين أبي حيان والفارسي: ومضى أبو حيان يرد على أبي علي الفارسي قال: «ولا التفات أيضا لقول أبي علي الفارسي: هذا قبيح قليل في الاستعمال، ولو عدل عنها- يعني ابن عامر- كان أولى، لأنهم لم يجيزوا الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الكلام مع اتساعهم في الظرف، وإنما أجازوه في الشعر» . لمحة عن عقبة بن عامر: أما عقبة فهو الصحابي الجليل والقائد الأمير الذي اشترك في فتح مصر، ثم حكمها نيابة وأصالة. وهو رجل مستنير ذكي يتمتع بمزايا فكرية واضحة، وقد كلفه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضي بين خصمين اختصما إليه، وكان شاعرا قارئا كاتبا. أبو الطيّب المتنبي فصل بين المتضايفين: هذا وقد استعمل أبو الطيب المتنبي الفصل بين المتضايفين، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، فقال من قصيدة يمدح بها أبا القاسم طاهر بن الحسين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 حملت إليه من لساني حديقة ... سقاها الحجا سقي الرياض السحائب فقد فصل بالمفعول. ومعنى البيت أنه جعل القصيدة حديقة لما فيها من المعاني كما يكون في الروضة من الزهر والنبات، وجعل العقل ساقيا لها، لأن المعاني التي فيها إنما تحسّن بالعقل، فجعل العقل ساقيها كما تسقي الرياض السحاب، وهو جمع سحابة. كلمة ابن جنّي: وقال أبو الفتح ابن جني: «إذا اتفق شيء من ذلك نظر في حال العربي وما جاء به، فإن كان فصيحا وكان ما أورده يقبله القياس، فالأولى أن يحسن به الظنّ، لأنه يمكن أن يكون ذلك وقع إليه من لغة قديمة قد طال عهدها وعفا رسمها» . كلمة أبي عمرو بن العلاء: وقال أبو عمرو بن العلاء: «ما انتهي إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير» . رواية عن عمر بن الخطاب: وروى ابن سيرين عن عمر بن الخطاب أنه حفظ أقل ذلك، وذهب عنهم كثيره. يعني الشعر، في حكاية فيها طول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 [سورة الأنعام (6) : الآيات 138 الى 139] وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) اللغة: (حِجْرٌ) : فعل بكسر الفاء، بمعنى مفعول، كالذبح والطحن، ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث، والواحد، والجمع، لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات، ولذلك وقع صفة لأنعام وحرث، ومعناه الحجر، أي: المنع. كانوا إذا عينوا أشياء من حرثهم وأنعامهم لآلتهم قالوا: لا يطعمها إلا من نشاء، فجعلوا نصيب الآلهة أقساما ثلاثة: الأول ما ذكره بقوله: حجر، أي: ممنوعة محرّمة. والثاني ما ذكره بقوله: «وأنعام حرمت ظهورها» . والثالث قوله: «لا يذكرون اسم الله عليها» فجعلوها أجناسا بهواهم، ونسبوا ذلك التجنيس الى الله. (خالِصَةٌ) التاء في خالصة للمبالغة، مثلها في راوية وعلامة ونسّابة والخاصة والعامة، أو تكون مصدر على وزن فاعلة، كالعافية والعاقبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 الإعراب: (وَقالُوا: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة لحكاية نوع آخر من أنواع كفرهم. وهذه اسم اشارة في محل رفع مبتدأ، وأنعام خبر، والجملة الاسمية مقول القول، وحرث عطف على أنعام، وحجر وصف لهما، أي: محجورة ممنوعة محرّمة، وجملة لا يطعمها صفة ثانية لأنعام، ويطعمها فعل مضارع ومفعول به، وإلا أداة حصر، ومن اسم موصول في محل رفع فاعل يطعمها، وجملة نشاء لا محل لها لأنها صلة الموصول، وبزعمهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل قالوا، أي: قالوا ذلك ملتبسين بزعمهم الباطل (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها) الواو عاطفة، وأنعام خبر لمبتدأ محذوف، أي: هذه والجملة معطوفة على قوله: «هذه أنعام» ، أي قالوا مشيرين الى طائفة أخرى من أنعامهم، ويريدون بها البحائر والسوائب والحوامي. وقد تقدمت في المائدة. وجملة حرمت ظهورها صفة، أي: لا تركب، وظهورها نائب فاعل حرمت (وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ) الواو حرف عطف، وأنعام خبر لمبتدأ محذوف أيضا، والجملة عطف على ما تقدم، فالمقولات ثلاث، وجملة لا يذكرون صفة لأنعام، واسم الله مفعول به، وعليها جار ومجرور متعلقان بيذكرون، وافتراء يجوز فيه أن يكون مفعولا لأجله، أي: فعلوا ذلك كله لأجل الافتراء، ويجوز أن يكون حالا، أي: مفترين، ويجوز أن يكون مصدرا مؤكدا، لأن قولهم ذلك في معنى الافتراء، فهو نظير قولك: رجع القهقرى، وقعد القرفصاء. وعليه جار ومجرور متعلقان بافتراء، أو بمحذوف صفة له (سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير جزائهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 وبما جار ومجرور متعلقان بيجزيهم، ويجوز في «ما» أن تكون مصدرية أو موصولة، والباء للسببية، أي: بسبب افترائهم أو بسبب الذي كانوا يفترونه على الله (وَقالُوا: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) كلام مستأنف مسوق للشروع في قول آخر من مفترياتهم وأباطيلهم، فقد كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب: ما ولد منها حيا فهو خالص للذكور، ولا تأكل منه الإناث، وما ولد منها ميتا اشترك فيه الذكور والإناث. وما اسم موصول في محل رفع مبتدأ، وفي بطون جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول، وهذه اسم إشارة في محل جر بالإضافة، والأنعام بدل من اسم الإشارة، وخالصة خبر عن «ما» ولذكورنا جار ومجرور متعلقان بخالصة، ومحرم عطف على خالصة، وعلى أزواجنا جار ومجرور متعلقان بمحرّم (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) الواو حرف عطف، وإن شرطية، ويكن فعل الشرط، واسم يكن مستتر تقديره: وإن يكن ما في بطونها، وميتة خبر، والفاء رابطة لجواب الشرط، وهم ضمير منفصل في محلّ رفع مبتدأ، وشركاء خبر، وفيه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، لأنه كان في الأصل صفة لشركاء، ولك أن تعلقه بشركاء (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) كلام مستأنف بمثابة التعليل، مسوق لبيان تلاعبهم بأحكام التحريم والتحليل بما تقتضيه حكمته، ويتطلبه علمه. والسين حرف استقبال، ويجزيهم فعل مضارع مرفوع، والفاعل مستتر يعود على الله تعالى، والهاء مفعول به أول، ووصفهم مفعول به ثان ليجزيهم، وجملة إنه حكيم عليم تعليلية لا محل لها، ولا بد من تقدير مضاف، والتقدير: سيجزيهم جزاء وصفهم الكذب على الله في التحليل والتحريم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 [سورة الأنعام (6) : آية 140] قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140) الإعراب: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) كلام مستأنف مسوق لبيان نمط آخر من جهالاتهم، فقد كان بعض العرب من ربيعة ومضر يئدون بناتهم مخافة السبي والفقر. وقد حرف تحقيق، وخسر الذين فعل وفاعل، وجملة قتلوا أولادهم لا محل لها لأنها صلة الموصول، وسفها مفعول لأجله، أي لخفة عقولهم وجهلهم، وبغير علم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل قتلوا، أي: جاهلين أن الله هو الرازق لهم ولأولادهم (وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ) الواو عاطفة، وحرموا فعل وفاعل، وما اسم موصول مفعول به، وجملة رزقهم الله صلة، وافتراء مفعول لأجله أو حال، وعلى الله جار ومجرور متعلقان بافتراء (قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) الجملة تأكيد لقوله: «قد خسر الذين» ، والواو حرف عطف، وما نافية، وكانوا مهتدين: كان واسمها وخبرها. [سورة الأنعام (6) : آية 141] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 اللغة: (مَعْرُوشاتٍ) : عرش يعرش ويعرش من بابي تعب ونصر بنى بناء من خشب. وعرش البيت: بناه. وعرش العرش عمله. والعرش سرير الملك، وركن الشيء. وأصل العرش في اللغة: شيء مسقّف يجعل عليه الكرم، وجمعه عروش. واستوى على عرشه إذا ملك. وثلّ عرشه: إذا هلك. قال زهير: تداركتما عبسا وقد ثلّ عرشها ... وذبيان إذ زلّت بأقدامها النّعل والعروش: البيوت، قال القطامي: وما لمثابات العروش بقيّة ... إذا استلّ من تحت العروش الدّعائم ومكتنسات في العرائش: أي الهوادج. واختلفوا في معناها فقال ابن عباس: «المعروشات ما انبسط على الأرض وانتشر، مثل الكرم والقرع والبطيخ ونحو ذلك، وغير معروشات: ما قام على ساق. كالنخل والزرع وسائر الشجر» ، وقال الضحاك: «كلاهما في الكرم خاصة، لأن منه ما يعرش ومنه مالا يعرش، بل يبقى على وجه الأرض منبسطا» . وقال في الكشاف: «معروشات: مسموكات. وغير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 معروشات، متروكات على وجه الأرض لم تعرش. وقيل: المعروشات ما في الأرياف والعمران مما غرسه الناس واهتموا به، فعرّشوه. وغير معروشات مما أنبته الله وحشيا في البراري والجبال، فهو غير معروش» . الإعراب: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) الواو استئنافية، وهو مبتدأ، والذي خبره، وجملة أنشأ لا محل لها لأنها صلة الموصول، وجنات مفعول به، ومعروشات صفة، وغير معروشات عطف على معروشات (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) والنخل والزرع: عطف على جنات، ومختلفا حال مقدرة، لأن النخل والزرع وقت خروجه لا أكل منه حتى يكون مختلفا أو متفقا، وأكله فاعل «مختلفا» لأنه اسم فاعل (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) عطف على ما سبقه أيضا، وخصّ هذه الأجناس لما فيها من الفضيلة على سائر ما ينبت في الجنات، ومتشابها حال، وغير متشابه عطف عليه (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان إباحته. وكلوا فعل أمر والواو فاعل، ومن ثمره جار ومجرور متعلقان بكلوا، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط، وآتوا فعل أمر معطوف على كلوا، وحقه مفعول به، ويوم ظرف زمان متعلق بآتوا، وحصاده مضاف إليه، والمراد بالحق هنا الزكاة، ولا يشكل كون السورة مكية، والزكاة فرضت بالمدينة، لأن هذه الآية مدنية، والمراد به أيضا ما كان يتصدق به على المساكين وقت الحصاد، وكان ذلك معروفا (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) الواو عاطفة، ولا ناهية، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 وتسرفوا فعل مضارع مجزوم بلا، أي: لا تجاوزوا الحدّ، قال الزّجاج: وعلى هذا لو أعطى الإنسان كل ماله، ولم يوصل إلى عياله شيئا فقد أسرف. وإن واسمها، وجملة لا يحب المسرفين خبرها، وجملة إن وما في حيزها تعليل لما تقدم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 142 الى 144] وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) اللغة: (حَمُولَةً) الحمولة بفتح الحاء: ما أطاق الحمل عليه من الإبل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 (فَرْشاً) والفرش: صغارها. هذا هو المشهور في اللغة، قال في الأساس: «ومرت الحمولة: وهي الإبل التي يحمل عليها، «ومن الأنعام حمولة وفرشا» ، وقال عنترة: ما راعني إلّا حمولة أهلها ... وسط الديار تسفّ حبّ الخمخم قال شارحه الزوزني: «الحمولة: الإبل التي تطيق أن يحمل عليها» . وقيل: «الحمولة: كبار النعم، أعني الإبل والبقر والغنم، والفرش صغارها» . وقال الزّجّاج: «أجمع أهل اللغة على أن الفرش صغار الإبل» . وقال أبو زيد: «يحتمل أن يكون تسميته بالمصدر، لأن الفرش في الأصل مصدر، والفرش لفظ مشترك بين معان كثيرة، منها: متاع البيت، والفضاء الواسع، واتساع خفّ البعير قليلا، والأرض الملساء، ونبات يلتصق بالأرض» . وقيل: الحمولة: كل ما حمل عليه من إبل وبقر وبغل وحمار. والفرش: ما اتخذ من صوفه ووبره وشعره ما يفرش» . وقال الزمخشري: «أي وأنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال، وما يفرش للذبح، أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش. وقيل: الحمولة التي تصلح للحمل، والفرش الصغار، كالفصلان والعجاجيل والغنم، لأنها دانية من الأرض للطافة أجرامها، مثل: الفرش المفروش عليها» . (الضَّأْنِ) : قيل: هو جمع ضائن للذكر وضائنة للمؤنث، وقيل: اسم جمع، وكذا يقال في المعز، سواء سكّنت عينه أو فتحت. وفي القاموس: أضئن ضأنك: اعزلها من المعز. والضأن اسم جنس بخلاف الماعز من الغنم، والضائن: ذو الصوف، خلاف الماعز من الغنم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 وجعمه ضأن وضأن وضئين وضئين. وفي الأساس: ماله الضّأن والمعز والضّئين والمعز، وعنده ضأئنة من الغنم ولحم وجلد ضائن وماعز، وأضأن فلان وأمعز كثر ضأنه ومعزه، وتقول العرب: اضأن ضأنك وامعز معزك أي: اعزلها» . (الْمَعْزِ) في المصباح: المعز اسم جنس لا واحد له من لفظه، وهي ذوات الشعر من الغنم، الواحدة: شاة، وهي مؤنثة، وتفتح العين وتسكن، وجمع الساكن أمعز ومعيز مثل: عبد: أعبد وعبيد، والمعزى ألفها للإلحاق لا للتأنيث، ولهذا ينوّن في النكرة، ويصغر على معيز، ولو كانت الألف للتأنيث لم تحذف. والذكر ماعز، والأنثى ماعزة. الإعراب: (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) الواو حرف عطف، ومن الأنعام جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، لأنه كان في الأصل صفة ل «حمولة وفرشا» ، وتقدم عليهما، وحمولة عطف على جنات، أي: وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشا (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) كلام مستأنف مسوق لبيان ما جمجموا به واضطربت به أقوالهم، وذلك أنهم كانوا يحرمون ذكورة الأنعام تارة، وإناثها تارة، فأنكر عليهم ذلك. وكلوا فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، ومما جار ومجرور متعلقان بكلوا، وجملة رزقكم الله لا محل لها لأنها صلة الموصول، ولا ناهية، وتتبعوا فعل مضارع مجزوم بلا، والواو فاعل، وخطوات الشيطان مفعول به، والجملة معطوفة على جملة كلوا، وإن واسمها، ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وعدو خبر إن، ومبين صفة، والجملة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 تعليلية لا محل لها (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) ثمانية أزواج بدل من حمولة وفرشا، وقيل: هو منصوب بكلوا مما رزقكم الله، أو ب «أنشأ» مقدرة، وإلى هذا ذهب الكسائي. والزوج: ما معه آخر من جنسه يزاوجه ويحصل منهما النسل، والمراد أربعة ذكور من كل من الإبل والبقر والغنم، وأربع إناث كذلك، ومن الضأن جار ومجرور متعلقان بفعل أنشأ مقدرا، واثنين بدل من ثمانية أزواج، وقد عطف على بقية الثمانية (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) قل فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره أنت، والجملة معترضة لا محل لها، والهمزة للاستفهام الإنكاري، والذكرين مفعول به مقدم لحرّم، وأم حرف عطف، والأنثيين عطف على الذكرين، والجملة في محل نصب مقول القول (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) أم الثانية عاطفة، عطفت «ما» الموصولية بعدها على الأنثيين، فهي في محل نصب، فلما التقت ميم ساكنة مع ما بعدها وجب الإدغام، وسيأتي مزيد بيان لذلك في باب الفوائد (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الجملة معترضة أيضا مسوقة لتعجيزهم، وقد وقعت هاتان الجملتان الاعتراضيتان بين المعدودات للتأكيد على بطلان أقوالهم، ونبئوني فعل أمر وفاعل ومفعول به، وبعلم جار ومجرور متعلقان بنبئوني، وإن شرطية، وكان واسمها، وهي فعل الشرط، وصادقين خبرها، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) تقدم إعراب نظيرها تماما (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا) أم منقطعة وهي تقدر ببل والهمزة والتقدير: بل أكنتم شهداء، وإذ ظرف متعلق بشهداء وجملة وصاكم الله في محل جر بالاضافة وبهذا متعلقان بوصاكم (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) الفاء هي الفصيحة، أي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 إذا عرفتم هذا ورسخ في عقولكم، ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ، وأظلم خبر، والجملة لا محل لها، والاستفهام معناه النفي، أي: لا أحد أظلم، وممن جار ومجرور متعلقان بأظلم، وجملة افترى لا محل لها لأنها صلة الموصول، وعلى الله جار ومجرور متعلقان بافترى، وكذبا مفعول به أو مفعول مطلق، وقد تقدم إعراب نظيره. واللام للتعليل، ويضل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والناس مفعول به، ولام التعليل ومدخولها متعلقان بافترى، وبغير علم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل افترى، أي: افترى عليه تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إن واسمها، وجملة لا يهدي خبرها، والقوم مفعول به والظالمين نعت للقوم، والجملة الاسمية تعليلية لا محل لها من الإعراب. الفوائد: الإدغام: هو إدخال حرف في حرف آخر من جنسه، بحيث يصيران حرفا وأحدا مشددا، وله ثلاث أحوال: 1- وجوب الإدغام: وذلك إذا كانا متجانسين في كلمة واحدة، وأما قول الشاعر: الحمد لله العليّ الأجلل ... الواسع الفضل الوهوب المجزل فمن الضرورات الشعرية. ويجب إدغام المثلين المتجاورين أولهما إذا كانا في كلمتين، كما كانا في كلمة واحدة، مثل: سكتّ وسكّنا وعنّي وعليّ، واكتب بالقلم، واستغفر ربك، وكالآية التي نحن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 بصددها «أمّا اشتملت عليه» . وشذت ألفاظ لا يقاس عليها، مثل: ألل السّقاء والأسنان إذا تغيرت رائحتها وفسدت، ودبب الإنسان إذا نبت الشعر في جبينه، وضببت الأرض إذا كثر ضبابها، وقطط الشعر إذا كان قصيرا جعدا، ويقال قطّ بالإدغام، ولححت العين إذا ألصقت أجفانها بالرّمص، والخخت إذا كثر دمعها وغلظت أجفانها. 2- جواز الإدغام وتركه: ويكون في أربعة مواضع: آ- أن يكون الحرف الأول من المثلين متحركا والثاني ساكنا بسكون عارض للجزم، أو للبناء في الأمر المفرد، فتقول: لم يمدّ ومدّ بالإدغام، ولم يمدد وامدد، والفكّ أجود، وبه نطق القرآن، قال تعالى: «يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار» . وقال: «واشدد على قلوبهم» . وتكون حركة ثاني المثلين المدغمين في المضارع المجزوم والأمر اللذين لم يتصل بهما شيء تابعة لحركة فائه، وهذا هو الأكثر، ونرى أن يحرك بالفتح للتخفيف. ب- أن يكون عين الكلمة ولامها ياءين، لازما تحريك ثانيهما، مثل: عيي وحيي. فتقول: عيّ وحيّ، فإن كانت حركة الثانية عارضة للإعراب مثل: لن يحيي، امتنع إدغامه. ج- أن يكون في أول الفعل الماضي تاءان مثل: تتابع وتتبّع، فيجوز الإدغام مع زيادة همزة وصل في أوله، دفعا للابتداء بالساكن، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 مثل: اتّابع واتّبع، فإن كان مضارعا لم يجز الإدغام، بل يجوز تخفيفه، بحذف إحدى التاءين فتقول في: تتلظّى: تلظّى، وفي تتجلّى: تجلّى، قال تعالى: «تنزّل الملائكة والرّوح» وقال: «نارا تلظّى» وقال أبو تمّام يصف الربيع: أضحت تصوغ بطونها لظهورها ... نورا تكاد له القلوب تنوّر د- أن يتجاوز مثلان متحركان في كلمتين، مثل: جعل لي، وكتب بالقلم، فيجوز الإدغام بإسكان المثل الأول، فتقل: جعل لي وكتب بالقلم، غير أن الإدغام يجوز هنا لفظا لا خطّا. 3- امتناع الإدغام: وذلك في سبعة مواضع: آ- أن يتصدر المثلان كددن، أي: لعب. ب- أن يكونا في اسم على وزن فعل (بضم ففتح) كدرر، أو فعل (بضمتين) كسرر، أو فعل (بكسر ففتح) كلمم، أو فعل (بفتحتين) كطلل. ج- أن يكون المثلان في وزن مزيد فيه للإلحاق كجلبب وهيلل. د- أن يتصل بأول المثلين مدغم فيه، كهلّل. وذلك لأن الإدغام الثاني بمثابة تكرّر الإدغام، وهو ممنوع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 هـ- أن يكون المثلان على وزن (افْعَلْ) في التعجب، نحو: أحبب بالعلم. وأن يعرض سكون أحد المثلين لا تصاله بضمير رفع متحرك كمددت. ز- أن يكون مما شذت العرب في فكه اختيارا، وهي ألفاظ محفوظة تقدم ذكرها في مستهل البحث. [سورة الأنعام (6) : الآيات 145 الى 146] قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) اللغة: (مَسْفُوحاً) : السفح: الصبّ، وسفح يأتي لازما ومتعديا، يقال: سفح فلان دمعه ودمه أي: أهرقه، إلا أن الفرق بينهما وقع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 باختلاف المصدر، ففي المتعدي يقال: سفحا، وفي اللازم يقال: سفوحا، وفي هذه الآية وقع متعديا لأن اسم المفعول لا يبنى إلا من متعد، ومن اللازم ما أنشده أبو عبيدة لكثيّر عزة: أقول ودمعي واكف عند رسمها ... عليك سلام الله والدمع يسفح ومن المجاز في هذه المادة: وبينهم سفاح: أي قتال أو معاقرة، لأنهم يتسافحون الدماء، وسافحها مسافحة زاناها، لأن كلّا منهما يسفح ماءه ويضيعه. ومن أقوالهم: «في النكاح غنية عن السفاح» . وقد مر ذكر هذه المادة وخصائص اجتماع السين والفاء فاء وعينا للكلمة. (الْحَوايا) : الأمعاء والمصارين. الإعراب: (قُلْ: لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) كلام مستأنف مسوق لبيان ما حرمه الله تعالى عليهم، وجملة لا أجد مقول القول، وفيما جار ومجرور متعلقان بأجد، وجملة أوحي إليّ لا محل لها لأنها صلة الموصول، وإليّ جار ومجرور في موضع رفع على أنه نائب فاعل أوحي، ومحرما مفعول به لأجد، أي: شيئا محرما، وعلى (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ) الاستثناء متصل، طاعم جار ومجرور متعلقان بمحرّم، وجملة يطعمه صفة لطاعم لأنه استثناء من الجنس، وموضعه نصب، ويجوز أن يكون استثناء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 منقطعا، لأنه كون وما قبله عين، وموضعه نصب أيضا، وميتة خبر يكون. واسمها مستتر يعود على قوله: «محرما» وجملة الاستثناء نصب على الحال، ودما منسوق على ميتة، ومسفوحا صفة، أي: سائلا كالدم في العروق لا كالكبد والطحال، وأو لحم خنزير معطوف عطف نسق أيضا (فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) الفاء للتعليل، وإن واسمها، ورجس خبرها، وأو حرف عطف، وفسقا معطوف عطف نسق على لحم خنزير، وجملة أهل صفة، وأهل فعل ماض، ولغير الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وبه جار ومجرور متعلقان بأهل، وجملة «فإنه رجس» تعليلية لا محل لها (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الفاء استئنافية، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، واضطر فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط، والجواب محذوف، أي: فلا مؤاخذة عليه. ومعنى اضطر أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء مما ذكر، وغير باغ حال، أي: غير ظالم. ولا عاد عطف على باغ، أي غير معتد. وقد سبق تحقيق كلام مماثل له في سورة البقرة. والفاء تعليلية وإن واسمها، وغفور خبر أول، ورحيم خبر ثان، وجملة فعل الشرط وجوابه خبر «من» (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) كلام مستأنف مسوق لبيان سبب تحريم كل ذي ظفر على اليهود لظلمهم، وقد تقدم تحقيق ذلك في سورة البقرة، وليشمل كل ذي ظفر، وهو النعامة والبعير ونحو ذلك من الدواب، وكل ما لم يكن مشقوق الأصابع من البهائم والطير، مثل البعير والنعامة والأوز والبط. وعلى الذين جار ومجرور متعلقان بحرمنا، وهادوا فعل وفاعل، وحرمنا فعل وفاعل أيضا، وكل مفعول به، وذي مضاف إليه، وظفر مجرور بإضافة «ذي» إليه (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) الواو عاطفة، ومن البقر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 جار ومجرور متعلقان بحرمنا والغنم عطف على البقر، وعليهم جار ومجرور متعلقان بحرمنا، وشحومهما مفعول به، والمعنى أنه حرم عليهم لحم كل ذي ظفر وشحمه، وكل شيء منه، وترك البقر والغنم على التحليل، ولم يحرم منهما إلا الشحوم الخالصة، وهي الثروب، أي: الشحوم الرقيقة التي تغشى الكرش والأمعاء وشحم الكلى. جمع كلية أو كلوة، بضم الكاف فيهما. (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) إلا أداة استثناء، وما اسم موصول في محل نصب على الاستثناء المتصل من الشحوم، وجملة الاستثناء حالية، وجملة حملت لا محل لها لأنها صلة، وأو حرف عطف والحوايا عطف على ظهورهما، أو ما اختلط بعظم أو حرف عطف، وما اسم موصول معطوف على ظهورهما، واختلط فعل ماض وفاعله هو، وبعظم جار ومجرور متعلقان باختلط (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) الجملة لا محل لها لأنها مفسرة لبيان علة التحريم، وذلك اسم الاشارة مبتدأ، وجملة جزيناهم خبر، وببغيهم جار ومجرور متعلقان بجزيناهم، ولا بد من تقدير ضمير، أي: جزيناهم به، بسبب بغيهم. وسيأتي مزيد من إعراب هذا التعبير. والواو استئنافية أو حالية، وإن واسمها، واللام المزحلقة، وصادقون خبر إن. الفوائد: قال أبو البقاء: «ذلك في موضع نصب بجزيناهم، وقيل: مبتدأ، والتقدير جزينا هموه، وقيل: هو خبر لمحذوف، أي الأمر ذلك» ويلاحظ أن أبا البقاء لم يبّين على أي شيء انتصب؟ هل على المصدر أو على المفعول به؟ وقال الزمخشري: «ذلك الجزاء جزيناهم، وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 تحريم الطيبات» : وظاهره أنه منتصب انتصاب المصدر. وقال أبو حيّان: «وزعم ابن مالك أن اسم الاشارة لا ينتصب مشارا به الى المصدر إلا وأتبع بالمصدر، فتقول: قمت هذا القيام، وقعدت ذلك القعود. ولا يجوز قمت هذا، ولا قعد ذلك» فعلى هذا لا يصح انتصاب «ذلك» على أنه إشارة الى المصدر. قلت: وذهب سيبويه والجمهور الى أن ذلك لا يشترط، ومن كلام العرب: «ظننت ذلك» ، يشيرون به الى الظنّ. [سورة الأنعام (6) : الآيات 147 الى 148] فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) الإعراب: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) الفاء استئنافية، وإن شرطية، وكذبوك فعل وفاعل ومفعول به، وهو في محل جزم فعل الشرط، والفاء رابطة لجواب الشرط، وقل فعل أمر، وربكم مبتدأ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 مرفوع، وذو رحمة خبر، وواسعة صفة لرحمة، والجملة في محل نصب مقول القول، وجملة القول وما في حيزه في محل جزم جواب الشرط (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) الواو عاطفة، والجملة معطوفة على الجملة الاسمية داخلة في حيز القول، ويرد فعل مضارع مبني للمجهول، وبأسه نائب فاعل، وعن القوم جار ومجرور متعلقان بيرد، والمجرمين نعت للقوم، (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) الجملة مستأنفة مسوقة للإخبار بما يصدر عنهم من قول. والسين حرف استقبال، ويقول فعل مضارع، والذين فاعل، وجملة أشركوا لا محل لها لأنها صلة الموصول، وجملة لو شاء الله في محل نصب مقول القول، ولو شرطية، وشاء الله فعل وفاعل، ومفعول المشيئة محذوف، أي: لو شاء عدم إشراكنا، وقد تقدمت له نظائر. ولا آباؤنا عطف على الضمير في أشركنا، وجاز العطف لوجود «لا» (وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) عطف على ما أشركنا، ومن زائدة في المفعول به (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الكاف نعت لمصدر محذوف، وقد تقدم، أي: كذب الذين من قبلهم تكذيبا مثل ذلك التكذيب (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) حتى حرف غاية وجر، أي: استمروا على التكذيب حتى ذاقوا، وبأسنا مفعول به، وهل حرف استفهام، والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم، ومن زائدة في المبتدأ المؤخر، والجملة مقول القول. والفاء فاء السببية، وتخرجوه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعدها، والواو فاعل، والهاء مفعول به، ولنا جار ومجرور متعلقان بتخرجوه (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) الجملة استئنافية، وإن نافية، وتتبعون فعل مضارع مرفوع، والواو فاعل، وإلا أداة حصر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 والظن مفعول به، وإن الواو عاطفة، وإن نافية، وأنتم مبتدأ، وإلا أداة حصر، وجملة تخرصون خبر أنتم. [سورة الأنعام (6) : الآيات 149 الى 150] قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) الإعراب: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) جملة القول مستأنفة، والفاء هي الفصيحة، لأنها أفصحت عن شرط مقدر، أي قل: فإن لم تكن لكم حجة فلله الحجة البالغة، ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والحجة مبتدأ مؤخر، والبالغة صفة، أي: التي بلغت غاية النهاية والوضوح، وقطعت كل عذر للمحجوج والجملة مقول القول (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) الفاء عاطفة، ولو شرطية، وشاء فعل وفاعل مستتر، والمفعول به محذوف، أي: هدايتكم، واللام واقعة في جواب لو، وهداكم فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وأجمعين تأكيد للضمير، وسيأتي حكم التأكيد بأجمع في باب الفوائد (قُلْ: هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا) الجملة مستأنفة، وقل فعل أمر، وهلم اسم فعل أمر، وسيأتي بحث عنها في باب الفوائد، وشهداءكم مفعول به، فان اسم الفعل يعمل عمل مسماه من تعد ولزوم، والذين صفة، وجملة يشهدون صلة، وأن الله أن واسمها في محل نصب بنزع الخافض، وجملة حرم هذا خبر أن (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) الفاء عاطفة، وإن شرطية، وشهدوا فعل ماض، والواو فاعل، وهو في محل جزم فعل الشرط، والفاء رابطة لجواب الشرط، ولا ناهية، وتشهد فعل مضارع مجزوم بلا، والجملة في محل جزم جواب الشرط، ومعهم ظرف مكان متعلق بتشهد (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) الواو عاطفة، ولا ناهية، وتتبع فعل مضارع مجزوم بلا، وأهواء مفعول به، والذين اسم موصول في محل جر بالإضافة، وبآياتنا جار ومجرور متعلقان بكذبوا والجملة صلة (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) الواو عاطفة، والذين عطف على اسم الموصول المتقدم، والغرض تعداد صفاتهم القبيحة. والمعنى: ولا تتّبع أهواء الذين يجمعون بين تكذيب آيات الله وبين الكفر بالآخرة والإشراك به. وجملة لا يؤمنون صلة الموصول، وبالآخرة جار ومجرور متعلقان بيؤمنون، والواو حرف عطف، وهم مبتدأ، وجملة يعدلون خبره، وبربهم جار ومجرور متعلقان بيعدلون. البلاغة: في إطلاق اسم الشهادة على التسليم لهم وموافقتهم وتصديقهم في الشهادة الباطلة، استعارة تصريحية تبعية ويصح أن يكون مجازا مرسلا من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم، لأن الشهادة من لوازم التسليم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 الفوائد: إذا أريد تقوية التوكيد يؤتى بكلمة «أجمع» بعد كلمة «كله» ، وبعد كلمة «كلها» بكلمة «جمعاء» ، وبعد كلمة «كلهم» بكلمة «أجمعين» ، وبعد كلمة «كلهنّ» بكلمة «جمع» ، تقول: جاء الصفّ كله أجمع، وجاءت القبيلة كلها جمعاء، وقال تعالى: «فسجد الملائكة كلهم أجمعون» ، وجاءت النساء كلهن جمع. وقد يؤكّد بأجمع وجمعاء وأجمعين وجمع وإن لم يتقدمهن لفظ «كلّ» ، ومنه قوله تعالى: «لأغوينهم أجمعين» . هذا، ولا يجوز تثنية أجمع وجمعاء، استغناء عن ذلك بلفظي: كلا وكلتا. قال ابن مالك في ألفيته مجملا قاعدة أجمع: وبعد كل أكدوا بأجمعا ... جمعاء أجمعين ثم جمعا ودون كل قد يجيء أجمع ... جمعاء أجمعون ثم جمع هلمّ: كلمة بمعنى الدعاء إلى الشيء، فتكون لازمة وقد تستعمل متعدية، نحو: هلم شهداءكم، أي: أحضروهم، وهي من أسماء الأفعال، يستوي فيها الواحد والجمع، والتذكير والتأنيث، ويصرفونها بأن يجعلوها فعلا ويلحقوها الضمائر، فيقولون في المثنى: هلما، وفي المؤنث: هلمي، وفي الجمع للذكور: هلموا، وللنساء: هلممن والأول أفصح. وقد توصل باللام، فيقال: هلمّ لك، كقولهم: هيت لك. وقد تلحقها نون التوكيد الثقيلة، فيقال: هلمّنّ يا رجل، وهلمنّ يا امرأة، وهلمّانّ يا رجلان، ويا امرأتان، وهلمّنّ يا رجال، وهلمنانّ يا نسوة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 [سورة الأنعام (6) : آية 151] قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) اللغة: (تعال) من الخاصّ الذي صار عاما، وأصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه، ثم كثر واتسع حتى عم. وهو فعل أمر مفتوح الآخر دائما، ومن ثم لحنوا أبا فراس الحمداني بقوله: أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا ... تعالي أقاسمك الهموم تعالي الإعراب: (قُلْ: تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) كلام مستأنف مسوق لأمره صلى الله عليه وسلم بأن يتلو عليهم ما حرم ربهم عليهم حقيقة لا ظنا، ويقينا لا حدسا. وجملة تعالوا في محل نصب مقول القول، وهو فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، وأتل فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب، وابن هشام يؤثر أن يقال: إنه جواب الشرط مقدّر، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 حرم عليكم لا محلّ لها لأنها صلة الموصول، والعائد محذوف، أي: الذي حرّمه. ويجوز أن تكون «ما» مصدرية، أي: اتل تحريم ربكم. والتحريم لا يتلى، ولكنه مصدر واقع موقع المفعول به. وربكم فاعل حرم، وعليكم جار ومجرور متعلقان بحرم أو بأتل، على أن المسألة من باب التنازع (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) في «أن» أوجه عديدة، والمختار منها وجهان: أولهما أنها مفسرة، لأنه تقدمها ما هو معنى القول دون حروفه، ولا ناهية، وتشركوا فعل مضارع مجزوم بها، والجملة لا محل لها لأنها مفسّرة. والوجه الثاني أنها مصدرية، وهي وما في حيزها بدل من «ما حرم» ، وبه جار ومجرور متعلقان بتشركوا، وشيئا مفعول به أو بمعنى المصدر، فهي مفعول مطلق. وقد تقدمت الإشارة إلى مثيله. وبالوالدين جار ومجرور متعلقان بفعل المصدر المحذوف، أي أحسنوا بالوالدين، وإحسانا مفعول مطلق للفعل المحذوف، وسيأتي بحث هام لابن هشام في إعراب هذه الآية في باب الفوائد (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) الواو عاطفة، ولا ناهية، وتقتلوا فعل مضارع مجزوم بلا، وأولادكم مفعول به، ومن إملاق جار ومجرور متعلقان بتقتلوا، أي: لأجل الإملاق، فمن سببية، ولم ينصب المفعول لأجله لاختلال شرطه، لأن الإملاق مصدر غير قلبي، وسيأتي مزيد بحث عنه في باب البلاغة. ونحن مبتدأ وجملة نرزقكم خبر، وجملة نحن نرزقكم مستأنفة لتعليل النهي قبله، وإياهم عطف على الضمير في نرزقكم، وقدم المخاطبين على ضمير الأولاد بعكس آية الإسراء لسرّ بلاغي، سيأتي في باب البلاغة (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) الواو حرف عطف، ولا ناهية، وتقربوا فعل مضارع مجزوم بلا، والواو فاعل، والفواحش مفعول به، وما اسم موصول في محل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 نصب بدل من الفواحش، وهو بدل اشتمال، وجملة ظهر لا محل لها لأنها صلة الموصول، ومنها جار ومجرور متعلقان بظهر، وما بطن عطف على ما ظهر (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) عطف على ما تقدم، داخل في حيزه، لاستيفاء المحرمات، وهي عشرة أشياء. ولا ناهية، وتقتلوا فعل مضارع مجزوم بلا، والنفس مفعول به، والتي اسم موصول في محل نصب صفة، وجملة حرم الله لا محل لها لأنها صلة الموصول، وإلا أداة حصر، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي: لا تقتلوها في حال من الأحوال إلا حال ملابستكم بالحق، فالباء للملابسة، وهي ومجرورها متعلقان بمحذوف حال من الواو في «تقتلوا» ويجوز أن يكون الاستثناء المفرّغ من الفعل نفسه، فيكون الجار والمجرور مفعولا مطلقا، أي: إلا القتل الملتبس بالحق: كالقود وحدّ الرّدّة ورجم المحصن (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) اسم الاشارة مبتدأ، والجملة مستأنفة مسوقة للاشارة إلى ما تقدم، وجملة وصاكم خبر ذلكم، وبه جار ومجرور متعلقان بوصاكم، ولعلكم تعقلون لعل واسمها وخبرها، وجملة الرجاء حالية، أي: لعلكم تستعملون عقولكم التي تعقل نفوسكم، وتحبسها عن اجتراح هذه المنهيّات. البلاغة: اشتملت هذه الآية على أفانين عجيبة من البلاغة، تستلزم التطويل، ولكنه التطويل غير المملول، فحديث الجمال يطول، وكلما طال ازداد حسنا، كالجمال نفسه كلما أمعنت النظر فيه ازدادت معالم حسنه: يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 1- التوهيم: فالفن الأول في هذه الآية هو فن التوهيم وقد سبقت الاشارة إليه في سورة «آل عمران» ، ونجدد العهد به هنا فنقول: هو أن يأتي المتكلم بكلمة يوهم ما بعدها من الكلام أن المتكلم أراد تصحيفها، وهو يريد غير ذلك، وذلك في قوله: «أن لا تشركوا به شيئا» . فإن ظاهر الكلام يدل على تحريم نفي الشرك، وملزومه تحليل الشرك، وهذا محال، وخلاف المعنى المراد، والتأويل الذي يحلّ الإشكال هو أن في الوصايا المذكورة في سياق الآية وما بعدها ما حرّم عليهم وما هم مأمورون به فإن الشرك بالله، وقتل النفس المحرمة، وأكل مال اليتيم، مما حرّم ظاهرا وباطنا، ووفاء الكيل والميزان بالقسط والعدل في القول، فضلا عن الفعل والوفاء بالعهد واتباع الصراط المستقيم من الأفعال المأمور بها أمر وجوب، ولو جاء الكلام بغير «لا» لانبتر واختل وفسد معناه، فإنه يصير المعنى حرّم عليكم الشرك، والإحسان للوالدين، وهذا ضد المعنى المراد. ولهذا جاءت الزيادة التي أوهم ظاهرها فساد المعنى ليلجأ إلى التأويل الذي يصح به عطف بقية الوصايا على ما تقدم. 2- التّغاير: والفنّ الثاني فيها هو التغاير، وذلك في قوله: «ولا تقتلوا أولادكم من إملاق» . وحدّه تغاير المذهبين، إما في المعنى الواحد بحيث يمدح إنسان شيئا أو يذمه، أو يذم ما مدحه غيره، وبالعكس، ويفضل شيئا على شيء، ثم يعود فيجعل المفضول فاضلا. ومن التغاير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 تغاير المعنى لمغايرة اللفظ، مثل قوله: «ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم» فإن ذلك غير قوله في هذا المعنى عينه في بني إسرائيل: «ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم» فقدّم في آية «الأنعام» للفقراء بدليل قوله تعالى: «من إملاق» ، فاقتضت البلاغة تقديم وعدهم- أعني الآباء المملقين- بما يغنيهم من الرزق، واقتضت البلاغة تكميل المعنى بعدة الأبناء بعد عدة الآباء ليكمل سكون الأنفس. وفي بني إسرائيل الخطاب للأغنياء، بدليل قوله تعالى: «خشية إملاق» ، فإنه لا يخشى الفقر إلا الغني، أما الفقير ففقره حاصل. فاقتضت البلاغة تقديم وعد الأبناء بالرزق ليشير هذا التقديم إلى أنه سبحانه هو الذي يرزق الأبناء ليزول ما توهم الأغنياء من أنهم بإنفاقهم على الأبناء يصيرون الى الفقر بعد الغنى، ثم كمل هذا الطمأنينة بعدتهم بالرزق بعد عدة أبنائهم. فسبحان قائل هذا الكلام! التّغاير في الشّعر العربيّ: هذا وقد افتنّ الشعراء في هذا المعنى وتلاعبوا به وسلكوا به كل واد، وسنورد لك فيما يلي طائفة مختارة مما تمّ به التغاير، ومدح الشعراء ما هو مشتهر بالذّم، وذمّوا ما من حقه المدح. وأول من أشار إلى ذلك عنترة بن شداد الشاعر العبسي والفارس المشهور عند ما اشتهى تقبيل السيوف لأنها التمعت كبارق ثغر من يهواها، فقال بيتيه المشهورين: ولقد ذكرتك والرماح نواهل ... منّي وبيض الهند تقطر من دمي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 فوددت تقبيل السيوف لأنها ... لمعت كبارق ثغرك المتبسّم وما أجمل قول أبي فراس الحمدانيّ وقد سلك مسلكا آخر فقال: مسيء محسن طورا وطورا ... فما أدري عدّوي أم حبيبي يقلّب مقلة ويدير طرفا ... به عرف البريء من المريب وبعض الظالمين وإن تناهى ... شهيّ الظلم مغتفر الذنوب وولع البحتريّ بهذا الفن فقال: عيّرتني بالشيب من بدآته ... في عذاري بالهجر والاجتناب لا تريه عارا فما هو بالشيب ولكنه جلاء الشباب وبياض البازيّ أصدق حسنا ... إن تأمّلت من سواد الغراب وقال في المعنى نفسه وأجاد: عذلتنا في عشقها أمّ عمرو ... هل سمعتم بالعاذل المعشوق؟ ورأت لمّة ألمّ بها الشّيب فريعت من ظلمة في شروق ولعمري لولا الأقاحي لأبصر ... ت أنيق الرياض غير أنيق ومزاج الصهباء بالماء أولى ... بصبوح مستحسن وغبوق وسواد العيون لو لم يكمّل ... ببياض ما كان بالموموق أيّ ليل يبهى بغير نجوم؟ ... وسماء تندى بغير بروق؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 ووصف البحتري يوم الفراق بالقصر وقد أجمع الناس على طوله حيث قال: ولقد تأمّلت الفراق فلم أجد ... يوم الفراق على امرئ بطويل قصرت مسافته على متزوّر ... منه لدهر هن صبابة وغليل أما ابن الرومي فقد سما على المتقدمين والمتأخرين في ذمّ ما تواضع الناس على مدحه، فقال يهجو البدر: لو أراد الأديب أن يهجو البد ... ر رماه بالخطة الشنعاء قال: يا بدر أنت تغدر بالسا ... ري وتغري بزائر الحسناء يعتريك المحاق في كل شهر ... فترى كالقلامة الحجناء نمش في بياض وجهك يحكي ... كلفا فوق وجنة برصاء لا لأجل المديح بل خيفة الهجر أخذنا جوائز الخلفاء وقال الشريف الرضي يهجو الشمس: في خلقة الشمس وأخلاقها ... شتى عيوب ستة تذكر رمداء عمشاء إذا أصبحت ... عمياء عند الليل لا تبصر ويغتدي البدر لها كاسفا ... وجرمه من جرمها أصغر حرورها في القيظ لا يتّقى ... ودفؤها في القر مستحقر وخلقها خلق الملول الذي ... ينكث للعهد ولا يبصر ليست بحسناء وما حسن من ... يحسر منه الطرف إذ ينظر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 ولو أردنا الاستفاضة لملأنا الكتاب كله من هذا الشعر المستطاب الفريد، ولكن حسبنا من القلادة ما أحاط بالجيد. 3- المجاز المرسل: في قوله تعالى: «من إملاق» فهو جار مجرى الكناية، لأنه إذا خرج ماله من يده ركبه الفقر فاستعمل لفظ السبب في موضع المسبب، قال في أساس البلاغة: «ومن المجاز أملق الدهر ماله: أذهبه وأخرجه من يده، وأملق الرجل: أنفق ماله حتى افتقر، ورجل مملق. وقال أعرابي: قاتل الله النساء كيف يمتلقن العلل لكأنها تخرج من تحت أقدامهن، أي: يستخرجنها» . الفوائد: لابن هشام كلام مطوّل في هذه الآية قال: «وقوله تعالى: «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا» فقيل: إن لا نافية، وقيل: ناهية، وقيل: زائدة، والجميع محتمل. وحاصل القول في الآية أن «ما» خبرية بمعنى الذي، منصوبة ب «أتل» وحرم ربكم: صلة، وعليكم متعلقة بحرم. هذا هو الظاهر. وأجاز الزجاج كون «ما» استفهامية منصوبة بحرم، والجملة محكية ب «أتل» لأنه بمعنى أقول، ويجوز أن يعلق «عليكم» ب «أتل» ، ومن رجح إعمال أول المتنازعين- وهم الكوفيون- رجحه على تعلقه بحرّم. وفي أن وما بعدها أوجه: أن يكونا في موضع نصب بدلا من «ما» ، وذلك على أنهما موصولة لا استفهامية، إذ لم يقترن البدل بهمزة الاستفهام. الثاني أن يكونا في موضع رفع خبر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 ل «هو» محذوفا، أجازهما بعض المعريين. وعليهما ف «لا» زائدة، قال ابن الشجري: والصواب أنها نافية على الأول، وزائدة على الثاني. والثالث أن يكون الأصل: بيّن لكم ذلك لئلا تشركوا، وذلك لأنهم إذا حرم عليهم رؤساؤهم ما أحله الله سبحانه تعالى فأطاعوهم أشركوا، لأنهم جعلوا غير الله بمنزلته. والرابع أن الأصل: أوصيكم بأن لا تشركوا، بدليل أن وبالوالدين إحسانا، معناه وأوصيكم بالوالدين، وإن في آخر الآية «ذلكم وصّاكم به» ، وعلى هذين الوجهين فحذفت الجملة وحرف الجر. والخامس أن التقدير: «أتل عليكم أن لا تشركوا» ، مدلولا عليه بما تقدم. وأجاز هذه الأوجه الثلاثة الزجاج. والسادس أن الكلام تم عند «حرم ربكم» ثم ابتدئ «عليكم أن لا تشركوا وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا وأن لا تقتلوا ولا تقربوا» ، فعليكم على هذا اسم فعل بمعنى الزموا، و «أن» في الأوجه الستة مصدرية، و «لا» في الأوجه الأربعة الأخيرة نافية. والسابع أنّ «أن» مفسرة بمعنى أي، ولا ناهية، والفعل مجزوم لا منصوب، وكأنه قيل: أقول لكم لا تشركوا به شيئا وأحسنوا بالوالدين إحسانا. وهذان الوجهان أجازهما ابن الشجري» . وقال ابن هشام في موضع آخر من المغني: «وأما قول بعضهم في: «قل تعالوا أتل ما حرم عليكم ربكم أن لا تشركوا به شيئا» إن الوقف قبل «عليكم» ، وإن «عليكم» إغراء، فحسن، ويتخلص من إشكال ظاهر في الآية محوج للتأويل» . وإنما أطلنا في الاقتباس لأن الآية كثر فيها الخوض، فتدبر والله يعصمك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 [سورة الأنعام (6) : الآيات 152 الى 153] وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) اللغة: (الأشد) : يقال: بلغ فلان أشدّه: أي قوّته، بمعنى الإدراك والبلوغ. وهو ما بين الثماني عشرة إلى الثلاثين من العمر، وهو جمع لا واحد له. أو واحد جاء على بناء الجمع، هذا ما يتلخص من القاموس. وقال غيره: «والأشدّ قيل: هو اسم مفرد لفظا ومعنى. وقيل: هو اسم جمع. وعلى هذا فمفرده: شدّة، كنعمة، أو شدّ ككلب، أو شدّ كضر، أقوال ثلاثة في مفرده» ويمكن أن يقال فيه: هو استحكام قوة الشباب والسنّ حتى يتناهى في الشباب إلى حد الرجال. (الْكَيْلَ) هي الآلة التي يكال فيها، وأصله مصدر أطلق على الآلة. (الْمِيزانَ) في الأصل: مفعال، من الوزن، وقد تقدم إعلاله في: ميقات، بالبقرة، من الوزن، فأصله مصدر نقل إلى الآلة. ومثله المصباح والمقياس، لما يستصبح به ويقاس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 الإعراب: (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) الواو عاطفة، ولا ناهية، وتقربوا فعل مضارع مجزوم بلا، والواو فاعل، ومال اليتيم مفعوله، وإلا أداة حصر، وبالتي اسم الموصول نعت لمصدر محذوف، والجار والمجرور متعلقان بتقربوا. أي: إلا بالخصلة التي هي أحسن. وهي مبتدأ، وأحسن خبره، والجملة الاسمية لا محل لها لأنها صلة الموصول، وأتى بصيغة اسم التفضيل تنبيها على أن يتحرى في ذلك غاية التحرّي ويفعل الأحسن. وحتى حرف غاية وجر، ويبلغ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى، والجار والمجرور متعلقان بتقربوا، وأشده مفعول به (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) الجملة معطوفة وأوفوا الكيل فعل وفاعل ومفعول به والميزان مفعول به معطوف على الكيل، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل أوفوا، أي: مقسطين عادلين، ويجوز أن يكون حالا من المفعول به، أي: تامّين (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) الجملة معترضة بين المتعاطفين لا محل لها، للتنبيه على أن أمر الكيل والميزان ومراعاة العدل فيهما يتطلب دقة ومغالبة للهوى. ولا نافية، ونكلف فعل مضارع مرفوع، ونفسا مفعول به، وإلا أداة حصر، ووسعها مفعول به ثان، كأنه قيل: اعملوا كل ما في وسعكم وطاقتكم (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا) الواو عاطفة، وإذا شرطية ظرفية، وجملة قلتم في محل جر بالإضافة، والفاء رابطة، واعدلوا فعل أمر مبني على حذف النون، والواو حالية، ولو شرطية غير جازمة، وكان فعل ماض ناقص، واسمها ضمير مستتر، وذا قربى خبرها، وبعهد الله جار ومجرور متعلقان بأوفوا، وأوفوا فعل أمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 مبني على حذف النون (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) تقدم إعراب نظيرها (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) عطف على ما تقدم، وأن واسمها، وصراطي خبرها، ومستقيما حال مؤكدة من صراطي، والعامل فيها معنى الإشارة، والفاء الفصيحة، واتبعوه فعل أمر وفاعل ومفعوله، والجملة لا محل لها، والمعنى إذا أردتم الفوز والنجاة من مهاوي البدع ومساقط الضلالات. واتبعوه فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة لا محل لها (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) الواو عاطفة، ولا ناهية، وتتبعوا فعل مضارع مجزوم بلا، والواو فاعل، والسبل مفعول به، فتفرّق الفاء السببية، وتفرق أصله تتفرق فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء في جواب النهي، وبكم جار ومجرور متعلقان بتفرق، وعن سبيله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، أي: متنائية عن سبيله. (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) تقدم إعرابها. [سورة الأنعام (6) : الآيات 154 الى 157] ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 اللّغة: (دِراسَتِهِمْ) : مصدر درس العلم، من باب قتل، ودرسا أيضا، وهذا المعنى هو المراد هنا. ولهذه المادة معان عجيبة، يقال: درس الحنطة دراسا: داسها. ودرس الناقة راضها وأذلها. ورجل مدرّس ودرس الكتاب للحفظ كرّر قراءته، درسا ودراسة. ودرس المرأة نكحها. ودرست المرأة حاضت. ودرس الثوب: أخلق، فهو درس ودريس. وبسط دريسا أي: ثوبا وبساطا خلقا. وقتل رجل في مجلس النعمان بن المنذر رجلا فأمر بقتله، فقال الرجل: أيقتل الملك جاره؟ ويضيع ذماره؟ قال: نعم إذا قتل جليسه، وخضب دريسه. أي: بساطه. وطريق مدروس: كثر مشي الناس فيه حتى ذلّلوه. وربع دارس ومدروس. فأنت ترى أنها تشير الى معنى الرياضة والتذليل والتعبيد بجميع معانيها، وهذا من الدقة بمكان. (صَدَفَ) : أعرض، ويستعمل لازما في الأكثر، وقد استعمل هنا لازما. وفي القاموس: صدف عنه: أعرض، وبابه ضرب أو جلس، وصدف فلانا: صرفه كأصدفة، ومن هنا يتبين الخطأ في استعمال صدفة بمعنى المصادفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 الإعراب: (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ) الأصل في ثم أن تكون للترتيب مع المهلة والتراخي في الزمان، ومن ثم توقف المفسرون والنحاة في حقيقة العطف بها هنا، ولم أجد فيما قالوه مقنعا، وسأنقل ما قالوه أولا ثم أشير الى ما هو أولى بالأرجحية. فقال بعضهم: إن «ثمّ» تأتي للترتيب في الإخبار، كأن هذا القائل أراد تفادي سبق موسى عليه السلام في الزمان. وزعم الأخفش: أن «ثم» قد تتخلف عن التراخي، بدليل قولك: أعجبني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب. لأن «ثم» في ذلك لترتيب الإخبار ولا تراخي بين الإخبارين. وجعل ابن مالك من ذلك قوله تعالى: «ثم آتينا موسى الكتاب» وقال في المغني: «والظاهر أن «ثمّ» واقعة موقع الفاء» وقد نصّ النحاة على أن «ثم» توضع موضع الفاء كقول أبي دواد جارية بن الحجاج: كهزّ الرّدينيّ تحت العجاج ... جرى في الأنابيب ثم اضطرب وقال الزّجّاج: هو معطوف على «أتل» ، تقديره. أتل ما حرّم ثم أتل ما آتينا. وقال الزمخشري: «فإن قلت: علام عطف قوله: «ثم آتينا موسى الكتاب» ؟ قلت: على «وصّاكم به» . فإن قلت: كيف صحّ عطفه عليه ب «ثم» والإيتاء قبل التوصية بزمن طويل؟ قلت: هذه التوصية قديمة، ولم تزل توصاها كل أمة على لسان نبيهم، فكأنه قيل: ذلكم وصّيناكم به يا بني آدم قديما وحديثا، ثم أعظم من ذلك أنّا آتينا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 موسى الكتاب. ولعل هذا أقرب ما يقال فيه. وآتينا موسى الكتاب فعل وفاعل ومفعولاه، وتماما مفعول لأجله، أي: لأجل تمام النعمة والكرامة، ويجوز أن يكون مصدرا نصب على المفعولية المطلقة، لأنه بمعنى آتيناه إيتاء تمام لا نقصان، أو مصدرا نصب على الحالية من فاعل آتينا، أي: متممين، أو من الكتاب، أي: حال كونه ماما. وعلى الذي جار ومجرور متعلقان ب «تماما» ، أي: على من أحسن القيام به، وجملة أحسن صلة لا محل لها، وتفصيلا عطف على «تماما» ، ولكل شيء جار ومجرور متعلقان ب «تفصيلا» (وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) هدى ورحمة معطوفان على تماما وتفصيلا، ولعل واسمها، وجملة الرجاء حالية، وبلقاء ربهم جار ومجرور متعلقان بيؤمنون، وجملة يؤمنون خبر لعل (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة لتعظيم شأن القرآن، وهذا مبتدأ، وكتاب خبره، وجملة أنزلناه صفة أولى، ومبارك صفة ثانية، فاتبعوه الفاء الفصيحة، أي: إذا أردتم أن تنتفعوا ببركته، فهي لترتيب ما بعدها على ما قبلها، واتبعوه فعل وفاعل ومفعول به، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، واتقوا عطف على فاتبعوه، وجملة الرجاء حالية (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) أن وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول لأجله، على حذف مضاف، أي: كراهية أن تقولوا، وإنما كافة ومكفوفة، وأنزل فعل ماض مبني للمجهول، والكتاب نائب فاعل، وعلى طائفتين جار ومجرور متعلقان بأنزل، والمراد بهما اليهود والنصارى، والجملة في محل نصب مقول القول، ومن قبلنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لطائفتين (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) الواو حالية، وإن مخففة من الثقيلة، وهي مهملة، وقد تقدم بحثها، وكان واسمها، وعن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 دراستهم جار ومجرور متعلقان بغافلين، واللام هي الفارقة بين إن المخففة وإن النافية، وغافلين خبر كنا (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) عطف على أن تقولوا، ولو شرطية، وأن واسمها، وجملة أنزل علينا الكتاب خبرها، والكتاب نائب فاعل، وعلينا جار ومجرور متعلقان بأنزل، واللام واقعة في جواب لو، وكان واسمها، وأهدى خبرها، ومنهم جار ومجرور متعلقان بأهدى (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) الفاء الفصيحة، لأنها جواب محذوف معلل به، أي: لا تعتذروا فقد فاتتكم أسباب العذر. فقد جاءكم: قد حرف تحقيق، وجاءكم فعل ومفعول به مقدم وبينة فاعل، ويجوز أن يكون المحذوف شرطا، أي: إذا صدقتم فيما تمنون به أنفسكم من وعود مزيفة وأحلام طائشة، ومن ربكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبينة أو بجاءكم، وهدى ورحمة معطوفان على بينة، وكلا الوجهين جميل سائغ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها) الفاء عاطفة لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإن نزول القرآن- مشتملا على جميع عوامل الهدى والرحمة- يقتضي أن يكون من يكذب به ويشيح بوجهه عنه أظلم الناس. ومن استفهامية متضمنة معنى النفي، أي: لا أحد، وهي في محل رفع مبتدأ، وأظلم خبر، وممن جار ومجرور متعلقان بأظلم، وجملة كذب صلة الموصول، وبآيات الله جار ومجرور متعلقان بكذّب، وصدف عنها عطف على كذب (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ) الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير الجزاء المترتب على هذا الموقف المتعنت، ونجزي فعل مضارع، وفاعله مستتر، والذين مفعوله، وجملة يصدفون صلة الموصول، وسوء العذاب منصوب على أنه مفعول به ثان لنجزي، أو منصوب بنزع الخافض، وإضافة السوء الى العذاب من إضافة الصفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 للموصوف، أي: العذاب السيّء (بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) الباء حرف جر، وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالباء، والجار والمجرور متعلقان بنجزي، وكان واسمها، وجملة يصدفون خبرها، أي: بسبب صدوفهم وإعراضهم. [سورة الأنعام (6) : آية 158] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) الإعراب: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) الجملة مستأنفة مسوقة لاستبعاد تأتّي الإيمان منهم، وهل حرف استفهام متضمن معنى النفي، لأنهم كانوا بمثابة المنتظرين لذلك، وينظرون فعل مضارع مرفوع، والواو فاعل، وإلا أداة حصر، وأن تأتيهم الملائكة مصدر مؤول مستثنى مفرّغ، فهو في محل نصب مفعول به، وأو حرف عطف، ويأتي ربك عطف على تأتيهم الملائكة، وأو يأتي بعض آيات ربك عطف أيضا، والمعنى أنهم ينتظرون أن يأتي كل آيات ربك أو بعضها لتنبئهم بالساعة (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) الظرف متعلق بقوله لا ينفع، وجملة يأتي بعض آيات ربك في محل جر بالإضافة، ولا نافية، وينفع نفسا إيمانها فعل ومفعول به وفاعل، وجملة لم تكن آمنت صفة ل «نفسا» ، وجاز الفصل بين الموصوف وصفته لأن الفاعل ليس بأجنبي، والجملة يجوز أن تكون مستأنفة أو حالية، ومن قبل جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وجملة آمنت خبر تكن، وأو حرف عطف، وكسبت عطف على آمنت، وخيرا مفعول به (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) الجملة مستأنفة، مسوقة لتهديدهم. وجملة انتظروا في محل نصب مقول القول، والأمر هنا للوعيد، وحذف المفعول به المنتظر لزيادة التخويف والترويع، كأن أكبر من أن يدخل في حدود الحدس والتخمين، والنفس أرهب من المجهول. وإنا منتظرون إن واسمها وخبرها، والجملة مستأنفة أيضا، مسوقة لمقابلة، انتظارهم بمثله. البلاغة: في الآية لفّ، وقد تقدم الحديث عن اللف والنشر. وأصل الكلام: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا لم تكن مؤمنة من قبل إيمانها بعد ولا نفسا لم تكسب في إيمانها خيرا قبل ما تكسبه من الخير بعد. إلا أنه لف الكلامين فجعلها كلاما واحدا إيثارا للبلاغة والإعجاز، ولم يعقب عليه بالنشر لأن المآل واحد، وهو معروف لكليهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 [سورة الأنعام (6) : الآيات 159 الى 161] إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) كلام مستأنف مسوق للحث على الوحدة التي أمر الله بها، والنهي عن التفرقة. وإن واسمها، وجملة فرقوا صلة الموصول، ودينهم مفعول به، وجملة وكانوا عطف على جملة الصلة، وشيعا خبر كانوا، وجملة لست خبر إن، وليس واسمها، ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لتمام الفائدة به، وفي شيء جار ومجرور متعلقان بالاستقرار الذي تعلق به منهم، أي: لست مستقرا منهم في شيء، ويجوز أن يكون في شيء هو الخبر ومنهم حال مقدمة عليه (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) كلام مستأنف مسوق للدلالة على أن مردّ الأمور الى الله تعالى. وإنما كافة ومكفوفة، وأمرهم مبتدأ، والى الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر، وثم حرف عطف، وينبئهم فعل مضارع، والهاء مفعوله، وبما الجار والمجرور في موضع نصب على أنه المفعول الثاني، وجملة كانوا صلة «ما» ، وجملة يفعلون خبر كانوا (مَنْ جاءَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) كلام مستأنف مسوق لبيان أجر العاملين، والتقيد بالعشرة لأنه أقل مراتب التضعيف، وإلا فالجزاء لا يحصى. ومن اسم شرط جازم مبتدأ، وجاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، وبالحسنة جار ومجرور متعلقان بجاء، والفاء رابطة لجواب الشرط، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وعشر مبتدأ مؤخر، وأمثالها مضاف إليه. ويلاحظ أن «عشر» لم تراع فيها القاعدة وهي معاكسة المعدود إذا أفردت، وسنتكلم عن ذلك في باب الفوائد (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) عطف على ما تقدم، وإلا أداة حصر، ومثلها مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الواو حرف عطف، وهم مبتدأ، ولا نافية، ويظلمون فعل مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعل، والجملة خبر «هم» (قُلْ: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الجملة مستأنفة لتكرير ما يجب فعله وقوله. وإن واسمها، وجملة هداني خبرها، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وإلى صراط جار ومجرور متعلقان بهداني على أنه مفعول به ثان (دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) دينا نصب على البدل من محل «إلى صراط» ، لأن معناه: هداني صراطا، وهدى كما قلنا سابقا يتعدى تارة ب «إلى» كما هنا وتارة بنفسه كما في قوله. «ويهديكم صراطا مستقيما» ويجوز أن يكون نصبا على المصدرية، أي: هداني هداية دين قيم. ولا أدري كيف ساغ أبو البقاء أن يعرب «دينا» مفعولا ثانيا، مع أن المفعول الثاني هو «إلى صراط» ، وقيما صفة، أي: مستقيما. وملة إبراهيم بدل من دينا، وحنيفا حال من إبراهيم، وما الواو عاطفة، وما نافية، وكان واسمها المستتر، ومن المشركين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها، والجملة معطوفة على الحال، فهي حال بعد حال. الفوائد: تذكير العدد وتأنيثه: إنما ذكّر العدد والمعدود مذكّر لأوجه: 1- إن الإضافة لها تأثير كما تقدم، فاكتسب المذكر من المؤنث التأنيث، فأعطي حكم المؤنث في سقوط التاء من عدده، ولذلك يؤنث فعله في حال إضافته، نحو: «يلتقطه بعض السيارة» وقال قيس: وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديار 2- إن هذا المذكر عبارة عن مؤنث، فروعي المراد منه دون اللفظ، فالمعتبر في التذكير والتأنيث حال الموصوف المنوي لا حالها، والتقدير: فله عشر حسنات أمثالها، ثم حذف الموصوف، وأقيمت صفته مقامه، وترك العدد على حاله. 3- انه اقترن باللفظ ما يعضد المعنى المراد وهو التأنيث، وعلى هذا يحمل قول عمر بن أبي ربيعة: فكان مجني دون من كنت أتّقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر وكان القياس فيه: ثلاثة شخوص، ولكنه كنّى بالشخوص عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 النساء. والذي سهل ذلك قوله: كاعبان ومعصر، أي: هن كاعبان ومعصر. [سورة الأنعام (6) : الآيات 162 الى 165] قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) اللغة: (النسك) : بتثليث النون وسكون السين، وبضم النون والسين، ومثله النّسوك والنّسكة والمنسكة: التزهّد والتّعبّد والتقشف. والناسك: العابد المتزهّد، ويجمع على نسّاك، قال أبو العلاء: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 صم ثمّ صلّ وطف بمكّة زائرا ... سبعين لا سبعا فلست بناسك جهل الديانة من إذا عرضت له ... أطماعه لم يلف بالمتماسك (خَلائِفَ الْأَرْضِ) الإضافة على معنى «في» والخلائف جمع خليفة، كصحيفة وصحائف، فهو من باب قوله: والمدّ زيد ثالثا في الواحد ... همزا يرى في مثل كالقلائذ وقد تقدم ذكر الخليفة في البقرة. الإعراب: (قُلْ: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) استئناف مسوق لتأكيد القيام بالشرائع الأصولية والفرعية. وجملة إن وما بعدها في محل نصب مقول القول، وان واسمها، ونسكي ومحياي ومماتي معطوفة، وسيأتي حكم المنادى المضاف الى ياء المتكلم في باب الفوائد، ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر، ورب صفة، والعالمين مضاف إليه لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وقد تقدم في الفاتحة (لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) لا النافية للجنس، وشريك اسمها، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها، والجملة حالية من رب العالمين أو صفة له، والواو حرف عطف، وبذلك جار ومجرور متعلقان بأمرت، وأنا الواو عاطفة أيضا، وأنا مبتدأ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 وأول المسلمين خبره (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا) الجملة مستأنفة مسوقة لتكون بدا على دعوة هؤلاء الكفار عند ما قالوا له: ارجع إلى ديننا وعبادة آلهتنا. والهمزة للاستفهام المتضمن معنى النفي، أي: لا أطلب ربا غيره، وغير الله مفعول به مقدم، وربا تمييز، ويجوز إعرابه حالا (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) الواو للحال، وهو مبتدأ، ورب كل شيء خبره، والجملة نصب على الحال (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) الواو عاطفة، ولا نافية، وتكسب كل نفس فعل وفاعل ومضاف إليه، وإلا أداة حصر، وعليها جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، أي: إلا حالة كون ذنبها مستعليا عليها بما يضرها ولا ينفعها (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) الواو عاطفة أيضا، ولا نافية أيضا، وتزر وازرة فعل مضارع وفاعل، وزر مفعول به، وأخرى مضاف إليه (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ثم حرف عطف، وإلى ربكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ومرجعكم مبتدأ مؤخر، والفاء حرف عطف، وينبئكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والباء حرف جر للسببية، وما اسم موصول في محل جر بالباء، والجار والمجرور في موضع المفعول الثاني، وجملة كنتم صلة الموصول، وكان واسمها، وفيه جار ومجرور متعلقان بتختلفون، وجملة تختلفون خبر كنتم (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) الواو عاطفة، وهو مبتدأ، والذي خبره، وجملة جعلكم صلة، وخلائف الأرض مفعول به ثان لجعلكم (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) الواو عاطفة، ورفع فعل ماض، وبعضكم مفعول به، وفوق بعض ظرف مكان متعلق برفع، ودرجات ظرف، وقد تقدم إعرابها والقول فيها (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) اللام للتعليل، ويبلوكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام، والجار والمجرور متعلقان برفع، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 وفيما جار ومجرور متعلقان بيبلوكم، وجملة آتاكم لا محل لها لأنها صلة الموصول، وإن واسمها، وسريع العقاب خبرها، والجملة مستأنفة للتعليل، وإنه لغفور رحيم عطف على ما تقدم، وقد تقدم إعراب ذلك كثيرا. البلاغة: الكناية في قوله: «ورفع بعضكم فوق بعض درجات» عن الشرف والفضل، وهذا التفاوت ليس ناشئا عن عجز عن المساواة بينهم ولكن للابتلاء والامتحان. الفوائد: المضاف إلى ياء المتكلم: يجب كسر آخر المضاف إلى ياء المتكلم لمناسبة الياء ويجوز فتح الياء وإسكانها، ويستثنى من ذلك المقصور والمنقوص والمثنى وجمع المذكر السالم، فهذه الأربعة آخرها واجب السكون والياء معها واجبة الفتح، قال في الخلاصة: آخر ما يضاف للياء اكسر إذا ... لم يك معتلا كرام وقذى أو يك كابنين وزيدين ففي ... جميعها اليا بعد فتحها احتذي وندر إسكانها بعد الألف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 حملة على أبي العلاء المعري: وقد قرأ نافع: محياي ومماتي، في الوصل بسكون ياء «محياي» كما ندر كسرها بعد الألف، وقد قرأ الأعمش والحسن البصري: «هي عصاي» بكسر الياء، على أصل التقاء الساكنين، والكسر مطرد في لغة بني يربوع في الياء المضاف إليها جمع المذكر السالم، وعليه قراءة حمزة والأعمش: «وما أنتم بمصرخيّ» بكسر الياء، وبذلك سقط ما قاله المعري في رسالته: «أجمع أصحاب العربية على كراهة قراءة حمزة» . وقد رد عليه ابن هشام فقال: «والمعري له قصد في الطعن على الإسلام، ولعل الذين كسروا لغتهم على إسكان ياء الإضافة فالتقى معهم ساكنان» . وقال المرادي في شرح التسهيل: «إن المعري لم بنفرد بما قاله في رسالته، فما قاله ابن هشام تحامل عليه وإن كان قد رمي بالإلحاد» . بين أبي العلاء والنحاة: ونرى من المفيد أن نعرض لهذه الخصومة التي اشتجرت بين أبي العلاء والنحاة، فأبو العلاء كان نحويا ولكنه لم يرد أن يكون نحويا. وكان إماما من أئمة النحو، ولكن أسلوب النحو لم يرضه، فنقدهم نقدا مرا، وتهكم بإمامهم سيبويه، وتعرّض له بالنقد والتخطئة في مواضع من رسائله، مما لا يتسع له المجال في كتابنا، فاكتفينا بالإشارة. وسيأتي في هذا الكتاب المزيد من هذه الخصومة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 (7) سورة الأعراف مكيّة وآياتها ستّ ومائتان [سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3) اللغة: (المص) : تقدم القول مفصلا في سورة البقرة عن فواتح السّور، ونضيف إليه الآن ما أورده السيوطي في إحدى رواياته، ومؤدّاه أن هذه الحروف صوت الوحي عند أول نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما لم يستعمل الكلمات المشهورة في التنبيه كألا وأما،، لأنها من الألفاظ التي يتعارفها الناس في كلامهم، والقرآن كلام لا يشبه الكلام، فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 تعهد، لتكون أبلغ في قرع الأسماع. وذكر أيضا أن العرب إذا سمعوا القرآن لغوا فيه، فأنزل الله هذا النظم البديع ليعجبوا منه، ويكون تعجبهم منه سبيلا لاستمالتهم، وسماعهم له سبيلا لاستماع ما بعده فترقّ القلوب، وتلين الأفئدة. وفي هذا الذي أورده السيوطي الكثير من الحصافة، ودقة النظر، فالنفس إلى المعجب أهشّ، وإلى المفاجئ غير المألوف المعتاد أشوق. الإعراب: (المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) : المص: تقدم إعراب فواتح السور في سورة البقرة، فجدّد به عهدا. وكتاب خبر لمبتدأ محذوف، أي: هو كتاب، وجملة أنزل إليك صفة لكتاب، وإليك جار ومجرور متعلقان بأنزل، والفاء عاطفة لتأكيد المبالغة في النهي عن الجرح، وهو هنا الشك والامتراء، والنهي عن السبب نهي عن المسبب بالطريق البرهاني، فالمراد نهيه عما يورث الحرج. ولا ناهية، ويكن فعل مضارع مجزوم بلا، وفي صدرك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر يكن المقدم، وحرج اسمها المؤخر، ومنه جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لحرج، فمن الجارة سببية (لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) اللام للتعليل، وتنذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بأنزل، وبه جار ومجرور متعلقان بتنذر، وذكرى: يحتمل أن تكون معطوفة على «لتنذر» ، وامتنع نصبه على المفعولية لأجله لاختلاف زمنه مع زمن المعلل، ولاختلاف الفاعل، ففاعل الإنزال هو الله، وفاعل الإنذار هو النبي، ويجوز عطفه على محل «لتنذر» ، على غرار عطف الحال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 الصريحة على الحال المؤوّلة، كقوله تعالى « ... دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما» ، ويجوز رفع «ذكرى» على أنها خبر لمبتدأ محذوف أو العطف على «كتاب» ، وقد سها أبو البقاء فأجاز أن تكون حالا، وهذا لا يجوز لدخول الواو على حال صريحة. ويجوز جره عطفا على المصدر المؤول من أن المقدرة والفعل، والتقدير: للإنزال والتذكير. وقال الكوفيون: هو مجرور عطفا على الضمير في «به» ، وللمؤمنين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لذكرى (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) كلام مستأنف مسوق لمخاطبة المكلفين عامة، وخاصة الكافرين، بدليل قوله: ولا تتبعوا من دونه أولياء. واتبعوا فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة أنزل صلة الموصول، وإليكم جار ومجرور متعلقان بأنزل، ومن ربكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الموصول (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ) الواو عاطفة، ولا ناهية، وتتبعوا فعل مضارع مجزوم بلا، ومن دونه جار ومجرور متعلقان بتتبعوا، أو بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لأولياء وتقدمت، وأولياء مفعول به، وقليلا نعت لمصدر محذوف، أي تذكرا قليلا، أو نعت لزمان، أي زمانا قليلا، وما مزيدة للإيغال في التوكيد للقلة، وتذكرون: أصله تتذكرون، فعل مضارع حذفت إحدى تاءيه، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعل. [سورة الأعراف (7) : الآيات 4 الى 7] وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 اللغة: (بَياتاً) أي: ليلا، وهو في الأصل مصدر، يقال: بات يبيت ويبات بيتا وبيتة وبياتا وبيتوتة ومبيتا ومباتا من بابي فتح وجلس في المكان: أقام فيه الليل. (قائِلُونَ) نائمون وقت الظهيرة، والقيلولة هي نوم نصف النهار أو استراحة نصفه، وإن لم يكن معها نوم. وهذا مقيل طيب، وهو شروب للقيل، وهو شراب القائلة: وهي نصف النهار. وقالت أمّ تأبّط شرّا: «ما سقيته غيلا، ولا حرمته قيلا» ، وهي رضعة نصف النهار. واقتال الرجل كما تقول: اصطبح واغتبق. الإعراب: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة للتحدث عن الأمم الماضية، وماذا كان مصيرها؟ بسبب إعراضها عن الحق وصدوفها عن استماع تعاليمه. وكم خبرية في موضع رفع على الابتداء، ومن قرية تمييز كم الخبرية، وقد تقدّم حكمه، وجملة أهلكناها خبر «كم» . ويجوز إعراب «كم» على أنها في موضع نصب على الاشتغال بإضمار فعل يفسره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 ما بعده، وجملة أهلكناها لا محل لها لأنها مفسرة، والفاء عاطفة للترتيب والتعقيب، وسيأتي بحث طريف عنها في باب الفوائد، وجاءها بأسنا فعل ومفعول به وفاعل، والجملة معطوفة على أهلكناها، وبياتا يجوز أن يكون ظرفا باعتبار المعنى، ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال، بمعنى بائتين، وعليه أكثر المعربين، والأول أمكن في المعنى، والثاني أقيس في الإعراب. وأو حرف عطف، وهم مبتدأ، وقائلون خبر، والجملة معطوفة على «بياتا» ، فهي حالية. وهنا يرد اعتراض وهو: كيف أتت الجملة حالية من دون واو؟ إذ لا يقال: جاءني زيد هو فارس، بغير واو؟ والجواب سيأتي في باب الفوائد (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) الفاء استئنافية، وما نافية، وكان واسمها، وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بدعواهم، وجملة جاءهم بأسنا في محل جر بالإضافة (إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) إلا أداة حصر، وأن وما بعدها في تأويل مصدر كان، وإن واسمها، وجملة كنا ظالمين خبر إن، وجملة إنا وما في حيزها في محل نصب مقول القول (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) الفاء عاطفة، والمقصود منها ترتيب الأحوال الأخروية على الأحوال الدنيوية في الذكر حسب ترتيبها عليها في الوجود. واللام موطّئة للقسم، ونسألن فعل مضارع مبني على الفتح لاقترانه بنون التوكيد الثقيلة وجوبا، كما ستعلم في باب الفوائد، والفاعل مستتر تقديره نحن وجملة لنسألنّ معطوفة والذين اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة أرسل صلة الموصول، وهو بالبناء للمجهول، ونائب الفاعل الجار والمجرور وهو إليهم، ولنسألن المرسلين عطف على ما تقدم. ومعنى سؤل المرسل إليهم التسجيل على الكفار إحجامهم عن الاستماع لما قالوه لهم وأبلغوهم إياه (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) عطف على ما تقدم، وعليهم جار ومجرور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 متعلقان بنقصنّ، أي: على كل من الرسل والمرسل إليهم ما كان من أمرهم، وبعلم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل نقصنّ، أي: عالمين بمكنونات أحوالهم، ومنطويات سرائرهم، وما ندّت عنه شفاههم. والواو للحال، وما نافية، وكان واسمها، وغائبين خبرها، والجملة في محل نصب على الحال. وجميع هذه الأسئلة والقصص للتوبيخ والتقريع كما يفعل المحقق مع المجرم لإدانته بما فعلته يداه أمامه. البلاغة: المجاز المرسل بقوله وكم من قرية أهلكناها فقد ذكر القرية وأراد أهلها، وهو مجاز علاقته المحلية. وقد تقدمت له نظائر. الفوائد: واو الحال: هي واو يصحّ وقوع الظرف موقعها، ولها ثلاث أحوال : وجوب الذكر وامتناعه وجوازه. وفيما يلي مواقع تلك الأحوال: 1- وجوب الذّكر: آ- أن تكون جملة الحال اسمية مجردة من ضمير يربطها بصاحبها، نحو قوله تعالى: «لئن أكله الذئب ونحن عصبة» . ب- أن تكون جملة الحال مصدرة بضمير صاحبها، نحو: «لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 2- امتناع الذكر في سبع صور: آ- أن تقع بعد عاطف نحو: «وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون» . ب- أن تكون مؤكدة لمضمون الجملة قبلها نحو: «ذلك الكتاب لا ريب فيه» إذا أعربنا جملة «لا ريب» حالية. ج- أن تكون ماضية بعد إلا نحو: «وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون» . د- أن تكون ماضية قبل «أو» نحو: كن للخليل نصيرا جاد أو عدلا ... ولا تشحّ عليه جار أم بخلا هـ- أن تكون مضارعة مثبتة غير مقترنة ب «قد» ، وحينئذ تربط بالضمير وحده، نحو: «ولا تمنن تستكثر» . وأما قول عنترة: علقتها عرضا وأقتل قومها ... قسما لعمر أبيك ليس بمزعم فجملة: «وأقتل قومها» حال من التاء في «علقتها» ، وهي مقترنة بالواو مع المضارع المثبت، واختلف في تخريجها، فقيل: ضرورة، وقيل: الواو عاطفة، والمضارع مؤوّل بالماضي، والتقدير: وقتلت قومها، فعدل عن لفظ الماضي إلى لفظ المضارع لحكاية الحال الماضية، ومعناها أن يفرض ما كان في الزمن الماضي واقعا في هذا الزمان، فيعبر عنه بلفظ المضارع. وقيل: هي واو الحال، والمضارع خبر مبتدأ محذوف، أي: وأنا أقتل قومها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 وأن تكون مضارعة منفية ب «ما» ، نحو قوله: عهدتك ما تصبو وفيك شبيبة ... فما لك بعد الشّيب صبّا متيّما ز- أن تكون مضارعة منفية ب «لا» نحو: «وما لنا لا نؤمن بالله» ، فإن كانت الجملة المضارعة منفية ب «لم» جاز ارتباطها بالواو كقول النابغة: سقط النّصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتّقتنا باليد وجاز عدم ارتباطها بها، ولكن بالضمير وحده، نحو: «فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء» ، وقول زهير: كأنّ فتات العهن في كلّ موطن ... نزلن به حبّ الفنا لم يحطّم وإن كانت منفية ب «لما» فالمختار ربطها بالواو نحو: «أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين» ، وقول الشاعر: أشوقا ولما يمض لي غير ليلة ... فكيف إذا جدّ المطيّ بنا عشرا 3- جواز الذكر وعدمه: وذلك في غير ما تقدم من صور وجوبها وامتناعها. وهناك تفاصيل أعرضنا عنها، يرجع إليها من شاء في كتب النحو المفصلة. إذا عرفت هذا أدركت أن اعتراض الزمخشري غير وارد، وإليك التفصيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 مناقشة ممتعة: ما يقوله الزمخشري: ويقول الزمخشري: «فإن قلت: يقال: «جاء زيد هو فارس» بغير واو فما بال قوله تعالى: «أو هم قائلون» ؟ قلت: قدّر بعض النحويين الواو المحذوفة، ورده الزّجّاج وقال: لو قلت: جاءني زيد راجلا أو هو فارس، أو جاءني زيد هو فارس، لم يحتج فيه إلى واو، لأن الذكر قد عاد إلى الأول. والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حذفت الواو استثقالا لاجتماع حرفي عطف، لأن واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل، فقولك: جاز زيد راجلا، أو هو فارس، كلام فصيح وارد على حدّه. وأما: جاءني زيد هو فارس، فخبيث» . ردّ أبي حيّان على الزمخشري والزجاج: وقد رد أبو حيان يقول: «فأما بعض النحويين الذي اتهمه الزمخشري فهو الفراء، وأما قول الزمخشري في التمثيلين: لم يحتج فيه إلى الواو لأن الذكر قد عاد إلى الأول، ففيه إبهام، وتعيينه لم يجز دخولها في المثال الثاني، فانتفاء الاحتياج ليس على حدّ سواء، لأنه في الأول لامتناع الدخول، وفي الثاني لكثرة الدخول، ولا لامتناعه. وأما قول الزمخشري: والصحيح إلى آخره، فتعليله ليس بصحيح، لأن واو الحال ليست حرف عطف فيلزم من ذكرها اجتماع حرفي عطف، لأنها لو كانت للعطف للزم أن يكون ما قبل الواو حالا حتى يعطف حال على حال، فمجيئها فيما لا يمكن أن يكون حالا دليل على أنها ليست واو عطف ولا لحظ فيها معنى العطف. تقول: جاءني زيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 والشمس طالعة، فجاء زيد ليس بحال، فتعطف عليه جملة حال، وإنما هذه الواو مغايرة لواو العطف بكل حال، وهي قسم من أقسام الواو، كما تأتي للقسم، وليست فيه للعطف إذا قلت: والله لتخرجنّ. أما قوله: «فخبيث» فليس بخبيث، وذلك أنه بناه على أن الجملة الاسمية إذا كان فيها ضمير ذي الحال فإن حذف الواو منها شاذ، وتبع في ذلك الفراء، وليس بشاذّ، بل هو كثير وقوعه في القرآن وفي كلام العرب، نثرها ونظمها، وهو أكثر من رمل يبرين وفلسطين. وقد ذكرنا كثرة مجيء ذلك في شرح التسهيل. وقد رجع الزمخشري عن هذا المذهب إلى مذهب الجماعة» . تعقيب على كلام أبي حيان: أقول: لا يخلو ردّ أبي حيان من تهافت، فقد تعقب عليه بأن أصل الواو العطف، ثم استعيرت لربط الحال بعاملها، كما أن الفاء أصلها العطف، ثم استعيرت لربط الجزاء بالشرط. الفاء العاطفة: الفاء للترتيب. وهو إما معنوي كما في: «قام زيد فعمرو» وهو أن يكون ما بعدها حاصلا بعد ما قبلها في الواقع. أو ذكريّ وهو عطف مفصّل على مجمل، نحو: «فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه» . وهو أن يكون ما بعدها حاصلا بعد ما قبلها في اللفظ فقط، وأما في الواقع فتارة يكون حاصلا معه في آن واحد أو قبل ما قبلها. وقال الفراء: إنها لا تفيد الترتيب مطلقا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 واحتج بقوله تعالى: «أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون» . وأجيب بأن المعنى: أردنا إهلاكها. ولا شك أن إرادة الإهلاك قبل مجيء البأس، فيكون ترتيبا ذكريا إذ هو بيان لقوله: «أهلكناها» إذ هو مجمل. والحاصل أن الجمهور يقولون بإفادتها الترتيب مطلقا، والفراء يمنع ذلك مطلقا. وقال الجرمي: لا تفيد الترتيب في البقاع ولا في الأمصار، بدليل: «بين الدخول فحومل» ، وقولهم: «مطرنا بنوء بمكان كذا» فمكان كذا إذا كان وقوع الأمطار فيهما واحدا. عودة الضمير: قد أعربوا المضاف إليه بإعراب المضاف، ولذلك عاد الضمير مؤنثا ومذكرا، والمراد: وكم من أهل قرية، ثم حذف المضاف الذي هو الأهل، وعاد الضمير على الأمرين، فأنّث في قوله: «فجاءها بأسنا» نظرا إلى التأنيث في اللفظ، وهو القرية. وذكّر في قوله: «أو هم قائلون» ملاحظة للمحذوف، فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه فباشره العامل فانتصب انتصاب المفعول به، وإن لم يكن إياه في الحقيقة كذلك أعطوه حكمه في غير الإعراب من التأنيث والتذكير، فمن ذلك قول حسان بن ثابت: يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفّق بالرحيق السلسل والشاهد فيه تذكير الضمير الراجع إلى بردى، وهو مؤنث. والبريض موضع بأرض دمشق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 [سورة الأعراف (7) : الآيات 8 الى 10] وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10) اللغة: (مَعايِشَ) في المصباح: عاش عيشا، من باب سار: صار ذا حياة، فهو عائش، والأنثى عائشة، وعيّاش أيضا مبالغة، والمعيش والمعيشة مكسب الإنسان الذي يعيش به، والجمع المعايش. هذا على قول الجمهور إنه من عاش، فالميم زائدة، ووزن معايش مفاعل، فلا يهمز، وبه قرأ السبعة. وقيل: هو من معش، فالميم أصلية، ووزن معيش ومعيشة فعيل وفعيلة، ووزن معائش فعائل، فيهمز. هذا وسيأتي في باب الفوائد مزيد بحث عن عدم همز معايش. الإعراب: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) الواو استئنافية والكلام مستأنف لتقرير وزن الأعمال يوم القيامة بميزانها الحق الثابت الذي لا يطيش به الموزون، لامتحان الخلق وإظهار حكم العدل، وإقامة الحجة على الناس. والوزن مبتدأ، وفي الخبر وجهان: أحدهما هو الظرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 «يومئذ» ، أي: الوزن الحق كائن أو مستقر يومئذ، أي يوم يسأل الرسل والمرسل إليهم، فحذفت الجملة المضاف إليها «إذ» وعوض منها التنوين. وقد تقدم بحث هذه المسألة. وفي الحق على هذا الوجه أوجه: منها أنه نعت للوزن، أي الوزن الحق كائن في ذلك اليوم، ومنها أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه جواب سؤال مقدر من قائل يقول: ما ذلك الوزن؟ فقيل: هو الحق لا الباطل، وثاني الوجهين في خبر «الوزن» أن يكون الخبر «الحق» و «يومئذ» على هذا الوجه متعلق ب «الوزن» ، أي: يقع الوزن يومئذ (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفاء استئنافية، ومن اسم شرط جازم مبتدأ، وثقلت فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، وموازينه فاعل، والفاء رابطة لجواب الشرط، واسم الاشارة مبتدأ، وهم مبتدأ ثان، والمفلحون خبر «هم» ، والجملة الاسمية خبر اسم الاشارة. ويجوز أن يكون «هم» ضمير فصل لا محل له، والمفلحون خبر أولئك، وجملة «فأولئك هم المفلحون» في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) الجملة عطف على الجملة المتقدمة، وأولئك اسم إشارة مبتدأ، والذين اسم موصول خبر، والجملة جواب الشرط الجازم المقترن بالفاء، وجملة خسروا أنفسهم صلة الموصول، وأنفسهم مفعول به (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) الجار والمجرور متعلقان بخسروا، وبآياتنا جار ومجرور متعلقان بيظلمون، وقد تعدى يظلمون بالباء لتضمنه معنى التكذيب. وسيأتي المزيد عن التضمين في باب الفوائد. وما مصدرية، وجملة كانوا لا محل لها لوقوعها بعد موصول حرفي، وجملة يظلمون خبر كانوا (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) الواو استئنافية، والكلام مستأنف مسوق لتذكيرهم بما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 أفاض عليهم من النعم التي تستوجب الشكر، ولكنهم لم يقابلوها بما يستوجب، واللام جواب قسم محذوف، وقد حرف تحقيق، ومكناهم فعل ماض وفاعل، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بمكناهم، وجعلنا فعل وفاعل، ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف مفعول جعلنا الأول، ومعايش مفعول جعلنا الثاني، وفيها جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) قليلا نعت لمصدر محذوف أو لظرف محذوف، وقد تقدمت نظائره. وما زائدة لتأكيد القلة، وتشكرون فعل مضارع مرفوع وفاعل، والجملة حالية أو مستأنفة. الفوائد: 1- التضمين: هو إشراب لفظ معنى لفظ، فيعطى حكمه، ويسمى ذلك تضمينا. وفائدته أن تؤدي كلمة مؤدّى كلمتين. هذا ما قاله ابن هشام، واستشهد على ذلك بقول الزمخشري «ألا ترى كيف رجع معنى «ولا تعد عيناك عنهم» إلى قولك: ولا تقتحم عيناك مجاوزين الى غيرهم، «ولا تأكلوا أموالهم الى أموالكم» أي: ولا تضموها إليها آكلين» . وواضح أن هذا ثراء لفظي، يزيد في مرونة لغتنا، وسعة تصرفها، ولهذا آثرناه بالإشارة. رأي ابن جنّي: وقال ابن جني في الخصائص: «إن العرب قد تتوسع فتوقع أحد الحرفين موقع الآخر، إيذانا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 فقط، وعلى هذا فالتضمين مجاز مرسل، لأنه استعمل اللفظ في غير معناه لعلاقة بينهما وقرينة» . رأي آخر: وقيل تعقيبا على قول ابن جني: إن فيه جمعا بين الحقيقة والمجاز، لدلالة المذكور على معناه بنفسه وعلى المحذوف بالقرينة. رأي العزّ بن عبد السلام: وقال العز بن عبد السلام في كتابه «مجاز القرآن» التضمين: هو أن يضمن اسم معنى آخر لإفادة معنى الاسمين، فتعديه تعديته في بعض المواضع، كقوله: «حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق» فيضمّن «حقيق» معنى حريص، ليفيد أنه حريص عليه، ويضمن معنى فعل، فتعديه تعديته في بعض المواضع، كقول الشاعر «قد قتل الله زيادا عنّي» ضمن «قتل» معنى صرف، لإفادة أنه صرفه حكما بالقتل دون ما عداه من الأسباب، فأفاد معنى القتل والصرف جميعا. وسيأتي من آيات الله غرائب في التضمين، ولهذا نجتزئ بما قدمناه عنه الآن. 2- إبدال الهمز من الواو والياء: 1- أن تتطرّف إحداهما وهي لام أو زائدة للإلحاق بعد ألف زائدة، نحو: كساء وسماء ودعاء، فالهمزة فيهما مبدلة عن واو، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 والأصل كساو وسماو ودعاو، ونحو: بناء وظباء وفناء، فالهمزة فيهنّ مبدلة عن ياء، والأصل: بناي وظباي وفناي. 2- أن تقع إحداهما عينا لاسم فاعل أعلت فيه، نحو: قائل وبائع، فقلبوا عينهما ألفا. 3- أن تقع إحداهما بعد ألف «مفاعل» ، وقد كانت مدة زائدة في الواحد، نحو: عجوز وعجائز، وصحيفة وصحائف، بخلاف نحو: قسورة وقساور، ومعيشة ومعايش، لأن المدة أصلية في الواحد فلا تبدل وشذّ: مصيبة ومصائب ومنارة ومنائر، بالإبدال، مع أن المدة في الواحد أصلية. 4- أن تقع إحداهما ثاني حرفين لينين بينهما ألف مفاعل، سواء كان اللينان ياءين كنيائف جمع نيف، أو واوين كأوائل جمع أول، أو مختلفين كسيائد جمع سيد، إذ أصله سيود، اجتمعت فيه الواو والياء، وسبقت إحداهما فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء. وهذا المبحث طويل، وقد اختصرناه جهد الإمكان. آراء في قراءة الهمزة: إذا عرفت هذا فاعلم أنه قرأ الأعرج وزيد بن علي والأعمش وخارجة عن نافع وابن عامر في رواية: «معائش» بالهمز، وليس بالقياس كما تقدم، ولكن هؤلاء رووه وهم ثقات، فوجب قبوله. ولذلك نورد بعض آراء علماء اللغة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 الزّجّاج: قال الزجاج: جميع نحاة البصرة تزعم أن همزها خطأ، ولا أعلم لها وجها إلا التشبيه بصحيفة وصحائف، ولا ينبغي التعويل على هذه القراءة. المازنيّ: وقال المازني: أصل أخذ هذه القراءة عن نافع، ولم يكن يدري ما العربية، وكلام العرب التصحيح في نحو هذا. الفرّاء: وقال الفراء: ربما همزت العرب هذا وشبهه، يتوهمون أنها فعلية فيشبهون مفعلة بفعيلة. أبو حيّان: أما أبو حيان فقد دافع عنها فقال: لسنا متعبدين بأقوال نحاة البصرة. ورد على المازني فقال: وأما قوله: إن نافعا لم يكن يدري ما العربية، فشهادة على النفي. إلى آخر تلك المناقشة المفيدة. [سورة الأعراف (7) : الآيات 11 الى 12] وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 الإعراب: (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) الواو استئنافية، والكلام مستأنف مسوق للتذكير بالنعمة السارية من آدم الى ذريته، والتي تستوجب الشكران الدائم. واللام جواب قسم محذوف، وقد حرف تحقيق، وخلقناكم فعل وفاعل ومفعول به، ثم حرف عطف للترتيب والمهلة، وصورناكم عطف على خلقناكم، وتوجيه الخطاب الى المخاطبين مع أن المراد آدم هو تأكيد معنى الشكران للنعمة السابغة، ثم قلنا للملائكة عطف على ما تقدم، وللملائكة جار ومجرور متعلقان بقلنا، واسجدوا فعل أمر، والواو فاعل، والجملة في محل نصب مقول القول، ولآدم جار ومجرور متعلقان بقوله: اسجدوا (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) الفاء للترتيب مع التعقيب، كأنما امتثلوا للأمر فور صدوره، وسجدوا فعل وفاعل، وإلا أداة استثناء وإبليس مستثنى من فاعل سجدوا، وجملة لم يكن من الساجدين إما استئنافية كأنها جواب عن سؤال مقدر، ويجوز أن تكون حالية، أي: إلا إبليس حال كونه ممتنعا من السجود، ومن الساجدين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر يكن (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) ما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ، وجملة منعك في محل رفع خبرها، والمعنى: أي شيء منعك. وأن وما بعدها في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 موضع نصب بنزع الخافض، أي: ما منعك من السجود. وإذ ظرف ماض متعلق بتسجد، أي: ما منعك من السجود وقت أمري إياك به. ولا زائدة لتأكيد معنى النفي، وجملة أمرتك في محل جر بالإضافة (قالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) جملة القول مستأنفة مسوقة لجواب إبليس عن السؤال الناشئ عن حكاية عدم سجوده، وأنا مبتدأ، وخير خبر، ومنه جار ومجرور متعلقان بخير، وجملة خلقتني لا محل لها لأنها مسوقة لتعليل ما ادعاه غرورا واستكبارا من فضله على آدم. ومن نار جار ومجرور متعلقان بخلقتني، وجملة خلقتني من طين عطف على سابقتها. البلاغة: في قوله: «ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك» فنّ التوهيم، وقد تقدم الإلماع إليه. أي أن يأتي المتكلم بكلمة يوهم ما بعدها من الكلام أن المتكلم أراد تصحيفها أو تحريفها أو اختلاف إعرابها أو اختلاف معناها. فإن الظاهر ما منعك من السجود. والتأويل الذي يرد هذا الكلام أن العلماء قالوا: ما منعك أي: ما صيرك ممتنعا من السجود. وقد تقدم في آل عمران قوله في اختلاف الإعراب: «ثم لا ينصرون» ليبقى الفعل دالا على الحال والاستقبال. ومن توهيم التصحيف قول أبي الطيب المتنبي: وإن الفيام التي حوله ... لتحسد أرجلها الأرؤس فإن لفظة «الأرجل» أوهمت السامع أن المتنبي أراد القيام بالقاف، ومراده الفيام، وهي الجماعات، لأن الفيام يصدق على أقل الجمع، فتفوت المبالغة منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 [سورة الأعراف (7) : الآيات 13 الى 16] قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) اللغة: (الصَّاغِرِينَ) الصّغار بفتح الصاد: الذل والضيم. وقد صغر الرجل، من باب طرب، فهو صاغر، والصاغر أيضا: الراضي بالضيم. (أَنْظِرْنِي) : أخّرني. الإعراب: (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) جملة القول استئنافية، وفاهبط الفاء عاطفة لترتيب الأمر على ما ظهر من إبليس من المخالفة، وفما الفاء عاطفة أيضا، و «ما» نافية أيضا، ويكون فعل مضارع تام لأنه متضمن معنى ينبغي أو يصح، ولك جار ومجرور متعلقان بيكون لأنه متضمن معنى يصح، وأن مع مدخولها في تأويل مصدر فاعل يكون، وفيها جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) الفاء عاطفة، لتأكيد الأمر بالهبوط، وإن واسمها، ومن الصاغرين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها، وجملة إن وما في حيزها في محل نصب حال، أي: ذليلا صاغرا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) جملة القول مستأنفة، وجملة أنظرني في محل نصب مقول القول، والى يوم جار ومجرور متعلقان بأنظرني، وجملة يبعثون في محل جر بالإضافة، ولهذا أعرب الظرف لإضافته لجملة معربة كما تقدم، ويبعثون فعل مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعل (قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) جملة إنك من المنظرين في محل نصب مقول القول (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) الجملة مستأنفة أيضا، والفاء عاطفة، والباء حرف جر للسببية، وما مصدرية، والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف، ولا يجوز أن يتعلق الجار والمجرور ب «أقعدن» ، لأن لام القسم تصد عن ذلك، لا نقول: والله لأمرن بزيد، والمعنى: فبسبب إغوائك أقسم. ويجوز أن تكون الباء للقسم، أي: فأقسم بإغوائك لأقعدن. وهي مع مجرورها متعلقان بفعله المحذوف، واللام واقعة في جواب القسم المحذوف، وأقعدن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ولهم جار ومجرور متعلقان بأقعدن، وصراطك نصب على الظرفية المكانية، وسيأتي المزيد من إعرابها في باب الفوائد، والمستقيم: صفة. الفوائد: قال سيبويه في كتابه: وانتصاب «صراطك» على الظرفية، أي: في صراطك المستقيم. وحكى سيبويه أيضا: ضرب زيد الظهر والبطن. ورجح أبو حيان انتصابه بنزع الخافض. عبارة أبي حيّان: «وانتصب صراطك على إسقاط «على» ، قاله الزّجّاج، وشبهه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 بقول العرب: «ضرب زيد الظهر والبطن» ، أي على الظهر والبطن. وإسقاط حرف الجر لا ينقاس في مثل هذا، لا يقال: «قعدت الخشبة» تريد على الخشبة. قالوا: وعلى الظرف، كما قال الشاعر فيه: «كما عسل الطريق الثعلب» ، وهذا أيضا تخريج فيه ضعف، لأن «صراطك» ظرف مكان مختصّ، وكذلك الطريق، فلا يتعدى إليه الفعل إلا بواسطة «في» ، وما جاء خلاف ذلك شاذ أو ضرورة» . الى أن يقول: «والأولى أن يضمن لأقعدنّ معنى ما يتعدّى بنفسه فينتصب «الصراط» على أنه مفعول به، والتقدير: لألزمن بقعودي صراطك المستقيم. الزمخشري وافق سيبويه: أما الزمخشري فوافق سيبويه قال: «وانتصابه على الظرف كقول ساعدة بن جؤية يصف رمحا: لدن بهز الكفّ يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب يصفه بأنه لين يضطرب صلبه بسبب هزه فلا يبس فيه كما عسل أي اضطرب الثعلب في الطريق. فحذف الجار من الثاني للضرورة. وفي «عسل» معنى الدخول بسرعة. [سورة الأعراف (7) : الآيات 17 الى 18] ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 اللغة: (مَذْؤُماً) في المختار: الذّأم: العيب يهمز ولا يهز، يقال: ذأمه من باب قطع إذا عابه وحقره، فهو مذءوم. (مَدْحُوراً) : دحره: طرده وأبعده، وبابه قطع. الإعراب: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) ثم حرف عطف للترتيب والمهلة، واللام موطّئة للقسم، وآتينهم: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والفاعل ضمير مستتر، والهاء مفعول به، ومن بين أيديهم جار ومجرور متعلقان بآتينهم، أي: لآتينهم من الجهات الأربع الي يأتي منها العدو، ولكنه خالف بين حرفي الجر، فجعل الفعل في الأولين يتعدى بمن، وهي للابتداء، وفي الأخيرين بعن، وهي للمجاوزة، لأنه يتوجه من الأولين وينحرف من الآخرين متجاوزا، وسيأتي المزيد من التفصيل في باب البلاغة (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) الواو استئنافية أو عاطفة، فالجملة بعدها مستأنفة أو معطوفة، ولا نافية، وتجد فعل مضارع إمّا من الوجود بمعنى اللّقاء فيتعدّى لواحد، فيكون «أكثرهم» مفعولا به، وشاكرين حالا، وإما من الوجود بمعنى العلم فيكون قوله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 «شاكرين» مفعولا به ثانيا (قالَ: اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً) الجملة مستأنفة، وأخرج فعل أمر، ومنها جار ومجرور متعلقان باخرج، ومذءوما مدحورا حالان من فاعل اخرج والجملة مقول القول (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) اللام هي الموطئة للقسم المحذوف، ومن اسم شرط جازم في محل رفع، وتبعك فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، ولأملأن اللام جواب القسم المدلول عليه بلام التوطئة، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه والجملة القسمية مستأنفة. ويجوز أن تكون اللام لام الابتداء، ومن اسم موصول في محل رفع مبتدأ، وجملة تبعك صلة، ولأملأن جواب قسم محذوف، وذلك القسم وجوابه في محل رفع للمبتدأ، والتقدير: للذي تبعك منهم والله لأملأن جهنم منكم، وجهنم مفعول به، ومنكم جار ومجرور متعلقان بأملأن، وأجمعين تأكيد للضمير. البلاغة: في هذه الآية فن المخالفة بين حرفي الجر، فقد ذكر الجهات الأربع، لأنها هي التي يأتي منها العدوّ عدوّه، ولهذا ترك جهة الفوق والتحت، وعدى الفعل الى الجهتين الأوليين بمن، والى الأخريين بعن، لأن الغالب فيمن يأتي من قدام وخلف أن يكون متوجها بكليته، والغالب فيمن يأتي من جهة اليمين والشمال أن يكون منحرفا، فناسب في الأولين التعدية بحرف الابتداء، وفي الآخرين التعدية بحرف المجاوزة. وهو تمثيل لوسوسته وتسويله بمن يأتي حقيقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 فصل رائع للزمخشري: وفيما يلي فصل رائع للزمخشري بهذا الصدد، نقتبس منه الفقرات التالية، لما تضمنته من تجسيد حي، قال: «فإن قلت: كيف قيل: «من بين أيديهم ومن خلفهم» بحرف الابتداء، وعن أيمانهم وعن شمائلهم» بحرف المجاوزة؟ قلت: المفعول فيه عدي إليه الفعل نحو تعديته الى المفعول به، فكما اختلفت حروف التغدية في ذاك اختلفت في هذا، وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس، وإنما يفتش عن صحة موقعها فقط، فلما سمعناهم يقولون: جلس عن يمينه وعلى يمينه، وعن شماله وعلى شماله، قلنا: معنى على يمينه أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلى عليه، ومعنى عن يمينه أنه جلس متجافيا عن صاحب اليمين منحرفا عنه غير ملاصق له، ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره، ونحوه من المفعول به قولهم: «رميت عن القوس، وعلى القوس، ومن القوس» ، لأن السهم يبعد عنها ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ويبتدأ الرمي منها. وكذلك قالوا: جلس بين يديه وخلفه، بمعنى فيه، لأنهما ظرفان للفعل، ومن بين يديه ومن خلفه لأن الفعل يقع في بعض الجهتين، تقول: جئته من الليل تربد يعض الليل» . [سورة الأعراف (7) : الآيات 19 الى 20] وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 اللغة: (وسوس) الوسوسة: الكلام الخفي المكرر، ومثله الوسواس، وهو صوت الحليّ. والوسوسة أيضا: الخطرة الرديئة، ووسوس لا يتعدى الى مفعول بل هو لازم، يقال: هو رجل موسوس بكسر الواو، ولا يقال بفتحها. قاله ابن الأعرابيّ. وقال غيره: يقال موسوس له، وموسوس إليه. وقال الليث: الوسوسة: حديث النفس، والصوت الخفي من ريح تهزّ قضيبا ونحوه، كالهمس. وقال الأزهري: وسوس ووزوز بمعنى واحد، وفي القاموس: رجل موزوز أي مغرّد. وسيأتي سرّ تكرير الحروف في باب البلاغة. (وُورِيَ) : ستر وغطّي، وهو ماض مبني للمجهول، وأصله: وارى كضارب، فلما بني للمجهول أبدلت الألف واوا كضورب. (السوآت) : العورات، وكلّ ما يستحيا منه. الإعراب: (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) الواو عاطفة أو استئنافية، ويا حرف نداء، وآدم منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب، والكلام معطوف على اخرج، أو بتقدير عامل، أي: قلنا: يا آدم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 واسكن فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره أنت، وأنت تأكيد للفاعل المستتر، وزوجك عطف على الضمير المستتر، والجنة مفعول به، على السعة، أو منصوب بنزع الخافض، وقد تقدم (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) الفاء حرف عطف، وكلا فعل أمر مبني على حذف النون، والألف فاعل، ومن حرف جر، وحيث ظرف مكان مبني على الضم في محل جر بمن، والجار والمجرور متعلقان بكلا، وجملة شئتما في محل جر بالإضافة (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) الواو عاطفة، ولا ناهية، وتقربا فعل مضارع مجزوم بلا، والألف فاعل، وهذه اسم إشارة في محل نصب مفعول به، وقرب يستعمل لازما ومتعديا كما هنا، والشجرة بدل من اسم الاشارة، فتكونا الفاء هي السببية، وتكونا فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد الفاء لوقوعها جوابا للنهي، والألف اسم تكونا، ومن الظالمين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر تكونا (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) الفاء عاطفة، ووسوس فعل ماض، ولهما جار ومجرور متعلقان بوسوس، والشيطان فاعل، وليبدي اللام لام التعليل، ويبدي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام ويصح أن تكون لام الصيرورة أو العاقبة، ولهما جار ومجرور متعلقان بيبدي، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة ووري صلة لا محل لها، وعنهما جار ومجرور متعلقان بووري، ومن سوءاتهما: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال. (وَقالَ: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) الواو عاطفة، وقال فعل ماض معطوف على وسوس، وما نافية، ونهاكما فعل ماض، والكاف مفعول به، والميم والألف حرفان دالان على التثنية، وربكما فاعل، وعن هذه جار ومجرور متعلقان بنهاكما، والشجرة بدل من اسم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 الإشارة. وإلا أداة حصر. وأن وما في حيزها استثناء مفرغ من أعم العلل. فهو مفعول لأجله على حذف مضاف، أي، إلا كراهة. وأن تكونا مصدر مؤول في محل جر بالإضافة، تكونا فعل مضارع ناقص منصوب بأن، والألف اسمها، وملكين خبر تكونا، وأو تكونا من الخالدين عطف على جملة تكونا الأولى، وجملة ما نهاكما مقول القول. البلاغة: سر تكرير الحروف في اللفظ الواحد: هذا باب من أبواب البلاغة، قلّ من يتفطن له. وقد المع إليه الزمخشري في كشافه وابن الأثير في مثله السائر وابن جني في خصائصه. ولكن إلماعهم لا يعدو لغة النظر التي لا تنقع الغلة، ولا تشفي من الأوام، ويتلخص هذا الباب في أنه كلما تكررت الحروف في اللفظ الواحد كان ذلك إيذانا بتكرير العمل ونقل الفعل من وزن الى وزن، لم يجنح إليه الواضح في الأصل إلا لهذا السر الخفي، واللفظ هنا «وسوس» فهو تجسيد حي وتصوير بليغ لدأب إبليس على الإغواء، وإجهاده نفسه لحملها على أن تزل بهما القدم، ويرتطما في مزالق الشر، فهو يوسوس إليهما المرة بعد المرة. ومن ذلك قولهم: خشن واخشوشن، لا تفيد خشن ما تفيد كلمة اخشوشن، لما فيه من تكرير الحروف. وقل مثل هذا في أعشب المكان واعشوشب. فكأنهم لما رأوا كثرة العشب قالوا: اعشوشب. وسيرد معنا في القرآن الكريم العجيب منه، كما في هذه الآية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 نموذج شعري للتكرير: ويحسن بنا هنا أن نورد الآن نموذجا شعريا تعلق فيه الشاعر بأذيال هذا السر الخفي، وهو قول البحتري من قصيدة يمدح بها المتوكل على الله، ويذكر حديث الصلح بين أبناء العمومة والخئولة من بني تغلب، منها قوله: رفعت بضبعي تغلب بنة وائل ... وقد يئست أن يستقلّ صريعها فكنت أمين الله مولى حياتها ... ومولاك فتح يوم ذاك شفيعها تألّفتهم من بعد ما شرّدت بهم ... حفائظ أخلاق بطيء رجوعها فأبصر غاويها المحجّة فاهتدى ... وأقصر غاليها ودانى شسوعها وموضع الاستشهاد قوله: «تألّفتهم من بعد ما شردت بهم» فتثقيل تألّفتهم وشردت بهم أمر يستوجبه المقام، لأنه مقام الإصلاح وإعادة المياه الى مجاريها بين أبناء العمومة والخئولة. وحسبنا ما تقدم الآن. وسيرد له ما يدعمه ويظهر مكان حسنه في مكان آخر. [سورة الأعراف (7) : الآيات 21 الى 22] وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 اللغة: (وَقاسَمَهُما) : أقسم لهما، والمفاعلة هنا ليست على بابها بل للمبالغة، ويجوز أن تبقى على باب المفاعلة كما قرر الزمخشري، كأنه قال أقسم لكما أني لمن الناصحين، وقالا له: أتقسم بالله أنك لمن الناصحين؟ فجعل ذلك مقاسمة بينهم. (فَدَلَّاهُما) التدلية والإدلاء: إرسال الشيء من الأعلى الى الأسفل. وقال الأزهري: وأصله أن الرجل العطشان يتدلى في البئر ليأخذ الماء، فلا يجد فيها ماء، فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا مطمع فيه، ولا فائدة منه. قال الفرزدق: هما دلّتاني من ثمانين قامة ... كما انقض باز أقتم الريش كاسره (بِغُرُورٍ) الغرور: إظهار النصح وإبطان الغش. وغرّه غرّا وغرّة وغرورا: أي خدعه وأطمعه بالباطل. وفي أمثالهم: «أفرّ من ظبي مقمر» لأنه يخرج في الليلة المقمرة، يرى أنه النهار، فتأكله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 السباع، ولم يزل يطلب غرّته حتى صادفها، وأصاب منه غرّة فبطش به. وما غرّك به؟ كيف اجترأت عليه. و «ما غرّك بربك الكريم» ؟ وأنا غريرك من هذا الأمر: أي إن سألتني على غرّة أجبك به، لاستحكام علمي بحقيقته. وهو على غرارة: أي على خطر، وقال النمر بن تولب: تصابى وأمسى علاه الكبر ... وأمسى لجمرة حبل غرر أي: غير موثوق به. ورضى أعرابي عن امرأة فقال: هي الغرّاء بنت المخضبة. شبهها بالزبدة. ويقال للسوق درّة غرار: أي نفاق وكساد. و «لا غرار في الصلاة» وأصله: غارّت الناقة غرارا إذا نقص لبنها. وفلان مغار الكف للبخيل. ومنه: ما أذوق النوم إلا غرارا. وهذه المادة عجيبة في تنوع معانيها وتساوقها، في حين تئول كلها الى أصل واحد. (طَفِقا) : من أفعال الشروع، وسيأتي الحديث عنها في باب الفوائد. (يَخْصِفانِ) : في المختار: «خصف النعل خصفا: خرزها. وقوله تعالى: «وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة» : أي يلزقان بعضه ببعض ليسترا به عورتهما» . وفي المصباح: «خصف الرجل نعله خصفا من باب ضرب فهو خصّاف، وهو فيه كرقع الثوب» . الإعراب: (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) الواو استئنافية، وقاسمهما فعل وفاعل مستتر، والهاء مفعول به، والميم والألف حرفان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 دالان على التثنية، والجملة مستأنفة، وجملة إن وما في حيزها مفسرة، لما تنطوي عليه المقاسمة، وإن واسمها، ولكما جار ومجرور متعلقان بالناصحين، ونصح فعل يتعدى تارة بنفسه وتارة بحرف الجر، وقال الفراء: «العرب لا تكاد تقول نصحتك، وإنما يقولون: نصحت لك، وأنصح لك، وقد يجوز نصحتك» . واللام هي المزحلقة، ومن الناصحين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر إن (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) الفاء عاطفة، ودلاهما فعل وفاعل مستتر ومفعول به، وبغرور جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، أي مصاحبين للغرور، فالفاء للمصاحبة، ويجوز أن يتعلقا بدلاهما، فتكون لمجرد السببية، أي: دلاهما بسبب غروره إياهما (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) الفاء عاطفة، ولما حينية ظرفية، أو حرف لمجرد الربط، وذاقا الشجرة فعل وفاعل ومفعول به وجملة ذاقا في محل جر بالإضافة، وجملة بدت لهما لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، ولهما جار ومجرور متعلقان ببدت، وسوءاتهما: فاعل بدت (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) الواو حرف عطف، وطفقا من أفعال الشروع، وسيأتي حكمها، والألف اسمها، وجملة يخصفان خبرها، وعليهما: جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، ومن ورق الجنة جار ومجرور متعلقان بيخصفان، والجنة مضاف إليه (وَناداهُما رَبُّهُما: أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) الواو عاطفة، وناداهما ربهما فعل ومفعول به وفاعل، وجملة ألم أنهكما مفسرة لا محل لها، والهمزة للاستفهام، وتفيد العتاب والتقريع على الخطأ، حيث لم يتحوّطا ويعتصما بالحذر مما حذرهما الله منه، وعن تلكما جار ومجرور متعلقان بأنهكما، والشجرة بدل من اسم الاشارة (وَأَقُلْ لَكُما: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) الواو حرف عطف، وأقل فعل مضارع معطوف على الفعل المجزوم بلم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 وإن واسمها، ولكما جار ومجرور متعلقان بعدو أو بمحذوف حال، لأنه كان في الأصل صفة لعدو، وتقدم عليه، ومبين صفة لعدو، وجملة إن وما في حيزها في محل نصب مقول القول. الفوائد: أفعال المقاربة: يطلق النحاة على الأفعال التي تعمل عمل كان وأخواتها اسم أفعال المقاربة، من إطلاق الجزء على الكل، وحقيقة الأمر في ذلك أن هذه الأفعال ثلاثة أنواع: 1- ما وضع للدلالة على قرب الخبر المسمى باسمها، وهو ثلاثة أنواع: كاد وكرب وأوشك. 2- ما وضع للدلالة على رجائه، وهو ثلاثة أنواع: عسى وحرى واخلولق. 3- ما وضع للدلالة على الشروع فيه، وهو كثير، وقد أنهى أفعاله بعضهم الى نيف وعشرين فعلا، وأشهرها: أنشأ وطفق وطبق- بكسر الباء- وجعل وعلق وهلهل وقام وابتدأ. شرط الخبر لهذه الأفعال: ويجب أن يكون خبر هذه الأفعال جملة، وشذّ مجيئه مفردا بعد كاد وعسى كقول تأبط شرّا: فأبت الى فهم وما كدت آئبا ... وكم مثلها فارقتها وهي تصفر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 وقولهم في المثل: «عسى الغوير أبؤسا» ، وقد قالته الزّبّاء، والغوير اسم موضع بعينه، وأوله بعضهم بأنه خبر «يكون» محذوفة، وقال الأصمعي: خبر «يصير» محذوفة، واختار ابن هشام أن يكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف، نحو: «فطفق مسحا» ، أي: يمسح مسحا. وشرط الفعل أن يكون رافعا لضمير الاسم. فأما قول أبي حية النّميريّ: وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني ... ثوبي فأنهض نهض الشّارب الثّمل وقول ذي الرّمّة: وأسقيه حتّى كاد ممّا أبثّه ... تكلّمني أحجاره وملاعبه ف «ثوبي» في البيت الأول، و «أحجاره» في البيت الثاني بدلان من اسمي جعل وكاد، بدل اشتمال لا فاعلان ليثقلني وتكلمني، بل فاعلهما ضمير مستتر، والتقدير: جعل ثوبي يثقلني، وكادت أحجارة تكلمني، فعاد الضمير على البدل دون المبدل منه. وأن يكون فعلا مضارعا، وأن يكون مقرونا ب «أن» إن كان دالا على الترجّي، وأن يكون مجردا منها إن كان دالا على الشروع. والغالب في خبر عسى وأوشك الاقتران بها، كقوله تعالى: «عسى ربكم أن يرحمكم» وقوله: ولو سئل الناس التراب لأوشكوا ... إذا قيل: هاتوا أن يملّوا ويمنعوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 والتجرد من «أن» قليل، كقول هدبة: عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب وقول أمية بن أبي الصلت: يوشك من فرّ من منيّته ... في بعض غرّاته يوافقها وكاد وكرب بالعكس، فمن الغالب قوله تعالى: «وما كادوا يفعلون» ، وقول كلحبة اليربوعي: كرب القلب من جواه يذوب ... حين قال الوشاة: هند غضوب ومن القليل قوله: كادت النفس أن تفيض عليه ... مذ غدا حشو ربطة وبرود تنبيه: هذه الأفعال ملازمة لصيغة الماضي إلا أربعة استعمل لها مضارع، وهو كاد، نحو: «يكاد زيتها يضيء» ، وأوشك، نحو: يوشك من فر من منيته ... في بعض غرّاته يوافقها وطفق يطفق، وجعل. واستعمل اسم فاعل لثلاثة، وهي: كاد وعليه قول كثير بن عبد الرحمن: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 أموت أسى يوم الرجاء وإنني ... يقينا لرهن بالذي أنا كائد وكرب، قال عبد قيس بن خفاف بن ندبة: أبنيّ إنّ أباك كارب يومه ... فإذا دعيت الى المكارم فاعجل وأوشك نحو قول كثير بن عبد الرحمن: فإنّك موشك أن لا تراها ... وتعدو دون غافره العوادي [سورة الأعراف (7) : الآيات 23 الى 27] قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 اللغة: (رِيشاً) الريش: لباس الزينة، استعير من لباس الطائر لأنه لباسه وزينته. وفيه قولان: 1- أنه اسم لهذا الشيء المعروف. 2- أنه مصدر، يقال: راشه يريشه ريشا إذا جعل فيه الريش. فينبغي أن يكون الريش مشتركا بين المصدر والعين. ومن المجاز رشت فلانا: قويت جناحه بالإحسان إليه، فارتاش وتريّش. قال: فرشني بخير طال ما قد بريتني ... فخير الموالي من يريش ولا يبري وقال النابغة: كم قد أحلّ بدار الفقر بعد غنى ... قوما وقد راش قوما بعد إقتار يريش قوما ويربي آخرين بهم ... لله من رائش عمرو ومن بار وقال جرير: فريشي منكم وهواي معكم ... وإن كانت زيارتكم لماما «ولعن الله الراشي والمرتشي والرائش» وهو المتوسط الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 يريش هذا من مال هذا، وفلان له رياش: لباس وحسن حال وشارة. وأجاز النعمان النابغة بمائة من عصافيره بريشها: أي برجالها. وقيل: كانت الملوك يجعلون في أسنمتها ريشا ليعلم أنها حباء ملك. ومن المجاز اللطيف قولهم: أخفّ من ريشة، يراد خفة اللحم وقلته من الهزال. فما أعجب هذه المادة! (قَبِيلُهُ) القبيل الجماعة يكونون من ثلاثة فصاعدا، من جماعة شتى. هذا قول أبي عبيدة. والقبيل: الجماعة من أب واحد، فليست القبيلة تأنيث القبيل لهذه المغايرة. وفي المصباح: «والقبيل: الجماعة ثلاثة فصاعدا من قوم شتى، والجمع قبل بضمتين، والقبيلة لغة فيها، وقبائل الرأس: القطع المتصل بعضها ببعض، وبها سمّيت قبائل العرب، الواحدة قبيلة، وهم بنو أب واحد» . الإعراب: (قالا: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) جملة القول مستأنفة، مسوقة للإخبار عن اعتراف آدم وحواء على أنفسهما بالذنب وشعورهما بالندم. وقالا فعل وفاعل، وربنا منادى محذوف منه حرف النداء، وظلمنا: فعل وفاعل، وأنفسنا مفعول به، والجملة نصب على أنها مقول للقول (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الواو عاطفة، وإن شرطية، ولم حرف نفي وقلب وجزم، وتغفر فعل الشرط، ولنا جار ومجرور متعلقان بتغفر، وترحمنا عطف على تغفر، ولنكونن: اللام جواب للقسم المقدر، ونكونن فعل مضارع ناقص مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، واسمها مستتر تقديره نحن، ومن الخاسرين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها، وجملة وتكونن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 جواب للقسم، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، والتقدير: ولئن لم تغفر لنا وترحمنا. ويجوز العكس، فلا داعي لتقدير القسم، وتكون اللام موطئة للقسم (قالَ: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) جملة القول مستأنفة، مسوقة للبت فيما جرى في صفحة المقدور. وجملة اهبطوا في محل نصب مقول القول، وبعضكم مبتدأ، ولبعض جار ومجرور متعلقان بعدوّ، أو حال منه لأنه كان صفة وتقدمت عليه، وعدو خبر، والجملة الاسمية حال من الواو في اهبطوا (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) الواو عاطفة، ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بمستقر، ومتاع عطف على مستقر، والى حين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمتاع، أي: ممتد الى حين (قالَ: فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) جملة القول مستأنفة، وكرر الاستئناف للاعتناء بمضمون ما بعده من الحياة البشرية. وفيها جار ومجرور متعلقان بتحيون، وما بعده عطف عليه، والجملة كلها مقول قوله تعالى (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) جملة مستأنفة مسوقة لتذكير أبناء آدم ببعض النعم. ويا حرف نداء، وبني آدم منادى مضاف، وقد حرف تحقيق، وأنزلنا فعل وفاعل، وعليكم جار ومجرور متعلقان بأنزلنا، ولباسا مفعول به، وجملة يواري سوءاتكم صفة ل «لباسا» وريشا عطف على قوله لباسا (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) الواو استئنافية أو حالية، ولباس مبتدأ، والتقوى مضاف إليه، وذلك اسم اشارة مبتدأ ثان، وخير خبر ذلك، والرابط هو اسم الإشارة، لأن أسماء الاشارة تقرب من الضمائر، وسيأتي تفصيل الروابط في باب الفوائد، وجملة ذلك خير خبر «لباس» ، (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) الجملة مستأنفة لتأكيد ما تقدم. وذلك مبتدأ، ومن آيات الله جار ومجرور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 متعلقان بمحذوف خبر، ولعل واسمها، وجملة يذكرون خبرها، وجملة الرجاء حالية (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) كلام مستأنف لمخاطبة بني آدم وتحذيرهم، ولا الناهية، ويفتننكم فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم بلا، والكاف مفعول به، والشيطان فاعل (كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) كما نعت لمصدر محذوف، أي: لا يفتننّكم فتنة مثل إخراج أبويكم من الجنة، وأبويكم مفعول، ومن الجنة جار ومجرور متعلقان بأخرج (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) الجملة حالية من الضمير في «أخرج» العائد على الشيطان، أو من الأبوين، وعنهما جار ومجرور متعلقان بينزع، ولباسهما مفعول به، وليريهما: اللام للتعليل، ويريهما فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام، والجار والمجرور متعلقان بينزع، وسوءاتهما مفعول به (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) الجملة تعليلية لا محل لها مسوقة لتعليل النهي، والتحذير من فتنة الشيطان. وإن واسمها، وجملة يراكم خبرها، و «هو» تأكيد للضمير المرفوع، في «يراكم» ، وقبيله عطف على الضمير المرفوع، أو «هو» مبتدأ خبره محذوف دل عليه سياق الكلام (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) من حيث جار ومجرور متعلقان بيراكم، وجملة لا ترونهم في محل جر بالإضافة (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) الجملة تعليل لما تقدم، وإن واسمها، وجملة جعلنا خبرها، والشياطين مفعول به أول، وأولياء مفعول به ثان، وللذين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لأولياء، وجملة لا يؤمنون صلة الموصول. البلاغة: 1- الالتفات: في قوله تعالى: «ولباس التقوى ذلك خير» ، وقد تقدم بحث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 هذا الفنّ، فإنه سبحانه لما امتنّ على البشر بما أنزل عليهم من اللباس المواري سوءاتهم بعد سياق قصة خروج أبيهم آدم من الجنة، وأراد تذكيرهم وتحريضهم على التقوى قال قبل تمام الامتنان: «ولباس التقوى ذلك خير» . وكان يمكن في هذه الآية ما أمكن في الآية التي قبلها من تأخير الجملة، بحيث يقال: قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ذلك من آيات الله، ولباس التقوى ذلك خير. وإنما جنح الى تأخير ما كان يجوز تقديمه ليحصل في نظم الكلام نوع من المحاسن يقال له: التعطّف، وذلك مجيء الكلام مستهلا بذكر اللباس كما استهلّه في أوله، وتفاديا من أن يفصل بين لآيات التي يلائم بعضها بعضا بألفاظ من غير جنسها ليوصف الكلام بالائتلاف، وهذا يسميه قدامة الالتفات، وغيره يرى الالتفات غير ذلك، كابن المعتز وأضرابه. وقد جرينا على رأي ابن المعتز فيما قدمناه في مكان آخر من أول الكتاب. تعريف قدامة للالتفات: أما تعريف قدامة للالتفات فهو كما جاء في كتابه «نقد الشعر» أن يكون المتكلم آخذا في معنى فيعترضه إما شك فيه أو ظنّ أن رادا ردّه عليه، أو سائلا سأله عنه أو عن سببه، فيلتفت قبل فراغه من التعبير عنه، فإما أن يجلّي شكه أو يؤكده ويقرره ويذكر سببه. والذي نراه أن هذا أشبه بالاعتراض، وأولى أن يندرج في سلكه. وهناك التفات آخر في قوله «لعلهم يذكرون» فقد التفت عن الخطاب الى الغيبة وكان مقتضى المقام: لعلكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 2- الاستعارة: في قوله «لباس التقوى» وقد تقدمت الإشارة إليها، ومثلها كثير الوقوع في كلام الشعراء، ومنه: إذا المرء لم يلبس لباسا من التقى ... تقلّب عريانا وإن كان كاسيا وقول الآخر: تغطّ بأثواب السّخاء فإنني ... أرى كلّ عيب والسّخاء غطاؤه والاستعارة في الريش، والريش لباس الزينة استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته. أي: أنزلنا عليكم لباسين لباسا يواري سوءاتكم ولباسا يزينكم، لأن الزينة غرض صحيح. 3- الطباق: بين قوله «تحيون» وقوله «تموتون» . 4- التشبيه التمثيلي: في تمثيل فتنة الشيطان لهم بقصة آدم وحواء حين أخرجهما الشيطان بأحابيله من الجنة، وجاء بالمضارع في قوله: «ينزع عنهما لباسهما» لاستحضار الصورة التي وقعت في أوغل العصور وتجسيدها أمام السامع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 الفوائد: روابط الخبر الجملة: يشترط في الجملة الواقعة خبرا أن تكون مشتملة على رابط يربطها بالمبتدأ، والروابط أربعة: آ- الضمير البارز، نحو: الظلم مرتعه وخيم، أو المستتر نحو: «الحق يعلو» . ب- الإشارة إليه، نحو: «ولباس التقوى ذلك خير» . ج- إعادة المبتدأ بلفظه، نحو: «الحاقّة ما الحاقّة» ، وقول كعب: أخي ما أخي لا فاحش عند بيته ... ولا ورع عند اللقاء هيوب د- العموم، نحو: زيد نعم الرجل، فزيد مبتدأ، وجملة نعم خبره، والرابط بينهما العموم. ومنه قول ابن ميّادة: ألا ليت شعري هل الى أمّ معمر ... سهيل فأمّا الصّبر عنها فلا صبرا فالصبر مبتدأ، وعنها جار ومجرور متعلقان به، ولا نافية للجنس، وصبرا اسمها مبني على الفتح، والخبر محذوف تقديره «لي» ، وجملة لا صبر لي خبر المبتدأ، والرابط بينهما العموم الذي في اسم «لا» لأن النكرة في سياق النفي تفيد العموم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 وقد لا تحتاج الجملة الى رابط: هذا وقد تكون الجملة الواقعة خبرا نفس المبتدأ في المعنى. فلا تحتاج الى رابط، لأنها ليست أجنبية عنه، كقوله تعالى: «قل هو الله أحد» ، ف «هو» ضمير الشأن مبتدأ، والجملة الاسمية بعده هي الخبر، لا تحتاج الى رابط لأنها عينه. [سورة الأعراف (7) : الآيات 28 الى 30] وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) الإعراب: (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا: وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا) الواو للاستئناف، ولعله أظهر، ويجوز أن تكون عاطفة على الصلة قبلها، وفيها على الحالين تأكيد على إصرارهم على الفاحشة، وإذا ظرف مستقبل متضمن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 معنى الشرط، متعلق بالجواب وهو قالوا، وجملة فعلوا في محل جر بالإضافة، وفاحشة مفعول به، وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وجملة وجدنا عليها آباءنا في محل نصب مقول القول (وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها) والله الواو عاطفة، والله مبتدأ، وجملة أمرنا بها خبر، والجملة معطوفة على الجملة المتقدمة، داخلة في حيّز القول، أي: وقالوا: الله أمرنا بها (قُلْ: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) جملة القول مستأنفة مسوقة لردّ قولهم، وإن التقليد ليس حجة، وجملة إن وما في حيزها نصب مقول القول، وإن واسمها، وجملة لا يأمر خبرها، وبالفحشاء جار ومجرور متعلقان بيأمر، والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي، وتقولون فعل مضارع مرفوع، وعلى الله جار ومجرور متعلقان بتقولون، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة لا تعلمون صلة (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) كلام مستأنف مسوق لبيان ما أمر الله به حقيقة، وجملة أمر ربي في محل نصب مقول القول، وبالقسط جار ومجرور متعلقان بأمر، وأقيموا الواو عاطفة، وأقيموا فعل أمر معطوف على الأمر المقدر الذي ينحلّ اليه المصدر، وهو القسط، على حد قول ميسون: ولبس عباءة وتقرّ عيني ... أحبّ إليّ من لبس الشّفوف كأنه قال: أقسطوا وأقيموا، تفاديا لعطف الإنشاء على الخبر، وهو ضعيف. ووجوهكم مفعول به لأقيموا، وعند ظرف مكان متعلق بأقيموا، وكل مسجد مضاف إليه (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) عطف على ما تقدم، وادعوه فعل أمر وفاعل ومفعول به، ومخلصين حال، وله جار ومجرور متعلقان بمخلصين، والدين مفعول لمخلصين لأنه اسم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 فاعل (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) كما نعت لمصدر محذوف تقديره: تعودون عودا مثلما بدأكم، وجملة بدأكم لا محل لها لوقوعها بعد موصول حرفي (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) فريقا مفعول به مقدم لهدى، وفريقا الثاني منصوب بإضمار فعل يفسره قوله: حق عليهم الضلالة، من حيث المعنى والتقدير، وأضلّ فريقا حق عليهم، وقدره الزمخشري: وخذل فريقا، هادفا الى تأييد مذهبه الاعتزالي. والجملة الفعلية والجملة المعطوفة عليها في محل نصب على الحال من فاعل بدأكم، أي: بدأكم حال كونه هاديا فريقا ومضلا فريقا، أو تكون الجملتان مستأنفتين، ومن التكلف إعراب «فريقا» حالا كما ورد لبعض المعربين، وجملة حق عليهم الضلالة صفة ل «فريقا» (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) الجملة تعليلية لا محل لها، وإن واسمها، وجملة اتخذوا الشياطين خبر، والشياطين مفعول به أول لاتخذوا، وأولياء مفعوله الثاني، ومن دون الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، والواو عاطفة أو حالية، وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يحسبون، ومهتدون خبر أنهم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 31 الى 32] يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 الإعراب: (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) كلام مستأنف مسوق لخطاب العرب وحملهم على الإقلاع عن التشدد وحرمان أنفسهم من الزينة. ويا حرف نداء، وبني منادى مضاف، وخذوا فعل أمر مبني على حذف النون، وزينتكم مفعول به، وعند كل مسجد الظرف متعلق بخذوا (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) عطف على خذوا، ولا ناهية، وتسرفوا فعل مضارع مجزوم بلا، وإن واسمها، وجملة لا يحب المسرفين خبرها، والجملة تعليلية لا محل لها (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) جملة القول مستأنفة مسوقة لتأكيد الإباحة والاستمتاع بالزينة، والأكل والشرب، مع عدم الإسراف. ومن اسم استفهام للإنكار، مبتدأ، وجملة حرم زينة الله خبر من، والجملة الاستفهامية في محل نصب مقول القول، والطيبات عطف على زينة، ومن الرزق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وخالصة حال ثانية، ويوم القيامة ظرف متعلق بخالصة (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) تقدمت أعاريب مماثلة لهذه الجملة. الفوائد: قال ابن عباس: كان العرب يطوفون بالبيت عراة، الرجال بالنهار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 والنساء بالليل، يقولون: لا نطوف بثياب عصينا الله فيها، فنزلت. ويحكى أن الرشيد كان له طبيب نصرانيّ حاذق، فقال لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطبّ شيء؟ فقال له: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه. قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: «كلوا واشربوا ولا تسرفوا» ، فقال الطبيب: ولا يؤثر عن رسولكم شيء في الطبّ؟ فقال: قد جمع رسولنا الطب في ألفاظ يسيرة. قال: وما هي؟ قال: قوله: «المعدة بيت الداء، والحمية رأس كل دواء» . فقال الطبيب: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا. [سورة الأعراف (7) : الآيات 33 الى 34] قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) اللغة: (أجل) الأجل بفتحتين: مدة العمر من أولها الى آخرها. وأعاد ذكره بقوله: «فإذا جاء أجلهم» للاشارة الى آخر المدة. وفي المصباح: «أجل الشيء مدته ووقته الذي يحل فيه، وهو مصدر أجل الشيء إجلالا من باب تعب، وأجل أجولا من باب قعد لغة، وأجّلته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 تأجيلا: جعلت له أجلا، وجمع الأجل آجال، مثل سبب وأسباب» . ومن أقوالهم: ابن آدم قصير الأجل، طويل الأمل، يؤثر العاجل ويذر الآجل. ومن أقوالهم أيضا: «أجلن عيون الآجال، فأصبن النفوس بالآجال» . الإعراب: (قُلْ: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) كلام مستأنف مسوق لخطاب الذين يحرمون ويحللون، إن الله لم يحرّم ما تحرمونه من أجله وإنما حرم الفواحش. وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت، وإنما كافة ومكفوفة، وجملة حرم ربي الفواحش مقول القول، وما اسم موصول في محل نصب بدل من الفواحش، وجملة ظهر صلة، ومنها جار ومجرور متعلقان بظهر، وما بطن عطف على ما ظهر (وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) من عطف الخاص على العام، للاعتناء به. وبغير الحق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أو بالبغي لأنه مصدر (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) المصدر المؤول من أن وما في حيزها عطف أيضا، وبالله جار ومجرور متعلقان بتشركوا، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة لم ينزل صلة. وبه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وسلطانا مفعول به لينزل (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) عطف أيضا، وعلى الله جار ومجرور متعلقان بتقولوا، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة لا تعلمون صلة الموصول (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) كلام مستأنف مسوق للدلالة على أن الآجال مكتوبة، والأعمار محسوبة، لئلا يغتر الإنسان أفاويق اللذات وتعاجيبها الخلوب. ولكل جار ومجرور متعلقان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 بمحذوف خبر مقدم، وأمة مضاف اليه، وأجل مبتدأ مؤخر (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) الفاء استئنافية، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط، وجملة جاء أجلهم في محل جر بالإضافة، وجملة لا يستأخرون لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، والمضارع المنفي بلا إذا وقع جوابا لإذا جاز أن يقترن بالفاء، وأن لا يقترن بها. وساعة ظرف زمان متعلق بيستأخرون، وهي أقل الأوقات في حساب الناس، يقول المستعجل: أفي ساعة تريد ذلك؟ يريد غاية القلة في الزمان. ولا يستقدمون عطف على قوله: لا يستأخرون، أو الواو استئنافية، كما ترى في باب الفوائد. الفوائد: وفيما يلي خلاصة لأقوال الأئمة حول هذا الكلام: رأي الواحدي: قال الواحدي بعد كلام طويل: إن قيل ما معنى هذا مع استحالة التقدم على الأجل وقت حضوره؟ قيل: هذا مبني على المقاربة، تقول: إذا جاء الشتاء إذا قرب وقته، ومع مقاربة الأجل يتصور التقدم، وإن كان لا يتصور مع الانقضاء، والمعنى لا يستأخرون عن آجالهم إذا انقضت، ولا يستقدمون عليها إذا قاربت الانقضاء. وهذا بناء على أنه معطوف على قوله: لا يستأخرون. رأي الكرخي: وقال الكرخي: «قوله: ولا يستقدمون معطوف على الجملة الشرطية لا على جواب الشرط، لأن إذا الشرطية لا يترتب عليها إلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 المستقبل، أي: فلا يترتب على مجيء الأجل إلا مستقبل، أو لاستقدام سابق، فالوجه انقطاع «لا يستقدمون» عن الجواب استئنافا، كما حققه التفتازاني. رأي البيضاوي: وحاصل كلام القاضي البيضاوي أن هذا بمنزلة المثل، أي: لا يقصد من مجموع الكلام إلا أن الوقت لا يتغير ولا يتبدل، وهو نظير قولهم: الرمان حلو حامض، يعني فالجزاء مجموع الأمرين لا كل واحد على حدته. وهذا كلام لطيف من البيضاوي، ولعل فيه حسما للخلاف. [سورة الأعراف (7) : الآيات 35 الى 37] يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 الإعراب: (يا بَنِي آدَمَ) تقدم إعرابها كثيرا (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) الكلام مستأنف مسوق لبيان مسألة إرسال الرسل، وإن شرطية أدغمت في «ما» المزيدة المؤكدة لمعنى الشرط، ولذلك لزمت فعلها النون الثقيلة أو الخفيفة، ويأتينكم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ورسل فاعل، ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لرسل، وجعل الرسل منهم أقطع للحجة، وأبعد عن العذر (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) الجملة صفة لرسل أيضا، وعليكم جار ومجرور متعلقان بيقصون، وآياتي مفعول به (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) هذه الجملة الشرطية جواب للشرط السابق، والفاء رابطة، ومن اسم شرط مبتدأ، والفاء في قوله: فلا خوف، رابطة، وقد تقدم إعراب ما بعد ذلك كثيرا (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) الواو عاطفة، والذين اسم موصول مبتدأ، وجملة كذبوا بآياتنا صلة، واستكبروا عنها معطوفة، وأولئك مبتدأ، وأصحاب النار خبره، والجملة خبر الذين، والرابط اسم الاشارة كما تقدم، وهم مبتدأ، وفيها جار ومجرور متعلقان بالخبر «خالدون» ، والجملة حالية أو خبر ثان للذين (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) الفاء استئنافية، ومن اسم استفهام معناه النفي، أي: لا أحد أظلم، وأظلم خبر «من» ، وممن جار ومجرور متعلقان بأظلم، وجملة افترى لا محل لها لأنها صلة الموصول، وعلى الله جار ومجرور متعلقان بافترى، وكذبا مفعول به، أو مفعول مطلق، وجملة كذب بآياته عطف على جملة افترى (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) اسم الاشارة مبتدأ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 وجملة ينالهم خبر، ونصيبهم فاعل ينالهم، ومن الكتاب جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) حتى حرف غاية وجر أو ابتدائية، وقد تقدم الكلام عن هذا التعبير فجدد به عهدا، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط، وجملة جاءتهم رسلنا في محل جر بالإضافة، وجملة يتوفونهم حال من رسلنا، أي: متوفية إياهم (قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) جملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وأين اسم استفهام في محل نصب على الظرفية المكانية، وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم، وما اسم موصول في محل رفع مبتدأ مؤخر، وجملة الاستفهام في موضع نصب مقول القول، وجملة كنتم صلة الموصول، والتاء اسم كان، وجملة تدعون خبرها، ومن دون الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، أو متعلقان بتدعون (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) الجملة جواب لسؤال مقدر، كأنه قيل: ما فعل معبودكم ومن كنتم تدعونه؟ فأجابوا بأنهم ضلوا. وجملة ضلوا مقول القول، وجملة شهدوا معطوفة على جملة قالوا، أو مستأنفة، وعلى أنفسهم جار ومجرور متعلقان بشهدوا، وأن وما في حيزها في موضع نصب بنزع الخافض، والجار والمجرور متعلقان بشهدوا، وجملة كانوا كافرين خبر «أن» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 [سورة الأعراف (7) : الآيات 38 الى 41] قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) اللغة: (ادَّارَكُوا) : أي: تداركوا، بمعنى تلاحقوا في النار، وأصله تداركوا، فأدغمت التاء في الدال بعد قلبها دالا وتسكينها ثم اجتلبت همزة الوصل، وسيأتي في باب الفوائد كيفية ذلك. (أخراهم وأولاهم) : يحتمل أن تكون «فعلى» أنثى «أفعل» الدال على المفاضلة، والمعنى على هذا أخراهم منزلة، وهم الأتباع والسفلة، لأولاهم منزلة، وهم القادة والسادة والرؤساء. ويحتمل أن تكون «أخرى» بمعنى آخرة، تأنيث «آخر» ، مقابل «أول» ، لا تأنيث «آخر» الذي للمفاضلة، ومنها قوله تعالى: «ولا تزر وازرة وزر أخرى» . ولعلها الأظهر في الآية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 (الضِّعْفِ) : قال أبو عبيدة الضعف مثل الشيء مرة واحدة، وقال الأزهري: هو ما يستعمله الناس في مجاري كلامهم. والضعف في كلام العرب: المثل الى ما زاد، ولا يقتصر به على مثلين، بل تقول: هذا ضعفه أي: مثلاه وثلاثة أمثاله، لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة، ألا ترى الى قوله تعالى: «فأولئك لهم جزاء الضعف» ، لم يرد به مثلا ولا مثلين، وأولى الأشياء به أن يجعل عشرة أمثاله، كقوله تعالى: «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها» فأقلّ الضعف محصور وهو المثل، وأكثره غير محصور. وفي القاموس: «وضعف الشيء بالكسر مثله، وضعفاه مثلاه، والضعف المثل الى ما زاد، ويقال: لك ضعفه، يريدون مثليه، وثلاثة أمثاله، لأنه زيادة غير محصورة» . (يَلِجَ) : في المصباح: «ولج الشيء في غيره يلج، من باب وعد، ولوجا، وأولجته إيلاجا أدخلته» . (سَمِّ) السم: بتثليث السين، وفي المصباح: «السم ما يقتل، بالفتح في الأكثر، وجمعه سموم وسمام مثل: فليس وفلوس، وسمام أيضا، مثل: سهم وسهام. والضم لغة لأهل العالية، والكسر لغة لبني تميم ... والسم: ثقب الإبرة، وفيه اللغات الثلاث، وجمعه سمام» . وهو المراد في الآية، ولكن السبعة على الفتح، وقرئ شاذا بالكسر والضم. وسم الإبرة مثل في ضيق المسلك، يقال: أضيق من خرت الإبرة، وقالوا للدليل الماهر: خرّيت، للاهتداء به في المضايق المشبهة بأخرات الإبر، والجمل مثل في عظم الجرم، قال حسان ابن ثابت: لا بأس في القوم من طول ومن عظم ... جسم البغال وأحلام العصافير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 أي: لا بأس ولا ضرر يعتري هؤلاء من جهة الطول والغلظ. وفيه تهكم بهم، فأجسامهم كأجسام البغال، وعقولهم كعقل العصافير، ان كان لها عقول، يعني أنهم لا عقل لهم. (غَواشٍ) : جمع غاشية، وهي الغطاء. الإعراب: (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) الكلام مستأنف لحكاية قول الله لهم يوم القيامة. وقال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو، وجملة ادخلوا في محل نصب مقول القول، وفي أمم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، أي كائنين في جملة أمم، وفي غمارهم مصاحبين لهم، وقيل: هما متعلقان بادخلوا، والمعنى في جملة أمم، وجملة قد خلت صفة لأمم، ومن قبلكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ثانية، ومن الجن والإنس جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ثالثة، وفي النار جار ومجرور بدل من قوله: «في أمم» ، والظروف مجاز، وسيأتي الحديث عنها. وقال أبو حيان: وفي النار جار ومجرور متعلقان ب «خلت» ، على أن المعنى تقدم دخولها، أو بمحذوف صفة الأمم، أي في أمم سابقة في الزمان كائنة من الجن والإنس، كائنة في النار، وأطال أبو حيان فيما لا طائل تحته (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) كلما ظرف زمان متضمن معنى الشرط، وجملة دخلت أمة في محل جر بالإضافة أو لا محل لها إذا اعتبرنا «ما» موصولا حرفيا، وجملة لعنت أختها لا محلّ لها لأنها جواب شرط غير جازم والجملة الظرفية من تتمة مقول القول (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) حتى حرف غاية وجر، أو ابتدائية، وإذا ظرف مستقبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب، أي: بقالت الآتية، وجملة اداركوا في محل جر بالإضافة، وفيها جار ومجرور متعلقان باداركوا، وجميعا حال (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) الجملة لا محل لها لأنها جواب إذا، ولأولاهم اللام حرف جر للتعليل أي: لأجلهم، أو للتبليغ، والجار والمجرور متعلقان بقالت (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) ربنا منادى مضاف حذف منه حرف النداء، واسم الاشارة مبتدأ، وجملة أضلونا خبره، وجملة ربنا هؤلاء في محل نصب مقول القول فآتهم الفاء الفصيحة، وآتهم فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، والهاء مفعول به، وعذابا مفعول به ثان، وضعفا صفة ل «عذابا» ، من النار جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ثانية (قالَ: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) جملة القول مستأنفة، ولكل جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وضعف مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول قوله تعالى، ولكن الواو حالية، أو استئنافية، ولكن حرف استدراك مهمل، ولا نافية، وتعلمون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) عطف على ما تقدم، والفاء عاطفة، عطفت ما بعدها من الكلام على قول الله تعالى للسفلة: لكل ضعف، فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا. وما نافية، وكان فعل ماض ناقص، ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كان الناقصة، ومن حرف جر زائد، وفضل مجرور لفظا اسم كان محلا، وعلينا جار ومجرور، أي: إنا وإياكم سيان في الضلال واستحقاق العذاب (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) الفاء الفصيحة، أي: إذا تبين لكم وعلمتموه ثم أصررتم على موقفكم المغاير فذوقوا، والعذاب مفعوله، وبما الباء سببية جارّة، وما مصدرية، أي بسبب كسبكم، وجملة تكسبون خبر كنتم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) كلام مستأنف مسوق لتأكيد مصير الكافرين، وإن واسمها، وجملة كذبوا بآياتنا صلة الموصول لا محل لها، وجملة استكبروا عطف على جملة كفروا، وعنها جار ومجرور متعلقان باستكبروا، وجملة لا تفتح خبر إن، ولهم جار ومجرور متعلقان بتفتح، وأبواب السماء نائب فاعل، (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) هذه الجملة معطوفة على جملة لا تفتح لهم، وحتى حرف غاية وجر، وفي سم الخياط جار ومجرور متعلقان بيلج (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) الواو استئنافية، وكذلك نعت لمصدر محذوف، أي: جزاء مثل ذلك، والمجرمين مفعول به (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) الجملة الاسمية تحتمل الحالية والاستئنافية، ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ومهاد مبتدأ مؤخر، ومن جهنم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، لأنه كان في الأصل صفة لجهنم (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) عطف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وغواش مبتدأ مؤخر، والضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، وسيأتي مزيد من الكلام عنه في باب الفوائد. البلاغة: في قوله تعالى: «حتى يلج الجمل سم الخياط» فن بلاغي يسمى المذهب الكلامي. ويقول ابن المعتز في كتابه البديع: إن الجاحظ سماه هذه التسمية، وعرفوه بأنه احتجاج المتكلم على ما يريد إثباته بحجة تفلّ سلاح المعاند المكابر، وتقطع بينته، على طريقة علماء الكلام. لأن علم الكلام عبارة عن إثبات أصول الدين بحجج عقلية وبراهين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 قاطعة تدحض اللجاج، ومنه نوع منطقي تستنتج فيه النتائج الصحيحة من المقدمات الصادقة. وفي الآية التي نحن بصددها وجه استنتاج النتيجة من المقدّمتين أن يقال: إن الكفار لا يدخلون الجنة أبدا حتى يلج الجمل في خرم الابرة، والجمل لا يدخل في خرم لإبرة أبدا، فهم لا يدخلون الجنة أبدا، لأن تعليق الشرط على مستحيل يلزم منه استحالة وقوع المشروط. وسيرد الكثير منه في القرآن الكريم. المذهب الكلامي في الشعر: وقد جاء هذا الفن في كثير من الشعر العربي، ولهم فيه روائع فمن ذلك قول أبي تمام: وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود والقطعة التالية لبهاء الدين زهير حافلة بضروب من هذا الفن، وتجتزئ بإيرادها: يا من أكابد فيه ما أكابده ... مولاي أصبر حتى يحكم الله سمّيت غيرك محبوبي مغالطة ... لمعشر فيك قد فاهوا بما فاهوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 أقول زيد، وزيد لست أعرفه ... وإنما هو لفظ أنت م عناه وكم ذكرت مسمّى لا اكتراث به ... حتى يجرّ إلى ذكراك ذ كراه أتيه فيك على العشاق كلهم ... قد عزّ من أنت يا مولاي مولاه والناس فينا ببعض القول قد لهجوا ... لو صحّ ما ذكروا ما كنت آباه كادت عيونهم بالبغض تنطق لي ... حتى كأنّ عيون الناس أفواه فإن جميع هذه العلل المذكورة ضمن هذه الأبيات علل حقيقية أصلية يسلم بها الخصم المعاند عند سماعها من غير مجادلة، ولا لجوء إلى اللجاج والمكابرة، وذلك لا يخفى على من له مسكة من ذوق. الفوائد: 1- إبدال التاء: في ادّكر: وجهان: أولهما: أن الأصل تداركوا، كما ذكرنا في باب اللغة. وما كانت فاؤه ثاء أو ذالا أو دالا أو زايا أو صادا أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 ضادا أو طاء أو ظاء مما هو على وزن تفاعل أو تفعّل أو تفعلل، بحيث تجتمع التاء وهذه الأحرف جاء فيه إبدال التاء حرفا من جنس ما بعدها مع إدغامها فيه، وذلك نحو: اثّاقل وادّكر وازّيّن واصتبر واضّرع واطّرب واظّلم، والأصل: تثاقل وتذكّر وتزيّن وتصبّر وتضرّع وتطرّب وتظلّم، فأبدلت التاء حرفا من جنس ما بعدها، ثم أسكن لإدغامه. فتعذر الابتداء بالساكن، فأتي بهمزة الوصل تخلصا من ذلك. وثانيهما أنه إذا أبدلت تاء افتعل الى حرف مجانس لما بعدها تلفظ في الوزن بأصل تاء الافتعال، ولا تلفظ بما صارت إليه من طاء أو دال، فنقول وزن اصطبر افتعل لا افطعل، ووزن ازدجر افتعل لا افدعل، فكذلك نقول هنا وزن ادّاركوا اتفاعلوا لا افّاعلوا، فلا فرق بين تاء الافتعال والتفاعل في ذلك. 2- الجمع المنقوص على وزن مفاعل: للنحاة في الجمع الذي على وزن مفاعل- إذا كان منقوصا- مذهبان، فبعضهم قال: هو منصرف، لأنه قد زالت عنه صيغة منتهى الجموع، فصار وزنه وزن جناح، وقد زال فانصرف. وقال الجمهور: هو ممنوع من الصرف، والتنوين تنوين عوض، وقد تقدم بحثه. واختلفوا في المعوض عنه ماذا؟ فالجمهور على أنه عوض عن الياء المحذوفة، وذهب المبرد الى أنه عوض عن حركتها، والكسر ليس كسر إعراب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 [سورة الأعراف (7) : الآيات 42 الى 43] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) اللغة: (الوسع) بتثليث الواو: الطاقة يقال: ليس في وسعه أن يفعل كذا، أي: لا يقدر عليه. وقال الزجاج: الوسع: ما يقدر عليه. (الغل) : الحقد. الإعراب: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في ذكر وعد المؤمنين وما أعدّ لهم في الآخرة، بعد أن ذكر وعيد الكافرين وما أعد لهم في الآخرة. واسم الموصول مبتدأ، وجملة آمنوا صلة، وجملة عملوا الصالحات عطف على الصلة (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) الجملة معترضة بين المبتدأ وخبره، وقد حسن الاعتراض هنا لأنه من جنس الكلام، فإنه تعالى لما نوه بعملهم الصالح ذكر أن ذلك العمل من وسعهم وطاقتهم وغير خارج عن نطاق قدرتهم، ولا نافية، ونكلف فعل مضارع مرفوع، وفاعله مستتر تقديره نحن، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 ونفسا مفعول نكلف الأول، وإلا أداة حصر، ووسعها مفعول نكلف الثاني (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) الجملة الاسمية خبر الذين، واسم الاشارة مبتدأ، وأصحاب الجنة خبره، وهم مبتدأ، وخالدون خبره، وفيها جار ومجرور متعلقان بقوله: خالدون، وجملة هم فيها خالدون خبر ثان لأولئك، أو حال من أصحاب الجنة (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) الواو عاطفة، ونزعنا فعل وفاعل، وما اسم موصول مفعول به، وفي صدورهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول ومن غلّ جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وجملة تجري حال من الضمير (وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) الواو عاطفة، وقالوا فعل وفاعل، والحمد مبتدأ، ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، والذي اسم موصول نعت لله، وجملة هدانا لهذا لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ) يجوز أن تكون الواو للاستئناف أو للحال، وما نافية، وكان واسمها واللام لام الجحود، ونهتدي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر، ولولا حرف امتناع لوجود، وأن مصدرية، وهي مع مدخولها في موضع رفع مبتدأ، وخبر المبتدأ محذوف، كما هي القاعدة: وبعد لولا غالبا حذف الخبر ... حتم وفي نص يمين ذا استقر وجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه، والتقدير: لولا هداية الله لنا موجودة ما اهتدينا أو لشقينا، والجملة كلها مستأنفة أو حالية (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) اللام جواب قسم محذوف، وقد حرف تحقيق، وجاءت رسل ربنا فعل وفاعل، وبالحق جار ومجرور متعلقان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 بجاءت (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الواو استئنافية، ونودوا فعل ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعل، وأن يحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة أو مفسرة، وتلكم الجنة اسم الاشارة مبتدأ، والجنة خبر أو بدل من اسم الاشارة، والخبر جملة أورثتموها. وعلى الأول تكون جملة أورثتموها حالية، وبما كنتم تعملون تقدم إعراب نظائرها كثيرا. [سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 47] وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) اللغة: (العوج) بكسر العين: في المعاني وفي الأعيان، ما لم يكن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 منتصبا، وبالفتح فيما كان منتصبا كالرمح والحائط. وسيرد المزيد من البحث لهذه المادة اللغوية. (الْأَعْرافِ) : سور مضروب بين الجنة والنار، وهي أعاليه، جمع عرف، استعير من عرف الديك والفرس، وقد أفاض أصحاب المطوّلات في وصفه، وأنهى بعضهم الأقوال فيه الى ثلاثة عشر قولا. أما مادة عرف اللغوية فهي عجيبة، ونورد هنا بعض خصائصها ومعانيها جريا على ما توخيناه في هذا الكتاب. يقال عرف الشيء يعرفه من باب ضرب عرفة وعرفانا ومعرفة علمه، وعرف يعرف بالضم من باب نصر عرافة على القوم دبرهم وساس أمرهم، وعرف يعرف بالضم في الماضي والمضارع عرافة: صار عريفا وأكثر من الطيب. ومن المستعار: أعراف الريح والسحاب والضباب لأوائلها، واعرورف البحر: أي ارتفعت أمواجه، واعرورف فلان للشرّ: اشرأب له، وقلة عرفاء مرتفعة، قال زهير: ومرقبة عرفاء أوفيت مقصرا ... لأستأنس الأشباح فيه وأنظرا ومقصرا من القصر وهو العشيّ. والعرّاف: دون الكاهن، قالوا: إذا سال بك الغراف لم ينفعك العراف. وقال عروة: جعلت لعرّاف اليمامة حكمه ... وعرّاف نجد إذ هما شفياني (السّيمى) والسّيمة والسّومة والسّيماء والسيمياء: العلامة والهيئة والبهجة والحسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 الإعراب: (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) الجملة استئنافية مسوقة للتقرير والتبكيت. وأصحاب الجنة فاعل نادى، وأصحاب النار مفعوله (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا) أن مخففة من الثقيلة، فيكون اسمها ضمير الشأن، وجملة قد وجدنا خبرها، أو تكون «أن» مفسرة، فتكون جملة قد وجدنا لا محل لها لأنها مفسره، وما مفعول به، وجملة وعدنا ربنا صلة لا محل لها، وحقا مفعول به ثان لوجدنا (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ) الفاء عاطفة، وهل حرف استفهام، ووجدتم وما بعدها تقدم إعرابه، قالوا فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ونعم حرف جواب، وجملة الجواب المحذوفة في محل نصب مقول القول (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) الفاء عاطفة، وأذن مؤذن فعل وفاعل، وأن مخففة من الثقيلة، وهي مع مدخولها في محل جر بنزع الخافض، والجار والمجرور متعلقان بأذن، ويجوز أن تكون «أن» مفسرة فجملة أن وما في حيزها لا محل لها، ولعنة الله مبتدأ، وعلى الظالمين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لعنة وان كانت أن مخففة من الثقيلة فتعرب «لعنة» مبتدأ أيضا (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) الذين اسم موصول في محل جر صفة للظالمين، ولك أن تعربه خبرا لمبتدأ محذوف، أي: هم الذين يصدون، وجملة يصدون لا محل لها لأنها صلة الموصول، وعن سبيل الله جار ومجرور متعلقان بيصدون، ويبغونها عطف على يصدون، وهي فعل مضارع وفاعل ومفعول به، وعوجا حال، أي: معوجة، ومعنى الاعوجاج هنا الميل عن الحق، وذلك بتشويه الدين والتلبيس على الناس وإيهامهم أن فيه انحرافا عن الجادة وميلا عن الحق (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) الواو حالية، و «هم» مبتدأ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 وبالآخرة جار ومجرور متعلقان ب «كافرون» ، وكافرون خبر «هم» ، والجملة في محل نصب على الحال (وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) الواو عاطفة، وبينهما الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم، وحجاب مبتدأ مؤخر، أي: وبين أصحاب الجنة وأصحاب النار، وكذلك قوله: وعلى الأعراف رجال، وجملة يعرفون في محل رفع صفة لرجال، وكلا مفعول به، وبسيماهم جار ومجرور متعلقان بيعرفون (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة للحديث عن أهل الأعراف، والقول فيهم، وعن منزلتهم. مرجعه في المطوّلات، فارجع إليها إن شئت. ونادوا فعل وفاعل، والضمير يعود على أصحاب الأعراف، وأصحاب الجنة مفعوله، وأن مخففة من الثقيلة أو مفسرة، وقد تقدّمت، وسلام مبتدأ ساغ الابتداء به لما فيه من معنى الدعاء فتخصص، وعليكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبره، وجملة لم يدخلوها مستأنفة مسوقة لتكون بمثابة جواب عن سؤال سائل عن أصحاب الأعراف، فكأنه قيل: ما صنع بهم؟ فقيل لم يدخلوها، والواو حالية، وهم مبتدأ، وجملة يطمعون خبر، وجملة وهم إلخ في محل نصب على الحال (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ) الواو عاطفة لاستكمال حديث أصحاب الأعراف، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب وهو قالوا، وجملة صرفت في محل جر بالإضافة، وأبصارهم نائب فاعل، وتلقاء ظرف مكان متعلق بصرفت، ويأتي مصدرا ولم يأت من المصادر على تفعال بكسر التاء غير مصادر محددة. (قالُوا: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الجملة جواب شرط غير جازم، فلا محل لها، وربنا منادى مضاف، ولا ناهية المقصود بها هنا الدعاء، ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به، ومع ظرف مكان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 متعلق بمحذوف مفعول به ثان، والقوم مضاف إليه، والظالمين نعت للقوم. الفوائد: المصادر كلها من هذا الوزن على تفعال بفتح التاء، وإنما تجيء تفعال في الأسماء، وليست كثيرة، ذكر بعض أئمة اللغة منها ستة عشر اسما، ومنها التبيان والتلقاء، ومر تهواء من الليل، وتبراك وتعشار وترباع وهي مواضع، وتمساح للدابة المعروفة، والتمساح الرجل الكذاب أيضا، والزلزال وتجفاف وتمثال وتمراد والتمراد بيت صغير في بيت الحمام لمبيضه، وتلفاق وهما ثوبان يلفقان، وتلقام أي: سريع اللقم، ويقال أتت الناقة على تضرابها أي: على الوقت الذي ضربها الفحل فيه، وتضراب كثير الضرب، وتقصار وهي المخنفة، وتنبال وهو القصير. [سورة الأعراف (7) : الآيات 48 الى 51] وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 الإعراب: (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) الواو عاطفة أو استئنافية، مسوقة لبيان ما يقوله أصحاب الأعراف لأهل النار. ونادى أصحاب الأعراف فعل وفاعل، ورجالا مفعول به، وجملة يعرفونهم صفة ل «رجالا» ، وبسيماهم جار ومجرور متعلقان بيعرفونهم، أي: ممن كانوا في الدنيا موسومين بالعظمة والخيلاء (قالُوا: ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) جملة القول لا محل لها لأنها مفسرة، فسرت النداء. وما اسم استفهام للتوبيخ، أي: أيّ شيء أغنى عنكم؟ ويصح أن تكون نافية، وعلى الأول تكون مفعولا مقدما لأغنى، أي نفعكم ودفع عنكم جمعكم في الدنيا، وجمعكم فاعل، وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر معطوف على جمعكم، أي: واستكباركم، المفهوم قوله «وكنتم تستكبرون» ، وجملة تستكبرون خبر كنتم، والجملة مقول القول (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ) الهمزة للاستفهام التقريري التوبيخي، وهؤلاء مبتدأ، والذين اسم موصول خبر، وجملة أقستم صلة الموصول، وجملة لا ينالهم الله برحمة لا محل لها لأنها جواب للقسم، ولا نافية، وينالهم الله فعل ومفعول به وفاعل، وبرحمة جار ومجرور متعلقان بينالهم (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) الجملة الأمرية مقول قول محذوف، أي: قد قيل لهم، والجملة القولية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 المحذوفة خبر ثان لاسم الاشارة، أو حال منه، أي مقولا لهم ذلك، ولا نافية مهملة وخوف مبتدأ، ساغ الابتداء به لدخول النفي عليه، وعليكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر، وجملة ولا أنتم تحزنون عطف على الجملة المتقدمة (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) تقدم إعراب نظيرها (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) أن مخففة من الثقيلة أو مفسرة، وقد تقدمت لها نظائر، وأفيضوا فعل أمر والواو فاعل، وعلينا جار ومجرور متعلقان بأفيضوا، ومن الماء جار ومجرور متعلقان بأفيضوا أيضا، لأن معنى الإفاضة هنا متضمن معنى الإلقاء، وأو حرف عطف، ومما جار ومجرور متعلقان بمحذوف معطوف من الماء، ولا بد من تقدير فعل، أي: وأطعمونا، على حدّ قولهم: «علفتها تبنا وماء باردا» ، أو بتضمين أفيضوا معنى ألقوا يصح تعلق المعطوف به، وجملة رزقكم الله صلة، والأولى أن تكون «أو» بمعنى الواو ليصح، ولها نظائر في اللغة (قالُوا: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) الجملة مستأنفة لتقرير جوابهم، وجملة إن واسمها وخبرها في محل نصب مقول قولهم، وجملة حرمهما خبر إن، وعلى الكافرين جار ومجرور متعلقان بحرمهما، والمراد بالتحريم لازمه وهو المنع (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً) اسم موصول في محل جر صفة للكافرين، وجملة اتخذوا صلة، ودينهم مفعول اتخذوا الأول، ولهوا مفعوله الثاني، ولعبا عطف على «لهوا» (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) الواو عاطفة، وغرتهم الحياة فعل ومفعول به وفاعل، والدنيا صفة للحياة، أي: استهوتهم بزخارفها وشغلتهم بالأطماع (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) الفاء هي الفصيحة، واليوم ظرف زمان متعلق بننساهم، والكاف حرف جر، وما مصدرية، أي: كنسيانهم، والجار والمجرور في محل نصب صفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 لمفعول مطلق محذوف، ولقاء مفعول به لنسوا، ويومهم مضاف إليه، وهذا نعت ليومهم أو بدل منه (وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) الواو حرف عطف، وما مصدرية، والمصدر المنسبك معطوف على المصدر الأول وكان واسمها، وجملة يجحدون خبرها، والجار والمجرور متعلقان بيجحدون. [سورة الأعراف (7) : الآيات 52 الى 53] وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53) الإعراب: (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما ورد في الكتاب من تفصيل ما فعلوه. واللام جواب قسم محذوف، وقد حرف تحقيق، وجئناهم فعل وفاعل ومفعول به، والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم، وبكتاب جار ومجرور متعلقان بجئناهم، وجملة فصلناه نعت للكتاب، وعلى علم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال إما من الفاعل في «فصلناه» ، أي: فصلناه عالمين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 بتفصيله، وإما من المفعول، أي: فصلناه مشتملا على علم (هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) هدى ورحمة حال من مفعول فصلناه، أي: هاديا وراحما. ويجوز أن يعربا مفعولا من أجله، أي: فصلناه لأجل الهداية والرحمة، ولقوم جار ومجرور متعلقان بالمصدر، وجملة يؤمنون نعت لقوم (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) كلام مستأنف لبيان موقفهم من الكتاب الذي يجحدون، وفي نفس الوقت ينتظرون ما يؤول إليه وعاقبة أمره. وهل حرف استفهام بمعنى النفي والإنكار، أي: ما ينتظرون ويتوقعون غير ذلك، وإلا أداة حصر، نزلهم منزلة المتوقع المنتظر، وهم ليسوا كذلك لجحودهم له، وتأويله مفعول به (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما يقولونه في ذلك اليوم. والظرف متعلق بيقول، وجملة يأتي تأويله في محل جر بالإضافة، وتأويله فاعل يأتي، ويقول الذين فعل وفاعل، وجملة نسوه صلة الموصول، ومن قبل جار ومجرور متعلقان بنسوة، أي: من قبل إتيان تأويله (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) الجملة في محل نصب مقول قولهم، وجاءت رسل ربنا فعل وفاعل: وبالحق جار ومجرور متعلقان بجاءت (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) الفاء عاطفة، وهل حرف استفهام، ولنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ومن حرف جر زائد، وشفعاء مجرور بمن لفظا في محل رفع مبتدأ مؤخر، والفاء فاء السببية لوقوعها في جواب الاستفهام، ويشفعوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء، ولنا جار ومجرور متعلقان بيشفعوا (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أو حرف عطف ونرد فعل مضارع مبني للمجهول، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، داخلة معها في حكم الاستفهام، كأنه قيل: هل لنا من شفعاء أو هل نرد؟ ورفع نرد لوقوعه موقع الاسم، فيكون من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 باب عطف الاسم المؤول على الاسم الصريح، أي: فهل لنا شفعاء فشفاعة منهم لنا؟ والفاء للسببية أيضا، ونعمل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء في جواب الاستفهام الثاني، وغير مفعول نعمل، والذي مضاف إليه، وجملة كنا نعمل صلة، وكان واسمها، وجملة نعمل خبر كان (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) كلام مستأنف مسوق لتقرير الإجابة عن الاستفهامين السابقين، وقد حرف تحقيق، وخسروا فعل وفاعل، وأنفسهم مفعول به، وضل عنهم عطف على خسروا، وعنهم جار ومجرور متعلقان بضل، وما اسم موصول فاعل، وجملة كانوا يفترون صلة الموصول، وجملة يفترون خبر كانوا. [سورة الأعراف (7) : الآيات 54 الى 55] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) اللغة: (يُغْشِي) : يغطّي، وانجلت عنه غشية الحمّى أي: لمّتها، ونزلت به غشية الموت، وغشي عليه، وأصابه غشي، قال ذو الرّمة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 وردت وأغباش السّواد كأنها ... سمادير غشي في العيون النواظر وعلى قلبه غشاوة فما يقبل الحق، واستغش ثوبك كي لا تسمع ولا ترى، وكثرت غاشية فلان. وللغين مع الشين فاء وعينا للفعل معنى يكاد يكون متشابها، وهو التغطية والستر، وغشّ معروف كأنه أخفى كيده، وغشم الوالي الرعية وهو غشوم إذا خبطهم بعسفه، وغشمر السيل: أقبل، والرجل: ركب رأسه في الحق والباطل فلا يبالي بما صنع، وهذا من دقيق اللغة فتدبره. الإعراب: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) كلام مستأنف مسوق لتقرير خلق السموات والأرض. وإن واسمها، والله خبرها، والذي اسم موصول في محل رفع نعت الله، وجملة خلق السموات والأرض صلة، وفي ستة أيام جار ومجرور متعلقان بخلق (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي، واستوى فعل ماض، وفاعله مستتر تقديره هو، أي: تمكن واستقرّ استقرارا مجردا عن الكيفية، وعلى العرش جار ومجرور متعلقان باستوى (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) الجملة حال، والليل مفعول به أول ليغشي، والنهار مفعول به ثان، أو بالعكس، أي: يلحق الليل بالنهار أو النهار بالليل (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) الجملة حال من الليل، لأنه هو المحدّث عنه، أي: يغشي النهار طالبا له، ويجوز أن تكون حالا من النهار، أي: مطلوبا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 ويطلبه فعل وفاعل مستتر ومفعول به، وحثيثا حال من فاعل يطلبه. أو من مفعوله، أي: حاثا أو محثوثا، ويجوز أن يعرب نعتا لمصدر محذوف، فهو مفعول مطلق، أي طلبا حثيثا، والشمس والقمر والنجوم والألفاظ الثلاثة منصوبة عطفا على السموات والأرض، ومسخرات حال منها، أي: مذللات لما يراد منها من طلوع وأفول، وبأمره جار ومجرور متعلقان بمسخرات أو بمحذوف حال، وتكون الباء للمصاحبة، أي: مصاحبة لأمره غير خارجة عنه في تسخيره (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) كلام مستأنف مسوق للتنويه بالرد على القائلين بأن لهذه الأمور تأثيرات في هذا العالم العجيب. وألا أداة استفتاح وتنبيه، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والخلق مبتدأ مؤخر، والأمر عطف عليه (تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) استئناف آخر مسوق للتنويه بكثرة خيره تعالى وتبارك وتقديسه وتنزيهه. وتبارك فعل ماض، أي: تقدس وتنزه، وهو فعل جامد لا يتصرف، أي لا يأتي منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل، والله فاعل، ورب العالمين صفة أو بدل من الله (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) كلام مستأنف مسوق للتنويه بأن الدعاء يجب أن يكون مصروفا إليه تعالى وحده. وادعوا فعل أمر، والواو فاعل، وربكم مفعول به، وتضرعا نصب على الحال، أي: ذوي تضرع، وخفية، عطف عليه، ويجوز أن يعرب صفة لمصدر محذوف، أي ادعوه دعاء تضرع ودعاء خفية، وأيهما أفضل؟ هناك خلاف يرجع إليه في المطولات. ويجوز أن يعربا مفعولا لأجله، وجملة إنه لا يحب المعتدين تعليلية داخلة في حكم الاستئنافية، لا محل لها، ومعنى الاعتداء هنا تجاوز الحدّ، وجملة لا يحب المعتدين خبر «إن» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 [سورة الأعراف (7) : الآيات 56 الى 58] وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) اللغة: (بُشْراً) بضمّ الباء وسكون الشين جمع بشير، أي مبشرات. وفيه أربع قراءات سبعية، والثانية بشرا بضمتين، والثالثة فشرا بالنون وبضمتين، والرابعة نشرا بفتح النون وسكون الشين، ومعنى نشرا متفرقة. (أَقَلَّتْ) : حملت ورفعت، واشتقاق الإقلال من القلة، لأن الرافع المطيق يرى الذي يرفعه قليلا. (نَكِداً) النكد: بكسر الكاف الذي لا خير فيه، أو الذي اشتدّ وعسر، وقوم أنكاد ومناكيد، قال أبو الطيب: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 لا تشتر العبد إلا والعصا معه ... إنّ العبيد لأنجاس مناكيد الإعراب: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) كلام مستأنف مسوق لتحذير البشر من الفساد في الأرض. ولا ناهية، وتفسدوا فعل مضارع مجزوم بلا، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بتفسدوا، وبعد ظرف متعلق بتفسدوا أيضا، وإصلاحها مضاف إليه (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) عطف على ما تقدم، وخوفا وطمعا منصوبان على الحال، أي: خائفين وطامعين، أو على أنهما صفة لمصدر محذوف، أو على أنهما مفعولان لأجلهما (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) الجملة تعليل لما ذكر، وإن واسمها، وقريب خبرها، ومن المحسنين جار ومجرور متعلقان بقريب (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) الواو عاطفة، والكلام معطوف على ما قبله، وهو: إن ربكم إلخ، وهو مبتدأ، والذي اسم موصول في محل رفع خبر، وجملة يرسل الرياح صلة لا محل لها، وبشرا حال، أي: مبشرات بالخصب والنماء، فهو من المفعول به، وبين ظرف مكان متعلق بيرسل، وإضافته الى يدي مجاز مرسل، (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) حتى حرف غاية وجر، والغاية للإرسال، وإذا ظرف زمان مستقبل، وجملة أقلت في محل جر بالإضافة، والظرف متعلق بسقناه الذي هو جواب الشرط، وسحابا مفعول به، وثقالا صفة، وجملة سقناه لا محل لها، ولبلد جار ومجرور متعلقان بسقناه، وميت صفة لبلد (فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) الفاء عاطفة، وأنزلنا فعل وفاعل، وبه جار ومجرور متعلقان بأنزلنا، والباء للسببية، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 والضمير يعود على البلد الميت، أو السحاب، فعلى الأول تكون الباء للظرفية بمعنى أنزلنا في ذلك البلد الميت الماء، وعلى الثاني تكون الماء للسببية، أي فأنزلنا الماء بسبب السحاب، والماء مفعول به، والفاء عاطفة، وأخرجنا عطف على أنزلنا، والضمير في «به» يعود على الماء أو البلد أو السحاب أيضا كما تقدم، ومن كل الثمرات جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة للمفعول به المحذوف، أي: رزقا أو نباتا (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) كلام مستأنف مسوق بأسلوب بلاغي على طريق التشبيه بمعنى أن من قدر على إخراج الثمر الرطب من الخشب اليابس قادر على إحياء الموتى. وكذلك جار ومجرور متعلقان بمحذوف نعت لمصدر محذوف، فهو مفعول مطلق مقدم، ونخرج الموتى فعل وفاعل مستتر ومفعول به، وجملة الرجاء حالية، وجملة تذكرون خبر لعل (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) كلام مستأنف مسوق لتتميم التشبيه. والبلد مبتدأ، والطيب صفة، وجملة يخرج نباته خبر، وبإذن ربه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، كأنه قيل: يخرج نباته حسنا وافيا، لأنه في مقابلة قوله: «نكدا» فيما بعد، ففي الكلام حذف لفهم المعنى، ولدلالة البلد الطيب، ولمقابلتها بقوله: نكدا (وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) الواو عاطفة، والذي مبتدأ، وهو وصف لمحذوف، أي البلد الذي خبث، وجملة خبث صلة، وجملة لا يخرج خبر، وإلا أداة حصر لتقدّم النفي، ونكدا حال، أي: عسرا مبطئا، ويجوز أن ينتصب على المصدرية، أي أنه نعت لمصدر محذوف، أي: إلا خروجا نكدا (كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) كذلك نعت لمصدر محذوف، وقد تقدم إعراب نظائر له، والآيات مفعول نصرف، ولقوم جار ومجرور متعلقان بنصرف، وجملة يشكرون نعت لقوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 البلاغة: 1- المجاز المرسل في قوله: «بين يدي رحمته» التي هي الغيث، والعلاقة هي السببية، لأن اليد سبب الإنعام، والإنعام الرحمة. 2- التشبيه المرسل في قوله: «كذلك نخرج الموتى» . وقد تقدمت الإشارة إليه في الإعراب. الفوائد: قال الزمخشري: «وإنما ذكّر «قريب» على تأويل الرحمة بالرحم أو الترحم، أو لأنه صفة موصوف محذوف، أي: شيء قريب، على تشبيهه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول، أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي» وقال أبو عبيدة: تذكير «قريب» على تذكير المكان، أي: مكان قريب. ورد عليه الأخفش فقال: هذا خطأ، ولو كان كما قال لكان «قريب» منصوب، كما تقول إن زيدا قريبا منك. وقال الفراء: إن القريب إذا كان بمعنى المسافة يذكر ويؤنث، وإن كان بمعنى النسب فيؤنث بلا اختلاف بينهم، فيقال: دارك منا قريب، وفلانة منا قريب، قال تعالى: «لعل الساعة تكون قريبا» . ومنه قول امرئ القيس: لك الويل إن أمسى ولا أمّ هاشم ... قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 [سورة الأعراف (7) : الآيات 59 الى 64] لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) اللغة: (الْمَلَأُ) : الأشراف والسادة، وقيل: الرجال ليس معهم نساء. وفي المصباح: «الملأ مهموز: أشراف القوم، سموا بذلك لملاءتهم بما يلتمس عندهم من المعروف وجودة الرأي، أو لأنهم يملئون العيون أبهة والصدور هيبة، والجمع أملاء، مثل سبب وأسباب» . وفي الأساس: وقام به الملأ والأملاء: الأشراف الذين يتمالئون في النوائب. قال: وقال لها الأملاء من كل معشر ... وخير أقاويل الرجال سديدها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 وما كان هذا الأمر عن ملأ منّا: أي ممالأة ومشاورة. ومنه هو مليء بكذا: مضطلع به. وعليها ملاءة الحسن. قال ابن ميّادة: بذّتهم ميالة تميد ... ملاءة الحسن لها جديد وجمّش فتى من العرب حضرية فتشاحّت عليه، فقال لها: والله مالك ملاءة الحسن ولا عموده ولا برنسه، فما هذا الامتناع؟ الإعراب: (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) كلام مستأنف مسوق لذكر قصص عن الأنبياء السابقين تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وليتأسّى بمن قبله، فلا يتحيّفه يأس، ولا يخالجه فتور أو وهن في أداء رسالته. واللام جواب للقسم المحذوف، ولا يكاد العرب ينطقون بهذه اللام إلا مع قد، وأرسلنا نوحا فعل وفاعل ومفعول به، وإلى قومه جار ومجرور متعلقان بأرسلنا (فَقالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) الفاء عاطفة، ويا أداة نداء، وقوم منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة بدليل الكسرة، واعبدوا فعل أمر، والواو فاعله، والله مفعوله، وما نافية، ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ومن حرف جر زائد، وإله مبتدأ مؤخر محلا، وغيره صفة ل «إله» على المحل، كأنه قيل: ما لكم إله غيره، وجملة اعبدوا الله في محل نصب مقول القول، وجملة مالكم من إله غيره استئنافية (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) الجملة تعليل للأمر بالعبادة لا محل لها، وإن واسمها، وجملة أخاف خبرها، وعليكم جار ومجرور متعلقان بأخاف، وعذاب مفعول به، ويوم مضاف إليه، وعظيم صفة (قالَ الْمَلَأُ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 قَوْمِهِ: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) كلام مستأنف مسوق لبيان جواب قومه. وقال الملأ فعل وفاعل، ومن قومه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وجملة إن وما في حيزها في محل نصب مقول القول، وإن واسمها، واللام المزحلقة، ونراك فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة خبر «إن» ، وفي ضلال جار ومجرور متعلقان بنراك على أنه مفعول به ثان للرؤية، والرؤية هنا قلبية، ومبين صفة (قالَ: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) كلام مستأنف مسوق لبيان ردّ نوح عليهم، وهو من أحسن الكلام وأبلغه. ليس فعل ماض ناقص، وبي جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ليس المقدّم، وضلالة اسمها المؤخر. (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) الواو عاطفة، ولكن واسمها، وقد جاءت في أحسن موقع لأنها بين نقيضين، ورسول خبر لكن، ومن رب العالمين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لرسول (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ) كلام مستأنف مسوق لتقرير رسالته وتفصيل أحكامها ومهمتها. ويجوز أن تكون الجملة صفة ثانية لرسول، ولكنه راعى الضمير السابق الذي للمتكلم، فقال: أبلغكم، ولو راعى الاسم الظاهر بعده لقال: يبلغكم، والكاف مفعول أبلغكم الأول، ورسالات ربي مفعوله الثاني، وأنصح لكم عطف على أبلغكم، ومعلوم أن «نصح» يتعدى بنفسه وباللام، يقال نصحه ونصح له (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) عطف على أبلغكم، ومن الله جار ومجرور متعلقان بأعلم، ولا بد من تقدير محذوف، أي: جهته، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة لا تعلمون صلة الموصول لا محل لها (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) عطف على ما تقدم مسوق في أسلوب الاستفهام الإنكاري في الهمزة، والواو عاطفة، وعجبتم معطوف على محذوف لا بد من تقديره، أي: أكذبتم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 وعجبتم، وأن حرف مصدري ونصب، وهي مع مدخولها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، أي: من أن جاءكم، وذكر فاعل، ومن ربكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لذكر أو بجاءكم، وعلى رجل صفة لذكر، ولا بد من تقدير محذوف، أي: على لسان رجل، ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لرجل، أي من جملتكم ومن جنسكم، لأنهم كانوا يتعجبون من إرسال البشر، ويقولون: «لو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين» (لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) اللام علة للمجيء، وينذركم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، ولتتقوا عطف على لينذركم، وجملة الرجاء حالية، وجملة ترحمون خبر لعل. جعل العلل لمجيء الذكر على لسان رجل منهم ثلاثا: أولاها لينذركم، وثانيتها لتتقوا، وثالثتها لعلكم ترحمون. وهو ترتيب حسن بالغ موقعه من الإجادة والحسن (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) الفاء الفصيحة لأنها وقعت جواب شرط محذوف، أي: إذا أردت أن تعلم مغبة أمرهم فقد كذبوه. وكذبوه فعل وفاعل ومفعول به، وفأنجيناه عطف على فكذبوه، والواو للمعية، والذين اسم موصول في محل نصب مفعول معه، ولك أن تعطفه على الهاء، ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، أي: استقروا معه في الفلك، وفي الفلك جار ومجرور متعلقان بما في الملك من الاستقرار، أي بمتعلق الظرف أو بأنجيناه (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) عطف على ما تقدم، وأغرقنا الذين فعل وفاعل ومفعول به، وجملة كذبوا صلة، وبآياتنا جار ومجرور متعلقان بكذبوا (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) الجملة تعليل لما سبق من هلاكهم، أي: هلكوا لعمى في بصيرتهم. وإن واسمها، وجملة كانوا خبرها، وقوما خبر كانوا، وعمين صفة ل «قوما» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 البلاغة: 1- المجاز المرسل: في قوله تعالى: «إنا لنراك في ضلال مبين» وقوله: «ليس بي ضلالة» فقد جعل الضلال ظرفا والضلال ليس ظرفا يحل فيه الإنسان. لأنه معنى من المعاني، وإنما يحل في مكانه فاستعمال الضلال في مكانه مجاز مرسل أطلق فيه الحال وأريد المحل، فعلاقته الحاليّة، وفائدته المبالغة في وصفه بالضلال وإيغاله فيه، حتى كأنه مستقر في ظلماته لا يتزحزح عنها. وزادوا في المبالغة بأن أكدوا ذلك بأن صدّروا الجملة بأن وزادوا اللام في خبرها. 2- نفي الأخصّ والأعمّ: وأردف ذلك بقوله: «ليس بي ضلالة» للإطاحة بما زعموه، وتفنيد ما توهموه، وهو من أحسن الرد وأبلغه وأفلجه للخصم، لأنه نفى أن تلتبس به ضلالة واحدة، فضلا عن أن يحيط به الضلال، فلم يقل: ضلال، كما قالوا، كما يقتضيه السياق. وقد توثّب خيال الزمخشري فقرر أن الضلالة أخص من الضلال، فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه، كأنه قال: ليس بي شيء من الضلال، كما لو قيل لك: ألك تمر؟ فقلت: مالي ثمرة. ولكن الزمخشري غفل عن نقطة هامة جدا في هذا البحث العظيم، لأن نفي الأخص أعم من نفي الأعم، فلا يستلزمه ضرورة أن الأعم لا يستلزم الأخص، بخلاف العكس، ألا ترى أنك إذا قلت: هذا ليس بإنسان، لم يستلزم ذلك أن لا يكون حيوانا، ولو قلت: هذا ليس بحيوان، لاستلزم أن لا يكون إنسانا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 فنفي الأعم كما ترى أبلغ من نفي الأخص، إذا تقرر هذا فالتحقيق في الجواب أن يقال: الضلالة أدنى من الضلال وأقل، لأنها لا تطلق إلا على الفعلة الواحدة منه، وأما الضلال فينطلق على القليل والكثير من جنسه، ونفي الأدنى أبلغ من نفي الأعلى، لا من حيث كونه أخص بل من حيث التنبيه بالأدنى على الأعلى، كما قررنا في مستهل هذا البحث. الفوائد: 1- الاسم إذا كان سبقه الضمير: كل اسم سبقه ضمير حاضر من متكلم أو مخاطب يجوز فيه وجهان، أولهما: مراعاة الضمير السابق، وثانيهما مراعاة الاسم الظاهر، تقول: أنا رجل أفعل كذا، مراعاة للضمير «أنا» ، وان شئت قلت: يفعل كذا، مراعاة لرجل. ومثله: أنت رجل تفعل العجائب، ويفعل العجائب، بالخطاب والغيبة. قال الإمام علي بن أبي طالب: أنا الذي سمّتن أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظرة قاله حين بارز اليهودي «مرحبا» يوم خيبر فقال اليهودي: قد علمت خيبر أنّي مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب فأجابه علي بذلك. وكانت أمه فاطمة بنت أسد سمته كاسم أبيها، لأن حيدرة من أسماء الأسد. فلما حضر أبو طالب سماه عليا. وسمّي الأسد حيدرة لشدة انحداره على من يصول عليه، والليث اسم جامد للأسد، واشتقوا منه: لايثه أي: عامله معاملة الليث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 والغاب بيته الذي يغيب فيه. وكان الظاهر أن يقول: إن الذي سمته أمه، ليطابق الضمير مرجعه، وهو الموصول في الغيبة، ولكنه أتى بضمير المتكلم ذهابا الى المعنى، وحسنه تقدم ضمير المتكلم، أي: أنا الشجاع الذي ظهرت عليّ أمارات الشجاعة من صغري فسمتني أمي باسم الأسد. ولا أكذبها ظنا. وقد استدرك ابن جني على أبي الطيب المتنبي قوله: أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم عدولا عن لفظ الغيبة، ولكن الآية الكريمة كفيلة بتسويغ ما استعمله أبو الطيب. 2- اللام الداخلة على قد: لا يكاد العرب ينطقون بهذه اللام إلا مع «قد» ، وقل عنهم نحو قول امرئ القيس: حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا فما إن من حديث ولا صال وذلك لأنه لما كانت الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيدا للجملة المقسم عليها التي هي جوابها كانت مظنة لمعنى التوقع الذي هو معنى «قد» عند استماع المخاطب كلمة القسم، وقد جرى ابن الرومي الشاعر العباسي على غرار امرئ القيس بقوله: لرأينا مستيقظين أمورا ... حسبنا أن تكون رؤيا منام وقيل: إذا أجيب القسم بماض متصرف مثبت فإن كان قريبا من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 الحال جيء باللام وقد جميعا، نحو: «تالله لقد آثرك الله علينا» ، وإن كان بعيدا جيء باللام وحدها، كقول امرئ القيس الآنف الذكر وقول ابن الرومي. [سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 68] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) اللغة: (سَفاهَةٍ) : جهالة وخفة حلم وسخافة عقل. الإعراب: (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) الواو حرف عطف، والى عاد جار ومجرور متعلقان بالفعل المعطوف على أرسلنا، وأخاهم مفعول به لأرسلنا، وهودا بدل مطابق من «أخاهم» (قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ) حذف العاطف من «قال» خلافا للآية الأولى في قصة نوح، والسر في ذلك أن العاطف ينتظم الجمل حتى يصيرها كالجملة الواحدة، فاجتنب لإرادة استقلال كل واحدة منها في معناها. وجملة النداء والأمر مقول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 القول (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) الجملة مستأنفة، وقد تقدم إعراب نظيرها بحروفه (أَفَلا تَتَّقُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري، والاستعباد لعدم اتقائهم العذاب بعد ما علموا ما حل بقوم نوح. والفاء للعطف على مقدر، أي: ألا تتفكرون؟ أو أتغفلون فلا تتقون؟ ولا نافية، وتتقون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعل (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان ماذا أجابه قومه على دعوته. وقال الملأ فعل وفاعل، والذين نعت، وجملة كفروا صلة، ومن قومه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، ووصف الملأ هنا ولم يصف الملأ في قصة نوح، لأنه كان في أشراف هود من آمن به، منهم فيما يروى مرثد بن سعد الذي أسلم، وكان يكتم إسلامه، فأريدت التفرقة بالوصف، ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن. ويجوز أن يكون إيراد الوصف تسجيلا للذمّ، ونعتهم بالكفران المجرد والإنحاء عليهم بما يتبرأ منه العقلاء (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) جملة إن وما في حيزها في محل نصب مقول قول الملأ، وإن واسمها، واللام المزحلقة، وجملة نراك خبر إن، وفي سفاهة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أو مفعول به ثان إن كانت الرؤية قلبية، ولعلها الأولى (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) عطف على ما تقدم، وقد سبق إعراب مثيله (قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ) كلام مستأنف مساق لبيان جواب هود، وما بعده مقول لقوله، وليس فعل ماض ناقص، وبي جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها المقدم وسفاهة اسمها المؤخر (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) الواو حالية، ولكن واسمها، ورسول خبرها، وهو استدراك على ما قبله باعتبار ما يستلزمه من كونه في الغاية القصوى من الرشد، ومن رب العالمين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لرسول (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) سبق إعرابها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 قريبا (وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) الواو عاطفة، وأنا مبتدأ، ولكم جار ومجرور متعلقان بناصح، وناصح خبر أنا الأول. وأمين خبر أنا الثاني، ويجوز إعرابه صفة لناصح. البلاغة: 1- المجاز المرسل: في جعل السفاهة ظرفا على طريق المجاز المرسل، وعلاقته الحاليّة كما تقدم في آية نوح، وهي «إنا لنراك في ضلال مبين» . ويقال في تصدير الجملة بإن وزيادة اللام المزحلقة في خبرها ما قيل هناك، فجدّد به عهدا. 2- العدول إلى الاسمية: أتى في قصة هود بالجملة الاسمية، فقال: «وأنا لكم ناصح أمين» ، وأتى في قصة نوح بالجملة الفعلية، حيث قال: «وأنصح لكم» ، وذلك لأن صيغة الفعل تدل على تجدده ساعة بعد ساعة، وكان نوح يكرر دعاءه ليلا ونهارا من غير تراخ، فناسب التعبير بالفعلية، وأما هود فلم يكن كذلك وقتا بعد وقت وقت، فلهذا عبر عنه بالاسمية. 3- الكناية: وذلك في قوله: «قال: يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين» ، فقد كنى عن تكذيبهم بقوله لهود عليه السلام: إنا لنراك في سفاهة وقد تقدم البحث عنها كثيرا فجدد به عهدا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 [سورة الأعراف (7) : آية 69] أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) اللغة: (بَصْطَةً) : بفتح الباء: أي قوة وطولا، وفي معاجم اللغة: البسطة: بفتح الباء التوسع والطول والكمال، وبسطة العيش: سعته. (آلاءَ) جمع مفرده إلي بكسر الهمزة وسكون اللام كحمل وأحمال، أو ألي بضم الهمزة وسكون اللام كقفل وأقفال، وإلى بكسر الهمزة وفتح اللام كعنب وأعناب، أو ألى بفتح الهمزة واللام كقفا وأفقاء. الإعراب: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) الهمزة للاستفهام الإنكاري المراد به النهي، أي: لا تعجبوا وتدبروا في أمركم. والواو حرف عطف، وعجبتم فعل ماض معطوف على محذوف دل عليه سياق الكلام، أي: أفكذبتم أو عجبتم، والمحذوف مستأنف مسوق لنهيهم عن الإمعان فيما هم عليه، وأن جاءكم مصدر مؤول منصوب بنزع الخافض، والجار والمجرور متعلقان بعجبتم، أي: أو عجبتم من مجيء ذكر من ربكم، وذكر فاعل جاءكم، ومن ربكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لذكر، وعلى رجل جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لذكر، أي: مقول على لسان رجل، ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لرجل، ولينذركم اللام لام التعليل، وينذركم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والمصدر مجرور باللام، والجار والمجرور متعلقان بجاءكم (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) الواو عاطفة، والجملة منسوقة على ما قبلها لبيان ترتيب أحكام المناصحة والأمانة والإنذار، وإذ نصب على المفعولية لا على الظرفية، أي: واذكروا وقت الجعل المذكور، لأن المقام مقام تجسيد واستحضار للصورة بكامل تفاصيلها، وكأنما هي منصوبة أمامهم يستجلبون منه شتى العظات والعبر، والجملة عطف على مقدر على كل حال، كأنه قيل: لا تعجبوا أو تدبّروا في أمركم واستبصروا واذكروا، وجملة جعلكم في محل جر بالإضافة، والكاف مفعول به أول لجعلكم وخلفاء مفعول به ثان، ومن بعد قوم نوح جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لخلفاء (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) عطف على جعلكم، وفي الخلق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وبسطة مفعول به ثان لزادكم أو تمييز والكاف هي المفعول الأول، (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الفاء هي الفصيحة، لأنها وقعت جواب شرط مقدر، أي: إذا عرفتم هذا حق المعرفة وتدبرتموه وتبصّرتم في مغابّه وخوافيه، فاذكروا، وآلاء الله مفعول به، وجملة الرجاء حالية، وجملة تفلحون خبر لعل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 [سورة الأعراف (7) : الآيات 70 الى 72] قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) اللغة: (الدابر) : الآخر، وقطع الدابر يعني الاستئصال، لأنه إذا قطع الآخر فقد قطع ما قبله، فحصل الاستئصال. الإعراب: (قالُوا: أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) كلام مستأنف مسوق لينكروا عليه مجيئه، وقد أرادوا المجيء من متعبّده، أي: المكان الذي اعتزل فيه للعبادة، أو أنهم لم يريدوا حقيقة المجيء ولكنهم أرادوا به مطلق التعرض والتصدي، كما يقال: ذهب ليشتمني، وليس المراد حقيقة الذهاب، ولعل هذا أبلغ وأبين. والهمزة للاستفهام الإنكاري، وجئتنا فعل وفاعل ومفعول به، واللام للتعليل، ونعبد فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام، والجار والمجرور متعلقان بجئتنا، والله مفعوله، ووحده حال مؤولة، أي: منفردا، ونذر فعل مضارع معطوف على نعبد، وما اسم موصول في محل نصب مفعول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 به، وكان فعل ماض ناقص، واسمها مستتر، وجملة بعبد آباؤنا في محل نصب خبر كان، وجملة كان وما في حيزها صلة الموصول (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) الفاء الفصيحة، وات فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره أنت، ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول، وبما جار ومجرور متعلقان ب «اتنا» وجملة تعدنا صلة الموصول، وإن شرطية. وكنت فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط، وكان واسمها، ومن الصادقين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها، وجواب إن محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي: فأتنا. (قال: قد وقع عليكم رجس من ربكم وغضب) كلام مستأنف مسوق لبيان جواب هود لقومه. وقد حرف تحقيق، ووقع فعل ماض، وعليكم جار ومجرور متعلقان بوقع، ورجس فاعل، ومن ربكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لرجس، وغضب معطوف على رجس، وجملة قد وما في حيزها مقول القول، أي: حق عليكم العذاب ووجب، أو قد نزل عليكم، جعل المتوقع بمثابة الواقع المتحقق، ومن هذا الوادي ما يروى عن حسان بن ثابت أن ابنه لسعه زنبور وهو طفل، فجاء يبكي، فقال: يا بني ما لك؟ قال: قد لسعني طوير كأنه ملتف في بردي حبرة، فضمه الى صدره وقال له: يا بنيّ قد قلت الشعر (أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) الهمزة للاستفهام الإنكاري، ولاستقباح إنكارهم مجيئه داعيا إياهم إلى عبادة الله وترك الأصنام. وتجادلونني فعل مضارع وفاعل ومفعول به، وفي أسماء جار ومجرور متعلقان بتجادلونني، وجملة سميتموها صفة لأسماء، والواو لاسباغ الضمة، وأنتم تأكيد، وآباؤكم عطف على أنتم (ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) جملة ما نزّل صفة ثانية لأسماء، وبها جار ومجرور متعلقان بنزل، أو بمحذوف حال، لأنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 كان في الأصل صفة لسلطان فلما تقدمت أعربت حالا، ومن حرف جر زائد، وسلطان مجرور لفظا منصوب على المفعولية محلا، فانتظروا الفاء الفصيحة، وانتظروا فعل أمر وفاعل، وإن واسمها، ومعكم ظرف متعلق بالمنتظرين، ومن المنتظرين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر إن (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) الفاء الفصيحة، كما في قوله فانفجرت، أي: فوقع ما وقع فأنجيناه، وأنجيناه فعل وفاعل ومفعول به، والذين عطف على الهاء في أنجيناه، أو مفعول معه، ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة، وبرحمة جار ومجرور متعلقان بأنجيناه، ومنّا جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لرحمة (وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) عطف على أنجيناه، ودابر مفعول به، والذين اسم موصول في محل جر بالاضافة، وجملة كذبوا صلة لا محل لها، وما كانوا عطف على كذبوا، ومؤمنين خبر كانوا. الفوائد: قصة عاد: روى التاريخ أن عادا قد تبسّطوا في البلاد ما بين عمان وحضرموت، وكانت لهم أصنام يعبدونها، وهي صدّاء وصمود والهباء، فبعث الله إليهم هودا نبيا من أوسطهم وأفضلهم حسبا، فكذّبوه وازدادوا عتوّا وتجبّرا، فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا، وكان الناس إذا نزل بهم بلاء طلبوا الى الله تعالى الفرج منه عند بيته المحرّم، وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وسيدهم معاوية بن بكر، فهجّرت عاد الى مكة من أماثلهم سبعين رجلا، منهم قيل بن عتر ومرثد بن سعد الذي كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 يكتم إسلامه، فلما قدموا نزلوا على معاوية بن بكر، وهو بظاهر مكة خارجا من الحرم، فأنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وأصهاره، فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنّيهم الجرادتان. أسطورة الجرادتين: وهما قينتان كانتا لمعاوية، فلما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا له أهمّه ذلك، وقال: قد هلك أخوالي وأصهاري، وهؤلاء على ما هم عليه، وكان يستحيي أن يكلمهم خيفة أن يظنوا ثقل مقامهم عليه، فذكر ذلك للقينتين فقالتا: قل شعرا نغنيهم به لا يدرون من قاله، فقال معاوية بن بكر: ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعلّ الله يسقينا غماما فيسقي أرض عاد إنّ عادا ... قد أمسوا ما يبينون الكلاما فلما غنتا به قالوا: إن قومكم يتغوّثون من البلاء الذي نزل بهم، وقد أبطأتم عليهم، فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم. فقال لهم مرثد بن سعد: والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم، وتبتم إلى الله سقيتم، وأظهر إسلامه. فقالوا لمعاوية: احبس عنا مرثدا لا يقدمنّ معنا مكة، فإنه قد تبع دين هود وترك ديننا ثم دخلوا مكة. فقال قيل بن عتر: اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم، فأنشأ الله سحابا ثلاثا: بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه مناد من السماء: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 يا قيل اختر لنفسك ولقومك! فقال: اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء. فخرجت على عاد من واد لهم يقال له المغيث، فاستبشروا بها، وقالوا: هذا عارض ممطرنا، فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم، ونجا هود والمؤمنون معه، فأتوا مكة فعبدوا الله فيها حتى ماتوا. [سورة الأعراف (7) : آية 73] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) اللغة: (ثَمُودَ) ثمود بمنع الصرف بتأويل القبيلة، وبالصرف بتأويل الحيّ، أو باعتبار الأصل، لأنه اسم أبيهم الأكبر، وهو ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح. وقيل: سميت ثمود لقلة مائها، من الثمد، وهو الماء القليل، قال النابغة: واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثّمد وكانت مساكنهم الحجر، بين الشام والحجاز. الإعراب: (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) تقدم إعراب نظيرها، وصالحا بدل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 من «أخاهم» (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) تقدم إعراب نظيرها، والجملة مقول قوله (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) الجملة مندرجة في مقول قوله، وجاءتكم فعل ماض ومفعول به، وبينة فاعل، ومن ربكم جار ومجرور متعلقان بجاءتكم أو بمحذوف صفة لبيّنة (هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان البينة. واسم الاشارة مبتدأ، وناقة الله خبر، والإضافة لتعظيم أمر الناقة، ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ثان أو حال، وآية حال والعامل فيها ما دل عليه اسم الإشارة من معنى الفعل، ويجوز أن تعرب هذه الجملة بدلا من بيّنة، لأنها بمثابة التفسير لها، وجاز إبدال جملة من مفرد لأنها في قوته (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ) الفاء تفريعية، لأنها جاءت تفريعا على كونها آية من آيات الله، مما يستوجب عدم التعرض لها بسوء، وذروها فعل أمر وفاعل ومفعول به، وتأكل فعل مضارع، وهو مجزوم لأنه جواب الطلب، وفي أرض الله جار ومجرور متعلقان بتأكل أو بقوله: فذروها، على أنه من باب التنازع (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الواو عاطفة، ولا ناهية، وتمسوها فعل مضارع مجزوم، والواو فاعل، والهاء مفعول به، وبسوء جار ومجرور متعلقان بتمسوها، فيأخذكم: الفاء فاء السببية، ويأخذكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء لأنه جواب النهي، والكاف مفعول به، وعذاب فاعل، وأليم صفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 [سورة الأعراف (7) : الآيات 74 الى 75] وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) اللغة: (تَنْحِتُونَ) في القاموس: «نحته ينحته كيضربه وينصره ويعلمه: براه» . الإعراب: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) عطف على ما تقدم، وإذ منصوب على المفعولية لا الظرفية، أي اذكروا وقت الجعل، وجملة جعلكم في محل جرّ بالإضافة، والكاف مفعول به أول، وخلفاء مفعول به ثان، ومن بعد عاد جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لخلفاء (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً) عطف على جعلكم، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان ببوأكم، وجملة تتخذون حالية من المفعول، ومن سهولها جار ومجرور متعلقان بتتخذون أو بمحذوف حال من «قصورا» ، إذ هو في الأصل صفة لها لو تأخر، وقصورا مفعول به، وسمي القصر قصرا لقصور الفقراء عن تحصيله (وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) الواو عاطفة، وتنحتون فعل مضارع وفاعل، والجبال يجوز أن يكون منصوبا بنزع الخافض، أي: من الجبال، كقوله تعالى: «واختار موسى قومه سبعين رجلا» ، فيكون «بيوتا» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 مفعولا به، ويجوز أن يضمن معنى ما يتعدى لاثنين، أي: وتتخذون الجبال بيوتا بالنحت أو تصيرونها بيوتا بالنحت، ويجوز أن يكون الجبال هو المفعول به، و «بيوتا» حالا مقدّرة، كما تقول: خط هذا الثوب قميصا. وابر هذه القصبة قلما. وإنما قلنا مقدرة لأن الجبل لا يكون بيتا في حال النحت، ولا الثوب قميصا، ولا القصبة قلما في حال الخياطة والبري. و «بيوتا» وإن لم يكن مشتقا فإنه في معنى المشتقّ، أي: مسكونة (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) الفاء الفصيحة، واذكروا فعل أمر، والواو فاعل، وآلاء الله مفعول به، والواو حرف عطف، ولا ناهية، وتعثوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بتعثوا، ومفسدين حال (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) كلام مستأنف مسوق ليكون جوابا عن استفهام، وقال الملأ فعل وفاعل، والذين اسم موصول في محل رفع صفة، وجملة استكبروا لا محل لها لأنها صلة الموصول، ومن قومه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) الجار والمجرور متعلقان بقال، وجملة استضعفوا صلة، ولمن جار ومجرور متعلقان بمحذوف بدل من الذين استضعفوا، بإعادة العامل، وفيه وجهان: أحدهما أنه بدل كل من كل إن عاد الضمير في «منهم» على «قومه» ، ويكون المستضعفون كلهم المؤمنين فقط، كأنه قيل: قال المستكبرون للمؤمنين من قوم صالح، وإما بدل بعض من كلّ إن عاد الضمير على المستضعفين، ويكون المستضعفون ضربين: مؤمنين وكافرين، كأنه قيل: قال المستكبرون من الضعفاء دون الكافرين من الضعفاء، ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) الهمزة للاستفهام التهكمي، أي: قالوا ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء، والجملة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 المستفهمة في محل نصب مقول القول، وأن واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي تعلمون، ومن ربه جار ومجرور متعلقان بمرسل (قالُوا: إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة لتكون جوابهم، وقد استبقوا الحوادث، فمقتضى السياق أن يقولوا: نعم أو نعلم أنه مرسل. وإن واسمها، وبما جار ومجرور متعلقان بالخبر «مؤمنون» ، وجملة أرسل صلة، وإن وما بعدها جملة في محل نصب مقول القول، وبه جار ومجرور متعلقان بأرسل. البلاغة: في هذه الآية فن طريف اسمه فنّ التغاير، وقد مرّ طرف منه، ونعيد الآن تعريفه للذكرى، وهو تغاير المذهبين إما في المعنى الواحد بحيث يمدح إنسان شيئا أو يذمه، أو يذمّ ما مدحه غيره وبالعكس، أو يفضل شيئا أو يذمه أو يذم ما مدحه غيره وبالعكس، أو يفضل شيئا على شيء، ثم يعود فيجعل المفضول فاضلا والفاضل مفضولا، فقد غاير بعضهم في باب الطاعة والعصيان بعد التغاير في مقالهم واعتقادهم في نيّاتهم، وهذا ما يغاير به الإنسان فيه غيره. [سورة الأعراف (7) : الآيات 76 الى 79] قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 اللغة: (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) العقر أصله كشف العراقيب في الإبل وهو- كما قال الأزهري- أن يضرب قوائم البعير أو الناقة فيقع، وكانت هذه سنتهم في الذبح، ثم أطلق على كل نحر عقر، وإن لم يكن فيه كشف عراقيب، تسميته للشيء بما يلازمه غالبا، إطلاقا للسبب على مسببه. وقال ابن قتيبة: العقر: القتل كيف كان، يقال عقرتها فهي معقورة، وقيل: العقر الجرح. (عَتَوْا) تولوا عن أمر ربهم واستكبروا عن الامتثال له. (جاثِمِينَ) : جثم: أي لزم مكانه ولم يبرح، أو وقع على صدره. وقال أبو عبيدة: الجثوم للناس وللطير كالبروك للإبل. الإعراب: (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) فعل وفاعل وصلة الموصول (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) تقدم إعراب نظيره، والجملة مقول قولهم، ولم يقولوا: إنا بما أرسل به كافرون، كما هو ظاهر السياق، إظهارا لمخالفتهم، وإصرارا على عنادهم، وتحاشيا مما يوهم ظاهره إثباتهم لرسالته، وهم يجحدونها (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) الفاء الفصيحة، وعقروا الناقة فعل وفاعل ومفعول به، وعقروا عطف على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 عتوا، وعن أمر ربهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، أي: مستكبرين أو صادرين عما يوحيه العتو إليهم، ومثله: «وما فعلته عن أمري» ، وأسند العقر إلى الجميع، لأنه كان برضاهم، وإن لم يباشر القيام به إلا بعضهم (وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) عطف على ما تقدم، وجملة ائتنا في محل نصب مقول القول، وبما جار ومجرور متعلقان بائتنا، وجملة تعدنا صلة الموصول، وإن شرطية، والجواب محذوف دل عليه ما قبله، أي: فائتنا، ومن المرسلين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كنت (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) الفاء عاطفة، وأخذتهم الرجفة فعل ومفعول به وفاعل، فأصبحوا عطف على فأخذتهم، والواو اسم أصبحوا، وفي دارهم جار ومجرور متعلقان بجاثمين، وجاثمين خبر أصبحوا (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ: يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي) الفاء عاطفة للتعقيب، والظاهر أنه كان مشاهدا بعينه ما حصل لهم، فتولى مغتمّا متحزّنا لإصرارهم على الكفر. وعنهم جار ومجرور متعلقان بتولي، وقال عطف على فتولى، ويا حرف نداء، وقوم منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة، ولقد اللام جواب قسم محذوف، وقد حرف تحقيق، وأبلغتكم فعل ماض وفاعل ومفعول به أول، ورسالة ربي مفعول به ثان (وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) عطف على أبلغتكم، ولكم جار ومجرور متعلقان بنصحت، والواو حالية، ولكن حرف استدراك مخفف مهمل، ولا نافية، وجملة لا تحبون الناصحين حالية، لأنها حكاية حال ماضية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 [سورة الأعراف (7) : الآيات 80 الى 81] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) الإعراب: (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) الواو عاطفة على ما تقدم من القصص، أي: واذكر لوطا في ذلك الوقت. ولوطا مفعول به لفعل محذوف، أي: واذكر لوطا، وإذ ظرف مبدل من قوله: «ولوطا» ، أي: واذكر وقت قال لقومه، وجملة قال في محل جر بالإضافة، ولقومه جار ومجرور متعلقان بقال، والهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي، وتأتون الفاحشة فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل نصب مقول القول (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) هذه الجملة يصح فيها أن تكون مستأنفة مسوقة لتأكيد النكر وتشديد التوبيخ والتقريع، فإن مباشرة القبيح قبيحة، واختراعه أقبح، ويصح أن تكون حالية إما من الفاعل بمعنى أتأتونها مبتدئين بها، وإما من المفعول به معنى أتأتونها مبتدأ بها غير مسبوقة من غيركم. وسبقكم فعل ماض ومفعول به، وبها جار ومجرور متعلقان بسبقكم، أو بمحذوف حال، أي: ما سبقكم أحد مصاحبا لها، أي ملتبسا بها، ومن حرف جر زائد، وأحد فاعل سبقكم، ومن العالمين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لأحد (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان النوع من الفاحشة التي ابتدعوها، وإن واسمها، واللام المزحلقة، وجملة تأتون خبر إن، والرجال مفعول به، وشهوة مفعول لأجله، أي: لا دافع لكم إلا الشهوة المجردة، وهو ذم بليغ، لأنه إلحاق لهم بالبهيمية المرتطمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 بالأقذار، ويجوز أن تعرب حالا بمعنى مشتهين، أي: تابعين لدواعي الشهوة وحوافزها، غير آبهين لسماجتها. ومن دون النساء جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الواو في «تأتون» ، أي، متجاوزين النساء، أو من الرجال (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) بل حرف إضراب عن الإنكار الى الإخبار عنهم بالحال التي توجب اقتران الفضائح والمذامّ. وأنتم مبتدأ، وقوم خبر، ومسرفون صفة. الفوائد: (بَلْ) تكون للإضراب والعطف والعدول عن شيء الى آخر، إن وقعت بعد كلام مثبت، خبرا كان أو أمرا، أو للاستدراك بمنزلة «لكن» إن وقعت بعد نفي أو نهي. ولا يعطف بها إلا بشرط أن يكون معطوفها مفردا غير جملة، وهي إن وقعت بعد الإيجاب أو الأمر كان معناها سلب الحكم عما قبلها، حتى كأنه مسكوت عنه، وجعله لما بعدها، نحو: قام علي بل خالد، ونحو: ليقم عليّ بل سعيد، وإن وقعت بعد النفي أو النهي كان معناها إثبات النفي أو النهي لما قبلها، وجعل ضدّه لما بعدها، نحو: ما قام علي بل خالد، ونحو: لا يذهب عليّ بل خالد. وإن تلاها جملة لم تكن للعطف بل تكون حرف ابتداء مفيدا للإضراب الإبطالي أو الانتقالي. فالأول كقوله تعالى «وقالوا: اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون» ، أي: بل هم عباد. والثاني كما في الآية الآنفة. وقد تزاد قبلها «لا» بعد إثبات أو نفي، فالأول كقول الشاعر: وجهك البدر لا بل الشمس لو لم ... يقض للشمس كسفنة أو أفول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 والثاني كقول الآخر: وما هجرتك لا بل زادني شغفا ... هجر وبعد تراخ لا إلى أجل [سورة الأعراف (7) : الآيات 82 الى 84] وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) اللغة: (الْغابِرِينَ) : الباقين، أي: الذين غبروا في ديارهم، أي بقوا فيها. والتذكير لتعليب الذكور على الإناث. وكانت امرأته كافرة مولية لأهل سدوم، بالدال المهملة، وقيل: هي بالمعجمة. وهي مدينة واقعة على شاطئ بحيرة طبرية. الإعراب: (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا:) الواو عاطفة، وما نافية، وكان فعل ماض ناقص، وجواب خبرها المقدم، وقومه مضاف إليه، وإلا أداة حصر. وأن المصدرية وما في حيزها في تأويل مصدر اسم كان المؤخر، أي: إلا قولهم (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 الجملة في محل نصب مقول قولهم، ومن قريتكم جار ومجرور متعلقان بأخرجوهم، وإن واسمها، وأناس خبرها، والجملة تعليلية لا محل لها، أوردها تعبيرا عن سخريتهم واستهزائهم بلوط وقومه، وجملة يتطهرون صفة لأناس (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) الفاء عاطفة على محذوف مفهوم من سياق الكلام، أي: فحل عليهم العذاب فأنجيناه. وأنجيناه فعل وفاعل ومفعول به، وأهله عطف على الهاء، أو مفعول معه، وإلا أداة استثناء، وأهله مستثنى، وجملة كانت من الغابرين استئنافية مسوقة للرد على سؤال نشأ عن استثنائها، كأنه قيل: فماذا كانت حالها؟ فقيل: كانت من الغابرين. أي الذين غبروا في ديارهم، أي: بقوا فيها فهلكوا (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) الواو عاطفة، وأمطر فعل ماض، مثل مطر، ونا ضمير متصل في محل رفع فاعل، وعليهم جار ومجرور متعلقان بأمطرنا، ومطرا مفعول به، لأنه يراد به الحجارة، ولا يراد به المطر أصلا. وضمن أمطرنا معنى أرسلنا، ولذلك عدّي بعلى، ولو أراد المصدر لقال: إمطارا، كما هو القياس (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) الفاء استئنافية، وانظر فعل أمر، وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم، وعاقبة اسمها، والمجرمين مضاف إليه. الفوائد: شجر خلاف بين أهل اللغة حول مطر وأمطر، فقال أبو عبيدة: يقال: مطر في الرحمة، وأمطر في العذاب. وهذا مردود بقوله تعالى: «هذا عارض ممطرنا» ، فإنهم إنما عنوا الرحمة بذلك، وقال الزمخشري: «أي فرق بين مطر وأمطر» ؟ وأجاب عن هذا السؤال قائلا: يقال: مطرتهم السماء، وواد ممطور. وفي نوابغ الكلم: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 حرى ممطور، حرى أن يكون غير ممطور» ، وحرى الأول بمعنى ناحية وجانب، والثاني بمعنى جدير وحقيق، وممطور الأول مصاب بالمطر، والثاني بمعنى مذهوب فيه. «ومعنى مطرتهم: أصابتهم بالمطر، كقوله: غاثتهم وبلتهم وجادتهم ورهمتهم، ويقال: أمطرت عليهم كذا بمعنى أرسلته إليهم إرسال المطر، «فأمطر علينا حجارة من السماء» ، «وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل» ، ومعنى «وأمطرنا عليهم مطرا» وأرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيبا، يعني الحجارة» . وغاية الزمخشري من ذلك كله الرد على من يقول: مطرت السماء في الخير، وأمطرت في الشر، ويتوهم أنها تفرقة وضعية، فبيّن أن «أمطرت» معناه أرسلت شيئا على نحو المطر وإن لم يكن ماء، حتى أرسل الله من السماء أنواعا من الخيرات والأرزاق مثلا كالمن والسلوى لجاز أن يقال فيه: أمطرت السماء خيرات، أي: أرسلتها إرسال المطر، فليس للشر خصوصية في هذه الصيغة الرباعية، ولكن اتفق أن السماء لم ترسل شيئا سوى المطر، وإلا كان عذابا، فظن الواقع اتفاقا مقصودا في الوضع، فنبه الزمخشري على تحقيق الأمر فيه. وممن فرّق بين الثلاثي والرباعي الفيروزبادي صاحب القاموس، قال: وأمطرهم الله لا يقال إلا في العذاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 [سورة الأعراف (7) : الآيات 85 الى 87] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) اللغة: (مَدْيَنَ) : اسم أعجمي، وهو اسم قبيلة، سموا باسم أبيهم مدين بن إبراهيم، وشعيب بن ميكائيل بن يشجر بن مدين، وهو اسم قبيلة، فهو أخوهم في النسب، وليس من أنبياء بني إسرائيل. ومدين أيضا اسم قرية شعيب، فهو اسم مشترك بين القرية والقبيلة وأبيها. (تَبْخَسُوا) : تنقصوا، يقال: بخسته حقه إذا نقصته إياه، وفي المثل: تحسبها حمقاء وهي باخس. ومن غريب أمر الباء والخاء أنها إذا اجتمعا فاء وعينا للكلمة عبرنا عن التأثير في الأشياء، فمن ذلك البخت، وهو الحظ، وأثره أشهر من أن يذكر، وبخ لك كلمة إعجاب ومدح للشيء، وهي بالكسر والتنوين، وقد تشدد الخاء وتكرر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 فيقال: بخّ بخّ، وتبنيان عندئذ على السكون، وبخر الثوب أحدث فيه رائحة طيبة، والبخر بفتحتين نتن الفم، فهو من الأضداد. والبخار وهو الماء في الحالة الغازية، وكل ما ارتفع من السوائل الحارّة كالدخان. وأثره في تسيير القواطر وغيرها مشهور متعارف، وبخص عينه قلعها، وبخع نفسه أهلكها، وبخل أمسك ومنع. الإعراب: (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) تكررت هذه الآية مرارا وقد تقدم إعرابها (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) الجملة داخلة في حيز القول، منصوبة به، وبينة فاعل جاءتكم، ومن ربكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبينة (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) الفاء الفصيحة. وأوفوا فعل أمر، والواو فاعل، والكيل مفعول به، والميزان عطف على الكيل (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) الواو عاطفة، ولا ناهية، وتبخسوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، والواو فاعله، والناس مفعول به، وأشياءهم مفعول به ثان، يقال: بخسته حقه إذا أنقصته إياه (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) عطف على ما تقدم، ولا ناهية، وتفسدوا فعل مضارع مجزوم بلا، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بتفسدوا، وبعد إصلاحها ظرف زمان متعلق بمحذوف حال، ولا بد من تقدير مضاف، أي: إصلاح أهلها (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الجملة مستأنفة، واسم الإشارة مبتدأ، وخير خبر، ولكم جار ومجرور متعلقان بخير، وإن شرطية، وكنتم كان واسمها في محل جزم فعل الشرط، ومؤمنين خبر كنتم، وجواب إن محذوف، أي: فبادروا الى الايمان (وَلا تَقْعُدُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) عطف أيضا، وبكل جار ومجرور متعلقان بتقعدوا، وصراط مضاف إليه، وجملة توعدون في محل نصب على الحال، أي: ولا تقعدوا موعدين (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ) عطف أيضا، وعن سبيل الله جار ومجرور متعلقان بتصدون، ومن مفعول لتصدون، وجملة آمن به صلة، وبه جار ومجرور متعلقان بآمن (وَتَبْغُونَها عِوَجاً) وتبغونها فعل وفاعل ومفعول به، وعوجا حال وقع فيها المصدر موضع الاسم المشتق، أي: معوجة. ويجوز أن تكون الهاء في محل نصب بنزع الخافض، وعوجا مفعول به. وهو قول سليم تقدم في آل عمران، فجدد عهدا به (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ) عطف أيضا، وإذ ظرف لما مضى من الزمن في محل نصب مفعول به، أي: واذكروا شاكرين وقت كونكم قليلا عددكم. ويجوز أن تكون ظرفا، والمفعول به محذوفا، فيكون الظرف معمولا لذلك المحذوف، أي: واذكروا نعمته عليكم في ذلك الوقت، وجملة كنتم في محل جر بالإضافة، وكان واسمها وخبرها، فكثركم عطف على كنتم، أي: كثركم بالغنى بعد الفقر، وبالقدرة بعد الضعف (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) عطف أيضا، وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم، وعاقبة المفسدين اسمها، وقد علق الاستفهام النظر فالجملة في محل نصب بنزع الخافض، والجار والمجرور متعلقان بانظروا (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) الواو عاطفة، وإن شرطية، وكان واسمها، منكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لطائفة، وجملة آمنوا خبر كان، وبالذي جار ومجرور متعلقان بآمنوا، وجملة أرسلت به صلة (وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا) طائفة عطف على طائفة الأولى، وجملة لم يؤمنوا معطوفة على جملة آمنوا التي هي خبر كان، من عطف الاسم وعطف الخبر على الخبر، وحذف متعلق لم يؤمنوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 اكتفاء بمتعلق آمنوا (فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا) الفاء رابطة لجواب الشرط، وحتى حرف غاية وجر، ويحكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى، والجار والمجرور متعلقان باصبروا، وبيننا ظرف متعلق بيحكم (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) الواو للحال أو الاستئناف، وهو مبتدأ، وخير الحاكمين خبره. [سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 89] قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) اللغة: (لَتَعُودُنَّ) : لفعل «عاد» في لغة العرب استعمالان: أحدهما وهو الأصل: الرجوع الى ما كان عليه من الحال الأول، وثانيهما: استعمالها بمعنى صار، وحينئذ ترفع الاسم وتنصب الخبر. وقد جرينا على الإعراب ين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 الإعراب: (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) تقدم هذا الإعراب بنصه، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما قالوه بعد ما سمعوا من المواعظ (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) اللام موطئة للقسم، ونخرجنك فعل مضارع مبني على الفتح، والكاف مفعول به، والذين عطف على الكاف أو مفعول معه، وجملة آمنوا صلة، ومعك ظرف مكان متعلق بالإخراج لا بالإيمان، وتوسيط النداء باسم شعيب زيادة بيان إغراقهم في الوقاحة والطغيان، ومن قريتنا جار ومجرور متعلقان بنخرجنك (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أو عاطفة، ولتعودن عطف على جواب القسم الأول، أي: والله لنخرجنك والمؤمنين أو لتعودن، وتعودن هنا معرب لأنه لم يتصل مباشرة بنون التوكيد الثقيلة، وأصله تعودونن، فحذفت النون لتوالي الأمثال، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين، والواو إما فاعل وإما اسم تعود على الاستعمالين، وفي ملتنا جار ومجرور متعلقان بتعودن أو بمحذوف خبر تعودن (قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) جملة القول مستأنفة مسوقة لبيان ردّ شعيب عليه السلام، والهمزة للاستفهام الإنكاري، أي إنكار، ولو شرطية لمجرد الربط لا لانتفاء الشيء في الزمن الماضي لانتفاء غيره فيه، وكان واسمها وخبرها، وجملة لو كنا كارهين في محل نصب حال من ضمير الفعل المقدر، أي: أنعود ولو كنا كارهين (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ) الجملة مستأنفة مسوقة للتعجب من إصرارهم على موقفهم، وقد حرف تحقيق، وافترينا فعل وفاعل، وعلى الله جار ومجرور متعلقان بافترينا، وكذبا مفعول به أو صفة لمصدر محذوف، وإن شرطية، وعدنا في ملتكم في محل جزم فعل الشرط، وتقدم إعراب الباقي على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 الاستعمالين، وجواب إن محذوف دل عليه ما قبله، أي: فقد افترينا الكذب (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها) بعد ظرف زمان متعلق بمحذوف حال، والظرف مضاف الى ظرف آخر، وجملة نجانا في محل جر بالإضافة والله فاعل، ومنها جار ومجرور متعلقان بنجانا (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها) الواو استئنافية مسوقة لاستبعاد العود، وما نافية، ويكون فعل مضارع، ولنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر، وأن وما في حيزها هو اسم يكون، وفيها جار ومجرور متعلقان بنعود أو بمحذوف خبرها، على الاستعمالين (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا) في هذا الاستثناء وجهان: أحدهما أنه متصل، فعلى هذا يكون الاستثناء من أعم الأوقات أو الأحوال، وثانيهما أنه منقطع، فيكون التقدير: لكن إذا شاء الله العود، والله فاعل يشاء، وربنا بدل من الله (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان سعة علم ربنا، ووسع فعل ماض، وربنا فاعل، وكل شيء مفعول به، وعلما تمييز محوّل عن الفاعل، أي وسع علمه كل شيء (عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا) الجملة في موضع نصب على الحال، وعلى الله جار ومجرور متعلقان بتوكلنا، وتوكلنا فعل وفاعل (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) الجملة مستأنفة، وربنا منادى مضاف، وافتح فعل أمر، وبيننا ظرف مكان متعلق بافتح، أي: احكم بيننا وبين قومنا، والواو للحال أو للاستئناف أيضا، وأنت مبتدأ، وخير الفاتحين خبر. الفوائد: اشتملت هاتان الآيتان على: كثير من الفوائد نلخصها فيما يلي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 1- الشبهة في العود: إذا كانت «عاد» على معناها الأصلي فكيف يحسن أن يقال: «أو لتعودنّ» أي: ترجعنّ الى حالتكم الأولى، مع أن شعيبا عليه السلام لم يكن قط على دينهم ولا في ملتهم؟ وقد أجيب عن هذه الشبهة بأمور: 1- إن هذا القول من رؤسائهم قصدوا به التلبيس والإيهام على العوام بأنه كان على دينهم وفي ملتهم. 2- أن يراد بعوده رجوعه الى حاله قبل بعثته، وهي السكوت لأنه قبل أن يبعث يخفي إيمانه وهو ساكت. 3- تغليب الجماعة على الواحد، لأنهم لما أصحبوه مع قومه في الإخراج أجروا عليهم حكم العود الى الملة تغليبا لهم عليه. على أن استعمال عاد بمعنى صار لا يستدعي العود الى حالة سابقة بل العكس من ذلك، وهو الانتقال من حالة سابقة الى حال مؤتنفة، وحينئذ تندفع الشبهة تماما. وثمة وجه لطيف فني لردّ الشبهة ليس بعيدا وهو أن تبقى عاد على معناها الأصلي، وهو أن يكون الكلام من وادي قوله تعالى: «الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات الى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات» والإخراج يستدعي دخولا سابقا فيما وقع الإخراج منه، ونحن نعلم أن المؤمن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 الناشئ في الإيمان المترعرع على ذراه لم يدخل قط في ظلمة الكفر ولا كان فيها، وكذلك الكافر الأصلي لم يدخل قط في نور الايمان ولا كان فيه، ولكن لما كان الايمان والكفر من الأفعال الاختيارية كان تعبيرا عن السبب بالمسبب لإقامة حجة الله على عباده. 2- لزوم ما لا يلزم: وفي الآية الأولى لزوم ما لا يلزم وهي قوله تعالى: «لنخرجنك يا شعيب والذين معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا» فقد لزمت التاء قبل النون، وهذا ما يسمى «لزوم ما لا يلزم» ، وهو أن يلتزم الشاعر في شعره والناثر في نثره حرفا أو حرفين فصاعدا قبل حرف الرّويّ على قدر طاقته، ومقدار قوة عارضته، مشروطا بعدم الكلفة. وسيرد في القرآن الكثير منه. أبو العلاء المعرّي واللّزوم: وقد قال أبو العلاء: كثيّر أنا في حرفي أهبت له ... في التاء يلزم حرفا غير يلتزم فقد أرخ شاعرنا الفيلسوف في بيته الفنّ الذي أحبه ونذر له نفسه أولا وهو «لزوم ما لا يلزم» . ومعنى البيت أنه حذا حذو كثيّر عزة الذي التزم اللام في تائيته التي يقول في مستهلها: خليليّ هذا ربع عزّة فاعقلا ... قلوصيكما ثم احللا حيث حلّت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 وهذه القصيدة المستجادة تعدّ حسب رواية القالي خمسة وثلاثين بيتا، بناها من أولها الى آخرها على التزام حرف معين قبل الرّويّ، وهو أمر لم يسبق إليه شاعر من شعراء العرب في استخدام هذا النوع، فقلّده الشعراء، وهل أراد المعري ذلك؟ الجواب: لا، ومن رأينا أن المعري في اقتدائه بكثير عزّة لم يفعل ذلك، لأن كثيّرا أول من استخدم هذا الفن- كما توهم فريق من علماء البيان- بل لأن لزوم ما لا يلزم لم يرد إلا نادرا في شعر العرب قبل عصر كثير، كما أنه ورد في نبذ ومقطوعات قصيرة، أما كثير فقد نظم أشهر وأطول قصيدة لزومية تناقلتها الرواة. وقد أكثر شعراء العرب قبل كثير وبعده من التزام ما لا يلزم قبل تاء التأنيث هذه. هذا وقد بلغ أبو العلاء الغاية في لزومياته، فقد بنى قافية على دارهم، صدارهم، ملتزما فيها أربعة أحرف، وبنى أخرى على ضرائرهم، صرائرهم، سرائرهم، ملتزما فيها خمسة أحرف. ويطول بنا الحديث إن أردنا الاستشهاد فحسبنا ما تقدم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 90 الى 93] وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 اللغة: (يَغْنَوْا) مضارع غني بالمكان أقام به فهو غان. والمغني المنزل، والجمع المغاني، قال الطائي: غنينا زمانا بالتصعلك والغنى ... وكلا سقاناه بكاسيهما الدهر فما زادنا بغيا على ذي قرابة ... غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر (آسى) : أصله أأسى بهمزتين، قلبت الثانية ألفا. وفي المصباح: أسي أسى من باب تعب: حزن. الإعراب: (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) تقدم إعرابها (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) الجملة القسمية في محل نصب مقول قولهم، واللام موطئة للقسم، وإن شرطية، واتبعتم شعيبا فعل وفاعل ومفعول به، وإن واسمها، وإذن حرف جواب وجزاء مهمل، واللام المزحلقة، وخاسرون خبر إن، وجملة إنكم جواب القسم لا محل لها، وهي سادة مسد جواب الشرط كما هي القاعدة في اجتماع شرط وقسم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) الفاء عاطفة، وأخذتهم الرجفة فعل ومفعول به وفاعل، فأصبحوا عطف على فأخذتهم، والواو اسم أصبحوا وجاثمين خبرها، وفي دارهم جار ومجرور متعلقان بجاثمين (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) جملة مستأنفة لبيان حقيقة هؤلاء المكذبين. والذين مبتدأ، وجملة كذبوا شعيبا صلة، وكأن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وجملة لم يغنوا فيها خبرها (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) الذين مبتدأ، وجملة كذبوا شعيبا صلة، وجملة كانوا خبر الذين، وهذا التكرير في المبتدأ والخبر مبالغة في الردّ على أشياعهم وتسفيه آرائهم، والإيذان بأن ما ذكر في حيز الصلة هو الذي استوجب العقوبتين، وأسند الى الموصول تعظيما لغير السامعين، فإن خسران مكذبيه يدل على سعادة مصدقه، ويلزمه تعظيم شعيب عليه السلام الذي هو غير المتكلم والمخاطب في هذا المقام (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ: يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) الفاء عاطفة، وتولى فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو، وعنهم جار ومجرور متعلقان بتولي، وقال عطف على تولى، وجملة لقد أبلغتكم رسالات ربي مقول القول، ورسالات مفعول به ثان لأبلغتكم (وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) عطف على ما سبق، والفاء استئنافية، وكيف اسم استفهام معناه النفي في محل نصب حال، وآسى فعل مضارع، وفاعله مستتر تقديره أنا، وعلى قوم جار ومجرور متعلقان بآسى، وكافرين صفة لقوم. البلاغة: في الآية وصف لحال النفس في ترددها فقد اشتد حزنه على قومه ثم أنكر على نفسه فقال: كيف يشتد حزني على قوم ليسوا بأهل للحزن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 عليهم لكفرهم وتماديهم في الطغيان، واستحقاقهم لما نزل بهم؟ ثم يتخلل ذلك العودة عليهم بالملامة، يريد لقد أعذر من أنذر، وبلغت أقصى ما يستطيعه الغيور على قومه من الارتطام في بوادي الجهل المتشعبة، ومهالكه الموبقة. [سورة الأعراف (7) : الآيات 94 الى 96] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) اللغة: (عَفَوْا) : كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم من قولهم: عفا النبات وعفا الشحم والوبر إذا كثرت. ويقال: عفا: كثر، وعفا: درس، فهو من أسماء الأضداء. وفي المصباح أنه يتعدى ولا يتعدى، ويتعدى أيضا بالهمزة، فيقال: أعفيته. الإعراب: (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ) الواو استئنافية، والكلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 مستأنف مسوق لبيان أحوال الأمم بصورة مجملة لتكون مع القصة نذيرا للمنذرين. وما نافية، وأرسلنا فعل وفاعل، ومن حرف جر زائد، ونبيّ مجرور لفظا منصوب محلّا على أنه مفعول به (إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) إلا أداة حصر، فالاستثناء مفرّغ من أعم الأحوال، فجملة أخذنا في محل نصب على الحال بتقدير «قد» كما هو الشرط في وقوع الماضي حالا، وقد تقدّم بحثه. والتقدير: وما أرسلنا في قرية من القرى المهلكة نبيا من الأنبياء في حال من الأحوال إلا حال كوننا قد أخذنا. وأهلها مفعول به، وبالبأساء جار ومجرور متعلقان بأخذنا، والضراء عطف على البأساء، ولعلهم لعل واسمها، وجملة يضّرّعون خبرها، وجملة لعلهم يضرعون حالية. (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) ثم حرف عطف وتراخ، وبدلنا عطف على أخذنا منتظم في حكمه. ومكان مفعول به لبدلنا، والسيئة مضاف إليه، والحسنة مفعول به ثان، وهذا ما منع من نصبه على الظرفية، فالحسنة هي المأخوذة الحاصلة، ومكان السيئة هو المتروك الذاهب، وهو الذي تصحبه الباء في مثل هذا التركيب، وقد تقدم تحقيق ذلك في البقرة (حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا: قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) حتى حرف غاية وجر، وعفوا فعل ماض وفاعله، والمصدر المؤول المجرور بأن متعلقان ببدلنا، وقالوا عطف على عفوا، وجملة قد مس مقول القول، وآباءنا مفعول به، والضراء والسراء عطف عليه (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) فأخذناهم عطف على عفوا، وبغتة حال أو صفة لمصدر محذوف، وهم الواو حالية، وهم مبتدأ، وجملة لا يشعرون خبر، والجملة الاسمية في محل نصب حال (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) الواو استئنافية، ولو شرطية لمجرد الربط، وأن واسمها، وجملة آمنوا خبرها، وأن وما بعدها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 فاعل لفعل محذوف، أي: ثبت إيمانهم، ولفتحنا اللام واقعة في جواب لو، وفتحنا فعل وفاعل، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وعليهم جار ومجرور متعلقان بفتحنا، وبركات مفعول به، ومن السماء والأرض جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبركات (وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) الواو حالية، ولكن حرف استدراك مهمل، وكذبوا فعل وفاعل، والجملة نصب على الحال، فأخذناهم الفاء عاطفة، وأخذناهم فعل وفاعل ومفعول به، وبما جار ومجرور متعلقان بأخذناهم، وما مصدرية أو موصولة، وكان واسمها، وجملة يكسبون خبر، وجملة الكون صلة «ما» أو المصدر المؤول، لا محل له بعد الموصول الحرفي. [سورة الأعراف (7) : الآيات 97 الى 99] أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) اللغة: (بَياتاً) البيات يكون بمعنى البيتوتة، يقال: بات بياتا، وقد يكون بمعنى التبييت، كالسلام بمعنى التسليم، يقال بيته العدو بياتا، فيجوز أن يراد يأتيهم بأسنا بائتين أو وقت بيات، أو مبيتا أو مبيتين. والبيات الهجوم على الأعداء ليلا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 (الضُّحى) : اشتداد الشمس وامتداد النهار، يقال: ضحي، ويقال: ضحى وضحاء، إذا ضممته قصرته، وإذا فتحته مددته. الإعراب: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي، والفاء عاطفة على أخذناهم بغتة، وما بينها وهو قوله: «ولو أن أهل القرى» اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، وقد تقدّم أن مثل هذا التركيب يكون حرف العطف في نية التقديم، وإنما تأخر، وتقدمت عليه الهمزة لقوة تصدرها في أول الكلام. وأمن أهل القرى فعل وفاعل (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ) أن المصدرية وما في حيزها مفعول أمن، وبأسنا فاعل يأتيهم، وبياتا حال أو ظرف، والواو حالية، وهم نائمون مبتدأ وخبر، والجملة نصب على الحال من الضمير في يأتيهم (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) عطف على الجملة السابقة مماثلة لها في الإعراب، وضحى ظرف زمان متعلق بيأتيهم (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ) تقدم إعرابها، والتكرير لزيادة النكير والتوبيخ، وقد تقدم القول في المراد بمكر الله (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) الفاء عاطفة، ولا نافية، ويأمن مكر الله فعل ومفعول به، وإلا أداة حصر، والقوم فاعل، والخاسرون صفة. [سورة الأعراف (7) : الآيات 100 الى 102] أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 اللغة: (يَهْدِ) : يبين، من هدى يهدي. الإعراب: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة، ولم حرف نفي وقلب وجزم، ومعنى يهدي: أن يتبين وهي مجزومة ب «لم» وللذين متعلقان بيهد، وجملة يرثون الأرض صلة، ومن بعد أهلها جار ومجرور متعلقان بيرثون (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أن هنا هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وجملة نشاء خبر، وأن وما بعدها فاعل يهد، ويجوز أن يكون فاعل «يهد» مستترا هو ضمير «الله» أو ضميرا عائدا على المفهوم من سياق الكلام، أي: أولم يهد ما جرى للأمم السابقة، وعندئذ تكون أن وما في حيزها في تأويل مصدر في محل المفعول، والتقدير على الوجه الأول: أولم يهد الله ويبين للوارثين مآلهم وعاقبة أمرهم إصابتنا إياهم بذنوبهم، ويكون المفعول به محذوفا كما قدرناه. وعلى الوجه الثاني يكون التقدير: أولم يبين ويوضح الله أو ما جرى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 للامم إصابتنا إياهم لو شئنا ذلك. وأصبناهم فعل وفاعل ومفعول به، وبذنوبهم جار ومجرور متعلقان به (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة، ولا يجوز عطفه على جواب «لو» لأنه يؤدي الى كون الطبع منفيا بمقتضى «لو» مع أنه ثابت لهم، وعلى قلوبهم جار ومجرور متعلقان بنطبع (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) الفاء عاطفة لتعقيب عدم السمع بعد الطبع على القلب، وهم مبتدأ، وجملة لا يسمعون خبره (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها) تلك اسم إشارة في محل رفع مبتدأ، والقرى بدل من تلك، وجملة نقص خبر تلك. ويجوز أن تكون القرى هي الخبر وجملة نقص حالية، على حد قوله تعالى: «هذا بعلي شيخا» ، وعليك جار ومجرور متعلقان بنقصّ، ومن أبنائها، جار ومجرور متعلقان بنقص أيضا، ومن للتبعيض، أي: بعض أنبائها، ولها أنباء أخرى لم نقصها عليك، وجملة الإشارة استئنافية مسوقة لبيان أن هؤلاء لا تجدي فيهم النصائح والعبر، ولا تؤثر فيهم المواعظ، فماتوا مصرين على عنادهم، لم تلن لهم شكيمة، ولم يهدأ لهم عناد (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) الواو استئنافية أو عاطفة، واللام جواب قسم محذوف، وقد حرف تحقيق، وجاءتهم فعل ومفعول به، رسلهم فاعل، وبالبينات جار ومجرور متعلقان بجاءتهم (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) الفاء عاطفة، وما نافية، وكان واسمها، واللام للجحود، ويؤمنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود، والجار والمجرور متعلقان بالخبر المحذوف، أي فما كانوا مريدين ليؤمنوا، وبما جار ومجرور متعلقان بيؤمنوا، وما اسم موصول أو مصدرية، ومن قبل جار ومجرور متعلقان بكذبوا، وعلى كون «ما» موصولة فالعائد محذوف، وهو مجرور، كقوله تعالى في سورة يونس: «فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 به» ، وهو من اتحاد المتعلق معنى، وبيان كونه من ذلك أن مجموع «ما كانوا ليؤمنوا» بمعنى «كذبوا به» ، فاتحد المتعلقان معنى. ويمكن أن يقال: قد تعدى قوله تعالى: «ليؤمنوا» بالياء، ويؤمن نقيض يكذب، فأجراه مجراه، لأنهم قد يحملون الشيء على نقيضه، كما يحمل على نظيره (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) الكاف مع مدخولها صفة لمصدر محذوف، أي: مثل ذلك الطبع على قلوب أهل القرى المنتفى عنهم الايمان كذلك يطبع الله على قلوب الكفرة الآتين بعدهم (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) الواو معترضة، والجملة لا محل لها لأنها اعتراضية، وما نافية، ووجدنا فعل وفاعل، ولأكثرهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لعهد، ومن حرف جر زائد، وعهد مفعول به محلا لوجدنا، ويجوز أن يكون لأكثرهم مفعولا ثانيا لوجدنا، بترجيح أنها علمية لا وجدانية (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) الواو عاطفة، وإن مخففة من الثقيلة غير عاملة على قلة، ويجوز أن تكون عاملة واسمها ضمير الشأن، وسيأتي حكمها في باب الفوائد، ووجدنا أكثرهم فعل وفاعل ومفعول به، واللام الفارقة، وفاسقين مفعول به ثان لوجدنا. الفوائد: إذا خففت «إن» المكسورة الهمزة أهملت وجوبا إن وليها فعل، كقوله تعالى: «وإن نظنك لمن الكاذبين» ، فإن وليها اسم فالغالب إهمالها أيضا، نحو: إن أنت لصادق، ويقل إعمالها، نحو: إن زيدا لمنطلق. ومتى خففت وأهملت لزمتها اللام المفتوحة وجوبا تفرقة بينها وبين «إن» النافية وتسمى اللام الفارقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 [سورة الأعراف (7) : الآيات 103 الى 106] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) الإعراب: (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها) ثم: حرف عطف وتراخ، وبعثنا فعل وفاعل، من بعدهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، والضمير للرسل أو للأمم، وموسى مفعول به، وبآياتنا جار ومجرور متعلقان ببعثنا، والى فرعون جار ومجرور متعلقان ببعثنا أيضا، وملئه عطف على فرعون، أي الى قومه، فظلموا الفاء للعطف والتعقيب، وبها جار ومجرور متعلقان بظلموا، وأجرى الظلم مجرى الكفر لأنهما من شعبة واحدة، (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) تقدم إعراب نظيرها فجدد به عهدا (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) الواو استئنافية، والجملة مسوقة لتفصيل ما أجمله من قبل. ويا حرف نداء للتوسط، وفرعون منادى مفرد علم مبني على الضم، وهو لقبه، واسمه الحقيقي الوليد بن مصعب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 ابن الريان، أما كنيته فأبو مرة، وإن واسمها ومن رب العالمين خبرها، والجملة في محل نصب مقول القول (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) حقيق خبر لمبتدأ محذوف، أي: أنا حقيق، بمعنى جدير، والجملة استئنافية، وعلى أن لا أقول جار ومجرور متعلقان بحقيق، لأنه فعيل بمعنى فاعل أو مفعول، وعلى الله جار ومجرور متعلقان بأقول، وإلا أداة حصر، والحق صفة لمصدر محذوف، أي: إلا القول الحق، ويجوز أن يكون مفعولا به لأنه يتضمن معنى جملة (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) الجلة صفة لرسول، وقد حرف تحقيق، وجئتكم فعل وفاعل ومفعول به، وببينة جار ومجرور متعلقان بجئتكم، ومن ربكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبينة (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) الفاء الفصيحة، أي: إذا استمعت كلامي وثبت الى الرشد فخلّ أمرهم واترك سبيلهم حتى يذهبوا معي. وأرسل فعل أمر، ومعي ظرف متعلق بأرسل، وبني إسرائيل مفعول به، وغاية موسى تحريرهم من العبودية وتخليصهم من ربقة الأسر والهوان (قالَ: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) جملة قال استئنافية لطلب فرعون الإتيان بآية من ربه، والجملة الشرطية في محل نصب مقول القول، وإن شرطية، وكان واسمها، وجملة جئت خبر كنت، وبآية جار ومجرور متعلقان بجئت، والفاء رابطة للجواب، وأت فعل أمر، وبها جار ومجرور متعلقان به، وكنت كان واسمها في محل جزم فعل الشرط، ومن الصادقين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كنت، وجواب إن محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي: فأت بها. البلاغة: من سنن العرب في كلامهم القلب، وهو ضربان: الأول قلب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 الحقيقة الى المجاز لوجه من المبالغة، وقد تشبث أبو الطيب المتنبي بأهدابه حين قال: والسيف يشقى كما تشقى الضلوع به ... وللسّيوف كما للناس آجال والمراد بشقاء السيف انقطاعه في أضلاع المضروب، على حد قوله في بيت آخر: طوال الرّدينيّات يقصفها دمي ... وبيض السّريجيّات يقطعها لحمي والضرب الثاني ضرب معرّى عن هذا المعنى البليغ، كقولهم: خرق الثوب المسمار، وأشباهه. [سورة الأعراف (7) : الآيات 107 الى 112] فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 الإعراب: (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) الفاء عاطفة للتعقيب، وألقى فعل ماض، وعصاه مفعول به، فإذا الفاء عاطفة أيضا، وإذا الفجائية، وقد تقدم القول فيها، وإن النحاة ذهبوا فيها ثلاثة مذاهب: ظرف مكان أو زمان أو حرف، وهي مبتدأ، وثعبان خبر، ومبين صفة (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) الواو عاطفة، ونزع يده فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به، أي: أخرجها من جيبه، وهو طوق قميصه، والفاء عاطفة، وإذا فجائية، وهي مبتدأ، وبيضاء خبر، وللناظرين جار ومجرور متعلقان ببيضاء، والمعنى: فإذا هي بيضاء للنظّارة بياضا عجيبا باهرا خارقا للعادة، مع أنه كان آدم شديد الأدمة، أي السمرة. ولك أن تعلق الجار والمجرور بمحذوف صفة لبيضاء (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) كلام مستأنف مسوق ليعلن الملأ من قومه عجبهم، ولا منافاة بين ما ورد هنا من صدور الكلام عنهم وما ورد في سورة الشعراء من عزوه الى فرعون، فقد يكون هو القائل فحكوا قوله. وقال الملأ فعل وفاعل، ومن قوم فرعون جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وإن واسمها، واللام المزحلقة، وساحر خبر، وعليم صفة، والجملة في محل نصب مقول القول (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ) جملة يريد صفة ثانية لساحر، وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول به ليريد، ويخرجكم فعل مضارع منصوب بأن، ومن أرضكم جار ومجرور متعلقان بيخرجكم، والفاء عاطفة، وماذا اسم استفهام مفعول مقدم لتأمرون، أو «ما» مبتدأ و «ذا» اسم موصول خبرها، وجملة تأمرون لا محل لها، وقد تقدم القول مشبعا في «ماذا» وإعرابها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ) الكلام مستأنف مسوق لبيان رد الملأ من قومه. وجملة أرجه نصب مقول القول، وأرجه فعل أمر، أي: أرجه وأخره، وقد حذفت الهمزة تسهيلا، والهاء مفعول به، وأخاه عطف على الهاء، ولك أن تنصبها على أنها مفعول معه (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) الواو عاطفة، وأرسل فعل أمر، وفي المدائن جار ومجرور متعلقان بأرسل، وحاشرين صفة لمفعول به محذوف، أي: رجالا حاشرين السحرة، وقيل: هو منصوب على الحالية، ومفعول حاشرين محذوف، أي: السحرة، والمدائن جمع مدينة، فميمها أصلية وياؤها زائدة، مشتقة من مدن يمدن مدونا: أي أقام، وإذا كانت الياء زائدة في المفرد تقلب همزة في الجمع (يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) يأتوك فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب، والواو فاعل، والكاف مفعول به، وبكل جار ومجرور متعلقان بيأتوك، وساحر مضاف إليه، وعليم صفة. الفوائد: تقدم القول مستوفى في «إذا» الفجائية، ونورد هنا المسألة الزّنبوريّة، وهي مناظرة جرت بين سيبويه والكسائي. وكان من خبرهما أن سيبويه قدم على البرامكة، فعزم يحيى بن خالد على الجمع بينهما، فجعل لذلك يوما. فلما حضر سيبويه تقدم إليه الفراء وخلف، فقال سيبويه: لست أكلمكما حتى يحضر صاحبكما فحضر الكسائي فقال له: تسألني أو أسألك؟ فقال له سيبويه: سل أنت. فسأله عن المسألة الزنبورية، وهي: قالت العرب: «قد كنت أظنّ أن العقرب أشد لسعا من الزنبور فإذا هو هي» . وقالوا أيضا: «فإذا هو إياها» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 فقال سيبويه: «لا يجوز النصب» فقال يحيى: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن يحكم بينكما؟ فقال الكسائي: العرب ببابك، قد سمع منهم أهل البلدين فيحضرون ويسألون. فقال يحيى وجعفر: أنصفت، فأحضروا فوافقوا الكسائي، فاستكان سيبويه، فأمر له يحيى بعشرة آلاف درهم، فخرج الى فارس فأقام بها حتى مات، ولم بعد الى البصرة. فيقال: إن العرب قد ارشوا على ذلك، وأنهم علموا بمنزلة الكسائي عند الرشيد. [سورة الأعراف (7) : الآيات 113 الى 116] وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) الإعراب: (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ) فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة (قالُوا: إِنَّ لَنا لَأَجْراً) قالوا: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لإيراد جوابهم على تقدير: سأل: «ما قالوا» ، وتنكير الأجر يقصد به المبالغة في الكثرة. وإن حرف مشبه بالفعل، ولنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها المقدم، واللام المزحلقة، وأجرا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 خبرها، والجملة في محل نصب مقول القول (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) إن شرطية، وكان واسمها، ونحن تأكيد ل «نا» ، ويجوز أن يكون ضمير فصل أو عماد، والغالبين خبر، وجواب الشرط محذوف للدلالة عليه (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) الكلام مستأنف مسوق لإيراد جواب فرعون. ونعم حرف جواب تضمن تحقيق ما طلبوه من أجر كثير، وإنكم الواو عاطفة على محذوف سدّ مسدّه حرف الجواب، كأنه قال: نعم إن لكم لأجرا، وإنكم إن واسمها، واللام المزحلقة، ومن المقربين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر إنّ (قالُوا: يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) جملة مستأنفة تضمنت مخاطبة السحرة لموسى، وفيه الكثير من الأدب الرفيع المتبادل بين أبناء المهنة الواحدة، كما يفعل أصحاب الصناعات إذا التقوا. وإما حرف شرط تضمن معنى التخيير، وفيه يتجلى حسن أدب منهم. وأن مصدرية مؤوّلة مع ما في حيزها بمصدر مرفوع على أنه مبتدأ خبره محذوف، والتقدير: إما إلقاؤك مبدوء به، أو خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: وإما أمرك إلقاء، ويجوز أن يكون المصدر منصوبا بفعل محذوف، أي: افعل إما إلقاءنا وإما إلقاءك (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) عطف على ما تقدم (قالَ: أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) جملة ألقوا في محل نصب مقول قوله وجملة قال استئنافية والفاء استئنافية ولما رابطة أو حينية وألقوا فعل وفاعل وجملة سحروا جواب لما وأعين الناس مفعول به واسترهبوهم عطف على سحروا كأنهم استدعوا رهبتهم (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) عطف أيضا وبسحر جار ومجرور متعلقان بجاءوا وعظيم صفة لسحر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 [سورة الأعراف (7) : الآيات 117 الى 122] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) اللغة: (تَلْقَفُ) مضارع لقف، كعلم يعلم، يقال: لقفت الشيء ألقفه لقفا وتلقّفته أتلقّفه تلقّفا إذا أخذته بسرعة فأكلته أو ابتلعته. ويقال: لقف ولقم بمعنى واحد. (يَأْفِكُونَ) : الإفك: في الأصل قلب الشيء عن وجهه، ومنه قيل للكذاب: أفّاك، لأنه يقلب الكلام عن وجهه الصحيح الى الباطل. الإعراب: (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ) الواو استئنافية، وأوحينا فعل وفاعل، والى موسى جار ومجرور متعلقان بأوحينا، و «أن» يجوز أن تكون مفسرة لوقوعها بعد ما فيه معنى القول دون حروفه، ويجوز أن تكون أن مصدرية، فتكون هي وما بعدها مفعول أوحينا، وألق فعل أمر، وعصاك مفعول به لألق (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) الفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق، والتقدير: فألقاها فإذا هي، وإذا الفجائية، وهي ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ، وجملة تلقف خبر، و «ما» يجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي: الذي يأفكونه، ويجوز أن تكون مصدرية مؤوّلة مع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 ما بعدها بمصدر منصوب على المفعولية لتلقف، وجملة يأفكون لا محل لها على كل حال (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) الفاء عاطفة، ووقع الحق فعل وفاعل، وبطل فعل ماض، و «ما» موصولة أو مصدرية، وهي في محل رفع فاعل، أو مع ما في حيزها. وكان واسمها، وجملة يعملون خبرها (فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) الفاء عاطفة، غلبوا فعل ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعل، وهنالك اسم إشارة في محل نصب على الظرفية المكانية، أي: غلبوا في المكان الذي وقع فيه سحرهم، وانقلبوا عطف على غلبوا، وصاغرين حال (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) عطف على ما قبله، والسحرة نائب فاعل لألقي، وساجدين حال من السحرة (قالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) الجملة مستأنفة لا محل لها، ويجوز أن تكون حالية، أي: ألقوا حال كونهم ساجدين قائلين، وجملة آمنا في محل نصب مقول القول، وبرب العالمين جار ومجرور متعلقان بآمنا (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) رب بدل من رب العالمين أو نعت له، وقدموا موسى على هارون- وإن كان هارون أسنّ منه- لأمرين: أولهما ارتفاعه عليه بالرتبة، ولأنه وقع فاصلة، ومراعاة الفواصل تكاد تكون مطردة في القرآن. [سورة الأعراف (7) : الآيات 123 الى 126] قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 اللغة: (خِلافٍ) : يكاد المفسرون يجمعون على أن المعنى هو أن يقطع من كل شقّ طرفا فيقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى. وقالوا: إن أول من قطع من خلاف وصلب هو فرعون. وفي اللغة خالفه خلافا بكسر الخاء ومخالفة: ضد وافقه، وخالف بين رجليه قدم إحداهما وأخر الأخرى، فلعله مأخوذ من هذا المعنى. ويبعد قول من فسره بالمخالفة أي: لأقطعنّ أيديكم وأرجلكم لأجل مخالفتكم إياي. فتكون «من» تعليلية لأن هذا يتنافى مع أسلوب القرآن البليغ. (تَنْقِمُ) في المصباح: نقمت عليه أمره ونقمت منه نقما من باب ضرب، ونقوما. ونقمته أنقمته من باب تعب لغة: إذا عيبته وكرهته أشد الكراهة لسوء فعله. الإعراب: (قالَ فِرْعَوْنُ: آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) جملة قال فرعون استئنافية مسوقة للإنكار على السحرة، موبخا لهم على ما فعلوه. وجملة آمنتم في محل نصب مقول القول، وهي بهمزة واحدة وبعدها الألف التي هي فاء الكلمة، وهي إحدى القراءات الأربع في هذه الكلمة. وتحتمل الإخبار المحض المتضمن للتوبيخ، وتحتمل الاستفهام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 المحذوف لفهم المعنى، وبه جار ومجرور متعلقان بآمنتم وقبل ظرف زمان متعلق بآمنتم أيضا، وأن وما في حيزها مصدر مضاف، وآذن أصله أأذن وهو فعل مضارع منصوب بأن، والهمزة الأولى هي همزة المتكلم التي تدخل على المضارع، والثانية قلبت ألفا لوقوعها ساكنة بعد همزة أخرى، ولكم جار ومجرور متعلقان بآذن، وجملة آمنتم في محل نصب مقول قوله (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ) كلام مستأنف مسوق أتى به فرعون ليؤكد لهم أن إيمانهم يقوم على تواطؤ بينهم وبين موسى، وعقب الكلام بأنه قوي، فجنح الى التهديد. وإن واسمها، واللام المزحلقة، ومكر خبرها، وجملة مكرتموه صفة لمكر، وفي المدينة جار ومجرور متعلقان بمكرتموه (لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) اللام للتعليل، وتخرجوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بمكرتموه، ومنها جار ومجرور متعلقان بتخرجوا، وأهلها مفعول به، والفاء الفصيحة، وسوف حرف استقبال، وتعلمون فعل مضارع وفاعل، ومفعوله محذوف للعلم به، أي: تعلمون ما يحل بكم من قوارع العذاب (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) اللام موطئة للقسم، وأقطعن فعل مضارع مبني على الفتح، والجملة لا محل لها لأنها جواب قسم مفسرة للإبهام الناشئ عن حذف المفعول به، وأيديكم مفعول به، وأرجلكم عطف على أيديكم، ومن خلاف جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، أي: مختلفة، ويجوز أن تكون «من» للتعليل، فيتعلق الجار والمجرور بنفس الفعل (ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) ثم حرف عطف وتراخ، لأصلبنكم عطف على لأقطعن، وأجمعين تأكيد للكاف (قالُوا: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) كلام مستأنف مسوق للإدلاء بجوابهم عند تهديده إياهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 بأنهم لا يبالون بالموت لانقلابهم الى ربهم، ورحمته وأنهم ميتون منقلبون الى ربهم، فما تفعل الا مالا بد منه، وإن وما بعدها مقول القول، وإنا: إن واسمها، والى ربنا متعلقان بمنقلبون، ومنقلبون خبر إن. (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا) الواو عاطفة، والكلام منسوق على ما تقدم من جوابهم، وما نافية، وتنقم فعل مضارع، وفاعله مستتر تقديره أنت، ومنا جار ومجرور متعلقان بتنقم، أي: ما تعيب علينا إلا إيماننا، وإلا أداة حصر، وأن مصدرية، وهي مع مدخولها مصدر مفعول تنقم، ويجوز أن يكون المصدر مفعولا من أجله، فهو استثناء مفرّغ على كل حال، وبآيات ربنا جار ومجرور متعلقان بآمنا، ولما رابطة أو حينية، وجملة جاءتنا لا محل لها أو في محل جر بالإضافة (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) كلام مستأنف تحولوا فيه عن خطابه الى الفزع لله وتفويض الأمور إليه. وربنا منادى مضاف، وأفرغ فعل دعاء تأدّبا، وعلينا جار ومجرور متعلقان بأفرغ، وصبرا مفعول به، وتوفنا عطف على أفرغ، ومسلمين حال، ومعنى الإفراغ هنا الصب، أي: صبّ علينا أجرا واسعا يفيض علينا ويغمرنا كما يصب الماء، وجواب «لما» محذوف تقديره: لما جاءتنا آمنا بها من غير تردد. وجملة الجواب لا محل لها على كل حال. البلاغة: في هذه الآية فنّ طريف وهو تأكيد المدح بما يشبه الذم، أو المدح في معرض الذم. وهو نوعان: 1- أن يستثنى من صفة ذمّ منفية عن الشيء صفة مدح لذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 الشيء بتقدير دخولها في صفة الذمّ، وهذا النوع هو المشهور، ومنه قول النابغة الذبياني: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب ومنه الآية التي نحن بصددها، وقد مرت آية في المائدة مماثلة لها أيضا. 2- أن تثبت لشيء صفة مدح، وتعقب ذلك بأداة استثناء يليها صفة مدح أخرى لذلك الشيء نحو: أنا أفصح العرب بيد أني من قريش. ومنه قول النابغة أيضا: فتى كملت أوصافه غير أنه ... جواد فما يبقي على المال باقيا [سورة الأعراف (7) : الآيات 127 الى 129] وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 اللغة: (نَسْتَحْيِي) أي: نسبقي نساءهم للخدمة. الإعراب: (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ) الواو استئنافية أو عاطفة، والكلام مستأنف لبيان ما قاله ملأ فرعون وتحريضهم على موسى وقومه، أو عطف على ما تقدم. وقال الملأ فعل وفاعل، ومن قوم فرعون جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الملأ (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) الاستفهام إنكاري لتحريض فرعون على موسى وقومه، وتذر فعل مضارع، وفاعله مستتر، والجملة مقول القول، وموسى مفعول به، وقومه عطف على موسى، واللام للتعليل، ويفسدوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والجار والمجرور وهو لام التعليل والمصدر المؤول بعدها متعلقان بتذر، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بيفسدوا، ويذرك: يجوز أن يكون معطوفا على يفسدوا فينصب مثله، ويجوز أن تكون الواو للمعية ويذكرك منصوب بأن مضمرة بعد الواو في جواب الاستفهام، والكاف مفعول به، وآلهتك عطف على الضمير أو مفعول معه، والمعنى كيف يكون الجمع بين تركك موسى وقومه مفسدين في الأرض وبين تركهم إياك وعبادة آلهتك؟ (قالَ: سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) جملة القول مستأنفة مسوقة لحكاية حال فرعون بعد فرقه من إلحاق أي مكروه بموسى عليه السلام، وعدل الى إعادة القتل والإثخان في قومه، وقرئ سنقتّل بالتشديد وضمّ النون، أما مع التخفيف فتكون النون مفتوحة، وجملة سنقتل نصب على أنها قول قوله، وأبناءهم مفعول به، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 ونستحيي نساءهم عطف (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) الواو عاطفة أو حالية، وإن واسمها، وقاهرون خبرها، والظرف متعلق بقاهرون أو بمحذوف حال، (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ) جملة مستأنفة مسوقة لحكاية قول موسى لقومه طالبا منهم الاستعانة بالله، وجملة استعينوا في محل نصب مقول القول (وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) عطف على استعينوا، وان واسمها، ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها، والجملة لا محل لها لأنها تعليلية، وجملة يورثها في محل نصب على الحال من لفظ الجلالة أو خبر بعد خبر لإن، ومن اسم موصول مفعول به ثان ليورثها، والعاقبة الواو استئنافية، والعاقبة مبتدأ، وللمتقين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (قالُوا: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) كلام مستأنف مسوق لبيان ما قاله قوم موسى، ويتذمرون منه، لما كانوا يمتهنون فيه من ضروب الخدم، ويسامون به من ألوان العذاب قبل مولد موسى عليه السلام، وبعد مولده، فقد كان فرعون وقومه يستخدمونهم في الأعمال الشاقة. وجملة أوذينا في محل نصب مقول قولهم، ومن قبل جار ومجرور متعلقان بأوذينا، وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مجرور بالإضافة، ومن بعد عطف على من قبل، وما مصدرية، مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالإضافة (قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان جواب موسى عليه السلام، على تذمر قومه به جريا على طبيعتهم، وجملة الرجاء في محل نصب مقول قوله، وفيه رمز الى البشارة بإهلاك فرعون. وعسى فعل ماض من أفعال الرجاء، وربكم اسمها، وأن يهلك مصدر مؤول في محل نصب خبرها، وعدوكم مفعول به (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) عطف على ما تقدم (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) الفاء عاطفة للتعقيب، وينظر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 عطف على يستخلفكم، وكيف استفهام في موضع نصب على الحالية أو المفعولية المطلقة. [سورة الأعراف (7) : الآيات 130 الى 132] وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) اللغة: (السنون) : جمع سنة، وهي اثنا عشر شهرا، وتجمع على سنين وسنوات وسنهات، وتصغيرها على سنيّة وسنينة وسنيهة، والنسبة إليها سنويّ وسنهيّ، والجمع يعرب بالحروف إلحاقا بجمع المذكر السالم. وربما أعرب بالحركات. والسنة أيضا: الجدب والقحط، وقد اشتقوا منها، فقالوا: أسنت القوم بمعنى أجدبوا وأقحطوا. (يَطَّيَّرُوا) الأصل: يتطيروا، فأدغمت التاء في الطاء لمقاربتها لها، والتطيّر كما في معاجم اللغة: التشاؤم، وأصله أن يفرق المال ويطير بين القوم، فيطير لكل واحد حظه وما يخصه، ثم أطلق على الحظ والنصيب السيء بالغلبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 الإعراب: (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في تفصيل كيفية إهلاكهم وما سبقه من أحداث. واللام جواب قسم محذوف، وقد حرف تحقيق، وأخذنا فعل وفاعل، وآل فرعون مفعول به، وبالسنين جار ومجرور متعلقان بأخذنا (وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) الواو عاطفة، ونقص عطف على السنين، ومن الثمرات جار ومجرور متعلقان بنقص، والمراد إتلاف الغلة بالآفات المختلفة، ولعل واسمها، وجملة يذكرون خبرها، وجملة لعلهم يتذكرون حالية (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا: لَنا هذِهِ) الفاء عاطفة، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط، وجملة جاءتهم الحسنة في محل جر بالإضافة، والمراد ما يصيبهم من الرخاء والخصب، وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، ولنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وهذه اسم إشارة في محلّ رفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول قولهم (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) الواو عاطفة، وإن شرطية، وتصبهم فعل الشرط، والهاء مفعول به، وسيئة فاعل، ويطيروا جواب الشرط، وبموسى جار ومجرور متعلقان بيطّيّروا، ومن عطف على موسى، ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف لا محل له من الأعراب لأنه صلة الموصول (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ) ألا أداة استفتاح وتنبيه، وإنما كافة ومكفوفة، وطائرهم مبتدأ، وعند الله ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر، والجملة مستأنفة مسوقة من قبله تعالى للرد على اقتنائهم، وأن ما أصابهم هو جزاء وفاق لأعمالهم السيئة المسجلة عنده (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الواو حالية، ولكن واسمها، والجملة نصب على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 الحال، وجملة لا يعلمون خبر لكنّ (وَقالُوا: مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها) الواو عاطفة، وقالوا فعل وفاعل، ومهما اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، وتأتنا فعل الشرط ومفعول به، وبه جار ومجرور متعلقان بتأتنا، ومن آية جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، ولتسحرنا اللام للتعليل، وتسحرنا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، ونا مفعول به، والجار والمجرور «لام التعليل والمصدر المؤول بعدها» متعلقان بتأتنا وبها جار ومجرور متعلقان بتسحرنا (فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) الفاء رابطة لجواب الشرط، وما نافية حجازية، ونحن واسمها، ولك جار ومجرور متعلقان بمؤمنين، والباء حرف جر زائد، ومؤمنين مجرور لفظا منصوب محلا لأنه خبر «ما» . والجملة في محل جزم جواب الشرط، وجملة فعل الشرط وجوابه خبر مهما. البلاغة: في تعريف الحسنة وتنكير السيئة فنّ عجيب من فنون علم المعاني، فقد عرّف الحسنة وذكرها مع أداة التحقيق لكثرة وقوعها وتعلق الإرادة بأحداثها، ونكّر السيئة وأتى بها مع حرف الشك لندورتها، ولعدم القصد إليها، إلا بالتبع. وفي الحسنة والسيئة طباق جميل. الفوائد: 1- الطيرة: أوردنا في باب اللغة المفهوم اللغوي للطّيرة، ثم اصطلح علماء النفس على معنى أثبت لها، فاعتبروها مرضا من شعبة أمراض الخوف الناشئ عن ضعف الأعصاب واختلالها، إلا أنها خوف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 خاص له بواعثه وأعراضه، وأولها ضعف الأعصاب، فالرجل السليم لا يتطيّر ولا يتشاءم، لأنه ينتظر من الدنيا خيرا، ولا يحس النفرة بينه وبينها، ومن ثم لا يحس الخوف ولا التطيّر منها، ويمكن أن نعتبر الطيرة أنها تشاؤم مؤقت استدعته ظروف طارئة، وجوّ يلائم حالات اليأس والتشاؤم العارضة، فاذا بالمتطيّر يتسلف الفزع من الشر قبل وقوعه. ابن الرومي شاعر التطيّر: ومن شعرائنا الذين اشتهروا بالطيّرة ابن الرومي، فقد كان يشعر من قرارة نفسه أنه فروقة حذور، وهو في الوقت نفسه يشعر أن حذره لا يدفع عنه ما هو مراد به، ولكنه يرى أنه لا مندوحة له عنه للاعتصام به، وليستشعر الأمن الذاهب والقلق الواجف: فآمن ما يكون المرء يوما ... إذا لبس الحذار من الخطوب ويرى بعض النقاد أن من روافد الطيرة في ابن الرومي ذوق الجمال وتداعي الخواطر، ذلك أن النفس المطبوعة على استذواق الجمال تفرح وتهلل للمناظر المغرية الأخاذة، وبالعكس تنفر وتنقبض من المناظر الدميمة الشوهاء، أما تداعي الخواطر فصاحبه فريسة للنوازع عرضة للتأويلات التي لا مسوّغ لها يستخرج من الكلمات المهموسة، أو الفكر الطارئة أمورا يحذر منها المرء ويخاف، فقد كان ابن الرومي يتطير من صديقه جعفر في حال مرضه، ولكنه لم يتطير منه قبل المرض، ودعواه أن جعفرا مشتق من الجوع والفرار، والخان يذكّره بالخيانة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 فكم خان سفر خان فانقضّ فوقهم ... كما انقضّ صقر الدجن فوق الأرانب وقال في ابن طالب الكاتب: وهل أشبه المرّيخ إلا وفعله ... لفعل نذير السوء شبه مقارب وهل يتمارى الناس في شؤم كاتب ... لعينيه لون السيف والسيف قاصب ويدعى أبوه طالبا وكفاكم ... به طيرة أن المنيّة طالب ألا فاهربوا من طالب وابن طالب ... فمن طالب مثليهما طار هارب وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب الفال ويكره الطيرة، روي مرفوعا: «إذا ظننتم فلا تحققوا، ... وإذا تطيرتم فامضوا وعلى الله فتوكلوا» . ومن طرائف المتطيّرين ما يروى أن النجوم تساقطت في زمن أحد الخلفاء، فتطير من ذلك، وأحضر المنجمين والعلماء، فما أجابوا بشيء، فقال شاعر: هذي النجوم تساقطت ... لرجوم أعداء الأمير فتفاءل به، وأمر له بصلة سنية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 2- القول في مهما: قال سيبويه: وسألت الخليل عن «مهما» فقال: هي «ما» أدخلت معها «ما» ولكنهم استقبحوا تكرير لفظ واحد فأبدلوا الهاء من الألف التي في الأولى. وقد استدل بعض العلماء على أنها حرف بقول زهير بن أبي سلمى: ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم فأعرب هؤلاء «خليقة» اسما لتكن، ومن زائدة، فتعيّن خلو الفعل من الضمير، ولم يكن ل «مهما» محل من الإعراب، إذ لا يليق بها إلا الابتداء، والابتداء متعذّر لعدم وجود رابط، وإذا ثبت أن لا موضع لها تعين كونها حرفا، والتحقيق أن اسم تكن مستتر، ومن خليقة تفسير لمهما، ومهما مبتدأ، والجملة خبر، وفي الآية الضميران في «به» و «بها» راجعان لمهما، إلا أن أحدهما ذكّر على اللفظ، والآخر أنّث على المعنى، لأنه في معنى الآية. وهذا الذي أنكره الزمخشري من أن «هما» لا تأتي ظرف كان، قد ذهب إليه ابن مالك، ذكره في التسهيل وغيره من تصانيفه، إلا أنه لم يقصر مدلولها على أنها ظرف زمان، بل قال: وقد ترد «ما» و «مهما» ظرفي زمان، وقال في أرجوزته الطويلة المسماة بالشافية الكافية:: وقد أتت مهما وما ظرفين في ... شواهد من يعتضد بها كفى وقال في شرح البيت: جميع النحويين يجعلون «ما» و «مهما» مثل «من» في التجرد عن الظرف، مع أن استعمالهما ظرفين ثابت في استعمال الفصحاء من العرب، وأنشد أبياتا عن العرب زعم فيها أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 ما ومهما ظرفا زمان، وكفانا الرد عليه ابنه الشيخ بدر الدين بن محمد، وقد تأولنا نحن بعضها، وذكرنا ذلك في كتاب التكميل لشرح التسهيل من تأليفنا، وكفاه ردا نقله عن جميع النحويين خلاف ما قاله، لكن من يعاني علما يحتاج الى مثوله بين يدي الشيوخ، وأما من فسر «مهما» في الآية بأنها ظرف زمان فهو كما قال الزمخشري ملحد في آيات الله. وعبارة الزمخشري: «وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرّفها من لا يد له في علم العربية فيضعها غير موضعها، ويحسب «مهما» بمعنى «متى ما» ويقول مهما جئتني أعطيتك، وهذا من وضعه وليس من كلام واضعي العربية في شيء، ثم يذهب فيفسر: مهما تأتني به من آية، بمعنى الوقت فيلحد في آيات الله، وهو لا يشعر، وهذا وأمثاله مما يوجب الجثو بين يدي الناظر في كتاب سيبويه» . [سورة الأعراف (7) : الآيات 133 الى 136] فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 اللغة: (الطُّوفانَ) : اختلفت فيه أقوال علماء اللغة فقال بعضهم: هو اسم جنس كقمح وقمحة وشعير وشعيرة. وقيل بل هو مصدر كالنقصان والرجحان، وهذا قول المبرد. وهو يطلق في اللغة على الماء أو السيل المغرق، وعلى شدة ظلام الليل، وعلى الموت الذرّيع الجارف. والطوفان من كل شيء مهما كان كثيرا. (الْجَرادَ) : جمع جرادة، الذكر والأنثى فيه سواء، يقال: جرادة ذكر وجرادة أنثى، كنملة وحمامة. وهي صنفان الطيار وهو الذي يطير غالبا والزّحاف. (الْقُمَّلَ) : اختلفت فيه الأقوال كثيرا فقيل: هو القردان وقيل: دابة تشبهها أصغر منها، وقيل: هو السوس الذي يخرج من الحنطة، وقيل: هو نوع من الجراد أصغر منه وقيل: هو القمل بفتح القاف الذي يكون في بدن الإنسان وثيابه، فيكون فيه لغتان. (الضَّفادِعَ) : جمع ضفدع بوزن درهم، ويجوز كسر داله فيصير بزنة زبرج، والضفدع مؤنث وليس بمذكّر، فعلى هذا يفرق بين مذكره ومؤنثه بالوصف فيقال: ضفدع ذكر وضفدع أنثى، والجمع ضفادع وضفادي. (الرِّجْزُ) : العذاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 الإعراب: (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ) الفاء عاطفة، وأرسلنا فعل وفاعل، وعليهم: جار ومجرور متعلقان بأرسلنا، والطوفان مفعول به، وما بعده عطف عليه (آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) آيات حال من الخمسة المذكورات: ومفصلات صفة، فاستكبروا عطف على أرسلنا، وكانوا قوما مجرمين كان واسمها، وقوما خبرها، ومجرمين صفة (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ) الواو عاطفة، ولما رابطة أو حينية، ووقع فعل ماض، وعليهم جار ومجرور متعلقان بوقع، والرجز فاعل، وجملة وقع لا محل لها أو في محل جر بالإضافة (قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) جملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، ويا حرف نداء، وموسى منادى مفرد علم، وادع فعل أمر، ولنا جار ومجرور متعلقان ب «ادع» ، وربك مفعول به، وبما جار ومجرور متعلقان ب «ادع» وما مصدرية أو موصولة، وجملة عهد لا محل لها على كل حال، وعندك ظرف مكان متعلق بعهد (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ) اللام موطئة للقسم، وإن شرطية وكشفت فعل ماض وفاعل وهو في محل جزم فعل الشرط، وعنا جار ومجرور متعلقان بكشفت، والرجز مفعول به، ولنؤمنن: اللام جواب للقسم، ونؤمنن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والجملة لا محل لها لأنها جواب للقسم، ولك جار ومجرور متعلقان بنؤمننّ (وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) عطف على ما تقدم، ومعك ظرف مكان متعلق بنرسلن، وبني إسرائيل مفعول به (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ) الفاء عاطفة، ولما رابطة أو حينية، وجملة كشفنا لا محل لها أو في محل جر بالإضافة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 وكشفنا فعل وفاعل، والرجز مفعول به، وعنهم جار ومجرور متعلقان بكشفنا (إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) الى أجل جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وهم مبتدأ، وبالغوه خبر، والجملة الاسمية صفة لأجل، وإذا الفجائية وقد تقدم أننا اخترنا الحرفية لها وجها، وهم مبتدأ، وجملة ينكثون خبره، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وقد استدل سيبويه بهذه الآية على أن «لما» حرف وجوب لوجوب، أي رابطة لا ظرف بمعنى حين- كما زعم بعضهم- لافتقاره الى عامل فيه، ولا يحتمل إضمارا، ولا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ) فانتقمنا عطف، ومنهم جار ومجرور متعلقان بانتقمنا، فأغرقناهم عطف أيضا، وفي اليم جار ومجرور متعلقان بأغرقناهم (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) بأنهم الباء وما في حيزها جار ومجرور متعلقان بأغرقناهم، ومعنى الباء السببية، أي: بسبب أنهم، وجملة كذبوا خبر أن، وكانوا عطف على كذبوا، وعنها جار ومجرور متعلقان بغافلين، وغافلين خبر كانوا. البلاغة: سر استعمال القمّل: وردت لفظة «القمّل» في آية من القرآن حسنة مستساغة، وقد وردت في بيت للفرزدق غير حسنة مستهجنة، وهو: من عزّه احتجزت كليب عنده ... زربا كأنهم لديه القمّل وإنما حسنت هذه اللفظة في الآية دون البيت لأنها جاءت في الآية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 مندرجة في ضمن كلام متناسب، ولم ينقطع الكلام عندها، وجاءت في الشعر قافية، أي: آخرا انقطع الكلام عندها، فقد تضمنت الآية خمسة ألفاظ هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وأحسن هذه الألفاظ الخمسة هي الطوفان والجراد والدم، فلما وردت هذه الألفاظ الخمسة بجملتها قدم منها الطوفان والجراد وأخرت لفظة الدم آخرا، وجعلت لفظة القمل والضفادع في الوسط، ليطرق السمع أولا الحسن من الألفاظ الخمسة، وينتهي إليه آخرا. ثم إن لفظة «الدم» أحسن من لفظتي «الطوفان» و «الجراد» ، وأخف في الاستعمال، ومن أجل ذلك جيء بها آخرا. ومراعاة مثل هذه الأسرار والدقائق في استعمال الألفاظ ليس من القدرة البشرية. [سورة الأعراف (7) : الآيات 137 الى 138] وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 اللغة: (كَلِمَتُ رَبِّكَ) نصّوا على رسم هذه بالتاء المجزورة (أي المبسوطة) وما عداها في القرآن بالهاء على الأصل، والمراد بالكلمة وعده تعالى لهم بقوله: «ونريد أن نمنّ» إلخ. (يَعْرِشُونَ) : بضم الراء وكسرها، وقد قرئ بهما في السبع. أي يرفعون من البنيان تمهيدا للشروع في قصة بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من فرعون من أنواع الكفر وأنماط التعنت والشطط مما لا تزال شواهده نواطق بحقائقهم. الإعراب: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) الواو عاطفة أو استئنافية، وأورثنا القوم فعل وفاعل ومفعول به، والذين صفة للقوم، وجملة كانوا صلة الموصول، وجملة يستضعفون خبر كانوا، ويستضعفون فعل مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعل، مشارق الأرض مفعول به ثان، ومغاربها عطف على مشارق (الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) التي اسم موصول صفة للمشارق والمغارب، وجملة باركنا لا محل لها لأنها صلة الموصول، وفيها جار ومجرور متعلقان بباركنا، وتمت كلمة ربك عطف على «أورثنا» ، وكلمة فاعل، والحسنى صفة لكلمة، وعلى بني إسرائيل جار ومجرور متعلقان بتمت وبما جار ومجرور متعلقان بصبروا (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) الواو عاطفة، ودمرنا فعل وفاعل، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة كان صلة، واسم كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 ضمير مستتر، وجملة يصنع خبر كان، وفرعون فاعله، وقومه عطف على فرعون، و «ما» عطف على «ما» الأولى، وجملة كانوا يعرشون صلة «ما» وجملة يعرشون خبر كانوا (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) الواو استئنافية، والكلام مستأنف مسوق للشروع في قصة بني إسرائيل وما أحدثوه من بدع للاعتبار والاتعاظ بحال الإنسان المفطور على الشرّ. وببني إسرائيل جار ومجرور متعلقان بجاوزنا، والبحر مفعول به، ويجوز أن يتعلق «ببني» بمحذوف حال (فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) فأتوا عطف على جاوزنا، وعلى قوم جار ومجرور متعلقان بأتوا، وجملة يعكفون صفة لقوم، وعلى أصنام جار ومجرور متعلقان بيعكفون، ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لأصنام (قالُوا: يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) كلام مستأنف مسوق لبيان تعنتهم وافتئاتهم وطلبهم الآلهة ورؤية الله جهرة، وغير ذلك من أنواع المعاصي. وجملة اجعل مقول القول، ولنا جار ومجرور متعلقان باجعل، أو بمحذوف مفعول به أول، وإلها مفعول به ثان. وكما الكاف حرف جر، وما اسم موصول بمعنى الذي، ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة، وآلهة بدل من الضمير المستكن في «لهم» والتقدير: كالذي استقر هو لهم آلهة، والكاف ومجرورها صفة لإلها، واختار الزمخشري أن تكون «ما» كافة للكاف، فهي كافة ومكفوفة، ولذلك وقعت الجملة بعدها (قالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) كلام مستأنف لبيان جواب موسى لهم، وإن واسمها وخبرها، وجملة تجهلون صفة لقوم، وجملة إنكم مقول القول. [سورة الأعراف (7) : الآيات 139 الى 141] إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 اللغة: (مُتَبَّرٌ) مكسّر، فهو اسم مفعول من تبر، أي: دمّر وأهلك، والمصدر التتبير. ومنه التبر وهو كسارة الذهب، لتهالك الناس عليه. الإعراب: (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان مصيرهم الذي يئولون إليه. وإن حرف مشبه بالفعل، وهؤلاء اسم إشارة اسم إن، ومتبر يجوز أن يكون خبر إن، وما اسم موصول في محل رفع نائب فاعل لمتبر، وهم فيه مبتدأ وخبر، والجملة لا محل لها لإنها صلة، ويجوز أن يكون الموصول مبتدأ، ومتبر خبره المقدم عليه، والجملة خبر إن (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) الواو حرف عطف، وباطل خبر مقدم، وما مبتدأ مؤخر، وكانوا يعملون من كان واسمها وخبرها صلة «ما» ، ولك أن تعطف «باطل» على «متبر» وتجعل «ما» فاعلا لباطل لأنه اسم فاعل (قالَ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان شئون الله الموجبة لتخصيص العبادة به. والهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي، وغير مفعول به لفعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 محذوف، أي: أأطلب لكم معبودا غير المستحق للعبادة؟ وجملة أبغيكم مقول القول، وإلها تمييز أو حال، ويجوز أن يكون «غير» مفعولا مقدما لأبغيكم، والكاف منصوبة بنزع الخافض، أي: أأبغي لكم غير الله؟ ويجوز على هذا الوجه إعراب «غير» حالا وإلها هو المفعول به (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) الواو حالية، وهو مبتدأ، وجملة فضلكم خبر، والجملة كلها حالية، وعلى العالمين جار ومجرور متعلقان بفضلكم، ويجوز أن تكون الواو للاستئناف، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) الواو عاطفة أو استئنافية، وإذ مفعول به لفعل محذوف، تقديره: اذكروا وقت أنجيناكم، وجملة أنجيناكم في محل جر بالإضافة، ومن آل جار ومجرور متعلقان بأنجيناكم، وفرعون مضاف إليه مجرور وعلامة جره الفتحة لمنعه من الصرف (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) الجملة نصب على الحال من آل فرعون، ويسومونكم فعل مضارع وفاعل ومفعول به أول، وسوء العذاب مفعول به ثان (يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) جملة يقتلونكم بدل من جملة يسومونكم، ويستحيون نساءكم جملة معطوفة عليها (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) الواو حالية أو استئنافية، وفي ذلكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وبلاء مبتدأ مؤخر، ومن ربكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبلاء، وعظيم صفة ثانية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 [سورة الأعراف (7) : الآيات 142 الى 143] وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) الإعراب: (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) الواو استئنافية، والكلام مستأنف مسوق لتفصيل ما أجمله في سورة البقرة، وهو قوله تعالى: «وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة» ، وواعدنا موسى فعل وفاعل ومفعول به، وثلاثين مفعول به ثان لواعدنا، وفيه حذف مضاف تقديره: تمام ثلاثين، وليلة تمييز، وذلك ليصومها حتى نكلمه، وأتممناها عطف على واعدنا، وبعشر جار ومجرور متعلقان بأتممناها (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) الفاء عاطفة، وتم ميقات فعل وفاعل، وربه مضاف إليه، وأربعين حال، أي تمّ بالغا هذا العدد، وليلة تمييز، وسيأتي في باب الفوائد تعليل نصبها على الحال. وقيل: هو مفعول «تم» لأن معناه بلغ، ولا يصح أن يكون ظرفا للتمام، لأن التمام إنما هو بآخر جزء من تلك الأزمنة (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ) الواو عاطفة، وقال موسى فعل وفاعل، ولأخيه جار ومجرور متعلقان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 بقال. وهارون: بدل من أخيه أو عطف بيان (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) الجملة مقول قول موسى، واخلفني فعل أمر ومفعول به، وفي قومي جار ومجرور متعلقان باخلفني، وأصلح عطف على اخلفني، ولا تتبع الواو حرف عطف، ولا الناهية وتتبع فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وسبيل المفسدين مفعول به (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) الواو عاطفة، ولما رابطة أو حينية، متضمنة معنى الشرط، وجملة جاء موسى لا محل لها. أو في محل جر بالإضافة، ولميقاتنا جار ومجرور متعلقان بجاء، واللام للاختصاص، كما تقول: أتيته لعشر خلون من الشهر (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) وكلمه ربه عطف على جاء، وربه فاعل كلمه. وجملة قال لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، ورب منادى مضاف محذوف منه حرف النداء، وأرني فعل أمر للدعاء، وفاعله مستتر، والنون للوقاية، والياء مفعول به أول، ومفعول الرؤية الثاني محذوف تقديره: نفسك، وأنظر فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب وجملة الطلب وجوابه مقول القول، وإليك جار ومجرور متعلقان بأنظر (قالَ لَنْ تَرانِي) الجملة مقول القول، ولن حرف نفي ونصب واستقبال، وتراني فعل مضارع منصوب بلن والياء مفعول به (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) الواو عاطفة، ولكن حرف استدراك مخفف مهمل، وانظر فعل أمر، والى الجبل جار ومجرور متعلقان بانظر، فإن الفاء عاطفة، وإن شرطية، واستقر فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، ومكانه ظرف مكان متعلق باستقر، فسوف الفاء رابطة لجواب الشرط، وسوف حرف استقبال، وتراني فعل مضارع، والجملة في محل جزم جواب الشرط (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) الفاء عاطفة، ولما رابطة أو حينية، وتجلى ربه فعل وفاعل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 وللجبل جار ومجرور متعلقان بتجلى، وجعله فعل ومفعول به، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، ودكا مفعول به ثان لجعله، لأنه مصدر بمعنى مفعول، أي: مدكوك، ويجوز نصبه على المصدرية، إذ التقدير: دكه دكا (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) صعقا حال (فَلَمَّا أَفاقَ قالَ: سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) الفاء عاطفة، ولما رابطة أو حينية، وجملة أفاق لا محل لها، أو في محل جر بالإضافة، وجملة قال لا محل لها، وسبحانك مفعول مطلق لفعل محذوف، وتبت فعل وفاعل، وإليك جار ومجرور متعلقان بتبت، وأنا الواو عاطفة، وأنا مبتدأ، وأول المؤمنين خبر. الفوائد: رؤية الله في الآخرة: استدل الزمخشري وغيره من أئمة المعتزلة على عدم رؤية الله تعالى في الآخر ب «لن» ، قالوا: هي للتأكيد والتأبيد. ورد عليهم علماء السنة، وشجر خلاف طويل حول ذلك، وجر إلى التهاتر والتراشق بالحساب العسير والتهم، مما لا يتسع المجال له في كتابنا. فارجع إليه في المطولات. [سورة الأعراف (7) : الآيات 144 الى 146] قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 الإعراب: (قالَ: يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) كلام مستأنف مسوق لتسلية موسى عليه السلام على ما فاته من الرؤية. وجملة النداء في محل نصب مقول القول، وإن واسمها، وجملة اصطفيتك خبر، وعلى الناس جار ومجرور متعلقان باصطفيتك، وبرسالاتي جار ومجرور متعلقان باصطفيتك أيضا، وجمع الرسالة لأن الذي أرسل به ضروب وأنواع مختلفة، وبكلامي عطف على برسالاتي، وقدم الرسالة تنويها بالترقي إلى الأشرف، لأن مكالمته مزية خاصة له، وأعاد حرف الجر تنويها بمغايرة الاصطفاء للكلام (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) الفاء الفصيحة، والجملة بعدها لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وجملة آتيتك صلة «ما» ، وكن من الشاكرين عطف على خذ، ومن الشاكرين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر «كن» (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) الواو استئنافية، وكتبنا فعل وفاعل، وله جار ومجرور متعلقان بكتبنا، وفي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 الألواح جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، ومن كل شيء جاء ومجرور متعلقان بمحذوف مفعول به، والمراد ألواح التوراة (مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ) موعظة بدل من محل «من كل شيء» ، لأنه مفعول به كما تقدم، ويجوز إعراب «موعظة» مفعولا من أجله، أي: كتبنا له تلك الأشياء للموعظة والتفصيل، ولكل شيء جار ومجرور متعلقان ب «تفصيلا» أو صفة له (فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) الفاء الفصيحة أو عاطفة لمحذوف على كتبنا، والتقدير: فقلنا خذها، وخذ فعل أمر، والهاء مفعول به. وبقوة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل خذها، وجملة امر عطف على خذها، وقومك مفعول به، ويأخذوا فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب، وخص الأحسن بالأخذ، وكل ما فيها مطلوب، مبالغة في التحري وحسن الأخذ واختيار الأسدّ المحكم، أو ان التفضيل غير مراد كقولهم: الصيف أحر من الشتاء، أي هو في حرّه أبلغ من الشتاء في برده، فتفضيل حرارة الصيف على برد الشتاء غير مراد، فلما أريد بالأحسن المأمور به- لكونه أبلغ في الحسن من المنهي عنه في القبح- كان اللازم أن لا يجوز الأخذ بالمنهي عنه، وسأريكم دار الفاسقين جملة مستأنفة مسوقة للتأكيد للأمر بالأخذ بالأحسن والحث عليه، فهي بمثابة التعليل، ولا يخفى ما في الالتفات من زيادة في التأكيد والمبالغة للأخذ بالأحسن. أما دار الفاسقين فقيل: هي دار فرعون وأتباعه، للاعتبار بها، وقيل: هي غير ذلك، ولا محل للاجتهاد هنا (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) كلام مستأنف مسوق للتحذير من الاستكبار الصارف للأذهان عن التفكير الحق. وعن آياتي جار ومجرور متعلقان بأصرف، والذين اسم موصول في محل نصب مفعول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 به، وجملة يتكبرون صلة، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بيتكبرون، وبغير الحق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الذين يتكبرون، أي: حال كونهم ملتبسين بالدين غير الحقّ (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) الواو عاطفة، وإن شرطية، ويروا فعل الشرط، والواو فاعل، وكل آية مفعول به، وجملة لا يؤمنوا جواب الشرط، وبها جار ومجرور متعلقان بيؤمنوا (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا) عطف على ما تقدّم، وسبيلا مفعول به ثان (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا) عطف على ما سبق أيضا (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) اسم الاشارة في محل رفع أو نصب: فالرفع على أنه مبتدأ خبره الجار والمجرور بعده، أي: ذلك الصرف بسبب تكذيبهم، والنصب على أنه بمعنى صرفهم عن ذلك الصرف بعينه، فجعله مصدرا مفعولا به، وعلى كل حال فالجملة ابتدائية لا محل لها، وجملة كذبوا خبر أن، وبآياتنا جار ومجرور متعلقان بكذبوا، وكانوا عطف على كذبوا، والواو اسم كان، وعنها جار ومجرور متعلقان بغافلين، وغافلين خبر كانوا. البلاغة: 1- الالتفات في قوله: «سأريكم دار الفاسقين» لاسترعاء الاهتمام كما أسلفنا. 2- الطباق بين سبيل الرشد وسبيل الغيّ. ولما كانت المقابلة بينهما بالسلب ظهر حسنها بصورة واضحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 [سورة الأعراف (7) : الآيات 147 الى 148] وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) اللغة: (حُلِيِّهِمْ) : جمع حلي كثدي وثديّ، وأصله حلويّ، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت ياء وأدغمت في الياء وكسرت اللام لأجل الياء. والحلي اسم لما يتحلى به من الذهب والفضة. (خُوارٌ) : بضم الخاء كما هي القاعدة الأغلبية في أسماء الأصوات، إما على وزن فعال أو فعيل كزئير. الإعراب: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة لبيان نمط آخر من عصيانهم وافتئاتهم على الله. واسم الموصول في محل رفع مبتدأ، وجملة كذبوا بآياتنا صلة، ولقاء الآخرة عطف على بآياتنا، وجملة حبطت أعمالهم خبر المبتدأ (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) الهمزة للاستفهام، المراد به النفي، ولذلك دخلت بعدها «إلا» ، ويجزون فعل مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعل، وإلا أداة حصر، وما اسم موصول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 في محل نصب مفعول به ثان، وجملة كانوا صلة الموصول، وجملة يعملون خبر، ولا أرى داعيا لتقدير محذوف، كما قال الواحديّ، ونصه: «وهنا لا بد من تقدير محذوف، أي إلا بما كانوا، أو على ما كانوا، أو جزاء ما كانوا» . قلت: والجزاء المقابل أوضح، فلا داعي لهذا التكلف. (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ) الواو استئنافية، والكلام مستأنف مسوق لسرد نمط آخر من أنماط تجنيهم، ويجوز أن تكون الواو عاطفة، من عطف قصة على قصة. وقوم موسى فاعل، ومن بعده جار ومجرور متعلقان باتخذ، ومن حليهم جار ومجرور متعلقان باتخذ، أو بمحذوف في موضع الحال، لأنه لو تأخر لكان صفة، كما هي القاعدة. وعجلا مفعول به، وجسدا بدل، وأتى بهذا البدل دفعا لتوهم أنه صورة عجل منقوشة، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وخوار مبتدأ مؤخر، والجملة في محل نصب صفة لقوله: «عجلا» (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا) كلام مستأنف مسوق لتقريعهم على سوء اختيارهم، وإمعانهم في ركوب متن الشطط. والهمزة للاستفهام الإنكاري، ولم حرف نفي وقلب وجزم، والواو فاعل يروا، وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يروا، وجملة لا يكلمهم خبر، ولا يهديهم سبيلا عطف على لا يكلمهم، وسبيلا مفعول به ثان، أو منصوب بنزع الخافض (اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) جملة مستأنفة مسوقة لتكون جوابا عن سؤال نشأ من سياق الكلام، أي: فكيف اتخذوه؟ والواو عاطفة، وكان واسمها، وظالمين خبرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 [سورة الأعراف (7) : الآيات 149 الى 151] وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) اللغة: (سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) : اضطربت أقوال أهل اللغة في أصل هذه الكلمة، وهي تستعمل للندم والتّحيّر. فقال أبو مروان اللغوي: قول العرب: سقط في يده مما أعياني معناه. وقال الواحدي: قد بان من أقوال المفسرين وأهل اللغة أن سقط في يده: ندم. وأنه يستعمل في صفة النادم. فأما القول في مأخذه وأصله فلم أر لأحد من أئمة اللغة شيئا أرتضيه فيه. وقال الزّجّاج: قوله تعالى: «سقط في أيديهم» : بمعنى ندموا، وهذه اللفظة لم تسمع قبل القرآن، ولم تعرفها العرب في النظم والنثر، جاهلية وإسلاما. فلما سمعوه خفي عليهم وجه استعماله، لأنه لم يقرع أسماعهم، فقال أبو نواس: «في نشوة قد سقطت منها يدي» وهو العالم النحرير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 فأخطأ في استعماله. وعبارة الفراء: يجوز سقط وأسقط، وترك الهمزة هو الأكثر الأجود، وسقط بالفتح والبناء للفاعل لغة قليلة، قال الأخفش: وقد قرئ بها في الشواذّ كأنه أضمر الندم، أي: سقط الندم في أيديهم. وقال المطرزي: سقط في يده مثل يضرب للنادم المتحيّر، ومعناه ندم. لأن من شأن من اشتد ندمه أن يعضّ يده فتصير يده مسقوطا فيها، كأن فاه وقع فيها. هذا وترى مزيدا من القول في هذه اللفظة في باب البلاغة. الإعراب: (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان مصيرهم بعد ارتكاب جريرتهم. ولما رابطة أو حينية، وسقط بالبناء للمجهول، وفي أيديهم قائم مقام نائب الفاعل، وفي بمعنى على، أي: على أيديهم (وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا) عطف على سقط في أيديهم، وأن وما في حيزها سدت مسدّ مفعولي رأوا، لأنها بمعنى علموا، وجملة قد ضلوا خبر أن (قالُوا: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا) جملة قالوا لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم، واللام موطئة للقسم، وإن شرطية، ولم حرف نفي وقلب وجزم، ويرحمنا فعل مضارع مجزوم بلم، ونا مفعول به، وربنا فاعل مؤخر، ويغفر الواو حرف عطف، وجملة يغفر عطف على يرحمنا، ولنا جار ومجرور متعلقان بيغفر (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) اللام جواب للقسم، ونكونن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وجملة جواب القسم لا محل لها، وجملة القسم في محل نصب مقول القول، ومن الخاسرين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر نكونن (وَلَمَّا رَجَعَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) الواو استئنافية، أو عاطفة، ولما رابطة أو حينية، وجملة رجع موسى لا محل لها، أو في محل جر بالإضافة، والى قومه جار ومجرور متعلقان برجع، وغضبان حال أولى، وأسفا حال ثانية من موسى (قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) بئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم، وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وجوبا هنا خاصة. وما نكرة موصوفة في محل نصب تمييز، والمعنى خلافة، وجملة خلفتموني صفة لما، والمخصوص بالذم محذوف أي: خلافتكم، ومن بعدي جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التقريعي، وعجلتم أي: سبقتم فعل وفاعل، وأمر ربكم مفعول به، وكلها تتمة مقولهم (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) الواو عاطفة، وألقى عطف على قال، والمراد هنا استيلاء الغضب، وأخذ عطف على ألقى، وبرأس جار ومجرور متعلقان بأخذ، وأخيه مضاف إليه، وجملة يجره إليه حال من ضمير موسى المستتر في أخذ، أي: أخذه جارّا برأسه إليه (قالَ ابْنَ أُمَّ) ابن أمّ اسمان مبنيان على الفتح لتركبهما تركيب الأعداد، مثل خمسة عشر أو الظروف مثل صباح مساء، فعلى هذا ليس ابن مضاف لأم بل هو مركب معها، فحركتهما حركة بناء. وذهب الكوفيون الى أن ابن مضاف لأمّ، وأمّ مضاف الى ياء المتكلم، وقد قلبت ألفا كما تقلب في المنادى المضاف الى ياء المتكلم، ثم حذفت الألف واجتزئ عنها بالفتحة كما يجتزأ بالياء عن الكسرة، وحينئذ فحركة ابن حركة إعراب، وهو مضاف لأمّ، فهي في محل جر بالإضافة، وعلى كل فحرف النداء محذوف أي: يا ابن أم، وانما اقتصر في خطابه على الأم مع أنه شقيقه لأن ذكر الأم أعطف لقلبه (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) الجملة بمثابة التعليل لما عاملوه به. وإن واسمها، وجملة استضعفوني خبرها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 وكادوا عطف على استضعفوني، والواو اسم كاد، وجملة يقتلونني خبرها (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) الفاء الفصيحة، أي: إذا علمت عذري فلا تسرّ الأعداء بما تفعل بي من المكروه، وبي جار ومجرور متعلقان بتشمت، والأعداء مفعول به (وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الواو عاطفة، ولا ناهية، وتجعلني فعل مضارع مجزوم بلا، ومع ظرف مكان متعلق بتجعلني، والقوم مضاف إليه والظالمين صفة (قالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي) الجملة مستأنفة مسوقة لطلب المغفرة له ولأخيه، ورب منادى محذوف منه حرف النداء، واغفر فعل دعاء، ولي جار ومجرور متعلقان باغفر، ولأخي عطف على «لي» (وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) عطف على اغفر، وفي رحمتك جار ومجرور متعلقان بأدخلنا، وأنت الواو حالية أو استئنافية، وأنت مبتدأ، وأرحم الراحمين خبر. البلاغة: الكناية في قوله: «سقط في أيديهم» عن الندم فإن العادة أن الإنسان إذا ندم على شيء عضّ بفمه على أصابعه، فسقوط الأفواه على الأيدي لازم للندم، فأطلق اسم اللازم وأريد الملزوم على سبيل الكناية. وقال الزمخشري: «ولما سقط في أيديهم: ولما اشتد ندمهم، وحسرتهم على عبادة العجل، لأن من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعضّ يده غما فتصير يده مسقوطا فيها لأن فاه قد وقع فيها» . وقال القطب في شرح الكشاف: إنه على تفسير الزّجّاج استعارة تمثيلية، لأنه شبه حال الندم في القلب بحال الشيء في اليد، وفيل: هو على تفسيره، استعارة بالكناية في الندم بتشبيهه ما يرى في العين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 [سورة الأعراف (7) : الآيات 152 الى 154] إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) كلام مستأنف، مسوق لإخبار موسى بما سينالهم بعد هذه الكبائر المتتابعة. وإن واسمها، وجملة اتخذوا العجل لا محل لها لأنها صلة الموصول، وجملة سينالهم خبر إن، وغضب فاعل، ومن ربهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لغضب، وذلة عطف على غضب، وفي الحياة جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لذلة، والدنيا صفة للحياة (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) أي: مثل ذلك الجزاء نجزيهم، وقد تقدمت له نظائر كثيرة (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا) عطف على الذين السابقة أو مبتدأ، وجملة عملوا السيئات صلة، ثم تابوا عطف على عملوا، ومن بعدها جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وآمنوا عطف على عملوا (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 رَحِيمٌ) إن واسمها، ومن بعدها جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، واللام المزحلقة، وغفور خبر أول لإنّ، ورحيم خبر ثان، والجملة كلها خبر الذين (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان المبالغة، ولما رابطة أو حينية، وقد تكررت مرارا، وسكت الغضب فعل وفاعل، وعن موسى جار ومجرور متعلقان بسكت، وجملة سكت لا محل لها أو في محل جر بالإضافة (أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، والواو حالية، وفي نسختها جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وهدى مبتدأ مؤخر، ورحمة عطف على هدى، وللذين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة، وهم مبتدأ، وجملة يرهبون خبر، ولربهم جار ومجرور متعلقان بيرهبون، ودخلت اللام لتقوية المفعول به لأن تأخر الفعل يكسبه ضعفا، ونحوه: للرؤيا تعبرون، وقال الكسائي: إنها زائدة. وقال المبرد: هي متعلقة بمصدر الفعل المذكور، والتقدير للذين رهبتهم لربهم يرهبون، وجملة هم لربهم يرهبون صلة. البلاغة: في قوله: «ولما سكت عن موسى الغضب» استعارتان: 1- استعارة تصريحية تبعية: بتشبيه السكون بالسكوت. 2- استعارة مكنية: في تشبيه الغضب بإنسان ناطق يغري موسى ويقول له: قل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 لقومك كذا وكذا، وألق الألواح، وخذ برأس أخيك. ثم يقطع الإغراء ويترك الكلام. أقسام أخرى للاستعارة: وقد تقدم القول في الاستعارة، ونعود هنا فنقول: إن هذه الاستعارة، وهي إسناد السكوت الى الغضب فيها، هي استعارة معقول للمشاركة في أمر معقول، وهي واحدة من خمس للاستعارات: فالمستعار السكوت، والمستعار له الغضب، والمستعار منه الساكت، والمعنى «ولما زال عن موسى الغضب» لأن حقيقة السكوت زوال الكلام وحقيقة زوال الغضب عدم ما يدل عليه من الكلام أو غيره في تلك الحال، وغضب موسى إنما عرف هنالك من قوله: «بئسما خلفتموني من بعدي» فإن هذا الكلام كان مقدمة إلقاء الألواح، ولما زال الكلام الدال على الغضب، حسنت استعارة السكوت للغضب، ولا يلزم من سكوت الغضب حصول الرضا، فإن موسى لم يرض بمعصيتهم ولا ببقائهم على المعصية حتى تحصل التوبة، ولهذا أخبر سبحانه عنه بسكوت الغضب دون حصول الرضا، وهذه الاستعارة ألطف الاستعارات الخمس لأنها استعارة معقول لمعقول للمشاركة في أمر معقول. الأقسام الأربعة الأخرى: أما الأقسام الأربعة الأخرى فهي: 2- استعارة المحسوس للمحسوس للاشتراك في أمر معقول، وهو الاستعارة المركبة من الكثيف اللطيف، ومثالها قوله تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 «إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم» فإن المستعار له: الريح، والمستعار منه: ذات النتاج، والمستعار العقيم، وهو عدم النتاج، والمشاركة بين المستعار له والمستعار منه في عدم النتاج وهو شيء معقول. 3- استعارة المحسوس للمعقول وهي ألطف من المركّبة. ومثالها قوله تعالى: «بل نقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق» . فالقذف والدفع مستعاران، وهما محسوسان، والحق والباطل مستعار لهما، وهما معقولان، ومثله قوله تعالى: «ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس» فالمستعار الحبل وهو محسوس، والمستعار له العهد وهو معقول، والمشاركة بينهما في الاتصال، لأن العهد يصل بين المعاهد والمسلم كما يصل الحبل بين المرتبطين، وهو شيء محسوس، ومن هذا القسم قوله تعالى: «فاصدع بما تؤمر» ، فالمستعار منه الزجاجة، والمستعار الصدع وهو الشقّ، والمستعار له هو عقوق المكلفين، والمعنى صرّح بجميع ما أوحي إليك، وبين كل ما أمرت ببيانه، وإن شق ذلك على بعض القلوب فانصدعت، والمشابهة بينهما فيما يؤثره التصديع في القلوب، فيظهر أثر ذلك على ظاهر الوجوه من التّقبّض والانبساط، ويلوح عليها من علامات الإنكار والاستبشار كما يظهر ذلك على ظاهر الزجاجة المصدوعة من المطروقة في باطنها. يروى أن بعض الأعراب لما سمع هذه اللفظات الثلاث سجد فقيل: لم سجدت؟ فقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام. 4- استعارة المعقول للمحسوس بالاشتراك في أمر معقول. ومثالها قوله تعالى: «إنا لماطغى الماء حملناكم في الجارية» فالمستعار له كثرة الماء وهي حسّيّة، والمستعار منه التكبر وهو عقلي، والجامع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 الاستعلاء المفرط، وهو عقلي أيضا. وستأتي للاستعارة أبحاث أخرى في محلها من هذا الكتاب. [سورة الأعراف (7) : الآيات 155 الى 157] وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 اللغة: (هُدْنا) تبنا ورجعنا عن المعصية وجئناك معتذرين منها، من هاد يهود إذا رجع، وأصل الهود: الرجوع برفق، وبه سميت اليهود، وكان اسم مدح قبل نسخ شريعتهم، وبعده صار اسم ذم لازما لهم أبدا يتّسمون به الى الأبد، والهود جمع هائد وهو التائب. ولبعضهم، يا راكب الذّنب هدهد ... واسجد كأنك هدهد شبه ملازمته للذنب بملازمة الراكب للمركوب، وشبه الساجد بالهدهد، لكثرة ما يطرق برأسه الى الأرض. (الْأُمِّيَّ) : نسبة الى الأم، كأنه باق على حالته التي ولد عليها. والمراد به الذي لا يقرأ الخط ولا يكتب، وهذا الوصف مما اختصّ به محمد صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن تكون نسبته الى الأمة، وهي أمة العرب، وذلك لأن العرب لا تحسب ولا تكتب، ويجوز أن يكون نسبة الى الأم مصدر أمّ يؤمّ، أي قصد يقصد، والمعنى على هذا: أن هذا النبي العربي الكريم مقصود لكلّ أحد، فإن قيل: كان ينبغي أن يقال في النسبة أمّيّ بفتح الهمزة، قلنا إنه من تغيير النسب. وسيأتي مزيد من هذا الوصف في باب الفوائد. (الإصر) : الثقل الذي يأصر صاحبه، أي يحبسه عن الحركة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 لثقله. والمراد بالإصر هنا العهد والميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل أن يعملوا بأحكام التوراة. (الْأَغْلالَ) : جمع غلّ، والغل بالضمّ طوق من حديد يجعل في العنق. الإعراب: (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا) كلام مستأنف مسوق لسرد قصة الذين لم يعبدوا العجل، وقد أمره الله باختيار سبعين منهم. والتفاصيل في المطوّلات. واختار موسى فعل وفاعل، وقومه منصوب بنزع الخافض، أي من قومه، فحذف الجار وأوصل الفعل، وسبعين مفعول به لاختار، وقد تقدم حديث الأفعال التي تعدت الى اثنين أحدهما بنفسه والآخر بوساطة حرف الجر، وهي مقصورة على السماع، وهي: اختار واستغفر وأمر وكنى، ودعا وزوج وصدق، ثم يحذف حرف الجر ويتعدى إليه الفعل، فتقول: اخترت زيدا من الرجال، واخترت زيدا الرجال، قال الشاعر: اخترتك الناس إذ رثّت خلائقهم ... واعتلّ من كان يرجى عند السّول ورجلا تمييز، لميقاتنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، أي للوقت الذي وعدناه بإتيانهم فيه للاعتذار عن عبادة العجل (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الفاء عاطفة، ولما رابطة أو حينية، وقد تقدم إعرابها كثيرا، وأخذتهم الرجفة فعل ومفعول به وفاعل (قالَ: رَبِّ لَوْ شِئْتَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) جملة القول مستأنفة لبيان ما قاله موسى، وجملة النداء في محل نصب مقول القول، ولو شرطية، وشئت فعل وفاعل، والمفعول به محذوف، أي لو شئت إهلاكهم، وأهلكتهم فعل وفاعل ومفعول به، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، ومن قبل جار ومجرور متعلقان بأهلكتهم، وإياي ضمير منفصل معطوف على الهاء (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) الاستفهام هنا معناه النفي مع الاستعطاف، أي: لا يمكن أن تعذبنا بما فعل غيرنا. وللمبرد عبارة جميلة قال: «والمراد بالاستفهام استفهام الإعظام، كأنه يقول، وقد علم موسى أنه لا يهلك أحد بذنب غيره، ولكنه من وادي قول عيسى: «إن تعذبهم فانهم عبادك» . وتهلكنا فعل وفاعل مستتر ومفعول به، وبما جار ومجرور متعلقان بتهلكنا، وما موصولة أو مصدرية، أي بسبب الذي فعله السفهاء أو بسبب فعل السفهاء، ومنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) إن نافية، وهي مبتدأ، وإلا أداة حصر، وفتنتك أي: ابتلاؤك خبر (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) الجملة حالية، أي: مضلا بها وهاديا، ومن اسم موصول في محل نصب مفعول به، وكذلك «من» الثانية (أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) أنت مبتدأ، وولينا خبر، فاغفر الفاء الفصيحة، واغفر فعل أمر للدعاء، ولنا جار ومجرور متعلقان باغفر، وارحمنا عطف على اغفر، وأنت الواو حالية أو استئنافية، وأنت مبتدأ، وخير الغافرين خبر (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) واكتب عطف على فاغفر، ولنا جار ومجرور متعلقان باكتب، وفي هذه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وحسنة مفعول به، وفي الآخرة عطف على «في هذه الدنيا» ، واكتفى بالمفعول الأول، أي: وفي الآخرة حسنة (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) الجملة مستأنفة مسوقة لتعليل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 الدعاء، لأن ذلك مما يوجب قبوله. وإن واسمها، وجملة هدنا إليك خبر إن (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) الجملة مستأنفة مسوقة لمعرفة جواب الله. وعذابي مبتدأ، خبره جملة أصيب، وإما خبر لمبتدأ محذوف، وجملة أصيب حالية، وبه جار ومجرور، ومن اسم موصول مفعول به، وجملة أشاء صلة (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) عطف على الجملة السابقة (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) الفاء استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة للتعريض بقومه، والسين حرف استقبال، واكتبها فعل وفاعل مستتر ومفعول به، وللذين جار ومجرور متعلقان بسأكتبها، وجملة يتقون لا محل لها لأنها صلة الموصول، وجملة ويؤتون الزكاة عطف على جملة يتقون (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) والذين عطف على الذين السابقة، وهم مبتدأ، وجملة يؤمنون خبر، وبآياتنا جار ومجرور متعلقان بيؤمنون، والجملة الاسمية لا محل لها لأنها صلة الموصول (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) الذين نعت للذين أو بدل منه، وجملة يتبعون صلة الموصول، والرسول مفعول به والنبي صفة أولى والأمي صفة ثانية، والذي صفة ثالثة، وجملة يجدونه لا محل لها لأنها صلة الموصول، ومكتوبا مفعول به ثان ليجدونه، وعندهم ظرف متعلق ب «مكتوبا» ، وفي التوراة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) الجملة حالية، وبالمعروف جار ومجرور متعلقان بيأمرهم، وينهاهم عن المنكر عطف على الجملة السابقة (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) عطف على ما تقدم (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) عطف أيضا، وإصرهم مفعول به، والأغلال عطف على إصرهم، والتي نعت للأغلال، وجملة كانت عليهم صلة، وعليهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كانت (فَالَّذِينَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ) الفاء: استئنافية، والذين مبتدأ، وجملة آمنوا صلة، وبه جار ومجرور متعلقان بآمنوا، وعزروه ونصروه معطوفان على آمنوا (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) واتبعوا عطف أيضا، والنور مفعول به، والذي نعت، وجملة أنزل صلة، ومعه ظرف مكان متعلق بأنزل (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الجملة الاسمية خبر اسم الموصول، واسم الاشارة مبتدأ، وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان، والمفلحون خبر أولئك، أو خبر «هم» ، والجملة الاسمية خبر أولئك. الفوائد: معنى الأميّ: تكلمنا في باب اللغة بإسهاب عن معنى الأمّيّ، ونتساءل الآن مع المتسائلين: هل كان النبي يعرف القراءة والكتابة؟ أما أكثر المستشرقين فيقولون: إن كلمة «أمّيّ» التي وصف بها النبي غامضة، ولا تدل دلالة قاطعة على أنه لم يكن يعرف القراءة، ويرجحون أن تكون نسبة إلى كلمة أمّة، كما ذكرنا ذلك في حينه. أراجيف دائرة المعارف الإسلامية: أما دائرة المعارف الإسلامية فتثير إشكالا آخر، وهو أنه ورد في سورة العنكبوت الآية: «وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون» قالت: «وهي تدل على أنه تعلم القراءة في الكبر، أي: بعد نزول القرآن، وإن كان التعبير غامضا» . وواضح أن التعبير ليس غامضا، ولكن التخريج الذي خرّجته الدائرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 فاسد، فلفظ الآية صريح كل الصراحة، واضح كل الوضوح- كما سيأتي في حينه- وهو يدل، بلا لبس، على أن أهل مكة عرفوا قبل نزول الوحي عليه أنه لم يكن يتلو كتابا، ولا يكتب بيمينه، ولو أنه كان كذلك إذن لارتاب المبطلون بأن يذكروا أنه كان يخلو الى نفسه، فيكتب القرآن ويعدّه، ثم يخرج للناس فيتلوه عليهم. وآية أخرى أوردتها دائرة المعارف الإسلامية وهي: «وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا» ولا يفهم من هذه الآية شيء مما أريد حمله عليها، إذ أنها تدل ببساطة على أن كفار قريش كانوا يدّعون أن رسول الله يكتب ما يملى عليه من أساطير الأولين، وليس كل ما يدعي الكفار صوابا، بل هذا هو هجوم صريح وافتئات واضح يقصد منه التجريح وإضعاف شأن القرآن. ولعلّ القرآن نفسه تولى الكشف عن هذه الأراجيف في الآية السابقة لها وهي: «وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا، وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا، قل: أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفورا رحيما» . الباجه جي ودعوى عدم الأمّيّة: وليست دائرة المعارف الإسلامية وغيرها من كتب المستشرقين وحدها التي تحاول اثارة هذه الشبهات، فقد تناثرت في كتب المسلمين إشارات تلمح الى هذا الموضوع، فقد ذكر ابن كثير: «ومن زعم من متأخري الفقهاء كالقاضي أبي الوليد الباجيّ ومن تابعه أن النبي عليه السلام كتب يوم الحديبية: «هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله» ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري: «ثم أخذ فكتب» ، وهذه محمولة على الرواية الأخرى: «ثم أمر فكتب» ، ولهذا اشتد النكير على من قال بقول الباجيّ، وتبرءوا منه، وأنشدوا في ذلك أقوالا وخطبوا به في محافلهم. على أن القول الفصل في هذا ما ورد في القرآن نفسه، فقد أكد في مواضع كثيرة أن القرآن أنزل على قلب رسول الله، وأنه كلّف بحفظه، وبأن يحفظه المسلمون لا أن يكتبوه، «فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدّقا لما بين يديه» ، وإذن فلم يكن النبي يكتب ما يوحى إليه، ولا نعلم على وجه دقيق كيف كان يكتب القرآن في العهد المكي. قصة إسلام عمر: ولكننا نذكر الرواية الشائعة التي تقصّ إسلام عمر بن الخطاب أنه وجد في يد أخته فاطمة صحيفة فيها آيات من القرآن، وعلى الرغم من أن هناك روايات أخرى تهمل قصة فاطمة وما حدث بينها وبين عمر، إلا أن من الممكن أن نعتمد عليها في أن نعلم أنه كانت هناك صحف تكتب فيها أجزاء من القرآن، سواء أكانت هذه الصحف عند فاطمة أخت عمر أو عند غيرها. وكلمة صحيفة لا تدل على الورق الذي نعرفه اليوم، ولكنها- على كل حال- شيء خفيف الحمل يكتب عليه في سهولة. وقد وردت في القرآن كلمة صحيفة، مثل قوله تعالى: «في صحف مكرّمة مرفوعة مطهرة» . على أن الحفظ كان أساس العلم بالقرآن، وليست التلاوة من صحف مسطورة، بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 هذا وسيرد المزيد من هذا المبحث الدقيق في مواضيع معينة من هذا الكتاب. [سورة الأعراف (7) : الآيات 158 الى 160] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) اللغة: (أَسْباطاً) : جمع سبط، وهو ولد الولد، فهو كالحفيد. هذا هو المفهوم اللغوي، وتخصيص السبط بولد البنت والحفيد بولد الابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 أمر عرفي. وفي القاموس وغيره: ولد الولد، ويغلب على ولد البنت، مقابل الحفيد الذي هو ولد الابن. والسبط من اليهود بمنزلة القبيلة من العرب. (انبجست) : في المصباح: بجس الماء بجسا من باب قتل بمعنى فجرته فانفجر. وقال غيره: الانبجاس هو الانفتاح بسعة وكثرة، قال العجاج: وانحلبت عيناه من فرط الأسى ... وكيف غربي دالج تبجّسا والوكيف: مصدر نصب بانحلبت، لأن معناه وكفت، والغرب الدلو العظيمة، والدالج من يأخذ الدلو من البئر فيفرغها في الحوض، يقول: انصبّت دموع عينيه من شدة الحزن كانصباب دلوي رجل مفرغ لهما في الحوض، تفجّرا بسعة، وفيه تشبيه العينين بالغربين. (الْمَنَّ) : هو التّرنجبين، وهو شيء حلو كان ينزل عليهم مثل الثلج، من الفجر الى طلوع الشمس، فيأخذ كل إنسان صاعا. (السَّلْوى) : هو الطير السّمانى بتخفيف الميم المقصورة والقصر بوزن حبارى، وهو نوع من الطيور القواطع، للواحد والجمع، وقيل: الواحدة سماناة، وهو المعروف عندنا بالفري، ويسمى أيضا السلوى، ويجمع على سمانيات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 الإعراب: (قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) كلام مستأنف مسوق لتوجيه الخطاب الى النبي صلى الله عليه وسلم. وجملة النداء في محل نصب مقول القول، وقد تقدم إعرابها، وإن واسمها، ورسول الله خبرها، وإليكم جار ومجرور متعلقان برسول، وجميعا حال من ضمير إليكم (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) اسم الموصول نعت لله، ويجوز أن تقطعه فترفعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم، وملك السموات والأرض مبتدأ مؤخر، والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) هذه الجملة لا محل لها لأنها بدل من الصلة قبلها، وقد تقدم إعراب كلمة الشهادة مفصلة مع اختلاف الآراء (يُحيِي وَيُمِيتُ) الجملة بدل أيضا فلا محل لها (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ) الفاء الفصيحة، وآمنوا فعل أمر، وبالله جار ومجرور متعلقان بآمنوا، ورسوله عطف على الله، والنبي صفة، وكذلك الأميّ، وكذلك وجملة يؤمن بالله لا محل لها لأنها صلة الموصول، وكلماته عطف على الله، والمراد بها ما أنزل عليه (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) عطف على الله، والمراد بها ما أنزل عليه (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) عطف على آمنوا، ولعل واسمها، وجملة تهتدون خبرها، وجملة الرجاء حالية (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) الواو استئنافية، ومن قوم موسى جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم، وأمة مبتدأ مؤخر، وجملة يهدون بالحق صفة لحكاية الحال الماضية، وبالحق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، أي: ملتبسين بالحق، وبه جار ومجرور متعلقان بيعدلون (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) الواو عاطفة، وقطعناهم فعل وفاعل ومفعول به، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 واثنتي عشرة حال من مفعول قطعناهم، أي: فرقناهم معدودين بهذا العدد، وجوز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون قطعناهم بمعنى صيرناهم، فيكون اثنتي عشرة مفعولا به ثانيا، وأسباطا بدل من اثنتي عشرة، أي فرقة. قال أبو إسحق الزّجاج: ولا يجوز أن يكون تمييزا، لأنه لو كان تمييزا لكان مفردا. وسيأتي مزيد من القول فيه في باب الفوائد. وأمما بدل من «أسباطا» ، فهو بدل من البدل وهو الأسباط (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ) عطف على قطعناهم، وإلى موسى جار ومجرور متعلقان بأوحينا، وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بأوحينا أيضا، وجملة استسقاه قومه في محل جر بالإضافة، واستسقاه قومه فعل ومفعول به وفاعل (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) يجوز أن تكون «أن» هي المفسرة للإيحاء، لأن فيه معنى القول دون حروفه، وأن تكون المصدرية، وقد تقدم نظيرها، وبعصاك جار ومجرور متعلقان باضرب، والحجر مفعول به (فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) الفاء الفصيحة، أي: فضرب فانبجست، ومنه جار ومجرور متعلقان بانبجست، واثنتا عشرة فاعل انبجست، وعينا تمييز (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) الجملة مستأنفة لا محل لها، وقد حرف تحقيق، وعلم كل أناس فعل وفاعل، وأناس مضاف إليه، وهو اسم جمع، واحده إنسان، وقيل: هو جمع تكسير له، ومشربهم مفعول به (وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) وظللنا فعل وفاعل، وعليهم جار ومجرور متعلقان بظللنا، والغمام مفعول به، وأنزلنا عطف على ظللنا، وعليهم جار ومجرور متعلقان بأنزلنا والمن مفعول به، والسلوى عطف على المنّ (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) جملة كلوا في محل نصب مقول قول محذوف، أي: وقلنا، وكلوا فعل أمر، والواو فاعل، ومن طيبات جار ومجرور متعلقان بكلوا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 وما اسم موصول في محل جر بالإضافة لطيبات، وجملة رزقناكم لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الواو استئنافية، وما نافية، وظلمونا فعل وفاعل ومفعول به، والواو حالية، ولكن مهملة مخففة، وكان واسمها، وأنفسهم مفعول مقدم ليظلمون، وجملة يظلمون في محل نصب خبر كانوا. الفوائد: بين الزمخشري وأبي حيان: قال الزمخشري: فإن قلت مميز ما عدا العشرة مفرد فما وجه مجيئه مجموعا؟ وهلا قيل: اثني عشر سبطا؟ قلت: لو قيل ذلك لم يكن تحقيقا، لأن المراد: وقطّعناهم اثنتي عشرة قبيلة، وكل قبيلة أسباط لا سبط، فوضع «أسباطا» موضع «قبيلة» ، ونظيره: «بين رماحي مالك ونهشل» . وردّ أبو حيّان هذا التنظير بقوله: ليس نظيره، لأن هذا من تثنية الجمع، وهو لا يجوز إلا في الضرورة. وكأنه يشير الى أنه لو لم يلحظ في الجمع كونه أريد به نوع من الرماح لم يصح تثنيته، كذلك هنا، لحظ الأسباط- وإن كان جمعا- معنى القبيلة، فميز به كما يميز بالمفرد» : رأي الحوفي: وقال الحوفيّ: «يجوز أن يكون على الحذف، والتقدير: اثنتي عشرة فرقة، ويكون «أسباطا» نعتا لفرقة، ثم حذف الموصوف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 وأقيمت الصفة مقامه» . ونظير وصف التمييز المفرد بالجمع مراعاة للمعنى قول عنترة. فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سودا كخافية الغراب الأسحم ولم يقل سوداء. رأي التّوضيح والتّصريح: وفي التوضيح والتصريح: «وأما قوله تعالى: «وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما» ف «أسباطا» ليس تمييز لأنه جمع، وإنما هو بدل من «اثنتي عشرة» بدل كلّ من كلّ، والتمييز محذوف، أي: اثنتي عشرة فرقة، ولو كان «أسباطا» تمييزا عن اثنتي عشرة لذكر العددان ولقيل: اثني عشر، بتذكيرهما وتجريد هما من علامة التأنيث، لأن السبط- واحد الأسباط- مذكّر. رأي ابن مالك: وزعم ابن مالك في شرح الكافية أنه لا حذف، وأن «أسباطا» تمييز، وإن ذكرا مما رجح حكم التأنيث في «أسباطا» لكونه وصف ب «أمما» ، جمع أمة، كما رجحه أي التأنيث في «شخوص» ذكر «كاعبان ومعصر» في قول عمر بن أبي ربيعة: فكان مجّني دون من كنت أتّقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر وكان القياس «ثلاثة شخوص» ، لأن الشخص مذكر، ولكنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 لما فسره بكاعبان ومعصر- وهما مؤنثان- رجح تأنيثه، وما ذكره الناظم في الآية مخالف لما قاله في شرح التسهيل: إن «أسباطا» بدل لا تمييز» . هذا القول بالبدلية من اثنتي عشرة مشكل على قولهم: إن المبدل منه في نية الطرح غالبا، ولو قيل: وقطعناها أسباطا، لفاتت فائدة كمية العدد، وحمله على غير الغالب، ولا يجوز تخريج القرآن عليه. والقول بأنه تمييز مشكل على قولهم: إن تمييز العدد المركب مفرد، و «أسباطا» جمع، وقال الحوفي «يجوز أن يكون «أسباطا» نعت لفرقة، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، و «أمما» نعت ل «أسباطا» وأنت العدد وهو واقع على الأسباط وهو مذكر، لأنه بمعنى فرقة وأمة، كقوله: ثلاثة أنفس، يعني رجالا» اهـ. فارتكب الوصف بالجامد، والكثير خلافه. وذهب الفراء الى جواز جمع التمييز، وظاهر الآية يشهد له. 2- حكم العدد المركب: «أحد عشر» الى «تسعة عشر» مبني، إلا اثني عشر، وحكم آخر شطريه حكم نون التثنية، ولذلك لا يضاف إضافة أخواته، فلا يقال: هذه اثنا عشرك، كما قيل: هذه أحد عشرك. أما «اثنا عشر» فإن الاسم الأول معرب، لأن الاسم الثاني حلّ منه محل النون، فجرى التغيير على الألف مع الاسم الذي بني معه، كما جرى التغيير عليها مع النون، وتقول في تأنيث هذه المركبات: إحدى عشرة واثنتا عشرة أو ثنتا عشرة وثلاث عشرة وثماني عشرة، تثبت علامة التأنيث في أحد الشطرين لتنزلهما منزلة شيء واحد، وتعرب اثنتين كما أعربت الاثنين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 وشين العشرة يسكّنها أهل الحجاز ويكسرها بنو تميم. والعرب على فتح الياء، «ثماني عشرة» ومنهم من يسكّنها. [سورة الأعراف (7) : الآيات 161 الى 162] وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) الإعراب: (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ: اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) الواو عاطفة، والظرف متعلق باذكر محذوفا، وجملة قيل في محل جر بإضافة الظرف إليها، ولهم جار ومجرور متعلقان بقيل، وجملة اسكنوا في محل نصب مقول القول، وهذه اسم إشارة في محل نصب مفعول به على السعة، والقرية بدل. وقد مرت هذه الآية بلفظها مع تغيير قليل في البقرة. ولا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض، ولا تناقض بين قوله: «اسكنوا هذه القرية وكلوا منها» وبين قوله: «فكلوا» لأنهم إذا سكنوا القرية فتسببت سكناهم للأكل منها فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها. وسواء قدموا الحطّة على دخول الباب أو أخّروها فهم جامعون في الإيجاد بينهما. وترك ذكر الرغد لا يناقض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 إثباته (وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ) تقدم إعرابها في البقرة، فجدد به عهدا، وحطّة قلنا إنها خبر لمبتدأ محذوف، أي: مسألتنا حطة، أي: أن تحطّ عنا خطايانا (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ) تقدم إعرابها في سورة البقرة أيضا فلا داعي للإعادة. (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) الفاء عاطفة، وبدل الذين فعل وفاعل، وجملة ظلموا صلة الموصول لا محل لها، ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وفي الكلام حذف، والمحذوف هو المفعول الثاني لبدّل، وتقديره: بالذي قيل لهم، وقولا مفعول به، وغير صفة والذي اسم موصول في محل جر بالإضافة. وجملة قيل لهم صلة لا محل لها، أي قالوا: حبة بدل حطّة، ولا داعي لهم الى ذلك إلا قصد السخرية من موسى وإغاظته (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) فأرسلنا عطف على فبدّل، وعليهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة، وبما جار ومجرور متعلقان بأرسلنا، الباء سببية، وما اسم موصول أو مصدرية، وكانوا كان واسمها، وجملة يظلمون خبرها. [سورة الأعراف (7) : الآيات 163 الى 166] وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 اللغة: (حاضِرَةَ الْبَحْرِ) مجاورة له، وقريبة منه، وراكبة لشاطئه. واختلف في هذه القرية فقيل: هي أيلة، وقيل: مدين، وقيل: طبريا. والعرب تسمي المدينة قرية. وعن أبي عمرو بن العلاء: ما رأيت قرويّين أفصح من الحسن والحجاج. يعني رجلين من أهل المدن. وفي ضمن هذا السؤال فائدة جليلة، وهي تعريف اليهود بأن ذلك مما يعلمه رسول الله، وأن اطلاعه لا يكون إلا بإخبار من الله سبحانه، فيكون دليلا على صدقه. (يَعْدُونَ) : يعتدون أو يتجاوزون. (سَبْتِهِمْ) السبت: مصدر سبتت اليهود إذا عظّمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبد. والسبت في اللغة: القطع. فكأنهم باختيارهم يوم السبت عيدا قد اختاروا ما فيه قطيعتهم. يقال: سبتوا سبتا من باب ضرب، وأسبتوا بالألف لغة فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 (شُرَّعاً) : جمع شارع، من شرع عليه إذا دنا وأشرف، أي: تأتيهم ظاهرة على وجه الماء، طافية فوقه، قريبة من الساحل. (بَئِيسٍ) : شديد، فعيل من بؤس يبؤس إذا اشتد. (عَتَوْا) تكبّروا. (خاسِئِينَ) : صاغرين. الإعراب: (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) الواو عاطفة، واسألهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به، وعن القرية جار ومجرور متعلقان باسألهم، والتي اسم موصول نعت للقرية، وجملة كانت لا محل لها لأنها صلة الموصول، واسم كانت مستتر، أي: هي، وحاضرة البحر خبر كانت (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) إذ ظرف متعلق بالمضاف المحذوف والذي تقديره: عن حال القرية ويعدون فعل مضارع وفاعله والجملة في محل جر بالاضافة (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) الظرف بدل من الظرف السابق أو متعلق بيعدون أي إذ عدوا في السبت إذ أتتهم وجملة تأتيهم في محل جر بالإضافة، وحيتانهم فاعل تأتيهم، وشرعا حال من حيتانهم، ويوم عطف على إذ، وجملة لا يسبتون في محل جر بالإضافة (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) الكاف ومجروره في موضع نصب على أنه مفعول مطلق، أي: مثل هذا الاختبار الشديد نختبرهم، ويجوز أن يكون حالا، أي: لا يأتي مثل ذلك الإتيان، والأول أرجح. والباء سببية، وما مصدرية، أي: نبلوهم بسبب فسقهم، وجملة يفسقون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 خبر كانوا (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ) عطف على إذ يعدون، وحكمه حكمه في الإعراب، أي: بدل من المحذوف، وهو حال القرية وخبرها أو أهلها، وجملة قالت في محل جر بالإضافة، وأمة فاعل، ومنهم: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لأمة (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) اللام حرف جر، وما الاستفهامية حذفت ألفها لدخول حرف الجر عليها، وقد تقدم بحثها، والعلة في هذا الحذف الفرق بين الاستفهام والخبر، والجار والمجرور متعلقان بتعظون، وقوما مفعول به لتعظون، والله مبتدأ، ومهلكهم خبر، والجملة الاسمية صفة «قوما» ، وأو حرف عطف، ومعذبهم عطف على مهلكهم، وعذابا مفعول مطلق، وشديدا صفة (قالُوا: مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) جملة القول مستأنفة، مسوقة لبيان جوابهم. ومعذرة: قرأ حفص وحده بالنصب. وفيه ثلاثة أوجه قوية: الأول أنها مفعول لأجله، أي: وعظناهم لأجل المعذرة. والثاني أنها منتصبة نصب المصدر بفعل مقدر من لفظها، أي: نعتذر معذرة. والثالث أنها منتصبة انتصاب المفعول به، لأن المعذرة تتضمن كلاما، والمفرد المتضمن لكلام إذا وقع بعد القول نصب نصب المفعول به، كقلت خطبة. وقرأ العامة برفع معذرة. قال سيبويه في اختياره الرفع: لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذارا مستأنفا، ولكنهم قيل لهم: لم تعظون؟ فقالوا موعظتنا معذرة. والمعذرة بمعنى الاعتذار، وهو التنصّل من الذنب. والى ربكم جار ومجرور متعلقان بمعذرة، ولعل واسمها، وجملة يتقون خبرها، وجملة الرجاء حالية (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) الفاء استئنافية، ولما رابطة أو حينية، وجملة نسوا لا محل لها أو في محل جر بالإضافة، ونسوا فعل وفاعل، وما مفعول به، وجملة ذكروا بالبناء للمجهول لا محل لها لأنها صلة، والواو نائب فاعل، وبه جار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 ومجرور متعلقان بذكروا (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) جملة أنجينا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، والذين مفعول به، وجملة ينهون صلة الموصول، وعن السوء جار ومجرور متعلقان بينهون (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) عطف على ما تقدم (بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) بعذاب جار ومجرور متعلقان بأخذنا، وبئيس صفة لعذاب، بما الباء حرف جر للسبب، أي: بسبب فسقهم (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) الفاء عاطفة، ولما رابطة أو حينية، وعما جار ومجرور متعلقان بعتوا، وجملة قلنا لا محل لها، وجملة كونوا في محل نصب مقول القول، وقردة خبر كونوا، وخاسئين صفة. [سورة الأعراف (7) : الآيات 167 الى 170] وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 484 اللغة: (تَأَذَّنَ) : عزم، تفعّل من الإيذان، أي الإعلام، لأن العازم على الأمر يحدّث نفسه به ويؤذنها به. قالوا: وأجري مجرى القسم كعلم الله وشهد الله، ولذلك أجيب بما يجاب به القسم. قال الواحدي: وأكثر أهل اللغة على أن التأذّن بمعنى الإيذان وهو الإعلام. وقيل: إن معناه حتم وواجب. وفي القاموس: تأذن أقسم. (عَرَضَ) بفتحتين مالا ثبات له، ومنه استعار المتكلمون العرض لمقابل الجوهر. وقال أبو عبيدة: العرض بالفتح جميع متاع الدنيا غير النقدين، وبالسكون المال والقيم، ومنه: «الدنيا عرض حاضر، وظلّ زائل» . وفسره الزمخشري بالحطام وقال: «أي حطام هذا الشيء الأدنى، يريد الدنيا وما يتمتع به منها. وفي قوله: هذا الأدنى تخسيس وتحقير. والأدنى إما من الدنو بمعنى القرب، لأنه عاجل قريب، وإما من دنو الحال وسقوطها وقلتها. والمراد ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلم للتسهيل على العامة» . وقد اجتمع المعنيان في بيت لأبي الطيب: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الإنسان فأدنى الأولى بمعنى أقل وأحقر، وأدنى الثانية بمعنى أقرب. الإعراب: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) الظرف منصوب على المفعولية بفعل مقدر معطوف على واسألهم، والتقدير: واذكر وقت أن تأذّن ربك، وجملة تأذّن في محل جر بإضافة الظرف إليها، وربك فاعل (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) اللام جواب القسم المفهوم من فعل تأذن، ويبعثن فعل مضارع مبني على الفتح، وعليهم جار ومجرور متعلقان بيبعثنّ أو بتأذّن، ومن اسم موصول مفعول يبعثن، وجملة يسومهم لا محل لها لأنها صلة الموصول، وسوء العذاب مفعول به ثان ليسومهم (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) جملة إن واسمها وخبرها تعليلية لا محل لها، وجملة وإنه لغفور رحيم عطف عليها، واللام المزحلقة (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً) الواو عاطفة، وقطّعناهم فعل وفاعل ومفعول به، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بقطعناهم، وأمما حال، أو مفعول به ثان، وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) الجملة صفة ل «أمما» ، ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. والصالحون مبتدأ مؤخر، ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم أيضا، ودون ظرف متعلق بمحذوف صفة لموصوف محذوف هو المبتدأ المؤخر، والمعنى: ومنهم ناس منحطّون عن الصلاح، ومثله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 قوله تعالى: «وما منا إلا له مقام معلوم» ، أي: وما منا أحد إلا له مقام، فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه، كقولهم: منّا ظعن ومنا أقام (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وبلوناهم عطف على قطعناهم، وبالحسنات جار ومجرور متعلقان ببلوناهم، والسيئات عطف على الحسنات، ولعل واسمها، وجملة يرجعون خبرها (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ) الفاء عاطفة، وخلف فعل ماض، ومن بعدهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وخلف فاعل، والخلف- بسكون اللام وفتحها- من يخلف غيره، وجملة ورثوا الكتاب صفة لخلف (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) الجملة صفة ثانية، وعرض مفعول يأخذون، هذا مضاف إليه، والأدنى بدل من اسم الإشارة (وَيَقُولُونَ: سَيُغْفَرُ لَنا) يجوز في الواو أن تكون عاطفة على ما قبلها أو حالية، وجملة سيغفر لنا في محل نصب مقول القول (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) الواو حالية، أي: والحال انهم إن يأتهم، ويجوز أن تكون للاستئناف، وإن شرطية، ويأتهم فعل الشرط، والهاء مفعول به، وعرض فاعل، ومثله صفة، ويأخذوه جواب الشرط وعلامة جزمه حذف النون (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ) الهمزة للاستفهام التقريري، ولم حرف نفي وقلب وجزم، ويؤخذ فعل مضارع مجزوم بلم، وعليهم جار ومجرور متعلقان بيؤخذ، وميثاق الكتاب نائب فاعل (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) أن مصدرية، وهي مع ما في حيزها مصدر محله الرفع على البدلية من ميثاق، لأن قول الحق هو ميثاق الكتاب، أو النصب على أنه مفعول من أجله، ومعناه لئلا يقولوا، ويجوز أن تكون «أن» مفسرة لميثاق الكتاب، لأنه في معنى القول دون حروفه، و «لا» عندئذ ناهية، ويقولوا فعل مضارع مجزوم بها، أما على أنها مصدرية ف «لا» نافية، والفعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 منصوب بأن المصدرية، وعلى الله جار ومجرور متعلقان بيقولوا، وإلا أداة حصر، والحق يجوز أن يكون مفعولا به أو مفعولا مطلقا، أي: القول الحق (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) الواو عاطفة، ودرسوا فعل ماض معطوف على «ألم يؤخذ عليهم» ، كأنه قيل: أخذ عليهم ميثاق الكتاب، ودرسوا ما فيه. وما مفعول درسوا، وفيه جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) الواو استئنافية أو حالية، والدار مبتدأ، والآخرة صفة، وخير خبر الدار، وللذين جار ومجرور متعلقان بخير، وجملة يتقون لا محل لها لأنها صلة الموصول، والهمزة للاستفهام الإنكاري، والفاء عاطفة على محذوف، وقد تقدمت له نظائر، ولا نافية، وتعقلون عطف على هذا المحذوف (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان مزية الصلاة وإنافتها في الفضل (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) الجملة خبر الذين أو تجعلها اعتراضية فيكون الخبر محذوفا تقديره مأجورون. وإن واسمها، ولا نافية، وجملة لا نضيع أجر المصلحين خبر إن، ونعيد إعرابها لرسوخها في الذهن، فالذين مبتدأ وجملة يمسكون بالكتاب صلة الذين لا محل لها، وجملة وأقاموا الصلاة معطوفة على الصلة، وجملة إنا لا نضيع أجر المصلحين خبر المبتدأ، والرابط بينهما إعادة المبتدأ بمعناه، فإن المصلحين هم الذين يمسكون بالكتاب، بالعطف على الذين يتقون ولئن سلم فالرابط العموم، لأن المصلحين أعمّ من المذكورين، أو ضمير محذوف، أي منهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 [سورة الأعراف (7) : الآيات 171 الى 173] وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) اللغة: (نَتَقْنَا) : نتق قلع ورفع، ومنه نتق السقاء إذا نفضه ليقتلع الزبدة منه. هذا وقد اختلف عبارات أهل اللغة في النتق، فقال أبو عبيدة: هو قلع الشيء من موضعه والرمي، ومنه نتق ما في الجراب: إذا نفضه فرمى ما فيه، وامرأة ناتق ومنتاق: إذا كانت كثيرة الولادة. وفي الحديث: «عليكم بزواج الأبكار، فإنهن أنتق أرحاما، وأطيب أفواها، وأرضى باليسير» . وقيل: النتق: الجذب بشدة، ومنه نتقت السقاء إذا جذبته بشدة لتقتلع الزبد من فمه. وقال الفراء: هو الرفع. وقال ابن قتيبة: هو الزعزعة. على أن هذه الاختلافات ترجع الى معنى واحد. والذي يلفتت النظر هو أن النون والتاء متى استعملا فاء وعينا للكلمة، فإن المعنى يحوم حول النزع والقلع والإخراج، وسنعرض كعادتنا، تركيب هذين الحرفين، فمن ذلك نتأ بمعنى رمى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 ونتأ ثدي الجارية بمعنى برز ونهد، ونتأ الشيء: خرج من موضعه من غير أن ينفصل، ونتجت الناقة: وضعت ولدها، ومن المجاز: الريح تنتج السحاب، قال الراعي: أربّت بها شهري ربيع عليهم ... جنائب ينتجن الغمام المتاليا وفي المثل: «إن العجز والتوائي تزاوجا فأنتجا الفقر» . وهذه المقدمة لا تنتج نتيجة صادقة إذا لم تكن لها عاقبة محمودة، ونتح العرق من مناتحه، ورشح من مراشحه، وتتخت الشوكة من رجلي بالمنتاخ: أي بالمنقاش، ونتخ البازي اللحم بمنسره، ونتخ فلان من أصحابه نزع منهم، ونتخته المنية من بين قومه، ونتر الثوب: جذبه في شدة، ونتر الوتر مدّه حتى كاد ينكسر القوس، وفي الحديث: «إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث نترات» ، ونتش الشوكة بالمنتاش، ونقشها بالمنقاش، وما نتش منه شيئا ما أخذ، وهو ينتش من كل علم، ونتف شعره وانتتفه، وفلان منتوف: مولع بنتف لحيته. ومن المجاز: أعطاه نتفة من الطعام وغيره: شيئا منه، فقول العامة: نتفة، صحيح ولكن بضم الميم، وكان أبو عبيدة يقول في الأصمعي: ذاك رجل نتفه. ونتن الشيء: ارتفع نتنه، وفي الحديث: «إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليذكر مناتنها» ، وهذا من دقائق العربية، فتدبره. (ظُلَّةٌ) الظّلة: بضم الظاء كل ما أظلك من سقيفة أو سحاب، الإعراب: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) الواو عاطفة، وإذ ظرف زمان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 متعلق باذكر المحذوفة والمعطوفة على ما تقدم، وجملة نتقنا في محل جر بالاضافة، ونا فاعل، والجبل مفعول به، وفوقهم ظرف مكان متعلق بمحذوف على أنه حال من الجبل، وهي حال مقدرة، لأنه حال النتق لم يكن فوقهم بالفعل بل صار فوقهم بالنتق، أو متعلق بنتقنا، وجملة كأنه ظلة حال من الجبل أيضا، فيكون الحال متعددا، وكأن واسمها وخبرها (وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) يجوز أن تكون الجملة في محل جر عطفا على جملة نتقنا المجرورة بالاضافة، ويجوز أن تكون الواو حالية، وقد مقدرة، وقد تقدم مثل هذا التعبير والبحث فيه، وصاحب الحال الجبل، أي: كأنه ظلة في حال كونه مظنونا وقوعه بهم، ولك أن تجعل الواو استئنافية، فتكون الجملة مستأنفة لا محل لها، وأن وما في حيزها سدت مسدّ مفعولي ظنّ، وأن واسمها وخبرها، وبهم جار ومجرور متعلقان بواقع (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) جملة خذوا في محل نصب مقول قول محذوف، أي: وقلنا لهم: خذوا، وما اسم موصول مفعول به، وجملة آتيناكم لا محل لها لأنها صلة الموصول، وبقوة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، أي: عازمين على احتمال مشاقه وكثرة تكاليفه (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) عطف على ما تقدم، ولعلكم لعل واسمها، وجملة تتقون خبرها، وجملة الرجاء حالية (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) عطف على ما تقدم، وقد سبق ذكره، وربك فاعل أخذ، ومن بني آدم جار ومجرور متعلقان بأخذ، ومن ظهورهم جار ومجرور في محل جر بدل اشتمال من بني آدم، أو بدل بعض من كل بإعادة الجار، ومعنى إخراج ذرياتهم من ظهورهم إخراجهم من أصلابهم نسلا وإشهادهم على أنفسهم. وسيأتي بحث ذلك في باب البلاغة. وذريتهم مفعول به (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) عطف على أخذ، وعلى أنفسهم جار ومجرور متعلقان بأشهدهم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى) الجملة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 491 مقول قول محذوف، أي: قائلا، وجملة القول حالية، والهمزة للاستفهام التقريري، والتاء اسم ليس، والباء حرف جر زائد وربكم مجرور لفظا خبر ليس محلا، وجملة قالوا مستأنفة، وبلى حرف جواب، وتختص بالنفي، وتفيد إبطاله سواء أكان مجردا أم مقرونا بالاستفهام التقريري، كما هنا. ولذلك قيل: قالوا: نعم كفروا، من جهة أن «نعم» تصديق للمخبر بنفي أو إيجاب، فكأنهم أقروا بأنه ليس ربهم (شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) شهدنا فعل وفاعل، وأن وما في حيزها في محل نصب مفعول من أجله، أي: فعلنا ذلك كراهة أن تقولوا، ويوم القيامة ظرف متعلق بتقولوا، وجملة إن وما في حيزها في محل نصب مقول القول، وجملة كنا خبر إنا، وغافلين خبر كنا، وعن هذا جار ومجرور متعلقان بغافلين (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ) أو تقولوا عطف على أن تقولوا، أي: وكراهة أن تقولوا، وإنما كافة ومكفوفة، وجملة إنما أشرك آباؤنا في محل نصب مقول القول، ومن قبل جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) الواو عاطفة، وكان واسمها، وذرية خبرها، ومن بعدهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لذرية (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري، والفاء عاطفة، وتهلكنا فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والباء حرف جر، وتفيد السببية، وما مصدرية، وفعل المبطلون فعل وفاعل، والمصدر المؤول في محل جر بالباء. البلاغة: 1- في قوله «وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة» تشبيه مرسل وفائدته هنا إخراج ما لم تجرية العادة الى ما جرت به العادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 492 2- في قوله: «وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم» الى آخر الآية، أجمع علماء البيان المتأخرون على أنه لا إخراج ولا قول ولا شهادة، وإنما هذا كله محمول على المجاز التمثيلي، فقد شبّه سبحانه حال النوع الإنساني بعد وجوده بالفعل بصفات التكليف من حيث نصب الأدلة الدالة على ربوبيته سبحانه، المقتضية لأن ينطق ويقرّ بمقتضاها بأخذ الميثاق عليه بالفعل بالإقرار بما ذكر. أما المتقدمون فيقولون: إنه تعالى أخرج بعضهم من صلب بعض، وجعل لهم العقل والمنطق، وألهمهم ذلك. ولكلّ وجهة نظرهم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 174 الى 177] وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 اللغة: (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) الإخلاد الى الشيء الميل اليه من الاطمئنان به. وفي المصباح: خلد بالمكان خلودا من باب قعد: أقام، وأخلد بالألف مثله، وخلد الى كذا وأخلد إليه: ركن. (يَلْهَثْ) : يدلع لسانه، يقال: لهث يلهث بفتح العين في الماضي والمضارع لهثا ولهاثا، وهو خروج لسانه في حال راحته وإعيائه، وهي طبيعة لازمة للكلب، وأما غيره من الحيوان فلا يلهث إلا إذا أعيا أو عطش. وفي الصحاح لهث الكلب إذا أخرج لسانه من التعب أو العطش، وقوله تعالى: «إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث» لأنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هاربا، وإن تتركه شدّ عليك ونبح، فيتعب نفسه في الحالين، فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان. الإعراب: (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الواو عاطفة، والكاف ومدخولها صفة لمصدر محذوف، وقد تقدمت له نظائر كثيرة، والآيات مفعول به، ولعلهم الواو عاطفة على محذوف تقديره: ليتدبروها، ولعل واسمها، وجملة يرجعون خبرها، وجملة الرجاء حالية (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) الواو عاطفة على متعلق «إذ» بقوله: «وإذ أخذ» ، واتل فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره أنت، وعليهم جار ومجرور متعلقان ب «اتل» ، ونبأ مفعول به، والذي مضاف إليه، وجملة آتيناه صلة الموصول، وآياتنا مفعول به ثان، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 494 فانسلخ عطف على آتيناه، ومنها جار ومجرور متعلقان بانسلخ (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) أتبع فعل ماض رباعي يتعدى لواحد فيكون بمعنى أدركه، ويتعدى لاثنين، فتكون الهاء المفعول به الأول، والمفعول به الثاني محذوف تقديره: فأتبعه الشيطان خطواته، أي جعله تابعا لها، والشيطان فاعل، فكان عطف على أتبعه، واسمها مستتر، ومن الغاوين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) والواو حالية، ولو شرطية غير جازمة، وشيئا فعل وفاعل، واللام جواب لو، وجملة رفعناه لا محل لها، وبها جار ومجرور متعلقان برفعناه (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) الواو عاطفة، ولكن واسمها، وجملة أخلد خبر لكن، وإلى الأرض جار ومجرور متعلقان بأخلد (وَاتَّبَعَ هَواهُ) عطف على أخلد، وهواه مفعول به (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) الفاء الفصيحة، ومثله مبتدأ، وكمثل الكلب خبره، وإن شرطية، وتحمل فعل الشرط، وعليه جار ومجرور متعلقان بتحمل، ويلهث جواب الشرط، وأو حرف عطف، وتتركه عطف على فعل الشرط وجوابه المتقدمين، وسيأتي مزيد من القول في محل الجملة الشرطية، لطول الكلام، في باب الفوائد (ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) ذلك مبتدأ، ومثل القوم خبره، والجملة حالية، والذين نعت للقوم، وجملة كذبوا لا محل لها لأنها صلة، وبآياتنا جار ومجرور متعلقان بكذبوا (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) الفاء الفصيحة، أي: إذا تحققت أن المثل المذكور مثل هؤلاء المكذبين فاقصصه عليهم، واقصص فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره أنت، والقصص بمعنى المقصوص مفعول به، وجملة الرجاء في محل نصب حال من الضمير المخاطب المخاطب في «اقصص» ، والمعنى راجيا تفكيرهم (ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) ساء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 495 فعل ماض جامد لإنشاء الذم، ومثلا تمييز، والقوم مبتدأ، خبره جملة ساء، ولا بد من تقدير محذوف ليكون التمييز والفاعل والمخصوص بالذم كلها متحدة معنى، والتقدير: ساء مثل القوم أو ساء أصحاب مثل القوم، والذين نعت للقوم، وجملة كذبوا بآياتنا صلة. وسيأتي مزيد من القول في هذه الآية في باب البلاغة (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) الواو عاطفة، وأنفسهم مفعول به مقدم ليظلمون، وكان واسمها، وجملة يظلمون خبرها، ويجوز أن يكون ما بعد الواو العاطفة داخلا في الصلة معطوفا على كذبوا، بمعنى الذين جمعوا بين تكذيب الآيات وظلم أنفسهم، أو منقطعا عنها، بمعنى ما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم. البلاغة: في هذه الآيات فنون من البلاغة نجملها فيما يلي: وقد سماه الجاحظ: 1- المذهب الكلامي: هذه التسمية كما ذكر ابن المعتز في كتابه وزعم الجاحظ أنه لا يوجد منه شيء في القرآن. والكتاب الكريم مشحون به. وتعريف هذا الباب هو أنه احتجاج المتكلم على ما يريد إثباته بحجة تقطع المعاند، وتفلّ سلاح المكابر المتعنت، على طريقة علماء الكلام. ومنه منطقيّ تستنتج فيه النتائج من المقدمات الصادقة. والآية المقصودة بهذا الفن هي قوله تعالى: «ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد الى الأرض واتبع هواه» وترتيب المقدمتين في هذه الكلمات والنتيجة أنا نقول: ما شاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولو شاء الله رفع بلعام بن باعوراء المقصود بهذه الآية، فقد بعثه الله الى ملك مدين ليدعوه الى الإيمان، فأعطاه وأقطعه، فاتبع دينه وترك دين موسى، ففيه نزلت هذه الآية وما بعدها. هذا ولا يكون المقصود، بالمدح أو الذم إلا من جنس المرتفع بنعم وبئس، فإن وجد كلام ظاهره مخالف لهذا الحكم فليعلم أن هناك محذوفا يذكره يرجع الكلام الى هذا الأصل المقرر، فمن قوله سبحانه: «ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا» والقوم ليسوا من جنس المثل، فالتقدير: ساء مثلا مثل القوم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وعلى هذا يقاس. 2- التشبيه التّمثيليّ: في قوله: «واتل عليهم نبأ الذي آتيناه» الى آخر الآية، فقد شبه حال من أعطي شيئا فلم يقبله بالكلب الذي إن حملت عليه نبح وولى ذاهبا، وإن تركته شدّ عليك ونبح، فإن الكلب يعطي الجد والجهد من نفسه في كل حالة من الحالات، وشبه رفضه وقذفه لها ورده لها بعد الحرص عليها، وفرط الرغبة فيها، بالكلب، إذا رجع ينبح بعد اطرادك له وواجب أن يكون رفض الأشياء الخطيرة النفيسة في خدن طلبها والحرص عليها، والكلب إذا أتعب نفسه في شدة النباح مقبلا عليك ومدبرا عنك لهث واعتراه ما يعتريه عند التعب والعطش. الفوائد: الجملة الشرطية في محل نصب على الحال، أي: لاهثا في الحالتين، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 497 قاله الزمخشري وأبو البقاء. قال بعضهم: «وأما الشرطية فلا تقع بتمامها موقع الحال، فلا يقال: جاء زيد إن يسأل يعط، على الحال بل لو أريد ذلك لجعلت الشرطية خبرا عن ضمير ما أريد الحال عنه، نحو: جاء زيد هو وإن يسأل يعط، فيكون الواقع موقع الحال، ولكن بعد ما أخرجوها عن حقيقة الشرط. وتلك الجملة لم تخل من أن يعطف عليها ما يناقضها أو لم يعطف، والأول ترك الواو مستمرا فيه، نحو: أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتني، إذ لا يخفى أن النقيضين من الشرط في مثل هذا الموضع لا يبقيان على معنى الشرط، بل يتحولان الى معنى التسوية، كالاستفهامين المتناقضين في قوله: «أأنذرتهم أم لم تنذرهم» ، وأما الثاني فلا بد فيه من الواو، نحو: أتيتك وإن لم تأتني، ولو ترك الواو لالتبس بالشرط حقيقة، فقوله: «إن تحمل عليه يهلث أو تتركه يلهث» من قبيل الأول، لأن الحمل عليه والترك نقيضان. وهذا من أدق المباحث فتأمله لأنه جدير بالتأمل. [سورة الأعراف (7) : الآيات 178 الى 179] مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) اللغة: (ذَرَأْنا) : خلقنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 498 الإعراب: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) من اسم شرط جازم في محل نصب مفعول به مقدم ليهد، والله فاعله، والفاء رابطة لجواب الشرط، وهو مبتدأ، والمهتدي خبره، وقد راعى هنا لفظ «من» فأفرد المهتدي (وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) عطف على الجملة السابقة، وراعى هنا معنى «من» فجمع الخاسرين (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) الواو عاطفة ليتساوق كلام الله تعالى في وصفهم ووصف مآلهم. واللام جواب للقسم المحذوف، وذرأنا فعل وفاعل، ولجهنم جار ومجرور متعلقان بذرأنا، وكثيرا مفعول به، ومن الجن والإنس صفة ل «كثيرا» (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) لهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وقلوب مبتدأ مؤخر، والجملة حال من «كثيرا» ، وإن كان نكرة لتخصيصه بالوصف، وجملة لا يفقهون صفة لقلوب. ومثل ذلك يقال في الجملتين التاليتين (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) أولئك مبتدأ، وكالأنعام جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر، وبل حرف إضراب وعطف، وهم مبتدأ، وأضل خبر، وأولئك مبتدأ، وهم ضمير فصل لا محل له، والغافلون خبر أولئك، أو «هم» مبتدأ، والغافلون خبر «هم» ، وجملة هم الغافلون خبر أولئك. البلاغة: في الآية التشبيه التمثيلي، فقد شبه اليهود في عظم ما أقدموا عليه من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمهم أنه النبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 499 الموعود بمن عدموا فهم القلوب وإبصار العيون واستماع الآذان، وجعلهم لإغراقهم في الكفر وإصرارهم على الضلال بمثابة من خلقوا للنار لا ينفكون عنها أبدا، ثم شبههم بالأنعام بل بما هو دون الأنعام ارتكاسا وسفها وتدنيا في مهابط الرذيلة والآثام. [سورة الأعراف (7) : الآيات 180 الى 186] وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) اللغة: (الْحُسْنى) : مؤنث الأحسن، كالكبرى والصغرى، وقيل: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 الحسنى: مصدر وصف به كالرّجعى، وأفرده كما أفرد وصف ما لا يعقل في قوله: «ولي فيها مآرب أخرى» ، ولو طوبق به لكان التركيب الحسن كقوله: «من أيام أخر» . (يُلْحِدُونَ) : مضارع ألحد بمعنى مال وانحرف. (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) : سنستدنيهم قليلا الى ما يهلكهم، والاستدراج النقل درجة بعد درجة، من الدرج وهو الطيّ، ومنه درج الثوب: إذا طواه. (وَأُمْلِي) : الإملاء: الإمهال والتطويل. (جِنَّةٍ) : بكسر الجيم وتشديد النون: أي جنون. الإعراب: (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) الواو استئنافية، ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والأسماء مبتدأ مؤخر، والحسنى صفة، فادعوه الفاء الفصيحة، وادعوه فعل وفاعل ومفعول به، وبها جار ومجرور متعلقان بادعوه (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) الواو عاطفة، وذروا فعل أمر وفاعل، والذين اسم موصول مفعول به، وجملة يلحدون صلة الموصول، وفي أسمائه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، والمعنى واتركوا تسمية الذين يميلون عن الحق والصواب فيه (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) سيجزون فعل مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعل، وما مفعول به ثان، وجملة كانوا يعملون صلة الموصول، وجملة يعملون خبر كانوا (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) الواو عاطفة، وممن جار ومجرور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 501 متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وجملة خلقنا صلة الموصول، وأمة مبتدأ مؤخر، وجملة يهدون بالحق صفة لأمة، وبه جار ومجرور متعلقان بيعدلون (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) الواو عاطفة أو استئنافية، والذين مبتدأ وجملة كذبوا صلة الموصول، وبآياتنا جار ومجرور متعلقان بكذبوا، وجملة سنستدرجهم من حيث لا يعلمون خبر، ولك أن تنصب الذين بفعل محذوف على الاشتغال، والتقدير: سنستدرج الذين كذبوا أي سننقلهم درجة بعد درجة من علو الى سفل، أي نقربهم الى الهلاك بإمهالهم. ومن حيث جار ومجرور متعلقان بنستدرجهم، وجملة لا يعلمون في محل جر بالإضافة (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) يجوز أن تكون الواو عاطفة، وأملي معطوف على نستدرجهم، على نحو من الالتفات، والذي نراه أنها مستأنفة على أنها خبر لمبتدأ محذوف، أي: وأنا أملي لهم، ولهم جار ومجرور متعلقان بأملي، وإن كيدي متين الجملة بمثابة التعليل لقوته تعالى (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) الهمزة للاستفهام الإنكاري، والواو عاطفة، ولم حرف نفي وقلب وجزم، ويتفكروا فعل مضارع مجزوم بلم، وما نافية، وبصاحبهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ومن حرف جر زائد، وجنة مجرور لفظا مرفوع محلّا على أنه مبتدأ مؤخر، والجملة في محل نصب معمولة ليتفكروا، فهو عامل فيها، لوجود المعلق له وهو «ما» النافية، ويجوز أن تكون «ما» استفهامية في محل رفع مبتدأ، والخبر بصاحبهم، ومن جنة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) إن نافية، وهو مبتدأ، وإلا أداة حصر، ونذير خبر، ومبين صفة (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) تقدم إعراب نظيرها، وفي ملكوت السموات والأرض جار ومجرور متعلقان بينظر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 502 وما عطف على ملكوت، وجملة خلق صلة الموصول، ومن شيء جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) الواو عاطفة، والجملة في محل جر عطفا على «ما» قبلها، أي: في أن، وأن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن المحذوف، وخبرها جملة عسى، واسم عسى مستتر، وأن وما في حيزها خبرها، واسم يكون ضمير الشأن أيضا، وجملة قد اقترب أجلهم خبرها (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) الفاء استئنافية، وبأي جار ومجرور متعلقان بيؤمنون، والجملة مستأنفة مسوقة للتعجب، أي: إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث فكيف يؤمنون بغيره! والضمير عائد على القرآن أو الرسول (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ) من اسم شرط جازم في محل نصب مفعول به مقدم ليضلل، والله فاعل، والفاء رابطة، ولا نافية للجنس، وهادي اسمها، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) الواو استئنافية، وجملة يذرهم مستأنفة، والهاء مفعول به، في طغيانهم جار ومجرور متعلقان بيعمهون، وجملة يعمهون حال من الهاء، وقرئ: «ويذرهم» بالجزم عطفا على محل قوله: «فلا هادي له» المجزوم. [سورة الأعراف (7) : الآيات 187 الى 188] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 503 اللغة: (السَّاعَةِ) : القيامة، وسميت بذلك لوقوعها بغتة، أو لسرعة حسابها، أو على العكس لطولها، أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند الخلق. وهي من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا. (مُرْساها) مصدر ميمي من أرسى، والإرساء الاستقرار والإثبات، والثلاثي منه رسا، ورسا الشيء ثبت، ورست السفينة: وقفت عن الجري. (يُجَلِّيها) : يظهرها. (حَفِيٌّ) : مبالغ في السؤال، والمراد كأنك عالم بها، لأن من بالغ في المسألة عن الشيء والتنقير عنه استحكم علمه فيه ورصن، وهذا التركيب معناه المبالغة ومنه إحفاء الشارب. الإعراب: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) جملة مستأنفة مسوقة لبيان نمط من ضلالاتهم. ويسألونك فعل وفاعل ومفعول به، وعن الساعة جار ومجرور متعلقان بيسألونك، وأيان اسم استفهام في محل نصب على الظرفية الزمانية، وسيأتي في باب الفوائد اشتقاقه، وهو متعلق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 504 بمحذوف خبر مقدم، ومرساها مبتدأ مؤخر، والجملة بدل من الساعة. وقيل: أيان متعلق بمحذوف، أي يسألونك، ومرساها فاعل لهذا الفعل المحذوف (قُلْ: إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) إنما كافة ومكفوفة، وعلمها مبتدأ، والظرف متعلق بمحذوف خبر، وجملة لا يجليها حال، ولوقتها جار ومجرور متعلقان بيجلّيها، وجملة إنما وما في حيزها في محل نصب مقول القول وإلا أداة حصر، وهو فاعل يجليها، أو تأكيد للفاعل المستتر (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الجملة مستأنفة، وفي السموات جار ومجرور متعلقان بثقلت، سواء أكان «في» بمعنى «على» أو على بابها من الظرفية، والمعنى حصل ثقلها، وهو شدتها أو المبالغة في إخفائها في هذين الظرفين أو عليهما (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) الجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها، ولا تأتيكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به، وإلا أداة حصر، وبغتة حال أو مفعول مطلق (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) : الجملة مستأنفة، وسيأتي سر هذا التكرير في باب البلاغة. ويسألونك فعل وفاعل ومفعول به، وجملة كأنك حالية، وكأن واسمها، وحفي خبرها، وعنها جار ومجرور متعلقان بحفي (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ) تقدم إعرابها قريبا (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) تقدم إعرابها (قُلْ: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) الجملة مستأنفة مسوقة لحسم أطماعهم بعد إعلان نفض يده منهم. وجملة لا أملك في محل نصب مقول القول، ولا نافية وأملك فعل مضارع وفاعل مستتر، ونفعا مفعول به، ولنفسي جار ومجرور متعلقان بأملك، أو بمحذوف حال من «نفعا» ، لأنه كان في الأصل صفة له لو تأخر عنه، وإلا أداة استثناء، وما مستثنى من «نفعا وضرا» أو بدل منهما، وقيل: الاستثناء منقطع، فهو متعين النصب على الاستثناء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 505 (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) الواو استئنافية، ولو شرطية، وكان واسمها، وجملة أعلم خبرها، والغيب مفعول به، ولا ستكثرت اللام واقعة في جواب لو، واستكثرت فعل وفاعل، ومن الخير جار ومجرور متعلقان باستكثرت، والجملة لا محل لها (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) الواو عاطفة، وجملة ما مسني السوء عطف على استكثرت، وما نافية (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) إن نافية، وأنا مبتدأ، وإلا أداة حصر، ونذير خبر، وبشير عطف على نذير، ولقوم جار ومجرور متعلقان بنذير وبشير، وجملة يؤمنون صفة لقوم. البلاغة: في قوله تعالى: «يسألونك كأنك حفيّ عنها» نوع من التكرير لم يدونه علماء البلاغة في معرض حديثهم عن التكرير، وهو أن الكلام إذا بني على مقصد ما، واعترض في أثنائه عارض، فأريد الرجوع لتتميم المقصد الأول، وقد بعد عهده، طرّي بذكر المقصد الأول، لتتصل نهايته ببدايته، وقد تقدمت اليه الإشارة، وهذا منها. فإنه لما ابتدأ الكلام بقوله: «يسألونك عن الساعة أيان مرساها» ثم اعترض ذكر الجواب المضمن في قوله: «قل إنما علمها عند ربي» الى قوله «بغتة» أريد تتميم سؤالهم عنها بوجه من الإنكار عليهم، وهو المضمن في قوله: «كأنك حفيّ عنها» وهو شديد التعلق بالسؤال، وقد بعد عهده، فطرّي ذكره تطرية عامة، ولا نراه أبدا يطرّي إلا بنوع من الإجمال، كالتذكرة للأول مستغني عن تفصيله بما تقدم، فمن ثم قيل: «يسألونك» ولم يذكر المسئول عنه- وهو الساعة- اكتفاء بما تقدم. فلما كرر السؤال لهذه الفائدة كرر الجواب أيضا مجملا فقال: «قل إنما علمها عند الله» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 506 الفوائد: (أَيَّانَ) بمعنى متى، إن كانت اسم استفهام أو اسم شرط، وقيل اشتقاقه من «أي» وهي «فعلان» منه، لأن معناه: أي وقت وأي فعل، من أويت إليه، لأن البعض آو الى الكل متساند إليه. قاله ابن جني، وأبى أن يكون من «أين» لأنه زمان و «أين» مكان. وقال غيره: أصل أيان «أي آن» فهي مركبة من «أي» المتضمنة معنى الشرط و «آن» بمعنى حين، فصارتا بعد التركيب اسما واحدا، للشرط في الزمان المستقبل، مبني على الفتح، وكثيرا ما تلحقها «ما» الزائدة للتوكيد، كقوله: إذا النعجة الأدماء بانت بقفرة ... فأيّان ما تعدل به الريح تنزل [سورة الأعراف (7) : الآيات 189 الى 192] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 507 الإعراب: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) كلام مستأنف لخطاب أهل مكة. وهو مبتدأ، والذي خبره، وجملة خلقكم صلة، ومن نفس جار ومجرور متعلقان بخلقكم، وواحدة صفة (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) جعل بمعنى خلق معطوف على خلقكم، وفاعله ضمير مستتر، ومنها جار ومجرور متعلقان بجعل، وزوجها مفعول به، واللام للتعليل ويسكن فعل مضارع منصوب وفاعله هو، وإليها جار ومجرور متعلقان بيسكن والمراد بالنفس آدم، وتأنيث الضمير باعتبار لفظ النفس (فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ) الفاء عاطفة، ولما رابطة أو حينية، وجملة حملت لا محل لها، وحملا إن كانت مصدرا فهي معفول مطلق، وإن كانت بمعنى الجنين فهي مفعول به، وخفيفا نعت أتى به للإشعار بعدم التأذي به كما يصيب الحوامل عادة من آلام الحمل، أو إشارة الى ابتدائه وكونه نطفة لا تثقل البطن. والفاء عاطفة، ومرت عطف على حملت، وبه جار ومجرور متعلقان بمرت، أي: ترددت في إنجاز مهامها وإظهارها من غير مشقة ولا إعنات (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما) الفاء عاطفة، ولما رابطة أو حينية، ودعوا الله فعل ماض وفاعل ومفعول به وربهما بدل (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) اللام موطئة للقسم، وجملة القسم مستأنفة لتدل على الجملة القسمية، وإن شرطية، وآتيتنا فعل وفاعل وهو فعل الشرط، ونا مفعول به، وصالحا صفة لمفعول محذوف نابت عنه، أي: ولدا صالحا، واللام واقعة في جواب القسم لتقدمه، ونكونن فعل مضارع ناقص، مبني على الفتح، واسمها ضمير مستتر تقديره نحن، ومن الشاكرين جار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 508 ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها، وجملة لئن آتيتنا تفسيرية لجملة دعوا الله، كأنه قيل: فما كان دعاؤهما؟ ما قالاه، ولك أن تجعلها مقولا لقول محذوف تقديره: فقالا: لئن آتيتنا، وجملة لنكونن جواب القسم، وجواب الشرط محذوف على ما تقرر (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) شركاء مفعول جعلا، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، لأنه كان في الأصل صفة لشركاء وتقدّم، وفيما جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لشركاء، وجملة آتاهما صلة، والمعنى: آتى أولادهما، وقد دل على ذلك قوله: (فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) حيث جمع الضمير، وآدم وحواء بريئان من الشرك. والفاء حرف عطف، وجملة تعالى الله عطف على خلقكم، وما بينهما اعتراض. ويجوز أن تكون الفاء استئنافية، والجملة مستأنفة، وسيأتي في باب الفوائد سرّ هذا الخطاب، وما قاله العلماء فيه. والله فاعله، وعما جار ومجرور متعلقان بتعالى، وجملة يشركون لا محل لها لأنها صلة الموصول (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري، ويشركون فعل مضارع، والواو فاعل، وما مفعول به، وجملة لا يخلق صلة الموصول، والواو حالية، وهم مبتدأ، وجملة يخلقون بالبناء للمجهول خبر «هم» ، والواو نائب فاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لتوبيخهم على ما اقترفوه. وهذا الضمير يعود على الأصنام المعبر عنها ب «ما» ، وعبر عنها ب «ما» لاعتقاد الكفار فيها ما يعتقدونه في العقلاء، ويجوز أن يعود على الكفار، أي: وهم ومخلوقون لله، فلو تفكروا في ذلك لآمنوا (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) الجملة معطوفة على سابقتها، وأنفسهم مفعول به مقدم لينصرون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 509 الفوائد: المراد في الخطاب الوارد في هذه الآيات شغل العلماء والمفسرين وخاضوا فيه كثيرا، ولا يتسع المجال لنقل ما قالوه في هذا الصدد. وأسلم ما نراه وأقربه الى الصواب والمعقول أن يكون المراد جنسي الذكر والأنثى، لا يقصد فيه الى معين، ويكون المعنى حينئذ: خلقكم جنسا واحدا، وجعل أزواجكم منكم أيضا لتسكنوا إليهن، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر الجنس الذي هو الأنثى جرى من الجنسين كذا وكذا. وقيل: الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهم آل قصيّ- ألا ترى الى قوله في قصة أم معبد: فيا لقصيّ ما زوى الله عنكم ... به من فخار لا يبارى وسؤدد وقبل هذا البيت: جزى الله ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين حلّا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبرّ ثمّ ترحّلا ... فيا فوز من أمسى رفيق محمد وبعده: ليهن بني سعد مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 510 والقائل مجهول. روى التاريخ أنه حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرا يصحبه أبوبكر، وجهل أهلهما خبرهما بعد خروجها من الغار، هتف الهاتفون بهذا القول. وأم معبد امرأة من بني سعد، نزلا عندها. و «يا لقصيّ» أصله: يا آل قصي، أو تكون لام الاستغاثة، والجار والمجرور متعلقان بما في «يا» من معنى الفعل. [سورة الأعراف (7) : الآيات 193 الى 195] وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) الإعراب: (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة لخطاب عبدة الأصنام، أي: وإن تدعوا آلهتكم الى طلب هدى ورشاد كما تطلبونه من الله لا يتابعوكم على مرادكم. وإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 511 شرطية. وتدعوهم فعل الشرط، والواو فاعل. والهاء مفعول به يعود على الأصنام، والى الهدى جار ومجرور متعلقان بتدعوهم، ولا نافية، ويتبعوكم جواب الشرط المجزوم (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) سواء خبر مقدم، وعليكم جار ومجرور متعلقان بسواء، والهمزة للاستفهام، وهي همزة التسوية التي تؤوّل ما بعدها بمصدر، وقد مر ذكرها في البقرة، وهي وما في حيزها في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ مؤخر، ولك أن تعرب «سواء» خبرا لمبتدأ محذوف، والمصدر المؤول فاعل لسواء الذي أجري مجرى المصادر، وأم عاطفة وتسمى متصلة، وقد سبق ذكرها، وأنتم مبتدأ، وصامتون خبر، والجملة معطوفة على الجملة السابقة (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما تقدمها، وإن واسمها، وجملة تدعون صلة، ومن دون الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال. وعباد خبر إنّ، وأمثالكم صفة لعباد، ووصف الأصنام بأنها عباد أمثالهم مع أنها جمادات، ولفظ العباد إنما يطلق على الأحياء العقلاء، وعبّر عنها بضرورة في قوله: «فادعوهم» ، وقوله: «فليستجيبوا لكم» ، إنما ساغ ذلك كله لأنهم لما اعتقدوا ألوهيتها لزمهم كونها حية عاقلة وإن كانت في الواقع خلاف ذلك، ولكن وردت الألفاظ على مقتضى اعتقادهم. وسيأتي مزيد من التحقيق في هذا في باب الفوائد (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الفاء الفصيحة، أي: إذا صح ذلك- وهو لم يصح إلا في اعتقادهم وعرفهم- فادعوهم. وادعوهم فعل أمر وفاعل ومفعول به، وقوله: «فليستجيبوا» الفاء عاطفة، واللام لام الأمر، ويستجيبوا فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، ولكم جار ومجرور متعلقان بيستجيبوا، وإن شرطية، وكنتم صادقين فعل الشرط، والجواب محذوف دلت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 512 عليه الفاء الفصيحة، أي: فادعوهم، وصادقين خبر كنتم (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) كلام مستأنف بمثابة التوبيخ لهم على عقولهم القاصرة. والهمزة للاستفهام الإنكاري مع النفي، ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وأرجل مبتدأ مؤخر وجملة يمشون بها صفة (أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها) أم عاطفة بمعنى بل، والجملة معطوفة على سابقتها، وكذلك قوله: (أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها؟ أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) أي: ليس لهم شيء من ذلك البتة مما هو لكم، فكيف تعبونهم؟ وأنتم أتمّ منهم وأكمل حالا (قُلِ: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) جملة ادعوا شركاءكم مقول القول، وثم حرف عطف وتراخ، وكيدون عطف على ادعوا، والفاء عاطفة ولا ناهية، تنظرون فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والنون للوقاية، وياء المتكلم محذوفة، وقد تقدم القول في جواز حذفها في البقرة. البلاغة: في قوله: «ألهم أرجل يمشون» بها الى قوله: «فلا تنظرون» فنّ بديعي معروف باسم نفي الشيء بإيجابه، وهو أن يثبت المتكلم شيئا في ظاهر كلامه بشرط أن يكون المثبت مستعارا، ثم ينفي ما هو من سببه مجازا، والمنفي حقيقة في باطن الكلام، وهو الذي أثبته لا الذي نفاه، وفي الآيات المتقدمة يقتضي نفي الإلهية جملة عمن يبصر ويسمع من الآلهة المتخذة من دون الله تعالى، فكيف من لا يسمع ولا يبصر منها. وقد تقدمت له أمثلة، وسيأتي المزيد منه. الفوائد: لم ير أشهر المفسرين إشكالا في إطلاق لفظ «عباد» على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 513 الأصنام، فابن جرير- الذي هو أشدهم عناية بتقرير كل ما كان يعدّ شكلا والجواب عنه- لم يورده في الآية، وفسر العباد بالأملاك، وأما من بعده من المفسرين فقد أوردوا ذلك وأجابوا عنه بجوابين نقلهما الرازي. عبارة الرّازيّ: أحدها: أن المشركين لما ادّعوا أنها تضر وتنفع وجب أن يعقتدوا فيها كونها عاقلة فاهمة، فلا جرم وردت هذه الآية على وفق معتقداتهم، ولذلك قال: «فادعوهم فليستجيبوا لكم» ، وقال: إن الذين ولم يقل «التي» . والجواب الثاني أن هذا لغو ورد في معرض الاستهزاء بهم، أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء، فإذا ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم، ولا فضل لهم عليكم، فلم جعلتم أنفسكم عبيدا؟ وجعلتموهم آلهة وأربابا. [سورة الأعراف (7) : الآيات 196 الى 200] إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 514 اللغة: (وَلِيِّيَ) : ناصري ومتولي أموري. (الْعَفْوَ) : اليسر وضدّ الجهد. أي: خذ ما عفا لك من أخلاق الناس وأفعالهم، وما أتى منهم، وتسهّل من غير تكلف ولا إعنات، ولا تحرجهم وتشق عليهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى: «يسّروا ولا تعسّروا» . وقال: خذي العفو مني تستديمي مودّتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب (العرف) : بضم العين: المعروف وكل جميل من الأفعال، قال الحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوازية لا يذهب العرف بين الله والناس (النزغ) : النخس والغرز، شبه وسوسة الشيطان بغرز السائق لما يسوقه. الإعراب: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) إن واسمها وخبرها، والذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 515 صفة لله، وجملة نزل الكتاب صلة الموصول (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) الواو حالية أو عاطفة، وهو مبتدأ، وجملة يتولى الصالحين خبر (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) عطف على ما تقدم، وقد مرّ إعرابه آنفا، وأنفسهم مفعول به مقدم لينصرون (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) عطف أيضا، وإن الشرطية وفعلها وجوابها (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الواو استئنافية، وتراهم فعل مضارع، وفاعله مستتر تقديره أنت، والهاء مفعول به، وجملة ينظرون إليك حالية، والواو للحال، وهم مبتدأ، وجملة لا يبصرون خبر، وجملة وهم لا يبصرون حال أيضا (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) خذ فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره أنت، والعفو مفعول به، وفعلا الأمر الآخران عطف عليه (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الواو عاطفة وإن شرطية، أدغمت نونها بما الزائدة، وينزغنك فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وهو في محل جزم فعل الشرط. ومن الشيطان جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، لأنه في الأصل كان صفة ل «نزغ» ، ونزغ فاعل، فاستعذ: الفاء رابطة لجواب الشرط، لأن الجواب بعدها طلبي، واستعذ فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره أنت، وبالله جار ومجرور متعلقان باستعذ، وإن واسمها، وخبرها، وجملة إن وما في حيزها للتعليل والاستئناف. البلاغة: أعجب العرب كثيرا بقوله تعالى: «خذ العفو» الى آخر الآية، لما فيها من سهولة سبك، وعذوبة لفظ، وسلامة تأليف، مع ما تضمنته من إشارات بعيدة، ورموز لا تتناهى، وأطلقوا على هذا النوع من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 516 الأساليب اسم فنّ يقال له «الانسجام» ، وهو أن يكون الكلام متحدّرا كتحدّر الماء المنسجم، حتى يكون للجملة من المنثور وللبيت من المنظوم وقع في النفوس، وتأثير في القلوب، ما ليس لغيره. نماذج شعرية من الانسجام: ومن النماذج الشعرية لهذا الفنّ التي خلت من البديع، إلا أن يأتي ضمن السهولة، من غير قصد، كقول بعضهم، وينسب الى ديك الجنّ الشاعر الحمصي: يا بديع الدّلّ والغنج ... لك سلطان على المهج إنّ بيتا أنت ساكنه ... غير محتاج إلى السّرج وجهك المأمول حجّتنا ... يوم تأتي الناس بالحجج ولبهاء الدين زهير: لحاظك أمضى من المرهف ... وريقك أشهى من القرقف ومن سيف لحظك لا أتّقي ... ومن خمر ريقك لا أكتفي أقاسي المنون لنيل المنى ... ويا ليت هذا بهذا يفي زها ورد خدّيك لكنه ... بغير النواظر لم يقطف وقد زعموا أنه مضعف ... وما علموا أنه مضعفي ومما يستحق أن يغنى به قول صفيّ الدين، وقد بلغ غاية الانسجام: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 517 قالت: كحلت الجفون بالوسن ... قلت: ارتقابا لطيفك الحسن قالت: تسلّيت بعد فرقتنا ... قلت: عن مسكني وعن سكني قالت: تشاغلت عن محبتنا ... قلت: بفرط البكاء والحزن قالت: تخلّيت، قلت عن جلدي ... قالت: تغيّرت، قلت: في بدني قالت: أذعت الأسرار، قلت لها: ... صيّر سري هواك كالعلن قالت: فماذا تروم؟ قلت لها: ... ساعة سعد بالوصال تسعفني قالت: وعين الرقيب ترقبنا ... قلت: فإنّي للعين لم أبن أنحلتني بالبعاد عنك فلو ... ترصّدتني العيون لم ترني ونختم هذه المختارة بالحكاية الآتية: قيل: إن بعض الأدباء اجتاز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 518 بدار الشريف الرضي، وقد أخنى عليها الزمان، وأذهب بهجتها، وأخلق ديباجتها، وبقايا رسومها تشهد لها بالنضارة. فوقف عليها متعجبا من صروف الزمان وتمثل بهذه الأبيات: ولقد وقفت على ربوعهم ... وطلولها بيد البلى نهب فبكيت حتى ضجّ من لغب ... نضوي وعجّ بعذلي الرّكب وتلفتت عيني فمذ خفيت ... عني الطّلول تلفّت القلب فمر شخص فقال له: أتعرف هذه الأبيات؟ فقال: لا قال: والله إنها لصاحب هذه الدار، فتعجبا من غريب هذا الاتفاق، والشيء بالشيء يذكر. [سورة الأعراف (7) : الآيات 201 الى 206] إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 519 اللغة: (طائِفٌ) : يحتمل أن يكون اسم فاعل من طاف به الخيال يطيف طيفا، أو مصدر منه، وقد قرأ أهل البصرة «طيف» ، وكذا أهل مكة، وقرأ أهل المدينة والكوفة: «طائف» . (اجْتَبَيْتَها) اجتبى الشيء: بمعنى جباه لنفسه، أي: جمعه. (الغدو) بضمتين جمع غدوة، بضم الغين وسكون الدال، وهي من طلوع الفجر الى طلوع الشمس. (الْآصالِ) جمع أصيل وهو من العصر إلى الغروب. الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) إن واسمها، وجملة اتقوا صلة، وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن، متضمن معنى الشرط، وجملة مسهم في محل جر بالإضافة لوقوعها بعد الظرف، والهاء مفعول به لمسّ، وطائف فاعله، ومن الشيطان جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لطائف، وإذا وشرطها وجوابها الآتي خبر إن (تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) جملة تذكروا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، والفاء عاطفة، وإذا فجائية، وقد تقدم الكلام عنها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 520 وهم مبتدأ ومبصرون خبر (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) اضطربت أقوال المعربين والمفسرين في هذه الآية، وتفاديا للضياع في متاهات الأقوال المتشعبة نجتزئ بأشهر الأقوال وأقربها الى العقل والمنطق، فنقول: وإخوانهم: الواو استئنافية، وإخوانهم مبتدأ، والضمير فيه يعود على الشيطان، لأنه لا يراد به الواحد بل الجنس، والضمير المنصوب في يمدونهم يعود على الكفار، والمرفوع يعود على الشيطان، والتقدير وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين، وعلى هذا فالخبر جار على غير من هو له في المعنى، ألا ترى أن الإمداد مسند الى الشياطين، وهو في اللفظ خبر عن إخوانهم؟ قال الزمخشري: وهذا الوجه أوجه، لأن «إخوانهم» في مقابلة «الذين اتقوا» ، وفي الغي جار ومجرور متعلقان بيمدونهم، وثم حرف عطف وتراخ، ولا يقصرون عطف على يمدونهم، ولا نافية. وهناك أوجه ترجع من حيث النتيجة إليه، فنكتفي به (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا: لَوْلا اجْتَبَيْتَها) الواو حرف عطف، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط، وجملة لم تأتهم في محل جر بالإضافة، وبآية جار ومجرور متعلقان بتأتهم، وجملة قالوا لا محل لها من الإعراب، ولولا حرف تحضيض، فالكلام طلبيّ، أي: اجتبها واخترعها من عند نفسك، كما هي عادتك (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) إنما كافة ومكفوقة، وأتبع فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر تقديره أنا، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة يوحى بالبناء للمجهول لا محل لها لأنها صلة الموصول، وإلي جار ومجرور متعلقان بيوحى، ومن ربي جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) هذه الجملة تتمة لقول القول، داخلة في حيزه، وهذا اسم إشارة في محل رفع مبتدأ، وبصائر خبره، ومن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 521 ربكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبصائر، وهدى عطف على بصائر، وكذلك رحمة ولقوم جار ومجرور متعلقان برحمة، وجملة يؤمنون صفة لقوم (وَإِذا قُرِئَ، الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة، ويحتمل أن تكون عاطفة، والكلام من جملة المقول المأمور به، وإذا شرط مستقبل، وجملة قرئ القرآن في محل جر بالإضافة، والقرآن نائب فاعل، والفاء رابطة، وجملة استمعوا له لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وله جار ومجرور متعلقان باستمعوا، واختلف في الاستماع والمراد به، وأظهر الأقوال أنه الاستماع والإنصات وقت قراءة القرآن في صلاة أو غير صلاة، وقيل: معنى «فاستمعوا» : فاعملوا بما فيه ولا تجاوزوه. ولعل واسمها، وجملة ترحمون خبرها، وجملة الرجاء حالية (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) الواو عاطفة، واذكر فعل أمر، وربك مفعول به، وفي نفسك جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وهو عام في الأذكار، وتضرعا وخيفة في نصبهما وجهان: أحدهما أنهما مفعولان لأجلهما، والثاني أنهما مصدران وقعا موقع الحال، أي: متضرعين خائفين (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) الواو عاطفة، ودون ظرف متعلق بمحذوف معطوف على في نفسك، أي: في السّرّ وفي الجهر، ومن القول جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وبالغدو والآصال جار ومجرور متعلقان باذكر، والواو عاطفة، ولا ناهية، وتكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلا الناهية، ومن الغافلين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) كلام مستأنف مسوق لذكر المؤمنين الذين استأهلوا القرب من الله. وإن واسمها، وعند ربك ظرف متعلق بمحذوف لا محل له من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 522 الإعراب، لأنه صلة الموصول، وجملة لا يستكبرون خبر إن، والمراد بالعندية القرب من الله والزلفى إليه، وعن عبادته جار ومجرور متعلقان بيستكبرون، ويسبحونه عطف على ما تقدم، وله الواو عاطفة والجار والمجرور متعلقان بيسجدون، ويسجدون عطف على يسبحونه، ويجوز ان تكون الواو حالية أو استئنافية، وجملة يسبحونه خبر لمبتدأ محذوف، أي: وهم يسبحونه. الفوائد: وهذا فصل ممتع للإمام الغزالي ننقل بعضه لمناسبته ونفاسته. قال: «ولأجل شرف ذكر الله عظمت رتبة الشّهادة، لأنّ المطلوب الخاتمة، ونعني بالخاتمة وداع الدنيا والقدوم على الله تعالى، والقلب مستغرق بالله عز وجل، فلا يقدر على أن يموت على تلك الحالة إلا في صف القتال، فانه قطع الطّمع عن مهجته وأهله، وماله وولده، بل من الدنيا كلّها، فإنه يريدها لحياته. وقد هون على قلبه حياته في حب الله عز وجل، وطلب مرضاته، فلا تجرّد أعظم من ذلك، ولذلك عظم أمر الشّهادة. ولما استشهد عبد الله بن عمرو الأنصاريّ يوم أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر: ألا أبشّرك يا جابر؟ قال: بلى بشّرك الله بالخير، قال: إنّ الله أحيا أباك فأقعده بين يديه، وليس بينه وبينه حجاب ولا رسول. فقال تعالى: تمنّ عليّ يا عبدي، ما شئت أعطيكه. فقال: يا ربّ! إن تردّني إلى الدنيا حتّى أقتل فيك وفي نبيّك مرّة أخرى. فقال الله عزّ وجل: سبق القضاء منّي بأنهم إليها لا يرجعون. ثم القتل سبب الخاتمة على مثل هذه الحالة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 523 وصيّة عمر لبعض قوّاده: وتعجبني دعوة عمر بن الخطاب إلى ذكر الله وخشيته، رجاء غوثه ورحمته، في وصية لبعض قواده: «أوصيك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدّة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وأن تكون أنت ومن معك أشدّ احتراسا من المعاصي فيكم من عدوّكم، فإنّ ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدّتنا كعدّتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإن لا ننصر عليهم بطاعتنا لم نغلبهم بقوتنا، واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله، يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، واسألوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه النصر على عدوكم» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 524 (8) سورة الأنفال مدنيّة وآياتها خمس وسبعون [سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) اللغة: (الْأَنْفالِ) : جمع نفل، بفتح النّون والفاء، كفرس وأفراس، والمراد بها الأغنام. والنّفل: الزيادة والغنيمة. ومنه قول لبيد: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 525 إنّ تقوى ربّنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي وعجل شبّه لبيد الثّواب الّذي وعده الله عباده على التقوى بالنفل، وهو ما يعده الإمام المجاهد تحريضا على اقتحام الحرب، فاستعار النفل نه على طريق الاستعارة التصريحيّة، وأخبر به عن التّقوى، لأنّها سببه. ويجوز استعارة النفل للتقوى بجامع النفع. وريثي: بطئي، وعجل: أي عجلي، فحذفت الياء لوزن الشعر. وفي المصباح: النّفل: الغنيمة: والجمع أنفال، مثل سبب وأسباب، والنّفل بسكون الفاء: مثله. (وَجِلَتْ) وجل بالكسر في الماضي، يؤجل بالفتح في المضارع، وفيه لغة أخرى، وهي وجل بفتح الجيم في الماضي، وكسرها في المضارع، فتحذف الواو، كوعد يعد. الإعراب: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) كلام مستأنف مسوق لتقرير تشريع الغنيمة في الجهاد، ويسألونك فعل مضارع وفاعل ومفعول به، والضمير الفاعل هو من سأل هذا السّؤال، ممن حضروا غزوة بدر. وسأل يكون تارة لا قتضاء معنى في نفس المسئول، فيتعدى الى الثاني بعن، كهذه الآية وقد يكون لاقتضاء مادة أو مال، فيتعدّى لاثنين نحو سألت زيدا مالا. وعن الأنفال متعلقان بيسألونك كما تقدم، وقل فعل أمر والأنفال مبتدأ ولله خبره والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول والرسول عطف على الله (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الفاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 526 الفصيحة، واتقوا فعل أمر وفاعل، ولفظ الجلالة مفعول به، وأصلحوا عطف على اتقوا، وذات بينكم مفعول به، ومعنى ذات بينكم: ما بينكم من الأحوال، حتى تكون أحوال ألفة ومحبّة واتّفاق. فالبين هنا بمعنى الاتّصال، ويطلق أيضا على الفراق، فهو من الأضداد. وإن شرطية، وكنتم فعل الشرط، والتاء اسمها، ومؤمنين خبرها، والجواب محذوف لدلالة ما قبله عليه (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) إنما كافة ومكفوفة، والمؤمنون مبتدأ، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان من أراد بالمؤمنين، بذكر أوصافهم الجليلة المستتبعة لما ذكر من الخصال الثلاث الآتية، والذين خبر، وإذا ظرف لما يستقبل متضمن معنى الشرط، وجملة ذكر الله في محل جر بالإضافة، والله نائب فاعل، وجملة وجلت قلوبهم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) عطف على الصفة الأولى، وجملة زادتهم لا محل لها، وإيمانا مفعول به ثان أو تمييز (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) صفة ثالثة داخلة في نطاق الصلة للموصول، وعلى ربهم جار ومجرور متعلقان بيتوكلون، والتقديم يفيد الاختصاص، أي: عليه لا على غيره (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) وأردف الصفات الثلاث المتقدمة- وهي من أفعال القلوب، وهي الخشية والإخلاص والتوكل- بصفتين من أعمال الجوارح، وهما إقامة الصلاة والصدقة. وقد تقدم إعراب نظائرها (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) اسم الاشارة مبتدأ، وهم ضمير فصل أو خبر ثان، والمؤمنون خبر على كل حال، والجملة خبر اسم الإشارة، والجملة مستأنفة، وحقا صفة لمصدر محذوف، أي هم المؤمنون إيمانا حقا، ويجوز أن يكون مصدرا مؤكدا لمضمون الجملة، كقولك: هو عبد الله حقا (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) لهم جار ومجرور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 527 متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ودرجات مبتدأ مؤخر، وعند ربهم ظرف متعلق بدرجات لأنها بمعنى أجور أو يتعلق بمحذوف صفة لدرجات لأنها نكرة، ومغفرة ورزق كريم عطف على درجات. الفوائد: روى التاريخ أن الاختلاف وقع بين المسلمين في غنائم بدر وقسمتها فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف نقسم؟ ولمن الحكم في قسمتها؟ أللمهاجرين أم للأنصار؟ أم لهم جميعا؟ فقيل لهم: هي للرسول وهو الحاكم فيها خاصة يحكم فيها ما يشاء، ليس لأحد غيره فيها حكم، وقيل: شرط لمن كان له بلاء في ذلك اليوم أن ينفله فتسارع شبّانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين، فلما يسر الله الفتح اختلفوا فيما بينهم وتنازعوا، فقال الشبان: نحن المقاتلون، وقال الشيوخ الوجوه الذين كانوا عند الرايات: إنا كنا رداءا لكم، وفئة تنحازون إليها إن انهزمتم، وقالوا لرسول الله: المغنم قليل والناس كثير، وإن تعط هؤلاء ما شرطت لهم حرمت أصحابك فنزلت. قصة سعد بن أبي وقاص: وعن سعيد بن أبي وقّاص: قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه فأعجبني فجئت به الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف فقال: ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض، يعني المال المقبوض، فطرحته وبي مالا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخي وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا قليلا حتى جاءني رسول الله وقد أنزلت سورة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 528 الأنفال فقال: يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وأنه قد صار لي فاذهب وخذه. رواية عبادة بن الصامت: وعن عبادة بن الصامت: نزلت فينا معشر أصحاب بدر، حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسول الله فقسمه بين المسلمين على السواء وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين. [سورة الأنفال (8) : الآيات 5 الى 9] كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 529 اللغة: (الشَّوْكَةِ) للشوكة معان كثيرة وهي هنا بمعنى البأس والقوة والسلاح، وحدته على أن جميع معانيها ترجع الى معنى التفوق والظهور والغلبة، ومن معانيها إبرة العقرب، وحمرة تعلو الجسد، والنكاية في العدوّ، يقال: لا تشوكك مني شوكة، أي لا يلحقك مني أذى. وشوكة الحائك: الآلة التي يسوّى بها السدى واللحمة، ويقال: شاكت إصبعه شوكة، وشوّكت النخلة: خرج شوكها، وشوكت الحائط: جعلت عليه الشوك، ومن المجاز: شوّك الزرع وزرع مشوّك إذا خرج أوله، وشوّك ثدي الجارية وتشوّك: إذا بدأ خروجه. قال: أحببت هذي قديما وهي ماشية ... وما تشوّك ثدياها وما نهدا وإذا استعرضنا مادة الشين والواو فاء وعينا للكلمة وجدنا خاصة عجيبة لها كأنها قد وضعت خاصة لمعاني الظهور والتأثير والارتفاع والتفوق، فالشوب: خلط الشيء بغيره بحيث يؤثر فيه، يقال: شاب العسل بالماء وكأن ريقتها خمر يشوبها عسل، ولهم المشاجب والمشاوب وهي أسفاط وحقق تتحذ من الخوص، وشوّرت به فتشوّر ومنه قيل: أبدى الله شوارك أي عورتك، وفي حديث الزّبّاء: أشوار عروس ترى؟ وهذا من عجيب أمر لغتنا العربية الشريفة فافهم وتدبر. الإعراب: (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) كما يجوز أن تكون الكاف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 530 بمعنى مثل ومحلها الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذه الحال كحال اخراجك، ويجوز أن تكون حرفا جارا، ومحل الجار والمجرور الرفع كما تقدّم والمعنى: ان حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب، ويجوز أن يكون محلها النصب على أنها صفة لمصدر الفعل المقدر في قوله: الأنفال لله والرسول، أي الأنفال استقرت لله والرسول وثبتت مع كراهتهم ثباتا مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون. وقد توسّع المعربون القدامى في التقدير والتأويل، وأنهاها بعضهم الى عشرين وجها ولكنها لا تخرج عما ذكرناه. ومن بيتك جار ومجرور متعلقان بأخرج، وبالحق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي ملتبسا بالحق والحكمة والصواب الذي لا محيد عنه، وسيأتي في باب الفوائد ذكر بعض الحوادث التاريخية التي توضح هذا المعنى والإعراب (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) الواو حالية وإن واسمها ومن المؤمنين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة، واللام المزحلقة وكارهون خبر إن، والجملة في محل نصب حال من الكاف في أخرجك، أي أخرجك في حالة كراهتهم (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) الجملة مستأنفة مسوقة للإخبار عن حالهم بالمجادلة، ويجوز أن تكون حالا ثانية من الكاف أي أخرجك في حال مجادلتهم إياك أو من الضمير في كارهون أي لكارهون في حال الجدال، وفي الحق جار ومجرور متعلقان بيجادلونك وبعد ظرف زمان متعلق بيجادلونك وما مصدرية وهي وما في حيزها مصدر مضاف للظرف أي بعد تبينه وخروجه وهو أقبح من الجدال في الشيء قبل اتضاحه (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) الجملة حالية من الضمير في «لكارهون» أي حال كونهم مشبهين بالذين يساقون بالعنف والصغار الى القتل، وكأنما كافة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 531 ومكفوفة، ويساقون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل والى الموت جار ومجرور متعلقان بيساقون، والواو حالية وهم ينظرون جملة في محل نصب على الحال. (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) الواو عاطفة وإذ ظرف متعلق بفعل محذوف أي «واذكر إذ» وجملة يعدكم الله في محل جر بالإضافة وإحدى الطائفتين مفعول به، ولا بد من تقدير محذوف، أي: الظفر بإحدى الطائفتين، والطائفتان العير والنفير (أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) ان واسمها ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر، وأن وما في حيزها بدل اشتمال من أحد الطائفتين، وتودون: الواو حالية أو عاطفة، وتودون فعل مضارع مرفوع وعلامة بثبوت النون والواو فاعل، وأن وما في حيزها مفعول تودّون، وجملة تكون خبر أن، ولكم جار ومجرور لكم العير لأنها الطائفة التي لا شوكة لها ولا تريدون الطائفة الأخرى (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) الواو عاطفة ويريد الله فعل وفاعل وأن مصدرية وهي وما في حيزها مفعول يريد، وبكلماته جار ومجرور متعلقان بيحق. ويقطع دابر الكافرين جملة معطوفة، وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) اللام للتعليل ويحق فعل مضارع منصوب بأن مضمرة واللام وما في حيزها متعلقان بمحذوف تقديره فعل ذلك ليحق الحق ويبطل الباطل وليس هذا تكريرا لما قبله لأن الأول خاص والثاني عام فالمراد بالأول تثبيت ما وعد به في هذه الواقعة من النصر والظفر. والمراد بالثاني تدعيم الدين وتقويته وإظهار الشريعة وتثبيتها. (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) الظرف متعلق بمحذوف، أي: واذكروا، ويجوز أن يتعلق بيحق، وعبّر بالحق حكاية للحال الماضية ولذلك عطف عليه: فاستجاب لكم بصيغة الماضي (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) الفاء عاطفة كما تقدم ولكم جار ومجرور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 532 متعلقان باستجاب وإن وما في حيزها في محل نصب بنزع الخافض أي: بأني ممدكم، والجار والمجرور متعلقان باستجاب أيضا، وممدكم خبر إن، وبألف جار ومجرور متعلقان بممدكم ومن الملائكة جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لألف، ومردفين صفة ثانية ومفعول مردفين محذوف لأنه اسم فاعل أي أمثالهم أي متبعين بعضهم بعضا، أو متبعين بعضهم لبعض. الفوائد: ما يقوله التاريخ؟: أقبلت عير قريش من الشام فيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكبا، منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو بن هشام، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقّي العير لكثرة الخير وقلة القوم، فلما خرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم فنادى أبو جهل فوق الكعبة: يا أهل مكة، النجاء النجاء على كل صعب وذلول، عيركم أموالكم إن أصابها محمد فلن تفلحوا بعدها أبدا، ثم خرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير في المثل السائر: لا في العير ولا في النفير فقيل له: إن العير أخذت طريق الساحل ونجت فارجع بالناس الى مكة، فقال: لا والله لن يكون ذلك أبدا حتى ننحر الجزور ونشرب الخمور، ونقيم القينات والمعازف ببدر فيتسامع العرب بمخرجنا، وإن محمدا لم يصب العير وإنا قد أعضضناه فمضى بهم الى بدر، وبدر ماء كانت العرب تجمع فيه نوقهم يوما في السنة، فنزل جبريل فقال: يا محمد إن الله وعدكم إحدى الطائفتين: إما العير وإما فريشا، فاستشار النبي أصحابه وقال: ما تقولون؟ إن القوم قد خرجوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 533 من مكة على كل صعب وذلول فالعير أحبّ إليكم أم النفير؟ قالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدوّ، فتغيّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ردّ عليهم فقال: إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل فقالوا: يا رسول عليك بالعير ودع العدوّ، فقام عند غضب النبي أبوبكر وعمر فأحسنا ثم قام سعد بن عبادة فقال: انظر أمرك فو الله لو سرت بنا الى عدن لسرنا ما تخلّف رجل، ثم قال المقداد: يا رسول الله امض لما أمرك الله فإنا معك حيث لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت منا عين تطرف، فضحك رسول الله ثم قال: أشيروا علي أيها الناس وهو يريد الأنصار لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة إنا برآء من ذمامك حتى تصل الى ديارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك ما نمنع منه آباءنا ونساءنا، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوف أن تكون الأنصار لا ترى عليهم نصرته إلا على عدو دهمه بالمدينة، فقام سعد ابن معاذ فقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: أجل، قال: قد آمنا بك وصدّقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا وإنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك فسر بنا على بركة الله، ففرح رسول الله ثم قال: سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر الى مضارع القوم. وقد أطلنا في الاقتباس لأهمية هذا الفصل وبلاغته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 534 خلاصة مفيدة لأقوال المعربين في «كما» : اختلفوا على خمسة عشر قولا: 1- ان «الكاف» بمعنى واو القسم و «ما» بمعنى «الذي» واقعة على ذي العلم وهو الله، وجواب القسم يجادلونك. قاله أبو عببيدة. 2- إن الكاف بمعنى «إذا» و «ما» زائدة والتقدير: اذكر إذ جاءك 3- إن الكاف بمعنى «على» و «ما» بمعنى «الذي» . 4- وقال عكرمة: التقدير: وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، كما أخرجكم في الطاعة خير لكم كان إخراجك خيرا إليهم. 5- قال الكسائي: كما أخرجك ربك من بيتك على كراهة من فريق منهم كذلك يجادلونك في قتال كفار مكة ويودون غير ذات الشوكة من بعد ما تبين لهم أنك إنما تفعل ما أمرت به لا ما يريدون. 6- قال الفراء: امض لأمرك في الغنائم ونفّل من شئت إن كرهوا كما أخرجك ربك. 7- قال الأخفش: الكاف نعت ل «حقا» والتقدير: هم المؤمنون حقا كما. 8- ان الكاف في موضع رفع، والتقدير: كما أخرجك ربك فاتقوا الله كأنه ابتداء وخبر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 535 9- قال الزجاج: الكاف في موضع نصب، والتقدير: الأنفال ثابتة لله ثباتا كما أخرجك ربك. 10- إن الكاف في موضع رفع، والتقدير: لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم، وهذا وعد حق كما أخرجك. 11- إن الكاف في موضع رفع أيضا، والمعنى: وأصلحوا ذات بينكم ذلكم خير لكم كما أخرجك، فالكاف نعت لخبر ابتداء محذوف. 12- إنه شبه كراهية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخروجه من المدينة حين تحققوا خروج قريش للدفع عن أبي سفيان وحفظ غيره بكراهيتهم نزع الغنائم من أيديهم وجعلها للرسول أو التنفيل منها، وهذا القول أخذه الزمخشري وحسّنه فقال: «يرتفع الكاف على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا الحال كحال اخراجك» . 13- ان قسمتك للغنائم حق كما كان خروجك حقا. 14- إن التشبيه وقع بين اخراجين، أي: اخراجك ربك إياك من بيتك وهو مكة وأنت كاره لخروجك وكانت عاقبة ذلك الخير والنصر والظفر كاخراج ربك إياك من المدينة وبعض المؤمنين كاره يكون عقيب ذلك الظفر والنصر. 15- الكاف للتشبيه على سبيل المجاز كقول القائل لعبده: كما وجهتك الى أعدائي فاستضعفوك وسألت مددا فأمددتك وقوّيتك فخذهم الآن فعاقبهم بكذا، وكم كسوتك وأجريت عليك الرزق فاعمل كذا وكما أحسنت إليك فاشكرني عليك. وواضح أن مرجع هذه الأوجه واحد فتدبر والله يعصمك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 536 البلاغة: 1- التشبيهات التمثيلية الواردة في الآيات قد أشرنا إليها أثناء الإعراب لعلاقتها الوثيقة به. 2- العموم والخصوص في قوله تعالى «ليحق الحق ويبطل الباطل» بعد قوله: «يريد الله أن يحق الحق بكلماته» . والتحقيق في التمييز بين الكلامين أن الأول ذكرت فيه الارادة مطلقة غير مقيدة بالواقعة الخاصة كأنه قيل: وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ومن شأن الله تعالى إرادة تحقيق الحق وتمحيق الكفر على الإطلاق ولإرادته أن يحق الحق ويبطل الباطل خصكم بذات الشوكة، فبين الكلامين عموم وخصوص واطلاق وتقييد، ولا يخفى ما في ذلك من المبالغة في تأكيد المعنى بذكره على وجهين: اطلاق وتقييد. [سورة الأنفال (8) : الآيات 10 الى 11] وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) الإعراب: (وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى) الواو استئنافية أو عاطفة على ما تقدم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 537 وما نافية، وجعله الله فعل ومفعول به وفاعل، والضمير يعود للامداد، وإلا أداة حصر وبشرى مفعول لأجله مستثنى من أعم العلل (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) الواو عاطفة واللام للتعليل وتطمئن فعل مضارع منصوب أن مضمرة بعدها والجار والمجرور عطف على بشرى، وجر المفعول من أجله باللام هنا لفقد شرط النصب وهو اتحاد الفاعل، وقلوبكم فاعل تطمئنّ (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الواو استئنافية أو حالية أيضا، وما نافية والنصر مبتدأ، وإلا أداة حصر، ومن عند الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الجملة الاسمية تعليل لما تقدم (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) إذ ظرف مبدل من إذ يعدكم وهو ثاني بدل كما تقدم، وجملة يغشيكم النعاس في محل جر بالاضافة والنعاس مفعول به وأمنة حال أو مفعول من أجله، ومنه جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لأمنة (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) وينزل عطف على يغشيكم وعليكم جار ومجرور متعلقان بينزل وكذلك من السماء، وماء مفعول به، وليطهركم: اللام للتعليل ويطهركم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعدها، وبه جار ومجرور متعلقان بيطهركم (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) جمل معطوفة على ما تقدم والضمير في به يعود على الماء حتى يسهل المشي على الرمال لأن العادة ان المشي عليها عسر فإذا نزل عليه الماء جمد، وسهل المشي عليه وقيل الضمير يعود على الربط لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر والجرأة ثبت الأقدام في مواطن القتال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 538 [سورة الأنفال (8) : الآيات 12 الى 14] إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) اللغة: (البنان) : الأصابع كما في المصباح أو أطرافها، الواحدة: بنانة. وقال أبو الهيثم: البنان: المفاصل وكل مفصل بنانة. وقيل: البنان الأصابع من اليدين والرجلين وجميع المفاصل من كل الأعضاء. َاقُّوا) : خالفوا والمشاقّة مشتقة من الشق لأن كلا المتعاديين في عدوة خلاف عدوة صاحبه وكذلك المخاصمة لأن هذا في خصم أي في جانب وذلك في خصم. الإعراب: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ) الظرف يجوز أن يكون بدلا ثالثا من إذ يعدكم ويجوز أن ينتصب بيثبت أو أن يكون معمولا لمحذوف، أي: «اذكر» وجملة يوحي ربك في محل جر بالاضافة، والى الملائكة جار ومجرور متعلقان بيوحي، وأني وما في حيزها مفعول يوحي ومعكم ظرف متعلق بمحذوف خبر أني (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) الفاء الفصيحة أي إذا ثبت هذا فثبتوا الذين آمنوا بتبشيرهم بالنصر، والذين مفعول به وجملة آمنوا لا محل لها لأنها صلة الموصول (سَأُلْقِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 539 فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) يجوز أن تكون الجملة تفسيرا لقوله: إني معكم فثبتوا، ولا معونة أوكد وأجدى من إلقاء الرعب في قلوب الأعداء، ويجوز أن تكون مستأنفة، وفي كلتا الحالين لا محل لها من الإعراب، وفي قلوب جار ومجرور متعلقان بألقي، والرعب مفعول به لألقي، وجملة كفروا لا محل لها لأنها صلة الموصول (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) فعل أمر وفاعل، وفوق ظرف متعلق باضربوا والمفعول به محذوف، أي فاضربوهم فوق الأعناق، ويجوز أن تكون «فوق» مفعولا به على الاتساع لأنه عبارة عن الرأس. كأنه قيل: فاضربوا فوق رؤوسهم وهذا ما اختاره الزمخشري، قال: «أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح لأنها مفاصل فكان إيقاع الضرب فيها حزا وتطييرا للرؤوس، وقيل: أراد الرؤوس لأن نها فوق الأعناق بمعنى ضرب الهام، قال عمرو بن الاطنابة: أبت لي عفّتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإقدامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحجب بعد عن عرض صحيح لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) اسم الاشارة مبتدأ، والاشارة الى ما أصابهم من الضرب والقتل والعذاب وبأنهم خبره، وجملة شاقّوا الله ورسوله خبر أن، ولفظ الجلالة مفعول به، ورسوله عطف عليه. َ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) الواو استئنافية، ومن شرطية مبتدأ، ويشاقون فعل الشرط، والفاء رابطة، وإن واسمها، وخبرها، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» ، والشرط هنا تكملة لما قبله وتكرير لمضمونه (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) اسم الاشارة مبتدأ، والخطاب للكفرة على طريق الالتفات، والخبر محذوف تقديره: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 540 العقاب، ولك أن تعرب اسم الاشارة خبرا لمبتدأ محذوف، أي: العقاب ذلكم، ويجوز أن يكون في محل نصب على الاشتغال، كقولك: زيدا فاضربه، وعلى كل حال فالفاء استئنافية، وذوقوه كلام مستأنف، وأن عطف على ذلكم في أوجهه الثلاثة، وللكافرين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر «أن» المقدم، وعذاب النار اسمها المؤخر، والمعنى: ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل. البلاغة: في هذه الآيات فنون عديدة من البلاغة، ألمعنا إليها خلال الإعراب لعلاقتها به، وهي المجاز والالتفات والاستعارة في قوله: «فذقوه» ، وقد تقدمت هذه الفنون في مواطنها. [سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 18] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 541 اللغة: (زَحْفاً) : الزحف مصدر زحف، وفي المصباح: زحف القوم زحفا من باب نفع وزحوفا، ويطلق على الجيش الكثير زحف تسمية بالمصدر، والجمع: زحوف، مثل فلس وفلوس، والصبي يزحف على الأرض قبل أن يمشي. (مُتَحَرِّفاً) : منعطفا، أو هو الكرّ بعد الفرّ، ليخيل لعدوه أنه منهزم ثم يعطف عليه، وهو باب من خدع الحرب ومكايدها. (مُتَحَيِّزاً) : منحازا منضما، والتحيز والتحوّز: الانضمام، وتحوّزت الحية: انطوت، وحزت الشيء: ضممته، والحوزة ما يضم الأشياء. وأصل متحيز: متحيوز، فاجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداها بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء بالياء. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : تقدم إعرابها كثيرا (إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط، وجملة لقيتم في محل جر بالإضافة، والذين مفعوله، وجملة كفروا صلة، وزحفا حال من الذين، أي: حال كونهم زاحفين، وقيل: انتصب «زحفا» على المصدر بحال محذوفة، أي: زاحفين زحفا، وهذا الذي قيل محكم، فحرم الفرار عند اللقاء بكل حال، والفاء رابطة، ولا ناهية، وتولوهم فعل مضارع مجزوم بلا، والواو فاعل، والهاء مفعول به، والأدبار: مفعول به ثان (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 542 دُبُرَهُ) الواو استئنافية، ومن شرطية مبتدأ، ويولهم فعل وفاعل مستتر ومفعوله الأول، ودبره مفعول يولهم الثاني، ويومئذ ظرف مضاف لظرف وهو متعلق بيولهم (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) «إلا» يجوز أن تكون أداة حصر لتقدم النهي، ومتحرفا حال، ويجوز أن تكون «إلا» أداة استثناء، ومتحرفا مستثنى من ضمير المؤمنين، ولقتال جار ومجرور متعلقان ب «متحرفا» ، أو متحيزا الى فئة عطف على سابقه (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) الفاء رابطة لجواب الشرط لاقتران الجواب بقد، وباء: فعل ماض، وبغضب جار ومجرور متعلقان بباء أو بمحذوف حال، ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة، والجملة في محل جزم جواب الشرط (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الواو استئنافية أو عاطفة، ومأواه مبتدأ، وجهنم خبره، وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم، والمصير فاعل بئس، والمخصوص بالذم محذوف، أي: مصيرهم (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) الفاء الفصيحة، أي: إذا افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم، فقد وقعت جوابا لشرط مقدر، ولم حرف نفي وقلب وجزم، وتقتلوهم فعل مضارع مجزوم بلم، والواو حرف عطف، ولكن حرف مشبه بالفعل، وقد جاءت أحسن مجيء لوقوعها بين نفي وإثبات، والله اسمها، وجملة قتلهم خبرها (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى) عطف على ما تقدم، وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق برميت، والواو عاطفة ولكن واسمها، وجملة رمى خبرها (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الواو عاطفة، واللام للتعليل، ويبلي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة، وأن وما في حيزها في محل جر باللام متعلقان بفعل محذوف، تقديره: فعل ذلك، والمؤمنين مفعول به، وبلاء مفعول مطلق، والبلاء هنا محمول على النعمة لأنه يقع على النعمة والمحنة معا، لأن أصله الاختبار، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 543 فهو مردوده، وحسنا صفة، وإن الله سميع عليم عطف على ما تقدم، وإن واسمها وخبراها (ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) تقدم إعراب نظير اسم الإشارة، فهو مبتدأ، وخبره محذوف، أي ذلكم الإبلاء حق، وأن الله أن وما في حيزها عطف على ذلكم، وموهن خبر «أن» ، وكيد الكافرين مضاف لموهن، والإشارة للقتل والرمي والإبلاء، ويجوز أن تكون «أن» وما في حيزها عطف على «وليبلي» أو في محل نصب بفعل مقدر، أي: واعلموا أن الله. البلاغة: 1- فن التعريض: في قوله تعالى «ومن يولهم يومئذ دبره» فن يقال له : فن التعريض وبعضهم يدخله في ضمن الكناية، قال السعد التفتازاني: «الكناية إذا كانت عرضية مسوقة لأجل موصوف غير مذكور كان المناسب أن يطلق عليها اسم التعريض، فقال عرضت لفلان وعرضت بفلان، إذا قلت قولا وأنت تعنيه فكأنك أشرت الى جانب وتريد جانبا آخر، ومنه المعاريض في الكلام، وهي التورية بالشيء عن الشيء» وقال الزمخشري: «الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له، والتعريض أن تذكر شيئا تدل به على شيء لم تذكره كما يقول المحتاج للمحتاج إليه: جئتك لأسلم عليك، فكأنه أمال الكلام الى عرض يدل على المقصود، وعرض الشيء بالضم ناصيته من أي وجه جئته» . وقال ابن الأثير في المثل السائر: «الكناية ما يدل على معنى يجوز حمله على جانب الحقيقة والمجاز بوصف جامع بينهما، ويكون في المفرد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 544 والمركب، والتعريض هو اللفظ الدال على معنى لا من جهة الوضع الحقيقي أو المجازي بل من جهة التلويح والإشارة، فيختص باللفظ المركب، كقول من يتوقع صلة: والله إني. محتاج، فإنه تعريض بالطلب مع أنه لم يوضع له حقيقة ولا مجازا، وإنما فهم منه المعنى، من عرض اللفظ، أي: جانبه» . إذا عرفت هذا سهل عليك أن تعرف سر التعريض في هذا التعبير الرشيق بالآية، فقد ذكر لهم حالة تستهجن من فاعلها، فأتى بلفظ الدبر دون الظهر. وقد ولع أبو الطيب بهذا الفن، فقد قال يعرض بكافور الاخشيدي: ومن ركب الثور بعد الجوا ... د أنكر أظلافه والغبب يريد أن من ركب الثور وكان من عادته أن يركب الجواد ينكر أظلاف الثور وغببه، وأما من كان مثل كافور وقد سبق له ركوب الثور فلا ينكر ذلك إن ركبه بعد الجواد. وقال أيضا يستزيد كافورا من الجوائز بعد مدحه: أبا المسك هل في الكأس فضل أناله ... فإني أغني منذ حين وتشرب يقول مديحي إياك يطربك كما يطرب الغناء الشارب، فقد حان أن تسقيني من فضل كأسك. ثم قال بعده: وهبت على مقدار كفّي زماننا ... ونفسي على مقدار كفّيك تطلب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 545 2- فن الاستدراك والرجوع: وهو الكلام المشتمل على لفظة «لكن» ، وهو قسمان: قسم يتقدم الاستدراك فيه تقرير، وقسم لا يتقدمه، ومن القسم الثاني قوله تعالى: «فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى» ، فقد أتى الاستدراك في هذه الكلمات في موضعين كل منهما مرشح للتعطف، فان لفظة تقتلوهم وقتلهم، ورميت ورمى، تعطف. وهذا أقرب استدراك وقع في الكلام لتوسط حرفه بين لفظي التعطف في الموضعين. وسيأتي مثال القسم الأول قريبا. ومما ورد منه شعرا قول أبي الطيب: هم المحسنون الكرّ في حومة الوغى ... وأحسن منه كرّهم في المكارم ولولا احتقار الأسد شبّهتها بهم ... لكنّها معدودة في البهائم وما أحسن قول بعضهم في الرأس المصلوب على الرمح: وعاد لكنّه رأس بلا جسد ... يمشي ولكن على ساق بلا قدم إذا تراءى على الخطي أسفر في ... حال العبوس لنا عن ثغر مبتسم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 546 الفوائد: روى التاريخ أنه لما كان يوم أحد أخذ أبيّ بن خلف يركض فرسه حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعترض رجال من المسلمين لأبي بن خلف ليقتلوه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: استأخروا، فاستأخروا. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حربته في يده فرمى بها أبيّ بن خلف وكسر ضلعا من أضلاعه، فرجع أبيّ بن خلف الى أصحابه ثقيلا، فاحتملوه حين ولّوا قافلين، فطفقوا يقولون: لا بأس. فقال أبيّ حين قالوا له ذلك: والله لو كانت بالناس لقتلتهم، ألم يقل إني أقتلك إن شاء الله. فانطلق به أصحابه ينعشونه حتى مات ببعض الطريق فدفنوه. قال ابن المسيب وفي ذلك أنزل الله: «وما رميت إذ رميت» . [سورة الأنفال (8) : الآيات 19 الى 23] إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 547 اللغة: (تَسْتَفْتِحُوا) : تطلبوا الفتح، أي: القضاء والحكم بينكم وبين محمد بنصر المحق وخذلان المبطل، روي أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة، وقالوا: اللهم أينا كان أقطع للرحم وأتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة. أي: أهلكه. (الدَّوَابِّ) : جمع دابّة. والمراد بها هنا الإنسان. وإطلاق الدابة على الإنسان حقيقي لما ذكروه في كتب اللغة من أنها تطلق على كل حيوان ولو آدميا. وفي المصباح: الدابة كل حيوان في الأرض مميز أو غير مميز. الإعراب: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) إن شرطية، وتستفتحوا فعل مضارع مجزوم لأنه فعل الشرط، والفاء رابطة لاقتران الجواب بقد، وقد حرف تحقيق، وجاءكم الفتح فعل ومفعول به وفاعل (وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) عطف على ما تقدم، والإعراب مماثل لما قبله، واقتران الجواب بالفاء لأنه جملة اسمية مؤلفة من مبتدأ وخبر. وجملة الجواب في الموضعين في محل جزم (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) عطف أيضا. وجملة الجواب لا محل لها. (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 548 عطف أيضا، وفئتكم فاعل تغني، وشيئا مفعول مطلق أو مفعول به، والواو حالية، ولو شرطية، وكثرت فعل الشرط، والجواب محذوف. (وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) عطف أيضا، وفتح همزة «أن» بتقدير اللام، والتقدير ولأن الله مع المؤمنين، والله اسم أن ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف هو الخبر (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها (أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) أطيعوا فعل أمر وفاعل، والله مفعول به، ورسوله عطف على الله، وجملة ولا تولوا عطف على جملة أطيعوا، ولا ناهية، وتولوا مضارع مجزوم بلا الناهية، والواو فاعل، وعنه جار ومجرور متعلقان بتولوا، وأنتم: الواو حالية، وأنتم مبتدأ، وجملة تسمعون خبر (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) عطف على ما تقدم، والكاف اسم بمعنى مثل خبر تكونوا، وهي حرف جر، والجار والمجرور خبر، وجملة قالوا صلة، وجملة سمعنا مقول القول، والواو حالية، وجملة هم لا يسمعون في محل نصب على الحال. (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) إن واسمها، وعند الله الظرف متعلق بمحذوف حال، والصم خبر إن، والبكم خبر ثان، والذين صفة، وجملة لا يعقلون صلة (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) الواو استئنافية، ولو حرف امتناع لامتناع متضمن معنى الشرط، وعلم الله فعل وفاعل، وفيهم جار ومجرور متعلقان بعلم، وخيرا مفعول به، ولأسمعهم: اللام رابطة لجواب لو، وأسمعهم فعل وفاعل مستتر والهاء مفعول به. (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) الواو عاطفة، ولو لمجرد الربط ولا يصح أن تكون امتناعية، لأنه يصير المعنى: انتفى توليهم لانتفاء إسماعهم، وهذا خلاف الواقع فهي حينئذ لمجرد الربط بمعنى إن، وأسمعهم فعل ماض والهاء مفعول به، لتولوا: اللام رابطة، وتولوا فعل ماض وفاعل، والواو حالية، وهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 549 معرضون مبتدأ وخبر والجملة حالية، والفرق بين الإسماعين أن يراد بالإول: ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم إسماعا يخلق لهم به الهداية والقبول، ولو أسمعهم لا على أنه يخلق لهم الاهتداء بل إسماعا مجردا من ذلك لتولوا وهم معرضون. الفوائد: قال ابن هشام: «لهجت الطلبة بالسؤال عن قوله تعالى: «ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا» وتوجيهه أن الجملتين يتركب معهما قياس، وحينئذ فنتج: لو علم الله فيهم خيرا لتولوا، وهذا مستحيل. والجواب من ثلاثة أوجه: اثنان يرجعان الى نفي كونه قياسا، وذلك بإثبات اختلاف الوسط، أحدهما أن التقدير لأسمعهم إسماعا نافعا ولو أسمعهم إسماعا لتولوا. والثاني أن يقدر: ولو أسمعهم، على تقدير عدم علم الخير فيهم. الثالث بتقدير كونه قياسا متحد الوسط صحيح الانتاج، والتقدير: ولو علم الله فيه خيرا وقتا ما لتولوا بعد ذلك الوقت. [سورة الأنفال (8) : الآيات 24 الى 26] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 550 الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) استجيبوا فعل أمر وفاعل، ولله جار ومجرور متعلقان باستجيبوا، وللرسول عطف على لله، وإذا ظرف مستقبل، وجملة دعاكم في محل جر بالإضافة، ولما جار ومجرور متعلقان بدعاكم، وجملة يحييكم صلة ما. واختلفوا في قوله «لما يحييكم» ، والأصح أنه عام شامل لكل ما فيه حياة القلوب والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) واعلموا عطف على استجيبوا، وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي اعلموا، وجملة يحول خبر أن، وبين ظرف متعلق بيحول، والمرء مضاف إليه، وقلبه عطف على المرء. وسيأتي معنى المجاز في حيلولة الله بين المرء وقلبه في باب البلاغة (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) عطف على أنّ الله، وإليه جار ومجرور متعلقان بتحشرون، وجملة تحشرون خبر أنّ (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) واتقوا عطف على استجيبوا واعلموا، وفتنة مفعول به، وجملة لا تصيبن صفة لفتنة، و «لا» على ذلك نافية، ويجوز أن تكون معمولا لقول محذوف، وتكون لا ناهية، وذلك القول هو الصفة، أي: فتنة مقولا فيها: لا تصيبن، والنهي في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 551 الصورة للمصيبة، وفي المعنى للمخاطبين، وقد أعربها الزمخشري إعرابا جميلا حيث قال: ما نصه بالحرف: وقوله: «لا تصيبن» لا يخلو من أن يكون جوابا للأمر أو نهيا بعد أمر، أو صفة لفتنة. فإذا كان جوابا فالمعنى إن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم. وهذا كما يحكى أن علماء بني إسرائيل نهوا عن المنكر تعذيرا فغمهم الله بالعذاب. وإذا كانت نهيا بعد أمر فكأنه قيل واحذروا ذنبا أو عقابا ثم، قيل: لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب ووباله من ظلم منكم خاصة، وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول، كأنه قيل، واتقوا فتنة مقولا فيها لا تصيبن، ونظيره قوله: حتى إذا جنّ الظلام واختلط ... جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قطّ والذين مفعول به، وجملة ظلموا صلة، ومنكم حال، وخاصة منصوبة على الحال من الفاعل المستتر في قوله: لا تصيبن، وأصلها أن تكون صفة لمصدر محذوف، تقديره: إصابة خاصة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أن وما في حيزها سدت مسد مفعولي اعلموا (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) واذكروا عطف على اعلموا، وإذ نصب الظرف هنا على أنه مفعول به لا ظرف، أي: اذكروا وقت كونكم أقلة مستضعفين، وجملة أنتم قليل مضافة للظرف، وأنتم مبتدأ أخبر عنه بثلاثة أخبار، وهي قليل ومستضعفون وفي الأرض (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) جملة تخافون صفة كالتي قبلها، أي: خائفون، ويجوز أن تكون حالا من الضمير في «قليل» و «مستضعفون» ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 552 وأن وما في حيزها مفعول تخافون، والناس فاعل يتخطفكم (فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الفاء عاطفة، وآواكم فعل ماض وفاعل مستتر، وعطف عليه ما بعده، ولعل واسمها، وجملة تشكرون خبرها. الفوائد: قال ابن هشام في المغني ما نصه: «قوله تعالى: «لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة» فإنه يجوز أن تقدر لا ناهية أو نافية، وعلى الأول فهي مقولة لقول محذوف هو الصفة، أي: فتنة مقولا فيها ذلك، ويرجحه أن توكيد الفعل بالنون بعد لا الناهية قياس، نحو: «ولا تحسبن الله غافلا» وعلى الثاني فهي صفة لفتنة، ويرجحه سلامته من تقدير القيد الثاني صلاحيتها للاستغناء عنها، وخرج بذلك الصلة، وجملة الخبر، والجملة المحكية بالقول، فإنها لا يستغنى عنها، بمعنى أن معقولية القول متوقفة عليها. وقال أبو حيان: «والجملة من قوله «لا تصيبن» خبرية صفة لقوله: «فتنة» ، أي: غير مصيبة الظالم خاصة. إلا أن دخول نون التوكيد على المنفي ب «لا» مختلف فيه، فالجمهور لا يجيزونه، ويحملون ما جاء منه على الضرورة أو الندور. والذي نختاره الجواز، وإليه ذهب بعض النحويين. وإذا كان قد جاء لحاقها الفعل منفيا ب «لا» مع الفصل، نحو قوله: فلا ذا نعيم يتركن لنعيمه ... وإن قال قرّظني وخذ رشوة أبى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 553 ولا ذا بئيس يتركنّ لبؤسه ... فينفعه شكوى إليه إن اشتكى فلأن تلحقه مع غير الفصل أولى، نحو: ولا تصيبن. البلاغة: 1- المجاز في قوله تعالى: «يحول بين المرء وقلبه» . فأصل الحول تغير الشيء وانفصاله عن غيره، وباعتبار التغير قيل: حال الشيء يحول، وباعتبار الانفصال قيل: حال بينهما فحقيقة كون الله يحول بين المرء وقلبه أنه يفصل بينهما، فهو مجاز مرسل عن غاية القرب من العبد، لأن من فصل بين شيئين كان أقرب الى كل منهما من الآخر لاتصاله بهما، فالعلاقة المحلية أو السببية. ويجوز أن يكون الكلام استعارة تمثيلية لغاية قربه من العبد، واطلاعه على مكنونات القلوب وسرائر النفوس. 2- واختلف في «لا» من قوله تعالى: «واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة» على قولين: أ- أن «لا» ناهية، وهو نهي بعد أمر، أي: إنه كلام منقطع عما قبله، كقولك: صلّ الصبح ولا تضرب زيدا، فالأصل: اتقوا فتنة، أي: عذابا، ثم قيل: لا تتعرضوا للفتنة فتصيب الذين ... إلخ، وعلى هذا فالاصابة بالمتعرضين. وتوكيد الفعل بالنون واضح لاقترانه بحرف الطلب، مثل: «ولا تحسبنّ الله غافلا» ، ولكن وقوع الطلب صفة للنكرة ممتنع، فوجب إضمار القول، أي: واتقوا فتنة مقولا فيها ذلك، كما قيل في قوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 554 حتى إذا جن الظلام واختلط ... جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط ب- أنها نافية، واختلف القائلون بذلك على قولين: أحدهما أن الجملة صفة لفتنة، ولا حاجة إلى إضمار قول، لأن الجملة خبرية. فلا الجارة الدنيا بها تلحينّها ... ولا الضيف فيها إن أناخ محوّل بل هو في الآية أسهل، لعدم الفصل، وهو فيهما سماعي. والذي جوزه تشبيه لا النافية بلا الناهية، وعلى هذا الوجه تكون الاصابة عامة للظالم وغيره لا خاصة بالظالمين، كما ذكره الزمخشري، لأنها قد وصفت بأنها لا تصيب الظالمين، خاصة، فكيف تكون مع هذا خاصة بهم! والثاني أن الفعل جواب الأمر، وعلى هذا فيكون التوكيد أيضا خارجا عن القياس وشاذا. وممن ذكر هذا الوجه الزمخشري، وهو فاسد، لأن المعنى حينئذ: فإنكم إن تتقوها لا تصب الظالم خاصة. وقوله: إن التقدير: إن أصابتكم لا تصيب الظالم خاصة، مردود، لأن الشرط إنما يقدر من جنس الأمر، لا من جنس الجواب. [سورة الأنفال (8) : الآيات 27 الى 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 555 الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) لا ناهية، وتخونوا مضارع مجزوم بلا الناهية، والواو فاعل، ولفظ الجلالة مفعول به، والرسول عطف على الله (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الواو يجوز فيها أن تكون واو المعية، فيكون «تخونوا» منصوبا بأن مضمرة بعدها، لأنها وقعت جوابا للنهي، ويجوز أن تكون عاطفة فيكون «تخونوا» مجزوما داخلا في حكم النهي. ولعل الثاني أولى، لأن فيه النهي عن كل واحد على حدته، بخلاف الأول، فإن فيه النهي عن الجمع بينهما. ولا يترتب على النهي عن الجمع بين الشيئين النهي عن كل واحد على حدته. وأماناتكم مفعول به على تقدير محذوف، أي أصحاب أماناتكم. وسيأتى بحث استعارة الخيانة في باب البلاغة، وأنتم الواو للحال، وأنتم مبتدأ، وجملة تعلمون خبر، وجملة أنتم تعلمون حالية، وحذف مفعول يعلمون للعلم به، أي تعلمون أن ما وقع منكم خيانة. (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) واعلموا عطف على مقدم، وأنما كافة ومكفوفة، وقد سدت مسد مفعولي اعلموا، ولذلك فتحت همزتها، وسيأتي بحث فتح همزة إن وكسرها في باب الفوائد، وأموالكم مبتدأ، وأولادكم عطف على «أموالكم» ، وفتنة خبر، وجعل الأموال والأولاد فتنة لأنهم سبب الوقوع في الفتنة، وهي الإثم والعذاب، أو محنة وابتلاء من الله ليسبر، غوركم، ويكتنه حقيقتكم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 556 فما عليكم- والأمر بهذه المثابة- إلا توطين النفس على الإخلاص والتزهد في زخارف الدنيا، وعدم الاغترار بأباطيلها وأفاويقها، وأن الله عطف على أنما أموالكم وأولادكم، وأن واسمها، وعنده الظرف خبر مقدم، وأجر مبتدأ مؤخر، والجملة خبر «أن» ، وفي هذا صارف لكم عن حب الدنيا وإيثارها على ما عند الله، وهو خير وأبقى. وفي هذا كله حث على اكتساب الأجر، وحسن الأحدوثة، وخلود الذكر. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) إن شرطية، وتتقوا فعل الشرط، ولكم جار ومجرور متعلقان بيجعل، وفرقانا مفعول به، أي: نصرا يفرق بين الحق والباطل، وبين الكفر بإذلال مشايعيه، والإسلام بتعزيز مناجديه، أو منجاة من الشبهات التي تزيغ فيها الضمائر، وتضل الأفهام، وتعشو النواظر عن رؤية الحق. هذا وقد اختلف في «الفرقان» هنا، فقال بعضهم: هو ما يفرق به بين الحق والباطل، والمعنى أنه يجعل لهم من ثبات القلوب، وثقوب البصائر، وحسن الهداية، ما يفرقون به بينهما عند الالتباس. وقيل: الفرقان المخرج من الشبهات، والنجاة من كل ما يخافونه، ومنه قول الشاعر: مالك من طول الأسى فرقان ... بعد قطين رحلوا وبانوا ومنه قول الآخر: وكيف أرجّي الخلّ والموت طالبي ... ومالي من كأس المنية فرقان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 557 وقال الفرّاء: المراد بالفرقان: الفتح والنصر. وقال ابن اسحق: الفرقان الفصل بين الحق والباطل. وقال السّدّيّ: الفرقان النجاة. (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) عطف على ما تقدم (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الواو استئنافية، والله مبتدأ، وذو الفضل خبره، والعظيم صفة للفضل. البلاغة: الاستعارة في «لا تخونوا أماناتكم» فالخون في الأصل هو النقص، ومنه تخوّنه إذا تنقّصه، ثم استعير فيما هو ضد الأمانة والوفاء، لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت النقصان عليه. وقد استعير أيضا في قولهم خان الدلو الكرب. والكرب هو- كما في الصحاح- حبل يشد في رأس الدلو. وخان المشتار السبب، والمشتار مجتني العسل، والسّبب الحبل، وإذا انقطع الحبل فيهما فكأنه لم يقف. والاستعارة هنا تصريحية تبعية. الفوائد: مواضع كسر همزة إن: يجب أن تكسر همزة (إن) حيث لا يصح أن يسدّ المصدر مسدها ومسد معمولها، وذلك في اثني عشر موضعا: 1- أن تقع في ابتداء الكلام حقيقة كقوله تعالى: «إنا أنزلناه في ليلة القدر» أو حكما كقوله تعالى: «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 558 2- أن تقع بعد «حيث» ، نحو: اجلس حيث إن العلم موجود. 3- أن تقع بعد «إذ» ، نحو جئتك إذ إن الشمس تطلع. 4- أن تقع تالية للموصول، نحو «وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة» . 5- أن تقع جوابا للقسم نحو: والله إن العلم نور، وقوله تعالى: «والعصر إن الإنسان لفي خسر» . 6- أن تقع بعد القول محكية به، كقوله تعالى: «قال: إني عبد الله» فإن كان القول بمعنى الظن لم تكسر، مثل أتقول أن عبد الله يقول كذا؟ أي: أتظن. وإن كانت غير محكية بالقول لم تكسر أيضا، نحو: أخصك بالقول أنك فاضل، فهي هنا بمعنى التعليل، أي: لأنك فاضل، فهي مع ما في حيزها منصوبة بنزع الخافض. 7- أن تقع مع ما بعدها حالا، نحو: جئت وإن الشمس تغرب، ومنه قوله تعالى: «كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإن فريقا من المؤمنين لكارهون» . 8- أن تقع مع ما بعدها صفة لما قبلها، نحو: جاء رجل إنه فاضل. 9- أن تقع صدر جملة استئنافية، نحو: فلان يزعم أني أسأت إليه، إنه لكاذب. وهذه من الواقعة ابتداء. 10- أن تقع في خبرها لام الابتداء أو اللام المزحلقة، كما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 559 يسميها النحاة كقوله تعالى «والله يعلم إنك لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون» . 11- أن تقع مع ما في حيزها خبرا عن اسم ذات، نحو علي إنه فهفل. ومنه قوله تعالى: «إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم» ، فجملة: «إن الله يفصل بينهم» خبر إنّ الذين آمنوا، وما عطف عليه، لأنها أسماء. 12- أن تقع بعد «كلّا» الرادعة، كقوله تعالى: «كلا إن الإنسان ليطغى» . مواضع فتح همزة أن: ويجب فتح همزة (أن) حيث يصح أن يسد المصدر مسدها ومسد معموليها، وذلك في أحد عشر موضعا: 1- أن تكون وما في حيزها في موضع الفاعل، نحو: بلغني أنك مجتهد، ومنه قوله تعالى: «أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب» . ومن ذلك أن تقع بعد «لو» ، نحو «ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير» فما بعد «أن» في تأويل مصدر مرفوع فاعل لفعل محذوف تقديره ثبت، واللام لام الجواب فالجملة بعدها جواب «لو» . 2- أن تكون وما في حيزها في موضع نائب الفاعل، نحو قوله تعالى «قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن» أي استماع نفر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 560 3- أن تكون هي وما في حيزها في موضع المبتدأ، كقوله تعالى: «ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة» فالجار والمجرور خبر مقدم، وما بعد «أن» في تأويل مصدر مبتدأ مؤخر، أي: رؤيتك الأرض خاشعة من آياته. 4- أن تكون هي وما بعدها في موضع الخبر عن اسم معنى غير قول ولا صادق عليه، أي على اسم المعنى خبرها نحو: اعتقادي أنه فاضل، فيجب فتحها لأنها خبر «اعتقادي» ، وهو اسم معنى، غير قول ولا صادق، على اعتقادي خبرها، لأن «فاضل» لا يصدق على الاعتقاد. وانما فتحت لسد المصدر مسدها ومسد معموليها، والتقدير، اعتقادي فضله أي معتقدي ذلك. ولم يجز كسرها على أن تكون مع معموليها جملة مخبرا بها عن اعتقادي، لعدم الرابط، لأن اسم «أن» لا يعود على المبتدأ الذي هو اعتقادي، لأن خبرها غير صادق عليه، فهو يعود على غيره، فتبقى الجملة بلا رابط، بخلاف: قولي: إنه فاضل، فيجب كسرها، لأنها وقعت خبرا عن «قولي» ولا تحتاج الى رابط لأن الجملة إذا قصد حكاية لفظها كانت نفس المبتدأ في المعنى، والتقدير: قولي هذا اللفظ لا غيره، وبخلاف: «اعتقاد زيد إنه حق» فيجب كسر همزة «إنه» أيضا، لأن خبرها وهو صادق على الاعتقاد، ولا مانع من وقوع جملة إن ومعموليها خبرا عن المبتدأ، لأن اسم إن رابط بينهما، ولا يصح فتحها لأنه يصير اعتقاد زيد كون اعتقاده حقا، وذلك لا يفيد، لأن الخبر لا بد أن يستفاد منه مالا يستفاد من المبتدأ. 5- أن تكون هي وما في حيزها في موضع تابع لمرفوع على أنه معطوف عليه أو بدل منه، نحو بلغني اجتهادك وأنك حسن الخلق، والتأويل: بلغني اجتهادك وحسن خلقك، فهو معطوف عليه، ونحو: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 561 يعجبني سعيد أنه مجتهد، والتأويل يعجبني سعيد اجتهاده فالمصدر المؤول بدل اشتمال من «سعيد» . 6- أن تكون هي وما في حيزها في موضع المفعول به، كقوله تعالى «ولا تخافون أنكم أشركتم بالله» والتأويل: ولا تخافون إشراككم 7- أن تكون هي وما في حيزها في موضع خبرا لكان أو إحدى أخواتها، نحو: كان يقيني أنك تتبع الحق، والتأويل: كان يقيني اتباعك للحق. 8- أن تكون هي وما في حيزها في موضع تابع لمنصوب بالعطف أو بالبدلية، كقوله تعالى: «اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين» والتقدير: اذكروا نعمتي عليكم وتفضيلي إياكم. وقوله تعالى «وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم» ، والتقدير- كما تقدم- يعدكم إحدى الطائفتين كونها لكم، فما بعد أن في تأويل مصدر منصوب بدل اشتمال من إحدى. 9- أن تقع بعد حرف الجر كقوله تعالى: «ذلك بأن الله هو الحق» . 10- أن تقع هي وما في حيزها في موضع المضاف إليه، كقوله تعالى: «إنه لحق مثلما أنكم تنطقون» ، أي مثل نطقكم. 11- أن تقع هي وما في حيزها في موضع تابع لمجرور بالعطف أو بالبدلية، نحو سررت من أدب علي وأنه عاقل، والتقدير: سررت من أدب علي وعقله. ونحو: عجبت منه أنه مهمل، والتقدير: عجيب منه إهماله، والمعنى: عجبت من إهماله. فما بعد «أن» في تأويل مصدر مجرور بدل اشتمال من الهاء في «منه» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 562 المواضع التي يجوز فيها الكسر والفتح: ويجوز الأمران: كسر همزة إن وفتحها حيث يصح الاعتباران: التأويل بمصدر، وعدم التأويل، وذلك في تسعة مواضع: 1- بعد «إذا» الفجائية، نحو: خرجت فإذا أن سعيدا واقف، فالكسر على معنى: فاذا سعيد واقف، والفتح على تأويل ما بعدها بمصدر مبتدأ محذوف الخبر، والتأويل: فإذا وقوفه حاصل. وقد روي بالوجهين قول الشاعر: وكنت أرى زيدا، كما قيل سيدا ... إذا أنه عبد القفا واللهازم أنشده سيبويه ولم يعزه الى أحد، وأرى بضم الهمزة، وأصله: يريني الله، فعمل فيه العمل المشهور من ضم أوله وفتح ما قبل آخره وحذف الفاعل، وزيد على ذلك هنا ابدال الياء همزة للاحتياج الى ذلك، لأنه لما حذف الفاعل وأنيب المفعول به لزم إسناد الفعل الى ضمير المتكلم، ولا يسندله إلا المبدوء بالهمزة، فحذفت الياء واتي بالهمزة عوضها، وهو متعد الى ثلاثة مفاعيل، الأول هو النائب عن الفاعل، والثاني «زيدا» ، والثالث «سيدا» ، وجملة «كما قيل» اعتراضية، فالكسر على معنى الجملة، أي فإذا هو عبد القفا، والفتح على معنى الإفراد، أي: فالعبودية حاصلة، على جعلها مبتدأ حذف خبره، كما تقول: خرجت فإذا الأسد، أي: حاضر. واللهازم جمع لهزمة، بكسر اللام والزاي، وهي عظم ناتئ تحت الأذن. والمعنى: كنت أظن سيادته فلما نظرت الى قفاه ولهازمه تبين لي عبوديته وكنى عن ذلك بأنه يضرب على قفاه ولهزمتيه، والقفا موضع الصفع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 563 2- بعد فاء الجزاء، كقوله تعالى: «من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم» ، قرى بكسر «إن» وفتحها، فالكسر على جعل ما بعد فاء الجزء جملة تامة، والمعنى: فالغفران والرحمة حاصلان، والفتح على تقدير أن ومعموليها خبرا لمبتدأ محذوف، والمعنى: فالحاصل الغفران والرحمة، أو مبتدأ والخبر محذوف، والمعنى: فالغفران والرحمة حاصلان. 3- أن تقع مع ما في حيزها في موضع التعليل كقوله تعالى: «صل عليهم إن صلاتك سكن لهم» ، فالكسر على أنها جملة تعليلية، والفتح على تقدير لام التعليل الجارة، أي: لأن صلاتك سكن لهم. ومنه الحديث الشريف: «لبيك إن الحمد والنعمة لك» ، يروى بكسر «إن» وفتحها، فالكسر على أنه تعليل مستأنف، والفتح على تقدير لام العلة. 4- أن تقع بعد فعل قسم ولا لام بعدها، كقول رؤبه: أو تحلفي بربك العليّ ... أني أبو ذيّالك الصّبي يروى بكسر «إن» وفتحها فالكسر على الجواب للقسم، والفتح بتقدير «على» . 5- أن تقع خبرا عن قول، ومخبرا عنها بقول، والقائل للقولين واحد، نحو: قولي أني أحمد الله، بفتح همزة «أن» وكسرها. فالفتح على حقيقته من المصدرية، أي قولي حمدا لله، والكسر على معنى المقول، أي: مقولي إني أحمد الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 564 6- أن تقع بعد واو مسبوقة بمفرد صالح للعطف عليه، كقوله تعالى: «إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ ولا تضحى» ، قرأ نافع وأبو بكر بالكسر في «وإنك لا تظمأ» إما على الاستئناف أو العطف على جملة «إن» الأولى، وعليهما فلا محل لها من الإعراب. وقرأ الباقون من السبعة بالفتح بالعطف على «أن لا يجوع» من عطف المفرد على مثله، والتقدير: أن لك عدم الجوع وعدم الظمأ. 7- أن تقع بعد «حتى» ، ويختص الكسر بالابتدائيه، نحو: مرض زيد حتى إنهم لا يرجونه، ويختص الفتح بالجارة والعاطفة، نحو: عرفت أمورك حتى أنك فاضل ف «حتى» في هذا المثال تصلح لأن تكون جارة ولأن تكون عاطفة، وأن فيهما مفتوحة. 8- أن تقع بعد «أما» بفتح الهمزة وتخفيف الميم، نحو: أما أنك فاضل فالكسر على أن «أما» حرف استفتاح بمنزلة «ألا» وتلك تكسر «إن» بعدها، والفتح على أنها مركبة من همزة الاستفهام و «ما» العامة بمعنى شيء، وصارا بعد التركيب بمعنى: أحقا. 9- أن تقع بعد «لا جرم» ، نحو قوله تعالى: «لا جرم أن الله يعلم ما يسرون» ، والغالب الفتح، ووجهه أن تجعل ما بعد «أن» مؤولا بمصدر مرفوع فاعل لجرم، وجرم معناه ثبت وحق، وأصل الجرم القطع، وعلم الله بالأشياء مقطوع به، لأنه حق وثابت، ولا حرف نفي للجواب يراد به كلام سابق، فكأنه قال: لا، أي: ليس الأمر كما زعموا، ثم قال جرم ان الله يعلم، أي حق وثبت علمه. وسيأتي مزيد من القول في «لا جرم» عند الكلام عليها في موضعها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 565 تنبيه لا بد منه: حيث جاز فتح «إن» وكسرها فالكسر أولى وأكثر لعدم تكلفه، إلا إذا وقعت بعد «لا جرم» كما علمت. [سورة الأنفال (8) : الآيات 30 الى 31] وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) اللغة: (أَساطِيرُ) : جمع أسطورة، كأحدوثة وأحاديث: ما سطر وكتب من القصص والأخبار. الإعراب: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) الظرف مفعول به لأذكر مقدرة، والمعنى: واذكر يا محمد إذ يمكر بك الذين كفروا. والمكر الاحتيال في إيصال الضرر للآخرين. وقصة هذا المكر في المطولات. وجملة يمكر مضاف إليها الظرف، وبك متعلق بيمكر، والذين فاعل يمكر، وجملة كفروا صلة الموصول، واللام للتعليل، ويثبتوك منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، أو يقتلوك عطف عليه، أو يخرجوك عطف أيضا. والمعنى: اذكر إذ اجتمعوا في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 566 دار الندوة- وهي أول دار بنيت بمكة- ليثبتوك، أي: يوثقوك ويحبسوك، أو يقتلوك كلهم قتلة رجل واحد، أو يخرجوك من مكة (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) الواو استئنافية، ويمكرون فعل مضارع، والواو فاعل، ويمكر الله عطف، والله مبتدأ، وخير الماكرين خبره، وسيأتي بحث هذا في باب البلاغة (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا) الواو استئنافية، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط، وجملة تتلى مضاف إليها الظرف، وعليهم جار ومجرور متعلقان بتتلى، وآياتنا نائب فاعل، وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وجملة قد سمعنا مقول القول (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) لو شرطية، ونشاء فعل الشرط، واللام رابطة، وجملة قلنا لا محل لأنها جواب شرط غير جازم، ومثل صفة لمفعول مطلق، أي: قولا مثل هذا (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) إن نافية، وهذا مبتدأ، وإلا أداة حصر، وأساطير الأولين خبر هذا. البلاغة: 1- يحتمل قوله «ويمكر الله» أن يكون استعارة تبعية من إطلاق المكر على الرد، لأنه لما كان معنى المكر حيلة يجلب بها مضرة الى الآخرين، وهو ما لا يجوز في حقه تعالى، كان المراد بمكر الله رد مكرهم، أي عاقبته ووخامته عليهم. ويجوز أن يكون من باب المشاكلة، وقد تقدم نظيره، كما تقدم الحديث عن هذا الفن، أي: ان المراد بمكر الله مجازاتهم على مكرهم بجنسه، على سبيل المجاز المرسل، والعلاقة السببية. ويحتمل أن يكون الكلام استعارة تمثيلية، بتشبيه حالة تعليل المسلمين في أعينهم الحامل لهم على هلاكهم بمعاملة الماكر المحتال الذي يظهر خلاف ما يبطن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 567 2- في قوله تعالى «قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا» فن يسمى التغاير، وهو تغاير المذهبين، أما في المعنى الواحد بحيث يمدح إنسان شيئا أو يذمه أو يذم ما مدحه غيره، أو بالعكس أو يفضل شيئا على شيء، ثم يعود فيجعل المفضول فاضلا، والفاضل مفضولا. وقد تقدمت الإشارة اليه مع ذكر نماذج منه. ونقول إن التغاير هنا المقصود مغايرتهم أنفسهم، فقد قالت قريش عن القرآن: «ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين» إنكارا منهم لغرابة أسلوبه وما بهرهم من فصاحته. ويلزم هذا الكلام إقرارهم بالعجز عن محاكاته، ثم غايرت قريش نفسها فقالت قد سمعنا «لو نشاء لقلنا مثل هذا» ، ولو كان القولان في وقت واحد لكان ذلك تناقضا، وهو عيب، ولم يعد في المحاسن، لكن وقوعه في زمنين مختلفين ووقتين متباينين اعتد من المحاسن، ولذلك سمي تغايرا لا تناقضا. [سورة الأنفال (8) : الآيات 32 الى 34] وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 568 الإعراب: (وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) إذ منصوب باذكر محذوفة، وقد تقدم القول فيها مشبعا، وجملة قالوا مضاف إليها الظرف، واللهم منادى مفرد علم حذفت منه «يا» وعوضت عنها الميم المشددة، وإن شرطية، وكان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط، وهذا اسمها، وهو ضمير فصل، والحق خبر كان ومن عندك جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) الفاء رابطة، وأمطر فعل أمر، وعلينا جار ومجرور متعلقان بأمطر، وحجارة مفعول به، ومن السماء صفة لحجارة، والجملة في محل جزم جواب الشرط (أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أو حرف عطف، وائت فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، والفاعل مستتر، وبعذاب جار ومجرور متعلقان بائتنا، وأليم صفة. (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) الواو استئنافية، وما نافية، وكان واسمها، واللام لام الجحود، ويعذبهم منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر كان، وأنت فيهم الواو للحال، والجملة الاسمية من المبتدأ والخبر حالية (وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) عطف على الجملة السابقة، وهم يستغفرون في موضع الحال، ومعناه نفي الاستغفار عنهم، أي: ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم، ولكنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون، ولا يتوقع ذلك منهم. (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ) الواو عاطفة، وما اسم استفهام إنكاري للنفي مبتدأ، ولهم خبر، وأن لا يعذبهم الله أن وما في حيزها مصدر منصوب بنزع الخافض، متعلق بما تعلق به الجار والمجرور السابق، أو بمحذوف حال، على حد قوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 569 تقول سليمى ما لجسمك شاحبا ... كأنك يحميك الطعام طبيب والمعنى: وكيف لا يعذبون، وأي شيء ثبت واستقر لهم في أن لا يعذبوا، أي: ليس ثمة ما يمنع من حيلولة عذابه بهم (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الواو للحال، وجملة هم يصدون حالية، والمعنى وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدون عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) الواو عاطفة أو حالية، وكانوا أولياءه كان واسمها وخبرها (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) إن نافية، وأولياءه مبتدأ، وإلا أداة حصر، والمتقون خبر «أولياؤه» (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لكن واسمها، والجملة خبرها، والواو حالية أو استئنافية. البلاغة: في قوله تعالى «وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم» إلخ فن عجيب يسمى «فن التنكيت» . وحدّه أن يقصد المتكلم الى شيء بالذكر دون غيره مما يسد مسده، لأجل نكتة في المذكور ترجح مجيئه على سواه، فإن لقائل أن يقول: ما النكتة التي رجحت اختلاف الصيغتين من الفعل وهو «يعذبهم» ، واسم الفاعل وهو «معذبهم» على اتفاقهما، مع اتفاق زمانيهما، فإن مدة مقام الرسول صلى الله عليه وسلم في المخاطبين منقسمة على الحال والاستقبال، وكذلك مدة الاستغفار، وهل يجوز مجيء كل واحدة من الصيغتين في مجاز الأخرى أم لا يجوز إلا ما جاء به الرسل؟ أو هل يجوز الاقتصار على الفعل الدال على الزمانين دون اسم الفاعل أم لا؟ والجواب أن معرفة النكتة رجحت مجيء الكلام على ما جاء عليه بحيث لا يجوز غيره أن المخاطبين به هم المنافقون الذين لم يؤذن النبي صلى الله عليه وسلم في إمهالهم مدة مقامه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 570 فيهم، لا من قبل نزول الآية ولا من بعدها. والخبر الصادق يجب أن يكون طبق المخبر، ولما كان الرابع الذي أمر الخبير به نفي تعذيبهم في الماضي والحال دون الاستقبال فإن الخبر الصادق قد أخبر بهم في الاستقبال حيث قال: «وما لهم أن لا يعذبهم الله» اقتضت البلاغة مجيء الفعل المضارع الدال- مع الإطلاق- على الزمانين مع القرينة على أحدهما بحسب ما يدل عليه واقترن به قوله تعالى: «وأنت فيهم» فأفاد دلالته على الحال دون الاستقبال، ونفي حصول العلم بنفي تعذيبهم فيما مضى من الزمان قبل نزول الآية، فأتى سبحانه بصيغة اسم الفاعل المضاف ليدل على الماضي، فاقتضى حسن الترتيب أن يقدم صيغة الفعل لدلالتها على الحال الذي هو مدة مقامه فيهم، لأن نفي العذاب فيما هو الأهم. وسيرد من التنكيت في القرآن ما يبهر العقول. [سورة الأنفال (8) : الآيات 35 الى 37] وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 571 اللغة: (المكاء) : بضم الميم كالثغاء والرغاء من مكا يمكو إذا صفر، ومنه المكّاء كأنه سمي بذلك لكثرة مكائه. قال عنترة: وحليل غانية تركت مجدّلا ... تمكو فريصته كشدق الأعلم أي: ورب زوج امرأة بارعة الجمال، مستغنية بجمالها عن التزين، قتلته وألقيته على الأرض، وكانت فريصته تمكو بانصباب الدم منها، كشدق الأعلم. (التصدية) : التصفيق، وقد اختلف في أصله، فقيل: هو من الصدى وهو ما يسمع من رجع الصوت في الأمكنة الصلبة الخالية، يقال منه: صدّى يصدّي تصدية، والمراد بها هنا ما يسمع من صوت التصفيق بإحدى اليدين على الأخرى. وقيل: هو مأخوذ من التصدد، وهو الضجيج والصياح والتصفيق، فأبدلت إحدى الدالين ياء تخفيفا. وقيل هو من الصدّ أي المنع، والأصل تصددة بدالين أيضا، فأبدلت ثانيتهما ياء. وقال ابن يعيش: «فأما التصدية من قوله تعالى: «وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية» فالياء بدل من الدال، لأنه من صد يصد، وهو التصفيق والصوت، ومنه قوله تعالى: «إذا قومك منه يصدّون» أي: يضجّون ويعجّون، فحوّل إحدى الدالين ياء، هذا قول أبي عبيدة، وأنكر الرّستمي هذا القول، وقال: إنما هو من الصدى، وهو الصوت. والوجه الأول غير ممتنع لوقوع يصدون على الصوت أو ضرب منه، وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يكون تصدية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 572 منه، فتكون «تفعلة» كالتحة والتعلة، فلما قلبت الدال الثانية ياء امتنع الإدغام لاختلاف اللفظين» . (ركمه) : يجمعه متراكما بعضه على بعضه. وفي المختار: «ركم الشيء إذا جمعه وألقى بعضه على بعض، وبابه نصر. وارتكم الشيء وتراكم اجتمع، والركام بالضم الرمل المتراكم والسحاب ونحوه» . الإعراب: (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) الواو استئنافية أو عاطفة، وما نافية، وكان واسمها، وعند البيت الظرف متعلق بمحذوف حال، وإلا أداة حصر، ومكاء خبر كان، وتصدية عطف على مكاء، والمعنى أنهم وضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء، وهم مشبكون بين أصابعهم، يصفرون فيها ويصفقون. وهذا أسلوب بليغ من أساليب العرب على حد قول الفرزدق: وما كنت أرجو أن يكون عطاؤه ... أداهم سودا أو محدرجة حمرا أي: ما كنت أظن أن يكون عطاؤه قيودا سودا أو سياطا مفتولة حمرا، ويروى: «سمرا» ، فوضع القيود والسياط موضع العطاء، ووضع الشاعر الرجاء موضع الظن، وأطلق العطاء على العقاب مجازا. (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) الفاء الفصيحة، وذوقوا فعل أمر وفاعل، والعذاب مفعول به، والباء للسببية، وما مصدرية، أي: سبب كفركم، وقد تقدمت له نظائر (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 573 لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) إن واسمها، وجملة كفروا صله، وجملة ينفقون أموالهم خبر الذين، وليصدوا اللام للتعليل، ويصدوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة، والواو فاعل، وعن سبيل الله متعلق بيصدوا (فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) الفاء عاطفة، والسين حرف استقبال، وينفقونها فعل مضارع وفاعل ومفعول به، ثم حرف عطف للتراخي والترتيب، وتكون معطوف على ينفقونها، واسمها مستتر تقديره هي، وعليهم متعلقان بمحذوف حال، لأنها كانت في الأصل صفة لحسرة وتقدمت، وحسرة خبر تكون، ثم يغلبون عطف على ثم تكون، والواو نائب فاعل (وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) الذين مبتدأ، وكفروا صلة، وجملة يحشرون خبر الذين، والى جهنم متعلق بيحشرون (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) اللام للتعليل ويميز منصوب بأن مضمرة، والجار والمجرور متعلقان بأحد الأفعال المتقدمة، والله فاعل، والخبيث مفعول به، ومن الطيب متعلق بيميز، أي الفريق الخبيث من الفريق الطيب (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ) ويجعل عطف على يميز، والخبيث مفعوله، وبعضه بدل من الخبيث بدل بعض من كل، وعلى بعض جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، أو في محل نصب مفعول به ثان ليجعل، والتقدير: ويجعل بعض الخبيث عاليا على بعض (فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) الفاء عاطفة، ويركمه عطف على يجعل، والهاء مفعوله، وجميعا حال من الهاء في يركمه، أو توكيد لها، فيجعله عطف على يركمه، وفي جهنم مفعول به ثان (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) مبتدأ وخبر، وهم ضمير فصل، أو مبتدأ أول وثان، والخاسرون خبر الثاني، والجملة الاسمية خبر أولئك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 574 [سورة الأنفال (8) : الآيات 38 الى 40] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) الإعراب: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) الجار والمجرور متعلقان بقل، واختلف في معنى هذه اللام، والأرجح أنها للتبليغ، أمر أن يبلغهم بالجملة المحكية بالقول، سواء أوردوها بهذا اللفظ أم بلفظ آخر مؤدّ لمعناها ومضمونها، واختار الزمخشري أن تكون للتعليل، أي: قل لأجلهم هذا القول، وهو: إن ينتهوا إلخ. وحجة الزمخشري أنه لو كان بمعنى خاطبهم لقيل: إن انتهوا يغفر لكم. وإن شرطية، وينتهوا فعل الشرط، ويغفر بالبناء للمجهول جواب الشرط، ولهم جار ومجرور متعلقان بيغفر، وما اسم موصول نائب فاعل، وجملة قد سلف صلة. (وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) الواو عاطفة، وإن شرطية، ويعودوا فعل الشرط، ومتعلقة محذوف، أي لقتاله أو للكفر، وكلاهما مراد فقد الفاء رابطة للجواب، وقد حرف تحقيق، ومضت سنة الأولين فعل وفاعل ومضاف إليه (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) عطف على قل للذين، وأفرد الأمر في الأول لأن الخطاب للنبي وحده بما هو داخل في نطاق مهمته، وجمع الأمر في الثاني لأن الخطاب للمؤمنين جميعا، لتهييجهم الى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 575 المحاربة، ومقاتلة عدوهم، ومثيري الفتن عامة، وحتى حرف غاية وجر، ولا نافية، وتكون منصوبة بأن مضمرة بعد حتى، والجار والمجرور متعلقان بقاتلوهم، وتكون هنا تامة، وفتنة فاعل، ويكون عطف على تكون، وهي هنا ناقصة، والدين اسمها، وكله توكيد، ولله خبر (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) الفاء عاطفة. وإن شرطية، وانتهوا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، والفاء رابطة، وإن واسمها، وبصير خبرها، وبما يعملون جار ومجرور متعلقان ببصير، وجملة يعملون صلة (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) عطف على سابقه، والإعراب مماثل، وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي فاعلموا، ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح، والمولى فاعل، والمخصوص بالمدح محذوف، أي: هو، ومثله ونعم النصير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 576 [المجلد الرابع] [تتمة سورة الأنفال] [سورة الأنفال (8) : الآيات 41 الى 42] وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) اللغة: (العدوة) بضم العين ويجوز كسرها وفتحها: شط الوادي وشفيره، سسيت بذلك لأنها عدت ما في الوادي من ماء ونحوه أن يتجاوزها، أي منعته، وفي مختار الصحاح: العدوة بضم العين وكسرها: جانب الوادي وحافته، وقال أبو عمرو: هي المكان المرتفع. (الدنيا والقصوى) تأنيث الأدنى والأقصى، وجاءت إحداهما بالياء والثانية بالواو مع أن كلتيهما فعلى من بنات الواو لأن القياس قلب الواو ياء كالعليا، وأما القصوى كالعود في مجيئه على الأصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 وقد جاءت القصيا إلا أن استعمال القصوى أكثر، هذا والعدوة الدنيا مما يلي المدينة، والقصوى مما يلي مكة. (الرَّكْبُ) في القاموس: والركب ركبان. الإبل وهو اسم جمع لراكب أو جمع له وهم العشرة فصاعدا وقد يكون للخيل والجمع أركب وركوب. الإعراب: (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) أن وما في حيزها سدت مسد مفعولي اعلموا وما موصولة ولذلك نصبت في الرسم من، ولكن ثبت وصلها في خط بعض المصاحف وثبت فصلها في بعضها الآخر، وهي اسم أن، وجملة غنمتم صلة ومن شيء في محل نصب حال من عائد الموصول المقدر والمعنى: ما غنمتموه كائنا من شيء أي قليلا كان أو كثيرا. (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) الفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وفتحت همزة «أن» لأنها وما في حيزها خبر مبتدأ محذوف تقديره فحكمه أن لله خمسه، والجار والمجرور خبر أن المقدم وخمسه اسمها المؤخر والتقدير: فإن خمسه لله، ويجوز أن تكون أن وما في حيزها مبتدأ خبره محذوف تقديره فحق أو فواجب أن لله خمسه، وللرسول وما بعده عطف على قوله لله وسيأتي في باب الفوائد تفصيل القسمة. (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ) إن شرطية وكنتم فعل الشرط والجواب محذوف تقديره فاعلموا ذلك، وجملة آمنتم خبر كنتم وبالله جار ومجرور متعلقان بآمنتم وما عطف على الله وجملة أنزلنا صلة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 وعلى عبدنا جار ومجرور متعلقان بأنزلنا ويوم الفرقان ظرف متعلق بأنزلنا أيضا والمراد به يوم بدر الفارق بين الحق والباطل. (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) الظرف بدل من الظرف الأول، وجملة التقى الجمعان مضافة للظرف (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وقدير خبره وعلى كل شيء جار ومجرور متعلقان بقدير. (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) الظرف بدل من يوم الأول أو الثاني وأنتم مبتدأ وبالعدوة خبر والجملة مضافة للظرف والدنيا صفة للعدوة وهم بالعدوة القصوى عطف على سابقتها. (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) الواو حالية من الظرف وهو قوله «بالعدوة القصوى» ويجوز أن تكون عاطفة على «أنتم» لأنها مبدأ تقسيم أحوالهم وأحوال عدوهم، والركب مبتدأ وأسفل نصب على الظرف في محل رفع على الخبرية وسيأتي مزيد بحث له في باب الفوائد. ومنكم جار ومجرور متعلقان بأسفل لأنه في الأصل اسم تفضيل استعمل بمعنى صفة لمكان محذوف أقيم مقامه، وللزمخشري فصل في تعليل هذا التوقيت، وذكر مراكز الفريقين سنورده في باب الفوائد لأنه بلغ الذروة في التنقيب عن أسرار الكتاب العزيز. (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) الواو عاطفة ولو شرطية وهي الدالة على الامتناع وتواعدتم فعل الشرط واللام الرابطة واختلفتم جملة لا محل لها لأنها جواب الشرط وفي الميعاد متعلق باختلفتم، أي امتنع اختلافكم في موعد الخروج الى القتال لامتناع تواعدكم وإعلام بعضكم بعضا بالخروج للقتال لأنكم قد تضعفون عند ما تعلمون شكيمتهم ومنعة مكانهم مما يؤيد فصل الزمخشري البديع. (وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا) لكن حرف استدراك مهمل وليقضي اللام للتعليل وهي مع مجرورها المؤول متعلقان بمحذوف أي جمعكم بغير ميعاد والله فاعل وأمرا مفعول به، وجملة كان مفعولا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 صفة لأمرا وكان واسمها المستتر وخبرها. (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) يجوز تعليق ليهلك بما تعلق به ليقضي أي فهو بدل منه، ويجوز أن يتعلق بمفعولا، ويهلك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ومن اسم موصول فاعل وجملة هلك صلة وعن بينة حال. (وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) عطف على الجملة السابقة، وحي أصلها حيي أدغمت الياء بالياء. (وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) الواو استئنافية وان واسمها واللام المزحلقة وسميع خبر أول لإن وعليم خبر ثان. البلاغة: في قوله: «إذ أنتم بالعدوة الدنيا» الى قوله: «ويحيا من حي عن بينة» فن الاستدراك فإن الحق سبحانه أخبر عن الأمر الواقع بخبر أخرجته الفصاحة مجرى المثل، وذلك أن الرسول صلّى الله عليه وسلم لما أخبرته عيونه بقفول ركب قريش من الشام الى مكة على الجادة المعروفة التي لا بد لسالكها من ورود «بدر» ، أمر أصحابه بالخروج وخرج معهم يريد العير، وكان وعد الله قد تقدم له بإحدى الطائفتين، إما العير وإما النفير، وبلغ أبا سفيان، وهو على الركب، خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر الركب أن يأخذ على سيف البحر، ومضى أبو سفيان على وجهه لمكة، فاستنفر قريشا، فخرجوا الى بدر ليشغلوا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تتبّع العير، فصادفوه ببدر، وهو يظن أن الركب يمر على بدر، فوقعت اللقيا من غير ميعاد، فأخبر الله سبحانه بموضع المسلمين من بدر وموضع المشركين منه بقوله: «إذ أنتم بالعدوة الدنيا» أي القريبة، «وهم بالعدوة القصوى» : الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 أي البعيدة، «والركب أسفل منكم» لأن سيف البحر في غور، وبدر في نجد بالنسبة إليه، وأراد أن يخبر عن وقوع اللقاء بغير ميعاد، وعدل عن لفظ المعنى الى لفظ الارداف فلم يقل فالتقوا من غير ميعاد، بل قال: «ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد» لخروج لفظ الإرداف مخرج المثل ليكون أسير وأشهر ولو وقع الاقتصار على هذا المقدار لاحتمل أن يقال: فما الحكمة في حرمان الله رسوله والمسلمين هذه الغنيمة الباردة لأجل منها. وهي فتح مكة واستئصال أموال أهلها، فإن اختياره لهم لقاء النفير دون العير ليقتل حماة مكة وصناديدها فيتمكن المسلمون من فتحها وكذلك كان، وقد كان مراد المسلمين لقاء العير دون النفير بدليل إخباره سبحانه عنهم بذلك في قوله: «ويودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم» يعني العير، فإن ذات الشوكة: النفير، لأن الشوكة السلاح، فأرادوا هم ذلك، وأراد الله خلافه لعلمه بالعواقب، فأوقع اللقاء من غير ميعاد لهذه المصلحة، وأخرج الإخبار به مخرج المثل لما بينّا من فائدة ذلك، ثم قوى دليل الكلام بذكر العلة في تقويت تلك المصلحة الظاهرة، حيث قال بلفظ الاستدراك: «ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا» ، ثم فصل ما أجمله في الاستدراك بقوله: «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» ، فاتضح الإشكال، وارتفع ما قدر من الاحتمال وأبان عن المعنى أحسن بيان، فحصل في هذه الكلمات أربعة عشر نوعا من البلاغة وهي: الإيجاز، والترشيح، والإرداف، والتمثيل، والمقارنة، والاستدراك، والإدماج، والإيضاح، والتهذيب، والتعليل، والتنكيت، والمساواة، وحسن النسق، وحسن البيان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 الفوائد: 1 لم نجر في هذا الكتاب على الخوض في المسائل العلمية والفقهية إلا نادرا، وإلا فيما له علاقة بالإعراب أو البيان، وقد خاض العلماء كثيرا في كيفية تقسيم الخمس ونلخص آراء الأئمة بما لا يخرج عن أسلوبنا. قسمة الخمس عند أبي حنيفة أنها كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم: سهم لرسول الله، وسهم لذوي قرباه، وثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل. أما عند الشافعي فيقسم على خمسة أسهم: سهم لرسول الله يصرف الى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين، كعدة الغزاة من السلاح والكراع ونحو ذلك، وسهم لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائهم، والباقي للفرق الثلاث. وأما عند مالك بن أنس فالأمر مفوض الى اجتهاد الإمام، إن رأى قسمه بين هؤلاء، وإن رأى أعطاه بعضهم دون بعض، وإن رأى غيرهم أولى وأهم فغيرهم. وهناك أقوال أخرى يرجع إليها في المطولات. 2- يقع الخبر ظرفا نحو «والركب أسفل منكم» ، وجارا ومجرورا نحو «الحمد لله» ، وشرطهما أن يكونا تامّين كما مثل، فلا يجوز زيد مكافا، ولا زيد بك، لعدم الفائدة ويتعلقان بمحذوف وجوبا هو الخبر، واختلف في تقديره فقيل تقديره استقر أو مستقر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 قال ابن هشام: في المغني: والحق عندي أنه لا يترجح تقديره اسما ولا فعلا بل بحسب المعنى. وقال ابن مالك في الخلاصة: وأخبروا لظرف أو بحرف جر ... ناوين معنى كائن أو استقر وهناك ملاحظات هامة نلفت إليها الانتباه: آ- يخبر بالمكان عن أسماء الذوات والمعاني نحو: زيد خلفك والخير أمامك. ب- يخبر بالزمان عن أسماء المعاني فقط نحو: الصوم اليوم والسفر غدا. ج- لا يخبر بالزمان عن أسماء الذوات فلا يقال: زيد اليوم، والفرق أن الأحداث أفعال وحركات، فلا بد لكل حدث من زمان يختص به بخلاف الذوات. د- إذا حصلت فائدة جاز الإخبار بالزمان عن الذوات، كأن يكون المبتدأ عاما والزمان خاصا، باضافة أو وصف، نحو: نحن في شهر كذا، فنحن مبتدأ وهو عام لصلاحيته في نفسه لكل متكلم إذ لا يختص به متكلم دون غيره، وفي شهر كذا خبره، وهو خاص بالمضاف إليه، ونحن في زمن طيب اختص بالوصف. هـ- وأما نحو قولهم «الورد في أيار» و «اليوم خمر» و «الليلة الهلال» ، فالتأويل فيها: خروج الورد، واليوم شرب خمر، والليلة رؤية الهلال، فالإخبار في الحقيقة إنما هو عن اسم المعنى لا عن اسم الذات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 3- وقد آن أن نورد فصل الزمخشري بحروفه وفيه يسمو هذا الامام الى أبعد أفق، ويبرهن على قوة ملاحظته وسداد تفكيره قال: «فإن قلت: ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين، وان العير كانت أسفل منهم؟ قلت: الفائدة فيه: الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدو وشوكته وتكامل عدته وتمهد أسباب الغلبة له، وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم وأن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعا من الله سبحانه، ودليلا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته وباهر قدرته، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضا لا بأس بها، ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار تسوخ فيها الأرجل «أي رخوة» ، ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشفقة، وكانت العير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم، وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم، ولهذا كانت العرب تخرج الى الحرب بظعنهم وأموالهم ليبعثهم الذّبّ عن الحريم والغيرة على الحرم على بذل جهدهم في القتال، وأن لا يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز اليه فيجمع ذلك قلوبهم ويضبط همهم ويوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطنهم، ولا يخلوا مراكزهم ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدتهم، وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة بدر ليقضي أمرا كان مفعولا من إعزاز دينه وإعلاء كلمته حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة حتى خرجوا ليأخذوا العير راغبين في الخروج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 [سورة الأنفال (8) : الآيات 43 الى 44] إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) الإعراب: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا) الظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر أو هو بدل ثان من يوم الفرقان، أو متعلق بسميع عليم أي يعلم المصالح إذ يقللهم في عينك. ويريكهم فعل مضارع والكاف مفعول أول والهاء مفعول ثان والله فاعل وفي منامك حال وقليلا مفعول ثالث لأن رأى الحلمية تنصب مفعولين بلا همزة فإذا دخلت عليها الهمزة نصب ثلاثة. (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) الواو عاطفة ولو شرطية وأراكهم فعل ماض والكاف مفعول أول والهاء مفعول ثان وكثيرا مفعول ثالث، واللام رابطة وفشلتم فعل وفاعل ولتنازعتم عطف على لفشلتم وفي الأمر جار ومجرور متعلقان بتنازعتم (وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) الواو عاطفة ولكن واسمها وجملة سلّم خبرها وإنه إن واسمها وعليم خبرها وبذات الصدور جار ومجرور متعلقان بعليم (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا) إذ بدل من الظرف قبله ويريكموهم فعل مضارع والكاف مفعول أول والميم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 علامة الجمع والواو لإشباع الميم والهاء مفعول ثان وإذ متعلق بيريكموهم، وجملة التقيتم مضافة للظرف وفي أعينكم متعلق بقليلا وقليلا حال من الهاء لأن الرؤية هنا بصرية فهي مع الهمزة تنصب مفعولين فقط. (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا) عطف على ما تقدم، وفي أعينهم حال وليقضي لام التعليل مع مجرورها متعلقان بيقللكم لأنه علة التعليل، وكرره لاختلاف الفعل المعلل به إذ الفعل المعلل به أولا اجتماعهم بغير ميعاد، وثانيا تقليل المؤمنين قبل الالتحام، ثم تكثيرهم في أعين الكفار، أما الغرض في تقليل الكفار في أعين المؤمنين فهو ظاهر، وأما تقليل المؤمنين في أعينهم قبل اللقاء فذلك ليجترئوا عليهم قلة مبالاة بهم، حتى إذا فاجأتهم الكثرة بهتوا وهابوا وأسقط في أيديهم، وجملة كان مفعولا صفة الأمر. (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) الواو عاطفة والى الله جار ومجرور متعلقان بترجع والأمور نائب فاعل. [سورة الأنفال (8) : الآيات 45 الى 47] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 اللغة: (رِيحُكُمْ) الريح: الدولة شبهت في نفوذ أمرها وتمشيه بالريح وهبوبها فقيل: هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره، قال سليك بن سلكة: يا صاحبيّ ألا لا حيّ بالوادي ... إلا عبيد مقود بين أذواد أتنظران قليلا ريث غفلتهم ... أم تعدوان فإن الريح للعادي فقد استعار الشاعر الريح للدولة بجامع النفوذ والأمر النافذ من كل فهي من المجاز، وإذا هبت رياحك فاغتنمها، ورجل ساكن الريح: وقور، وفي القاموس والمختار: ان الريح يطلق ويراد به: القوة، والغلبة، والرحمة، والنصرة، والدولة. (البطر) والأشر بفتحتين: الطغيان في النعمة بترك شكرها وجعلها وسيلة الى ما لا يرضاه الله، وقيل: معناهما الفخر بالنعمة ومقابلتها بالتكبر والخيلاء بها. (الرئاء) مصدر راءى كقاتل قتالا، والأصل: رياء فالهمزة الأولى بدل من ياء هي عين الكلمة، والثانية بدل من ياء هي لام الكلمة لأنها وقعت ظرفا بعد ألف زائدة. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) إذا حرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه وجملة لقيتم مضافة وفئة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 مفعول به والفاء رابطة واثبتوا فعل أمر وفاعل والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) واذكروا عطف على اثبتوا وهو فعل أمر وفاعل ولفظ الجلالة مفعول به وكثيرا مفعول مطلق لأنه صفة لمصدر محذوف ويجوز إعرابه ظرفا أي وقتا كثيرا ولعلكم تفلحون: لعل واسمها وجملة تفلحون خبرها. (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) وأطيعوا عطف على اذكروا ولفظ الجلالة مفعول به ورسوله عطف عليه ولا ناهية وتنازعوا أصله تتنازعوا مجزوم بلا الناهية والفاء فاء السببية لأنها وقعت في جواب النهي وتفشلوا مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية وتذهب ريحكم عطف على فتفشلوا ويجوز أن تكون الواو عاطفة وتفشلوا مجزوم لأنه داخل في حكم النهي وقد قرىء بذلك. (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) عطف على ما تقدم وإن واسمها والظرف خبرها (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ) ولا تكونوا عطف على ما تقدم وتكونوا فعل مضارع ناقص والواو اسمها وكالذين الكاف اسم بمعنى مثل خبرها والذين مضاف إليه أو هما جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر تكونوا والمراد بهم أهل مكة حين خرجوا لحماية العير، فأتاهم رسول أبي سفيان، وهم بالحجفة، أن ارجعوا فقد سلمت عيركم، فأبى أبو جهل وقال حتى نقدم بئرا نشرب بها الخمور، وتعزف علينا القيان، ونطعم من حولنا من العرب، فذلك بطرهم ورئاؤهم، فوافوها، فسقوا كأس المنايا، وناحت عليهم النوائح مكان القيان. وبطرا مصدر في موضع الحال ويجوز أن يعرب مفعولا لأجله وكذلك رئاء الناس. (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) الواو عاطفة وجملة يصدون معطوفة على بطرا أي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 وصدا عن سبيل الله وانما عدل عن الاسمية الى الفعلية في الصد لأن البطر والرئاء كانا ديدنهم ودأبهم بخلاف الصد فإنه تجدد لهم في زمن النبوة والواو استئنافية والله مبتدأ ومحيط خبره وبما يعملون جار ومجرور متعلقان بمحيط. [سورة الأنفال (8) : الآيات 48 الى 49] وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) اللغة: (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) رجع القهقرى يمشي الى ظهره قال الشاعر: ليس النكوص على الأعقاب مكرمة ... إن المكارم إقدام على الأصل والعقب بكسر القاف وسكونها: مؤخر القدم والولد وولد الولد، والجمع أعقاب، وأعقاب الأمور أواخرها، يقال: جاء عقبه وبعقبه أي خلفه، ورجع على عقبه أي على الطريق التي جاء منها سريعا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 ووطئ عقبه أي مشى في أثره، وسافر على عقب الشهر أي في آخره. الإعراب: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) الظرف إذ منصوب باذكر محذوفا وجملة زين مضاف إليها ولهم متعلق بزين والشيطان فاعل وأعمالهم مفعول به. (وَقالَ: لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ) وقال عطف على زين ولا نافية للجنس وغالب اسمها مبني على الفتح ولكم خبرها ومن الناس حال من الضمير في لكم لتضمنه معنى الاستقرار. (وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) الواو عاطفة للجملة التي في حيز القول ولذلك كسرت همزتها، وإن واسمها وجار خبرها ولكم متعلق بجار لأنها بمعنى مجير ومعين وناصر لكم، قيل أتاهم الشيطان في صورة سراقة بن مالك سيد ناحية كنانة. (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) الفاء عاطفة ولما ظرف بمعنى حين أو رابطة وتراءت الفئتان فعل وفاعل ونكص عطف على تراءت والجملة لا محل لها وعلى عقبيه حال أي هاربا. (وَقالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) وقال عطف على نكص وان واسمها وخبرها ومنكم جار ومجرور متعلقان ببريء والجملة مقول القول. (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) إن واسمها وجملة أرى خبرها وما مفعول به وجملة لا ترون صلة والعائد محذوف. (إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) إن واسمها وجملة أخاف الله خبرها والله مبتدأ وشديد العقاب خبر والجملة عطف على ما في حيز القول. (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) الظرف معمول اذكر أو نكص وجملة يقول المنافقون مضافة والذين عطف على المنافقون وفي قلوبهم خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر والجملة صلة (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) الجملة مقول القول وهؤلاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 مفعول غر ودينهم فاعله، يعني هؤلاء المنافقون ومرضى القلوب: ان المسلمين اغتروا بدينهم، وسولت لهم أنفسهم لقاء زهاء ألف وهم لا يتجاوزون ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا فقال الله لهم مبكتا: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ ويتوكل فعل الشرط وعلى الله متعلق بيتوكل وجواب الشرط محذوف تقديره يغلب والفاء رابطة للتعليل وان الله عزيز حكيم إن واسمها وخبراها. [سورة الأنفال (8) : الآيات 50 الى 54] وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 الإعراب: (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) الواو استئنافية وترى فعل مضارع وهي بصرية والفاعل مستتر تقديره أنت والمفعول به محذوف أي الكفرة أو حالهم وإذ ظرف لترى أي: ولو ترى الكفرة أو حال الكفرة حين تتوفاهم الملائكة ببدر. ولو الامتناعية تردّ الفعل المضارع ماضيا كما أن «إن» ترد الماضي مضارعا، وجملة يتوفى مضافة والذين مفعول به والملائكة فاعل وجملة كفروا صلة، وقد تقدم سر الحذف لجواب لو والمفعول به وقد اجتمعا هنا وتقدير الجواب: لرأيت شيئا عظيما. (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) جملة يضربون حال من الملائكة أو من الذين كفروا لأن فيهما ضميريهما، ويجوز أن يكون فاعل يتوفى هو ضمير الله تعالى لتقدمه في قوله ومن يتوكل على الله، وعندئذ فالملائكة مبتدأ خبره ما بعده والجملة حال من الذين كفروا وذوقوا، معطوف على يضربون على إرادة القول أي ويقولون ذوقوا، وعذاب الحريق مفعول به. (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ذلك رفع بالابتداء وبما قدمت خبره وما مصدرية أو موصولة وأيديكم فاعل وأن الله عطف على ما أي: ذلك العذاب بسببين: بسبب كفركم ومعاصيكم، وبأن الله، وجملة ليس خبر إن وبظلام الباء حرف جر زائد وظلام خبر ليس محلا وللعبيد جار ومجرور متعلقان بظلام وظلام صيغة مبالغة تفيد النسب. (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الكاف في محل رفع خبر مبتدأ محذوف أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون سواء كانت اسمية أم حرفية وآل مضاف وفرعون مضاف إليه والذين عطف على آل ومن قبلهم صلة الذين والجملة استئنافية مسوقة لبيان ما حل بهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 من العذاب بسبب كفرهم قال ابن عباس: والمعنى أن آل فرعون أيقنوا أن موسى عليه الصلاة والسلام نبي فكذبوه، فكذلك حال هؤلاء لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالصدق كذبوه، فأنزل الله بهم عقوبته كما أنزلها بآل فرعون. (كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ) جملة كفروا بآيات الله تفسيرية لدأب آل فرعون، وبآيات الله جار ومجرور متعلقان بكفروا (فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) عطف على كفروا وأخذهم الله فعل ومفعول به وفاعل وبذنوبهم متعلق بأخذهم أي بسبب ذنوبهم وإن واسمها وقوي خبرها الأول وشديد العقاب خبرها الثاني. (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ) اسم الاشارة مبتدأ وبأن الله خبره وجملة لم يك خبر أن ويك مضارع ناقص مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون المقدرة على النون المحذوفة للتخفيف. وسترد في باب الفوائد خصائص كان، واسم يك مستتر تقديره: الله تعالى ومغيرا خبرها ونعمة مفعول به لمغيرا لأنه اسم فاعل وجملة أنعمها صفة لنعمة والهاء مفعول به وعلى قوم جار ومجرور متعلقان بأنعمها (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) حتى حرف غاية وجر ويغيروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والجار والمجرور متعلقان بمغيرا وما مفعول به وبأنفسهم صلة ما. (وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) عطف على ما سبقه ولذلك فتحت همزة أن، أي وبسبب أن الله، وسميع خبر أن الأول وعليم خبرها الثاني. (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كرره لفوائد نلخصها بما يلي: 1- ان الكلام الثاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأول فتكون الجملة تفسيرية. 2- ذكر في الآية الأولى أنهم كفروا بآيات الله وجحدوها وفي الثانية إشارة إلى أنهم كذبوا بها مع جحودهم لها وكفرهم بها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 3- ان التكرير للتأكيد فتكون الجملة مؤكدة تابعة للأولى، وقد تقدم إعرابها على كل حال. (كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) الجملة تفسيرية أيضا كما تقدم في سابقها وجملة فأهلكناهم بذنوبهم عطف على كذبوا. (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) عطف على ما تقدم وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذنوب (وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) كل مبتدأ ساغ الابتداء فيها لإضافتها ونيابة التنوين عن المضاف إليه كما تقدم في بحث تنوين العوض ولما فيها من معنى العموم أي وكلهم من غرقى القبط وقتلى قريش، وجملة كانوا ظالمين خبر كل وجمع الضمير في كانوا وفي ظالمين مراعاة لمعنى كل، لأن «كل» متى قطعت عن الإضافة جاز مراعاة لفظها تارة، ومراعاة معناها أخرى، وإنما اختير هنا مراعاة المعنى لأجل الفواصل، ولو روعي اللفظ فقط فقيل: وكل كان ظالما، لم تتفق الفواصل. البلاغة: 1- المجاز المرسل في قوله «بما قدمت أيديكم» فإن هذا العذاب إنما حاق بهم بسبب كفرهم، ومحل الكفر هو القلب لا اليد لأنها ليست موضعا للمعرفة، فلا يتوجه التكليف عليها حتى يمكن إيصال العذاب إليها، ولكن اليد هنا معناها القدرة، والعلاقة السببية، لأن اليد آلة النعمة كما استعملت مجازا بمعنى النعمة. 2- عدل عن ظالم إلى ظلام وقد كان ظاهر الكلام يقضي بنفي الأدنى لأنه أبلغ من نفي الأعلى، لأن نفي الأعلى لا يستلزم نفي الأدنى، وبالعكس ولكنه عدل عن ذلك لأجل العبيد أو لأن العذاب من العظم بحيث لولا الاستحقاق لكان المعذب بمثله ظلاما بليغ الظلم متفاقمه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 الفوائد: 1- صيغة فعّال وفاعل وفعل في النسب: قد يستغنى عن ياء النسب بصوغ المنسوب إليه على فعّال بتشديد ثانيه، وذلك غالب في الحرف جمع حرفة كبزّاز بزايين معجمتين لبائع البز، ونجار لمن حرفته النجارة، وعوّاج لبياع العاج، وعطّار لبياع العطر، ومن غير الغالب قول امرئ القيس: وليس بذي رمح فيطعنني به ... وليس بذي سيف وليس بنبّال أي بذي نبل بدليل ما قبله فاستعمل فعال في غير الحرف، وحمل عليه قوم من المحققين قوله تعالى: «وما ربك بظلام للعبيد» أي بذي ظلم، والذي حملهم على ذلك أن النفي منصب على المبالغة فثبت أصل الفعل، والله تعالى منزه عن ذلك وأمثلة فعّال كثيرة ومع كثرتها قال سيبويه: غير مقيسة فلا يقال لصاحب الدقيق دقّاق، ولا لصاحب الفاكهة فكّاه، ولا لصاحب البر برار، ولا لصاحب الشعير شعّار، والمبرد يقيس هذا. - هذا ويصاغ المنسوب إليه أيضا على فاعل أو على فعل بفتح أوله وكسر ثانيه بمعنى ذي كذا، فالأول كتامر أي ذي تمر، ولابن أي ذي لبن، وطاعم أي ذي طعام، وكاس أي ذي كساء، والثاني كطعم أي ذي طعام، ونهر أي ذي نهار، قال الراجز: لست بليلى ولكني نهر ... لا أدلج الليل ولكن أبتكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 أنشده سيبويه في كتابه، أي ولكنني نهاريّ أي عامل بالنهار. واختلفوا في قول الحطيئة: دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فانك أنت الطاعم الكاسي فقال قوم: هو فاعل بمعنى مفعول، أي مطعوم ومكسو على حد قوله تعالى «فهو في عيشة راضية» ، وقال آخرون: هو من باب النسب أي ذي طعام وذي كسوة، وفي كلتا الحالين فهو ذم أي أنه ليس له فضل غير أنه يأكل ويشرب. 2- خصائص كان: تختص «كان» بأمور: آ- جواز زيادتها بشرطين: أحدهما: كونها بلفظ الماضي لتعين الزمان فيه دون المضارع وشذّ قول أم عقيل بن أبي طالب وهي ترقصه: أنت تكون ما جد نبيل ... إذا تهب شمأل بليل فأنت مبتدأ وماجد خبره وتكون زائدة بين المبتدأ والخبر. والثاني: كونها بين شيئين متلازمين ليسا جارا ومجرورا وليس المراد بزيادتها أنها لا تدل على معنى البتة، بل أنها لم يؤت بها للإسناد، وإلا فهي دالة على المضيّ، ولهذا كثر زيادتها بين ما التعجبية وفعل التعجب لكونه سلب الدلالة على المضي نحو: ما كان أحسن زيدا، فكان زائدة بين المبتدأ وخبره وقال الشاعر: حجبت تحيتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وأقّلها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 وقد تزاد بين الفعل ومرفوعه نحو قول بعضهم: لم يوجد كان مثلهم، فزاد كان بين الفعل ونائب الفاعل، واختلف في قول الفرزدق: فكيف إذا مررت بدار قوم ... وجيران لنا، كانوا، كرام فقال قوم منهم المبرد: إنها في البيت ليست بزائدة بل هي الناقصة والواو اسمها ولنا خبرها والجملة في موضع الصفة لجيران وكرام صفة بعد صفة، فهو نظير قوله تعالى: «هذا كتاب أنزلناه مبارك» ، وذهب سيبويه والخليل الى أنها في البيت زائدة ولاتباعهما في تخريج اتصالها بالواو أقوال يرجع إليها في المطولات. ب- ومنها أنها تحذف ويبقى اسمها وخبرها، وكثر ذلك بعد أن المصدرية الواقعة في موضع المفعول لأجله في كل موضع أريد فيه تعليل فعل بفعل، نحو: أمّا أنت منطلقا انطلقت، فانطلقت معلول وما قبله علة له مقدمة عليه، والأصل: انطلقت لأن كنت منطلقا، ثم قدمت اللام التعليلية وما بعدها المجرور بها على «انطلقت» فصار: لأن كنت منطلقا انطلقت، ثم حذفت كان لذلك فانفصل الضمير الذي هو اسم كان، فصار: أن أنت منطلقا، ثم زيدت ما للتعويض من كان فصار: أن ما أنت، ثم أدغمت النون في الميم للتقارب في المخرج، فصار أما أنت، وعليه قول عباس بن مرداس: أبا خراشة أمّا أنت ذا نفر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع أي لأن كنت ذا نفر فخرت، ثم حذف «فخرت» وهو متعلق الجار لأن وما بعدها وأبا خراشة منادى ودخلت الفاء في فإن قومي لأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 الثاني مستحق بالأول، فهو مسبّب عنه، والأول سبب فأشبه الشرط والجزاء. ج- ومنها أنها تحذف مع اسمها ويبقى الخبر ويكثر ذلك بعد إن ولو الشرطيتين فمثال لو: لا يأمن الدهر ذو بغي ولو ملكا ... جنوده ضاق عنها السهل والجبل أي ولو كان صاحب البغي ملكا ذا جنود كثيرة وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «التمس ولو خاتما من حديد» أي التمس شيئا ولو كان ما تلتمسه خاتما من حديد. ومثال إن: قد قيل ما قيل إن صدقا وإن كذبا ... فما اعتذارك من قول إذا قيلا أي إن كان ما قيل صدقا وإن كان ما قيل كذبا، وقولهم: «الناس مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر» بنصب الأول على الخبرية لكان المحذوفة مع اسمها، ورفع الثاني على الخبرية لمبتدأ محذوف أي إن كان عملهم خيرا فجزاؤهم خير وإن كان عملهم شرا فجزاؤهم شر. د- ومنها أن لام مضارعها وهي النون يجوز حذفها تخفيفا، وصلا لا وفقا، وذلك بشرط أن يكون مجزوما بالسكون غير متصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 بضمير نصب ولا بساكن نحو: «ولم أك بغيا» وكالآية التي نحن بصددها. هـ- ومنها، وهذه الخاصة تشاركها فيها أخواتها إلا ثلاثة، أن تستعمل تامة أي مستغنية بمرفوعها نحو: «وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة» وقول أبي تمام: قد كان ما خفت أن يكونا ... إنا إلى الله راجعونا ومعناها عندئذ حصل، أما الثلاثة التي لزمت النقص فهي: فتىء وزال وليس. [سورة الأنفال (8) : الآيات 55 الى 59] إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) اللغة: (تَثْقَفَنَّهُمْ) : تصادفهم وتظفر بهم، وفي المصباح: ثقفت الشيء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 ثقفا من باب تعب أخذته، وثقفت الرجل في الحرب أدركته، وثقفته ظفرت به، وثقفت الحديث فهمته بسرعة والفاعل ثقيف. (فَانْبِذْ) : فاطرح إليهم العهد، والنبذ الطرح، وهو هنا مجاز عن إعلامهم بأن لا عهد لهم بعد اليوم، فشبّه العهد بالشيء الذي يرمى لعدم الرغبة فيه، وأثبت النبذ له تخييلا، ومفعوله محذوف أي عهدهم. وسيأتي مزيد من هذا البحث الهام في باب البلاغة. الإعراب: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) إن واسمها والدواب مضاف لشر وعند الله ظرف متعلق بمحذوف حال والذين خبر إن وجملة كفروا صلة، والجملة كلها استئنافية سيقت بعد شرح أحوال المهلكين من شرار الكفرة للشروع في بيان أحوال الباقين منهم وتفصيل أحكامهم. (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) الفاء الفصيحة وهم مبتدأ وجملة لا يؤمنون خبر، أي لا يتوقع منهم إيمان بعد أن أصروا على الكفر ولجوا فيه. (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) بدل من الذين كفروا فمحله الرفع، أي الذين عاهدتهم من الذين كفروا، وجعلهم شر الدواب لأن شر الناس الكفار، وشر الكفار المصرون منهم، وشر المصرين الذين نكثوا العهود، وجملة عاهدت صلة ومنهم حال. (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) ثم عطف للترتيب مع التراخي وعهدهم مفعول به وفي كل مرة جار ومجرور متعلقان بينقضون والواو عاطفة وهم مبتدأ وجملة لا يتقون خبر. (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) الفاء رابطة لشبه المبتدأ بالشرط لأن الموصول فيه رائحة منه وإن شرطية وما زائدة، وأدغمت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 النون بالميم، وتثقفنهم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وهو في محل جزم فعل الشرط والهاء مفعول به وفي الحرب جار ومجرور متعلقان بتثقفنهم. (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) الفاء رابطة وشرد فعل أمر وبهم جار ومجرور متعلقان بشرد والباء بمعنى السببية أي بسبب تنكيلك بهم، ومن مفعول به لشرد وخلفهم ظرف متعلق بمحذوف صلة، والمعنى انك إذا ظفرت بهؤلاء الكفار الذين نقضوا العهد، فافعل بهم أنماطا من التنكيل تفرق بها جمع كل ناقض للعهد خافر للذمام، حتى يخافك من وراءهم. (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) لعل واسمها وجملة يذكرون خبرها أي لعلهم يتعظون بهم. (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) الواو عاطفة وإن شرطية أدغمت بما الزائدة وتخافن فعل الشرط ولكنه مبني لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره أنت ومن قوم جار ومجرور متعلقان بتخافن وخيانة مفعول به. (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) الفاء رابطة وانبذ فعل أمر وإليهم جار ومجرور متعلقان بانبذ وعلى سواء في موضع الحال من الفاعل والمفعول معا أي فاعل الفعل وهو ضمير النبي ومفعوله وهو المجرور بإلى أي حال كونهم مستوين في العلم بنقض العهد وسيأتي مزيد بحث في هذه الآية العجيبة الأسلوب. (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) إن واسمها وجملة لا يحب الخائنين خبرها، والجملة تعليلية للأمر بالنبذ، والنهي عن مناجزة القتال المدلول عليه بالحال على طريقة الاستئناف. (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) الواو عاطفة ولا ناهية ويحسبن مضارع مبني في محل جزم بلا الناهية والذين كفروا فاعل والمفعول الأول محذوف أي أنفسهم وجملة سبقوا مفعول يحسبن الثاني أي فاتوا عذابه ونجوا منه وان واسمها وجملة لا يعجزون خبرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 البلاغة: فن الاشارة: في قوله تعالى: «وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء» ، فن يقال له: «فن الاشارة» ، وبعضهم يدرجه في باب الإيجاز لأنه متفرع عنه، ولكن قدامة فرعه من ائتلاف اللفظ مع المعنى، وشرحه فقال، هو أن يكون اللفظ القليل دالا على المعنى الكثير حتى تكون دلالة اللفظ على المعنى كالإشارة باليد فإنها تشير بحركة واحدة إلى أشياء كثيرة لو عبّر عنها بأسمائها احتاجت الى عبارة طويلة وألفاظ كثيرة. والفرق بينه وبين الإيجاز أن الإيجاز بألفاظ المعنى الموضوعة له، وألفاظ الاشارة لمحة دالة، فدلالة اللفظ على الإيجاز دلالة مطابقة، ودلالة اللفظ في الإشارة إما دلالة تضمين أو دلالة التزام، فقوله تعالى: «فانبذ إليهم على سواء» تشير الى الأمر بالمقاتلة بنبذ العهد كما نبذوا عهدك، مع ما يدل عليه الأمر بالمساواة في الفعل من العدل، فإذا أضفت الى ذلك ما تشير إليه كلمة خيانة من وجود معاهدة سابقة، تبين لك ما انطوت عليه هذه الإشارات الخفية من دلالات كأنها أخذة السحر. وقد افتن العلماء في بناء حكم الآية، فقالوا: إنه إذا ظهرت آثار نقض العهد ممن هادنهم الإمام من المشركين بأمر ظاهر مستفيض، استغنى الامام عن نبذ العهد وإعلامهم بالحرب، وإن ظهرت الخيانات بأمارات تلوح وتتضح له من غير أمر مستفيض، فحينئذ يجب عليه أن ينبذ إليهم ويعلمهم بالحرب، وأما إذا ظهر نقض العهد ظهورا مقطوعا، فلا حاجة للإمام الى نبذ العهد، بل يفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل مكة لما نقضوا العهد بقتل خزاعة، وهم في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرعهم إلا وجيشه بمر الظهران وذلك على أربعة فراسخ من مكة. فن الاشارة في الشعر: أما فن الاشارة في الشعر فهو شائع في شعرنا العربي كثيرا ومن أطرفه قول بهاء الدين زهير: عفا الله عنكم أين ذاك التودّد؟ ... وأين جميل منكم كنت أعهد؟ بما بيننا لا تنقضوا العهد بيننا ... فيسمع واش أو يقول مفند فقد أشار بما إلى ما لا يحصى من دواعي الهوى، ونوازع الشوق، وجميل قول أبي الطيب المتنبي: لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي ... وللحب ما لم يبق مني وما بقي فقد أشار بما الأولى وما الثانية الى ما لا يخفى مما يلقاه قلبه من الوجد فيما يستأنفه، وما لقيه من قبل ذلك فيما أسلفاه، ومما أحدثه الحب فيه من ندوب سواء ما لم يبقه السقم منه مما أفناه، وما بقي منه مما أنحله وأضناه، ولأبي فراس في الإشارة: وما لك لا تلقى بمهجتك القنا ... وأنت من القوم الذين هم هم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 وما أبدع قول أبي العلاء المعري: منك الصدود ومني بالصّدود رضا ... من ذا عليّ بهذا في هواك قضى بي منك ما لو بعين الشمس ما طلعت ... من الكآبة أو بالبرق ما ومضا أما خالد الكاتب فقد بلغ نهاية الحسن بقوله: رقدت ولم ترث للساهر ... وليل المحب بلا آخر ولم تدر بعد ذهاب الرقا ... د ما فعل الدمع بالناظر [سورة الأنفال (8) : الآيات 60 الى 61] وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) اللغة: (رِباطِ الْخَيْلِ) هي ما يرتبط منها، ورباط الخيل حبسها واقتناؤها قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 فينا رباط جياد الخيل معلمة ... وفي كليب رباط اللؤم والعار وقال الزمخشري: «والرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله، ويجوز أن تسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة، ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال، والمصدر هنا مضاف لمفعوله» . وفي المصباح، ربطه ربطا- من باب ضرب ومن باب قتل- لغة شده، والرباط ما يربط به القربة وغيرها، والجمع ربط مثل كتاب وكتب، ويقال للمصاب: ربط الله على قلبه بالصبر، كما يقال: أفرغ الله عليه الصبر أي ألهمه، والرباط اسم من رابط مرابطة- من باب قاتل- إذا لازم ثغر العدو، والرباط الذي يبنى للفقراء، مولد ويجمع في القياس على ربط بضمتين ورباطات اهـ. ونرى أن المطابق للقوة التي هي الرمي أن يكون الرباط على بابه والله أعلم. (جنح) له وإليه: مال، وجنحت الإبل أمالت أعناقها، والمصدر الجنوح، ويقال: جنح الليل أقبل، قال النضر بن شميل: جنح الرجل إلى فلان ولفلان إذا خضع له، والجنوح الاتباع أيضا لتضمنه الميل، ومنه الجوانح للأضلاع لميلها على حشوة الشخص، والجناح من ذلك لميلانه على الطائر. قال ذو الرمة: إذا مات فوق الرحل أحييت روحه ... بذكراك والعيس المراسيل جنح وقال النابغة: جوانح قد أيقن أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أول غالب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 (السلم) بكسر السين وفتحها الصلح، ففي المصباح: والسلم بكسر السين وفتحها الصلح ويذكر ويؤنث، وقال الزمخشري: والسلم تؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب، قال عباس بن مرداس يخاطب خفاف بن ندبة: السلم تأخذ منها ما رضيت به ... والحرب يكفيك من أنفاسها جرع الإعراب: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) الواو عاطفة وأعدوا فعل أمر والواو فاعل ولهم جار ومجرور متعلقان بأعدوا، والمراد ناقضو العهد كما يقتضيه سياق الكلام أو للكفار مطلقا، وما مفعول به وجملة استطعتم صلة ومن قوة في موضع نصب على الحال من الموصول أو من العائد عليه ومن رباط الخيل عطف عليه. (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) جملة ترهبون حال من فاعل أعدوا أي حال كونكم مرهبين أو حال من مفعول أعدوا وهو الموصول أي حال كونه مرهبا به، وبه متعلق بترهبون وعدو الله مفعول ترهبون وعدوكم عطف على عدو الله وآخرين عطف على عدوكم، والمراد بهم اليهود ومن دونهم صفة لآخرين. (لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) جملة لا تعلمونهم صفة لآخرين والله مبتدأ وجملة يعلمهم خبر والمفعول الثاني محذوف تقديره محاربين. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) الواو استئنافية وما اسم شرط جازم في محل نصب مفعول مقدم لتنفقوا وتنفقوا فعل الشرط ومن شيء حال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 وفي سبيل الله جار ومجرور متعلقان بتنفقوا ويوف جواب الشرط ونائب الفاعل مستتر وإليكم جار ومجرور متعلقان بيوف، وأنتم مبتدأ وجملة لا تظلمون خبر والجملة معطوفة. (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الواو عاطفة وإن شرطية وجنحوا فعل ماض وهو فعل الشرط وللسلم جار ومجرور متعلقان بجنحوا والفاء رابطة واجنح فعل أمر ولها جار ومجرور متعلقان باجنح وتوكل عطف على اجنح وعلى الله متعلق بتوكل، وان واسمها، وهو ضمير فصل والسميع خبر أول والعليم خبر ثان، ويجوز أن يكون هو مبتدأ والسميع العليم خبراه والجملة خبر إنه. الفوائد: بحث في المؤنث اعلم أن العرب قد أنثوا أسماء كثيرة بتاء مقدرة، ويستدل على ذلك التقدير: بالضمير العائد عليها، نحو: «النار وعدها الله الذين كفروا» ، «حتى تضع الحرب أوزارها» ، «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها» . وبالاشارة إليها نحو: «هذه جهنم» . وبثبوت التاء في تصغيرها نحو: أذينة وعيينة مصغر أذن وعين من الأعضاء المزدوجة، فإن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها، وغير المزدوج مذكر كالرأس والقلب. أو بثبوت التاء في فعلها نحو: «ولما فصلت العير» وبسقوطها من عددها كقول حميد الأرقط يصف قوما عربية: أرمي عليها وهي فرع أجمع ... وهي ثلاث أذرع وأصبع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 فأذرع جمع ذراع وهي مؤنثة بدليل سقوط التاء من عددها وهو ثلاث. هذا، والقاعدة المشهورة، هي أنه ما كان من الأعضاء مزدوجا، فالغالب عليه التأنيث إلا الحاجبين والمنخرين والخدين فإنها مذكرة، والمرجع السماع، وعد المنخرين من المزدوج لا ينافي عد الأنف من غيره لأن الأنف اسم للمنخرين معا وكل واحد يسمى منخرا لا أنفا، ومن المزدوج الكف فهي مؤنثة وزعم المبرد أنها قد تذكر وأنشد: ولو كفي اليمين تقيك خوفا ... لأفردت اليمين عن الشمال ولم يقل اليمنى، كذا قال المبرد، وهو وهم لأن اليمين مؤنثة بمنزلة اليمنى. وقال ابن يسعون: ذكر حملا على العضو ثم رجع الى التأنيث، فقال: تقيك. وما كان من الأعضاء غير مزدوج فالغالب عليه التذكير، ومن غير الغالب اللسان والقفا فإنهما قد يؤنثان. [سورة الأنفال (8) : الآيات 62 الى 64] وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 اللغة: (حَسْبَكَ) الحسب: بسكون السين الكفاية، يقال حسبك درهم، وتزاد عليه الباء فيقال بحسبك درهم أي كفايتك، وهذا رجل حسبك من رجل، وزيد صديقي فحسبي، أو فحسب، أي يكفيني ويغني عن غيره، وقال جرير: إني وجدت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا فإذا تذوكرت المكارم مرة ... في مجلس أنتم به فتقنعوا الإعراب: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ) الواو عاطفة وإن شرطية ويريدوا فعل الشرط والواو فاعل، وأن وما في حيزها مصدر مفعول به، فإن الفاء رابطة وإن واسمها وخبرها والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط. (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة أيدك صلة وبنصره جار ومجرور متعلقان بأيدك وبالمؤمنين عطف على بنصره. (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) وألف عطف على أيدك وبين ظرف متعلق بألف وقلوبهم مضاف اليه. (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) لو شرطية وأنفقت فعل وفاعل وما مفعول به وفي الأرض صفة وجميعا حال وما نافية وألفت فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم. (وَلكِنَّ اللَّهَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الواو عاطفة أو استئنافية ولكن واسمها وجملة ألف بينهم خبر لكن وإن واسمها وخبراها والجملة تعليلية. (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) حسبك خبر مقدم والله مبتدأ مؤخر أو بالعكس ومن عطف على الله وجملة اتبعك صلة ومن المؤمنين حال. والمعنى حسبك الله وحسبك المؤمنين، أي كافيك الله وكافيك المؤمنون ويحتمل أن تكون بمعنى مع وما بعده منصوب، كما تقول: حسبك وزيدا درهم، والمعنى كافيك وكافي المؤمنين الله، لأن عطف الظاهر على المضمر في مثل هذه الصورة ممتنع كما تقرر في علم النحو، وأجازه الكوفيون، قال الفراء: ليس بكثير في كلامهم أن تقول: حسبك وأخيك، بل المستعمل أن يقال: حسبك وحسب أخيك، بإعادة الجار فلو كان قوله ومن اتبعك مجرورا لقيل: حسبك الله وحسب من اتبعك، واختار النصب على المفعول معه النحاس. الفوائد: حسب: قال أبو حيان: وحسبك مبتدأ مضاف الى الضمير وليس مصدرا ولا اسم فاعل. قال سيبويه: «قالوا حسبك وزيدا درهم لما كان فيه من معنى كفاك وقبح أن يحملوه على المضمر نووا الفعل كأنه قال: حسبك وبحسب أخاك درهم ولذلك كفيك» كفيك وهو من كفاه يكفيه، وكذلك قطك تقول: كفيك وزيدا درهم، وقطك وزيدا درهم، وليس هذا من باب المفعول معه وإنما جاء سيبويه به حجة للحمل على الفعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 للدلالة. فحسبك يدل على كفاك ويحسبني مضارع أحسبني فلان إذا أعطاني حتى أقول حسبي. فالناصب في هذا فعل يدل عليه المعنى، وهو في: كفيك وزيدا درهم. أوضح لأنه مصدر للفعل المضمر أي ويكفي زيدا. وفي قطك وزيدا درهم التقدير فيه أبعد، لأن قطك ليس في الفعل المضمر شيء من لفظه، إنما هو مفسر من حيث المعنى فقط. وفي ذلك الفعل المضمر فاعل يعود على الدرهم، والنية بالدرهم التقديم، فيصير من عطف الجمل، ولا يجوز أن يكون من باب الإعمال لأن طلب المبتدأ للخبر وعمله فيه ليس من قبيل طلب الفعل أو ما جرى مجراه ولا عمله، فلا يتوهم ذلك فيه. وقال الزجاج: «حسب اسم فعل والكاف نصب والواو بمعنى مع» ، فعلى هذا يكون الله فاعلا لحسبك، وعلى هذا التقدير يجوز في: ومن أن يكون معطوفا على الكاف لأنها مفعول باسم الفعل لا مجرور، لأن اسم الفعل لا يضاف، إلا أن مذهب الزجاج خطأ لدخول العوامل على حسبك، تقول: بحسبك درهم وقال تعالى: «فإن حسبك الله» ولم يثبت كونه اسم فعل في مكان فيعتقد فيه أنه يكون اسم فعل واسما غير اسم فعل كرويد. [سورة الأنفال (8) : الآيات 65 الى 66] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 اللغة: (حَرِّضِ) التحريض في اللغة: المبالغة في الحث على الأمر من الحرض، وهو أن ينهكه المرض ويتبالغ فيه حتى يشفي على الموت، أو أن تسميه حرضا وتقول له: ما أراك إلا حرضا في هذا الأمر ومحرضا فيه ليهيجه ويحرّك منه، ويقال: حركه وحرضه وحرصه وحرشه وحربه بمعنى، وفي المصباح: حرض حرضا- من باب تعب- أشرف على الهلاك، فهو حرض بفتح الراء تسمية بالمصدر مبالغة، وحرضته على الشيء تحريضا. وفي المختار: والتحريض على القتال الحث والاحماء عليه. الإعراب: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) حرض فعل أمر وفاعله أنت والمؤمنين مفعول به وعلى القتال جار ومجرور متعلقان بحرض. (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) إن شرطية ويكن فعل الشرط ومنكم خبر يكن المقدم وعشرون اسمها المؤخر وصابرون صفة ويغلبوا جواب الشرط ومئتين مفعول به، ويجوز أن تعرب يكن هنا تامة فيكون عشرون فاعلا ومنكم حال. (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) عطف على ما تقدم والإعراب مماثل ومن الذين كفروا صفة ل «ألفا» . (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) بأنهم جار ومجرور متعلقان بيغلبوا والباء للسببية وأن واسمها وقوم خبرها وجملة لا يفقهون صفة ل «قوم» . (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ) الآن ظرف متعلق بخفف والله فاعل وعنكم متعلق بخفف. (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) عطف على خفف وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي علم وفيكم خبر أن المقدم وضعفا اسمها المؤخر. (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) فيها ما تقدم من الإعراب. (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ) عطف على ما تقدم. (بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) بإذن الله جار ومجرور متعلقان بيغلبوا والله مبتدأ ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر والصابرين مضاف إليه. [سورة الأنفال (8) : الآيات 67 الى 69] ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) اللغة: (يُثْخِنَ) في المصباح «أثخن في الأرض إثخانا سار الى العدو وأوسعهم قتلا، وأثخنته أو هنته بالجراحة وأضعفته» وأثخنه المرض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 إذا أثقله، من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة، والمعنى حتى يذل الكفر ويضعفه بإشاعة القتل في أهله، ويعز الإسلام ويقويه بالاستيلاء والقهر ثم الأسر بعد ذلك. (عَرَضَ الدُّنْيا) حطامها، سمي بذلك لأنه قليل اللبث يريد الفداء، وقد سمى المتكلمون الأعراض أعراضا لأنها لا ثبات لها، فإنها تطرأ على الأجسام ثم تزول عنها. الإعراب: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) ما نافية وكان فعل ماض ناقص ولنبي خبر مقدم وأن وما في حيزها اسمها ويجوز أن تكون تامة بمعنى ما حصل وما استقام فيتعلق الجار والمجرور بها وتكون أن وما في حيزها فاعلا لها. ويكون وخبرها المقدم واسمها المؤخر. (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) حتى حرف غاية وجر ويثخن فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بيثخن. (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) الجملة استئنافية وعرض الدنيا مفعول تريدون. (وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الواو استئنافية أو عاطفة والله مبتدأ وجملة يريد الآخرة خبر، والله مبتدأ وعزيز خبر أول وحكيم خبر ثان. (لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) لولا حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط وكتاب مبتدأ محذوف الخبر ومن الله نعت لكتاب وكذا سبق والخبر محذوف تقديره موجود ولمسكم اللام واقعة في جواب لولا ومسكم فعل ومفعول به وفيما جار ومجرور متعلقان بمسكم أي: بسبب ما أخذتم وما مضافة وأخذتم صلة وعذاب فاعل وعظيم صفة. (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 غَفُورٌ رَحِيمٌ) الفاء الفصيحة أي ما دمت قد أبحت لكم الغنائم فكلوا، وكلوا فعل أمر وفاعل ومما جار ومجرور متعلقان بكلوا وجملة غنمتم صلة وحلالا نصب على الحال من المغنوم أو صفة للمصدر أي أكلا حلالا، واتقوا عطف على كلوا ولفظ الجلالة مفعول به وإن واسمها وخبراها. البلاغة: حسن التعليل: في قوله تعالى: «لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم» فن يدعى «فن التعليل» ، وهو أن يريد المتكلم ذكر حكم واقع أو متوقع، فيقدم قبل ذكره علة وقوعه لكون رتبة العلة التقدم على المعلول، وسبق الكتاب من الله تعالى هو العلة في النجاة من العذاب. هذا وبالنسبة للعلة والوصف المعلل ينقسم هذا الفن الى أربعة أقسام: 1- ثابت ظاهر العلة ولكنها مخالفة للعلة الأصلية ومثاله قول ابن المعتز: قالوا: اشتكت عينه، فقلت لهم: ... من كثرة القتل نالها الوصب حمرتها من دماء من قتلت ... والدم في السيف شاهد عجب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 فإن العلة الحقيقية في حمرة العين هي الرمد وهي ظاهرة تركها الشاعر، وعلل بعلة غير حقيقية وهي: أن حمرتها من دماء من قتلت من العشاق. 2- ثابت خفي العلة كقول أبي الطيب المتنبي: لم يحك نائلك السحاب وإنما ... حمّت به فصبيبها الرّحضاء يعني أن السحاب لم يحك نائلك، أي عطاءك، وإنما صارت محمومة بسبب نائلك وتفوقه عليها، فالمصبوب منها هو عرق الحمى، فنزول المطر من السحاب صفة ثابتة لا يظهر لها في العادة، وقد علله بأنه عرق حماها الحادثة بسبب عطاء الممدوح. 3- ثابت وهو متمكن كقول مسلم بن الوليد المعروف بصريع الغواني: يا واشيا حسنت فينا إساءته ... نجى حذارك إنساني من الغرق فاستحسان إساءة الواشي وصف غير ثابت إلا أنه ممكن، وقد خالف الناس في استحسانها معللا بأن حذره من الواشي كان سببا لسلامة إنسان عينه من الغرق في الدموع حيث ترك البكاء خوفا منه. 4- القسم الرابع ليس بثابت ولا ممكن كقول الشاعر: لو لم تكن نية الجوزاء خدمته ... لما رأيت عليها عقد منتطق فنسبة النية الى الجوزاء غير ثابتة ولا ممكنة، فإن الارادة لا تكون إلا من حي، والجوزاء جماد ليس فيه حياة ولا إرادة لها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 ولا نية وقد نسب الشاعر ذلك إليها وعلله بأمارة الخدمة وهي عقد النطاق. لأن الجوزاء صورتها صورة شخص قد انتطق. والنطاق الزنار وكل ما يشد به الوسط. وواضح أن الآية الكريمة ليست داخلة في نطاق هذه الأقسام الأربعة التي لا تخلو من تكلف. وإنما هي من مطلق التعليل لحكم من الأحكام. [سورة الأنفال (8) : الآيات 70 الى 72] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 الإعراب: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) لمن متعلقان بقل وفي أيديكم صلة لمن ومن الأسرى حال. (إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) إن شرطية ويعلم فعل الشرط والله فاعل وفي قلوبكم مفعول به ليعلم وخيرا مفعول به ثان والجملة الشرطية مقول القول. (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يؤتكم جواب الشرط والكاف مفعول به أول وخيرا مفعول به ثان ومما متعلقان ب «خيرا» وجملة أخذ صلة ومنكم متعلقان بأخذ ويغفر لكم عطف على يؤتكم والله مبتدأ وغفور خبر أول ورحيم خبر ثان. (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ) الواو عاطفة وإن شرطية ويريدوا فعل الشرط والواو فاعل وخيانتك مفعول به والفاء رابطة للجواب وقد حرف تحقيق وخانوا الله فعل وفاعل ومفعول به ومن قبل متعلقان بخانوا وبنيت قبل على الضم لانقطاعها عن الاضافة لفظا لا معنى أي قبل بدر بالكفر. (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الفاء عاطفة وأمكن فعل ماض وفاعل مستتر ومنهم متعلقان بأمكن ومفعول أمكن محذوف أي أمكنك منهم والله مبتدأ وخبراه. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ان واسمها وجملة آمنوا صلة وما بعده من الأفعال عطف عليه. (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) والذين عطف على الذين وجملة آووا صلة ونصروا عطف على آووا وأولئك مبتدأ وبعضهم مبتدأ ثان وأولياء بعض خبره والمبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول وجملة أولئك ... إلخ خبر إن. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) والذين عطف جملة على جملة، والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة ولم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 يهاجروا عطف على آمنوا، أو الواو حالية، ما نافية ولكم خبر مقدم ومن ولايتهم حال لأنه كان في الأصل صفة لشيء. ومن حرف جر زائد وشيء مبتدأ مؤخر محلا وجملة ما لكم خبر الذين وحتى حرف غاية وجر ويهاجروا منصوب بأن مضمرة بعد حتى والجار والمجرور متعلقان بما في النفي من معنى الفعل أي ابتغت ولايتك عليهم الى هجرتهم. (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) الواو عاطفة وإن شرطية واستنصروكم فعل وفاعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط وفي الدين جار ومجرور متعلقان باستنصروكم والفاء رابطة وعليكم خبر مقدم والنصر مبتدأ مؤخر والجملة في محل جزم جواب الشرط. (إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) إلا أداة استثناء وعلى قوم جار ومجرور متعلقان بالمستثنى المحذوف أي: إلا النصر على قوم وبينكم ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وبينهم عطف على بينكم وميثاق مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صفة لقوم، أي فهؤلاء القوم لا تنصروهم عليهم وتنقضوا العهد، والله مبتدأ وبصير خبره وبما تعملون متعلقان ببصير. [سورة الأنفال (8) : الآيات 73 الى 75] وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 الإعراب: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) الواو عاطفة والذين مبتدأ وكفروا صلة وبعضهم مبتدأ ثان وأولياء خبر بعضهم والجملة خبر الذين، ويجوز أن يكون بعضهم بدلا من اسم الاشارة، والخبر أولياء بعض (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) إن شرطية ولا زائدة وتفعلوه فعل مضارع وفاعل ومفعول به وهو فعل الشرط وتكن جواب الشرط وهي تامة وفتنة فاعل أي تحصل فتنة وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بتكن وفساد عطف على فتنة وكبير صفة لفتنة. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الذين مبتدأ وآمنوا صلة وما بعده عطف عليه. (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) عطف على الذين آمنوا (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان والمؤمنون خبر أولئك أو خبر «هم» والجملة خبر أولئك وحقا مفعول مطلق (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) لهم خبر مقدم ومغفرة مبتدأ مؤخر ورزق عطف على مغفرة وكريم صفة. (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ) الذين مبتدأ وآمنوا صلة وما بعده عطف عليه. (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) الفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط واسم الاشارة مبتدأ ومنكم خبره. (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ) أولو مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم والأرحام مضاف اليه وبعضهم مبتدأ وأولى خبره وببعض جار ومجرور متعلقان بأولى وفي كتاب الله خبر لمبتدأ محذوف أي هذا الحكم المذكور في كتاب الله. (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) إن واسمها وبكل شيء متعلق بعليم وعليم خبر إن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 (9) سورة التوبة مدنية إلا الآيتين الأخيرتين فمكيتان وآياتها مائة وتسع وعشرون تمهيد لا بد منه: لهذه السورة عدة أسماء وهي: براءة، التوبة، المقشقشة، المبعثرة، المشردة، المخزية، الفاضحة. المثيرة، الحافرة، المدمدمة، سورة العذاب، المنكلة، البحوث بفتح الباء وكلها ترجع الى معنى واحدة ففيها توبة على المؤمنين. والتبرئة من النفاق، والبحث عن حال المنافقين وإثارة حالهم والحفر عنها أي البحث. وما يخزيهم ويفضحهم وينكلهم، ويشردهم ويدمدم عليهم أي يهلكهم. ولم تبدأ بالبسملة لأسباب خمسة ذكرها القرطبي في تفسيره الكبير ولا مجال لا يرادها، وقال الجلال: لم تكتب فيها البسملة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك كما يؤخذ من حديث رواه الحاكم، وأخرج في معناه عن علي أنّ البسملة أمان، وهي نزلت لرفع الأمن بالسيف. وعن حذيفة: إنكم تسمونها سورة التوبة وهي سورة العذاب. وروى البخاري عن البراء: أنها آخر سورة نزلت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 [سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 3] بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) اللغة: (فَسِيحُوا) السياحة: السير، يقال ساح في الأرض يسيح سياحة وسيوحا وسيحانا، ومنه سيح الماء في الأرض، وسيح الخيل، ومنه قول طرفة بن العبد: لو خفت هذا منك ما فلتني ... حتى ترى خيلا أمامي تسيح الإعراب: (بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) براءة خبر لمبتدأ محذوف أي هذه براءة ومن الله صفة لبراءة فهي لابتداء الغاية متعلقة بمحذوف صفة لبراءة وليست متعلقة بالبراءة كما في قولك: برئت من الذنب والدين، والمعنى هذه براءة واصلة من الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 ورسوله، والى الذين متعلق بمتعلق من أي واصلة الى الذين، ويجوز أن تكون براءة مبتدأ وساغ الابتداء بها لتخصيصها بالصفة والى الذين خبرها كما تقول: رجل من تميم في الدار، ومن المشركين حال، قال المفسرون: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف، وجعل المشركون ينقضون عهودهم. وذلك قوله تعالى «وإما تخافن من قوم خيانة» الآية. ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمر به ونبذ لهم عهودهم، قال الزجاج: أي قد برىء الله ورسوله من وفاء عهودهم إذا نكثوا، وسيأتي في باب الفوائد ما يرويه التاريخ. (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) الفاء الفصيحة وجملة سيحوا مقول قول محذوف أي فقولوا أيها المسلمون للمشركين سيحوا وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بسيحوا وأربعة أشهر ظرف زمان متعلق بسيحوا والمراد بالأشهر الأربعة: شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وقيل: هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من ربيع الآخر. (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ) الواو حرف عطف واعلموا فعل أمر والواو فاعل وان وما في حيزها سدت مسد مفعولي اعلموا وأن واسمها وغير معجزي خبرها والله مضاف اليه. (وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) وأن عطف على أنكم والله اسمها ومخزي الكافرين خبرها. (وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) ارتفاع أذان كارتفاع براءة على الوجهين والجملة معطوفة على مثلها، والأذان الإعلام بمعنى الإيذان، ومن الله صفته أو متعلق به وإلى الناس الخبر ويوم الحج الأكبر ظرف متعلق بما تعلق به الى الناس. (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) بفتح همزة أن وفيه وجهان: أحدهما خبر أذان والثاني هو صفة أي وأذان كائن بالبراءة، وقيل التقدير وإعلام من الله بالبراءة، فالباء متعلقة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 بنفس المصدر وأن واسمها وخبرها ومن المشركين جار ومجرور متعلقان ببريء، ورسوله فيه أوجه: أحدها أنه مبتدأ والخبر محذوف أي ورسوله بريء منهم وإنما حذف لدلالة الأول عليه وهذا أصح الأوجه، وقيل: هو معطوف على محل اسم أن أو معطوف على الضمير المستتر في الخبر. وسيأتي ما في هذه الآية من أبحاث تتعلق بالنحو في باب الفوائد. (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) الفاء عاطفة أو استئنافية وإن شرطية وتبتم فعل ماض وفاعل وهو في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة وهو مبتدأ وخير خبره ولكم جار ومجرور متعلقان بخير. (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ) وإن توليتم عطف على إن تبتم وأنكم أن واسمها وقد سدت مسد مفعولي اعلموا وغير خبر أن ومعجزي الله مضاف إليه. (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) الواو عاطفة وبشر فعل أمر وفاعل مستتر والذين مفعول به وجملة كفروا صلة وبعذاب جار ومجرور متعلقان ببشر وأليم نعت. الفوائد: 1- ما يقوله التاريخ في معاهدة الحديبية: عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا يوم الحديبية، على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، ودخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، ثم عدت بنو بكر على خزاعة فنالوا منهم وأعانتهم قريش بالسلاح، فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا عهدهم، خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنشد: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 لا هم إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ذمامك المؤكدا هم بيّتونا بالحطيم هجّدا ... وقتلونا ركّعا وسجدا فقال عليه الصلاة والسلام: لا نصرت إن لم أنصركم، وتجهز الى مكة. ففتحها سنة ثمان من الهجرة، فلما كانت سنة تسع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحج فقيل له: المشركون يحضرون ويطوفون بالبيت عراة، فقال لا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك، فبعث أبا بكر تلك السنة أميرا على الموسم ليقيم للناس الحج، وبعث معه أربعين آية من صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم، ثم بعث بعده عليا على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر براءة، وأمره أن يؤذن بمكة ومنى وعرفة: أن قد برئت ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل شرك، ولا يطوف بالبيت عريان، فرجع أبو بكر فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شيء فقال: لا، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي، أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وأنك معي على الحوض؟ فقال: بلى يا رسول الله، فسار أبو بكر أميرا على الحاج، وعلي بن أبي طالب يؤذن ببراءة، فلما كان قبل يوم التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس وحدثهم عن مناسكهم، وأقام للناس الحج، والعرب في تلك السنة على معاهدهم التي كانوا عليها في الجاهلية من أمر الحج، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن في الناس بالذي أمر به وقرأ عليهم أول سورة براءة. وقال يزيد بن تبيع: سألنا عليا بأي شيء بعثت في الحجة؟ قال: بعثت بأربع: لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي عهد فهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 إلى مدته ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا في الحج، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر حجة الوداع. سبب وضع علم النحو: جيء الى عمر بن الخطاب برجل يقرأ: «إن الله بريء من المشركين ورسوله» بالجر، فسأله، فقال: هكذا قرأت في المدينة، فقال عمر: ليس هكذا، إنما هي ورسوله، بضم اللام، فإن الله لا يبرأ من رسوله ثم أمر أن لا يقرأ القرآن إلا عالم بالعربية، ودعا بأبي الأسود الدؤلي فأمره أن يضع النحو. فمقتضى هذه الرواية أن هذا العلم لم يكن معروفا قبل أبي الأسود، وأن كلام الناس قبله إنما كان بمجرد الفطرة وهو المعهود. هذا وقد اشتهر أن أبا الأسود الدؤلي هو أول من وضع علم النحو قالوا: انه سمع ابنته يوما تلحن فذهب الى علي بن أبي طالب، فقال له: فشا اللحن في أبنائنا وأخشى أن تضيع اللغة فقال له الامام: اكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم الكلام كلّه ثلاثة: اسم وفعل وحرف، فالاسم كذا والفعل كذا والحرف كذا، والأسماء ثلاثة: ظاهر ومضمر ومبهم، والفاعل مرفوع أبدا، والمفعول منصوب أبدا، والمضاف مجرور أبدا، فافهم وقس، وما عنّ لك من الزيادة فاضممه. ولكن قال السيوطي في المزهر: إن العروض والنحو كانا قديمين وأتت عليهما الأيام فقلّا في أيدي الناس، فجدّدهما الخليل وأبو الأسود، واستدل على قدم العروض بما بسطه هناك، وعلى قدم النحو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 بما منه: كتابة المصحف على الوجه الذي يعلله النحاة في ذوات الواو والياء والهمز والمدّ والقصر، فكتبوا ذوات الياء بالياء وذوات الواو بالألف. ونحن نؤيد هذا الرأي الطريف للسيوطي.. مستدلين بما يلي: 1- تبيين علي بن أبي طالب لأبي الأسود جملا من القواعد الاصطلاحية السابقة، إذ كون ذلك ألهمه الإمام خاصة بعيد، ويبعده أيضا قوله لأبي الأسود: وما عنّ لك من الزيادة فاضممه إليه، أي مما كان كهذه الضوابط، فهذا صريح أو كالصريح في أن هذا العلم كان معروفا بينهم أو بين أفراد منهم لا مجرد صحة النطق سليقة. 2- قول عمر بن الخطاب: «لا يقرأ القرآن إلا عالم باللغة العربية» فإن المتبادر منه قواعدها وأصولها التي بها يعرف وجوه الكلام بمعونة المقام، إذ لو كان المراد مجرد المتكلمين بالصواب لزم منع كل عجمي منه، ولم يكن وجه للتخصيص بالعالم باللغة بالنظر الى العرب إذ القوم جميعا أعراب معتدلو الألسنة بالسليقة، وتجويزه القرآن لمن كان عارفا دون غيره صريح في أن منهم عارفين باللغة ومنهم جاهلين بها، فيلزم أن يكون معرفة العارفين قدرا زائدا على ما عند غيرهم، وليس إلا القواعد والضوابط. 3- إنه حيث كان علم العروض واصطلاحاته معلوما لدى بعض العرب كما صرح به الوليد بن المغيرة إذ قال في القرآن لما قيل انه شعر: لقد عرضته على هزجه ورجزه فلم أره يشبه شيئا من ذلك، والشعر لم بكن إلا لأفراد من العرب، فلأن تكون قواعد العربية التي هي لسانهم جميعا معلومة عند البعض أولى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 [سورة التوبة (9) : الآيات 4 الى 5] إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) اللغة: (المرصد) اسم مكان للموضع الذي يقعد فيه العدو أو يمر به أو يجتازه فهو كممر ومجتاز، وهو من رصدت الشيء إذا ترقبته. الإعراب: (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في هذا الاستثناء وجهان: أحدهما أنه منقطع أي لكن الذين عاهدتم فإن حكمهم كذا وكذا فالذين مبتدأ خبره جملة فأتموا، والثاني أنه متصل فهو مستثنى من المشركين في قوله تعالى «براءة من الله ورسوله» - الى- «الذين عاهدتم من المشركين» وهم بنو ضمرة حي من كنانة، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بإتمام عهدهم الى مدتهم وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 وكان السبب فيه أنهم لم ينقضوا العهد، والمعنى على كل حال. لا تجروا البريء مجرى المذنب والوافي مجرى الغادر، وجملة عاهدتم صلة ومن المشركين حال. (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ولم حرف نفي وقلب وجزم وينقصوكم مجزوم بلم وشيئا إما مفعول ثان لنقص لأنه يتعدى لواحد ولاثنين وإما مصدر مفعول مطلق أي شيئا من النقصان أو لا قليلا ولا كثيرا من النقصان، ولم يظاهروا عطف على لم ينقصوكم وعليكم جار ومجرور متعلقان بيظاهروا وأحدا مفعول به أي لم يعاونوا عليكم عدوا كما عدت بنو بكر على خزاعة وقد تقدمت قصتها. (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الفاء عاطفة أتموا فعل أمر والواو فاعل وإليهم جار ومجرور متعلقان بأتموا وعهدهم مفعول به وإلى مدتهم بدل من إليهم وإن واسمها وجملة يحب المتقين خبرها. (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) الفاء عاطفة أو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة انسلخ مضافة للظرف والأشهر فاعل والحرم صفة وقد تقدم أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وهي التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا. (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) الفاء رابطة واقتلوا المشركين فعل أمر وفاعل ومفعول به وحيث ظرف متعلق باقتلوا وجملة وجدتموهم مضافة للظرف. (وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) وخذوهم عطف على اقتلوا أي واسروهم واحصروهم عطف أيضا أي قيدوهم وامنعوهم من التجوال في البلاد، واقعدوا عطف أيضا ولهم متعلقان باقعدوا وكل مرصد نصب على الظرف كقوله: «لأقعدن لهم صراطك المستقيم» وهو اختيار الزجاج واختار بعضهم أن يكون منصوبا بنزع الخافض. والخافض المقدر هو «على» أو «الباء الظرفية» أو «في» ويجوز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 أن يعرب مفعولا مطلقا كأنه قيل وارصدوهم كل مرصد. وقد خطّأ أبو علي الفارسي الزجاج في جعله ظرفا. (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) الفاء استئنافية وإن شرطية وتابوا فعل وفاعل في محل جزم فعل الشرط وأقاموا الصلاة عطف على تابوا وكذلك قوله: وآتوا الزكاة، فخلوا الفاء رابطة وخلوا فعل أمر وفاعل وسبيلهم مفعول به. (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سبق إعرابها. [سورة التوبة (9) : الآيات 6 الى 10] وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 اللغة: (الإلّ) اختلف اللغويون والمفسرون في هذه الكلمة اختلافا شديدا. قال في أساس البلاغة: «لا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة» أي قرابة، وفي القاموس وشروحه: الإلّ العهد والجار والأصل الجيد والعداوة والحقد، وقال أبو عبيدة: إن المراد به العهد، وقال الفراء: إن المراد به القرابة، وقال آخرون: إن الإل هو الجؤار وهو رفع الصوت عند التحالف، وذلك أنهم كانوا إذا تحالفوا جأروا بذلك جؤارا، وقيل هو من أل البرق إذ لمع، ويجمع الإل في القلة على آلّ، والأصل أألل بزنة أفلس فأبدلت الهمزة الثانية ألفا لكونها بعد أخرى مفتوحة وأدغمت اللام في اللام، وأنشد لحسان بن ثابت: لعمرك إن إلّك من قريش ... كإلّ السقب من رأل النعام وهذا صريح في أن معناه: القرابة، والسقب خوار الناقة، والرأل ولد النعام، ومعنى البيت: وحياتك إن قرابتك من قريش بعيدة أو معدومة كقرابة ولد الناقة من ولد النعام. وقال الزجاج: «الإل عندي على ما توجبه اللغة يدور على معنى الحدة، ومنه الألة للحربة، ومنه أذن مؤللة أي محددة، ومنه قول طرفة بن العبد يصف أذني ناقته بالحدة والانتصاب: مؤللتان تعرف العتق فيهما ... كسامعتي شاة بحومل مفرد الإعراب: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) الواو استئنافية وإن شرطية وأحد مرتفع بفعل الشرط مضمرا يفسره الظاهر تقديره: وإن استجارك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 أحد استجارك ولا يرتفع بالابتداء لأن الشرط يقتضي الفعل وإن من عوامل الفعل لا تدخل على غيره، والمعنى وإن جاءك أحد من المشركين لا عهد بينك وبينه فاستأمنك فأمنه، ومن المشركين صفة وجملة استجارك مفسرة (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ) الفاء رابطة وأجره فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وحتى حرف غاية وجر ويسمع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والجار والمجرور متعلقان بأجره وكلام الله مفعول به. (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) ثم حرف عطف وأبلغه فعل أمر ومفعول به أول ومأمنه مفعول به ثان. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) ذلك مبتدأ أي ذلك الأمر يعني الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن. وبأنهم خبر وقوم خبر إن وجملة لا يعلمون صفة. (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) هذا تركيب تجوز فيه أعاريب عديدة متساوية في الأرجحة: فكيف اسم استفهام في معنى الاستنكار والاستبعاد خبر مقدم ليكون وعهد اسم يكون مؤخر وللمشركين حال ويجوز أن يكون الخبر للمشركين وكيف حال. ويجوز أن يكون قوله عند الله هو الخبر وكيف حال أيضا من العهد أما في الوجهين السابقين فتكون عند ظرفا للعهد وعند رسوله عطف على عند الله. (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) تقدم القول في مثل هذا الاستثناء وأنه يجوز فيه الانقطاع والاتصال. (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الفاء استئنافية وما مصدرية ظرفية وهي في محل نصب على الظرف أي فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم ويجوز أن تكون شرطية وحينئذ ففي محلها وجهان أولهما: النصب على الظرفية الزمانية والتقدير أي زمان استقاموا لكم فاستقيموا لهم، ونظره أبو البقاء بقوله تعالى: «ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها» والثاني أنها في محل رفع مبتدأ وفي الخبر القول المشهور في خبر أداة الشرط، واستقاموا فعل ماض في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 محل جزم فعل الشرط إن اعتبرت شرطية والفاء رابطة على كل حال واستقيموا فعل أمر وفاعل. هذا وقد أجاز ابن مالك في ما المصدرية الزمانية أن تكون شرطية جازمة في وقت واحد قال أبو البقاء ولا يجوز أن تكون نافية لفساد المعنى إذ يصير المعنى استقيموا لهم لأنهم لم يستقيموا لكم وذلك باطل وإن الله إن واسمها وجملة يحب المتقين خبرها. (كَيْفَ؟ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) كيف تكرار لما تقدم لاستبعاد ثبات المشركين على العهد وحذف الفعل لكونه معلوما أي فهو حال أو خبر كان المحذوفة وقد ورد هذا الحذف في أشعارهم، قال كعب الغنوي يرثي أخاه: وخبر تماني انما الموت بالقرى ... فكيف وهاتا هضبة وقليب أي كيف مات أخي فيها، والقليب البئر لأنه قلب ترابه من بطن الأرض الى ظهرها. وإن الواو للحال وإن شرطية ويظهروا فعل الشرط وعليكم جار ومجرور متعلقان به ولا يرقبوا جواب الشرط وفيكم متعلقان بيرقبوا وإلّا مفعول به وذمة عطف عليه. (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) جملة مستأنفة مسوقة لوصف حالهم من مغايرة ظاهرهم لباطنهم، بأفواههم جار ومجرور متعلقان بيرضونكم وتأبى قلوبهم عطف عليه أي أن كلامهم مزوق مزخرف قد يروق سامعه ولكنه لا ينطوي على أي صدق لأن الضغن الساكن في قلوبهم يمنعهم من تحقيق كلامهم المعمول، وأكثرهم مبتدأ وفاسقون خبر أي أنهم خلعاء فجرة لا يأبهون لمعرة ولا يعبئون بما يقال فيهم من سيء الأحدوثة. (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا) أي استبدلوا بآيات الله ثمنا قليلا وهو انسياقهم مع الأهواء وانجرارهم مع الشهوات والآثام، وثمنا مفعول اشتروا وقليلا صفة. (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) يجوز في ساء أن يكون على بابه من التصرفه والتعدي فتكون ما فاعلا والمفعول به محذوف أي ساءهم الذي كانوا يعملونه أو عملهم إذا جعلت ما مصدرية، ويجوز أن يكون جاريا مجرى بئس فيحول الى فعل بالضم ويمتنع تصرفه ويصير للذم ويكون المخصوص بالذم محذوفا وقد سبق تقرير ذلك. (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) تقدم اعراب نظيرها وكررها زيادة في تقبيح حالهم واستهجان مآلهم. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) تقدم أيضا ويجوز أن يكون هم ضمير فصل أو مبتدأ ثانيا. [سورة التوبة (9) : الآيات 11 الى 12] فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) الإعراب: (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) الفاء استئنافية وإن شرطية وتابوا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة والجملتان عطف على تابوا. (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) الفاء رابطة وإخوانكم خبر لمبتدأ محذوف أي فهم إخوانكم وفي الدين حال والجملة الاسمية في محل جزم على أنها جواب الشرط (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الواو اعتراضية والجملة معترضة كأنه قيل: وإن من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 تأمل بتفصيلها فهو العالم بحقيقتها ولقوم جار ومجرور متعلقان بنفصل وجملة يعلمون صفة (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) الواو عاطفة ومن بعد عهدهم حال وطعنوا في دينكم عطف أيضا أي وثلبوه وعابوه والجار والمجرور متعلقان بطعنوا. (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) الفاء رابطة وقاتلوا فعل أمر وفاعل وأئمة الكفر مفعول به، انهم ان واسمها ولا نافية للجنس وأيمان اسمها ولهم خبرها والجملة خبر انهم، ولعل واسمها وجملة ينتهون خبرها. [سورة التوبة (9) : الآيات 13 الى 15] أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) الإعراب: (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) ألا حرف تحضيض وستأتي أحرف التحضيض في باب الفوائد. وتقاتلون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وقوما مفعول به وجملة نكثوا أيمانهم صفة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 قوما ويجوز أن تكون الهمزة للاستفهام ولا نافية ودخلت الهمزة عليها تقريرا لنفي المقاتلة والحض عليها من جهة أخرى (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) عطف على نكثوا وبإخراج متعلقان بهموا وقد تقدم أنهم هموا بأحد أمور ثلاثة: قتله وحبسه وإخراجه (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الواو عاطفة وهم مبتدأ وجملة بدءوكم خبر وأول مرة نصب على الظرف متعلق ببدءوكم والبادئ أظلم. (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الهمزة للاستفهام ومعناها النهي أي لا تخشوهم فالله الفاء الفصيحة والله مبتدأ وأحق خبر وان تخشوه المصدر المؤول بدل اشتمال من الله أي خشية الله أحق وإن شرطية وكنتم فعل الشرط ومؤمنين خبر كنتم وجواب الشرط محذوف دلت عليه الفاء الفصيحة. (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ) قاتلوهم فعل أمر وفاعل ومفعول به ويعذبهم جواب الطلب جزم به وهو واحد من خمسة أجوبة ستأتي وهي: (وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) وجميعا معطوفة على يعذبهم (وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الواو استئنافية ويتوب جملة مستأنفة ولم ينسقها على الأجوبة المتقدمة لأن توبة الله عن من يشاء ليست جزاء على قتال الكفار. الفوائد: 1- حروف التحضيض هي: لولا ولو ما وهلا وألا. قال الله تعالى: «لولا أخرتني إلى أجل قريب» وقال: «لو ما تأتينا بالملائكة» وقال عنترة: هلا سألت الخيل يا ابنة مالك ... إن كنت جاهلة بما لم تعلمي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 والتحضيض هو الحث على الشيء، ويقال حضضته على فعله إذا حثثته عليه، وإذا وليهنّ المستقبل كنّ تحضيضا وإذا وليهنّ الماضي كن لوما وتوبيخا فيما تركه المخاطب، وقد جرت مجرى حروف الشرط في اقتضائها الأفعال فلا يقع بعدها مبتدأ ولا غيره من الأسماء فإن وقع بعدها اسم، كان في نية التأخير نحو قولك: هلا زيدا ضربت والمراد هلا ضربت زيدا، أو على تقدير فعل محذوف نحو قولك لفاعل الإكرام: هلا زيدا، أي هلا أكرمت زيدا قال الشاعر وهو جرير: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ... بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا فأضمر فعلا نصب الكمي المقنعا والمعنى: إن هؤلاء بني ضوطرى والضوطرى الضخم الذي لا غناء عنده، يمشون بالإطعام والضيافة ويجعلون الكرم أكبر مجدهم، فالناصب للكمي هو الفعل المراد بعد لولا وتقديره تلقون أو تبارزون أو نحو ذلك. 2- يجزم الفعل المضارع إذا وقع جوابا لأمر أو نهي أو استفهام أو تمنّ أو عرض أو حض وذلك بأن مضمرة نحو قولك أكرمني أكرمك، ولا تفعل يكن خيرا لك، وألا تأتيني أحدثك، وأين بيتك أزرك، وألا ماء أشربه، وليته عندنا يحدثنا، قال الخليل: إن هذه الأوائل كلها فيها معنى «إن» فلذلك انجزم الجواب، وقال النحويون إنه لا يجوز أن تقول: لا تدن من الأسد يأكلك لأن التقدير إن لا تدن من الأسد يأكلك، وهذا محال لأن تباعده لا يكون سببا لأكله، وللنحاة هنا كلام طويل يرجع اليه في المطولات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 3- أفاض الشعراء في معنى قوله تعالى «ويذهب غيظ قلوبهم» لأن العرب قوم جبلوا على الحمية والأنفة. فرغبتهم في إدراك الثأر وقتل الأعداء هي اللائقة بطباعهم. وقد رمق سماء هذا المعنى أبو تمام فقال: إن الأسود أسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب [سورة التوبة (9) : الآيات 16 الى 17] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) اللغة: (وَلِيجَةً) فعلية من ولج كالدخيلة من دخل، وكل شيء أدخلته في شيء وليس منه فهو وليجة، ويكون للمفرد وغيره بلفظ واحد، وقد تجمع على ولائج، ووليجة الرجل من يداخله في باطن أموره، وفي المصباح: ولج الشيء في غيره يلج من باب وعد ولوجا دخل وأولجته إيلاجا أدخلته، والوليجة: البطانة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 الإعراب: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا) أم منقطعة وسيأتي حكمها، وحسبتم فعل وفاعل وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي حسبتم والمعنى: إنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين المخلص منكم (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) الواو للحال ولما حرف جازم تفيد التوقع ويعلم مجزوم بها والله فاعل والذين مفعول به وجملة جاهدوا صلة ومنكم حال. (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) الواو عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم ويتخذوا مضارع مجزوم بلم ومن دون الله متعلقان بيتخذوا ولا رسوله عطف على الله ووليجة مفعول به. (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) تقدم إعرابها كثيرا. (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ) ما نافية وكان فعل ماض ناقص وللمشركين خبر كان المقدم وأن وما في حيزها اسمها المؤخر. (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) شاهدين حال من الواو في يعمروا وعلى أنفسهم جار ومجرور متعلقان بشاهدين وكذلك قوله بالكفر أي ما صح ولا استقام في العرف والطبع أن يجمعوا بين عمارة المساجد والكفر وهما متناقضان. (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) أولئك مبتدأ وجملة حبطت أعمالهم خبر وفي النار جار ومجرور متعلقان بخالدون وهم مبتدأ وخالدون خبر. الفوائد: تقع «أم» على أربعة أوجه: 1- متصلة أي أن ما قبلها وما بعدها لا يستغنى بأحدهما عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 الآخر وتسمى معادلة لمعادلتها للهمزة في إفادة التسوية إن كانت الهمزة التي قبلها للتسوية. نحو قوله تعالى في سورة المنافقون: «سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم» أو كانت لطلب التعيين نحو: أفي الدار زيد أم عمرو. 2- منقطعة وهي مسبوقة بالخبر المحض نحو قوله تعالى: «تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه» ومسبوقة بالهمزة التي تفيد معنى آخر غير الاستفهام كالإنكار مثل: «ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها» فهي بمثابة النفي، ومعنى «أم» المنقطعة التي لا يفارقها الإضراب. 3- أن تقع زائدة ذكره أبو زيد وقال في قوله تعالى: «أفلا تبصرون أم أنا خير» إن التقدير أفلا تبصرون أنا بخير. 4- أن تكون للتعريف في لسان حمير وطيء. أمثلة شعرية لأم: 1- وما أدري وسوف أخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء فهنا وقعت متصلة وتقدمت عليها همزة الاستفهام وهي لغير التسوية. 2- ولست أبالي بعد فقدي مالكا ... أموتي ناء أم هو الآن واقع فهنا وقعت متصلة بعد همزة التسوية. 3- أحاد أم سداس في أحاد ... لييلتنا المنوطة بالتناد يحتمل أن تكون أم متصلة ومنقطعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 [سورة التوبة (9) : الآيات 18 الى 22] إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) الإعراب: (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) إنما كافة ومكفوفة ويعمر مساجد الله فعل مضارع ومفعول به مقدم والمراد بعمارتها رمّ ما استرمّ منها، وتنظيفها وتنويرها وتعظيمها وتأثيثها بالرياش الفاخر المقتنى، ومن اسم موصول فاعل يعمر وجملة آمن صلة وما بعده عطف عليه وإعرابه ظاهر. (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ) الواو عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم ويخش الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 مجزوم بلم والفاعل مستتر يعود على من آمن وإلا أداة حصر ولفظ الجلالة مفعول به. (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) الفاء الفصيحة وعسى فعل ماض من أفعال الرجاء وأولئك اسمها وأن يكونوا خبرها ومن المهتدين خبر يكونوا، أي فحال هؤلاء الموصوفين بالصفات الأربع مرجوة والعاقبة عند الله معلومة. (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) جملة مستأنفة مسوقة لخطاب المشركين على طريق الالتفات عن الغيبة في قوله «ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله» والهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي وجعلتم سقاية الحاج فعل وفاعل ومفعول به أول وعمارة المسجد الحرام عطف على سقاية الحاج والكاف اسم بمعنى مثل مفعول به ثان ومن مضاف اليه وجملة آمن صلة ولا بد من حذف مضاف إما من الأول وإما من الثاني ليتصادق المجعولان والتقدير: أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن أو أجعلتم السقاية والعمارة كإيمان من آمن أو كعمل من آمن. (وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) عطف على آمن. (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) استئناف مؤكد لإبطال المساواة أي لا يستوي الفريقان. والله مبتدأ وجملة لا يهدي القوم الظالمين خبر، وقد أورد التعليل لنفي المساواة في المعنى. (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق لتقرير حالة الموصوفين بهذه الأوصاف الثلاثة المذكورة، والذين مبتدأ وآمنوا صلة وما بعده عطف عليه وأعظم خبر ودرجة تمييز وعند الله الظرف حال. (وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) مبتدأ وخبر وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان وقد تقدم نظيره. (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ) يبشرهم ربهم فعل مضارع ومفعول به وفاعل وبرحمة جار ومجرور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 متعلقان بيبشرهم ومنه صفة وبرضوان وجنات معطوفان على رحمة. (لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) لهم خبر مقدم وفيها حال ونعيم مبتدأ مؤخر ومقيم صفة (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) خالدين حال مقدرة وفيها متعلقان بخالدين وأبدا ظرف متعلق بخالدين أيضا. (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) إن واسمها والظرف خبر مقدم وأجر مبتدأ مؤخر وعظيم صفة والجملة الاسمية خبر ان. البلاغة: في هذه الآيات فنون من البلاغة نوردها فيما يلي: أولا- التشبيه الصناعي وأغراضه: 1- التشبيه الذي خرج به الكلام مخرج الإنكار في قوله تعالى: «أجعلتم سقاية الحاج وعمارة البيت الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر» فهذا إنكار على من جعل حرمة الجهاد كحرمة من آمن بالله واليوم الآخر وفي ذلك أوفى دلالة على تعظيم حال المؤمن بالإيمان وأنه لا يساوى به مخلوق ليس على صفته وهو أحد أغراض التشبيه الصناعي. 2- إخراج الأغمض الى الأظهر بالتشبيه والى ما تقع عليه الحاسة كقوله تعالى: «والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا» وسيأتي مزيد من الكلام على هذه الآية. 3- ومنها إخراج ما لم تجربه العادة الى ما جرت به العادة كقوله تعالى: «وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 4- ومنها إخراج ما لا يعلم بالبديهة الى ما يعلم بالبديهة كقوله تعالى: «وجنة عرضها السماوات والأرض» . 5- منها إخراج ما لا قوة له في الصفة الى ما له قوة في الصفة كقوله تعالى: «وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام» . 6- ومنها بيان إمكان المشبه وذلك حين يسند اليه أمر مستغرب لا تزول غرابته إلا بذكر شبيه له كقول البحتري: دان الى أيد العفاة وشاسع ... عن كل ندّ في الندى وضريب كالبدر أفرط في العلو وضوءه ... للعصبة السّارين جد قريب فقد وصف البحتري ممدوحه في البيت الأول بأنه قريب للمحتاجين، بعيد المنزلة، بينه وبين نظرائه في الكرم بون شاسع، ولكن البحتري حينما أحس بأنه وصف ممدوحه بوصفين متضادين هما: القرب والبعد. أراد أن يبين لك أن ذلك ممكن وأن ليس في الأمر تناقض، فشبه ممدوحه بالبدر الذي هو في السماء ولكن ضوءه قريب جدا للسائرين بالليل. 7- ومنها بيان حاله وذلك حينما يكون المشبه غير معروف الصفة قبل التشبيه فيفيده التشبيه الوصف كقول النابغة: كأنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب فقد شبه النابغة ممدوحه بالشمس وشبه غيره من الملوك بالكواكب، لأن سطوة الممدوح تغض من سطوة كل ملك كما تخفي الشمس الكواكب، فهو يريد أن يبين حال الممدوح وحال غيره من الملوك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 8- ومنها تقرير حاله وذلك إذا كان المشبه معروف الصفة قبل التشبيه معرفة إجمالية، وكان التشبيه يبين مقدار هذه الصفة، كقوله تعالى: «والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه الى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه» فقد تحدثت الآية في شأن من يعبدون الأوثان وأنهم إذا دعوا آلهتهم لا يستجيبون لهم، ولا يرجع إليهم هذا الدعاء بفائدة، وقد أراد الله تعالى أن يقرر هذه الحال ويثبتها في الأذهان، فشبه هؤلاء الوثنيين بمن يبسط كفيه الى الماء ليشرب فلا يصل الماء الى فمه بالبداهة، لأنه يخرج من خلال أصابعه ما دامت كفاه مبسوطتين، ويأتي هذا الغرض حينما يكون المشبه أمرا معنويا لأن النفس لا تجزم بالمعنويات جزمها بالحسيات فهي في حاجة دائمة الى الاقناع. 9- تزيين المشبه كقول أبي الحسن الأنباري في مصلوب: مددت يديك نحوهم احتفاء ... كمدهما إليهم بالهبات وهذا البيت من قصيدة نالت شهرة بعيدة في الأدب العربي لا لشيء إلا لأنها حسنت ما أجمع الناس على قبحه والاشمئزاز منه وهو الصلب، فهو يشبه مد ذراعي المصلوب على الخشبة والناس حوله بمدّ ذراعيه بالعطاء للسائلين أيام حياته، والغرض من هذا التشبيه التزيين، وأكثر ما يكون هذا النوع في المديح والرثاء والفخر ووصف ما تميل اليه النفوس. 10- تقبيح المشبه كقول أحد الأعراب في ذم امرأته: وتفتح- لا كانت- فما لو رأيته ... توهمته بابا من النار يفتح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 فهو يدعو على امرأته بالحرمان من الوجود فيقول لا كانت ويشبه فمها حينما تفتحه بباب من أبواب جهنم، والغرض من هذا التشبيه التقبيح، وأكثر ما يستعمل في الهجاء ووصف ما تنفر منه النفوس، ومنه قول المتنبي: وإذا أشار محدثا فكأنه ... قرد يقهقه أو عجوز تلطم هذا وسيأتي المزيد من بحث التشبيه فيما يأتي. ثانيا- اللف والنشر: في قوله تعالى: «يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم» بعد أن وصف المؤمنين بثلاث صفات وهي: الايمان والهجرة والجهاد بالنفس والمال، فبدأ بالرحمة في مقابلة الايمان لتوقفها عليه وثنى بالرضوان الذي هو نهاية الإحسان في مقابلة الجهاد الذي فيه بذل الأنفس والأموال، ثم ثلث بالجنات في مقابلة الهجرة وترك الأوطان، إشارة الى أنهم لما آثروا تركها بدلهم دارا عظيمة دائمة وهي الجنات وهذا فنّ طريف عرّفوه: بأنه ذكر متعدد على وجه التفصيل أو الإجمال، ثم ذكر ما لكل واحد من المتعدد من غير تعيين، ثقة بأن السامع يميز ما لكل واحد منها ثم يرده الى ما هو له، أما قسم التفصيل فهو ضربان: آ- أن يكون النشر على ترتيب اللف، بأن يكون الأول من المتعدد في النشر للأول من المتعدد في اللف والثاني للثاني وهكذا الى الآخر. قال أحدهم: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 ومقرطق يغني النديم بوجهه ... عن كأسه الملأى وعن إبريقه فعل المدام ولونها ومذاقها ... في مقلتيه ووجنتيه وريقه وكالآية التي نحن بصددها. ب- أن يكون النشر على غير ترتيب اللف كقول أبي فراس: وشادن قال لي لما رأى سقمي ... وضعف جسمي والدمع الذي انسجما أخذت دمعك من خدي وجسمك من ... خصري وسقمك من طرفي الذي سقما وأما قسم الإجمال فهو أن تلف الشيئين في الذكر ثم تتبعهما كلاما مشتملا على متعلق بأحدهما ومتعلق بآخر من غير تعيين كقوله تعالى: «وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى» فذكر الفريقين على طريق الإجمال دون التفصيل ثم ذكر ما لكل منهما، فالمتعدد المذكور اجمالا هو الفريقان أو قولهما، والأصل: قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فلف بينهما لعدم الالتباس وللثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله. ثالثا: تنكير المبشر به وهو قوله: «يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات» لوقوعه وراء صفة الواصف وتعريف المعرف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 [سورة التوبة (9) : الآيات 23 الى 24] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) اللغة: (العشيرة) هي الأهل الأدنون، وقيل هم أهل الرجل الذين يتكثر بهم سواء بلغوا العشرة أم فوقها، وقيل: هي الجماعة المجتمعة بنسب أو عقد أو وداد كعقد العشرة. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابه. (لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ) لا ناهية وتتخذوا مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل وآباءكم مفعول به وإخوانكم عطف عليه وأولياء مفعول به ثان والجملة استئنافية مسوقة للرد على ما قالوه بعد ما أمر الله تعالى بالتبري الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 من المشركين، فقد قالوا: كيف يمكن أن يقاطع الرجل أباه وأخاه وابنه، فرد الله عليهم بذلك، أي أن مقاطعة الرجل أهله في الدين واجبة فالمؤمن لا يوالي الكافر وإن كان أباه وأخاه وابنه. (إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) إن شرطية واستحبوا فعل وفاعل في محل جزم فعل الشرط والكفر مفعول استحبوا وعلى الايمان جار ومجرور متعلقان باستحبوا المتضمن معنى اختاروا. (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ ويتولهم فعل الشرط وقد روعي فيه اللفظ فأفرد، ومنكم حال والفاء رابطة وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو ضمير مبتدأ والظالمون خبر أولئك أو هم والجملة خبر أولئك وقد روعي فيه جانب المعنى لمن. (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) إن شرطية وكان واسمها وما بعده عطف عليه وأحب خبر كان وإليكم حال ومن الله جار ومجرور متعلقان بأحب ورسوله وجهاد في سبيله عطف على الله أي من الهجرة إليهما. (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الفاء رابطة وتربصوا فعل أمر وفاعل وحتى حرف غاية وجر ويأتي منصوب بأن مضمرة بعد حتى والله فاعل وبأمره جار ومجرور متعلقان بيأتي والله مبتدأ وجملة لا يهدي القوم الفاسقين خبر ومعنى الأمر هنا التهديد ومفعوله محذوف، أي انتظروا عقوبة عاجلة أو آجلة، وهذه الآية من أشد الآيات تهديدا وإرعادا وإبراقا وردعا لكل من تسول له نفسه إيثار الفانية على الباقية ومراعاة جانب الأهل والعشيرة وترك جانب الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 [سورة التوبة (9) : الآيات 25 الى 27] لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) اللغة: (المواطن) جمع موطن والمواطن مثل الوطن، وفي المصباح: «الوطن مكان الإنسان ومقره، والجمع أوطان مثل سبب وأسباب، والموطن مثل الوطن والجمع مواطن كمسجد ومساجد، والموطن أيضا: المشهد من مشاهد الحرب» وعبارة الزمخشري: «مواطن الحرب مقاماتها وموافقها قال: وكم موطن لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلة النيق منهوي أي كثير من مواطن الحرب لولاي موجود لطحت بكسر الطاء وضمها، من باع وقال أي هلكت فيها كما هوى منهو أي ساقط من قلة النيق أي من رأس الجبل. ومذهب سيبويه أن لولا حرف جر إذا وليها ضمير نصب ومذهب الأخفش أنه وضع ضمير النصب موضع ضمير الرفع على الابتداء، أما المبرد فقد أنكر وروده وهو محجوج بهذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 البيت وغيره، وأراد الله تعالى بالمواطن الكثيرة الأماكن التي وقعت فيها وقعات بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة. وفي القاموس: الموطن: الوطن والمشهد من مشاهد الحرب، فلا حاجة عندئذ لتقدير مضاف كما ذهب بعضهم، والفعل منه وطن يطن من باب ضرب وطنا وأوطن إيطانا بالبلد أقام به، واستوطن البلد: اتخذه وطنا. (حُنَيْنٍ) هو واد بين مكة والطائف، أي يوم قتالكم فيه هوازن وذلك في شوال سنة ثمان فهي عقيب الفتح وستأتي الإشارة الى هذه الوقعة في باب الفوائد. (رَحُبَتْ) في المختار: الرحب بالضم السعة يقال منه: فلان رحيب الصدر، والرحب بالفتح الواسع وبابه ظرف وقرب، والمصدر رحابة كظرافة ورحب كقرب اه. الإعراب: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) جملة مستأنفة مسوقة لتذكير المؤمنين بآلائه عليهم واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ونصركم الله فعل ومفعول به وفاعل وفي مواطن جار ومجرور متعلقان بنصركم وكثيرة صفة. (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) الواو عاطفة ويوم ظرف معطوف على قوله مواطن، ولا مانع من عطف الظرفين المكاني والزماني أحدهما على الآخر كعطف أحد المفعولين على الآخر والفعل واحد، إذ يجوز أن تقول: ضرب زيد عمرا في المسجد ويوم الجمعة، كما تقول ضربت زيدا وعمرا ولا يحتاج الى إضمار فعل جديد غير الأول هذا مع أنه لا بد من تغاير الفعلين الواقعين بالمفعولين في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 الحقيقة. فإنك إذا قلت: اضرب زيدا اليوم وعمرا غدا لم يشك في أن الضربين متغايران بتغاير الظرفين، ومع ذلك الفعل واحد في الصناعة، فعلى هذا يجوز في الآية بقاء كل واحد من الظرفين على حاله غير مؤول الى الآخر، على أن الزمخشري وغيره يوجبون تعدد الفعل وتقدير ناصب لظرف الزمان غير الفعل الأول وإن كانا جميعا زمانين لعلة أن كثرتهم لم تكن ثابتة في جميع المواطن ولذلك قدر الزمخشري محذوفا قال: «فإن قلت كيف عطف الزمان على المكان وهو يوم حنين على المواطن؟ قلت: معناه وموطن يوم حنين أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين، ويجوز أن يراد بالموطن الوقت كمقتل الحسين ومقدم الحاج، على أن الواجب أن يكون يوم حنين منصوبا بفعل مضمر لا بهذا الظاهر وموجب ذلك أن: إذ أعجبتكم بدل من يوم حنين فلو جعلت ناصبه هذا الظاهر لم يصح لأن كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن ولم يكونوا كثيرا في جميعها، فبقي أن يكون ناصبة فعلا خاصا به» . وإذ ظرف لما مضى منصوب على البدلية من يوم حنين كما تقدم أو منصوب بإضمار اذكر وجملة أعجبتكم مضافة للظرف وأنفسكم فاعل. ومنع بعضهم إبدال إذ من يوم حنين بل هو منصوب بفعل مقدر أي اذكروا إذ أعجبتكم كثرتكم. (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) الفاء عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم وتغن مضارع مجزوم بلم وشيئا مفعول مطلق أو مفعول به. (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) وضاقت عطف على ما تقدم عليكم جار ومجرور متعلقان بضاقت والأرض فاعل والباء حرف جر بمعنى مع وما مصدرية أي مع رحبها على أن الجار والمجرور في موضع الحال أي ملتبسة برحبها كقولك: دخلت عليه بثياب السفر، أي ملتبسا بها تعني مع ثياب السفر. (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) عطف على ما تقدم ومدبرين حال من التاء في وليتم. (ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 ثم حرف عطف وتراخ وأنزل الله فعل وفاعله وسكينته مفعول به وعلى رسوله جار ومجرور متعلقان بأنزل وعلى المؤمنين عطف على رسوله. (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) وأنزل جنودا عطف على ما تقدم وجملة لم تروها صفة لجنودا. (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) عطف أيضا وذلك مبتدأ وجزاء الكافرين خبره (ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) عطف على ما تقدم مقترن بالتراخي ومن بعد ذلك حال وعلى من يشاء متعلقان بيتوب والله مبتدأ وغفور رحيم خبراه. الفوائد: استفاضت السير في الروايات لهذه الوقعة ويؤخذ منها أن المسلمين كانوا اثني عشر ألفا الذين حضروا فتح مكة منضما إليهم ألفان من الطلقاء عند ما التقوا مع هوازن وثقيف فيمن ضامّهم من امداد سائر العرب فكانوا الجم الغفير، فلما التقوا قال رجل من المسلمين: لن نغلب اليوم من قلة فساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقتتلوا اقتتالا شديدا، وأدركت المسلمين نشوة الإعجاب بالكثرة، وزل عنهم أن الله هو الناصر لا كثرة الجنود، فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده وهو ثابت، في مركزه لا يتحلحل، ليس معه إلا عمه العباس آخذا بلجام دابته وأبو سفيان ابن الحارث ابن عمه، روى أبو جعفر بن جرير بسنده عن عبد الرحمن عن رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين لم يقوموا لنا حلب شاة، فلما لقيناهم جعلنا نسوقهم في آثارهم حتى انتهينا الى صاحب البغلة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 البيضاء فإذا هو رسول الله، قال فتلقّانا عنده رجال بيض الوجوه حسان فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا فانهزمنا وركبنا أكتافنا. وهناك روايات كثيرة تختلف في سردها وتتفق في معناها على أن ذلك الموقف كان شهادة صدق على تناهي شجاعة النبي ورباطة جأشه، وأن الرجال تكثر بالنصر وتقل بالخذلان. 2- قال الصفاقسي: ظاهر كلام الزمخشري أولا منع عطف الزمان على المكان، ولم أر من نص عليه وفيه نظر، وأما وجوب إضمار الفعل فهو مبني على اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في متعلقات الفعل وهو ممنوع، وقد أشار الى منعه ابن الحاجب في مختصره في الأصول. والتحقيق والتدقيق إن قوله يوم حنين، إن جعلته عطفا على مواطن فالواو قائم مقام حرف الجر وهو «في» فكأنه قال: لقد نصركم الله في مواطن كثيرة في يوم حنين، وهذا المعنى باطل لأنه يعين مكان النصرة وزمانها. ولا شك أنه ليس زمان النصرة في المواطن الكثيرة يوم حنين سواء أجعلت «إذ أعجبتكم» بدلا أم لا وأما إذا عطفت «ويوم حنين» على محل «في مواطن» كما هو الظاهر فحرف العطف قائم مقام «نصركم» العامل «في مواطن» فكأنه قال: لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين خاصة وحينئذ جاز أن يكون «إذ أعجبتكم» بدلا من يوم، وهذا كما تقول: رأيت مرارا في مصر وليلة العيد إذ أفاض الناس من عرفة. هذا هو الصدق الحق الذي لا غطاء على وجهه المنير فلا تخش من قعقعة سلاح الزمخشري فإنها جعجعة من غير طحن ولكن جواد كبوة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 [سورة التوبة (9) : الآيات 28 الى 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) اللغة: (نَجَسٌ) في القاموس: «النجس بالفتح وبالكسر وبالتحريك ككتف وعضد ضد الطاهر، وقد نجس كسمع وكرم وأنجسه ونجّسه فتنجّس، وداء ناجس ونجيس ككريم إذا كان لا يبرأ منه وتنجس فعل فعلا يخرج به عن النجاسة، والتنجيس اسم شيء من القذر أو عظام الموتى أو خرقة الحائض كان يعلق على من يخاف عليه من ولوع الجن به والمعوّذ منجّس» وجاء في شرح التاج على القاموس تعليقا على قوله المعوذ منجس: «قال ثعلب قلت لابن الاعراب ي: لم قيل للمعوذ منجّس وهو مأخوذ من النجاسة؟ فقال: إن للعرب أفعالا تخالف معانيها ألفاظها يقال فلان يتنجّس إذا فعل فعلا يخرج به عن النجاسة» وفي سجعات الأساس: «إذا جاء القدر لم يغن المنجم ولا المنجس، ولا الفيلسوف ولا المهندس» ، وعن الحسن في رجل تزوج امرأة كان قد زنى بها هو أنجسها فهو أحق بها. (عَيْلَةً) فقر، وفي المصباح: العيلة بالفتح الفقر وهي مصدر عال يعيل من باب سار فهو عائل والجمع عالة وهو في تقدير فعلة مثل كافر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 وكفرة، وعيلان بالفتح اسم رجل ومنه قيس بن عيلان قال بعضهم: ليس في كلام العرب عيلان بالعين المهملة إلا هذا، وفي المختار: وعيال الرجل من يعولهم وواحد العيال عيل والجمع عيائل كجيائد، وأعال الرجل كثرت عياله فهو معيل والمرأة معيلة، قال الأخفش أي صار ذا عيال» . (الْجِزْيَةَ) سميت جزية لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه أو لأنهم يجزون بها من منّ عليهم بالإعفاء من القتل، ومن غريب أمر الجيم والزاي أنهما إذا وقعتا فاء وعينا للكلمة دلتا على معنى الأخذ والشدة، فجزأت الشيء تجزئة، وشيء مجزأ أي مبعض، وذلك لا يتأتى إلا بالقوة والشدة، وبعير مجزىء قوي سمين لأنه يجزىء الراكب والحامل، وجزر لهم الجزّار نحر لهم جزورا وهم نحّارون للجزر، وأخذ الجازر جزارته وهي حقه وإياكم وهذه المجازر، ومنه الجزر والمدّ، والجزيرة والجزائر ويقال جزيرة العرب لأرضها ومحلتها لأن بحر فارس وبحر الحبش ودجلة والفرات قد أحدقت بها، وجزّ الشعر والزرع والنخيل، وهذا زمن الجزاز، ويقال: جزّوا ضأنهم وحلقوا معزهم، وجزع الوادي قطعة عرضا قال أبو تمام: إليك جزعنا مغرب الملك كلما ... قطعنا ملا صلت عليك سباسبه وهم بجزع الوادي وهو منعطفه، وتجزّع الشيء: تقطّع وتفرق، قال الراعي: ومن فارس لم يحرم السيف خطّه ... إذا رمحه في الدارعين تجزّعا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 ومنه الجزع الظفاري لأن لونه قد يجزّع الى بياض وسواد، قال امرؤ القيس: كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقّب وجزف كذا اتباعه منه جزافا وبالجزاف، وجازفه في البيع مجازفة وجزافا، وحطب جزل قاس يابس. وأنشد ثعلب: فويها لقدرك ويها لها ... إذا اختير في المحل جزل الحطب وقال: فأصبحت أنى تأتها تستجر بها ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا وضرب الصيد فجزله جزلتين أي قطعتين، ومن المجاز رجل جزل: ذو عقل ورأي وقد جزل وما أبين الجزالة فيه، وهو جزل العطاء، وإن فعلت كذا فلك الذكر الجميل والثواب الجزيل، وامرأة جزلة ذات أرداف، وجزمت ما بيني وبينه قطعته، وجزم اليمين قطعها البتة، وجزم على كذا عزم عليه، وتقول هذا حكم جزم وقضاء حتم. فإذا رجعنا لجزى رأينا عجبا من هذه المادة تقول يجزيك الله عني ويجازيك قال لبيد: وإذا جوزيت قرضا فاجزه ... إنما يجزى الفتى ليس الجمل وقال الحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) إنما كافة ومكفوفة والمشركون نجس مبتدأ وخبر أي ذوو نجس لأن معهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 الشرك الذي هو بمنزلة النجس، أو لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فلا تنفك تلابسهم، أو جعلوا كأنهم النجاسة عينها مبالغة في وصفهم بها، والنجس مصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع، أو هو مجاز عن خبث الباطن وفساد العقيدة. (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) الفاء الفصيحة ولا ناهية ويقربوا مضارع مجزوم بها والواو فاعل والمسجد مفعول به والحرام صفة. (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) الظرف متعلق بيقربوا وعامهم مضاف إليه وهذا نعت لعامهم أو بدل منه وهو العام التاسع للهجرة. وفي هذا الحكم مسائل فقهية يرجع إليها في المظانّ المطولة. (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) الواو عاطفة وإن شرطية وخفتم فعل وفاعل في محل جزم فعل الشرط وعيلة مفعول به، فسوف الفاء رابطة وسوف حرف استقبال ويغنيكم الله فعل مضارع ومفعول به وفاعل والجملة في محل جزم جواب الشرط ومن فضله جار ومجرور متعلقان بيغنيكم وإن شرطية وشاء فعلها والجواب محذوف دل عليه ما قبله أي فسوف يغنيكم. (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ان واسمها وخبراها. (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) جملة مستأنفة مسوقة للأمر بغزو المشركين، وقاتلوا فعل أمر وفاعل والذين مفعول به وجملة يؤمنون صلة وبالله متعلقان بيؤمنون ولا باليوم الآخر عطف على بالله. (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) عطف على ما تقدم وما مفعول يحرمون وجملة حرم الله ورسوله صلة. (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ) الواو عاطفة ودين الحق يجوز أن يكون مصدر يدينون فهو مفعول مطلق، ويجوز أن يكون مفعولا به مع تضمين يدينون معنى يعتقدون. ويجوز أن يكون منصوبا بنزع الخافض أي بدين الحق ولعله أظهر. (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) حال من الضمير في يدينون أو من الذين الأولى مع ما في حيزها وجملة أوتوا الكتاب صلة والكتاب مفعول به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 ثان. (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ) حتى حرف غاية وجر ويعطوا منصوب بأن مضمرة بعد حتى والجزية مفعول به وعن يد حال وسيأتي مزيد بحث عنها في باب البلاغة (وَهُمْ صاغِرُونَ) حال ثانية وهم مبتدأ وصاغرون خبر. البلاغة: في قوله تعالى «عن يد» كناية عن الانقياد، يقال: أعطى فلان بيده إذا سلم وانقاد، لأن من أبى وامتنع لم يعط يده، بخلاف المطيع المنقاد كأنه قيل: قاتلوهم حتى يعطوا الجزية عن طيب نفس وانقياد دون أن يكرهوا عليها ثم إن المراد بها إما يد المعطي وإما الآخذ ومعناه على إرادة يد المعطي حتى يعطوها عن يد مؤاتية غير ممتنعة لأن من أبى وامتنع لم يعط يده بخلاف المطيع المنقاد، ألا ترى الى قولهم: نزع يده عن الطاعة كما يقال: خلع ربقة الطاعة عن عنقه، وأما يد الآخذ فمعناه حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية، أو عن إنعام عليهم لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم نعمة عظيمة عليهم، هذا وقد تقدمت مباحث الكناية وسيرد الكثير منها في حينه. [سورة التوبة (9) : الآيات 30 الى 32] وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 اللغة: (يُضاهِؤُنَ) في المصباح: ضاهأه مضاهأة مهموز عارضه وباراه، ويجوز التخفيف فيقال: ضاهيته مضاهاة وهي مشاكلة الشيء بالشيء. (يُؤْفَكُونَ) يصرفون. (أَحْبارَهُمْ) في المختار: الحبر الذي يكتب به وموضعه المحبرة بالكسر، والحبر أيضا الأثر وفي الحديث: يخرج رجل من النار قد ذهب حبره وسبره، قال الفراء: أي هيئته ولونه. وقال الأصمعي: الجمال والبهاء وأثر النعمة وتحبير الخط والشعر وغيرهما تحسينه. والحبر بالفتح الحبور وهو السرور، وحبره أي سره، وبابه نصر، وحبرة أيضا بالفتح ومنه قوله تعالى: «فهم في روضة يحبرون» أي يسرون وينعمون ويكرمون، والحبر بالفتح والكسر واحد أحبار اليهود والكسر أفصح لأنه يجمع على أفعال دون فعول، وقال الفراء: هو بالكسر، وقال أبو عبيدة: هو بالفتح. وقال الأصمعي: لا أدري أنه بالفتح أو بالكسر، وقال: الحبر بالكسر منسوب الى الحبر الذي يكتب به لأنه كان صاحب كتب والحبرة كالعنبة برد يماني والجمع حبر كعنب وحبرات بفتح الباء. وفي المنجد: الحبر والحبر بالفتح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 والكسر: العالم الصالح، السرور والنعمة، رئيس من رؤساء الدين، الحبر الأعظم: خلف السيد المسيح على الأرض، رئيس الكهنة عند اليهود، والجمع أحبار وحبور. (رُهْبانَهُمْ) جمع راهب وهو من اعتزل الناس الى دير طلبا للعبادة والمؤنث راهبة وجمعها راهبات ورواهب. الإعراب: (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ) الواو استئنافية وقالت اليهود فعل وفاعل وعزير مبتدأ وابن الله خبر ولذلك أثبتت ألف ابن لأنها تحذف إذا وقعت ابن صفة أو بدلا بين علمين، ونوّن عزير لأنه عربي فلم يبق فيه إلا علة واحدة وهي العلمية وقرىء بمنع الصرف باعتباره أعجميا، وقرىء قوله تعالى: «وقالت اليهود عزير ابن الله» على وجهين: بتنوين عزير لأن ابنا خبر عن عزير فجرى مجرى قولك زيد ابن عمرو، والقراءة الأخرى بمنع التنوين وهي على وجهين: أحدهما أن يكون عزير خبرا لمبتدأ محذوف وابن وصفا له فحذف التنوين من عزير لأن ابنا وصف له فكأنهم قالوا: هو عزير بن الله والوجه الآخر أن يكون جعل ابنا خبرا عن عزير وحذف التنوين لالتقاء الساكنين. (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) جملة مماثلة معطوفة على سابقتها وجملة المبتدأ والخبر مقول القول. (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) ذلك مبتدأ وقولهم خبر وبأفواههم حال وسيرد في باب البلاغة سر ذكر الأفواه. (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) الجملة حالية وقول مفعول به والذين مضاف إليه وجملة كفروا صلة ومن قبل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 حال. (قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) قاتلهم الله فعل ومفعول به وفاعل والجملة دعائية لا محل لها وأنى اسم استفهام بمعنى كيف في محل نصب حال مقدم ويؤفكون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل أي كيف يصرفون عن الحق. (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) اتخذوا فعل وفاعل وأحبارهم مفعول به ورهبانهم عطف على أحبارهم وأربابا مفعول به ثان ومن دون الله صفة لأربابا والمسيح عطف على أحبارهم والمفعول الثاني بالنسبة إليه محذوف أي ربا وابن صفة للمسيح أو بدل منه وثبتت الألف فيه لأنه صفة بين علمين والمسيح لقب واللقب من أقسام العلم (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) الواو للحال وما نافية وأمروا فعل ماضي مبني للمجهول والواو نائب فاعل وإلا أداة حصر واللام للتعليل ويعبدوا منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وواحدا صفة إلها. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الجملة صفة ثانية لإلها وقد تقدم القول مفصلا في اعراب «لا إله إلا الله» . (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) سبحان مفعول مطلق والهاء مضاف إليه وهو مصدر بمعنى التنزيه الله عن الإشراك به وعما متعلقان بسبحانه وجملة يشركون صلة ما. (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ) جملة يريدون حالية لتمثيل حالهم في محاولتهم أن يبطلوا نبوة محمد بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم وسيأتي بحث ذلك في باب البلاغة وأن وما في حيزها مفعول يريدون ونور الله مفعول به وبأفواههم جار ومجرور متعلقان بيطفئوا. (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) ويأبى الله عطف على يريدون وإلا أداة حصر لأن الكلام على تقدير النفي لأن يأبى تجري مجرى لم يرد وأن وما في حيزها مفعول يأبى ولو الواو حالية ولو شرطية جوابها محذوف لدلالة ما قبله عليه تقديره لأتمه ولم يبال بكراهتهم والجملة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 حالية والمعنى لا يريد الله إلا إتمام نوره ولو كرهوه وقد قيل: كيف دخلت «إلا» الاستثنائية على يأبى ولا يجوز كرهت أو أبغضت إلا زيدا، وقال الفراء: إنما دخلت لأن في الكلام طرفا من الجحد، وقال الزجاج: إن العرب تحذف مع أبى والتقدير ويأبى الله كل شيء إلا أن يتم نوره، وقال علي بن سليمان: إنما جاز هذا في أبى لأنها منع أو امتناع فضارعت النفي، قال النحاس: وهذا أحسن كما قال الشاعر: وهل لي أم غيرها إن تركتها ... أبى الله إلا أن أكون لها ابنا البلاغة: في قوله تعالى: «ذلك قولهم بأفواههم» إيهام بأن القول لا يكون إلا بالفم فما معنى ذكر أفواههم؟ ولكن السر كامن في الأفواه وهو أن ما تندبه لا يكون إلا مجرد قول لا يؤبه له ولا يعضده برهان ولا تنهض به حجة فما هو إلا لفظ فارغ وهراء لا طائل تحته كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تنطوي على معان وما لا معنى له لا يعدو الشفتين. [سورة التوبة (9) : الآيات 33 الى 35] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 اللغة: (يَكْنِزُونَ) يجمعون ويدفنون، وفي المصباح: كنزت المال كنزا من باب ضرب جمعته وادخرته، وكنزت التمر في وعائه كنزا أيضا، وهذا زمن الكناز قال ابن السكيت: لم يسمع إلا بالفتح، وحكى الأزهري: كنزت التمر كنازا وكنازا بالفتح والكسر، والكنز المال المدفون معروف تسميته بالمصدر والجمع كنوز مثل فلس وفلوس، واكتنز الشيء اكتنازا اجتمع وامتلأ، وفي الأساس: وإنه لكنيز اللحم مكتنزه: صلبه، وناقة كناز اللحم، ومن المجاز: معه كنز من كنوز العلم وقال زهير: عظيمين في عليا معد وغيرها ... ومن يستبح كنزا من المجد يعظم وهذا كتاب مكتنز بالفوائد. (الذَّهَبَ) معروف وهو يذكر ويؤنث، وله أسماء عديدة وهي: نضر، نضار، نضير، زبرج، زخرف، عسجد، عقيان. الإعراب: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ) الجملة مستأنفة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 وهو مبتدأ والذي خبره وجملة أرسل رسوله صلة وبالهدى أي بالقرآن متعلق بأرسل ودين الحق عطف على الهدى. (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) اللام للتعليل ويظهر منصوب بأن مضمرة والهاء مفعول به يعود على الرسول، وعلى الدين جار ومجرور متعلقان بيظهره وكله تأكيد للدين والواو حالية ولو شرطية وصلية وكره المشركون فعل وفاعل والمفعول به محذوف أي ذلك. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها. (إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) إن واسمها ومن الأحبار صفة لكثيرا والرهبان عطف على الأحبار وليأكلون اللام المزحلقة، وجملة يأكلون خبر إن وأموال الناس مفعول به بالباطل حال وسيأتي تحقيق الأكل في باب البلاغة. (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) عطف على يأكلون. (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الواو استئنافية والذين مبتدأ وجملة يكنزون صلة والذهب مفعول يكنزون والفضة عطف على الذهب ولا ينفقونها عطف على يكنزون وفي سبيل الله متعلقان بينفقونها. (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) الفاء رابطة لما في الشرط من معنى العموم ورائحة الشرط وبشرهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وبعذاب جار ومجرور متعلقان ببشرهم وأليم صفة وجملة بشرهم خبر، والأحسن أن يكون الذين منصوبا بتقدير بشر الذين يكنزون (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) الظرف متعلق بقوله بعذاب أليم وقيل بمحذوف يدل عليه عذاب أي يعذبون يوم يحمى أو بمحذوف تقديره اذكر وجملة يحمى مضافة للظرف ويحمى يحتمل أن يكون من حميت وأحميت ثلاثيا ورباعيا يقال حميت الحديدة وأحميتها أي أوقدت عليها لتحمى ونائب الفاعل المحذوف هو النار تقديره يوم تحمى النار عليها، فلما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 حذف نائب الفاعل ذهبت علامة التأنيث لذهابه كقولهم رفعت القصة الى الأمير ثم تقول رفع الى الأمير، وعليها في محل رفع نائب فاعل كما تقدم وفي نار جهنم متعلق بيحمى، فتكوى الفاء عاطفة وتكوى عطف على تحمى وبها متعلقان بتكوى وجباههم نائب فاعل وجنوبهم وظهورهم عطف على جباههم وسيأتي سر تخصيص هذه الأعضاء في باب البلاغة. (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) الجملة مقول القول محذوف أي يقال لهم، وهذا مبتدأ وما خبره وجملة كنزتم صلة ولأنفسكم متعلقان بكنزتم. (فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) الفاء الفصيحة وذوقوا فعل أمر وفاعل وما مفعول به وجملة كنتم تكنزون صلة وجملة تكنزون خبر كنتم. البلاغة: في هذه الآيات فنون عديدة من أفانين البلاغة نجملها فيما يلي: 1- الاستعارة في أكل الأموال إذ هي مما لا يؤكل ولكن الأكل استعير للأخذ ومعنى أكلهم بالباطل، أنهم كانوا يأخذون الرشا في الأحكام. 2- أفرد الضمير في قوله «ينفقونها» مع أنه ذكر شيئين وهما الذهب والفضة ذهابا بالضمير الى المعنى دون اللفظ لأن كل واحد منهما جملة وافية وعدة كثيرة. 3- خصص الجباه والوجوه والظهور لأنهم كانوا يتوخون من جمع الأموال واكتنازها الأغراض الدنيوية التي يرفعون بها جباههم ويصونون ماء وجوههم، يحتفل بهم الناس لدى رؤيتهم إياهم ويطرحون مناعم الثياب على ظهورهم، وهذه أسرار انفرد بها القرآن العزيز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 الفوائد: روى التاريخ أن أبا ذر قال: نزلت هذه الآيات في أهل الكتاب وفي المسلمين ووجه هذا القول أن أهل الكتاب موصوفون بالحرص على أخذ المال من أي وجه، ثم ذكر الله بعد ذلك وعيد من جمع المال ومنع الحقوق الواجبة فيه سواء أكان من أهل الكتاب أم من المسلمين. روى مسلم عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا أبو ذرّ فقلت له: ما أنزلك هذا المنزل؟ قال كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: «والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله» فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، وقلت أنا: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذلك كلام، فكتب الى عثمان يشكوني فكتب إلي أن أقدم المدينة، فقدمتها فازدحم علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان فقال: إن شئت تنحيت فكنت قريبا منا فهذا هو الذي أنزلني هذا المنزل ولو أمروا عليّ عبدا حبشيا لسمعت وأطعت. حديث هام عن الذهب والفضة: وروى سالم بن الجعد انها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تبا للذهب تبا للفضة، قالها ثلاثا، فقالوا له: أيّ مال نتخذ؟ قال: لسانا ذاكرا وقلبا خاشعا وزوجة تعين أحدكم على دينه. هذا وقد اختلف العلماء في حد رأس المال فقال علي: أربعة آلاف فما دونها نفقة، فما زاد فهو كنز، وردوا عليه بأن هذا معقول قبل أن تفرض الزكاة وهناك كلام طويل يرجع إليه في المطولات وليس هو من غرض هذا الكتاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 [سورة التوبة (9) : الآيات 36 الى 37] إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37) اللغة: (النَّسِيءُ) مصدر نساء إذا أخره، يقال: نسأه نسئا ونسيئا ونساء كقولك مسّه مسّا ومساسا ومسيسا، وقيل هو فعيل بمعنى مفعول من نسأه إذا أخره فهو منسوء، ثم حوّل مفعول إلى فعيل كما حوّل مقتول الى قتيل، وفي المختار: والنسيئة كالفعيلة التأخير، وكذا النساء بالفتح والمد التأخير والنسيء في الآية فعيل بمعنى مفعول من قولك نسأه من باب قطع أي أخره فهو منسوء فحوّل منسوء الى نسيء كما حول مقتول الى قتيل والمراد به هنا تأخير حرمة المحرم الى صفر وسيأتي في باب الفوائد تفصيل ذلك. الإعراب: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) إن واسمها والشهور مضاف إليه وعند الله ظرف متعلق بمحذوف حال أي في حكمه واثنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 خبر إن مرفوع بالألف لأنه مثنى وعشر جزء عددي مبني على الفتح وشهرا تمييز وهي الشهور القمرية المعروفة. (فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) في كتاب الله صفة لاثني عشر ويوم ظرف متعلق بمحذوف أو بكتاب الله إن جعل مصدرا والمعنى: إن هذا أمر ثابت في نفس الأمر منذ خلق الله الكائنات وقيل يوم خلق بدل من قوله عند الله والتقدير ان عدة الشهور عند الله في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، وفائدة الإبدالين تقرير الكلام في الأذهان، وجملة خلق مضاف إليها الظرف. (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) منها خبر مقدم وأربعة مبتدأ مؤخر وحرم صفة والجملة صفة ثانية لاثني عشر شهرا وهي ثلاثة سرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب. (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ذلك مبتدأ والدين خبر والقيم صفة. (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) الفاء الفصيحة ولا الناهية وتظلموا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل وفيهن متعلقان بتظلموا وأنفسكم مفعول به. (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) الواو عاطفة وقاتلوا فعل أمر والواو فاعل والمشركين مفعول به وكافة حال من الفاعل أو المفعول وهي في الأصل مصدر معناه جميعا ولا يثنى ولا يجمع ولا تدخله أل ولا يتصرف فيه بغير الحال، هذا ما قرره النحاة بشأن كافة، ولكن صحح الشهاب الخفاجي أن يقال جاءت الكافة، وأطال البحث فيه في شرح الشفاء، وقال شارح اللباب: إنه استعمل مجرورا واستدل له بقول عمر بن الخطاب: «على كافة بيت مال المسلمين» ، وقال ابراهيم الكوراني: من قال من النحاة: إن كافة لا تخرج عن النصب فحكمه ناشىء عن استقراء ناقص، واستعملها الزمخشري مجرورة بالكاف في خطبة كتابه «المفصل» فقال: «محيط بكافة الأبواب» كما استعملها في غير الأناسي. كما الكاف بمعنى مثل صفة لمصدر محذوف أو هي حرف جر وما مصدرية مؤولة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 مع ما في حيزها بمصدر صفة لمصدر محذوف أي قتالا كقتالكم وقد تقدمت له نظائر فجدد به عهدا. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أن وما في حيزها سدت مسد مفعولي اعلموا وأن واسمها ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر. (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) إنما كافة ومكفوفة والنسيء مبتدأ وزيادة خبر وفي الكفر متعلق بزيادة. (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) فعل وفاعل وبه متعلقان به والذين كفروا فاعله وقرىء يضل به الذين كفروا بالبناء للمجهول والجملة خبر ثان للنسيء. (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً) الجملة تفسيرية للضلال فلا محل لها ويجوز أن تعرب حالية وعاما ظرف متعلق بيحلونه. (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ) اللام للتعليل وهي مع مجرورها المؤول متعلقة بيحرمونه أو بيحلونه حسب قانون التنازع وعدة مفعوله وما موصول مضاف إليه وجملة حرم الله صلة. (فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ) عطف على ليواطئوا وما مفعول يحلوا. (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) الجملة حالية من الفاعل أي مزينين أو استئنافية ولعله أولى، ولهم متعلقان بزين وسوء أعمالهم فاعل. (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) مبتدأ وجملة لا يهدي خبر. الفوائد: ما يقوله التاريخ عن النسيء: روى التاريخ أن العرب في الجاهلية كانت تعتقد حرمة الأشهر الحرم وتعظيمها وكانت عامة معايش العرب من الصيد والغارة وكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية وربما وقعت حروب في بعض الأشهر الحرم فكانوا يكرهون تأخير حروبهم الى الأشهر الحلال فنسئوا يعني: أخروا تحريم شهر الى شهر آخر فنزلت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 وقال المبرد في كامله: «نسأ الله في أجلك، ونسأ الله أجلك، وأنسأ الله أجلك، والنسيء من هذا ومعناه تأخير شهر عن شهر، وكانت النسأة من بني مذلج بن كنانة فأنزل الله عز وجل «إنما النسيء زيادة في الكفر» لأنهم كانوا يؤخرون الشهور فيحرمون غير الحرام ويحلون غير الحلال لما يقدرونه من حروبهم وتصرفهم فاستوت الشهور لما جاء الإسلام» . [سورة التوبة (9) : الآيات 38 الى 40] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 اللغة: (اثَّاقَلْتُمْ) أصله تثاقلتم فأبدلت التاء ثاء ثم أدغمت في الثاء ثم اجتلبت همزة الوصل توصلا للنطق بالساكن وأنشد الكسائي: تولي الضجيع إذا ما اشتاقها خصرا ... عذب المذاق إذا ما اتّابع القبل (الغار) الكهف ويجمع على أغوار وغيران، وألفه منقلبة عن واو وغار حراء نقب في جبل ثور عن يمين مكة على مسيرة ساعة. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها. (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) ما اسم استفهام مبتدأ ولكم خبر وإذا طرف مستقبل متعلق باثاقلتم وقيل فعل ماض مبني للمجهول ولكم جار ومجرور متعلقان به وانفروا فعل أمر وفاعل والجملة مقول القول وفي سبيل الله متعلقان بانفروا وجملة اثاقلتم حال وإلى الأرض متعلقان باثاقلتم، والمعنى: أي شيء لكم من الأعذار حالة كونكم متثاقلين في وقت قول الرسول لكم انفروا أي اخرجوا الى الجهاد في سبيل الله وكان ذلك في غزوة تبوك في سنة تسع بعد رجوعهم من الطائف وقد استنفروا في وقت عسرة وقحط وقيظ مع بعد الشقة وتكالب العدو فشق عليهم. (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) الاستفهام للانكار والتوبيخ المقترنين بالتعجب ورضيتم فعل وفاعل وبالحياة جار ومجرور متعلقان برضيتم والدنيا صفة ومن الآخرة متعلقان بمحذوف حال أي بديلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 من الآخرة. (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) الفاء الفصيحة وما نافية ومتاع مبتدأ والحياة مضاف إليه والدنيا صفة وفي الآخرة متعلقان بمحذوف حال أي محسوبا في جنب الآخرة وإلا أداة حصر وقليل خبر متاع ويجوز تعليق في الآخرة بقليل وقد سمى الشهاب «في» الداخلة على الآخرة قياسية أي بالقياس الى الآخرة ولعمري ليس ببعيد. (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) إن شرطية ولا نافية وتنفروا فعل الشرط ويعذبكم جوابه وعذابا مفعول مطلق وأليما صفة ويستبدل عطف على يعذبكم وقوما مفعول به وغيركم صفة ل «قوما» . (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ولا تضروه عطف على يستبدل والواو فاعل والهاء مفعول به وشيئا مفعول مطلق أي شيئا من الضرر والله مبتدأ وقدير خبره وعلى كل متعلقان بقدير. (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) إن شرطية ولا نافية وقد أدغمتا كما تقدم وتنصروه فعل الشرط والفاء رابطة وجملة قد نصره الله جواب الشرط وقد علله الزمخشري تعليلا حسنا إذ قال: «فإن قلت كيف يكون قد نصره الله جوابا للشرط قلت فيه وجهان أحدهما إلا تنصروه في المستقبل فسينصر من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد ولا أقل من الواحد فدل بقوله قد نصره الله على أنه ينصره في المستقبل كما نصره في ذلك الوقت، والثاني أنه أوجب له النصرة وجعله منصورا في ذلك الوقت فلن يخذل من بعده، واتفق المفسرون على أن الجواب محذوف لأن غزوة تبوك في التاسعة، وقوله إذ أخرجه الذين كفروا قبل ذلك بكثير وقالوا فقد نصره الله بمثابة تعليل للجواب المحذوف وهذا قريب من قول الزمخشري الأول. (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) الظرف متعلق بنصره الله وجملة أخرجه في محل جر باضافة الظرف إليها والذين فاعل وجملة كفروا صلة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 وثاني اثنين حال من الهاء في أخرجه والتقدير إذ أخرجه الذين كفروا حال كونه منفردا عن جميع الناس إلا أبا بكر، واثنين مضاف إليه وإذ بدل من إذ الأولى أي فيفرض زمن إخراجه ممتدا بحيث يصدق على زمن استقرارهما في الغار وزمن القول المذكور فهو بدل بعض من كل، وهما مبتدأ وفي الغار خبر والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها. (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا) إذ بدل أيضا وجملة لا تحزن مقول القول وجملة إن الله معنا تعليلية وإن واسمها والظرف متعلق بمحذوف خبرها. (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) الفاء عاطفة وأنزل الله سكينته فعل وفاعل ومفعول به وعليه متعلقان بأنزل وأيده عطف على أنزل وبجنود جار ومجرور متعلقان بأيده وجملة لم تروها صفة لجنود (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا) الواو عاطفة أيضا وجعل فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله وكلمة مفعول به والذين مضاف إليه وجملة كفروا صلة والسفلى مفعول به ثان لجعل وكلمة الواو حالية وكلمة الله مبتدأ وهي ضمير فصل أو مبتدأ والعليا خبر كلمة أو خبر هي والجملة خبر كلمة. (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الله مبتدأ وعزيز حكيم خبراه. [سورة التوبة (9) : الآيات 41 الى 43] انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 اللغة: (خِفافاً وَثِقالًا) اختلفت عبارات المفسرين فيهما ولكنها ترجع الى منبع واحد، أي انفروا على الصفة التي يخفّ عليكم فيها الجهاد، وعلى الصفة التي يثقل عليكم فيها الجهاد، وهذان الوصفان من العموم والشمول بحيث تندرج تحتهما جميع الأقسام وستأتي قصة والي حمص في باب الفوائد. (عَرَضاً) العرض ما عرض لك من منافع الدنيا ومتاعها ومن أقوالهم: الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر. (قاصِداً) : السفر القاصد هو الوسط المقارب. (الشُّقَّةُ) : المسافة الشاطة الشاقة. الإعراب: (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) انفروا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وخفافا وثقالا حالان وجاهدوا عطف على انفروا وبأموالكم جار ومجرور متعلقان بجاهدوا وأنفسكم عطف على بأموالكم وفي سبيل الله جار ومجرور متعلقان بجاهدوا أيضا. (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ذلكم مبتدأ أي المذكور من الأمرين وهما انفروا وجاهدوا وخير خبر ولكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 متعلقان بخير وإن شرطية وكنتم فعل الشرط وجملة تعلمون خبر كنتم وجواب الشرط محذوف أي فجاهدوا أو فلا تثاقلوا. (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ) لو شرطية امتناعية وكان عرضا كان واسمها مستتر تقديره الشأن أي ما دعوا إليه وعرضا خبرها، وسفرا قاصدا عطف عليه، لاتبعوك: اللام واقعة في جواب لو واتبعوك فعل وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها. (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) الواو حالية ولكن حرف استدراك مهمل للتخفيف وبعدت عليهم الشقة فعل وفاعل وعليهم متعلقان ببعدت والجملة حالية. (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) الواو استئنافية والسين للاستقبال وبالله متعلقان بيحلفون وجملة لو استطعنا جواب القسم وجملة لخرجنا جواب لو ولك أن تجعل جملة لو استطعنا مقول قول محذوف منصوب على الحال أي قائلين فتكون لخرجنا سادّة مسد القسم والشرط جميعا ومعكم ظرف متعلق بخرجنا. (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) جملة يهلكون أنفسهم بدل من سيحلفون أو حال أي مهلكين وأنفسهم مفعول به والله مبتدأ وجملة يعلم خبر وان واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي يعلم. (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) جملة دعائية قدم «عفا» فيها في معرض المعاتبة تليينا لقلب الرسول ورأفة به وقد أخطأ الزمخشري إذ فسره بقوله: أخطأت وبئس ما فعلت، ولقد أحسن من قال في هذه الآية إن من لطف الله تعالى بنبيه أن بدأه بالعفو قبل العتب ولو قال له ابتداء لم أذنت لهم لتفطر قلبه. ولم: اللام حرف جر دخل على ما الاستفهامية فحذف ألفها وقد تقدم حكمها وكلتا اللامين متعلقة بالإذن لاختلافهما في المعنى، فالأولى للتعليل والثانية للتبليغ والضمير المجرور لجمع المستأذنين وتوجيه الإنكار الى الإذن لشموله الجميع. (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) حتى حرف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 غاية وجر أي الى أن يتبين لك من صدق في عذره ممن كذب فيه ولك متعلقان بيتبين والذين فاعل وجملة صدقوا صلة وتعلم عطف على يتبين والكاذبين مفعول به. الفوائد: قصة والي حمص والدمشقي: ونروي بصدد الجهاد والدعوة الى الاستنفار القصة الرائعة التالية ونكتفي بها لأن مباحث الجهاد والاستنفار مبسوطة في المطولات: فعن صفوان بن عمر قال: كنت واليا على حمص فلقيت شيخا كبيرا قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو فقلت: يا عم لقد أعذر الله إليك فرفع حاجبيه وقال: يا ابن أخي استنفرنا الله خفافا وثقالا، إلا أن من يحبه الله يبتليه. تكثير السواد وحفظ المتاع: وعن الزهري: خرج سعيد بن المسيب الى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له: انك عليل صاحب ضرر فقال: استنفرنا الله الخفيف والثقيل فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع. [سورة التوبة (9) : الآيات 44 الى 47] لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 اللغة: (وَلَأَوْضَعُوا) أي لسعوا بينكم بالنمائم وإفساد ذات البين، وأصل الإيضاع الإسراع. الإعراب: (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الجملة استئنافية مسوقة لتقرير ما يستدل منه على أن المؤمنين ليس من عادتهم أن يستأذنوك في أن يجاهدوا ويستأذنك فعل مضارع ومفعول به والذين فاعل وجملة يؤمنون صلة وبالله جار ومجرور متعلقان بيؤمنون واليوم الآخر معطوف على الله. (أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) أن وما في حيزها منصوب بنزع الخافض أي في الجهاد وهو متعلق بيستأذنك وبأموالهم جار ومجرور متعلقان بيجاهدوا وأنفسهم عطف على أموالهم والله مبتدأو عليم خبر وبالمتقين متعلقان بعليم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إنما كافة ومكفوفة وما بعده تقدم إعرابه والمعنى إن الذين يستأذنون هم المترددون المتحيرون، أما المستبصرون المؤمنون فهم مستقرون على ما عزموا عليه وما هو واجب عليهم، وهذا من أرقى أفانين الأدب الواجبة الاحتذاء، فانه لا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يسدي إليه معروفا كما لا يليق بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه، فإن الاستئذان في هذا الموطن دليل التكلف، وخليق بذوي المروءة وأرباب الفتوة أن لا يتثاقلوا إذا ندبوا الى أمر جدير بالمروءة قال طرفة: إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلد وقال آخر: إن تبتدر غاية يوما لمكرمة ... تلق السوابق منا والمصلينا وأشعارهم طافحة بذلك. (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) عطف على لا يؤمنون وارتابت قلوبهم فعل وفاعل أي شكت في الدين، فهم الفاء عاطفة وهم مبتدأ وفي ريبهم جار ومجرور متعلقان بيترددون وجملة يترددون خبر. (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) كلام معطوف أيضا ولك أن تجعله مستأنفا ولو شرطية وأرادوا الخروج فعل وفاعل ومفعول به واللام واقعة في جواب لو وأعدوا فعل وفاعل وله متعلقان بأعدوا وعدة مفعول به. (وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ) الواو عاطفة على محذوف كأنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 قيل ما خرجوا ولكن كره الله انبعاثهم. (فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) الفاء عاطفة وثبطهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وقيل فعل ماض مبني للمجهول لأن القائل محتمل أن يكون عائدا الى الله ويحتمل أن يكون عائدا الى ما ركز في أنفسهم من الشقاء وسوء المصير واقعدوا فعل أمر وفاعل ومع ظرف متعلق باقعدوا والقاعدين مضاف إليه وسيرد في باب البلاغة سر قوله مع القاعدين. (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا) كلام مستأنف مسوق لتقرير المفاسد المترتبة على خروجهم وخرجوا فعل وفاعل وفيكم متعلقان بخرجوا وجملة ما زادوكم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وزادوكم فعل وفاعل ومفعول به وإلا أداة حصر وخبالا مفعول به ثان والاستثناء هنا متصل لا منقطع لأن الاستثناء المنقطع هو أن بكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه كقولك: ما زادوكم خيرا إلا خبالا والمستثنى منه غير مذكور في الآية وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من أعم العام الذي هو الشيء فكان استثناء متصلا لأن الخبال بعض أعمّ العام كأنه قيل ما زادوكم شيئا إلا خبالا، والخبال الفساد والشر وذلك بتخذيل المؤمنين وإدخال الوهن في قلوبهم. (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) ولأوضعوا معطوف على ما زادوكم واللام واقعة في جواب لو وخلالكم منصوب على الظرفية ومتعلق بأوضعوا أي سعوا بينكم بالنمائم والإغراء، وجملة يبغونكم حال من فاعل أوضعوا أي لأسرعوا فيما بينكم باغين فتنتكم، والفتنة مفعول يبغونكم والكاف منصوب بنزع الخافض أي يبغون لكم الفتنة. (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) الواو للحال وفيكم خبر مقدم وسماعون مبتدأ مؤخر ولهم متعلقان بسماعون والمعنى وفيكم عيون لهم يتجسسون عليكم وينقلون إليهم أخباركم ويكشفون لهم خططكم، والله مبتدأ وعليم خبر وبالظالمين متعلق بعليم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 البلاغة: في الآية التميم بذكر مع القاعدين وعدم الاكتفاء بذكر اقعدوا، لأنه لو اقتصر على الأمر لم يفد سوى القعود، ولكنه أراد أن ينظمهم في سلك الزمنى والمرضى وأصحاب العاهات والمعتوهين والنساء والصبيان الذين من شأنهم الجثوم في البيوت بأنهم الموصوفون عند الناس بالتخلف والتقاعد والموسومون بسمة التلكؤ والجبانة. وسيرد المزيد من هذا الفن العجيب. [سورة التوبة (9) : الآيات 48 الى 51] لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) الإعراب: (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) اللام جواب لقسم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 محذوف وابتغوا الفتنة فعل وفاعل ومفعول به ومن قبل متعلقان بابتغوا وبنيت على الضم لقطعها عن الإضافة لفظا لا معنى أي من قبل غزوة تبوك، وقلبوا لك الأمور: عطف على ما سبقه وتقليب الإمر تصريفه على أوجه شتى لتدبير الحيلة والمكيدة، ويقال للرجل المتصرف في وجوه الحيل: حول وقلب. (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ) حتى حرف غاية وجر أي واستمروا على تقليب الأمور وحوك الدسائس وتبييت المكائد، وجاء الحق فعل وفاعل وظهر أمر الله فعل وفاعل أيضا وهم كارهون الواو للحال وهم كارهون مبتدأ وخبر والجملة نصب على الحال. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) الواو عاطفة ومنهم خبر مقدم ومن موصول مبتدأ مؤخر وجملة يقول صلة وائذن فعل أمر ولي جار ومجرور متعلقان به والواو عاطفة ولا ناهية وتفتني مجزوم بلا والنون للوقاية والياء مفعول به. (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) ألا أداة تنبيه وفي الفتنة متعلقان بسقطوا وجمع الضمير والقائل واحد مراعاة للمعنى. (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة ومحيطة خبر إن وبالكافرين متعلقان بمحيطة، والكلام معطوف على الجملة السابقة داخل في نطاق التنبيه. (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) إن شرطية وتصبك فعل الشرط والكاف مفعول به وحسنة فاعل وتسؤهم جواب الشرط. (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) عطف على ما تقدم ومعنى أخذنا أمرنا أي تلافينا وتفادينا كل خطأ وأخذنا بأسباب الحيطة والحذر والتوقي والحزم. (وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) ويتولوا عطف على يقولوا أي ويعرضوا عن مجلس النبي والواو للحال وهم فرحون مبتدأ وخبر والجملة الاسمية حالية من الضميرين في يقولوا ويتولوا لا من الأخير فقط لمقارنة الفرح لهما معا. (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا) جملة لن يصيبنا مقول القول وإلا أداة حصر وما فاعل وجملة كتب الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 لنا صلة أي قل لهم ذلك للإطاحة بما بنوا عليه مسرتهم وغبطتهم من اعتقاد مزيف (هُوَ مَوْلانا) مبتدأ وخبر، والجملة حال من الله (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) الفاء للتعليل وعلى الله جار ومجرور متعلقان بيتوكل واللام لام الأمر ويتوكل مجزوم باللام والمتوكلون فاعل. البلاغة: المجاز المرسل في قوله تعالى «ألا في الفتنة سقطوا» والعلاقة الحالية أي في جهنم فأطلق الحال وأريد المحل لأن الفتنة لا يسقط فيها الإنسان لأنها معنى من المعاني وإنما يحل في مكانها فاستعمال الفتنة في مكانها مجاز أطلق فيه الحالّ وأريد المحل. الفوائد: روى التاريخ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تجهز الى غزوة تبوك قال للجد بن قيس: يا أبا وهب هل لك في جلاد بني الأصفر، وهم ملوك الروم، فقال الجد: قد علمت الأنصار أني مستهتر بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر يعني نساء الروم، ولكن أعينك بمالي فاتركني. [سورة التوبة (9) : الآيات 52 الى 54] قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 الإعراب: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) هل حرف استفهام وتربصون فعل مضارع حذفت إحدى تاءيه أي تنتظرون وبنا متعلقان بتربصون وإلا أداة حصر وإحدى الحسنيين مفعول به. (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا) الواو عاطفة أو حالية ونحن مبتدأ وجملة نتربص خبر وبكم متعلقان بنتربص وأن وما في حيزها مفعول به والله فاعل وبعذاب متعلقان بيصيبكم ومن عنده صفة لعذاب أو بأيدنيا عطف على من عنده أي بعذاب بأيدينا. (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) الفاء الفصيحة وتربصوا فعل أمر أي إذا أردتم أن تعلموا النتائج وما يلقاه كل منا ومنكم فتربصوا وإن واسمها ومعكم ظرف متعلق بمتربصون ومتربصون خبر إنا. (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) جملة أنفقوا مقول القول والواو فاعل وطوعا وكرها مصدر ان نصبا على الحال أي طائعين أو مكرهين. (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) لن حرف نفي ونصب واستقبال ويتقبل بالبناء للمجهول مضارع منصوب بلن ومنكم متعلقان بيتقبل وان واسمها وجملة كنتم قوما من كان واسمها وخبرها خبر إن وفاسقين صفة قوما (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) الواو عاطفة وما نافية، منعهم فعل ومفعول به وأن تقبل أن وما في حيزها مفعول منع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 الثاني ومنهم متعلقان بتقبل ونفقاتهم نائب فاعل وإلا أداة حصر وأن وما في حيزها فاعل منع أي ما منعهم قبول نفقاتهم شيء من الأشياء إلا كفرهم وما عطف عليه. (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) الواو عاطفة ولا نافية ويأتون الصلاة فعل مضارع وفاعل ومفعول به وإلا أداة حصر وهم كسالى مبتدأ وخبر والواو للحال والجملة حالية. (وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) عطف على ما تقدم. البلاغة: فن التعطف أو المشاركة: وهو أن يعلق المتكلم لفظة من الكلام بمعنى، ثم يردها بعينها ويعلقها بمعنى آخر، وهما مفترقتان كل لفظة منهما في طرف من الكلام وهو في قوله تعالى: «قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده فتربصوا إنا معكم متربصون» فقد أتى التعطف من صدر الآية في قوله: «تربصون بنا» ومن عجزها في قوله: «فتربصوا إنا معكم متربصون» مع تجنيس الازدواج ووقع مع التعطف مقابلة معنوية خرج الكلام فيها مخرج إيجاز الحذف فإن مقتضى البلاغة أن يكون تقدير ترتيب اللفظ قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين: أن يصيبنا الله بعذاب من عنده أو بأيديكم ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا، فحذف لتوخي الإيجاز تفسير الحسنيين من الجملة الأولى، وأثبت في الجملة الثانية فرارا من تكرار اللفظ وتكثيره، كما حذف الحسنيين من الجملة الثانية استغناء بذكرها أولا، فحصل في الآية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 التعطف والمقابلة والإيجاز والتفسير فاكتملت فيها أربعة أضرب من البديع وهذا هو السحر الحلال، وإن من البيان لسحرا. [سورة التوبة (9) : الآيات 55 الى 60] فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) اللغة: (تُعْجِبْكَ) الإعجاب بالشيء أن يسرّ به سرور راض به متعجب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 من حسنة. والمعنى فلا تستحسن ولا يستهويك ما أوتوا من زينة الدنيا وبهارجها، وفي المصباح: ويستعمل التعجب على وجهين: أحدهما ما يحمده الفاعل ومعناه الاستحسان والإخبار عن رضاه به، والثاني ما يكرهه ومعناه الإنكار والذم له، ففي الاستحسان يقال: أعجبني، وفي الذم والإنكار: عجبت وزان تعبت. (يَفْرَقُونَ) يخافون، وفي المختار: فرق فرقا من باب تعب خاف ويتعدى بالهمزة فيقال أفرقته. (مَغاراتٍ) جمع مغارة وهي المكان المنخفض في الأرض أو في الجبل. والغور بالفتح من كل شيء قعره، والغور المطمئن في الأرض، وغار الرجل غورا أتى الغور وهو المنخفض من الأرض، وأغار بالألف مثله، والغار والمغار والمغارة كالكهف في الجبل، والكهف كالبيت في الجبل والجمع كهوف، ثم انظر الى الدقة في الترتيب مما يتناهى فيه نظم الكلام الى أسمى الحدود، ذكر أولا الأمر الأعم وهو الملجأ من أي نوع كان ثم ذكر الغيران التي يختفى فيها في أعلى الأماكن وهي الجبال، ثم الأماكن التي يختفى فيها في الأماكن السافلة وهي التي عبر عنها بالمدخل. (يَجْمَحُونَ) يسرعون إسراعا لا يردهم شيء، من الفرس الجموح وهو الذي إذا حمل لم يرده اللجام، وفي المصباح: جمح الفرس براكبه يجمح بفتحتين من باب خضع جماحا بالكسر وجموحا استعصى حتى غلبه فهو جموح بالفتح وجامح يستوي فيه المذكر والمؤنث. (يَلْمِزُكَ) يعيبك في قسمة الصدقات ويطعن عليك وفي المصباح: «لمزه لمزا من باب ضرب عابه وقرأ بها السبعة، ومن باب قتل لغة، وأصله الإشارة بالعين ونحوها» فهو أخص من الغمز إذ هو الإشارة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 بالعين ونحوها سواء أكان على وجه الاستنقاص أولا، وأما اللمز فهو خاص بكونه على وجه العيب، وفي المصباح: غمزه غمزا من باب ضرب أشار اليه بعين أو حاجب. الإعراب: (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) الفاء عاطفة وسيأتي سر استعمالها ولا ناهية وتعجبك مضارع مجزوم بلا الناهية والفاعل مستتر تقديره أنت، والخطاب وإن كان منصرفا الى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن المراد به جميع المؤمنين، وأموالهم فاعل ولا أولادهم عطف عليه (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) إنما كافة ومكفوفة ويريد الله فعل مضارع وفاعل واللام للتعليل ويعذبهم منصوب بأن مضمرة وأورد اللام للتقوية والأصل يريد أن يعذبهم، وبها متعلقان بيعذبهم وفي الحياة الدنيا حال. (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) عطف «تزهق» على «ليعذبهم» وأنفسهم فاعل والواو حالية وهم مبتدأ وكافرون خبر. (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ) الواو استئنافية ويحلفون فعل مضارع وفاعل وبالله جار ومجرور متعلقان بيحلفون وإن واسمها واللام المزحلقة ومنكم خبرها والواو للحال وما نافية حجازية وهم اسمها ومنكم خبرها والجملة حالية (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) الواو عاطفة ولكن واسمها وقوم خبرها وجملة يفرقون صفة. (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) لو شرطية ويجدون ملجأ فعل مضارع وفاعل ومفعول به أو مغارات أو مدخلا معطوفان على ملجأ. لولوا اللام واقعة في جواب لو وإليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 متعلقان بولوا وهم الواو للحال وهم مبتدأ وجملة يحجمون خبر والجملة حالية وجملة لولوا لا محل لها. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) الواو عاطفة ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة يلمزك صلة وفي الصدقات جار ومجرور متعلقان بيلمزك. (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) الفاء عاطفة وإن شرطية وأعطوا فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط ومنها في محل نصب مفعول به ثان لأن الواو وهي نائب الفاعل مفعوله الأول وإن لم يعطوا منها عطف على الجملة الأولى وإذا فجائية وهم مبتدأ وجملة يسخطون خبر وجملة إذا هم يسخطون في محل جزم جواب الشرط لأن «إذا» تخلف الفاء (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) أن وما في حيزها فاعل لفعل محذوف أي لو ثبت رضاهم، وما مفعول به وجملة آتاهم الله ورسوله صلة. (وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) حسبنا مبتدأ والله خبر أو بالعكس والجملة مقول القول، سيؤتينا الله فعل مضارع ومفعول به وفاعل ومن فضله جار ومجرور متعلقان بيؤتينا ورسوله عطف على الله. (إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ) إن واسمها والى الله جار ومجرور متعلقان براغبون وراغبون خبر إنا. (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) إنما كافة ومكفوفة وهي للقصر قصرت الصدقات على الأصناف المعدودة والصدقات مبتدأ وللفقراء خبر والمساكين عطف على الفقراء والعاملين عليها عطف أيضا وأراد بهم السعاة الذين يقبضونها من جاب وقاسم وكاتب وحاشر وحاسب، والمؤلفة قلوبهم عطف على ما تقدم أيضا، وقلوبهم نائب فاعل. (وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) وفي الرقاب معطوف على قوله للفقراء أي ومصروفة في الرقاب ولا بد من تقدير مضاف أي وفي فك الرقاب والغارمين عطف أيضا أي الذين فدحتهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 الديون إن استدانوا لغير معصية أو لإصلاح ذات البين وفي سبيل الله عطف أيضا أي القائمين بالجهاد وابن السبيل عطف أيضا وهو المنقطع فهو فقير حيث هو غني حيث ماله. (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) مفعول مطلق لفعل محذوف أي فرض الله ذلك فريضة ويجوز إعرابها حالا من الفقراء ومن بعدهم أي إنما الصدقات كائنة لهم حال كونها فريضة وهي فعيلة بمعنى مفروضة وإنما دخلتها التاء وحقها أن يستوي فيها المذكر والمؤنث لجريانها مجرى الأسماء كالنطيحة، ومن الله صفة والله مبتدأ وعليم خبر أول وحكيم خبر ثان. البلاغة: مخالفة الحروف: في قوله تعالى «إنما الصدقات للفقراء» الى آخر الآية فن طريف من فنون البلاغة لطيف المأخذ، دقيق المغزى، قلّ من يتفطن إليه فقد عدل عن اللام الى في، في الأربعة الأخيرة وذلك لسرّ يخفى على المتأمل السطحي، وهو أن الأصناف الأربعة الأوائل وهم الفقراء والمساكين والعاملون عليها والمؤلفة قلوبهم ملاك لما عساه يدفع إليهم فكان دخول اللام لائقا بهم، وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون ما يصرف نحوهم بل ولا يصرف إليهم ولكن في مصالح تتعلق بهم فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون والبائعون فليس نصيبهم مصروفا الى أيديهم حتى يعبر عن ذلك باللام المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 وإنما هم محالّ لهذا الصرف، والمصلحة المتعلقة به، وكذلك العاملون إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم تخليصا لذممهم لا لهم وأما سبيل الله فواضح فيه ذلك، وأما ابن السبيل فكأنه كان مندرجا في سبيل الله وإنما أفرد بالذكر تنبيها على خصوصيته مع أنه مجرد من الحرفين جميعا وعطفه على المجرور باللام ممكن ولكنه على القريب منه أقرب، إذا تفرر هذا تبين لك ما تميز به الأئمة الأربعة من رهافة ذوق وإصابة حدس في استنباط الأصول الفقهية من مخالفة الحروف، ووجه آخر أشار اليه الزمخشري وذكره ابن الأثير في كتابه الممتع «المثل السائر» نلخصه فيما يلي: إنما عدل عن اللام الى «في» في الثلاثة الأخيرة للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصديق عليهم ممن سبق ذكره باللام لأن «في» للوعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات كما يوضع الشيء في الوعاء ويجعلوا مظنة لها، وذلك لما في فك الرقاب وفي الغرم من التخليص والانقاذ، وتكرير «في» في قوله «وفي سبيل الله» دليل على ترجيحه على الرقاب وعلى الغارمين، وسياق الكلام أن يقال: وفي الرقاب والغارمين وسبيل الله وابن السبيل فلما جيء ب «في» مرة ثانيه وفصل بها بين الغارمين وبين سبيل الله علم أن سبيل الله أوكد في استحقاق النفقة فيه وهذه لطائف ودقائق لا توجد إلا في هذا الكلام الشريف. الفوائد: وفيما يلي فصل ممتع كتبه عالم جليل من علماء الأزهر نثبته لأصالته في الصدقات والزكوات قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 «تدفع الزكاة لثمانية أصناف: 1- الفقير: وهو الذي لا مال ولا كسب لائق يقع موقعا من كفايته بأن ينقص عن نصف ما يحتاجه كمن يحتاج الى عشرة لا يملك ولا يكسب إلا درهمين أو ثلاثة. 2- المسكين: من له مال أو كسب لا يكفيه كمن يحتاج الى عشرة دراهم وعنده سبعة. 3- العاملين عليها: الساعين في تحصيلها كالكاتب لأموال الزكاة. 4- المؤلفة قلوبهم: وهم الذين أسلموا وإسلامهم ضعيف أو كان قويا ولكن يتوقع بإعطائهم إسلام غيرهم. 5- الرقاب: وهم المكاتبون من الأرقاء لغير المزكي كتابة صحيحة. 6- الغارم: وهو الذي تداين دينا لنفسه وحل الدين ولا قدرة له على وفائه وقصد صرفه في مباح أو صرفه فيه أو تداين لإصلاح ذات البين إن حل الدين ولم يوفه من ماله ولو كان غنيا، أو تداين لضمان إن أعسر هو والمضمون. 7- وأهل سبيل الله: وهم الغزاة المتطوعون بالجهاد وإن كانوا أغنياء إعانة على الجهاد. 8- وابن السبيل: وهو المسافر سفرا مباحا من بلد الزكاة ولو مجتاز الى وطنه أو غيره فيعطى من مال الزكاة ما يوصله الى مقصده إن احتاج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 [سورة التوبة (9) : الآيات 61 الى 63] وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) اللغة: (أُذُنٌ) بضمتين الجارحة المعروفة عضو السماع مؤنثة والجمع آذان، وأذن الكوز عروته وتصغيرها أذينة، وفلان أذن من الآذان إذا كان يسمع مقال كل أحد وتكون بلفظ واحد مع الجميع ويقال: جاء لابسا أذنيه أي غافلا وسيأتي مزيد تفصيل عنها في باب البلاغة والفوائد. (يُحادِدِ) يشاقق وفي القاموس وغيره: حادّه عاداه وغاضبه. الإعراب: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ) كلام مستأنف مسوق للحديث عن فرقة من المنافقين كما سيأتي في باب الفوائد ومنهم خبر مقدم والذين مبتدأ مؤخر وجملة يؤذون النبي صلة. (وَيَقُولُونَ: هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) ويقولون عطف على يؤذون وجملة هو أذن من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 المبتدأ والخبر مقول القول وقل فعل أمر وأذن خبر والمبتدأ محذوف وخير مضاف إليه ولكم صفة. (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) جملة يؤمن بالله تفسيرية لكونه أذن خير لهم ويؤمن للمؤمنين عطف على يؤمن بالله وعدى الإيمان إلى الله بالباء لتضمنه معنى التصديق ولموافقة ضده وهو الكفر في قوله «من كفر بالله» وعداه للمؤمنين باللام لتضمنه معنى الانقياد وموافقته لكثير من الآيات كقوله «وما أنت بمؤمن لنا» وقوله «أفتطمعون أن يؤمنوا لكم» ويمكن أن يجاب بأنه عدى فعل الإيمان إلى الله بالباء وإلى المؤمنين باللام لأن إيمان الأمان من الخلود في النار وهو المقابل للكفر حقه أن يعدى بالباء وأما الايمان بمعنى التصديق والتسليم فانه يعدي باللام للتفرقة بينهما وإن كان حقه أن يعدى بنفسه كالتصديق حيث يقال صدقتك. ورحمة للذين آمنوا عطف على اذن خير وللذين آمنوا صفة لرحمة ومنكم حال من الضمير في آمنوا (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الذين مبتدأ وجملة يؤذون رسول الله صلة ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم صفة والجملة الاسمية خبر الذين. (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) الجملة خبر ثان للذين ولكم متعلقان بيحلفون واللام للتعليل ويرضوكم منصوب بأن مضمرة والواو فاعل والكاف مفعول به ولام التعليل ومجرورها متعلقان بيحلفون أيضا. (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) الواو للحال والله مبتدأ ورسوله عطف على الله وأحق خبر مقدم وأن وما في حيزها مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر الله ووحد الضمير لتلازم الرضاءين وإفراد الضمير في يرضوه إما للتعظيم للجناب الإلهي بإفراده بالذكر ولكونه لا فرق بين إرضاء الله وإرضاء رسوله فإرضاء الله إرضاء لرسوله، أو المراد الله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك كما قال سيبويه ورجحه النحاس، أو لأن الضمير موضوع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 موضع اسم الإشارة فإنه يشار به إلى الواحد والمتعدد، أو الضمير راجع الى المذكور وهو يصدق عليهما، وقال الفراء: المعنى ورسوله أحق أن يرضوه والله افتتاح كلام كما تقول ما شاء الله وشئت. وإن شرطية وكانوا فعل الشرط ومؤمنين خبر كانوا والجواب محذوف أي فالله ورسوله أحق، ويجوز أن يكون الكلام جملتين حذف خبر إحداهما لدلالة الثاني عليه والتقدير والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك. (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي ولم حرف نفي وقلب وجزم ويعلموا مجزوم بلم وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يعلموا وأن واسمها ومن شرطية مبتدأ ويحادد فعل الشرط ولفظ الجلالة مفعوله ورسوله عطف على اللام. (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) الفاء رابطة وإن حرف مشبه بالفعل وله خبرها المقدم ونار جهنم اسمها المؤخر وخالدا حال من الضمير المجرور باللام وفيها متعلقان بخالدا وجملة اسم الشرط وفعله وجوابه خبر انه الأولى وذلك مبتدأ والخزي خبره والعظيم صفة. البلاغة: المجاز المرسل: في قوله تعالى «هو أذن» مجاز مرسل كما يراد بالعين الرجل إذا كان ربيئة لأن العين هي المقصودة منه فصارت كأنه الشخص كله، وهو من إطلاق اسم الجزء على الكل للمبالغة والعلاقة تسمى الجزئية قال الشاعر: كم بعثنا الجيش جرّا ... را وأرسلنا العيونا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 وفي رد الله تعالى عليهم بقوله «قل أذن خير» إطماع لهم بالتسليم أولا ثم إيذان باليأس ثانيا ولا شيء أبلغ من الرد عليهم بهذا الوجه يكر على طمعهم بعد الموافقة في الظاهر عليه بالحسم ويعقبه باليأس منه، ويسمى «القول بالموجب» والموجب بكسر الجيم لأن المراد به الصفة الموجبة للحكم فهو اسم فاعل من أوجب ويحتمل فتح الجيم إن أريد بالقول الحكم الذي أوجبته الصفة فيكون اسم مفعول والمعنيان صحيحان، وهو قسمان: 1- أن تقع صفة في كلام الآخر كناية عن شيء أثبت له حكم فتثبت في كلامك تلك الصفة من غير تعرض لثبوت ذلك الحكم وانتفائه عنه كقوله تعالى: «يقولون لئن رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين» فالأعز صفة وقعت في كلام المنافقين كناية عن فريقهم والأذل كناية عن المؤمنين وقد أثبتوا لفريقهم، المكنى عنه بالأعز، الإخراج فأثبت الله تعالى في الرد عليهم صفة العزة لغير فريقهم وهو الله ورسوله والمؤمنون ولم يتعرض لثبوت ذلك الحكم الذي هو الإخراج للموصوفين بالعز، أعني الله ورسوله والمؤمنين ولا لنفيه عنهم ومنه قول القبعثرى للحجاج لما توعده فقال: لأحملنك على الأدهم يعني القيد فرأى القبعثرى أن الأدهم يصلح صفة للقيد والفرس فحمل كلامه على الفرس فقال مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب فقال الحجاج: إنه أي الأدهم حديد فقال القبعثرى: لأن يكون حديدا خير من أن يكون بليدا فحمل الحديد على خلاف مراده أيضا. 2- حمل لفظ وقع في كلام الآخر على خلاف مراده بما يحتمله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 يذكر متعلقه وقد شاع هذا الضرب على ألسنة الشعراء وتداولوه في أشعارهم كثيرا قال ابن حجاج: قال: ثقلت إذ أتيت مرارا ... قلت: ثقلت كاهلي بالأيادي قال: طوّلت قلت أوليت طولا ... قال: أبرمت قلت: حبل ودادي وقد أوردنا في أواخر سورة الإنعام أبياتا لصفي الدين الحلي كرر فيها هذا الضرب ويصح حمل الآية الكريمة على هذا الضرب بذكر متعلق الأذن وهو خير. الفوائد: روى التاريخ أنه اجتمع ناس من المنافقين فيهم الجلاس بن سويد ووديعة بن ثابت فوقعوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وذموه، وقال الجلاس بن سويد وهو بوزن غراب كما في القاموس: نقول ما شئنا ثم نأتيه فننكر ما قلنا ونحلف فيصدقنا فيما نقول فإنما محمد أذن، وكان عندهم غلام يقال له عامر بن قيس فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فدعاهم وسألهم فأنكروا وحلفوا أن عامرا كذاب وحلف عامر أنهم كذبة فجعل عامر يدعو ويقول: اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب فأنزل الله هذه الآية. [سورة التوبة (9) : الآيات 64 الى 66] يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 الإعراب: (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان ما يضطرم في صدور المنافقين من حسد وعداوة للمؤمنين فهم يخشون أن تنزل عليهم تخبرهم بما تنطوي عليه نفوس المنافقين، ولا تقل: إن الضمائر متفككة فما أسهل إرجاع كل ضمير الى أصحابه، ويحذر المنافقون فعل مضارع وفاعل وأن تنزل عليهم مفعول به ناصبه يحذر فإنه يتعدى بنفسه خلافا للمبرد الذي زعم أن حذر لا يتعدى، وقال: انه من هيئات النفس كفزع والرد عليه من أوجه: آ- ان ذلك غير لازم ولا مضطرد فكثير من هيئات النفس متعد كخاف وخشى. ب- قوله تعالى: «ويحذركم الله نفسه» فلولا أنه متعد في الأصل لواحد لما اكتسب بالتضعيف مفعولا ثانيا. ج- أجمعت معاجم اللغة على أنه يتعدى بنفسه وبالحرف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 وعليهم متعلق بتنزل وسورة نائب فاعل وجملة تنبئهم صفة لسورة وبما في موضع المفعول الثاني لتنبئهم وفي قلوبهم متعلق بمحذوف صلة ما. (قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) استهزئوا فعل أمر يراد به التهديد وإن واسمها وخبرها وما موصول مفعول مخرج لأنه اسم فاعل وجملة تحذرون صلة ما. (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) مقول القول وجملة نخوض خبر كنا. قل: أبالله وآياته ورسوله كنتم وهو في محل جزم فعل الشرط وليقولن اللام واقعة في جواب القسم ويقولن فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو فاعل والنون المشددة للتوكيد وجملة إنما كنا نخوض ونلعب مقول القول وجملة نخوض خبر كنا. (قُلْ: أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي وبالله متعلقان بتستهزءون وآياته ورسوله عطف على الله وكنتم تستهزئون كان واسمها والجملة الفعلية خبرها. (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) لا ناهية وتعتذروا مضارع مجزوم بلا الناهية وقد حرف تحقيق وكفرتم فعل وفاعل وبعد متعلق بكفرتم وإيمانكم مضاف إليه. (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) إن شرطية ونعف فعل الشرط وعن طائفة متعلقان بنعف ومنكم صفة ونعذب جواب الشرط وطائفة مفعول به وبأنهم متعلقان بنعذب والباء للسببية وان واسمها وجملة كانوا مجرمين خبرها وكان واسمها وخبرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 [سورة التوبة (9) : الآيات 67 الى 69] الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) اللغة: (الخلاق) بفتح الخاء النصيب وهو ما خلق للإنسان أي قدر من خير. الإعراب: (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) المنافقون مبتدأ والمنافقات عطف عليه وبعضهم مبتدأ ومن بعض خبر أي متشابهون كأبعاض الشيء الواحد. (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) الجملة خبر ثان للمنافقون والأول هو الجملة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 الاسمية وينهون عن المعروف عطف على الجملة السابقة ويقبضون أيديهم عطف أيضا وسيأتي معناها في باب البلاغة. (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) نسو الله فعل وفاعل ومفعول به فنسيهم عطف على نسوا وسيأتي بحث هذا المجاز المرسل، وإن واسمها وهم مبتدأ ثان أو ضمير فصل والفاسقون خبر «هم» أو خبر إن والجملة الاسمية خبر إن. (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ) وعد الله المنافقين فعل وفاعل ومفعول والمنافقات عطف وكذلك الكفار ونار جهنم مفعول به ثان، ووعد يستعمل في الخير والشر (خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ) خالدين حال من المفعول الأول وهي مبتدأ وحسبهم خبر والجملة حالية (وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) الواو عاطفة ولعنهم الله فعل ومفعول به وفاعل ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر ومقيم صفة. (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً) الكاف اسم بمعنى مثل خبر لمبتدأ محذوف أي أنتم مثل الذين ويجوز أن تكون الكاف حرف جر والجار والمجرور خبرا للمبتدأ المقدر ومن قبلكم صلة الذين وكانوا أشد كان واسمها وخبرها ومنكم جار ومجرور متعلقان بأشد وقوة تمييز. (وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً) عطف على أشد منكم قوة. (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) الفاء عاطفة واستمتعوا فعل وفاعل وبخلاقهم متعلقان باستمتعوا. (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) عطف على ما تقدم. (كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) الكاف محلها النصب على المفعولية المطلقة والذين فاعل ومن قبلكم صلة الذين وبخلاقهم جار ومجرور متعلقان باستمتع (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) الكاف ومدخولها في محل نصب على المفعولية المطلقة. (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أولئك مبتدأ وجملة حبطت خبر وأعمالهم فاعل وفي الدنيا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 جار ومجرور متعلقان بحبطت. (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) مبتدأ وخبر وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان. البلاغة: في هذه الآيات فنون من البلاغة: 1- الكناية في قوله تعالى (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) كناية عن الشح والأصل في هذه الكناية أن المعطي يمد يده ويبسطها بالعطاء فقيل لمن منع وبخل قد قبض يده. 2- المجاز المرسل في قوله تعالى «نسوا الله فنسيهم» لأن النسيان هنا غير وارد فهو بالنسبة إليهم مسقط التكليف عنهم، وهو بالنسبة إليه تعالى محال، ولذلك لا بد من حمل الكلام على المجاز المرسل والعلاقة اللازمية فالمراد لازم النسيان وهو الترك أي أنهم أغفلوا ذكر الله فتركهم من رحمته وفضله أو يقال فيه فن المشاكلة لأن النسيان الحقيقي لا يصح إطلاقه على الله سبحانه وإنما أطلق عليه هنا من باب المشاكلة أي تركوا ما أمرهم به فتركهم من رحمته وفضله. 3- التكرير في ترديد استمتعوا، ذلك انه شبه حالهم بحال الأولين ففي التكرير تأكيد ومبالغة في ذم المخاطبين وتقبيح حالهم واستهجان أمرهم. 4- الاستعارة التصريحية في خضتم شبّه الباطل بماء وحذف المشبه وأبقى المشبه به وهو الماء على طريق الاستعارة التصريحية التبعية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 5- التنكيت في قوله تعالى: «المنافقون والمنافقات» إلى آخر الآية ثم قوله بعد ذلك «والمؤمنون والمؤمنات» الى آخر الآية فإن لقائل أن يقول: ما النكتة التي أوجبت وصف المنافقين والمنافقات بالتلاحم الشديد دون المؤمنين والمؤمنات بحيث لا يجوز التبديل في الخبرين فيجعل التلاحم بين المؤمنين وغيره بين المنافقين؟ فيقال في الجواب: لما كان المنافقون والمنافقات كلهم يهود وهم من بني إسرائيل كان اتصال بعضهم ببعض اتصال نسب أو ما نطلق عليه العنصرية والجنس، ولما كان المؤمنون من شعوب متفرقة وأمم شتى كان اتصالهم اتصال سبب وهو جعل الإسلام بينهم من التحاب في الله والولاء فيه والتناحر في سبيله، ومن هاهنا لم يجز التبديل بين الخبرين بأن يجعل اتصال النسب للمؤمنين واتصال السبب للمنافقين. [سورة التوبة (9) : الآيات 70 الى 72] أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 اللغة: (الْمُؤْتَفِكاتِ) مدائن قوم لوط وقيل قريات قوم لوط وهود وصالح وائتفاكهن انقلاب أحوالهن من الخير الى الشر أو المنقلبات التي جعل الله عاليها سافلها، ويقال: أفكه إذا قلبه وبابه ضرب، ويقال: أفكته فائتفك فهو مطاوعه أي قلبته فانقلب والمادة تدل على التحول والصرف. (عَدْنٍ) إقامة، وهي هنا علم على الجنة، وأصلها من عدن القوم بالبلد أقاموا فيه، وطال عدنهم فيه وعدونهم، وفلان في معدن الخير والكرم، وهو من مراكز الخير ومعادنه، وعليه عدنيات أي ثياب كريمة وأصلها النسبة إلى عدن بفتحتين، ومن أقوالهم: «مرت جوار مدنيات عليهن رباط عدنيات» وكثر حتى قيل للرجل الكريم الأخلاق عدني كما قيل للشيء العجيب من كل فن عبقري، قال ابن جابر المحاربي: سرت ما سرت من ليلها ثم عرّست ... إلى عدنيّ ذي غناء وذي فضل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 إلى ابن حصان لم تخضرم جدودها ... كريم النثا والخيم والعقل والأصل الإعراب: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويأتهم مجزوم بلم والهاء مفعول به ونبأ فاعل والذين مضاف إليه ومن قبلهم صلة (قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ) قوم بدل من الذين بدل بعض من كل وقوله وعاد الى آخر المعطوفات كلها معطوفة على قوم نوح غير ان الأخير وهو المؤتفكات على حذف مضاف أي قريات قوم لوط وإنما افتصر القرآن الكريم هذه الطوائف الست لأن آثارهم باقية وبلادهم بالشام واليمن والعراق وكل ذلك قريب من أرض العرب في شبه حزيرتهم فكانوا يعرجون بها ويتنسمون أخبار أهلها. (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) الجملة استئنافية لبيان أخبارهم وأحاديثهم، ورسلهم فاعل. (فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الفاء عاطفة وما نافية كان الله كان واسمها واللام للجحود ويظلمهم منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود والجار والمجرور متعلقان بالخبر أي مريدا ليظلمهم، ولكن الواو عاطفة ولكن مخففة مهملة وكان واسمها وأنفسهم مفعول مقدم ليظلمون وجملة يظلمون خبر كانوا وقدم المفعول به اهتماما به مع مراعاة الفاصلة. (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) المؤمنون مبتدأ وبعضهم مبتدأ ثان وأولياء خبر والجملة خبر المؤمنون وقد مرت مقابلتها مع الإشارة الى فن التنكيت بين الجملتين في الخبر. (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) الجملة خبرية وقد تقدم إعرابها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) عطف على ما تقدم. (وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) عطف أيضا. (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أولئك مبتدأ وجملة سيرحمهم الله خبر وإن واسمها وخبراها. (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وعد الله المؤمنين فعل وفاعل ومفعول به وجنات مفعول به ثان وجملة تجري صفة والأنهار فاعل ومن تحتها جار ومجرور متعلقان بتجري. (خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) خالدين فيها حال من المؤمنين ومساكن عطف على جنات وطيبة صفة وفي جنات عدن صفة ثانية. (وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) مبتدأ ساغ الابتداء به لأنه وصف بقوله من الله وأكبر خبره ولم يسلكه في نظام الموعود به لأنه متحقق في ضمن كل موعود ولأنه قصارى ما ترقى إليه آمال النفوس. (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ذلك مبتدأ وهو مبتدأ ثان والفوز خبر هو والجملة خبر اسم الاشارة والعظيم صفة. [سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 74] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 الإعراب: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) جاهد فعل أمر والكفار مفعول به والمنافقين عطف (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) واغلظ عطف على جاهد أي لا تأخذك هوادة فيهم وحاربهم بالسيف وأقم زيفهم بالمنطق والحجة. (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) قال أبو البقاء في إعرابه: «إن قيل كيف حسنت الواو هنا والفاء أشبه بهذا الموضع ففيه ثلاثة أجوبة: أحدها أن الواو واو الحال والتقدير افعل ذلك في حال استحقاقهم جهنم وتلك الحال حال كفرهم ونفاقهم. والثاني أن الواو جيء بها تنبيها على إرادة فعل محذوف تقديره واعلم أن جهنم مأواهم. والثالث أن الكلام قد حمل على المعنى، والمعنى أنه قد اجتمع لهم عذاب الدنيا بالجهاد والغلظة وعذاب الآخرة بجعل جهنم مأواهم» ولا حاجة إلى هذا كله لأن الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان مآل أمرهم بعد بيان عاجله، وبئس المصير الواو عاطفة وبئس المصير فعل وفاعل والمخصوص بالذم محذوف للعلم به أي مصيرهم. (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا) جملة مستأنفة مسوقة لبيان ما صدر عنهم من الأعمال المنكرة الموجبة للأمر بجهادهم والغلظة عليهم، وبالله جار ومجرور متعلقان بيحلفون وما نافية وقالوا فعل وفاعل وجملة ما قالوا جواب القسم. (وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقالوا فعل وفاعل وكلمة الكفر مفعول قالوا، قيل هي كلمة الجلاس بن سويد الآنفة الذكر وقد قيل هي كلمة عبد الله بن أبي بن سلول حيث قال: «لئن رجعنا الى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» ، وكفروا عطف على قالوا وبعد ظرف متعلق بكفروا (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) عطف على ما تقدم وبما متعلقان بهموا وجملة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 لم ينالوا صلة وسيأتي نبأ هذا الهم وهو الفتك برسول الله في باب الفوائد. (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) الواو عاطفة وما نافية ونقموا فعل وفاعل وإلا أداة حصر وأن وما في حيزها مفعول نقموا وأغناهم الله فعل ومفعول به وفاعل ورسوله عطف على الله ومن فضله متعلقان بأغناهم. (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ) الفاء عاطفة وإن شرطية ويتوبوا فعل الشرط ويك جواب الشرط مجزوم بالسكون على النون المحذوفة للتخفيف وقد تقدمت قاعدتها في خصائص كان، واسم بك مستتر أي المتاب وخيرا خبر ولهم متعلقان ب «خيرا» . (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الواو عاطفة وإن شرطية ويتولوا فعل الشرط ويعذبهم جواب الشرط والهاء مفعول به والله فاعل وعذابا مفعول مطلق وأليما صفة وفي الدنيا متعلقان بيعذبهم والآخرة عطف على الدنيا. (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) الواو عاطفة وما نافية ولهم خبر مقدم وفي الأرض حال ومن حرف جر زائد وولي مبتدأ مؤخر محلا ولا نصير عطف على ولي. البلاغة: في هذه الآية «وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله» تأكيد المدح بما يشبه الذم، وقد تقدم مبحث هذا الفن في المائدة، كأنه قال ليس له صفة تعاب وتكره إلا أنه ترتب على قدومه إليهم وهجرته عندهم إغناء الله إياهم بعد الخصاصة والفاقة وشدة الحاجة وهذه ليست صفة ذم فحينئذ ليس له صفة تذم أصلا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 الفوائد: محاولة الفتك بالنبي (صلى الله عليه وسلم) : روى التاريخ أنهم قرروا فيما بينهم الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة عند عوده من تبوك، وهم بضعة عشر رجلا، وقد اجتمع رأيهم على أن يدفعوه عن راحلته ليقع في الوادي فيموت، فلما وصل الى العقبة نادى مناديه بأمره: إن رسول الله يريد أن يسلك العقبة فلا يسلكها أحد غيره، واسلكوا يا معشر الجيش بطن الوادي فإنه أسهل لكم وأوسع، فسلك الناس بطن الوادي، وسلك النبي صلى الله عليه وسلم العقبة، وكان ذلك في ليلة مظلمة، فجاء المنافقون وتلثموا وسلكوا العقبة، وكان النبي قد أمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام ناقته ويقودها، وأمر حذيفة أن يسوقها من خلفها فبينما النبي يسير في العقبة إذ غشيه المنافقون، فنفرت ناقته حتى سقط بعض متاعه فصرخ بهم، فولوا مدبرين وعلموا أنه اطلع على مكرهم فانحطوا من العقبة مسرعين الى بطن الوادي، واختلطوا بالناس، فرجع حذيفة يضرب الناقة، فقال له النبي: هل عرفت أحدا منهم؟ قال: لا كانوا متلثمين، والليلة مظلمة، قال: هل علمت مرادهم؟ قال: لا، قال النبي: انهم مكروا وأرادوا أن يسيروا معي في العقبة فيزحمونني عنها وإن الله خبرني بهم وبمكرهم، فلما رجع جمعهم، وأخبرهم بما مكروا به فحلفوا بالله ما قالوا ولا أرادوا. وهناك روايات أخرى لا تخرج عن هذا المعنى يرجع إليها في المطولات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 [سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 80] وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) الإعراب: (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ) استئناف مسوق لبيان قصة ثعلبة بن حاطب وهو نموذج مجسّد للنفاق وسيأتي حديثه في باب الفوائد، ومنهم خبر مقدم ومن موصول مبتدأ مؤخر وجملة عاهد الله صلة. (لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) اللام موطئة للقسم وإن شرطية وآتانا فعل ماض ونا مفعول به وهو فعل الشرط ولنصدقن جواب القسم وجواب الشرط محذوف واللام في لنصدقن واقعة في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 جواب القسم ولا يمتنع الجمع بين القسم واللام الموطئة له. ولنكونن عطف على لنصدقن ومن الصالحين خبر نكونن والاسم مستتر تقديره نحن (فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) الفاء عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة وآتاهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به ومن فضله جار ومجرور متعلقان بآتاهم وجملة بخلوا به لا محل لها وتولوا عطف على بخلوا والواو حالية وهم مبتدأ ومعرضون خبر. (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) الفاء عاطفة وأعقبهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول ونفاقا مفعول به ثان وفي قلوبهم صفة نفاقا أي متمكنا راسخا في قلوبهم والى يوم حال أي ممتدا وجملة يلقونه مضاف إليها الظرف. (بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) الباء حرف جر للسببية وما مصدرية أي بسبب إخلافهم الله الوعد والله مفعول أخلفوا وما مصدرية وهي وما في حيزها مفعول أخلفوا وبما كانوا يكذبون عطف على ما تقدم مماثل له في الإعراب. (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) الهمزة للاستفهام الإنكاري ويعلموا مضارع مجزوم بلم وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يعلموا وسرهم مفعول يعلم ونجواهم عطف على سرهم وأن الله علام الغيوب أن واسمها وخبرها وهي معطوفة على أن الاولى (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ) الذين في محل خبر لمبتدأ محذوف أي هم أو مبتدأ ويلمزون صلة والمطوعين مفعول به ومن المؤمنين حال وفي الصدقات متعلقان بيلمزون أي يعيبونهم فيها. (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) عطف على الذين يلمزون وإلا أداة حصر وجهدهم مفعول يجدون. (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) عطف على يلمزون ومنهم متعلقان بيسخرون. (سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) جملة سخر الله منهم خبر الذين ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 صفة. (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) أمر يراد به الخبر كأنه قيل لن يغفر الله لهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، وأو للتخبير والعطف ولا ناهية وتستغفر مجزوم بلا ولهم متعلقان بالفعل وسيأتي مزيد بحث عنه في باب البلاغة. (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) إن شرطية وتستغفر فعل الشرط ولهم متعلق بتستغفر وسبعين ظرف خلافا لأبي البقاء إذ أعربها مفعولا مطلقا ولكن ورود مرة بعدها وهي ظرف أكدت حتمية كونها ظرفا ومرة تمييز والسبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير، قال علي بن أبي طالب: لأصبحن العاصي وابن العاصي ... سبعين ألفا عاقدي النواصي والفاء رابطة ولن حرف ناصب ويغفر منصوب بلن والله فاعل ولهم متعلق بيغفر. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) ذلك مبتدأ وبأنهم خبر وأن وما في حيزها مصدر مجرور بالباء وجملة كفروا خبر أن وبالله متعلقان بكفروا ورسوله عطف على الله والله مبتدأ وجملة لا يهدي خبر والقوم مفعول به والفاسقين نعت. البلاغة: في قوله تعالى: «استغفر لهم أو لا تستغفر لهم» خروج الأمر والنهي عن معناهما الأصلي إلى معنى آخر وهو التسوية كقول كثير عزة: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 كأنه يقول لها امتحني محلك عندي وقوة محبتي لك وعامليني بالإساءة والإحسان وانظري هل يتفاوت حالي معك مسيئة أو محسنة وكذلك معنى الآية استغفر لهم أو لا تستغفر لهم وانظر هل يغفر لهم في حالتي الاستغفار وتركه وهو من أبلغ الكلام. الفوائد: قصة ثعلبة بن حاطب: 1- وهذه قصة رائعة يتجسد فيها النفاق ونلخصها لطولها ولعل القارئ يرجع إليها في المطولات، روى التاريخ أن ثعلبة بن حاطب سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له أن يرزقه الله مالا ويؤدي منه كل ذي حق حقه فدعا له فوسع عليه وكان ثعلبة صحيح الإسلام في ابتداء أمره وكان ملازما لمسجد رسول الله حتى لقب بحمامة المسجد فلما تم له الرزق الوفير انقطع عن الجمعة والجماعة ومنع الزكاة إلى آخر تلك القصة الفريدة في التاريخ. 2- قاعدة هامة: قد يوضع الطلب موضع الخبر للرضاء بالواقع حتى كأنه مطلوب، وعليه قول كثير: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلّت أي لا ملومة أنت لدينا ولا مبغوضة فذكر لفظ الأمر ثم عطف عليه بلفظ أو، فالأمر يفيد الإساءة والمعنى على الإخبار أي نحن راضون بما تفعلين لا نلومك أسأت أم أحسنت ولا نبغضك إن أبغضت ففيه تنبيه على إظهار مزيد الرضا بكل ما اختارته عزة في حقه وتنبيه على عدم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 تفاوت جواب كثير بتفاوت ما اختارت عزة وعليه الآية الكريمة الآنفة الذكر فإنه لا يتفاوت عدم غفران الله لهم بتفاوت استغفار الرسول عليه السلام وقوعا وعدم وقوع، فإن مقتضى المقام هاهنا هو الإخبار لا الأمر لأنه لا يصح أن يحمل هاهنا على حقيقة الأمر وهو طلب شيء مع ضده. وقد شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة ونحوها في التكثير لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد وكأنه العدد بأسره، وتوضيح هذا الكلام أن السبعة أول عدد كامل حيث جمعت العدد كله لأن العدد أزواج وأفراد، فالأزواج والأفراد منها أول وثان فالاثنان أول الأزواج والأربعة زوج ثان والثلاثة أول الافراد والخمسة فرد ثان فإذا جمعت الزوج الأول مع الفرد الثاني أو الفرد الأول مع الزوج الثاني كانت سبعة، وهذه الخاصة لا توجد في عدد قبل السبعة، وقيل: إن العرب تبالغ في العدد بالسبعة لأن التعديل في نصف العقد وهو خمسة، إذا زيد عليه واحد كان لأدنى المبالغة، وإذا زيد عليه اثنان كان لأقصى المبالغة، ولا زيادة على ذلك، ولذلك قالوا للأسد سبع لأنه قد ضوعفت قوته سبع مرات، ثم سبعون غاية الغايات لأن غاية الآحاد العشرات فمعنى الآية أنه تعالى لا يغفر لهم وإن استغفرت بكل الأعداد دائما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 [سورة التوبة (9) : الآيات 81 الى 82] فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) الإعراب: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ) فرح المخلفون فعل وفاعل وهم الذين خلفهم الكسل وأقعدهم عن الإسهام في واجباتهم المقدسة بعد أن استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في القعود، وبمقعدهم متعلق بفرح وخلاف رسول الله أي خلفه منصوب على أنه مفعول لأجله أو حال أي قعدوا لمخالفته أو مخالفين له ويجوز أن ينتصب على المصدر بفعل مقدر مدلول عليه بقوله مقعدهم لأنه في معنى تخلفوا أي تخلفوا خلاف رسول الله ويجوز أن ينتصب على الظرف أي بعد رسول الله وإلى هذا ذهب أبو عبيدة وعيسى بن عمر والأخفش واقتصر عليه أبو البقاء (وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) عطف على فرح المخلفون وأن وما في حيزها مفعول كرهوا أي وكرهوا الخروج الى الجهاد. (وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتنفروا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وفي الحر جار ومجرور متعلقان بتنفروا وقل فعل أمر ونار جهنم مبتدأ وأشد خبر وحرا تمييز ولو شرطية وكان واسمها وجملة يفقهون خبرها وجواب لو محذوف تقديره ما تخلفوا. (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) الفاء الفصيحة واللام لام الأمر ويضحكوا مجزوم بها وقليلا مفعول مطلق أو ظرف زمان بمعنى ضحكا قليلا أو وقتا قليلا وليبكوا كثيرا عطف. (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 جزاء مفعول لأجله أو مفعول مطلق لفعل محذوف وبما متعلق بجزاء أو بمحذوف صفة له وما مصدرية أو موصولة وكان واسمها وجملة يكسبون خبرها. البلاغة: 1- الطباق بين الضحك والبكاء وبين قليل وكثير فهو مقابلة. 2- إخراج الخبر مخرج الإنشاء لأن معناه فسيضحكون قليلا وسيبكون كثيرا ولكنه أخرج الخبر مخرج الأمر للدلالة على أنه أمر حتمي لا بد منه. [سورة التوبة (9) : الآيات 83 الى 85] فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 اللغة: (رَجَعَكَ) ردّك الله الى المدينة ورجع يستعمل لازما ومتعديا فاللازم من باب جلس والمتعدي من باب قطع، ومعنى الرجع تصيير الشيء الى المكان الذي كان فيه يقال رجعته رجعا كقولك رددته ردّا. الإعراب: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) الفاء تفريعية للأمر وإن شرطية ورجعك الله فعل ومفعول به وفاعل والفعل فعل الشرط والى طائفة متعلق برجعك وهم المنافقون ومنهم صفة فاستأذنوك عطف على رجعك وللخروج متعلق باستأذنوك. (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) الفاء رابطة لجواب الشرط ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتخرجوا مضارع منصوب بلن والواو فاعل ومعي ظرف مكان متعلق بتخرجوا وأبدا ظرف زمان متعلق بتخرجوا أيضا. (وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) عطف على لن تخرجوا وإعرابها مماثل لما تقدم (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) إن واسمها وجملة رضيتم خبرها وبالقعود متعلق برضيتم وأول مرة ظرف زمان واستبعد أبو البقاء ذلك وقال: «ومرة مصدر كأنه قيل أول خرجة دعيتم إليها لأنها لم تكن أول خرجة خرجها الرسول للغزاة فلا بد من تقييدها إذ الأولية تقتضي السبق، وقيل: التقدير أول خرجة خرجها الرسول لغزوة الروم بنفسه، وقيل: أول مرة قبل الاستئذان» فعلى هذا تعرب أول مرة مصدرا لمحذوف. (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) الفاء عاطفة واقعدوا فعل أمر والواو فاعل ومع ظرف متعلق باقعدوا أو بمحذوف حال من فاعل اقعدوا والخالفين مضاف اليه وهم المتخلفون فاللام للعهد، وهم مجموعة الزمنى والنساء والأطفال والمقعدون (وَلا تُصَلِّ عَلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) الواو استئنافية ولا ناهية وتصلّ فعل مضارع مجزوم بلا وفاعله أنت وعلى أحد متعلق بتصل ومنهم صفة لأحد وجملة مات صفة ثانية وأبدا ظرف زمان متعلق بتصل. (وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) عطف على ولا تصل وعلى قبره متعلقان بتقم. (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) إن واسمها وجملة كفروا خبرها وبالله متعلق بكفروا ورسوله عطف عليه وماتوا عطف على كفروا والواو حالية وهم مبتدأ فاسقون خبر والجملة نصب على الحال وجملة إنهم تعليلية لا محل لها. (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ) الواو عاطفة ولا ناهية وتعجبك مضارع مجزوم بلا والكاف مفعول به وأموالهم فاعل وأولادهم عطف على أموالهم. (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا) إنما كافة ومكفوفة ويريد الله فعل مضارع وفاعل وأن وما في حيزها مفعول يريد والجملة تعليلية لا محل لها وبها متعلق بيعذبهم وفي الدنيا حال. (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) وتزهق عطف على يعذبهم وأنفسهم فاعل والواو للحال وهم مبتدأ وكافرون خبر والجملة حالية. البلاغة: المخالفة والفرق بين الألفاظ في قوله تعالى: «ولا تعجبك أموالهم وأولادهم» إلخ وفي الآية التي سبق ذكرها وهي «فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون» فأما سر التكرار والحكمة فيه فهو أن تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل أولا وتأكيده، كأنما يريد أن يكون المخاطب به على بال ولا يغفل عنه ولا ينساه، وأن يعتقد أن العمل به مهم وإن أعيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه، وهو أن أشد الأشياء جذبا للقلوب واستهواء لها هو الاشتغال بالأموال والأولاد، وما كان بهذه المثابة من التغرير والإغواء يجب التحذير منه مرة بعد مرة، وأما سر سر المخالفة والفرق بين بعض ألفاظ الآيتين فنبين وجهه فيما يلي: 1- قال تعالى في الآية الأولى «فلا تعجبك» بالفاء وقال هنا: «ولا تعجبك» بالواو، والفرق بينهما أنه عطف الآية الأولى على قوله: «ولا ينفقون إلا وهم كارهون» وصفهم بكونهم كارهين للإنفاق لشدة المحبة للأموال والأولاد فحسن العطف عليه بالفاء تعقيبا وترتيبا، وأما هذه الآية فلا تعلق لها بما قبلها فلهذا أتى بالواو. 2- وقال تعالى في الآية الأولى: «فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم» وأسقط حرف لا في الثانية فقال «وأولادهم» والسبب أن حرف لا دخل هناك لزيادة التأكيد فيدل على أنهم كانوا معجبين بكثرة الأموال والأولاد وإعجابهم بأولادهم أكثر وفي إسقاط حرف لا هنا دليل على أنه لا تفاوت بين الأمرين. 3- وقال تعالى في الآية الأولى: «إنما يريد الله ليعذبهم» بحرف اللام وقال هنا: «أن يعذبهم» بحرف أن والفائدة فيه التنبيه على أن التعليل في أحكام الله محال وإنه وإن ورد فيه حرف اللام فمعناه «أن» كقوله: «وما أمروا إلا ليعبدوا الله» فإن معناه: وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله. 4- وقال تعالى في الآية الأولى: «في الحياة الدنيا» وقال هنا: «في الدنيا» والفائدة في إسقاط لفظ الحياة التنبيه على أن الحياة الدنيا بلغت في الخسة والمهانة الى حيث أنها لا تستحق أن تذكر ولا تسمى حياة بل يجب الاقتصار عند ذكرها على لفظ الدنيا تنبيها على كمال ذمها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 [سورة التوبة (9) : الآيات 86 الى 89] وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) الإعراب: (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ) الواو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وأنزلت فعل ماض مبني للمجهول وسورة نائب فاعل ويجوز أن يراد بالسورة تمامها وأن يراد بعضها، وأن مفسرة لأن في الانزال معنى القول دون حروفه ويجوز أن تكون مصدرية فتكون مع مدخولها في محل نصب بنزع الخافض أي بأن آمنوا، وبالله جار ومجرور متعلقان بآمنوا، وجاهدوا مع رسوله عطف على آمنوا بالله. (اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ) جملة استأذنك جواب إذا والكاف مفعول به وأولو الطول فاعل وهم الأغنياء وأصحاب البسطة في الجاه والقوة، ومنهم حال. (وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 مَعَ الْقاعِدِينَ) ذرنا فعل أمر أمات العرب ماضية فلم يأت منه إلا المضارع والأمر، ونا مفعول به ونكن جواب الطلب فلذلك جزم واسم نكن ضمير مستتر تقديره نحن ومع القاعدين ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر نكن (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) جملة رضوا استئنافية مسوقة لبيان سوء صنيعهم وبأن يكونوا متعلق برضوا والواو اسم يكونوا ومع الخوالف خبر. (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) عطف على رضوا وعلى قلوبهم متعلق بطبع فهم الفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة لا يفقهون خبر. (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) لكن مخففة مهملة والرسول مبتدأ والذين عطف عليه وجملة آمنوا صلة ومعه ظرف متعلق بآمنوا وجملة جاهدوا بأموالهم وأنفسهم خبر الرسول. (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم والخيرات مبتدأ مؤخر وجملة لهم الخيرات خبر أولئك، وأولئك هم المفلحون عطف على ما تقدم وقد سبق إعرابها. (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) جملة مستأنفة لبيان مآلهم الطيب وأعد فعل ماض والله فاعله ولهم متعلق بأعد وجنات مفعول به وجملة تجري صفة. (خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) خالدين حال وفيها متعلق بخالدين وذلك مبتدأ والفوز العظيم خبره. [سورة التوبة (9) : الآيات 90 الى 92] وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 اللغة: (الْمُعَذِّرُونَ) اسم فاعل من عذر في الأمر إذا قصر فيه وتوانى ولم يجد، وحقيقته أن يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر له، أو المعتذرون بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها الى العين. (الْأَعْرابِ) سكان البادية وهم أخص من العربي إذ العربي من تكلم باللغة العربية سواء كان يسكن البادية أو الحاضرة. الإعراب: (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في بيان أحوال سكان البادية وجاء المعذرون فعل وفاعل ومن الأعراب حال وليؤذن تعليل مضارع منصوب بأن مضمرة ولهم متعلق بيؤذن. (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) عطف على جاء والذين فاعل وكذبوا صلة الذين ولفظ الجلالة مفعول كذبوا ورسوله عطف عليه. (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) السين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 حرف استقبال ويصيب فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو والذين مفعول به وجملة كفروا صلة ومنهم حال وعذاب فاعل يصيب وأليم صفة. (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) ليس فعل ماض ناقص وعلى الضعفاء خبر ليس المقدم ولا على المرضى عطف على الضعفاء ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون عطف أيضا وحرج اسم ليس. (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الظرف متعلق بمعنوي مقتبس من النفي، أي انتفى عنهم الحرج إذا نصحوا فلا يخرجون حينئذ، وجملة نصحوا في محل جر بإضافة الظرف إليها ورسوله عطف على الله وما نافية وعلى المحسنين خبر مقدم ومن زائدة وسبيل مبتدأ مؤخر محلا والله مبتدأ وغفور خبر أول ورحيم خبر ثان. (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) الواو عاطفة ولا نافية وعلى الذين معطوف على قوله على الضعفاء فهو بمثابة خبر مقدم والمبتدأ محذوف أي حرج وجملة إذا ما أتوك صلة الذين وإذا ظرف مستقبل وما زائدة وجملة أتوك مضاف إليها الظرف ولتحملهم علة الإتيان أي لتحملهم معك الى الغزو وهم كما يروي التاريخ سبعة من الأنصار وقيل هم أصحاب أبي موسى الأشعري كما في البخاري. (قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) جملة قلت حالية من الكاف في أتوك بتقدير وقد قبلها أي إذا ما أتوك قائلا لا أجد وما مفعول أجد وجملة أحملكم صلة وعليه متعلق بأحملكم. (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) جملة تولوا جواب إذا ويجوز أن تكون جملة قلت لا أجد جواب إذا الشرطية وإذا وجوابها في موضع الصلة وعلى هذا فيكون قوله تولوا جوابا لسؤال مقدّر كأن قائلا قال: ما كان حالهم وقت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 أن أجيبوا بهذا الجواب فأجيب بقوله تولوا، وأعينهم مبتدأ والواو للحال وجملة تفيض خبر ومن الدمع تمييز أي تفيض دمعا وهو أبلغ من يفيض دمعها لأن العين جعلت كأنها كلها دمع فائض وقد تقدم القول في هذه الجملة في المائدة مع بسط لم يسبق إليه فجدد به عهدا، وحزنا مفعول لأجله أو حال وأن لا يجدوا أن وما في حيزها مفعول لأجله والعامل فيه حزنا ويجوز أن نعرب حزنا مفعولا مطلقا فيكون العامل في أن لا يجدوا تفيض وما مفعول يجدوا وجملة ينفقون صلة. وقد اعترض أبو البقاء على إعراب الزمخشري من الدمع تمييزا فقال: «لا يجوز ذلك لأن التمييز الذي أصله فاعل لا يجوز جره بمن وأيضا فإنه معرفة ولا يجوز إلا على رأي الكوفيين الذين يجيزون مجيء التمييز معرفة. البلاغة: فن التلميح أو التمليح: في قوله: «ما على المحسنين من سبيل» فن من فنون البديع يسمى «التلميح» وهو أن يشار في فحوى الكلام الى مثل سائر أو شعر نادر أو قصة مشهورة أو ما يجري مجرى المثل، ومنه قول يسار ابن عدي حين بلغة قتل أخيه وهو يشرب الخمر: اليوم خمر ويبدو في غد خبر ... والدهر من بين إنعام وإيئاس ويسميه قوم «التمليح» بتقديم الميم كأن الشاعر أتى في بيته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 أو الناثر في فقرته بنكتة حسنة زادت الكلام ملاحة، كقول ابن المعتز: أترى الجيرة الذين تداعوا ... عند سير الحبيب وقت الزوال علموا أنني مقيم وقلبي ... راحل فيهم أمام الجمال مثل صاع العزيز في أرحل القنو ... م ولا يعلمون ما في الرحال وهذا التمليح فيه إشارة الى قصة يوسف عليه السلام حين جعل الصاع في رحل أخيه وإخوته لم يشعروا بذلك، ومن لطائف التلميح قول أبي فراس: فلا خير في رد الأذى بمذلة ... كما رده يوما بسوءته عمرو وهذا التمليح أو التلميح فيه إشارة الى قصة عمرو بن العاص مع الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في يوم صفين حين حمل عليه الإمام، ورأى عمرو أن لا مخلص منه فلم يسعه غير كشف العورة. ومن لطائف التلميح قصة الهذلي مع منصور بني العباس فإنه حكى أن المنصور وعد الهذلي بجائزة ونسي، فحجا معا ومرا في المدينة النبوية ببيت عاتكة، فقال الهذلي: يا أمير المؤمنين هذا بيت عاتكة التي يقول فيها الأحوص: يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكل فأنكر عليه أمير المؤمنين لأنه تكلم من غير أن يسأل، فلما رجع الخليفة نظر في القصيدة إلى آخرها ليعلم ما أراد الهذلي بإنشاد ذلك البيت من غير استدعاء فإذا فيها: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل فعلم أنه أشار الى هذا البيت بتلميحه الغريب، فتذكر ما وعده به وأنجزه له واعتذر إليه من النسيان. ومثله ما حكي أن أبا العلاء المعري كان يتعصب للمتنبي فحضر يوما مجلس الشريف المرتضى فجرى ذكر أبي الطيب فهضم المرتضى من جانبه فقال له أبو العلاء: لو لم يكن له من الشعر إلا قوله: «لك يا منازل في القلوب منازل» لكفاه، فغضب المرتضى وأمر به فسحب وأخرج، وبعد إخراجه قال المرتضى: هل تدرون ما عنى بذكر البيت؟ فقالوا: لا والله، فقال: عنى به قول أبي الطيب في قصيدته: وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل ومن هذا القبيل قصة السّرّي الرفاء مع سيف الدولة بسبب المتنبي أيضا، فإن السري الرفاء كان من مداح سيف الدولة، وجرى يوما في مجلسه ذكر أبي الطيب فبالغ سيف الدولة في الثناء عليه فقال له السري: أشتهي أن الأمير ينتخب لي قصيدة من غرر قصائده لأعارضها له ويتحقق بذلك أنه أركب المتنبي في غير سرجه، فقال له سيف الدولة على الفور: عارض لنا قصيدته القافية التي مطلعها: لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي ... وللحب ما لم يبق مني وما بقي قال السري: فكتبت القصيدة واعتبرتها في تلك الليلة فلم أجدها من مختارات أبي الطيب لكن رأيته يقول في آخرها عن ممدوحه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق ... أراه غباري ثم قال له: الحق فقلت: والله ما أشار سيف الدولة إلا الى هذا البيت وأحجمت عن معارضة القصيدة. وألطف من هذا ما حكاه ابن الجوزي في كتاب الأدباء فإنه من غرائب التلميح قال: قعد رجل على جسر بغداد فأقبلت امرأة بارعة في الجمال من جهة الرصافة الى الجانب الغربي فاستقبلها شاب، فقال لها: رحم الله علي بن الجهم فقالت له: رحم الله أبا العلاء المعري، وما وقفا بل سارا مغربا ومشرقا، قال الرجل فتبعت المرأة فقلت لها: والله إن لم تقولي ما أراد بابن الجهم فضحتك قالت أراد به: عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري وأردت بأبي العلاء قوله: فيا دارها بالكرخ إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال الفوائد: أورد ابن هشام هذه الآية شاهدا على خروج إذا عن الاستقبال وذلك على وجهين أحدهما أن تجيء للماضي كما جاءت إذ للمستقبل في قول بعضهم، والثاني أن تجيء للحال وذلك بعد واو القسم نحو «والليل إذا يغشى والنجم إذا هوى» قيل لأنها لو كانت للاستقبال لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 تكن ظرفا لفعل القسم لأنه إنشاء لا إخبار عن قسم يأتي، لأن قسم الله سبحانه قديم ولا لكون محذوف هو حال من الليل والنجم، لأن الحال والاستقبال متنافيان، وإذا بطل هذان الوجهان تعين انه ظرف لأحدهما على أن المراد به الحال اه. والصحيح أنه لا يصح التعليق بأقسم الانشائي لأن القديم لا زمان له لا حال ولا غيره، بل هو سابق على الزمان وانه لا يمتنع التعليق بكائنا مع بقاء إذا على الاستقبال بدليل صحة مجيء الحال المقدرة باتفاق كمررت برجل معه صقر صائدا به غدا، أي مقدرا الصيد به غدا، كذا يقدرون، وأوضح منه أن يقال مريدا به الصيد غدا كما فسر قمتم في «إذا قمتم الى الصلاة» بأردتم. وقال القاضي محب الدين شارح التسهيل: يمكن أن المراد حكاية حالهم حين ابتدءوا هم في الفعل فإذا في محلها، ورده الدماميني بأن الحكاية إنما تحقق الحال ولا تكون إذا في محلها إلا إذا تحقق الاستقبال، وأجاب الشمني بأن الحالية في مبدأ الفعل تستلزم الاستقبال بالنظر لتمامه فبهذا الثاني تكون إذا واقعة محلها ولعلك تقول كلام القاضي على الابتداء في فعل الإتيان ولا شك أن التولي أو القول العامل في إذا على ما سبق مستقبل إذ ذاك فتدبر. [سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 95] إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 الإعراب: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ) إنما كافة ومكفوفة قيل هي للتوكيد والمبالغة فيه وقيل هي للحصر، والسبيل مبتدأ وعلى الذين خبر وجملة يستأذنونك صلة وهم: الواو للحال وهم مبتدأ وأغنياء خبر والجملة حالية (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) جملة مستأنفة أو حالية بتقدير قد، بأن يكونوا متعلقان برضوا والواو اسم يكونوا والظرف خبرها. (وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الجملة معطوفة على ما تقدم والفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة لا يعلمون خبر. (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان ما يبررون به موقفهم المتخاذل، روي انهم كانوا بضعة وثمانين رجلا فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوا يعتذرون إليه بالباطل وإليكم جار ومجرور متعلقان بيعتذرون وإذا ظرف مستقبل متعلق بجوابه المحذوف أي يعتذرون وجملة رجعتم مضاف إليها وإليهم جار ومجرور متعلقان برجعتم. (قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) جملة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 لا تعتذروا مقول القول وجملة لن نؤمن لكم مستأنفة كأنها تعليل للنهي ولكم جار ومجرور متعلقان بنؤمن. (قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) قد حرف تحقيق ونبأنا نصبت هنا مفعولين أولهما نا والثاني الجار والمجرور أو جملة من أخباركم فهو في الحقيقة صفة للمفعول المحذوف أما المفعول الثالث فقد حذف اختصارا للعلم به والتقدير نبأنا الله من أخباركم كذبا وأراجيف. (وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) السين حرف استقبال ويرى فعل مضارع والله فاعل، والرؤية هنا بمعنى العلم، وعملكم مفعول يرى الأول والثاني محذوف تقديره واقعا ورسوله عطف على الله. (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ثم عطف للترتيب مع التراخي وتردون فعل مضارع ونائب فاعل والى عالم الغيب جار ومجرور متعلقان بتردون (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الفاء عاطفة وينبئكم فعل وفاعل مستتر والكاف مفعوله الأول وبما كنتم مفعوله الثاني وجملة تعملون خبر كنتم والعائد محذوف أي تعملونه، وما هنا موصولة أو مصدرية. (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) السين للتأكيد مع الاستقبال ويحلفون فعل مضارع والواو فاعل وبالله جار ومجرور متعلقان به والجملة بدل من يعتذرون ولكم حال والمحلوف عليه محذوف اعتمادا على فهم القارئ أي انهم معذرون في تخلفهم، وإذا ظرف متعلق بيحلفون وإليهم جار ومجرور متعلقان بانقلبتم ولتعرضوا: اللام للتعليل وتعرضوا منصوب بأن مضمرة بعدها والجار والمجرور متعلقان بيحلفون، وقد امتنع نصب المفعول لأجله لاختلاف الفاعل أي لتتركوا معاتبتهم وعنهم جار ومجرور متعلقان بتعرضوا. (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ) الفاء الفصيحة وأعرضوا فعل أمر والواو فاعل وعنهم جار ومجرور متعلقان بأعرضوا وان واسمها وخبرها. (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) الواو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 استئنافية ومأواهم مبتدأ وجهنم خبر وجزاء مفعول لأجله أو مفعول مطلق لفعل محذوف أي يجزون جزاء وبما متعلقان بجزاء وما مصدرية وكان واسمها وجملة يكسبون خبرها. [سورة التوبة (9) : الآيات 96 الى 98] يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) اللغة: (الْأَعْرابُ) : مر الحديث عنها ونضيف هنا أن اللام فيها للجنس أي جنسهم لا كل واحد منهم لأنه سيستثنى منهم كما سيأتي، وهو اسم جمع جاء على صورة الجمع وليس جمعا لعرب لئلا يلزم كون الجمع أخص من مفرده لأن الأعراب سكان البادية خاصة، والعرب المتكلمون باللغة العربية سواء كانوا من سكان البادية أو الحاضرة وفي المصباح: «وأما الأعراب فأهل البدو من العرب، الواحد أعرابي بالفتح أيضا وهو الذي يكون صاحب نجعة وارتياد للكلأ وزاد الأزهري فقال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 سواء كان من العرب أو من مواليهم قال: فمن نزل البادية وجاور البادين وظعن بظعنهم فهم أعراب، ومن نزل بلاد الريف واستوطن المدن والقرى العربية وغيرها ممن ينتمي الى العرب فهم عرب وان لم يكونوا فصحاء» وقال غيره: عرب لسانه عرابة وما سمعت أعرب من كلامه وأعرب وهو من العرب العرباء. والعاربة وهم الصرحاء الخلّص وفلان من المستعربة وهم الدخلاء فيهم وفيه لوثة أعرابية قال: وإني على ما فيّ من عنجهيتي ... ولوثة أعرابيتي لأديب وقال الكميت: لا ينقض الأمر إلا ريث يبرمه ... ولا تعرّب إلا حوله العرب أي لا تعز وتتمنع عزة الأعراب في باديتها إلا عنده وسيأتي مزيد من بحثه. (الدَّوائِرَ) : دوائر الزمان دوله وعقبه وهي جمع دائرة والدائرة ما يحيط بالإنسان من مصيبة ونكبة أخذا من الدائرة المحيطة بالشيء وأصله داورة لأنها من دار يدور فقلبت الواو همزة، وقد اختلف اللغويون فيها فقال قوم هي فاعلة كقائمة وقال قوم هي مصدر كالعاقبة. الإعراب: (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) يحلفون بدل من سيحلفون ولكم جار ومجرور متعلقان بيحلفون أو بمحذوف حال ولام التعليل متعلقة مع مجرورها بيحلفون وعنهم متعلقان بترضوا. (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الفاء الفصيحة والجواب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 محذوف أي إن ترضوا عنهم فلا ينفعهم رضاكم، فإن الفاء للتعليل وان واسمها وجملة لا يرضى عن القوم الفاسقين خبرها. (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) الأعراب مبتدأ وأشد خبر وكفرا تمييز ونفاقا عطف عليه وذلك لجفائهم وقسوتهم وابتعادهم عن معالم الحضارة وهو من باب وصف الجنس بأحد أفراده أو بعضهم كما في قوله تعالى «وكان الإنسان كفورا» إذ ليس كلهم كما ذكر وسيأتي بحث «أل المعرفة» في باب الفوائد مع ذكر أقسامها. (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ) وأجدر عطف على أشد وأن وما في حيزها منصوبة بنزع الخافض أي بأن لا يعلموا وهي متعلقة بأجدر وحدود مفعول يعلموا وما مضاف اليه وجملة أنزل الله صلة. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) مبتدأ وخبراه. (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً) من الاعراب خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة يتخذ صلة وفاعل يتخذ مستتر تقديره هو وما مفعول به أول وجملة ينفق صلة ومغرما مفعول يتخذ الثاني أي خسارة لأنه لا يرجو الثواب بل يخشى العقاب. (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) ويتربص الواو للحال ويجوز أن تكون عاطفة فتكون يتربص داخلة في حكم الصلة وبكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال والدوائر مفعول به. (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الجملة دعائية لا محل لها وعليهم خبر مقدم ودائرة السوء مبتدأ مؤخر والله مبتدأ وسميع خبره الأول وعليم خبره الثاني. الفوائد: حكم أل: (أل) كلها حرف تعريف على الأصح وهي إما أن تكون لتعريف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 الجنس وتسمى «الجنسية» وإما لتعريف حصة معهودة منه وتسمى «العهدية» . أل العهدية: تكون على ثلاثة أقسام: آ- اما أن تكون للعهد الذكري وهي ما سبق لمصحوبها ذكر في الكلام كقولك: جاءني ضيف فأكرمت الضيف، أي المذكور ومنه قوله تعالى: «كما أرسلنا الى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول» . ب- وإما أن تكون للعهد الحضوري، وهي ما يكون مصحوبها حاضرا مثل: جئت اليوم أي اليوم الحاضر الذي نحن فيه. ج- وإما أن تكون للعهد الذهني، وهي ما يكون مصحوبها معهودا ذهنا فينصرف الفكر إليه بمجرد النطق به مثل حضر الرجل أي الرجل المعهود ذهنا بينك وبين من تخاطبه. أل الجنسية وهي قسمان: آ- إما أن تكون لاستغراق جميع أفراد الجنس وهي ما تشمل جميع أفراده كقوله تعالى: «وخلق الإنسان ضعيفا» . ب- وإما لاستغراق جميع خصائصه مثل أنت الرجل، أي اجتمع فيك كل صفات الرجال. تنبيهات هامة: 1- علامة أل الاستغراقية أن يصح وقوع «كل» موقعها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 2- أل التي لبيان حقيقة الجنس وماهيته وطبيعته بقطع النظر عما يصدق عليه من أفراده ولذلك لا يصح حلول «كل» محلها تسمى «لام الحقيقة والماهية والطبيعة» وذلك مثل: الإنسان حيوان ناطق أي حقيقته أنه عاقل مدرك وليس كل إنسان كذلك، ومثل: الرجل أصبر من المرأة، فليس كل رجل كذلك، وقد يكون بين النساء من تفوق بصبرها وجلدها كثيرا من الرجال، فأل هنا لتعريف الحقيقة غير منظور بها الى أفراد الجنس بل الى ماهيته من حيث هي وعلى هذا تحمل أل الداخلة على «الأعراب» فليسوا جميعا بهذه المثابة من شدة الكفر والنفاق والنبو عن استماع الكلام الطيب. أل الزائدة: وقد تزاد أل فلا تفيد التعريف، وزيادتها إما أن تكون لازمة فلا تفارق مصحوبها كزيادتها في الأعلام التي قارنت وصفها كاللات والعزى والسموأل، وكزيادتها في الأسماء الموصولة كالذي والتي ونحوهما، لأن تعريف الموصول بالصلة لا بأل على الأصح، وإما أن تكون زيادتها غير لازمة كزيادتها في بعض الأعلام المنقولة عن أصل للمح المعنى الأصلي كالفضل والحارث والنعمان والوليد والرشيد ونحوها، وزيادتها سماعية فلا يقال المحمد والمحمود، فما ورد عن العرب من ذلك يسمع ولا يقاس عليه غيره. أل الموصولية: وقد تكون أل اسم موصول بلفظ واحد مطلقا، وهي الداخلة على اسم الفاعل والمفعول بشرط ألا يراد بها العهد أو الجنس نحو أكرم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 المكرم ضيفه، والمكرم ضيفه أي الذي يكرم ضيفه والذي يكرم ضيفه، وإذا كانت الصفة الواقعة صلة لأل الموصولية في قوة الفعل ومرفوعه حسن عطف الفعل ومرفوعه عليها كقوله تعالى «والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا» وسيأتي بحث ذلك في حينه. [سورة التوبة (9) : الآيات 99 الى 100] وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) الإعراب: (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ومن الأعراب خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة يؤمن بالله صلة واليوم الآخر عطف على الله. (وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) ويتخذ عطف على يؤمن وفاعله هو وما اسم موصول مفعول به وجملة ينفق صلة وقربات مفعول به ثان وعند الله ظرف في محل نصب صفة وصلوات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 الرسول فيها وجهان أظهرهما أنها معطوفة على قربات والمعنى أن ما ينفقه سبب لحصول القربات عند الله وصلوات الرسول لأن الرسول كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم، وثانيهما أنها عطف على ما ينفق وتقديره وصلوات الرسول قربات، وقربات مفعول ثان ليتخذ. (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ألا حرف تنبيه والجملة مستأنفة مؤكدة بألا وانها لثبات الأمر. وإن واسمها وخبرها ولهم صفة لقربة وسيدخلهم السين حرف استقبال ويدخلهم الله فعل مضارع ومفعول به وفاعل وفي رحمته جار ومجرور متعلقان بيدخلهم وإن واسمها وخبراها. (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) السابقون مبتدأ والأولون صفة ومن المهاجرين والأنصار حال والذين عطف على السابقون واتبعوهم صلة وبإحسان جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال. (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) الجملة خبر السابقون وهناك وجهان في الخبر ذكرهما أبو البقاء وتبعه أكثر المفسرين لا أعلم كيف استساغهما، الأول أن الخبر هو الأولون وهو ظاهر التهافت والثاني أنه من المهاجرين والأنصار وهو أشد تهافتا. (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) تقدم إعراب نظائر هذه الجملة كثيرا فلا حاجة للإعادة. [سورة التوبة (9) : الآيات 101 الى 104] وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 اللغة: (مَرَدُوا) : تمرنوا عليه ولجوا فيه يقال: تمرد فلان إذا عتا وتجبر ومنه الشيطان: المارد، وتمرد في معصيته أي ثبت عليها واعتادها ولم يتب عنها، وأصل مرد وتمرد اللين والملاسة والتجرد، فكأنهم تجردوا للنفاق، ومنه غصن أمرد لا ورق فيه عليه وفرس أمرد لا شعر فيه وغلام أمرد لا شعر بوجهه وأرض مرداء لا نبات فيها وصرح ممرد مجرد. فالمعنى أنهم أقاموا على النفاق وثبتوا عليه ولم ينثنوا عنه. (سَكَنٌ) : السكن: الطمأنينة فعل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى المقبوض. الإعراب: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان حال منافقي أهل المدينة ومن حولها من الأعراب بعد بيان حال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 أهل البادية، وممن خبر مقدم وحولكم الظرف صلة الموصول ومن الأعراب حال ومنافقون مبتدأ مؤخر. (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) ومن أهل المدينة يجوز أن يكون معطوفا على من المجرورة بمن فيكون المجروران مشتركين في الإخبار بهما عن المبتدأ وهو منافقون كأنه قيل المنافقون من قوم حولكم ومن أهل المدينة ويجوز أن يكون الكلام تم عند قوله منافقون ويكون قوله ومن أهل المدينة خبرا مقدما والمبتدأ بعده محذوف قامت صفته مقامه وحذف الموصوف وإقامة صفته مقامه مطرد نحو منا ظعن ومنا أقام ونحو قوله: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني والتقدير ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) الجملة في محل رفع صفة لمنافقون أو مستأنفة ونحن مبتدأ وجملة نعلمهم خبر ومفعول نعلمهم الثاني محذوف تقديره منافقين وكذلك مفعول تعلمهم الثاني، سنعذبهم السين حرف استقبال ونعذبهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به ومرتين ظرف (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) الجملة معطوفة، ويردون فعل ونائب فاعل والجار والمجرور متعلقان بيردون وعظيم صفة. (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) وآخرون عطف على منافقون أو مبتدأ وجملة اعترفوا بذنوبهم صفته وجملة خلطوا خبره وعملا مفعول خلطوا وصالحا صفة وآخر عطف على عملا وسيئا صفة وسيأتي في باب الفوائد كيفية هذا الخلط وما فيه من أسرار. (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) عسى من أفعال المقاربة وتفيد الرجاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 والله اسمها وأن وما في حيزها خبر وعليهم جار ومجرور متعلقان بيتوب وإن واسمها وخبراها. (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) خذ فعل أمر وفاعله أنت ومن أموالهم جار ومجرور متعلقان بخذ ويكون معنى «من» التبعيض وصدقة مفعول به ويجوز أن تتعلق بمحذوف حال لأنها كانت في الأصل صفة لصدقة فلما قدمت نصبت حالا منها وجملة تطهرهم حال من فاعل خذ إذا كانت التاء في تطهرهم خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم أو صفة لصدقة إذا كانت التاء للغيبة وتزكيهم بها عطف على تطهرهم. (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وصلّ عطف على خذ وعليهم متعلقان بصلّ وإن واسمها وخبرها ولهم صفة لسكن والله مبتدأ وسميع عليم خبراه. (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويعلموا مضارع مجزوم بلم وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يعلموا وأن واسمها، وهو مبتدأ وجملة يقبل خبره، والجملة خبر أن، ولا يجوز أن يكون هو فصلا لأن ما بعده لا يلتبس بالوصفية، وعن عباده متعلقان بيقبل. (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) عطف نسق على ما تقدم ويجوز في «هو» هنا أن يكون ضمير فصل وأن يكون مبتدأ. الفوائد: 1- حذف المنعوت واقامة النعت مقامه: يجوز بكثرة حذف المنعوت إن علم وكان النعت صالحا لمباشرة العامل نحو قوله تعالى: «أن اعمل سابغات» أي دروعا سابغات، أو كان النعت جملة أو شبهها وكان المنعوت مرفوعا وبعض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 اسم متقدم عليه مخفوض ب «من» أو «في» فالاول كقولهم: منا ظعن ومنا أقام، فظعن وأقام جملتان في موضع رفع وهما نعتان لمنعوتين محذوفين مرفوعين على الابتداء أي منا فريق ظعن ومنا فريق أقام، والثاني كقول أبي الأسود الحماني يصف امرأة: لو قلت ما في قومها لم تيثم ... يفضلها في حسب وميثم أصله لو قلت ما في قومها أحد يفضلها لم تأثم في مقالتك فحذف الموصوف وهو أحد وأقام جملة يفضلها مقامه. هذا ويجوز حذف النعت إن علم كقوله تعالى: «وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا» أي كل سفينة صالحة وقول عباس ابن مرداس: وقد كنت في الحرب ذا تدرأ ... فلم أعط شيئا ولم أمنع فحذف النعت وأبقى المنعوت أي شيئا طائلا والذي أحوج الى تقدير هذا النعت تحري الصدق فإن الواقع أنه أعطي شيئا بدليل قوله ولم أمنع ولكنه لم يرتضه فيحتاج الى تقدير صفة يكتسي بها الكلام جلباب الصدق ويتحلى بزنة الحق وقول المرقش الأكبر: ورب أسيلة الخدين بكر ... مهفهفة لها فرع وجيد أي فرع فاحم وجيد طويل بدليل أن حسن التغزل يستدعي إثبات الفرع والجيد موصوفين بصفتين محبوبتين. بقي أنه يجوز حذف المنعوت والنعت معا كقوله تعالى: «لا يموت فيها ولا يحيا» أي حياة نافعة، وقد يحذفان إذا قام مقام النعت معموله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 كما قالوا في «والله ما هي بنعم الولد» أي والله ما هي بولد مقول فيه نعم الولد «ونعم السير على بئس العير» أي على عير مقول فيه بئس العير. 2- أيهما المخلوط والمخلوط به؟ في قوله تعالى «خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا» جعل كلا منهما مخلوطا فما المخلوط به؟ والجواب أن كل واحد مخلوط ومخلوط به لأن المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر كقولك: خلطت الماء واللبن تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه وفيه ما ليس في قولك خلطت الماء باللبن لأنك جعلت الماء مخلوطا واللبن مخلوطا به وإذا قلته بالواو جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطا بهما كأنك قلت خلطت الماء باللبن واللبن بالماء. ومن جهة ثانية كان العدول عن الباء لتضمين الخلط معنى العمل كأنه قيل عملوا عملا صالحا وآخر سيئا ثم انضاف الى العمل معنى الخلط فعبر عنهما معا به. [سورة التوبة (9) : الآيات 105 الى 110] وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 اللغة: (مُرْجَوْنَ) : اسم مفعول من أرجيته أي أخرته ويقال أرجأته بالهمز أيضا ومنه المرجئة. (وَإِرْصاداً) : وإعدادا وارتقابا. (شَفا) : طرف وحرف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 (جُرُفٍ) : بضم الراء وسكونها جانب البئر التي لم تطو وقيل: الهوّة وما يجرفه السيل من الأودية. قال أبو عبيدة وقيل هو المكان الذي يأكله الماء فيجرفه أي يذهب به. (هارٍ) : فيه ثلاثة أقوال: أحدهما وهو المشهور أنه مقلوب بتقديم لامه على عينه وذلك أن أصله هاور أو هاير بالواو أو الياء لأنه سمع فيه الحرفان قالوا هار يهور ويهار، وهار يهير، وتهوّر البناء وتهيّر، فقدمت اللام وهي الراء على العين وهي الواو أو الياء فصار كغاز ورام فأعلّ بالنقص كإعلالهما فوزنه بعد القلب فالع ثم نزله بعد الحذف على فال، والقول الثاني أنه حذفت عينه اعتباطا أي لغير موجب وعلى هذا فتجري وجوه الإعراب على لامه فيقال هذا هار ورأيت هارا ومررت بهار ووزنه أيضا فال والقول الثالث أنه لا قلب فيه ولا حذف وأن أصله هورا وهير فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفا فتجري وجوه الاعراب أيضا كالذي قبله كما تقول هذا باب ورأيت بابا ومررت بباب وهذا أعدل الوجوه لاستراحته من ادعاء القلب والحذف اللذين هما على خلاف الأصل ولكنه غير مشهور عند أهل التصريف ومعنى هار متداع وساقط ومنهال. الإعراب: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) جملة اعملوا مقول القول والفاء الفصيحة والسين بالنظر للمجازاة لا للعلم لأن العلم حاصل غير متقيد بزمان والله فاعل يرى وعملكم مفعوله ورسوله والمؤمنون معطوفان على الله. (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) عطف على سيرى والى عالم جار ومجرور متعلقان بتردون والغيب مضاف اليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 والشهادة معطوف على الغيب (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الفاء عاطفة وبما متعلقان بينبئكم وجملة كنتم تعملون صلة ما. (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ) عطف نسق على ما تقدم أي وآخرون اعترفوا ومرجون صفته ولأمر الله متعلقان بمرجون يعني وآخرون من المتخلفين موقوف أمرهم. (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) إما حرف شرط وتفصيل ويعذبهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به والجملة نصب على الحال أي هم مؤخرون إما معذبين وإما متوبا عليهم وإما هنا للشك بالنسبة للمخاطب وإما للابهام بالنسبة لله تعالى بمعنى أنه تعالى أبهم أمرهم ومصيرهم على المخاطبين ويجوز أن نعرب آخرون مبتدأ ومرجون صفته وجملة إما يعذبهم خبر آخرون وإما يتوب عليهم عطف والله مبتدأ وعليم حكيم خبراه. (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) لك في الذين وجهان: النصب على الاختصاص بالذم ومثله قوله تعالى «والمقيمين الصلاة» على الاختصاص بالمدح والرفع على الابتداء والخبر محذوف معناه فيمن وصفنا الذين اتخذوا كقوله تعالى «والسارق والسارقة» وهذا الوجه ارتضاه سيبويه وقد تقدم قوله وافيا فيه وتقديره: فيما يتلى عليكم الذين فحذف الخبر وأبقى المبتدأ. والواو استئنافية على كل حال وجملة اتخذوا صلة ومسجدا مفعول به وضرارا مفعول ثان لاتخذوا أو مفعول لأجله أو مفعول مطلق أي يضارون بذلك ضرارا أو حال أي مضارين لإخوانهم، وكل هذه الأوجه متساوية الرحجان، وكفرا وتفريقا عطف على ضرارا وبين ظرف متعلق بتفريقا. (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) وارصادا عطف أيضا ولمن حارب الله متعلقان بإرصادا وجملة حارب الله صلة ومن قبل جار ومجرور متعلقان بحارب. (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) اللام واقعة في جواب قسم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 مقدر وإن نافية وأردنا فعل وفاعل والجملة جواب القسم وإلا أداة حصر والحسنى مفعول أردنا. (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) الواو عاطفة والله مبتدأ وجملة يشهد خبر وإن وما في حيزها مفعول يشهد وان واسمها واللام المزحلقة وكاذبون خبرها وستأتي قصة مسجد الضرار في باب الفوائد. (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) لا ناهية وتقم فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وفيه جار ومجرور متعلقان بتقم وأبدا ظرف متعلق بتقم أيضا أي لا تصل فيه أبدا. (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) اللام للابتداء ومسجد مبتدأ وجملة أسس على التقوى صفة لمسجد وعلى التقوى جار ومجرور متعلقان بأسس وأحق خبره ومن أول يوم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أو بأسس وأن تقوم مصدر منصوب بنزع الخافض أي بأن تقوم فيه وهو متعلق بأحق وفيه متعلقان بتقوم. (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) فيه خبر مقدم ورجال مبتدأ مؤخر وجملة يحبون صفة لرجال وان وما في حيزها مفعول يحبون أي يحبون الطهارة من الذنوب والحوبات والمعاصي وقيل من الذنوب طهارة الباطن ومن الأحداث طهارة الظاهر والله مبتدأ وجملة يحب المطهرين خبر (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ) الهمزة للاستفهام التقريري والفاء عاطفة على مقدر أي أبعد ما علم حالهم أفمن أسس بنيانه على تقوى إلخ، ومن مبتدأ وجملة أسس بنيانه صلة وعلى تقوى جار ومجرور متعلقان بأسس ومن الله صفة لتقوى ورضوان عطف على تقوى وخير خبر لمن (أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ) أم حرف عطف ومن معطوفة على من الأولى وخبرها محذوف تقديره خير وعلى شفا جرف هار متعلقان بأسس (فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الفاء عاطفة وانهار عطف على أسس وفاعله إما ضمير البنيان وإما ضمير الجرف وهو أولى لأن انهياره يترتب عليه انهيار الشفا والبنيان جميعا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 ولا يلزم من انهيارهما أو انهيار أحدهما انهياره وبه متعلقان بانهار إذا كانت الباء للتعدية وبمحذوف حال إن كانت للمصاحبة وكلاهما جائز والله مبتدأ وجملة لا يهدي القوم الظالمين خبر. (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) بنيانهم اسم لا يزال والذي صفة بنيانهم وجملة بنوا صلة وريبة خبر لا يزال وفي قلوبهم صفة لريبة. (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) استثناء من أعم الأزمنة فالمستثنى منه على هذا محذوف أي لا يزال بنيانهم ريبة في كل وقت من الأوقات إلا وقت تقطيع قلوبهم وأن مصدرية وتقطع أصلها تتقطع منصوب بها وقلوبهم فاعل والله مبتدأ وعليم حكيم خبراه. البلاغة: اشتملت هذه الآيات على فنون من البلاغة ندرجها فيما يلي: 1- فن الترديد وهو أن يعلق المتكلم لفظة من الكلام بمعنى ثم يردها بعينها ويعلقها بمعنى آخر كقوله تعالى «ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهرا من الحياة» فيعلمون الأولى منفية والثانية مثبتة ولكل من المعنيين مناسبة اقتضت ذلك المعنى وقوله الذي نحن بصدده «لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا» ففيه الاولى متعلقة بتقوم وفيه الثانية خبر مقدم ولكل منهما معنى. ومن أمثلة الترديد في الشعر بيت ورد في أبيات قالها سيف الدولة وذلك انه كانت له جارية من بنات الروم لا يرى الدنيا إلا بها ويشفق عليها من الريح الهابة فحسدتها سائر حظاياه على لطف محلها منه وأزمعن إيقاع مكروه بها من سم أو غيره وبلغ سيف الدولة ذلك فأمر بنقلها الى بعض الحصون احتياطا على روحها وقال في ذلك: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 راقبتني العيون فيك فأشفقت ولم أخل قط من إشفاق ورأيت العذول يحسدني فيك مجدّا يا أنفس الأعلاق فتسنيت أن تكوني بعيدا ... والذي بيننا من الود باق رب هجر يكون من خوف هجر ... وفراق يكون خوف فراق 2- الاستعارة: في قوله تعالى «أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله» أي على قاعدة راسخة ثابتة وطيدة هي التقوى من الله فشبه التقوى والرضوان بقاعدة يعتمد عليها البناء تشبيها مضمرا في النفس، وأسس بنيانه تخييل على قاعدة الاستعارة التصريحية. 3- الاستعارة التمثيلية في انهيار البناء القائم على شفا جرف هار. شبّه عدم القيام بأمور الدين بمن بني بنيانه على شفا فهو يسقط به فالمشبه به البناء على محل آيل للسقوط والمشبه هو ترتيب أحكام الدين وأعماله على الكفر والنفاق. الفوائد: قصة مسجد الضرار: روى التاريخ أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم أخوتهم بنو غنم بن عوف وقالوا نبني مسجدا ونرسل الى رسول الله بصلي فيه، ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام ليثبت لهم الفضل والزيادة على إخوتهم وهو الذي سماه رسول الله الفاسق وقال لرسول الله يوم أحد: لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 فلم يزل يقاتله الى يوم حنين فلما انهزمت هوازن خرج هاربا الى الشام وأرسل الى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح فاني ذاهب الى قيصر وآت بجنود ومخرج محمدا وأصحابه من المدينة فبنوا مسجدا بجنب مسجد قباء وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم بنينا مسجدا لذوي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية ونحن نحب أن تصلي لنا فيه وتدعوا لنا بالبركة فقال النبي: إني على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه فلما قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد فنزلت عليه فدعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشيا فقال لهم انطلقوا الى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ففعلوا وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة ومات أبو عامر بالشام بقنسرين. [سورة التوبة (9) : الآيات 111 الى 112] إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 الإعراب: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) جملة مستأنفة مسوقة لترغيب المؤمنين بالجهاد وذلك ببيان فضيلته وما يترتب على الاستشهاد في سبيل الله وإن واسمها وجملة اشترى خبرها ومن المؤمنين جار ومجرور متعلقان باشترى وأنفسهم مفعول به وأموالهم عطف على أنفسهم. (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) الباء ومدخولها متعلقة باشترى وسيأتي المزيد من حقيقة هذه الشروى في البلاغة ولهم خبر ان المقدم والجنة اسمها المؤخر. (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) جملة مستأنفة لا لبيان نفس الاشتراء لأن قتالهم في سبيل الله ليس باشتراء من الله أنفسهم وأموالهم بل لبيان البيع الذي يستدعيه الاشتراء المذكور كأنه قيل كيف يبيعونها بالجنة فقيل يقاتلون، وفي سبيل الله جار ومجرور متعلقان بيقاتلون. (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) الفاء عاطفة ويقتلون بالبناء للمعلوم ويقتلون بالبناء للمجهول معطوفان على يقاتلون ووعدا وحقا مصدران منصوبان بفعلهما المحذوف أي وعدهم وعدا وحق ذلك الوعد حقا وفي التوراة جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لوعدا أي وعدا كائنا ومذكورا في التوراة ويجوز أن يعلق باشتروا، والإنجيل والقرآن معطوفان على التوراة. (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) الواو استئنافية أو عاطفة ومن اسم استفهام مبتدأ وأوفى خبره وبعهده ومن الله متعلقان بأوفى. (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الفاء الفصيحة واستبشروا فعل أمر وفاعل وببيعكم جار ومجرور متعلقان باستبشروا والذي صفة وبايعتم به صلة وذلك مبتدأ وهو ضمير فصل أو مبتدأ ثان والفوز خبر ذلك أو خبر هو والعظيم صفة. (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أخبار لمبتدأ محذوف أي هم التائبون العابدون إلخ أي على المدح وجوز الزجاج أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضا وان ثم يجاهدوا وقيل هو رفع على البدل من الواو في يقاتلون وحاصل ما ذكر أوصاف تسعة: الستة الاولى تتعلق بمعاملة الخالق والسابع والثامن يتعلق بمعاملة المخلوقين والتاسع يعم القبيلين. وبشر المؤمنين الواو عاطفة وبشر فعل أمر وفاعل مستتر والمؤمنين مفعول به. البلاغة: انطوت هذه الآيات على أنواع من البلاغة نوردها فيما يلي: 1- الاستعارة المكنية التبعية في قوله تعالى: «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة» فقد استعار الشراء لقبول الله تعالى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله وإثابته إياهم بمقابلتها بالجنة ثم جعل المبيع الذي هو العمدة والمقصد في العقد أنفس المؤمنين وأموالهم وجعل الثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة الجنة. 2- الالتفات بقوله «فاستبشروا» زيادة في سرورهم والفاء الفصيحة لترتيب الأمر به على ما قبله وجعله بمثابة الشرط له والسين ليست للطلب بل للمطاوعة كاستوقد. 3- التذييل وهو أن يذيل المتكلم كلامه بعد تمام معناه بجملة تحقق ما قبلها وتلك الزيادة على ضربين: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 آ- ضرب لا يزيد على المعنى الأول وإنما يؤكده ويحققه. ب- وضرب يخرجه المتكلم مخرج المثل السائر ليشتهر المعنى لكثرة دورانه على الألسنة وقد جاء في هذه الآية الكريمة الضربان: آ- قوله: «وعدا عليه حقا» فإن الكلام قد تم وكمل قبل ذلك ثم أتت جملة التذييل لتحقق ما قبلها وتؤكده. ب- قوله: «ومن أوفى بعهده من الله» مخرجا ذلك مخرج المثل فسبحان المتكلم بمثل هذا الكلام. الفوائد: 1- واو الثمانية: عدّد الله تسعة أوصاف ولم ينسقها بالواو حتى إذا كان الثامن أدخل الواو وذلك لسر في كلامهم وهو أن للعرب واوا سموها واو الثمانية وهي تدخل على ما كان ثامنا، كذا قرر بعض العلماء ورد عليهم آخرون وأكثروا وأطالوا ولما كان الكلام في هذا الصدد لا يخلو من متعة وفائدة نرى من الأولى تلخيصه بما يلي: استدل المثبتون لهذه الواو بقوله تعالى «وسيق الذين اتقوا ربهم الى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها» فأتى بالواو هنا ولم يأت بها في ذكر جهنم لأن للنار سبعة أبواب وللجنة ثمانية، وفي قوله تعالى «ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم» وقد منع بعض المحققين هذا وقال: إنما تقع بين المتضادين لأن الثيّبات غير الأبكار في قوله تعالى «ثيبات وأبكارا» ولأن الآمرين ضد الناهين في الآية التي نحن بصدد الحديث عنها. قال أبو حيان: والصفات إذا تكررت وكانت للمدح أو الذم أو الترّحم جاز فيها الاتباع للمنعوت والقطع في كلّها أو بعضها، وإذا تباين ما بين الوصفين جاز العطف، ولما كان الأمر مباينا للنهي، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 إذ الأمر طلب فعل، والنهي ترك فعل، حسن العطف في قوله والناهون، ودعوى الزيادة أو واو الثمانة ضعيف وقال في قصة أهل الكهف: إنه إنما أتى بالواو مع الثمانية لأن القول الثالث أقرب الى الحق أو هو الحق لأنه قال في القولين «رجما بالغيب» وفي الثالث قال: «قل ربي أعلم بعدتهم» وقال في قصة أهل الجنة واثبت الواو لأن أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها زيادة في الضيق على من بها وأما أبواب الجنة فتفتح لأهلها قبل دخولهم إليها إكراما لهم لقوله تعالى «جنات عدن مفتحة لهم الأبواب» قال الشيخ جمال الدين بن الحاجب رحمة الله: ان القاضي الفاضل كان يعتقد زيادة الواو في هذه الآية يعني «ثيبات وأبكارا» ويقول هي واو الثمانية الى أن ذكر ذلك بحضرة الشيخ أبي الجود المقري فبين له أنه وهم وأن الضرورة تدعو الى دخولهاهنا وإلا فسد المعنى بخلاف واو الثمانية فإنه يؤتى بها لا لحاجة فقال: أرشدتنا با أبا الجود. نقول وممن اعترف بواو الثمانية الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير وقال: إن الواو في قوله تعالى «وثامنهم كلبهم» هي واو الثمانية. وسيأتي مزيد بحث عنها عند الكلام على هذه الآيات في مواضعها. السائحون: اختلف العلماء في الصفة الثالثة وهي السائحون وأصح الأقوال انهم الصائمون شبّهوا بذوي السياحة في الأرض في امتناعهم من شهواتهم وقيل هم طلبة العلم يطلبونه في مظانه ويضربون في مناكب الأرض لتحصيله وفي القاموس: والسياحة بالكسر الذهاب في الأرض للعبادة ومنه المسيح بن مريم. والسائح الصائم الملازم للسياحة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 [سورة التوبة (9) : الآيات 113 الى 116] ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) اللغة: (الأواه) فعال من أوه كلآلّ من اللؤلؤ وهو الذي يكثر التأوه ومعناه أنه لفرط حبه لأبيه وترحمه ورقته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له مع شكاسته عليه هذا ما قاله الزمخشري وقد استدرك عليه أبو حيان فقال: «وتشبيه أواه من أوه بلآل من اللؤلؤ ليس بجيد لأن مادة أوه موجودة في صورة أواه ومادة لؤلؤ مفقودة في لآل لاختلاف التركيب إذ لآل ثلاثي ولؤلؤ رباعي وشرط الاشتقاق التوافق في الحروف الأصلية» . وفي المختار وقد أوّه الرجل تأويها وتأوه تأوها إذا قال أوّه. وجميل قول الزجاج وننقله بنصه: «قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 أبو عبيدة هو المتأوه شفقا وفرقا، المتضرّع يقينا ولزوما للطاعة وقد انتظم في قول أبي عبيدة جميع ما قيل في الأواه وأصله من التأوه وهو أن يسمع للصدر صوت يتنفس الصعداء» وقيل الكلمة حبشية ومعناها الموقن قال ابن النقيب في كتابه خصائص القرآن: «إن القرآن احتوى على جميع لغات العرب وأنزل فيه بلغات غيرهم من الروم والفرس والحبشة شيء كثير» وسترد معنا الألفاظ غير العربية التي فطن الأقدمون لها عند الكلام على لغة القرآن. الإعراب: (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) ما نافية وكان فعل ماض ناقص وللنبي خبر كان المقدم والذين عطف على النبي وجملة آمنوا صلة وان وما في حيزها اسم كان المؤخر ويستغفروا فعل مضارع منصوب بأن وللمشركين جار ومجرور متعلقان بيستغفروا (وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) الواو حالية ولو وصلية وكانوا كان واسمها وأولي خبرها وقربى مضاف اليه ومن بعد متعلقان بما في النفي من معنى الفعل أي انتفى الاستغفار من بعد، وما مصدرية وهي وما في حيزها مضافة لبعد أي من بعد تبيان ولهم جار ومجرور متعلقان بتبين وأنهم أن وما في حيزها فاعل تبين وأصحاب الجحيم خبر أن. (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما سبق ودعمه بشواهد وقرائن ودفع ما يرد من إيهام بحسب ما يبدو في الظاهر بالمخالفة، وكان واسمها وابراهيم مضاف اليه ولأبيه جار ومجرور متعلقان باستغفار وإلا أداة حصر وعن موعدة خبر كان فالاستثناء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 مفرّغ من أعم العلل أي لم يكن استغفار ابراهيم لأبيه ناشئا إلا عن موعدة وعدها إياه أي لأجلها. (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وله متعلقان بتبين وأن وما في حيزها فاعل تبين وجملة تبرأ منه لا محل لها لأنها جواب لما وإن واسمها واللام المزحلقة وأواه خبر إن الاول وحليم خبرها الثاني (وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) الواو عاطفة وما نافية وكان واسمها واللام للجحود ويضل منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود وهي مع مدخولها خبر كان وقد تقدمت كثيرا وقوما مفعول به وبعد ظرف متعلق بيضل وهو مضاف والظرف إذ مضاف اليه وجملة هداهم مضاف إليها الظرف وقد تقدم القول فيه في آل عمران ان فيه وجهين أحدهما أن «إذ» بمعنى «أن» والثاني أنها ظرف بمعنى وقت أي بعد أن هداهم أو بعد وقت هدايتهم. (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) حتى حرف غاية وجر ويبين فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ولهم جار ومجرور متعلقان بيبين وما مفعول به وجملة يتقون صلة وان واسمها وخبرها وبكل شيء متعلقان بعليم. (إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ) إن واسمها وله خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأ مؤخر وجملة يحيي خبر ثان لإن والخبر الأول جملة له ملك السموات ويميت عطف على يحيي (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) الواو عاطفة وما نافية ولكم خبر مقدم ومن دون الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ومن زائدة وولي مبتدأ مؤخر محلا ولا نصير عطف على من ولي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 [سورة التوبة (9) : الآيات 117 الى 118] لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) الإعراب: (لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) سيأتي في باب الفوائد معنى توبة الله على النبي والجملة استئنافية مسوقة لبيان التوبة وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إليها واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وتاب الله فعل وفاعل وعلى النبي جار ومجرور متعلقان بتاب والمهاجرين والأنصار عطف على النبي والذين نعت وجملة اتبعوه صلة الموصول وفي ساعة العسرة جار ومجرور متعلقان باتبعوه وسيأتي ذكر ساعة العسرة في باب الفوائد. (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) من بعد متعلقان بمحذوف حال لبيان الشدة وبلوغها الحد الأقصى واسم كاد ضمير الشأن وجملة يزيغ خبر وقلوب فاعل وفريق مضاف اليه ومنهم صفة. (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) ثم حرف عطف للتراخي وتاب عطف على تاب الأولى وفائدة التكرير التنبيه على انه تاب عليهم لما كابدوه في ساعة العسرة وإنه إن واسمها وبهم متعلقان برءوف ورءوف رحيم خبران لإن. (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) وعلى الثلاثة عطف على ما تقدم والمراد بهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، والذين صفة وجملة خلفوا صلة وخلفوا بالبناء للمجهول والواو نائب فاعل أي عن الغزو. (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) حتى حرف غاية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ضاقت مضاف إليها وعليهم جار ومجرور متعلقان بضاقت والأرض فاعل وبما رحبت أي برحبها فالباء حرف جر للمصاحبة وما مصدرية ومعنى الباء هنا المصاحبة وعلامتها أن يصح حلول «مع» محلها أو أن يغني عنها وعن مصحوبها الحال وهنا تصح فيها «مع» أي مع رحبها أما مثال ما يغني عنها وعن مصحوبها الحال فقوله تعالى «وقد دخلوا بالكفر» أي كافرين وعلى كل هي ومصحوبها في محل نصب على الحال أي حالة كونها رحيبة وضاقت عليهم أنفسهم عطف على ما تقدم وهو مثل للحيرة في أمرهم كأنهم لا يجدون مكانا يقرون فيه (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ) وظنوا عطف على ضاقت والظن هنا بمعنى اليقين وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف ولا نافية للجنس وملجأ اسمها ومن الله خبرها وإلا أداة حصر واليه جار ومجرور متعلقان بملجأ. (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ثم حرف عطف وتاب فعل ماض وعليهم جار ومجرور متعلقان بتاب وليتوبوا اللام قيل هي للتعليل أي وفقهم للتوبة ليحصلوا عليها وينشئوها فحصلت المغايرة وصح التعليل وأرى أنه لا مانع من أن تكون لام العاقبة أو الصيرورة أي فكانت عاقبتهم التوبة، وان واسمها وهو مبتدأ أو ضمير فصل والتواب الرحيم خبر ان لإن أو هو. الفوائد: 1- تنطوي هاتان الآيتان على كثير من الفوائد وقبل الشروع فيها نتحدث عن إشكال ورد فيها وهو جواب إذا وعطف «ثم تاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 عليهم» وقد أجاب العلماء عن ذلك بجوابين أولهما أن تكون إذا زائدة فلا تحتاج الى جواب ويستقيم المعنى والثاني أن تكون ثم زائدة فتكون جملة تاب عليهم هي الجواب ولا يمكن حل الإشكال إلا بافتراض زيادة إحداهما وممن قال بزيادة «ثم» زكريا في حاشيته على البيضاوي، أو غيره فاختاروا زيادة إذا. وهذا ما قاله أبو حيان: «وجاءت هذه الجمل في كنف إذا في غاية الحسن والترتيب فذكر أولا ضيق الأرض عليهم وهو كناية عن استيحاشهم ونبوة الناس عن كلامهم وثانيا وضاقت عليهم أنفسهم وهو كناية عن تواتر الهم والغم على قلوبهم حتى لم يكن فيها شيء من الانشراح والاتساع فذكر أولا ضيق المحل ثم ثانيا ضيق الحال فيه لأنه قد يضيق المحل وتكون النفس منشرحة «سم الخياط مع الأحباب ميدان» ثم ثالثا لما يئسوا من الخلق عذقوا أمورهم بالله وانقطعوا اليه وعلموا انه لا يخلص من الشدة ولا يفرجها إلا هو تعالى «ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون» وإذا إن كانت شرطية فجوابها محذوف تقديره تاب عليهم ويكون قوله ثم تاب عليهم نظير قوله ثم تاب عليهم بعد قوله «لقد تاب الله على النبي» الآية ودعوى أن ثم زائدة وجواب إذا ما بعد ثم بعيد جدا وغير ثابت من لسان العرب زيادة ثم ومن زعم أن إذا بعد حتى قد تجرد من الشرط وتبقى لمجرد الوقت فلا تحتاج الى جواب بل تكون غاية للفعل الذي قبلها وهو قوله خلفوا أي خلفوا الى هذا الوقت ثم تاب عليهم ليتوبوا ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة كرة أخرى ليستقيموا على توبتهم وينيبوا أو ليتوبوا أيضا فيما يستقبل إن فرطت منهم خطيئة علما منهم أن الله تواب على من تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 معنى التوبة: كما اختلف العلماء في معنى توبة الله على النبي وسنورد أهم الأوجه التي ارتآها أقطاب المفسرين وعلماء اللغة. أما الزمخشري فنظمها في سلك قوله تعالى «ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر» وقوله «واستغفر لذنبك» وقال: وهو بعث للمؤمنين على التوبة وانه ما من مؤمن إلا وهو محتاج الى التوبة والاستغفار حتى النبي ومن معه من المهاجرين والأنصار، وهذا ما جرينا عليه نحن باعتباره منطقيا ومقيسا. أما الجلال وشارحو تفسيره فقد ذهبوا الى معنى الديمومة في التوبة أي أدام توبته عليهم وقال الشارحون في تعليقهم على ما ذهب اليه الجلال: «وهذا جواب عما يقال إن النبي معصوم من الذنب وإن المهاجرين والأنصار لم يقترفوا ذنبا في هذه القضية فبين أن المراد بالتوبة في حق الجميع دوامها لا أصلها» وهذا الرأي بادي الاضطراب. أما الخازن فقد ارتأى رأيا كدنا نؤثره حتى على الرأي الأول وهو قوله «ومعنى توبته على النبي عدم مؤاخذته بإذنه للمؤمنين في التخلف عنه في غزوة تبوك وهو كقوله: «عفا الله عنك لم أذنت لهم» فهو من باب ترك الأفضل لا أنه ذنب يوجب عقابا» . وهناك رأي لا يقل وجاهة عما تقدم عبر عنه أصحاب المعاني بقولهم: وهو كلام للتبرك فهو كقوله تعالى: «فأن لله خمسه» ومعنى هذا أن ذكر النبي بالتوبة عليه تشريف للمهاجرين والأنصار في ضم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 توبتهم الى توبة النبي صلى الله عليه وسلم كما ضم اسم الرسول الى اسم الله في قوله «فأن لله خمسه وللرسول» . ساعة العسرة: المراد وقتها لا الساعة الفلكية فالساعة مستعملة في معنى الزمن المطلق كما استعملت الغداة والعشية واليوم كقول زفر بن الحارث الكلابي: وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة ... عشية قارعنا جذام وحميرا فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعض أبت عيدانه أن تكسرا فالمراد مطلق الوقت لا العشية على حقيقتها وكقول حاتم الطائي: إذا جاء يوما وارثي يبتغي الغنى ... يجد جمع كف غير ملأى ولا صفر يجد فرسا مثل العنان وصارما ... حساما إذا ما هزّ لم يرض بالهبر وأسمر خطّيا كأن كعوبه ... نوى القسب قد أربى ذراعا على العشر المراد باليوم مطلق الزمان، وهكذا غالب استعمال العرب، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 ويلاحظ انه جزم ب «إذا» تشبيها لها بالأدوات التي تجزم فعلين وقد نص النحاة على ورودها كقوله: استغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتجمل ولساعة العسرة التي وقعت في غزوة تبوك حوادث نكتفي برواية لعمر بن الخطاب عنها قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستقطع وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده وحتى إن الرجل كان يذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستقطع فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله عز وجل قد عوّدك في الدعاء خيرا فادع الله قال: أتحب ذلك؟ فقال الصديق: نعم. فرفع صلى الله عليه وسلم يديه فلم ترجعا حتى قالت السماء فأظلمت ثم سكبت فملئوا ما معهم من الأوعية ثم ذهبنا ننظرها فلم نجدها جاوزت العسكر» ومعنى قالت السماء: مالت وسقطت. [سورة التوبة (9) : الآيات 119 الى 121] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 اللغة: (مَخْمَصَةٌ) : جوع وفي فعله ثلاث لغات فهو خمص بفتح الميم وكسرها وضمها ومصدره خمص ومخمصة وهو خميص البطن وهي خميصة البطن وهو خمصان وهي خمصانة وهم خماص وهن خمائص ومن المجاز زمن خميص أي ذو مجاعة قال: كلوا في بعض بطنكم تعفّوا ... فإن زمانكم زمن خميص وكل شيء كرهت الدنو منه فقد تخامصت عنه، قال الشماخ: تخامص عن برد الوشاح إذا مشت ... تخامص جافي الخيل في الأمعز الوجي وتخامص الليل: رقت ظلمته عند وقت السحر، قال الفرزدق: فما زلت حتى صعدتني حبالها ... إليها وليلي قد تخامص آخره (يَنالُونَ) : في معاجم اللغة: نال خيرا ينال نيلا أصاب، وأصله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 نيل ينيل من باب فهم والأمر منه نل وإذا أخبرت عن نفسك كسرت النون فتقول: نلت وفي المصباح: نال من عدوه من باب تعب نيلا بلغ منه مقصوده ومنه قيل نال من امرأته ما أراد. (وادِياً) : الوادي كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل وهو في الأصل فاعل من ودى إذا سال ومنه الودي وقد شاع استعمال العرب بمعنى الأرض يقولون: لا تصلّ في وادي غيرك وهو المراد هنا وفي المصباح «وودى الشيء إذا سال ومنه اشتقاق الوادي وهو كل منفرج بين جبال أو آكام يكون منفذا للسيل والجمع أودية» ، وفي القاموس وغيره: ودى يدي وديا ودية القاتل القتيل أعطى وليه ديته وودى الأمر قرّبه وودى الشيء سال ومنه اشتقاق الوادي لأن الماء يدي فيه أي يسيل ويجري والجمع أودية وأوادية وأوداء وأوداه. فما شاع على ألسنة الكتاب من جمعه على وديان خطأ ظاهر. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها كثيرا. (اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) اتقوا الله فعل وفاعل ومفعول به وكونوا عطف على اتقوا والواو اسم كان ومع الصادقين متعلقان بمحذوف خبر كونوا، قالوا أتت بمعنى من أي من الصادقين والذي حملهم على ذلك أنه قرىء شذوذا «وكونوا من الصادقين» ولا داعي لهذا التكلف لأن بقاء مع على معناها أولى والمعنى: كونوا مع المهاجرين والأنصار ووافقوهم وانتظموا في سلكهم. (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ) ما نافية وكان فعل ماض ناقص ولأهل المدينة خبر كان المقدم ومن عطف على أهل وحولهم ظرف متعلق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 بمحذوف صلة الموصول ومن الأعراب حال وأن وما في حيزها اسم كان المؤخر وعن رسول الله متعلقان بيتخلفوا (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) الواو عاطفة ويرغبوا يجوز فيه النصب على العطف على أن «لا» نافية والجزم على أن «لا» ناهية، وبأنفسهم متعلقان بيرغبوا والباء للتعدية فقوله رغبت عنه معناه أعرضت عنه والمعنى ولا يجعلوا أنفسهم راغبة عن نفسه، وعن نفسه حال أي عليهم أن يصحبوه على كل حال، وفي البأساء والضراء وأن يكابدوا معه الأهوال ويحتملوا المشاق والمكاره وأن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه فكأنه لم يصن نفسه ولم يربأ بها عند ما ناهز الشدائد، وكابد الأهوال فما أجدرهم بالحذو حذوه واقتفاء آثار خطاه. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ذلك مبتدأ وبأنهم خبر ولا يصيبهم ظمأ فعل مضارع مرفوع ومفعول به وفاعل ولا نصب ولا مخمصة عطف على ظمأ، وفي سبيل الله حال من الهاء أو صفة لمخمصة. (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ) ولا يطئون عطف على لا يصيبهم وموطئا إما اسم مكان فيعرب مفعولا به أي يدوسون مكانا وإما ظرف فيعرب مفعولا مطلقا وجملة يغيظ الكفار صفة لموطئا. (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا) عطف على ما تقدم ومن عدو جار ومجرور متعلقان بينالون (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) إلا أداة حصر وجملة كتب في موضع نصب على الحال فالاستثناء مفرغ من أعم الأحوال وكتب فعل ماض مبني للمجهول ولهم جار ومجرور متعلقان بكتب وكذلك به وعمل نائب فاعل وصالح نعت وإن واسمها وجملة لا يضيع أجر المحسنين خبر إن (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) عطف على لا ينالون ونفقة مفعول به أي ولو تمرة فما فوق. (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) عطف على ما تقدم. (إِلَّا كُتِبَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 لَهُمْ) الجملة استثنائية من أعم الأحوال كما تقدم ونائب الفاعل محذوف لأنه سبق ذكره أي عمل صالح. (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) اللام للتعليل ويجزي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والهاء مفعول به أول والله فاعل وأحسن مفعول به ثان أو مفعول مطلق بمعنى أي يجزيهم أحسن جزاء، وما موصول مضاف لأحسن وكان واسمها وجملة يعملون خبرها. [سورة التوبة (9) : الآيات 122 الى 126] وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 اللغة: (يَلُونَكُمْ) يقربون منكم وفي المصباح: «الولي مثل فلس: القرب وفي الفعل لغتان أكثرهما وليه يليه بكسرتين والثانية من باب وعد وهي قليلة الاستعمال وجلست مما يليه أي يقاربه» وكأن الآية جاءت على اللغة الثانية وأصله يليون بوزن يعدون فنقلت ضمة الياء الى اللام بعد سلب حركتها ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع الواو. الإعراب: (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) الواو عاطفة ليتناسق الكلام فإنهم لما وبخوا بقوله تعالى: «ما كان لأهل المدينة إلخ» وأرسل النبي سرية نفروا جميعا فنزل «وما كان المؤمنون إلخ» وما نافية وكان فعل ماض ناقص والمؤمنون اسمها ولينفروا اللام للجحود أي لتأكيد النفي وينفروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود واللام ومدخولها خبر كان وكافة حال. (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) الفاء الفصيحة ولولا حرف تحضيض أي هلّا ونفر فعل ماض ومن كل فرقة جار ومجرور متعلقان بنفر ومنهم حال لأنه كان في الأصل صفة لطائفة وليتفقهوا اللام للتعليل ويتفقهوا منصوب بأن مضمرة وفي الدين جار ومجرور متعلقان بيتفقهوا فالمعنى على الطلب كأنه قال لتخرج طائفة وتبقى أخرى. (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ولينذروا عطف على ليتفقهوا والواو فاعل وقومهم مفعول به وإذا رجعوا جملة رجعوا مضاف إليها وإليهم جار ومجرور متعلقان برجعوا ولعل واسمها وجملة يحذرون خبرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) قاتلوا فعل أمر وفاعل والذين مفعول به وجملة يلونكم صفة ومن الكفار حال. (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) الواو عاطفة واللام لام الأمر ويجدوا فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والواو فاعل وفيكم جار ومجرور متعلقان بيجدوا وغلظة مفعول به واعلموا عطف على الأمر السابق وان وما في حيزها سدت مسد مفعولي اعلموا وان واسمها ومع المتقين ظرف متعلق بمحذوف خبرها. (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) الواو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وما زائدة وجملة أنزلت مضاف إليها وسورة نائب فاعل. (فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) الفاء رابطة ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وهي اسم موصول أو نكرة تامة موصوفة بجملة يقول أي فريق يقول ولعلها أولى وجملة يقول صلة وأيكم مبتدأ وجملة زادته خبر والهاء مفعول به وهذه فاعل وإيمانا مفعول به ثان. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) الفاء تفريعية وأما حرف شرط وتفصيل والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة والفاء رابطة وزادتهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به والجملة في محل رفع خبر الذين وإيمانا مفعول به ثان أو تمييز. (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) وأما عطف على أما الأولى والذين مبتدأ وفي قلوبهم خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر والجملة صلة فزادتهم الفاء رابطة وجملة زادتهم خبر الذين ورجسا مفعول به ثان والى رجسهم صفة أي مضموما الى رجسهم. (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) عطف على زادتهم والواو للحال وجملة كافرون من المبتدأ والخبر حالية. (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والواو عاطفة على مقدر ويرون فعل مضارع وفاعل وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي فعل الرؤية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 القلبي وجملة يفتنون خبر ان وفي كل عام متعلقان بيفتنون ومرة ظرف متعلق بيفتنون وأو حرف عطف ومرتين عطف على مرة. (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) ثم حرف عطف وتراخ وجملة لا يتوبون عطف على يفتنون والواو حرف عطف وهم مبتدأ وجملة يذكرون خبر. الفوائد: 1- وجوب القتال: قال المفسرون وعلماء الفقه: يتعين القتال على أحد فريقين: إما من نزل بهم عدو وفيهم قوة عليه ثم على من قرب منهم حتى يكتفوا، وإذا أوجب الله على هذه الأمة القتال وإزعاج العدو من دياره وإخراجه من أرضه وقراره فوجوبه- وقد نزل العدو بدار الإسلام واحتل أماكنهم المقدسة وانتهك حرماتها وعاث فيها فسادا- أجدر. 2- مصدر بالحركات الثلاث: الغلظة أصلها في الإجرام ثم استعيرت للشدة والصبر والجلادة في القتال ومن عجيب هذا المصدر أنه قرىء بالحركات الثلاث فهو الغلظة بالكسر وهي لغة أسد والغلظة بالفتح وهي لغة أهل الحجاز والغلظة بالضم وهي لغة تميم ويقال غلظ يغلظ من بابي تعب وظرف والمصدر غلظ بكسر الغين وغلظه وغلظة وغلظه بالحركات الثلاث كما تقدم وغلاظة بالكسر خلاف دقّ أو رقّ أو لان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 [سورة التوبة (9) : الآيات 127 الى 129] وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) اللغة: (عَزِيزٌ) : شديد. (العنت) : المشقة واللقاء المكروه. الإعراب: (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) عطف على ما تقدم وجملة نظر بعضهم جواب إذا لا محل لها وإلى بعض جار ومجرور متعلقان بنظر أي تغامزوا بالعيون من غيظهم. (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) الجملة في محل نصب مقول قول محذوف أي قائلين وجملة القول نصب على الحال ويراكم فعل مضارع ومفعول به ومن زائدة وأحد فاعل محلا. (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 ثم انصرفوا عطف على نظر بعضهم وجملة صرف الله قلوبهم يصح أن تكون إخبارية حالية ويصح أن تكون إنشائية دعائية فتكون لا محل لها وبأنهم متعلقان بصرف والباء للسببية وأن واسمها وجملة لا يفقهون خبرها. (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وجاءكم رسول فعل ومفعول به وفاعل ومن أنفسكم صفة أي من جنسكم ومن نسبكم عربي مثلكم. (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) عزيز صفة ثانية لرسول وفي النحاة من يمنع تقدم الوصف غير الصريح على الوصف الصريح ويمكن أن يجاب بأن «من أنفسكم» جار ومجرور متعلقان بجاءكم وعليه متعلقان بعزيز وما مصدرية أو موصولة وعلى كلا التقديرين فهي ومدخولها أي هي وصلتها فاعل عزيز الذي هو صفة مشبهة ويجوز أن يكون عزيز خبرا مقدما، وما عنتم في تأويل مصدر مبتدأ مؤخر والجملة صفة لرسول وحريص صفة ثالثة أو ثانية وعليكم جار ومجرور متعلقان بحريص وبالمؤمنين متعلقان برءوف ورءوف رحيم صفتان رابعة وخامسة أو ثالثة ورابعة لرسول. (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ) الفاء عاطفة وتولوا فعل وفاعل في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة وحسبي الله خبر مقدم ومبتدأ مؤخر والجملة مقول القول. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تقدم إعرابها مستوفى فجدد به عهدا والجملة حالية. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) عليه جار ومجرور متعلقان بتوكلت وهو مبتدأ ورب العرش خبر والعظيم صفة للعرش. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 (10) سورة يونس مكية وآياتها تسع ومائة [سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4) اللغة: (الر) : تقدم القول فيها مفصلا فجدد به عهدا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 (الآية) : العلامة التي تنبىء عن مقطع الكلام من جهة مخصوصة. (الْحَكِيمِ) : هاهنا بمعنى المحكم فعيل بمعنى مفعل قال الأعشى: وغريبة تأتي الملوك حكيمة ... قد قلتها ليقال: من ذا قالها؟ وقيل الحكيم بمعنى الحاكم ودليله قوله تعالى «ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه» وسيأتي القول في باب الفوائد عن الحكمة وشيوعها في القرآن. (قَدَمَ صِدْقٍ) : القدم بفتحتين الشيء الذي تقدمه أمامك ليكون لك عدة حتى تقدم عليه وقال أبو عبيدة والكسائي: كل سابق خير أو شر فهو عند العرب قدم وهو مؤنث، يقال قدم حسنة، قال حسان ابن ثابت: لنا القدم العليا إليك وخلفنا ... لأولنا في طاعة الله تابع وقال ذو الرمة: لكم قدم لا ينكر الناس أنها ... مع الحسب العادي طمت على البحر وسيأتي في باب البلاغة المزيد من بحثها. (القسط) العدل وهي بكسر القاف ومنه القسط أي النصيب، والقسط بفتح القاف الجور، والسين اعوجاج في الرجلين. (الحميم) : الماء الذي أسخن بالنار أشد اسخان، قال المرقش الأصغر: في كل يوم لها مقطّرة ... فيها كباء معد وحميم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 الإعراب: (الر، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) الر تقدم إعرابها في سورة البقرة فجدد به عهدا وتلك مبتدأ وآيات الكتاب خبر والحكيم صفة للكتاب. (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) الهمزة للاستفهام الإنكاري المشوب بالتعجب وكان فعل ماض ناقص وللناس جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه تقدم على الصفة وعجبا خبر كان مقدم وأن أوحينا مصدر في محل رفع اسم كان والى رجل جار ومجرور متعلقان بأوحينا ومنهم صفة لرجل. (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) أن مفسرة وهي الواقعة بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه أو مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وجملة أنذر الناس مقول قول محذوف هو في محل رفع خبر إن على معنى أن الشأن قولنا أنذر الناس. (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وبشر معطوف على أنذر والذين مفعول به وجملة آمنوا صلة وأن حرف مشبه بالفعل وهي وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي بأن، ولهم خبرها المقدم وقدم صدق اسمها المؤخر وعند ربهم الظرف متعلق بمحذوف صفة لقدم صدق. (قالَ الْكافِرُونَ: إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) الجملة مستأنفة كأنه قيل: ماذا صنعوا بعد التعجب، وقال الكافرون فعل وفاعل وإن واسمها وخبرها واللام المزحلقة ومبين صفة لساحر والجملة مقول القول (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) إن واسمها وخبرها والذي صفة لله وجملة خلق السموات والأرض صلة وفي ستة أيام متعلقان بخلق. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ثم حرف عطف وتراخ واستوى عطف على خلق وعلى العرش جار ومجرور متعلقان باستوى وجملة يدبر الأمر خبر ثان لإن ويجوز أن تكون حالية ويجوز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 أن تكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب. (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) ما نافية حجازية ومن زائدة وشفيع مجرور لفظا اسم ما محلا وإلا أداة حصر ومن بعد إذنه متعلقان بمحذوف خبر. (ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ذلكم مبتدأ والله بدل وربكم خبر ذلكم والفاء الفصيحة واعبدوه فعل أمر وفاعل ومفعول به والهمزة للاستفهام الانكاري المراد به الحث على التفكر والتذكر والفاء عاطفة على محذوف ولا نافية وتذكرون فعل مضارع أصله تتذكرون. (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) إليه خبر مقدم ومرجعكم مبتدأ مؤخر وجميعا نصب على الحال (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا) وعد الله منصوب على المصدر لأن قوله إليه مرجعكم معناه الوعد بالرجوع وحقا منصوب على المصدرية والتقدير حق ذلك حقا. (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ان واسمها وجملة يبدأ خبرها والخلق مفعول به ثم يعيده عطف على يبدأ الخلق والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل وجود الخلق ومرجعهم إليه (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) اللام للتعليل ويجزي مضارع منصوب بأن مضمرة والذين مفعول يجزي وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا وبالقسط جار ومجرور متعلقان بيجزي أي بسبب قسطهم وعدلهم ويجوز أن يكون حالا إما من الفاعل وإما من المفعول أي يجزيهم ملتبسا بالقسط أي عادلا أو ملتبسين به. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة ولهم خبر مقدم وشراب مبتدأ مؤخر ومن حميم صفة لشراب وعذاب عطف على شراب وجملة لهم شراب خبر الذين وأليم صفة لعذاب وبما الباء حرف جر سببية وما مصدرية وكانوا كان واسمها وجملة يكفرون خبرها أي بسبب كفرهم والجار والمجرور صفة ثانية لعذاب ويجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف، أي ذلك بسبب كفرهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 البلاغة: 1- المجاز المرسل في قوله: «أن لهم قدم صدق» فقد أطلق لفظ القدم على السعي والسبق لأنهما لا يحصلان إلا بالقدم فسمى المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد فالعلاقة هنا السببية وقد تقدم بحثه، ونزيد هنا ان المجاز لا يكون مطردا فلا يصح أن يقال قدم سوء، وهذه خاصة عجيبة من خصائص المجاز يكاد الحكم فيها مرده الى الذوق. 2- المناسبة اللفظية بين حميم وأليم والمناسبة ضربان: مناسبة في المعاني ومناسبة في الألفاظ وقد مر ذكر المناسبة المعنوية في الأنعام، أما هنا فالمناسبة لفظية وهي عبارة عن الإتيان بلفظات متزنات مقفاة وغير مقفاة فهو تام وناقص وقد وقعت الناقصة في الكلام الفصيح أكثر لأن التقفية غير لازمة فيها. الفوائد: 1- الحكمة في القرآن: شاعت لفظة الحكمة في القرآن ووصف القرآن بالحكيم وقد مر معنا الكثير من ذلك وسيمر أكثر منه، وسنجد لفظ الكتاب مقترنا بلفظ الحكمة معطوفة عليه. قال تعالى «وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة» ويرى الأستاذ مصطفى عبد الرزاق في أبحاثه عن الفلسفة الاسلامية «إن من الممكن أن تكون كلمة «حكمة» في اللغة العربية مرادفة لكلمة «فلسفة» اليونانية، وتتبّع هذه الكلمة يهدينا الى أصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 التفكير الممتاز عند العرب، وقد وجدت الكلمة في الجاهلية والشواهد عليها كثيرة جدا ومعنى الحكمة في القرآن، في أكثر الأحيان، سنة النبي ولا خلاف في تقرير هذا المعنى، وقال اللغويون الحكمة والحكم من مادة واحدة، ويرى بعض المستشرقين أن الكلمة عبرية ومعناها في هذا اللسان: القضاء أي الحكم أيضا، والحكمة في معناها العام تدل على السّداد وإتقان الرأي والفعل قال تعالى: «ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا» ، وهذا القول من الوجاهة الى حد كبير وقد سبق الامام الشافعي الى تقرير شيء من ذلك فقال: «إن المقصود بالحكمة سنة النبي صلى الله عليه وسلم» . 2- إضافة الموصوف الى الصفة وبالعكس: الأصل أن لا يضاف موصوف الى صفته كرجل فاضل ولا تضاف صفة لموصوفها كفاضل رجل وما ورد من ذلك يؤول كقوله تعالى «قدم صدق» ومسجد الجامع وصلاة الأولى وحب الحصيد وحبة الحمقاء وتأويله أن يقدر موصوف أضيف إليه المضاف المذكور والتقدير في هذه الأمثلة قدم سعي صدق، ومسجد المكان الجامع، وصلاة الساعة الأولى، وحبة البقلة الحمقاء، وإنما وصفوها بالحمق لأنها تنبت في مجاري السيول فيمر السيل بها فيقطعها فتطؤها الأقدام، ومن أمثلة اضافة الصفة الى موصوفها قولهم جرد قطيفة بفتح الجيم وسكون الراء وفتح القاف وكسر الطاء، وسحق عمامة بفتح السين وسكون الحاء وكسر العين وتأويله أن يقدر موصوف أيضا ويقدر إضافة الصفة الى جنسها ويجر جنسها بمن لأن الاضافة بمعنى من أي شيء جرد من نفس القطيفة وشيء سحق من جنس العمامة فشيء موصوف وجردا وسحق صفته والصفة فيهما مضافة الى جنسها معنى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 3- ابن هشام وتعليق «للناس» : وأجاز ابن هشام أن يتعلق قوله «للناس» بكان في بحثه المتعلق بالتعليق بالفعل الناقص قال: «هل يتعلقان بالفعل الناقص؟ من زعم أنه لا يدل على الحدث منع من ذلك وهم المبرد فالفارسي فابن جني فالجرجاني فابن برهان ثم الشلوبين، والصحيح أنها كلها دالة عليه إلا ليس» أي ف «كان» تدل على حدث وهو كون مطلق والمقيد له خبرها فمعنى كان زيد: حصل زيد، وقولك قائما أفاد أن المراد حصول قيام زيد وتدل أيضا على زمن خاص وهو الزمن الماضي وأما خبرها وهو قائم فيدل على زمن مطلق فيقيد ويعين بالزمن في كان أو يكون فتحصل ان «كان» تدل على حدث مطلق يقيد بالخبر والخبر يدل على زمن مطلق يقيد بالزمن المستفاد من كان فتعاوضا وأما بقية الأفعال ك «صار» الدالة على الانتقال و «أصبح» الدالة على الدخول في الصباح إلخ فدلالتها على حدث لا يدل عليه الخبر في غاية الظهور وقد استدل على بطلان القول بأنها لا تدل على الحدث بأمور منها: أن الأصل في الفعل الدلالة على الحدث والزمان إذ الدال على الحدث وحده مصدر وعلى الزمان وحده اسم زمان ولا يخرج الفعل عن أصله إلا بدليل، ومنها: أن الأفعال المتساوية في الزمان إنما تمتاز بالأحداث فإذا زال ما به الافتراق وبقي ما به التساوي فلا فرق بين كان زيد غنيا وصار زيد غنيا والفرق حاصل فبطل ما يوجب خلافه، ومنها: أنه لو كان معناها الزمن لجاز أن ينعقد جملة تامة من بعضها ومن اسم معنى كما ينعقد منه ومن اسم زمان ثم قال ابن هشام: «واستدل لمثبتي ذلك التعلق بقوله تعالى: «أكان للناس عجبا أن أوحينا» فإن اللام لا تتعلق بعجبا لأنه مصدر مؤخر ولا بأوحينا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 لفساد المعنى ولأنه صلة لأن، ويجوز أيضا أن تكون متعلقة بمحذوف هو حال من عجبا على حد قوله: لمية موحشا طلل ... يلوح كأنه خلل وعبارة ابن يعيش: «فقوله للناس متعلق بكان وذلك انه لا يخلو إما أن يكون متعلقا بعجبا أو بأوحينا أو بكان فلا يجوز أن يتعلق بعجبا نفسها لأنه مصدر ومعموله من صلته فلا يتقدم عليه ولا يكون صفة لعجبا على أنه يتعلق بمحذوف لتقدمه عليه والصفة لا تتقدم على الموصوف ولا يجوز أن يتعلق بأوحينا لأنه في صلته ولا يجوز تقديمه عليه وإذا بطل تعلقه بما ذكرنا تعين أن يكون متعلقا بكان نفسها تعلق الظرف بالفعل» . ولا أدري كيف منع ابن يعيش تقديم الصفة على الموصوف وقد أجمع النحاة على أنها إذا تقدمت عليه أعربت حالا وأنشدوا البيت الآنف الذكر. [سورة يونس (10) : الآيات 5 الى 6] هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 اللغة: (الضياء) : يجوز أن يكون جمع ضوء كسوط وسياط وحوض وحياض ويجوز أن يكون مصدر ضاء يضوء ضياء وضوءا مثل عاذ يعوذ عياذا وعوذا وعلى أي الوجهين فالمضاف محذوف وتقديره جعل الشمس ذات ضياء والقمر ذا نور ويكون جعل الضياء والنور لكثرة ذلك فيهما وقد تقدم في سورة البقرة الفرق الدقيق بين الضوء والنور فارجع إليه. الإعراب: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) هو مبتدأ والذي خبره وجملة جعل صلة وإن كان الجعل بمعنى التصيير كانت الشمس مفعولا أولا وضياء مفعولا ثانيا وان كان الجعل بمعنى الخلق كانت الشمس مفعولا به وضياء حال والقمر نورا عطف عليهما. (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) وقدره فعل وفاعل مستتر ومفعول به ومنازل أي في منازل فهو منصوب على الظرفية ويجوز أن يكون التقدير ذا منازل، وقدّر على هذا متعدية الى مفعولين لأن معناه جعل وصيّر فيكون مفعولا ثانيا ويجوز أن يكون قدّر متعديا الى واحد بمعنى خلق وهو الهاء ومنازل حال أي متنقلا وارتأى أبو البقاء وجها طريفا لا يخلو من وجاهة وهو أن يكون الضمير منصوبا بنزع الخافض فحذف حرف الجر أي قدر له منازل ومنازل مفعول به واللام للتعليل وتعلموا منصوب بأن مضمرة وعدد مفعول به والسنين مضاف إليه والحساب معطوف على عدد، سئل أبو عمرو عن الحساب أننصبه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 أم نجره فقال: ومن يدري عدد الحساب ومعنى جوابه أنه سئل هل نعطفه على عدد فنصبه أم على السنين فنجره؟ فكأنه قال: لا يمكن جره إذ يقتضي ذلك أن يعلم عدد الحساب، ولا يقدر أحد أن يعلم عدده. (ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ما نافية وخلق الله ذلك فعل وفاعل ومفعول به وإلا أداة حصر وبالحق حال فالاستثناء المفرغ من أعم الأحوال أي ما خلق ذلك إلا ملتبسا بالحق والحكمة البالغة ولم يخلقه عبثا وجملة يفصل الآيات حال أيضا والآيات مفعول به ولقوم متعلقان بيفصل وجملة يعلمون صفة لقوم. (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) الجملة مستأنفة لتعليل تعاقب الليل والنهار وتفاوتهما بالزيادة والنقصان وإن حرف مشبه بالفعل وفي اختلاف خبر مقدم لإن وما اسم موصول معطوف على اختلاف ويجوز أن تكون مصدرية والمصدر معطوفا على اختلاف، وفي السموات والأرض جار ومجرور متعلقان بخلق ولآيات اللام المزحلقة وآيات اسم إن المؤخر ولقوم متعلقان بصفة لآيات وجملة يتقون صفة لقوم. [سورة يونس (10) : الآيات 7 الى 10] إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 اللغة: (الرجاء) : له معنيان صالحان في هذه الآية فالأول الخوف ومنه قول الشاعر: إذ لسعته النحل لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت نوب عواسل والثاني الطمع ومنه قول الشاعر: أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي ... وقومي تميم والفلاة ورائيا فالمعنى على الأول: لا يخافون عقابا وعلى الثاني: لا يطمعون في ثواب وقيل المراد بالرجاء هنا التوقع فيدخل تحته الخوف والطمع. الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) ان واسمها وجملة لا يرجون صلة ولقاءنا مفعول به. (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) عطف على لا يرجون لقاءنا فهو داخل في حكم الصلة ويحتمل أن تكون الواو للحال وقد مقدرة وكذلك يقال في واطمأنوا بها. (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) والذين عطف على الذين المتقدمة فيكون قسما مباينا للذين لا يرجون وقد أخبر عن الصنفين فيما يأتي وهم مبتدأ وعن آياتنا جار ومجرور متعلقان بغافلون وغالفون خبر هم والجملة صلة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 الموصول. (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أولئك مبتدأ ومأواهم مبتدأ ثان والنار خبر الثاني والثاني وخبره خبر أولئك وأولئك وخبره خبر إن وبما كانوا يكسبون تقدم في إعراب بما كانوا يكفرون. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) إن واسمها وجملة آمنوا صلة وعملوا عطف على آمنوا والصالحات مفعول وجملة يهديهم ربهم خبر إن. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) الجملة خبر ثان لإن أو حال من مفعول يهديهم أو مستأنفة وفي جنات النعيم خبر ثالث أو حال ثانية أو متعلقان بتجري. (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) دعواهم مبتدأ وفيها جار ومجرور متعلقان بدعواهم أو بمحذوف حال وسبحانك مفعول مطلق لفعل محذوف والجملة المؤلفة منه خبر دعواهم والمعنى أن دعاءهم هو هذا اللفظ فالخبر هو نفس المبتدأ واللهم منادى مفرد علم والميم المشددة عوض عن حرف النداء وتحيتهم مبتدأ وفيها متعلقان بتحيتهم أو بمحذوف حال وسلام خبر تحيتهم والمصدر يعني التحية مضاف لمفعوله والفاعل مستتر أي تحية الله لهم أو تحية الملائكة إياهم أو مضاف لفاعله أي ويحيي بعضهم بعضا. (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الواو عاطفة وآخر مبتدأ ودعواهم مضاف إليه وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن والحمد مبتدأ ولله خبر ورب العالمين صفة أو بدل من الله وجملة الحمد لله خبر ان. [سورة يونس (10) : الآيات 11 الى 12] وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 الإعراب: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتصوير حالة الناس وتجسيد ما انطوى عليه كيانهم من مطاوعة لنوازع النفس التي تغضب وتتبرم بسواها فتبدر منها في حالات الأزمات النفسية أدعية يتمنون فيها الموت لأولادهم وذويهم ولكن الله يتجاوز عن الاستجابة لأنه لو استجاب لكل ما يصدر عنهم لفرغ من هلاكهم، ولو حرف شرط للامتناع ويعجل فعل مضارع والله فاعل وللناس جار ومجرور متعلقان بيعجل والشر مفعول به واستعجالهم مفعول مطلق وبالخير متعلقان بالمصدر الذي هو استعجالهم، اللام واقعة في جواب لو وقضي فعل ماض بالبناء للمجهول وإليهم متعلقان بقضي وأجلهم نائب فاعل، والمعنى لفرغ من أجلهم ومدتهم المضروبة وسيرد في باب البلاغة المزيد من النكت الرائعة في هذا التعبير الرشيق وهذا هو المشهور في الاعراب على أن سيبويه أعرب استعجالهم حالا وان التقدير عنده استعجالا مثل استعجالهم ثم حذف الموصوف وهو استعجال وأقيمت صفته مقامه وهي مثل فبقي ولو يعجل مثل استعجالهم ثم حذف المضاف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 وأقيم المضاف اليه مقامه فأعرب حالا من ذلك المصدر المقدر، والأول أسهل كما سيأتي ويجوز أيضا أن يعرب منصوبا بنزع الخافض على إسقاط كاف التشبيه والتقدير كاستعجالهم (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) الفاء عاطفة ونذر عطف على مفهوم النفي لأن لو يعجل متضمن معنى النفي للتعجيل كأنه قيل ولا نعجل لهم الشر ولا نقضي إليهم أجلهم فنذر، والفاعل مستتر تقديره نحن والذين مفعول به وجملة لا يرجون لقاءنا صلة وفي طغيانهم جار ومجرور متعلقان بيعمهون وجملة يعمهون حال أي مترددين في عماهم متخبطين في دجنات آثامهم. (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ) الواو للاستئناف والجملة استئنافية مسوقة لتقرير ضعف الإنسان ونهاية عجزه، وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة مس مضاف إليها والإنسان مفعول به والضر فاعل. (دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) جملة دعانا لا محل لها لأنها جواب إذا ولجنبه في محل نصب حال من فاعل دعانا بدليل ما عطف عليه من الحالين الآتيين أو حرف عطف وقاعدا معطوف على محل لجنبه وكذلك أو قائما ومعنى هذه الأحوال أن المضرور لا يزال لاهجا بالدعاء لا يفتر عنها في مطلق الأحوال كلها سواء أكان منبطحا عاجزا عن النهوض أو كان قاعدا متخاذلا لا يقدر على القيام أو كان قائما لا يطيق المشي. (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وكشفنا فعل وفاعل وعنه متعلقان بكشفنا وجملة مر لا محل لها لأنها جواب لما وكأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وجملة لم يدعنا خبرها والى ضر جار ومجرور متعلقان بيدعنا وجملة مسه صفة لضر. (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) كذلك مفعول مطلق أي مثل ذلك التزيين وزين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 بالبناء للمجهول وللمسرفين جار ومجرور متعلقان بزين وما موصول نائب فاعل وجملة كانوا صلة والواو اسم كان وجملة يعملون خبر كان. البلاغة: 1- التنكيت في قوله تعالى «ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير» فقد كان سياق الكلام يقضي أن يأتي بالمصدر المناسب لفعله وهو التعجيل ولكنه عدل الى الاستعجال وهو مصدر لاستعجال لنكتة تدق على الافهام وتكاد تذهل عنها الخواطر إذ لا يكاد وضع المصدر مؤكدا ومقارنا لغير فعله في الكتاب العزيز يخلو من نكتة وقصارى ما يقوله النحاة في ذلك أنه أجرى المصدر على الفعل مقدرا عدم الزيادة وإذا تسوّر القارئ الفطن بفكر مراقي البيان علم أن وراء الجنوح الى هذا المصدر بدلا عن المصدر الملائم للفعل سرا إذ وضع الاستعجال موضع التعجيل إيذانا وإشعارا بسرعة اجابته لهم واسعافه بطلبتهم حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل لهم ومثل ذلك قوله «والله أنبتكم من الأرض نباتا» في التنبيه على حتمية نفوذ القدرة في المقدور وسرعة إمضاء الحكم وسيأتي في حينه. 2- التقسيم أو صحة الأقسام وهو عبارة عن استيفاء المتكلم جميع أقسام المعنى الذي هو آخذ فيه بحيث لا يغادر منه شيئا وقوله: «دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما» استوفى جميع الهيئات التي يكون عليها الإنسان وقد تردد التقسيم في آل عمران فارجع اليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 [سورة يونس (10) : الآيات 13 الى 17] وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) اللغة : (الْقُرُونَ) : جمع قرن بفتح القاف، وهو أهل كل عصر، سموا بذلك لمقارنة بعضهم لبعض ومنه قرن الكبش لمقارنته آخر بإزائه والقرن بكسر القاف هو المقام لقرينه في الشدة ويؤخذ من المعاجم أيضا أن القرن بفتح القاف هو مائة سنة وأمة بعد أمة والوقت المطلق من الزمان والقرون الخالية الأمة المتقدمة على التي بعدها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 (خَلائِفَ) : جمع خليفة وهو من يخلف غيره ويقوم مقامه والإمام الذي ليس فوقه إمام وهو مذكر فيقال هذا خليفة آخر وربما أنث مراعاة للفظ فيقال خليفة أخرى ويجمع على خلفاء وخلائف والعدد مع الجمع الأول مذكر فيقال ثلاثة خلفاء ومع الثاني يجوز أن يكون مذكرا ومؤنثا فيقال ثلاثة وثلاث خلائف. (القرآن) : هناك خمسة أقوال في لفظ القرآن نلخصها بما يلي: 1- ما ذهب اليه الشافعي من أنه ليس مهموزا ولا مشتقا بل وضع علما على الكلام المنزل. 2- ما نقل عن الأشعري وغيره من أنه مشتق من قرنت الشيء بالشيء إذا ضممته اليه ثم جعل علما على اللفظ المنزل وسسي بذلك لقران السور والآيات والحروف فيه بعضها ببعض. 3- ذهب الفراء الى أنه مشتق من القرائن لأن الآيات فيه يصدق بعضها بعضا وجعل علما على اللفظ المنزل لذلك وهو على هذين غير مهموز أيضا كالذي قبلهما ونونه أصلية. 4- قال الزجاج: هو وصف على وزن فعلان وهو مهموز مشتق من القرء بمعنى الجمع ومنه قرأت الماء في الحوض إذا جمعته وسمي الكلام المنزل على النبي المرسل به قرآنا لأنه جمع السور أو جمع ثمرات الكتب السابقة. 5- ما ذهب اليه اللحياني وجماعة من أنه مصدر مهموز بوزن الغفران سمي به المقروء من تسمية المفعول بالمصدر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 وينقل السيوطي في الإتقان عن الجاحظ أن الله سمى كتابه اسما مخالفا لما سمى العرب كلامهم، سمى جملة قرآنا كما سمى العرب جملة كلامهم ديوانا وسمى بعضه سورة كقصيدة، وسمى بعض السورة آية كالبيت وسمى آخر السورة الفاصلة كالقافية. أما دائرة المعارف الاسلامية فتبدأ بحثها في ماده قرآن بذكر اختلاف المسلمين في نطق واشتقاق ومعنى كلمة قرآن فبعضهم يقول القرآن بغير همز ويذهب الى أنها كلمة وضعت كما وضعت كلمة توراة وإنجيل وهو كما ترى قول الشافعي، ثم تمضي الدائرة في ذكر بقية الأقوال الخمسة الآنفة الذكر وتضيف إليها قولا سادسا وهو ما ذهب اليه شفالي، ولهاوزن من أن الكلمة عبرية أو سريانية ومعناها ما يقرأ، وتجنح دائرة المعارف مع هذين العالمين، الى رأيهما الذي يقول بأن قرأ بمعنى تلا ليست كلمة عربية النسب ولكنها دخيلة على اللغة. هذا وسيرد المزيد من هذا البحث الطريف في مواقع أخرى يتبين فيها أرجع الأقوال. الإعراب: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأهلكنا القرون فعل وفاعل ومفعول ومن قبلكم جار ومجرور متعلقان بأهلكنا ولا يجوز أن يكون حالا من القرون لأنه ظرف زمان فلا يقع حالا عن الجثة كما لا يقع خبرا لها وقد تقدم بحثه. (لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) لما حينية متعلّقة بأهلكنا أو رابطة وظلموا فعل وفاعل وجاءتهم الواو واو الحال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 بإضمار قد وقد تقدم بحث واو الحال وقيل الواو للعطف على ظلموا ولعل الأول أولى، وجاءتهم رسلهم فعل ومفعول به وفاعل وبالبينات متعلق بجاءتهم. (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) عطف على ظلموا واللام في ليؤمنوا للجحود ويؤمنوا منصوب بأن مضمرة وهي مع مدخولها خبر كانوا، وكذلك في محل نصب صفة لمصدر محذوف ونجزي القوم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به والمجرمين صفة للقوم. (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) ثم حرف عطف وجعلناكم عطف على أهلكنا وخلائف مفعول به ثان وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لخلائف ومن بعدهم متعلقان بجعلناكم. (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) اللام للتعليل وننظر منصوب بأن مضمرة بعدها وكيف اسم استفهام في محل نصب مفعول به لتعملون أي لننظر أي عمل تعملونه، لا لننظر لأن لها الصدارة فلا يعمل فيها ما قبلها، ولا يبعد أن تكون في محل نصب على الحال أي على أي حالة تعملون الأعمال اللائقة بالاستخلاف. (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة تتلى مضاف إليها وتتلى فعل مضارع بالبناء للمجهول وعليهم متعلقان بتتلى وآياتنا نائب فاعل وبينات حال. (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) الجملة لا محل لها لأنها جواب إذا والذين فاعل وجملة لا يرجون صلة ولقاءنا مفعول يرجون وجملة ائت مقول القول وبقرآن متعلقان بائت وغير صفة لقرآن وهذا مضاف لغير وأو حرف عطف وبدله عطف على ائت. (قُلْ: ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) ما نافية ويكون فعل مضارع ناقص ولي خبرها المقدم وأن وما في حيزها اسمها المؤخر ويجوز أن تكون تامة والمصدر فاعل ومن تلقاء نفسي متعلقان بأبدله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 ونفسي مضافة لتلقاء وقد تقدم القول في التلقاء. (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) إن نافية وأتبع فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا وإلا أداة حصر وما مفعول به وجملة يوحى إلي صلة. (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) إن واسمها وجملة أخاف خبرها وإن شرطية وعصيت فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والتاء فاعل ربي مفعول به وعذاب مفعول به لأخاف ويوم مضاف اليه وعظيم صفة. (قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) لو شرطية وشاء الله فعل وفاعل وجملة ما تلوته عليكم جواب لو وعليكم جار ومجرور متعلقان بتلوته، ولا الواو عاطفة ولا نافية وأدراكم فعل ماض وفاعله مستتر والكاف مفعول به وبه متعلقان بأدراكم. (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) الفاء تعليلية وقد حرف تحقيق ولبثت فعل وفاعل وفيكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وعمرا ظرف زمان متعلق بلبثت ومن قبله متعلقان بلبثت أفلا الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على مقدر ولا نافية وتعقلون معطوف على المقدر. (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) الفاء عاطفة ومن اسم استفهام للنفي مبتدأ وأظلم خبره وممن متعلقان بأظلم وجملة افترى صلة الموصول وعلى الله متعلقان بافترى وكذبا مفعول به، وأو حرف عطف وكذب عطف على افترى وبآياته متعلقان بكذب، والمعنى: لا أحد أظلم ممن افتري على الله الكذب، وزيادة كذبا مع أن الافتراء لا يكون الا كذبا لبيان أن هذا مع كونه افتراء على الله هو كذب في نفسه فربما يكون الافتراء كذبا في الاسناد فقط كما إذا أسند ذنب زيد الى عمرو. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) الجملة تعليل لكونه لا أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته، وان واسمها وجملة لا يفلح خبرها والمجرمون فاعل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 [سورة يونس (10) : الآيات 18 الى 20] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) الإعراب: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة لحكاية جناية أخرى من جناياتهم ويعبدون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل ومن دون الله متعلقان بمحذوف حال من فاعل يعبدون أي متجاوزين الله لا بمعنى ترك الله بالكلية بل بمعنى عدم الاكتفاء بها وضم عبادة الأوثان إليها للشفاعة والتقرب وما موصول مفعول به وهي راجعة الى الأصنام ولكنه راعى لفظها فأفرد في قوله ما لا يضرهم ولا ينفعهم وراعى معناها في قوله هؤلاء شفعاؤنا فجمع، وجملة لا يضرهم صلة الموصول ولا ينفعهم عطف. وقيل ما موصوفة. (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ) الواو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 عاطفة ويقولون معطوف على يعبدون وهؤلاء مبتدأ وشفعاؤنا خبر وعند الله ظرف متعلق بمحذوف حال. (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) قل فعل أمر وجملة أتنبئون مقول القول والمقصود بالأمر التبكيت والهمزة للاستفهام الانكاري كأنه يؤنبهم وينكر عليهم أن يخبره بما لا يعلم لها وجودا في السموات والأرض وهو الشفيع ولو أنه كان ثمة شفيع لعلمه. وربما الباء حرف جر وما موصولة أو نكرة موصوفة وعلى كلا التقديرين العائد محذوف أي يعلمه والجار والمجرور متعلقان بتنبئون وفي السموات حال من العائد المحذوف في يعلم وجملة لا يعلم صلة ما. (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) سبحانه تقدم أنه مفعول مطلق لفعل محذوف وتعالى فعل ماض وعما يشركون متعلقان بتعالى وما موصولة أو مصدرية. (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان أن الفطرة والتشريع تتطلب وحدة البشر ولكنهم نزوعا منهم الى أهواء النفس ومتطلباتها اختلفوا وقد أفاض المفسرون في كيفية ذلك والرجوع اليه في المطولات. وما نافية وكان الناس كان واسمها وإلا أداة حصر وأمة خبر كان وواحدة صفة فاختلفوا عطف على المعنى أي كان الناس جميعا على الحق فاختلفوا. (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) الواو عاطفة ولولا حرف امتناع لوجود وكلمة مبتدأ محذوف الخبر وجملة سبقت صفة لكلمة ومن ربك متعلقان بسبقت ولقضي اللام جواب لولا وجملة قضي لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ونائب الفاعل مستتر تقديره الأمر وبينهم متعلقان بقضي أي لفصل بينهم ولميز المحق من المبطل ولكن كلمته سبقت بالتأخير لتكون هذه الدار دار تكليف وتلك دار ثواب أو عقاب وفيما متعلقان بقضي أيضا وفيه متعلقان بيختلفون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 وجملة يختلفون صلة الموصول. (وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) الواو عاطفة ويقولون فعل مضارع وفاعل ولولا حرف تحضيض وأنزل فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان بأنزل وآية نائب فاعل ومن ربه صفة لآية. وأتى بالمضارع لاستحضار صورة ما قالوه. (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) الفاء واقعة في جواب لولا وإنما كافة ومكفوفة والغيب مبتدأ ولله خبر فانتظروا الفاء الفصيحة وانتظروا فعل أمر وفاعل واني ان واسمها ومن المنتظرين خبرها ومعكم ظرف متعلق بالمنتظرين. [سورة يونس (10) : الآيات 21 الى 23] وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 اللغة: (الْفُلْكِ) : السفن وسميت فلكا لدورانها في الماء وأصله الدور ومنه فلكة المغزل، وتفلّك ثدي الجارية إذا استدار والفلك يكون جمعا وواحد وهو هنا جمع. (رِيحٌ) : في المصباح: الريح الهواء المسخر بين السماء والأرض وأصلها الواو لكن قلبت لانكسار ما قبلها والجمع أرواح ورياح وبعضهم يقول أرياح بالياء على لفظ الواحد وغلّطه أبو حاتم. والريح مؤنثة على الأكثر فيقال هي الريح وقد تذكر على معنى الهواء فيقال هو الريح نقله أبو زيد، وقال ابن الأنباري: الريح مؤنثة لا علامة فيها وكذلك سائر أسمائها إلا الإعصار فهو مذكر وراح اليوم يروح روحا من باب قال وفي لغة من باب خاف إذا اشتدت ريحه فهو رائح. (عاصِفٌ) : عصفت الريح فهي عاصف وعاصفة قال: حتى إذا عصفت ريح مزعزعة ... فيها قطار ورعد صوته زجل ويقال أعصفت الريح فهي معصفة ومعصف والجمع معاصف ومعاصيف. الإعراب: (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 آياتِنا) الواو استئنافية وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه وجملة أذقنا في محل جر بالاضافة إليها وجوابها في إذا الثانية الفجائية وانما جعلت جوابا لكونها بمعنى المفاجأة كأنه قال وإذا رحمناهم من بعد ضراء فاجئوا وقوع المكروه منهم وسارعوا اليه وقد يقدم القول في إذا الفجائية وهل هي حرف أم ظرف زمان أم ظرف مكان، ورحمة مفعول به ثان ومن بعد صفة لرحمة وضراء مضافة ترجمة وجملة مستهم صفة لضراء وإذا الفجائية ولهم خبر مقدم ومكر مبتدأ مؤخر وفي آياتنا صفة لمكر. (قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً) الله مبتدأ وأسرع خبر ومكرا تمييز. (إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) ان واسمها وجملة يكتبون خبرها وما موصول مفعول به وجملة تمكرون صلة والجملة تعليلية لسرعة مكره تعالى وتعجيله العقوبة. (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان جريمة أخرى من جرائمهم قائمة على اختلاف ما يعتريهم من تقلب بالنسبة لما يصيبهم من سراء وضراء، وهو مبتدأ والذي خبره وجملة يسيركم صلة والكاف مفعول به وفي البر والبحر جار ومجرور متعلقان بيسيركم. (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها) حتى حرف غاية وجر وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة كنتم مضافة إليها والتاء اسم كان وفي الفلك خبرها وجرين عطف على كنتم على طريق الالتفات كما سيأتي في باب البلاغة والنون للنسوة فاعل جرين وبهم جار ومجرور متعلقان بجرين وبريح طيبة حال أي مسوقين وطيبة صفة وفرحوا بها عطف على وجرين ويجوز أن تكون جملة حالية من الضمير بهم وقد مضمرة. (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) جملة جاءتها لا محل لها لأنها جواب إذا وريح فاعل جاءتها وعاصف صفة وجاءهم الموج عطف على جاءتها ومن كل مكان متعلقان بجاءهم أو بمحذوف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 حال من الموج أي منحدرا. (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) عطف على جاءهم وان وما في حيزها سدت مسد مفعولي ظنوا وجملة أحيط بهم خبر أنهم ويلاحظ القارئ أنه جعل الشرط أمورا ثلاثة وهي الكون في الفلك والجري بهم بريح طيبة والفرح بها وجعل الجواب أمورا ثلاثة أيضا وهي مجيء الريح العاصف ومجيء الموج وظنهم الإحاطة بهم. (دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) جملة دعوا الله بدل من ظنوا بدل اشتمال لما بينهما من الملابسة والتلازم ذلك لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو ملتبس به، أو استئنافية مبنية على سؤال يخطر للذهن وهو فماذا صنعوا فقيل دعوا الله، ودعوا الله فعل وفاعل ومفعول ومخلصين حال وله جار ومجرور متعلقان بمخلصين والدين مفعول به (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) اللام موطئة للقسم وان شرطية ونجيتنا فعل وفاعل ومفعول به وهي فعل الشرط ومن هذه متعلقان بأنجيتنا والاشارة للاهوال وما وقعوا فيه من مشارفه الهلاك في البحر ولنكونن جوابه وجواب الشرط محذوف لتقدم القسم، والقسم وجوابه في محل نصب بقول مقدر وذلك القول المقدر في محل نصب حال والتقدير: دعوا الله قائلين لئن أنجيتنا من هذه الأهوال لنكونن من الشاكرين. (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وأنجاهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وإذا فجائية وهم مبتدأ وجملة يبغون خبرهم وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بيبغون وبغير الحق حال. (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) إنما كافة ومكفوفة وبغيكم مبتدأ وعلى أنفسكم خبر. (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) قرأ حفص وابن اسحق والمفضل بنصب متاع على المفعولية المطلقة بفعل محذوف أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا أو على أنه مفعول به لفعل محذوف أي تبتغون متاع الحياة الدنيا وقرأ الباقون بالرفع على أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 خبر لمبتدأ محذوف أي هو متاع الحياة الدنيا وقيل غير ذلك والأرجح ما ذكرناه. (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ثم حرف عطف وتراخ وإلينا خبر مقدم ومرجعكم مبتدأ مؤخر فننبئكم الفاء عاطفة وننبئكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وربما كنتم تعملون متعلقان بننبئكم وجملة كنتم صلة ما وجملة تعملون خبر كنتم. البلاغة: في هذه الآيات ضروب متعددة من البلاغة تقدم ذكر بعضها واحتاج بعضها الآخر الى مزيد من البسط ومن أهم فنونها: 1- الالتفات من الخطاب الى الغيبة ثم العودة الى الغيبة وذلك في قوله تعالى «هو الذي يسيركم في البر والبحر» الى آخر الآية وقد تقدم القول في الالتفات ونوضحه هنا فنقول: لما كان قوله هو الذي يسيركم خطابا ينطوي على الامتنان واظهار نعمة المخاطبين ولما كان المسيرون في البر والبحر مؤمنين وكفارا والخطاب شامل لهم جميعا حسن خطابهم بذلك ليستديم الصالح الشكر ولعل الطالح يتذكر هذه النعمة فيتهيأ قلبه لتذكر وشكر مسديها ولما كان في آخر الآية ما يقتضي أنهم إذا نجوا بغوا في الأرض عدل عن خطابهم بذلك الى الغيبة لئلا يخاطب المؤمنين بما لا يليق صدوره منهم وهو البغي بغير الحق هذا من جهة ومن جهة ثانية ذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها كالمخبر لهم ويستدعي منهم الإنكار عليهم والتقبيح لما اقترفوه، ففي الالتفات فائدتان وهما المبالغة والمقت والتبعيد، قال الرازي «الانتقال من مقام الخطاب الى مقام الغيبة في هذا المقام دليل المقت والتبعيد كما أن عكس ذلك في قوله إياك نعبد دليل الرضا والتقريب» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 2- المجاز المرسل: في قوله «بغيكم على أنفسكم» لأن البغي لا يقع على الأنفس وانما هو الوبال ولما كان البغي هو سببه، ذكره على طريق المجاز المرسل والعلاقة السببية. 3- المشاكلة: أفرد لفظ الريح للمشاكلة لوجهين لأنه في مقابلة قوله سبحانه: جاءتهم ريح عاصف ولأن الرحمة تقتضي هنا وحدة الريح فإن السفينة إنما تسير بريح واحدة ولو اختلفت عليها الرياح هلكت ولذا أكد بوصف الطيبة. وفي تسمية عقوبة الله سبحانه مكرا فن المشاكلة وقد تقدم بحثها. 4- الاشارة: وفي قوله: قل الله أسرع مكرا فن الاشارة لأن أفعل التفضيل دلّ على أن مكرهم كان سريعا ولكن مكر الله أسرع منه وإذا الفجائية يستفاد منها السرعة والمعنى أنهم فاجئوا المكر أي أوقعوه على جهة الفجاءة والسرعة. الفوائد: في قوله تعالى: «هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم ... » فائدة منقطعة النظير ترتبت عليها أحكام فقهية نشير إليها وهي ما ذكره الزمخشري في كشافه قال: «فان قلت: كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر والتسيير في البحر انما هو بعد الكون في الفلك؟ قلت: لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد حتى بما في حيزها كأنه قيل يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكان كيت وكيت من مجيء الريح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 العاصف وتراكم الأمواج وظن الهلاك والدعاء بالانجاء» الى آخر هذا الفصل. وقد سبق مثل هذه الآية وفاتنا أن نشير الى هذا السر في حينه وهي قوله تعالى في سورة النساء «وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم» فقد استدل الزمخشري بها لأبي حنيفة في أن الصغير يبتلى قبل البلوغ أن يسلم اليه قدر من المال يمتحن فيه خلافا لما لك فانه لا يرى الابتلاء قبل البلوغ أما الشافعي فله قولان أحدهما يوافق أبا حنيفة والآخر يوافق مالكا، وللأئمة في هذا الصدد مناقشات تخرج عن صدد الكتاب وإنما أشرنا الى مكان الفائدة البيانية والنحوية والرجوع لمعرفة الاحكام الفقهية الى المظان. [سورة يونس (10) : الآيات 24 الى 25] إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 اللغة: (الزخرف) : بالضم الذهب وكمال حسن الشيء ومن القول حسنه ومن الأرض ألوان نباتها. (ازَّيَّنَتْ) : أصله تزينت فأدغمت التاء في الزاي وسكنت الزاي فاجتلبت لها همزة الوصل. (تَغْنَ) : مضارع غني بالمكان أقام به والمغاني المنازل قال النابغة: غنيت بذلك إذ هم لك جيرة ... منها بعطف رسالة وتودّد وفي القاموس ما يقتضى أن غني يأتي بمعنى كان ووجد كقوله: غنيت دارنا بتهامة أي كانت بها. الإعراب: (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) كلام مستأنف مسوق لبيان حال الدنيا وسرعة تقضيها وأنها بعد أن تستهوي الأعين برونقها تحمل أهلها على أن يسفك بعضهم دم بعض ويمتشقوا الحسام فيما بينهم لتعكير صفو السلم الذي يجب أن يسود بينهم وضرب لذلك مثلا من التشبيه المركب. وإنما كافة ومكفوفة ومثل مبتدأ والحياة مضاف اليه والدنيا صفة، كماء: الجار والمجرور خبر مثل أو هي اسم فهي الخبر وجملة أنزلناه صفة لماء ومن السماء متعلقان بأنزلناه. (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ) الفاء عاطفة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 واختلط عطف على أنزلناه وبه متعلقان باختلط ونبات الأرض فاعل اختلط ومما يأكل الناس الجار والمجرور حال من نبات الأرض وجملة يأكل الناس صلة والانعام عطف على الناس. (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ) حتى حرف غاية وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متعلق بالجواب وهو أتاها وجملة أخذت مضافة إليها والأرض فاعل وزخرفها مفعول به وازينت عطف على أخذت. (وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) وظن عطف أيضا وأهلها فاعل ظن وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي ظن وقادرون خبر أن وعليها جار ومجرور متعلقان بقادرون. (أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً) أتاها جواب إذا والهاء مفعول به وأمرنا فاعل وليلا ظرف متعلق بأتاها وأو حرف عطف ونهارا معطوف على ليلا. (فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) الفاء عاطفة وجعلناها فعل وفاعل ومفعول به أول وحصيدا مفعول به ثان وكأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وجملة لم تغن خبرها وبالأمس جار ومجرور متعلقان بتغن وأراد بالأمس مطلق الزمان الماضي لا خصوص اليوم الذي قبل يومك ولذلك أعربه وأدخل عليه «أل» ولو قال أمس للزم البناء على الكسر والتجرد من أل. (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) كذلك جار ومجرور متعلقان بمحذوف مفعول مطلق ونفصل الآيات فعل وفاعل مستتر ومفعول به والجار والمجرور متعلقان بنفصل وجملة يتفكرون صفة لقوم. (وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) والله مبتدأ وجملة يدعو خبر والى دار السلام متعلقان بيدعو وسيأتي الفرق بين الدعاء والأمر في باب الفوائد. (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ويهدي عطف على يدعو ومن مفعول به وجملة يشاء صلة والى صراط متعلقان بيهدي ومستقيم صفة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 البلاغة: 1- في هذه الآية تشبيه تمثيلي ومركب وهو هنا يحتمل شيئين: آ- انه شبه الحياة الدنيا بالماء فيما يكون به من الانتفاع ثم الانقطاع. ب- انه شبهها بالنبات في جفافه وذهابه حطاما بعد ما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه. 2- وفي قوله «أخذت الأرض زخرفها» استعارة مكنية حيث جعلت الأرض في زينتها بما عليها من أصناف النبات كالعروس التي أخذت من أنواع الزينة والثياب فتزينت بها. الفوائد: الفرق بين الدعاء والأمر أن الأول طلب الفعل بما يقع لأجله والداعي الى الفعل خلاف الصارف عنه وهو لا يكون إلا من الأدنى الى الأعلى أما الأمر فهو ترغيب في الفعل وزجر عن تركه وهو يقتضي أن المأمور دون الآمر في الرتبة. [سورة يونس (10) : الآيات 26 الى 27] لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 اللغة: (يَرْهَقُ) وجوههم أي يغشاها والرهق الغشيان يقال رهقه يرهقه من باب طرب أي غشيه بسرعة ومنه «لا ترهقني من أمري عسرا» و «فلا يخاف بخسا ولا رهقا» يقال رهقته وأرهقته مثل ردفته وأردفته ففعل وأفعل بمعنى، ومنه أرهقت الصلاة إذا أخرتها حتى غشي وقت الأخرى أي دخل وقال بعضهم الرهق المقاربة ومنه غلام مراهق أي قارب الحلم وقال آخرون: الرهق لحاق الأمر ومنه راهق الغلام إذا لحق بالرجال ورهقه في الحرب أدركه وقال الأزهري: الرهق اسم من الارهاق وهو أن يحمل الإنسان على ما لا يطيقه ومنه سأرهقه صعودا. وللراء مع الهاء خاصة غريبة فهما لا تفيدان معنى واحدا وانما تفيدان إحداث التأثير وقد أحصيناها فلم تختل هذه القاعدة المطردة، فرهيأ الحمل جعل أحد العدلين أثقل من الآخر، وترهيأت السحابة تمخضت بالمطر، ورهبته خفت منه وفي قلبي منه رهبة وهو رجل مرهوب، عدوه منه مرعوب قالت ليلى: وقد كان مرهوب السنان وبيّن الل ... سان ومجذام السّرى غير فاتر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 وهو راهب بين الرهبانية وهؤلاء رهبان ورهبة ورهابين ورهابنة قال رجل من الضبّاب: قد أدبر الليل وقضّى أربه ... وارتفعت في فلكيها الكوكبة كأنها مصباح دير الرهبة ورماه فأصاب رهابته وهي عظيم في الصدر مطلّ على البطن كأنه طرف لسان الكلب. ومن المجاز أرهب الإبل عن الحوض: ذادها، وأرهب عنه الناس بأسه ونجدته، قال رجل من جرم: إنّا إذا الحرب نساقيها المال ... وجعلت تلقح ثم تحتال يرهب عنا الناس طعن إيغال ... شزر كأفواه المزاد الشلشال أي ننفق عليها المال وهو من فصيح الكلام وانما فصّحه ملح الاستعارة، والرهج الغبار ولا يخفى ما يحدثه من أثر، وأرهج الغبار: أثاره وأرهجت حوافر الخيل ومن المجاز أرهج فلان نار الفتنة بين القوم، وله بالشر لهج، وله فيه رهج، ورهز وارتهز لأمر كذا تحرك له واهتز ونشط، ونشط من الرهز وهو الحركة في الجماع وغيره ومن أقوالهم: فلان للطمع مرتهز ولفرصه منتهز، ورهص أصلح باحكام وإذا بنيت جدارا فأحكم رهصه وهو عرقه الأسفل ومن المجاز أرهص الشيء أثبته وأسسه، وكان ذلك إرهاصا للنبوة، ورهصه لامه وهو من الرّهصة وتقول فلان ما ذكر عنده أحد إلا غمصه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 وقدح في ساقه ورهصه، وفلان أسد رهيص أي لا يبرح مكانه كأنما رهص، والرهط من الثلاثة الى العشرة وأثرهم واضح في اجتماع الشمل، وانتظام العمل، وإحراز النصر قال الوليد بن عقبة أخو عثمان ابن عفان حين قتل وبويع علي بن أبي طالب وأمر بقبض ما في الدار من السلاح وغيره: بني هاشم إنا وما كان بيننا ... كصدع الصّفا لا يرأب الدهر شاعبه ثلاثة رهط: قاتلان وسالب ... سواء علينا قاتلاه وسالبه ورهف سيفه رقّ حده وسيف رهيف ومرهف الحد ورجل مرهف الجسم دقيقه وقد شحذت علينا لسانك وأرهفته، وفيه رهل أي انتفاخ، وروضه مرهومة ممطورة قال ذو الرمة: أو نفحة من أعالي حنوة معجت ... فيها الصّبا موهنا والروض مرهوم والرهن معروف وقبض الرّهن والرّهون والرّهان والرّهن واسترهنني فرهنته ضيعتي ومن المجاز فيه: جاءا فرسي رهان أي متساويين وإني لك رهن بكذا أي أنا ضامن له ورجلي رهينة أي مقيدة قال السمهري بن أسد العكلي: لقد طرقت ليلي ورجلي رهينة ... فما راعني في السجن إلا سلامها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 وفلان رهن بكذا ورهين ورهينة ومرتهن به: مأخوذ به، قال تعالى «كل امرئ بما كسب رهين» و «كل نفس بما كسبت رهينة» والرهو السكون قال تعالى «واترك البحر رهوا» أي ساكنا وعيش راه أي ساكن، ومر باعرابي فالج فقال: سبحان الله رهو بين سنامين، ويقال طلع رهوا ورهوة وهو نحو التل قال ذو الرمة: يجلّي كما جلّى على رأس رهوة ... من الطير أقنى ينفض الطلّ أزرق وجاءت الخيل رهوا أي متتابعة وأتاه بالشيء رهوا سهوا أي عفوا سهلا لا احتباس فيه قال: يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الاعجاز تتكل وهذا من عجيب أمر هذه اللغة الشريفة. (القتر) : والقترة الغبار معه سواد يقال قتر كفرح ونصر وضرب ومنه قول الفرزدق: متوح برداء الملك يتبعه ... موج ترى فوقه الرايات والقترا وفيل القتر: الدخان ومنه غبار القدر وقيل القتر القدر القليل والاقتار في المعيشة ويقال قترت الشيء واقترته أي قللته ومنه «وعلى المقتر قدره» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 (القطع) : جمع قطعة من الليل فيها ظلمة والقطع بكسر القاف وسكون الطاء الجزء من الليل الذي فيه ظلمة وقد قرىء بهما. الإعراب: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) للذين خبر مقدم وجملة أحسنوا صلة والحسنى مبتدأ مؤخر وزيادة عطف على الحسنى أي ما يزيد على المثوبة. (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ) يجوز في الواو أن تكون مستأنفة لتعدد النعميات على المحسنين ويجوز أن تكون عاطفة وجملة يرهق وجوههم معطوفة على الحسنى ولا بد حينئذ من تقدير أن فإن شئت نصبت وان شئت رفعت على حد قول ميسون: ولبس عباءة وتقر عيني ... أحب إليّ من لبس الشفوف ولا نافية ويرهق وجوههم فعل مضارع ومفعول به وقتر فاعل ولا ذلة عطف على قتر (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أولئك مبتدأ وأصحاب خبر والجنة مضاف اليه، وهم مبتدأ وفيها متعلقان بخالدون وخالدون خبر والجملة حالية. (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) يجوز أن تكون الواو عاطفة والذين معطوفة نسقا على الذين الأولى أي للذين أحسنوا الحسنى وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها فيتعادل التقسيم وهذا أسهل الوجوه التي ذكرها المعربون والنحاة ويجوز أن تكون الواو استئنافية والذين مبتدأ خبره جزاء سيئة بمثلها وهو قول سهل أيضا لا تكلف فيه وهناك أقوال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 أضربنا عنها لأنها تكلف لا حاجة اليه. وكسبوا السيئات الجملة من الفعل والفاعل والمفعول به صلة الموصول وجزاء مبتدأ ثان وسيئة مضاف اليه وبمثلها خبر جزاء أي مقدر بمثلها. (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) قيل هذه الجملة عطف على كسبوا وفيه ضعف من وجهين أولهما أن المستقبل لا يعطف على الماضي وثانيهما أنه فصل بينهما بجملة مطولة، وقيل الواو حالية وجملة ترهقهم ذلة حالية ولا يخفى ما فيه من تكلف، وقيل الواو معترضة والجملة اعتراضية، ولكن الاعتراض غير وارد هنا لأنه بصدد تعداد أحوال عذابهم، ونرى أن تكون الواو مستأنفة والجملة استئنافية، كأنما هو يعدد أصناف العذاب لهم تهويلا، وكذلك قوله: (ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ) ما نافية أو حجازية ولهم خبر مقدم ومن الله جار ومجرور متعلقان بعاصم ومن زائدة وعاصم مبتدأ مؤخر أو اسم ما مؤخر عند من يجيز تقدم خبرها. (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) وهذه جملة مستأنفة استوفت المصائر الثلاثة لهم وهي الجزاء المعادل والذلة التي رهقتهم وغشيان وجوههم قطعا من الليل، وكأنما كافة ومكفوفة وأغشيت فعل ماض مبني للمجهول ووجوههم نائب فاعل وقطعا مفعول به ثان ومن الليل صفة لقطع ومظلما صفة ثانية لقطعا بكسر القاف وسكون الطاء. وعلى قراءة قطعا يشكل أن تكون مظلما صفة فتعرب حالا من الليل والعامل فيه إما أغشيت من قبل من أن الليل صفة لقوله قطعا فكان افضاؤه الى الموصوف كإفضائه الى الصفة وإما أن يكون معنى الفعل في قوله من الليل. (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وهذه جملة مستأنفة رابعة تتم فيها المصائر المحتومة لهم، وأولئك مبتدأ وأصحاب النار خبر وهم فيها خالدون جملة اسمية حالية منهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 الفوائد: قول ابن هشام في «والذين كسبوا» : قال ابن هشام في هذه الآية: جملة «وترهقهم ذلة» معطوفة على «كسبوا السيئات» فهي من الصلة وما بينهما اعتراض بيّن به قدر جزائهم وجملة «ما لهم من الله من عاصم» خبر قاله ابن عصفور وهو بعيد لأن الظاهر أن «ترهقهم» لم يؤت به لتعريف «الذين» فيعطف على صلته بل جيء به للاعلام بما يصيبهم جزاء على كسبهم السيئات ثم انه ليس بمتعين لجواز أن يكون الخبر «جزاء سيئة بمثلها» فلا يكون في الآية اعتراض ويجوز أن يكون الخبر جملة النفي كما ذكر وما قبلها جملتان معترضتان وأن يكون الخبر «كأنما أغشيت» فالاعتراض بثلاث جمل أو «أولئك أصحاب النار» فالاعتراض بأربع جمل ويحتمل وهو الأظهر ان «الذين» ليس مبتدأ بل معطوف على «الذين» الأولى أي «للذين أحسنوا الحسنى وزيادة» وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، فمثلها هنا في مقابلة الزيادة هناك ونظيرها في المعنى قوله تعالى «من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون» وفي اللفظ قولهم في الدار زيد والحجرة عمرو وذلك من العطف على معمولي عاملين مختلفين عند الأخفش وعلى إضمار الجار عند سيبويه والمحققين، ومما يرجح هذا الوجه أن الظاهر أن الباء في «بمثلها» متعلقة بالجزاء فإذا كان «جزاء سيئة» مبتدأ احتيج الى تقدير الخبر أي واقع، قاله أبو البقاء أو «لهم» قاله الخوفي وهو أحسن لإغنائه عن تقدير رابط بين هذه الجملة ومبتدئها وهو الذين وعلى ما اخترناه يكون «جزاء» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 عطفا على «الحسنى» فلا يحتاج الى تقدير آخر، وأما قول أبي الحسن وكيسان أن «بمثلها» هو الخبر وأن الباء زيدت في الخبر كما زيدت في المبتدأ في «بحسبك درهم» فمردود عند الجمهور، وقد يؤنس قولهما بقوله «وجزاء سيئة سيئة» . [سورة يونس (10) : الآيات 28 الى 30] وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30) اللغة: (زيلنا) : فرقنا. (تَبْلُوا) تختبر. الإعراب: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) الظرف متعلق بمحذوف مفهوم من الآية السابقة أي نفعل ذلك كله يوم نحشرهم، وجملة نحشرهم مضاف إليها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 وجميعا نصب على الحال (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) ثم حرف عطف وتراخ ونقول معطوف على متعلق الظرف أي نفعل ذلك كله ثم نقول أو معطوف على نحشرها وللذين متعلقان بنقول وجملة أشركوا صلة ومكانكم اسم فعل أمر معناه الزموا وسيأتي بحثها في باب الفوائد، وأنتم ضمير منفصل في محل رفع تأكيد للضمير في مكانكم، وشركاؤكم عطف عليه (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) الفاء استئنافية وزيلنا فعل وفاعل وبينهم ظرف متعلق بزيلنا وقال شركاؤهم فعل وفاعل وما نافية وكنتم كان واسمها وإيانا ضمير منفصل مفعول مقدم لتعبدون وجملة تعبدون نصب خبر كنتم. (فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) الفاء استئنافية وكفى فعل ماض والباء حرف جر زائد والله فاعل محلا، وشهيدا: قال الزجاج منصوب على التمييز إن شئت وإن شئت على الحال فإن كان الاسم جامدا فالنصب على التمييز كقول بشار: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى بالمرء نبلا أن تعدّ معايبه (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) إن مخففة من الثقيلة وليست نافية كما قال أحد الأئمة وهي مهملة كما تقدم وكنا كان واسمها وعن عبادتكم متعلقان بغافلين واللام الفارقة وهي التي أبعدت إن النافية، وغافلين خبر كنا. (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) هنالك اسم إشارة في محل نصب على الظرفية المكانية وهو متعلق بتبلو واللام للعبد والكاف للخطاب وتبلو كل نفس فعل مضارع وفاعل وما اسم موصول مفعول به وجملة أسلفت صلة. (وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) الواو عاطفة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 وردوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل والى الله جار ومجرور متعلقان بردوا ومولاهم صفة أو بدل من الله والحق صفة لأنهم كانوا يتولون ما ليس لربوبيته حقيقة. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) وضل الواو عاطفة وضل معطوف على ردوا وعنهم متعلقان بضل وما اسم موصول فاعل وكانوا كان واسمها وجملة كانوا يفترون صلة وجملة يفترون خبر كانوا. الفوائد: (مَكانَكُمْ) كلمة جرت مجرى الوعيد والعرب تتوعد فتقول مكانك وانتظرني والصحيح عند المحققين أن مكانك ودونك من أسماء الأفعال ونقول أن أسماء الأفعال قسمان مرتجلة ومنقولة فالمرتجلة هي ما وضعت من أول أمرها أسماء أفعال وهي ثلاثة أقسام: اسم فعل ماض كهيهات، واسم فعل مضارع كأف، واسم فعل أمر كآمين، وقد تقدمت الاشارة الى ذلك. والمنقولة هي ما استعملت في غير اسم الفعل ثم نقلت اليه والنقل يكون: 1- إما عن جار ومجرور مثل: عليك نفسك أي الزمها وإليك عني أي تنح. 2- وإما عن ظرف مثل: دونك الكتاب أي خذه ومكانك وقد تقدمت. 3- وإما عن مصدر مثل: رويد أخاك أي أمهله وبله الشر أي دعه واتركه. 4- وإما عن تنبيه مثل: ها الكتاب أي خذه و «هاؤم اقرءوا كتابيه» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 5- وإما معدولة كنزال وحذار. تنبيهات: 1- الكاف التي تلحق اسم الفعل المنقول تتصرف بحسب المخاطب إفرادا وتثنية وجمعا وتذكيرا وتأنيثا وهي حرف خطاب لا محل لها من الإعراب لأنها بمثابة جزء من الكلمة لا إعراب له. 2- اسم الفعل المنقول والمعدول لا يأتي إلا للأمر ولا يأتي لغيره بعكس المرتجل كما تقدم. 3- المرتجل والمنقول سماعيان لا يقاس عليهما. 4- المعدول قياسي وهو بني على وزن فعال من كل فعل ثلاثي مجرد تام متصرف. وسيأتي مزيد منه في أثناء هذا الكتاب. [سورة يونس (10) : الآيات 31 الى 33] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 الإعراب: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) من اسم استفهام مبتدأ وجملة يرزقكم خبر ومن السماء جار ومجرور متعلقان بيرزقكم والأرض معطوفة. (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) أم حرف عطف وهي منقطعة لأنها ليست مسبوقة بهمزة الاستفهام ولا بالتسوية ومن اسم استفهام مبتدأ وجملة يملك خبر والسمع مفعول به والابصار عطف على السمع. (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) عطف أيضا وما بعده عطف. (فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ) الفاء استئنافية ويقولون فعل وفاعل والله خبر لمبتدأ محذوف أي هو الله أو مبتدأ والخبر محذوف والتقدير يفعل هذه الأشياء كلها والجملة مقول القول. (فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) الفاء الفصيحة وقل فعل أمر والهمزة للاستفهام والفاء حرف عطف ولا نافية وتتقون فعل مضارع وفاعل. (فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ) الفاء عاطفة وذلكم مبتدأ والله خبر وربكم بدل من الله أو صفة والحق صفة لربكم ويجوز أن يعرب الله مبتدأ ثانيا وربكم خبره والجملة خبر اسم الاشارة. (فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) الفاء عاطفة وماذا تقدم أن فيها وجهين الأول أن تكون كلها اسما واحدا لتركبهما وغلب الاستفهام على اسم الاشارة وصار معنى الاستفهام هنا النفي ولذلك أتى بعده بإلا وهو في محل رفع مبتدأ والثاني أن يكون ذا موصولا خبرا لما الاستفهامية وبعد ظرف متعلق بمحذوف حال وإلا أداة حصر والضلال بدل من ذا والاستفهام بمعنى النفي أيضا، والفاء عاطفة وأنى اسم استفهام بمعنى كيف في محل نصب حال من فاعل تصرفون وتصرفون بالبناء للمجهول فعل مضارع ونائب فاعل (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف والاشارة بذلك الى المصدر المفهوم أي مثل صرفهم عن الحق بعد الإقرار به في قوله «فسيقولون الله» أو الاشارة الى الحق، وحقت كلمة ربك فعل وفاعل وعلى الذين جار ومجرور متعلقان بحقت وجملة فسقوا صلة وأن وما في حيزها بدل من كلمة ربك أي حقيق عليهم أنهم لا يؤمنون وجملة لا يؤمنون خبر ان. [سورة يونس (10) : الآيات 34 الى 36] قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) الإعراب: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) هل حرف استفهام ومن شركائهم خبر مقدم ومن موصول مبتدأ مؤخر وجملة يبدأ الخلق صلة وثم حرف عطف على يبدأ. (قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) الله مبتدأ وجملة يبدأ الخلق خبره والجملة الاسمية مقول القول ثم يعيده عطف على يبدأ والفاء عاطفة وأنى اسم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 استفهام بمعنى كيف في محل نصب على الحال وتؤفكون فعل مضارع بالبناء للمجهول والواو نائب فاعل. (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) احتجاج آخر على ما ذكر ومن شركائكم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر ويهدي فعل مضارع يتعدى الى اثنين ثانيهما إما باللام أو بإلى وقد يحذف حرف الجر تخفيفا وقد جمع في هذه الآية بين التعديتين بحرف الجر فعدى الأول والثالث بإلى وعدى الثاني باللام وحذف المفعول به الاول من الأفعال الثلاثة والتقدير هل من شركائكم من يهدي غيره الى الحق قل الله يهدي من يشاء للحق أفمن يهدي غيره الى الحق؟ وسيأتي السر في مخالفة حروف الجر في باب البلاغة. (قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ) تقدم اعراب نظيرها. (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ) الهمزة للاستفهام الانكاري وهو ثامن سؤال لم يذكر جوابه وهو هنا الله ومن مبتدأ وأحق خبره وأن حرف مصدري ونصب ويتبع بالبناء للمجهول والمصدر المؤول مضاف لأحق بعد نصبه بنزع الخافض أي أحق بالاتباع. (أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) أم عاطفة ومن مبتدأ وجملة لا يهدي صلة وإلا أداة حصر وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض والجار والمجرور في محل نصب حال فالاستثناء مفرّغ من أعم الأحوال أي لا يهدي أو يهتدي في حال من الأحوال إلا في حال اهدائه أي إهداء الآخرين إياه والخبر محذوف تقديره أحق ولك أن تنسق من على الاولى فلا تحتاج الى الخبر. (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) الفاء استئنافية وما استفهامية مبتدأ ولكم خبره أي فأي شيء ثبت لكم في اتخاذ هؤلاء العاجزين عن هداية أنفسهم فكيف تحكمون بالباطل وتجعلون لله أندادا وشركاء؟ (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) كلام مستأنف مسوق لبيان السر في عدم اكتناههم الحق وفهمهم لمضمون البرهان وما نافية ويتبع أكثرهم فعل وفاعل وإلا أداة حصر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 وظنا مفعول به. (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) كلام مستأنف مسوق لبيان العلة في إخفاقهم في الفهم وعدم الاكتناه، وإن واسمها وجملة لا يغني خبرها ومن الحق حال مقدمة وشيئا مفعول مطلق أي شيئا من الإغناء أو مفعول به بتضمين يغني معنى يدفع. (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) ان واسمها وخبرها وبما متعلقان بعليم وجملة يفعلون لا محل لها لأنها صلة ما سواء كانت موصولة أو مصدرية. البلاغة: مخالفة حروف الجر: وهذا باب تقدمت الاشارة اليه في الأنفال وهو ينطوي على السر في مخالفة حروف الجر وأكثر الناس يضعون هذه الحروف في غير مواضعها ويجهلون الدقائق الكامنة في وضعها حيث وضعت وهنا عدى فعل هدى الى الحق بإلى مرتين وفي الثلاثة عداه باللام، والنحاة يغفلون عن هذا السر ويقولون إن ما يصح جره بإلى يجوز جره باللام التي تفيد الغاية مثلها ولا عكس فلا يقال في قلت له: قلت اليه، ويقولون الماء في الكأس لأن في للظرفية ويجيزون التعدي بالباء لأنها تخلفها في الظرفية ولا يجوز أن يقال في مررت به: مررت فيه، إذا تقرر هذا نقول، والله أعلم، ان هناك سرا وراء الصورة فالهداية لمّا أسندت إليهم وجبت تعديتها بإلى التي تفيد البعد كأنها ضمنا بعيدة عنهم ولكنها لما أسندت الى الله تعالى وجب تعديتها باللام التي تفيد القرب كأنها من خصائصه وحده وملك يمينه وهو المنفرد بها على وجه الديمومة والكمال وستأتي نماذج من هذه المخالفة السامية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 [سورة يونس (10) : الآيات 37 الى 40] وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) الإعراب: (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ) الواو استئنافية وما نافية وكان واسمها والقرآن بدل من هذا وان وما في حيزها خبر كان أي افتراء. (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) الواو عاطفة ولكن مخففة مهملة وتصديق معطوف على افتراء المؤولة ووقعت لكن أحسن موقع لأنها بين نقيضين وهما الكذب والصدق ولهذا لا حاجة الى الاوجه التي تكلفها بعض الأئمة وهي سائغة ومقبولة ولكن ما أوردناه أولى بالتقديم والذي مضاف لتصديق وبين ظرف متعلق بمحذوف صلة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 الموصول ويديه مضاف لبين بمعنى أمامه. (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) وتفصيل عطف على تصديق ولا نافية للجنس وريب اسمها مبني على الفتح وفيه خبر لا ومن رب العالمين حال وجملة لا ريب فيه معترضة وهو الظاهر بين تفصيل ومن رب العالمين والتقدير ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب كائنا من رب العالمين وجنح الزمخشري الى جعل لا ريب فيه حالا داخلا في حيز الاستدراك كأنه قيل ولكن كان تصديقا وتفصيلا منتفيا عنه الريب كائنا من رب العالمين ولك أن تعلق من رب العالمين بتفصيلا ويكون لا ريب فيه اعتراضا. (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أم عاطفة منقطعة فهي بمعنى بل حتى لقد وردت قراءة شاذة بها فهي للاضراب الانتقالي، والهمزة للاستفهام الانكاري للواقع واستبعاده ويجوز أن تكون متصلة وحينئذ فلا بد من حذف جملة ليصح التعادل والتقدير أيقرون به أم يقولون افتراه وجملة افتراه مقول القول. (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) الفاء الفصيحة أي قل تبكيتا لهم إن كان الأمر كما تقولون فأتوا وأتوا فعل أمر وفاعل وبسورة جار ومجرور متعلقان بأئتوا ومثله صفة. (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وادعوا عطف على فأتوا والواو فاعل ومن اسم موصول مفعول به وجملة استطعتم صلة ومن دون الله حال وإن شرطية وكنتم فعل الشرط والتاء اسم كان وصادقين خبر كان وجواب الشرط محذوف أي فأتوا وادعوا. (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) بل حرف إضراب وعطف وكذبوا فعل وفاعل وبما متعلقان بكذبوا وجملة لم يحيطوا صلة ما والواو للحال ويجوز أن تكون عاطفة أي بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه وبما لم يأتهم تأويله، أو هذه الجملة في محل نصب على الحال أي كذبوا به حال كونهم لم يفهموا ما كذبوا به ولا بلغة عقولهم، ولما حرف جازم ويأتهم مضارع مجزوم بلما والهاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 مفعول به وتأويله فاعل يأتهم ويجوز أن تكون الواو للعطف والجملة معطوفة على لم يحيطوا فتكون داخلة في حكم الصلة ولمجيء «ما» سر ستقف عليه في باب البلاغة. (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) الكاف نعت لمصدر محذوف أي كذلك التكذيب كذبوا رسلهم، وكذب الذين فعل وفاعل ومن قبلهم صلة الذين، فانظر: الفاء عاطفة على محذوف أي فأهلكنا فانظر وكيف اسم استفهام في موضع نصب على أنه خبر كان ولا يصح أن يعمل فيه الفعل فانظر لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه وعاقبة اسمها والظالمين مضاف اليه. (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة يؤمن به صلة وجملة ومنهم من لا يؤمن عطف على الجملة السابقة وربك مبتدأ وأعلم خبر وبالمفسدين جار ومجرور متعلقان بأعلم. البلاغة: ل «لما» في قوله تعالى «بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله» سر عجيب أفاد الكلام معنى لم يكن ليتأتى لولا دخولها لأنها تفيد التوقع بعد نفي الإحاطة بعلمه فقد أفادت الأمور التالية: 1- انهم كذبوا على البديهة قبل أن يتدبروه ويكتنهوا مطاويه. 2- الإصرار على التقليد الأعمى ومساوقة آبائهم الذين طبعوا على اللجاج والسفسطة وإنكار الحق رغم ظهوره ونصاعته. 3- ان التكذيب قبل الإحاطة بالعلم ربما يوهم لهم عذرا فجاءت كلمة «لما» حاسمة مشعرة بأنهم قد أحاطوا بعلمه قطعا لحججهم وتحقيقا لشقائهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 [سورة يونس (10) : الآيات 41 الى 44] وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) الإعراب: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) الواو عاطفة وإن شرطية وكذبوك فعل وفاعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط، فقل الفاء رابطة لأن ما بعدها جملة طلبية وقل فعل أمر ولي خبر مقدم وعملي مبتدأ مؤخر ولكم عملكم عطف وجملة لي عملي في محل نصب مقول القول. (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ) أنتم مبتدأ وبريئون خبر ومما متعلقان ببريئون وجملة أعمل صلة الموصول. (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) عطف على ما تقدم والاعراب ظاهر. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) الواو عاطفة ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر ويستمعون صفة لمن إذا كانت نكرة موصوفة أي ناس يستمعون وصلة إذا كانت موصولة وأعاد الضمير جمعا مراعاة لمعنى من والأكثر مراعاة لفظه كقوله «ومنهم من ينظر إليك» وقد تقدمت الاشارة الى ذلك مرارا وإليك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 متعلقان بيسمعون. (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة للتعقيب وفيه الوجهان المشهوران من اعتبار الحذف للمعطوف عليه أو اعتبار التقديم والتأخير وقد تقدمت الاشارة إليهما والواو عاطفة ولو وصلته وكانوا كان واسمها وجملة لا يعقلون خبرها. قال الزجاج: معنا ولو كانوا جهالا بالاضافة الى الصمم وإذا اجتمع سلب السمع والعقل فقد تم الأمر وفقد الإنسان كل خصائص انسانية. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) عطف على سابقتها ومثيلتها ولكنه حمل الضمير هنا على لفظ من والفرق بين الموضعين أن الغالب على المستمعين أن يكونوا جماعة والغالب على الناظر أن يكون مفردا. (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) عطف على ما تقدم والمعنى ولو انضم الى عدم البصر عدم البصيرة وجواب لو في الجملتين محذوف لدلالة قوله أفأنت تسمع الصم وقوله أفأنت تهدي العمي وكل منهما معطوف على جملة مقدرة مقابلة لها وكلتاهما في موضع الحال من مفعول الفعل السابق أي أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون ولو كانوا لا يعقلون، أفأنت تهدي العمي لو كانوا يبصرون ولو كانوا لا يبصرون أي لا تسمعهم ولا تهديهم على كل حال وسيأتي المزيد من هذا التشبيه في باب البلاغة. (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) إن حرف مشبه بالفعل والله اسمها وجملة لا يظلم خبرها والناس مفعول به وشيئا مفعول مطلق أي شيئا من الظلم ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا ليظلم بمعنى لا ينقص الناس شيئا من أعمالهم. (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الواو حالية ولكن حرف استدراك ونصب والناس اسمها وأنفسهم مفعول مقدم ليظلمون وجملة يظلمون خبر لكن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 البلاغة: 1- الاستعارة التمثيلية: في قوله تعالى «ومنهم من يستمعون إليك» الى آخر الآية استعارة تمثيلية وقدم تقدم القول ان الاستعارة التمثيلية هي تركيب استعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة فقد شبههم في عدم الاهتداء بالصم والعمي بل هم أعظم فانها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ولأن الأصم العاقل ربما استعان بالفراسة على الاستدلال والأعمى الذي له في قلبه بصيرة وقد يحدس ويتظنّن وقد جاء المشبه به مركبا لأن المشبه مركب أيضا ولو أنه لجأ الى التشبيه لضؤل الأثر الفني ولم تكن له تلك القيمة التي نلاحظها في الاستعارة لان الاستعارة وان تكن مبنية على المشاهدة إلا أن تركيبها يحملنا على تناسي التشبيه ويدعونا لتخيل صورة جديدة وهي من ناحية اللفظ- كما ترى في الآية- تترك التعبير الثنائي أي المشبه والمشبه به وتستعمل التعبير الآحادي الذي يدعي أن ليس هناك إلا شيء واحد نتحدث عنه ويبقى للابتكار أثره في عقد الاستعارة الموفقة وفي هذا المضمار تتجلى عبقرية الفنانين والمبدعين. هذا وقد رمق أبو الطيب سماء هذه البلاغة بقوله: وإذا خفيت على الغبي فعاذر ... أن لا تراني مقلة عمياء يريد أنه إذا خفي مكانه على الغبي وهو الجاهل الذي لا يعرف شيئا ولم يعرف قدري ولم يقر بفضلي فأنا أعذره لأن الجاهل كالأعمى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 والمقلة العمياء إن لم تر فهي في عذر لعماها وكذلك الجاهل الذي يجهلني ويجهل قدري ومن قبل المتنبي قيل: وقد بهرت فما أخفى على أحد ... إلا على أكمه لا يعرف القمرا 2- التهذيب: وفي هذه الآيات المتقدمة فن بديعي يقال له فن التهذيب وقد أطال فيه علماء هذا الفن ويمكن تلخيصه بأنه وصف يعم كل كلام منتخل وهو ترداد النظر في الكلام بعد عمله، وإمعان الفكر في تهذيبه وتنقيحه نظما كان أو نثرا، وكشف ما يشكل من عويص معانيه وغريب إعرابه وطرح ما يتجافى عن مواطن الرقة من لفظ قاس وكلمة نابية جافية وقد عبر عنه أبو تمام في وصيته للبحتري، نقل عن أبي عبادة قال: «كنت في حداثتي أروم الشعر وأرجع فيه الى طبع سليم ولم أكن وقفت له على تسهيل مأخذ ووجوه اقتضاب حتى قصدت أبا تمام وانقطعت اليه فكان أول ما قال لي: يا أبا عبيدة تخير الأوقات وأنت قليل الهموم، صفر من الغموم، واعلم أن العادة في الأوقات إذا قصد الإنسان تأليف شيء أو حفظه أن يختار وقت السحر ولا تعمل نظما ولا نثرا عند الملل فإن الكثير منه قليل والخواطر ينابيع إذا رفقت بها جمت، وإذا عنفت عليها نزحت، وترنم بالشعر وقت عمله فإنه يعين عليه وقد يتخيل الشاعر الشعر الجيد فيمكنه مرة ولا يمكنه أخرى وإياك وتعقيد المعاني واجعل المعنى الشريف في اللفظ اللطيف لئلا يتلف أحدهما الآخر ومتى عصى الشعر اتركه ومتى طاوعك عاوده وروّح الخاطر إذا كلّ واعمل في أحب المعاني إليك وفي كل ما يوافقه طبعك فالنفوس تعطي على الرغبة ولا تعطي على الإكراه واعمل الأبيات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 متفرقة على ما يجود به الخاطر ثم انظمها في الآخر وحصل المبدأ والمقطع والمخرج فهو أصعب ما في القصيدة وميّز بفكرك محطّ الرسالة ومصبّ القصيدة فإنه أسهل عليك وانظمها أولا وهذبها آخرا» . التهذيب في الآية: أما الآية التي نحن بصدد البحث فيها، فهي قوله تعالى «ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون، ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون» فإن لقائل أن يقول: ما فائدة الفاصلتين وقد أغنى عنهما ما قبلهما؟ فيقال في الكلام تقديم وتأخير إذا علم سقط معه السؤال وهو أن يقال: «ومنهم من ينظر إليك ولو كانوا لا يبصرون أفأنت تهدي العمي» والاخرى كذلك، ويرد على ذلك قول من يقول: فما الداعي الى وضع الكلام على التقديم والتأخير الذي هو أحد أسباب التعقيد؟ قلت: الداعي اليه توخي الإتيان بمقاطع الكلام متماثلة مع ما قبلها ومع ما بعدها من الفواصل فإن قبلها: «وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون» . وبعدها «إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم كانوا يظلمون» ومعظم فواصل السورة على هذه الزنة والتقفية. [سورة يونس (10) : الآيات 45 الى 47] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 الإعراب: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) الظرف متعلق بيتعارفون على أصح الأقوال وجملة يحشرهم مضاف إليها وكأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وجملة لم يلبثوا خبر كأن وجملة كأن لم يلبثوا جملة حالية من الهاء في يحشرهم وإلا أداة حصر وساعة ظرف متعلق بيلبثوا ومن النهار صفة لساعة. (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) الجملة حالية من الواو في يلبثوا فتكون حالا متداخلة أو من الضمير في يحشرهم فتكون حالا مترادفة، وبينهم ظرف متعلق بيتعارفون والمعنى بعد هذا الإعراب إن الخلق يعرف بعضهم بعضا في ذلك الوقت كما كانوا في الدنيا وكأنهم لم يمكثوا في الدنيا إلا ساعة من النهار ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا العذاب ويتبرأ بعضهم من بعض، وهناك أعاريب أخرى يضيق عن استيعابها المجال وما أوردناه أقربها. (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) قد حرف تحقيق وخسر الذين فعل وفاعل وجملة كذبوا صلة وبلقاء الله جار ومجرور متعلقان بكذبوا وجملة قد خسر مستأنفة والواو عاطفة وما نافية وكان واسمها ومهتدين خبرها وهي معطوفة على قد خسر أو على صلة الذين لأن من كذب بالله غير مهتد. (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) إن شرطية وما زائدة ونرينك فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم فعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 الشرط والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به وبعض مفعول ثان والذي مضاف اليه وجملة نعدهم صلة وأو حرف عطف ونتوفينك عطف على نرينك. (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) الفاء رابطة وإلينا خبر مقدم ومرجعهم مبتدأ مؤخر والجملة جواب الشرط ثم حرف عطف لا للترتيب الزماني بل لترتيب الأخبار والله مبتدأ وشهيد خبر وعلى ما يفعلون متعلقان بشهيد وجملة يفعلون صلة. (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) لكل خبر مقدم وأمة مضاف لكل ورسول مبتدأ مؤخر (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الفاء عاطفة على صفة رسول أي يبعث إليهم فإذا، وإذا ظرف مستقبل وجملة جاء رسولهم مضاف إليها وجملة قضي لا محل لها وبينهم ظرف متعلق بقضي وبالقسط حال من فاعل قضى وهم الواو حرف عطف أو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يظلمون خبر. [سورة يونس (10) : الآيات 48 الى 52] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 الإعراب: (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الواو استئنافية ويقولون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل ومتى استفهام عن الزمان متعلق بمحذوف خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر والوعد بدل وهذا التعبير بمثابة استبعاد لما وعدوه من عذاب وان شرطية وكنتم فعل الشرط والتاء اسم كان وصادقين خبرها والجواب محذوف أي فمتى هذا الوعد؟ (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) جملة لا أملك مقول القول ولنفسي متعلقان بأملك وضرا مفعول به ولا نفعا عطف على ضرا وإلا أداة استثناء أو حصر لوجود النفي وما اسم موصول مستثنى قيل الاستثناء متصل وقيل منقطع وإذا كانت «إلا» حصرا فما بدل من ضرا ونفعا وجملة شاء الله صلة. (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) تتمة مقول القول ولكل خبر مقدم وأمة مضاف اليه وأجل مبتدأ مؤخر. (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) إذا ظرف مستقبل وجملة جاء مضاف إليها وأجلهم فاعل جاء والفاء رابطة ولا نافية وجملة يستأخرون لا محل لها لأنها جواب إذا وساعة ظرف متعلق بيستأخرون ولا يستقدمون عطف على فلا يستأخرون. (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً) قل فعل أمر وفاعله أنت أي محمد وجملة أرأيتم مقول القول وقد تقدم الكلام في سورة الأنعام على أرأيتم وقلنا هناك أن العرب تضمن أرأيت معنى أخبرني وانها تتعدى إذ ذاك الى مفعولين وان المفعول الثاني يكون غالبا جملة استفهام ينعقد منها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 مع ما قبلها مبتدأ وخبر تقول العرب أرأيت زيد ما صنع والمعنى أخبرني عن زيد ما صنع، إذا ذكرت هذا فأرأيتم هنا المفعول الاول لها محذوف ولا يصح أن تقع جملة الشرط موقعه والمسألة من باب التنازع تنازع أرأيتم وإن أتاكم في قوله عذابه وإعمال الثاني هو المختار فلما أعمل حذف من الاول والمعنى قل لهم يا محمد أخبروني عن عذاب الله إن أتاكم أي شيء تستعجلون منه وليس شيء من العذاب يستعجله عاقل لأن العذاب كله مرّ المذاق سيء المغبة موجب للنفور منه، وإن شرطية وأتاكم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والجواب جملة الاستفهام على تقدير الفاء في الجملة الاسمية وبياتا منصوب على الظرف متعلق بأتاكم، أو نهارا عطف عليه. (ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) ما يجوز أن يكون في موضع رفع وذلك إذا كان ذا بمعنى الذي والمعنى ما الذي يستعجل منه المجرمون فيكون ما مبتدأ والذي خبره ويجوز أن يكون في موضع نصب وذلك إذا جعلت ما وذا اسما واحدا والمعنى أي شيء يستعجل منه المجرمون فيكون مفعول يستعجل والمجرمون فاعل يستعجل. (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) أتم الهمزة للاستفهام الانكاري وثم حرف عطف وإذا ظرف مستقبل وما زائدة وجملة وقع في محل جر بالاضافة إليها وجملة آمنتم به صلة والظرف متعلق بآمنتم وآلآن الهمزة للاستفهام الانكاري والآن ظرف متعلق بمحذوف يفهم من سياق الكلام تقديره آلآن به تؤمنون والواو حالية وقد حرف تحقيق وكنتم كان واسمها وبه جار ومجرور متعلقان بتستعجلون وجملة تستعجلون خبر كنتم. (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) ثم حرف عطف وقيل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر وللذين متعلقان بقيل وجملة ظلموا صلة وجملة ذوقوا مقول القول وعذاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 مفعول به والخلد مضاف اليه وهل حرف استفهام وتجزون فعل مضارع ونائب فاعل وإلا أداة حصر وبما متعلقان بتجزون وجملة كنتم صلة وجملة تكسبون خبر كنتم. البلاغة: في قوله: بياتا ونهارا، وضرا ونفعا طباق تكرر فسمي مقابلة، واستعارة مكنية في قوله ذوقوا عذاب الخلد وقد تقدمت الاشارة الى ذلك كله. [سورة يونس (10) : الآيات 53 الى 56] وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) اللغة: (الاستنباء) : طلب النبأ الذي هو الخبر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 (الافتداء) إيقاع الشيء بدل غيره لدفع المكروه به يقال فداه يفديه فدية وفداء وافتداه وفاداه مفاداة، وافتدي يجوز أن يكون متعريا وأن يكون لازما فإذا كان مطاوعا لمتعدّ كان لازما تقول فديته فافتدى وإن لم يكن مطاوعا يكون بمعنى فدى فيتعدى لواحد والفعل هنا يحتمل الوجهين فإن جعلناه متعديا فمفعوله محذوف تقديره لافتدت به نفسها. (أَسَرُّوا النَّدامَةَ) : قيل أسر من الأضداد يستعمل بمعنى أظهر ويستعمل بمعنى أخفى وهو المشهور في اللغة وهو في الآية يحتمل الوجهين. الإعراب: (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي) ويستنبئونك فعل مضارع وفاعل ومفعول به وأحق: الهمزة للاستفهام الانكاري المشوب بالاستهزاء وحق خبر مقدم وهو مبتدأ مؤخر والجملة في محل نصب مفعول به لستنبئونك وقيل الجملة في محل نصب بيقولون وتكون يستنبئونك متعدية لواحد وأصل استنبأ أن يتعدى الى مفعولين أحدهما ب «عن» تقول استنبأت زيدا عن عمرو أي طلبت منه أن ينبئني عن عمرو. وقل فعل أمر وإي حرف جواب وسترد أحرف الجواب في باب الفوائد وربي الواو للقسم وربي مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف. (إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) إن واسمها واللام المزحلقة والواو حرف عطف على جواب القسم أو استئنافية مسوقة لبيان عدم خلوصهم من عذاب الله بوجه من الوجوه وما حجازية وأنتم اسمها والباء حرف جر زائد ومعجزين خبرها في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 محل نصب محلا ومجرور بالياء الزائدة لفظا. (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) الواو استئنافية ولو شرطية امتناعية على ما هو الكثير فيها وأن حرف مشبه بالفعل ولكل خبر أن المقدم ونفس مضاف اليه وجملة ظلمت صفة لنفس وما اسم موصول في محل نصب اسم أن وأن وما في حيزها فاعل لفعل محذوف أي لو ثبت ذلك، وفي الأرض صلة ما واللام واقعة في جواب لو وافتدت به جملة فعلية لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم. (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) الواو عاطفة وأسروا الندامة فعل وفاعل ومفعول به ولما رابطة أو حينية وجملة رأوا مضاف إليها أو صلة والواو فاعل والعذاب مفعول به والمعنى أنهم بهتوا وشدهوا لرؤيتهم ما لم يكن يدور لهم بخلد أو يخطر لهم على بال فانطووا على مضض وحاذروا بوحة المتجلد ولم يملكوا سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب وقيل أسروا الندامة أظهروها من قولهم أسر الشيء وأشره إذا أظهره قال هذا أبو عبيدة والجبائي وأنكر الأزهري أن يكون بمعنى الإظهار وقال إنه غلط محض لأن ما يكون بمعنى الإظهار يكون بالشين المثلثة. (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) يجوز أن يكون الكلام مستأنفا وأن يكون معطوفا، وقضي فعل ماض بالبناء للمجهول ونائب الفاعل مستتر وبينهم ظرف متعلق بقضي وبالقسط حال وهم الواو عاطفة وجملة لا يظلمون خبر. (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ألا كلمة تستعمل في التنبيه ويفتتح بها الكلام فتسمى استفتاحية وأصلها لا، دخل عليها حرف الاستفهام تقريرا وتذكيرا فصارت تنبيها وكسرت إن بعد ألا لأن ألا يستأنف ما بعدها لينبه بها على معنى الابتداء ولذلك يقع بعدها الأمر والدعاء كقول امرئ القيس: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 ألا عم صباحا أيّها الطّلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي ولله خبر إن المقدم وما اسمها المؤخر وفي السموات والأرض صلة (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) ألا تأكيد لألا الأولى وقد صدرت الجملتان بحرفي التنبيه للدلالة على التحقيق والتسجيل لمضمونهما وإن واسمها وحق خبرها. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الواو حالية أو استئنافية ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها. (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) هو مبتدأ وجملة يحيي خبر وجملة يميت عطف واليه جار ومجرور متعلقان بترجعون. الفوائد: حروف الجواب: حروف الإيجاب أو الجواب أو التصديق هي: نعم وبلى وأجل وجير وإي وإن، وقد تقدم القول في بعضها ونتكلم هنا عن إي وإن فأما إي فحرف إيجاب لا يستعمل إلا في القسم قال الله تعالى «قل إي وربي لتبعثن» وهمزتها مكسورة والياء فيها ساكنة قال الزمخشري: «وسمعتهم يقولون إيو فيصلونه بواو القسم ولا ينطقون به وحده» وقال غيره: «ومنه قول الناس في الجواب إي والله وقولهم «إيوه» فالواو للقسم والهاء مأخوذة من الله» فقول العامة «إيوه» صحيح لا غبار عليه. حروف التنبيه: هي: ها وألا وأما، ومعنى هذه الحروف تنبيه المخاطب الى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 ما تحدثه به فإذا قلت هذا عبد الله منطلقا فالتقدير انظر اليه منطلقا أو انتبه عليه منطلقا فأنت تنبه المخاطب لعبد الله حال انطلاقه وقال النابغة: ها إنّ تا عذره إن لم تكن نفعت ... فإن صاحبها قد تاه في البلد فأدخل ها التي للتنبيه على إن والعذر والمعذرة والعذرى واحد والعذرة بالكسر كالركبة والجلسة بمعنى الحالة قال آخر: تقبّل عذرتي وحبا بدهم ... يصمّ حنينها سمع المنادي وأكثر ما تدخل ها على أسماء الاشارة والضمائر كقولك هذا وهذه وهأنذا وها أنت ذا وها هي ذه وما أشبه ذلك وإنما كثر التنبيه في هذه الأسماء المبهمة لتحريك النفس على طلب بعينه إذ لم تكن علامة تعريف في لفظه والفرق بين ألا وأما أن أما للحال وألا للاستقبال فتقول أما ان زيدا عاقل تريد أنه عاقل على الحقيقة لا على المجاز فأما قول الهذلي: أما والذي أبكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمر فأدخل أما على حرف القسم كأنه ينبه المخاطب على استماع قسمه وتحقيق المقسم عليه وقد يحذفون الألف عن أما فيقولون أم والله وفي كلام هجرس بن كليب «أم وسيفي وزريه، ورمحي ونصليه، وفرسي وأذنيه، لا يدع الرجل قاتل أبيه وهو ينظر اليه» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 [سورة يونس (10) : الآيات 57 الى 61] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) الإعراب: (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) قد حرف تحقيق وجاءتكم موعظة فعل ومفعول به وفاعل ومن ربكم صفة لموعظة وتكون من للتبعيض، أو متعلقة بجاءتكم فتكون للابتداء. (وَشِفاءٌ لِما فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) وشفاء عطف على موعظة وشفاء هو في الأصل مصدر جعل وصفا للمبالغة أو هو اسم لما يشفى به ويتداوى، ولما في الصدور يجوز أن يكون صفة لشفاء فيتعلق بمحذوف وان تكون اللام زائدة في المفعول به وفي الصدور صلة ما، وهدى ورحمة معطوفان أيضا وللمؤمنين صفة. (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) الباء متعلقة بمحذوف وأصل الكلام ليفرحوا بفضل الله وبرحمته فبذلك ثم قدم الجار والمجرور على الفعل لإفادة الحصر ثم أدخلت الفاء لإفادة معنى السببية فصار بفضل الله وبرحمته فليفرحوا ثم قال فبذلك فليفرحوا للتأكيد والتقرير ثم حذف الفعل الأول لدلالة الثاني عليه والفاء الأولى جزائية والثانية للسببية ثم قالوا الفاء الداخلة على بذلك زائدة وبذلك بدل من بفضل والأولى أن تكون عاطفة وبذلك عطف على بفضل الله وذلك أصح من جعلها زائدة أما الفاء الداخلة على فليفرحوا فهي الفصيحة لأنها داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل إن فرحوا بشيء فليخصوها بالفرح فانه ليس ثمة ما هو أدعى الى الفرح وأثلج للصدور منهما وهو مبتدأ وخير خبر ومما متعلقان بخير ويجمعون صلة ما. (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) أرأيتم تقدم القول انها بمعنى أخبروني وما أنزل الله: ما اسم موصول مفعول لأرأيتم أو لأنزل وجملة أنزل صلة والعائد محذوف أي أنزله الله ويجوز أن تكون ما استفهامية في محل نصب بأنزل وهي حينئذ معلقة لأرأيتم عن العمل ويجوز أن تكون استفهامية في محل رفع بالابتداء وجملة آلله أذن لكم خبر ولكم متعلقان بأنزل ومن رزق حال. (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) فجعلتم عطف على أنزل وجعلتم فعل وفاعل ومنه متعلقان بجعلتم وحراما مفعول جعلتم وحلالا عطف، آلله الهمزة للاستفهام الانكاري والله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 مبتدأ وجملة أذن خبره ولكم متعلقان بأذن، أم منقطعة بمعنى بل أو متصلة أي آلله أذن لكم أم تكذبون عليه ولعل اتصالها أظهر وعلى الله جار ومجرور متعلقان بيفترون. (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الواو عاطفة وما استفهامية مبتدأ وظن خبرها والذين مضاف اليه وجملة يفترون صلة وعلى الله متعلقان بيفترون والكذب مفعول به ويوم القيامة ظرف متعلق بالظن والمعنى أي شيء ظن المفترين في ذلك اليوم أنه صانع بهم فمفعولا الظن سدت مسدهما أن المقدرة وما بعدها. (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) إن واسمها واللام المزحلقة وذو فضل خبرها وعلى الناس متعلقان بفضل ولكن الواو حالية أو استئنافية ولكن واسمها وجملة لا يشكرون خبرها. (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) الواو عاطفة وما نافية وتكون فعل مضارع ناقص واسمها مستتر أي أنت، وفي شأن خبر تكون، وما: الواو عاطفة وما نافية تتلو فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنت ومنه متعلقان بتتلو والضمير يعود الى القرآن أو الى الشأن فتكون من تعليلية أي من أجل الشأن الذي كنت مسترسلا فيه ومن زائدة وقرآن مفعول به محلا أي وما تتلون من التنزيل من قرآن لأن كل جزء منه قرآن والإضمار قبل الذكر تفخيم. (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) ولا تعملون عطف على ما تقدم ومن حرف جر زائد وعمل مفعول به محلا أو مفعول مطلق وإلا أداة حصر وكنا كان واسمها وعليكم متعلقان بقوله شهودا أي شاهدين وشهودا خبر كنا، وشهود جمع شاهد وكذلك إشهاد، وإذ ظرف لما مضى متعلق بشهودا وجملة تفيضون مضافة للظرف وفيه متعلقان بتفيضون. (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) الواو حرف عطف وما نافية وعن ربك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 جار ومجرور متعلقان بيعزب ومن حرف جر زائد ومثقال ذرة فاعل يعزب محلا وفي الأرض حال من مثقال ذرة أو صفة ولا في السماء عطف. (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما تقدم ولا نافية للجنس وأصغر اسمها ومن ذلك متعلقان بأصغر ولا أكبر عطف على ولا أصغر وإلا أداة حصر وفي كتاب مبين خبر لا ومبين صفة لكتاب. وعبارة ابن هشام في المغني: «وأما قوله تعالى: وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر» فظاهر الأمر جواز كون أصغر وأكبر معطوفين على لفظ مثقال أو على محله وجوز كون لا مع الفتح تبرئة ومع الرفع مهملة أو عاملة عمل ليس ويقوي العطف انه لم يقرأ في سورة سبأ في قوله سبحانه وتعالى: «عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة» الآية إلا بالرفع لما لم يوجد الخفض في لفظ مثقال ولكن يشكل عليه ثبوت العزوب عند ثبوت الكتاب كما انك إذا قلت ما مررت برجل إلا في الدار كان إخبارا بثبوت مرورك برجل في الدار وإذا امتنع هذا تعين ان الوقف على السماء وان وما بعدها مستأنف وإذا ثبت ذلك في سورة يونس قلنا به في سورة سبأ وان الوقف على الأرض وانه انما لم يجيء فيه الفتح اتباعا للنقل وجوز بعضهم العطف فيهما على أن لا يكون معنى يعزب يخفى بل يخرج الى الوجود. البلاغة: في قوله تعالى: «وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء» تقديم الأرض في الذكر على السماء ومن حقها التأخير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 لأن الأرض جزء من السماء وما فيها من أفلاك ونجوم سوابح وهو جزء ضئيل جدا من حقه التأخير ولكنه جنح الى تقديمه لأنه في معرض حديثه عن الأرض وذكر شهادته على شئون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم ومعايشهم ووصل ذلك بقوله وما يعزب، لاءم بينهما ليلي المعنى المعنى فإن قيل قد جاء تقديم الأرض على السماء في الذكر في مواضع كثيرة من القرآن قلنا: إذا جاءت مقدمة في الذكر فلا بد لذلك من سبب اقتضاه وإن خفي ذلك السبب وقد يستنبطه بعض الباحثين دون بعض وسيأتي من غرائب التقديم والتأخير ما يدهش العقول في مواضعه من هذا الكتاب. الفوائد: في قوله تعالى «إلا في كتاب مبين» إشكال واضح، إذ ما حقيقة هذا الاستثناء؟ وهل هو متصل أو منقطع؟ إن في جعله متصلا إشكالا لأنه يصير المعنى إلا في كتاب فيعزب وهو فاسد فالأولى جعله منقطعا وإلا بمعنى لكن والمعنى لا يعزب عن ربك شيء لكن جميع الأشياء في كتاب وقد حاول الفخر الرازي جعله متصلا بعبارة طويلة محصلها أنه جعله استثناء مفرغا من أعم الأحوال فقال وهو حال من أصغر وأكبر وهو في قوة المتصل ولا يقال فيه متصل ولا منقطع. [سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 65] أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 اللغة: (الولي) ضد العدو فهو المحب ومحبة العباد لله طاعتهم له ومحبته لهم إكرامه إياهم وعلى الأولى يكون فعيل بمعنى فاعل وعلى الثاني بمعنى مفعول فهو مشترك بينهما، هذا وقد تقصينا جميع التراكيب في الكلمات التي فاؤها وعينها ولامها واو ولاما وياء، فرأيناها تنحصر في الدلالة على معنى القرب والدنو يقال وليه وليا: دنامنه وأوليته إياه: أدنيته منه وكل مما يليك وجلست مما يليه وسقط الوليّ وهو المطر الذي يلي الوسمي وقد وليت الأرض وهي موليّة وولي الأمر وتوّلاه وهو وليه ومولاه وهو وليّ اليتيم ووليّ القتيل وهم أولياؤه وولي ولاية، وهو والي البلد وهم ولاته، ورحم الله ولاة العدل، واستولى عليه وهذا مولاي: ابن عمي، وهم مواليّ، ومولاي: سيدي وعبدي، ومولى بيّن الولاية سيد ناصر وهو أولى به ووالاه موالاة، ووالى بين الشيئين وهما على الولاء وتقول العرب: وال غنمك من غنمي أي اعزالها وميزها وإذا كانت الغنم ضأنا ومعزى قيل والها قال ذو الرمة: يوالي إذا اصطكّ الخصوم أمامه ... وجوه القضايا من وجوه المظالم وولاه ركنه «فولّ وجهك شطر المسجد الحرام» وتوليته: جعلته وليا «ومن يتولهم منكم فإنه منهم» وتولاك الله بحفظه ووضع الوليّة على الراحلة وهي البرذعة قال أبو زبيد: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 كالبلايا رؤسها في الولايا ... ما نحات السّموم حرّ الخدود وولّى عني وتولى و «أولى لك» ويل لك، واستولى على الغاية وهذا من الغريب بمكان. الإعراب: (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ألا حرف تنبيه يستفتح بها الكلام مركبة من الهمزة ولا النافية مغيرة عن معناها الأول إلى التنبيه، وإن أولياء الله إن واسمها ولا نافية خوف مبتدأ وساغ الابتداء به لنفيه وعليهم خبر ولا الواو حرف عطف ولا نافية وهم مبتدأ وجملة يحزنون خبر. (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) الذين آمنوا يحتمل موضعه ثلاثة أوجه متساوية الأرجحية الأول النصب على أنه صفة أولياء الله والثاني الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هم الذين آمنوا والثالث الرفع على الابتداء والخبر جملة لهم البشرى الآتية، وجملة آمنوا صلة وكانوا يتقون عطف على الصلة وجملة يتقون خبر كانوا. َهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) لهم خبر مقدم والبشرى مبتدأ مؤخر وفي الحياة متعلق بمحذوف حال من البشرى والعامل في الحال الاستقرار في لهم والدنيا صفة للحياة وجملة لهم البشرى إما مستأنفة وإن جعلت الذين مبتدأ كانت في محل رفع خبر. َ فِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ) وفي الآخرة عطف على في الحياة الدنيا ولا نافية للجنس وتبديل اسمها ولكلمات الله خبر لا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 لِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ذلك مبتدأ وهو مبتدأ ثان والفوز خبر هو والجملة خبر ذلك والعظيم صفة الفوز والجملتان معترضتان (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الواو حرف عطف ولا ناهية ويحزنك فعل مضارع مجزوم بلا والكاف مفعول به وقولهم فاعل وإن واسمها وكسرت همزتها لأن الجملة مستأنفة بمعنى التعليل لعزة الله ولا يجوز أن تكون كسرت لأنها وقعت بعد القول لأنه يصير حكاية عنهم وان النبي صلى الله عليه وسلم تحزّن لذلك وهذا كفر ولله خبر إن وجميعا حال من العزة ويجوز أن يكون توكيدا ولم يؤنث بالتاء لأن فعيلا يستوي فيه المذكر والمؤنث وهو مبتدأ والسميع خبره الأول والعليم خبره الثاني. [سورة يونس (10) : الآيات 66 الى 67] أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) اللغة: (يَخْرُصُونَ) أصل معنى الخرص الحزر أي التخمين والتقدير ويستعمل بمعنى الكذب لغلبته في مثله وفي المصباح: خرصت النخل خرصا من باب قتل حزرت ثمره والاسم الخرص بالكسر وخرص الكافر خرصا كذب فهو خارص وخرّاص. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 الإعراب: (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ألا حرف تنبيه وقد تقدمت الاشارة إليه وإن حرف مشبّه بالفعل ولله خبرها المقدم ومن اسمها المؤخر وخص العقلاء بالذكر تضخيما لأنهم إذا كانوا له وداخلين في ملكه فما وراءهم مما لا يعقل أولى أن لا يكون له ندا وشريكا وفي السموات صلة من ومن في الأرض عطف على من في السموات. (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ) ما نافية ويتبع الذين فعل مضارع وفاعل وجملة يدعون صلة ومن دون الله حال من شركاء لتقدمه عليه وشركاء مفعول به ليتبع ومفعول يدعون محذوف لفهم المعنى والتقدير وما يتبع الذين من دون الله آلهة شركاء أي وما يتبعون حقيقة الشركاء وان كانوا يسمّونها شركاء لأن شركة الله في الربوبية محال إن يتبعون إلا ظنهم أنهم شركاء، ويجوز أن تكون ما استفهامية وتكون حينئذ منصوبة بما بعدها أي ما يتبع والى هذا الإعراب جنح أبو البقاء ويجوز أن تكون ما موصولة معطوفة على من كأنه يقول والله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء أي وله شركاؤهم ويجوز أن تكون ما الموصولة هذه في محل رفع بالابتداء والخبر محذوف تقديره والذي يتبعه المشركون باطل فهذه أربعة أوجه أوردناها لتقاربها في الأرجحية وإن كان الأول أسهلها. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) إن نافية ويتبعون فعل وفاعل وإلا أداة حصر والظن مفعول به وإن نافية أيضا وهم مبتدأ وإلا أداة حصر وجملة يخرصون خبرهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) هو مبتدأ والذي خبر وجملة جعل صلة الموصول ثم الجعل إن كان بمعنى الإبداع والخلق نصب مفعولا واحدا وان كان بمعنى التصيير نصب مفعولين وعلى كل لكم متعلق بجعل والليل مفعول به لتسكنوا اللام للتعليل وتسكنوا منصوب بأن مضمرة والجار والمجرور إما مفعول لاجله أو مفعول به ثان وفيه متعلق بتسكنوا والنهار عطف على الليل ومبصرا إما حال وإما مفعول به ثان كما تقدم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبر مقدم لإن واللام المزحلقة وآيات اسم ان المؤخر ولقوم صفة لآيات وجملة يسمعون صفة القوم. البلاغة: في قوله «والنهار مبصرا» مجاز عقلي فان إسناد الابصار الى النهار غير حقيقي وقد تقدم أن المجاز العقلي هو اسناد الفعل أو شبهه إلى غير ما هو له على حد قول أبي تمام: تكاد عطاياه يجنّ جنونها ... إذا لم يعوذها بنغمة طالب ويجوز أن يجري على أنه استعاره مكنية إذا قصد التشبيه، ومنه قول جرير: لقد لمتنا يا أم غالب في السّرى ... ونمت وما ليل المطيّ بنائم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 [سورة يونس (10) : الآيات 68 الى 70] قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) الإعراب: (قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ) قالوا فعل وفاعل واتخذ الله ولدا فعل وفاعل ومفعول به والجملة مقول القول وسبحانه مفعول مطلق الفعل محذوف. (هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) هو مبتدأ والغني خبره وله خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي السموات صلة وما في الأرض عطف على ما في السموات. (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) إن نافية وعندكم ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم ومن حرف جر زائد وسلطان مبتدأ مؤخر مرفوع محلا مجرور لفظا وبهذا صفة لسلطان (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري وتقولون فعل مضارع وفاعل وعلى الله متعلق بتقولون وما مفعول به وجملة لا تعلمون صلة. (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) قل فعل أمر وفاعله أنت وإن الذين إن واسمها وجملة يفترون صلة الذين وعلى الله متعلق بيفترون والكذب مفعول به وجملة لا يفلحون خبر إن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) متاع خبر لمبتدأ محذوف أي ذاك أو هو وفي الدنيا صفة ويجوز أن يكون متاع مبتدأ وخبره محذوف والتقدير لهم متاع وساغ الابتداء به لوصفه وثم حرف عطف وتراخ وإلينا خبر مقدم ومرجعهم مبتدأ مؤخر ثم حرف عطف أيضا ونذيقهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول والعذاب مفعول به ثان والشديد صفة وبما الباء حرف جر للسببية وما مصدرية أي بسبب كونهم كافرون والجار والمجرور متعلقان بنذيقهم. [سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 73] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) اللغة: (فَأَجْمِعُوا) يقال أجمع الأمر وأزمعه إذا نواه وعزم عليه قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 المؤرج: أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه وقال أبو الهيثم أجمع أمره إذا جعله جمعا بعد ما كان متفرقا (الغمة) ضيق الأمر من غمة إذا ستره ومنها قوله (صلى الله عليه وسلم) : «ولا غمة في فرائض الله» وغم الهلال إذا حال من دونه غيم يحجب رؤيته. الإعراب: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) واتل فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله أنت وعليهم متعلقان باتل ونبأ مفعول به ونوح مضاف اليه وإذ ظرف لما مضى من الزمن في محل نصب بدل من نبأ بدل اشتمال أو متعلق به، ولا معنى لقول أبي البقاء انه حال من نبأ كما لا يجوز تعليقه بالفعل وهو اتل لفساد المعنى لأن أتل مستقبل والظرف ماض وجملة قال لقومه مضافة للظرف (يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ) يا حرف نداء وقوم منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وقد تقدم بحثه وان شرطية وكان فعل الشرط واسمها ضمير الشأن المحذوف وجملة كبر عليكم مقامي خبرها والمراد بتكبير المقام تعاظم الشقة، والمقام بالفتح المنزلة والمكانة قال تعالى: «ولمن خاف مقام ربه جنتان» والمقام بالضم الاقامة والقيام على الدعوة خلال مدة اللبث لأنه مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، وتذكيري عطف على مقامي وبآيات الله متعلقان بتذكيري فعلى الله الفاء رابطة والجار والمجرور متعلقان بتوكلت. (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) الفاء الفصيحة وأجمعوا فعل أمر والواو فاعل وأمركم مفعول به لأنه يتعدى بنفسه وبالحرف كما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 تقدم في باب اللغة وشركاءكم الواو للمعية وشركاءكم مفعول معه نص على ذلك سيبويه وأنشد: فكونوا أنتم وبني أبيكم ... مكان الكليتين من الطحال وقال النحاس: في نصب الشركاء على قراءة الجمهور ثلاثة أوجه: الأول: بمعنى وادعوا شركاءكم قاله الكسائي والفراء أي ادعوهم لنصرتكم فهو على هذا منصوب بفعل مضمر. الثاني: وقال محمد بن يزيد المبرد هو معطوف على المعنى كما قال الشاعر: يا ليت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا والرمح لا يتقلد به لكنه محمول كالسيف. الثالث: وقال الزجاج: المعنى مع شركائكم فالواو على هذا واو مع وأما على قراءة أجمعوا بهمزة وصل فالعطف ظاهر أي أجمعوا أمركم واجمعوا شركاءكم وأما توجيه قراءة الرفع فعلى عطف الشركاء على الضمير المرفوع في أجمعوا وحسن هذا العطف مع عدم التأكيد بمنفصل كما هو المعتبر في ذلك. (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) ثم حرف عطف وتراخ ولا ناهية ويكن مجزومة بلا وأمركم اسم يكن ويكن حال لأنه كان صفة في الأصل وتقدمت وغمة خبر يكن (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) ثم حرف عطف كما تقدم واقضوا فعل أمر وفاعل وإلي متعلق به ولا: الواو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 عاطفة ولا ناهية وتنظرون أصله تنظرونني مجزوم بلا حذفت النون للجازم وحذفت ياء المتكلم للفواصل أي لا تمهلوني. (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) الفاء استئنافية وإن شرطية وتوليتم فعل وفاعل في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة وما نافية وسألتكم فعل وفاعل ومن زائدة وأجر مفعول به محلا. (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) إن نافية وأجري مبتدأ وإلا أداة حصر وعلى الله خبر، وأمرت: الواو عاطفة وأمرت فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل، وأن أكون: أن وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي بأن أكون. (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) الفاء عاطفة على ما تقدم وكذبوه فعل وفاعل ومفعول به، فنجيناه عطف على كذبوه ومن اسم موصول معطوف على الهاء والظرف متعلق بمحذوف هو الصلة أي استقروا معه في السفينة وفي الفلك جار ومجرور متعلقان بنجيناه أو في الاستقرار الذي هو الصلة أي والذين استقروا معه في الفلك وجعلناهم خلائف فعل وفاعل ومفعولاه. (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) وأغرقنا عطف على نجيناه ونا فاعل والذين مفعول به وجملة كذبوا بآياتنا صلة وبآياتنا متعلقان بكذبوا. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) الفاء استئنافية وانظر فعل أمر وفاعله مستتر وكيف اسم استفهام خبر كان مقدم وعاقبة اسمها والمنذرين مضاف اليه. البلاغة: 1- المجاز العقلي في قوله تعالى «كبر عليكم مقامي» فقد أسند الكبر الى المقام والمقام هو كناية عن النفس لأن المكان من لوازمه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 2- الاستعارة المكنية في قوله تعالى «ثم اقضوا إلي» أي نفذوا ذلك الأمر أو أدوا الى ذلك الأمر، شبه الأمر المحذوف بالدين ثم حذف المشبه به وأخذ شيئا من خصائصه وهو القضاء يقال قضى فلان دينه أي أداه. [سورة يونس (10) : الآيات 74 الى 78] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) الإعراب: (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ) عطف على قصة نوح، وبعثنا وفاعل ومن بعده حال ورسلا مفعول به والى قومهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة. (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) الفاء عاطفة وجاءوهم فعل وفاعل ومفعول به وبالبينات متعلقان بجاءوهم والفاء عاطفة وما نافية وكان واسمها واللام لام الجحود ويؤمنوا منصوب بأن مضمرة بعدها واللام ومدخولها خبر كان وبما متعلقان بيؤمنوا وجملة كذبوا صلة وبه متعلقان بكذبوا ومن قبل حال وبنيت قبل على الضم لانقطاعها عن الاضافة لفظا لا معنى. (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) الكاف في محل نصب صفة لمصدر محذوف أي مثل ذلك الطبع نطبع وعلى قلوب المعتدين جار ومجرور متعلقان بنطبع. (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا) عطف قصة على قصة أيضا من باب عطف الخاص على العام، ومن بعدهم حال وموسى مفعول به لبعثنا وهارون معطوف على موسى والى فرعون متعلقان ببعثنا وملئه عطف على فرعون وبآياتنا متعلقان بمحذوف حال أي ملتبسين بآياتنا التسع التي سيصرّح بها في سورة «الإسراء» وهي قوله تعالى: «ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات» وقد تقدم منها ثمانية في سورة «الأعراف» اثنتان في قوله «فألقى موسى عصاه» وقوله: «ونزع يده» وواحدة في قوله «ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين» وخمسة في قوله «فأرسلنا عليهم الطوفان» وستأتي التاسعة في هذه السورة في قوله «ربنا اطمس على أموالهم» أي امسخها حجارة كما سيأتي في حينه. (فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) الفاء عاطفة واستكبروا فعل وفاعل وكانوا كان واسمها وقوما خبرها ومجرمين صفة. (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وجملة جاءهم مضافة أو لا محل لها والحقّ فاعل ومن عندنا متعلقان بجاءهم. (قالُوا: إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) جملة قالوا لا محل وإن واسمها واللام المزحلقة وسحر خبر إن ومبين صفة. (قالَ مُوسى: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 قال موسى فعل وفاعل والهمزة للاستفهام وتقولون فعل مضارع وفاعل وللحق جار ومجرور متعلقان بتقولون ولما حينية وجملة جاءكم مضافة، أسحر الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وسحر خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر والجملة مقول القول ولا الواو للحال ولا نافية ويفلح الساحرون فعل مضارع وفاعل والجملة حالية. (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) قالوا فعل وفاعل والهمزة للاستفهام البياني الذي يستفرغ فيه المكابر المعاند حججه المتهافتة ليبرر إصرار على اللجاج والمواربة والعناد وجملة أجئتنا مقول القول وهو فعل وفاعل ومفعول به ولتلفتنا اللام للتعليل وتلفت فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وعما متعلقان بتلفتنا وجملة وجدنا صلة وعليه متعلقان بمحذوف حال تقديره عاكفين وآباءنا مفعول به. (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) الواو عاطفة وتكون فعل مضارع ناقص ولكما خبرها المقدم والكبرياء اسمها المؤخر وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي ممتدة والكبرياء مصدر على وزن فعلياء ومعناها العظمة وقيل الملك لأن الملوك موصوفون بالكبر ولذلك قيل للملك الجبار، قال بشار بن برد: إذا الملك الجبار صعّر خده ... مشينا إليه بالسيوف نعاتبه ووصفوا بالصيد والشوس ولذلك وصف ابن الرقيات مصعبا في قوله: ملكه ملك رأفة ليس فيه ... جبروت منه ولا كبرياء ينفي ما عليه الملوك من ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة وما حجازية ونحن اسمها وبمؤمنين الباء زائدة ومؤمنين خبر ما محلا. الفوائد: قال ابن هشام في صدد حديثه عن حذف المفعول: «ومن غريبه حذف المقول وبقاء القول نحو: قال موسى: أتقولون للحق لما جاءكم، أي هو سحر بدليل أسحر هذا» . وهذا القول فيه شيء كثير من الغموض وقد تعقبه الدسوقي فقال: «ما ذكره المصنف أحد أوجه ذكرها في الكشاف وعبارته: فإن قلت: هم قطعوا بقولهم: إن هذا لسحر مبين على أنه سحر فكيف قيل لهم أتقولون أسحر هذا؟ قلت فيه أوجه أن يكون معنى قوله أتقولون للحق: أتعيبونه وتطعنون فيه وكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه، من قولهم فلان يخاف القالة وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوءه ونحو القول الذكر في قوله: سمعنا فتى يذكرهم ثم قال: أسحر هذا فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه وان يحذف مفعول أتقولون وهو ما دل عليه قولهم إن هذا لسحر مبين كأنه قيل: أتقولون ما تقولون يعني قولهم أن هذا لسحر مبين ثم قيل أسحر هذا وان يكون جملة قوله أسحر هذا ولا يفلح الساحرون حكاية لكلامهم كأنهم قالوا أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح» انتهى ما قاله الزمخشري وقد تصرف به الدسوقي تصرفا مخلا ولهذا آثرنا نقل ما قاله الزمخشري بنصه من الكشاف ومع ذلك لا يخلو من غموض، وإيضاحه: ان القول على الوجه الاول وقع كناية عن العيب فلا يتقاضى مفعولا وفي الثاني على انه يطلب مفعولا والذي نراه أن سؤال ابن هشام غير وارد واعتراض الزمخشري وتكلفه الاجابة عنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 غير وارد أيضا ولهذا ضربنا صفحا في الاعراب عن هذا كله وأحسن من الجميع عبارة أبي السعود وهي: «قال موسى: أي قال جملا ثلاثا الأولى أتقولون للحق لما جاءكم والثانية أسحر هذا والثلاثة ولا يفلح الساحرون وقوله للحق أي في شأنه ولأجله وقوله: لما جاءكم أي حين مجيئه إياكم من أول الأمر من غير تأمل وتدبّر هذا مما ينافي القول المذكور وقوله: انه لسحر هذا مقول القول فحذف لدلالة ما قبله عليه واشارة الى انه لا يتفوه به وقوله: أسحر هذا مبتدأ وخبر وهو استفهام إنكار مستأنف من جهته عليه السلام تكذيبا لقولهم وتوبيخا إثر توبيخ وتجهيلا بعد تجهيل وقوله ولا يفلح الساحرون جملة حالية من ضمير المخاطبين والرابط هو الواو بلا ضمير كما في قول من قال: «جاء الشتاء ولست أملك عدة» أي أتقولون للحق إنه لسحر والحال انه لا يفلح فاعله أي لا يظفر بمطلوب ولا ينجو من مكروه فكيف يمكن صدوره عن مثلي من المؤيدين من العزيز الحكيم» . [سورة يونس (10) : الآيات 79 الى 82] وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) الإعراب: (وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) الواو عاطفة لتتساوق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 فصول القصة وقال فرعون فعل وفاعل وائتوني فعل أمر وفاعل ومفعول به وبكل متعلقان بائتوني وساحر مضاف اليه وعليم صفة. (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) الفاء عاطفة على محذوف أي فأتوا بالسحرة، وجملة قال لهم موسى لا محل لها وألقوا فعل أمر وفاعل وما اسم موصول مفعول به وأنتم مبتدأ وملقون خبر والجملة الاسمية صلة الموصول وجملة ألقوا مقول القول. (فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) ما اسم موصول مبتدأ وجملة جئتم به صلة والسحر خبر وفي قراءة آلسحر بهمزتين همزة استفهام وهمزة أل فتكون ما استفهامية في محل رفع مبتدأ وجئتم به الخبر والتقدير أي شيء جئتم به كأنه استفهام انكار وتقليل لما جاءوا به والسحر بدل من اسم الاستفهام لذلك أعيدت معه أداته أو يكون السحر خبرا لمبتدأ محذوف أي أهو السحر (إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) إن واسمها وجملة سيبطله خبرها وإن واسمها وجملة لا يصلح خبرها وإن الثانية للتعليل وعمل المفسدين مفعول به. (وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) الواو عاطفة ويحق الله فعل وفاعل والحق مفعول به وبكلماته متعلقان بيحق ولو الواو حالية ولو وصلية وكره المجرمون فعل وفاعل. [سورة يونس (10) : الآيات 83 الى 86] فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 الإعراب: (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) الفاء عاطفة على محذوف يفهم من السياق ومما فصّل في مواضع أخر أي فألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون وما نافية وآمن فعل ماض ولموسى متعلق به وإلا أداة حصر وذرية فاعل ومن قومه صفة. (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) على بمعنى مع وهي مع مجرورها في محل نصب على الحال، ومن فرعون جار ومجرور متعلقان بخوف وملئهم عطف على فرعون وانما أعاد الضمير اليه جمعا لأنه بمعنى آل فرعون كما يقال ربيعة ومضر، أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون بأمره، وأن يفتنهم أن وما في حيزها بدل اشتمال من فرعون أي على خوف من فتنة فرعون أو مفعول لأجله بعد حذف اللام. (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) الواو اعتراضية وهذه الجملة والتي بعدها اعتراض تذييلي وان واسمها واللام المزحلقة وعال خبر ان مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بعال وانه الواو اعتراضية أيضا وان واسمها واللام المزحلقة ومن المسرفين خبر إن. (وَقالَ مُوسى: يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) يا قوم يا حرف نداء وقوم منادى مضاف لياء المتكلم وقد تقدم حكمه ونزيد هنا أن حذف الياء أقوى من إثباتها لقوة النداء على التغيير وإن شرطية وكنتم في محل جزم فعل الشرط والتاء اسم كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 وجملة آمنتم خبر كنتم وبالله جار ومجرور متعلقان بآمنتم، فعليه: الفاء رابطة لجواب الشرط وعليه متعلقان بتوكلوا وتوكلوا فعل أمر وفاعل وإن شرطية وكنتم مسلمين كان واسمها وخبرها وجواب الشرط محذوف وكرر الجملة توكيدا وسيأتي في باب الفوائد تحقيق تعليق الحكم بشرطين. (فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا) الفاء للعطف وقالوا فعل وفاعل وعلى الله جار ومجرور متعلقان بتوكلنا وتوكلنا فعل وفاعل (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ربنا منادى مضاف وحرف النداء محذوف ولا ناهية وتجعلنا فعل مضارع مجزوم بلا ونا مفعول به أول وفتنة مفعول به ثان وللقوم صفة والظالمين صفة لقوم. (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) الواو عاطفة ونج فعل أمر مبني على حذف حرف العلة ونا مفعول به وبرحمتك متعلقان بمحذوف حال ومن القوم متعلقان بنجنا والكافرين صفة لقوم. الفوائد: متى لم يترتب الشرطان في الوجود فالشرط الثاني شرط في الأول ولذلك لم يجب تقديمه على الاول وقد بنى الفقهاء على ذلك حكما طريفا وهو أن يقول الرجل لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيدا فمجموع قوله إن دخلت الدار فأنت طالق مشروط بقوله: إن كلمت زيدا والمشروط متأخر عن الشرط وذلك يقتضي أن يكون المتأخر في اللفظ متقدما في المعنى وأن يكون المتقدم في اللفظ متأخرا في المعنى فكأنه يقول لامرأته حالما كلمت زيدا إن دخلت الدار فأنت طالق فلو حصل هذا المعلق قبل إن كلمت زيدا لم يقع الطلاق وفي الآية التي نحن بصددها قوله: إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين، يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطا لأن يصيروا مخاطبين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 بقوله إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا فكأنه تعالى يقول للمسلم حال إسلامه إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكل والأمر كذلك لان الإسلام عبارة عن الاستسلام وهو الانقياد لتكاليف الله وترك التمرد والايمان عبارة عن معرفة القلب بأن واجب الوجود لذاته واحد وما سواه محدث تحت تدبيره وقهره فاذا حصلت هاتان الحالتان فعند ذلك يفوض العبد جميع أموره الى الله تعالى ويحصل في القلب نور التوكل على الله. [سورة يونس (10) : الآيات 87 الى 89] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) اللغة: (تَبَوَّءا) : تبوّأ المكان: اتخذه مباءة كقولك توطنه إذا اتخذه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 وطنا وبوأت له بيتا أي اتخذته وقال أبو علي: إن تبوأ فعل يتعدى الى مفعولين. (اطْمِسْ) : الطمس: إزالة أثر الشيء بالمحو وطمست الريح آثار الديار والطمس تغير الى الدثور والدروس قال كعب بن زهير: من كل نضّاخة الذّفرى إذا عرقت ... عرضتها طامس الأعلام مجهول الإعراب: (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) الواو استئنافية وأوحينا فعل وفاعل والى موسى جار ومجرور متعلقان بأوحينا وأخيه عطف على موسى وأن يجوز أن تكون مفسرة لأنه قد تقدمها ما هو بمعنى القول دون حروفه وهو الإيحاء ويجوز أن تكون مصدرية على بابها وهي مع مدخولها في موضع نصب مفعول أوحينا أي أوحينا إليهما التبوّء ولقومكما متعلقان بتبوءا وباعتبارها مفعولا ثانيا وبمصر حال وبيوتا مفعول تبوأا وجوز أبو البقاء أن يتعلق بتبوءا. (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) واجعلوا عطف على تبوأا وبيوتكم مفعول اجعلوا الاول وقبلة مفعول اجعلوا الثاني وأقيموا الصلاة عطف وهو فعل أمر وفاعل ومفعول به وبشر المؤمنين عطف أيضا وسيأتي في باب البلاغة سر تنويع الخطاب. (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) قال موسى فعل وفاعل وربنا منادى مضاف حذف منه حرف النداء وإن وسمها وجملة آتيت خبر إن وفرعون مفعول به وملأه عطف على فرعون وزينة مفعول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 به ثان وأموالا عطف على زينة وفي الحياة الدنيا صفة لزينة (رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) ربنا منادى مضاف وأعيد للتوكيد واللام لام الصيرورة والعاقبة أي آتيتهم النعم المذكورة ليشكروها ويتبعوا سبيلك فكان عاقبة أمرهم أنهم كفروها وضلوا عن سبيلك ويجوز أن تكون لام العلة والمعنى أنك آتيتهم ما آتيتهم على سبيل الاستدراج فكان الإيتاء لهذه العلة وقال الحسن البصري: هي لام الدعاء عليهم بأن يبقوا على ما هم عليه من الضلال، وعن سبيلك جار ومجرور متعلقان بيضلوا (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) اطمس فعل أمر وفاعله أنت وعلى قلوبهم جار ومجرور متعلقان باطمس واشدد على قلوبهم عطف على اطمس على أموالهم. (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) يحتمل يؤمنوا النصب والجزم فالنصب بأن مضمرة بعد فاء السببية العاطفة أو العطف على قوله ليضلوا فلا يؤمنوا واختاره المبرد وعلى هذا يكون قوله: ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم اعتراضا، والجزم على وجه الدعاء عليهم على أن لا التي بسميها النحاة ناهية وهي بالنسبة الى الله تعالى لام الدعاء ومثله بيت الأعشى. فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ... ولا تلقني إلا وأنفك راغم وحتى حرف غاية وجر ويروا مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والواو فاعل والعذاب مفعول به والأليم صفة. (قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) جملة قد أجيبت مقول القول ودعوتكما نائب فاعل. (فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الفاء الفصيحة واستقيما فعل أمر والالف فاعل ولا تتبعان الواو عاطفة ولا ناهية وتتبعان فعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون وألف الاثنين فاعل والنون المشددة هي نون التوكيد الثقيلة وكسرت لوقوعها بعد ألف الاثنين وقرأ حفص تتبعان بتخفيف النون مكسورة مع تشديد التاء فتحتمل أن تكون لا للنفي وأن تكون للنهي فإن كانت للنفي كانت النون نون رفع والجملة اسمية أي وأنتما لا تتبعان أو انه خبر محض مستأنف لا تعلق له بما بعده، وإن كانت للنهي كانت النون للتوكيد وهي الخفيفة، وسبيل مفعول به والذين مضاف اليه وجملة لا يعلمون صلة. البلاغة: التنويع في الخطاب، فقد نوع سبحانه في خطابهم فثنى أولا ثم جمع ثم وحد آخرا والسر في ذلك أن موسى وهارون خوطبا بأن يتبوأا لقومهما بيوتا ويختاراها للعبادة ثم سيق الخطاب عاما لهما ولقومهما باتخاذ المساجد للصلاة فيها لأن ذلك واجب على الجمهور ثم خص آخرا موسى بالبشارة التي هي الغرض الاسمى تعظيما لها وللمبشر بها. [سورة يونس (10) : الآيات 90 الى 92] وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 اللغة: (وَجاوَزْنا) : هو من جاوز المكان إذا تخطاه وخلفه وراءه. (فَأَتْبَعَهُمْ) : في المختار تبعه من باب طرب وسلم إذا مشى خلفه أو مرّ به فمضى معه وكذا اتّبعه وهو افتعل وأتبعه على أفعل إذا كان قد سبقه فلحقه. وقال الأخفش: تبعه وأتبعه مثل ردفه وأردفه وحكى أبو عبيدة عن الكسائي: أنه قال: إذا أريد بهم انه اتبعهم خيرا أو شرا قالوا بقطع الهمزة وإذا أريد به أنه اقتدى بهم واتبع أثرهم قالوا بتشديد التاء ووصل الهمزة. (بَغْياً) : البغي: طلب الاستعلاء بغير الحق. (عَدْواً) : في الصحاح للجوهري: عدا عدوا وعدوّا وعداء، وفي القاموس والتاج وعدوانا وعدوانا وعدوى عليه ظلمه ويقال: «ما عدا مما بدا» أي ما الذي صرفك عني بعد ما بدا منك. (نُنَجِّيكَ) : من النجوة وهي الأرض التي لا يعلوها السيل وأصلها من الارتفاع. الإعراب: (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 مسوقة لبيان ما آل اليه أمر فرعون وقومه، وجاوزنا فعل وفاعل وببني إسرائيل متعلقان بجاوزنا والباء للتعدية أي جعلناهم مجاوزين البحر والبحر مفعول به. (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً) فأتبعهم الفاء عاطفة وأتبعهم فعل ومفعول به وفرعون فاعل وجنوده عطف على فرعون وبغيا مفعول لأجله وعدوا معطوف عليه ويجوز أن يكونا مصدرين في موضع الحال أي باغين معتدين. (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) حتى حرف غاية لاتباعه وإذا ظرف مستقبل وأدركه الغرق فعل ومفعول به وفاعل والجملة في محل جر بالاضافة وجملة قال لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة آمنت مقول القول وأن وما في حيزها في موضع نصب بنزع الخافض والجار والمجرور صلة آمنت ولا إله إلا الذي تقدم القول فيها مشبعا وجملة آمنت صلة الذي وبه متعلقان بآمنت وبنوا إسرائيل فاعل آمنت وأنا الواو عاطفة وأنا مبتدأ ومن المسلمين خبر (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) آلآن الهمزة للاستفهام والآن ظرف متعلق بمحذوف وتقديره آلآن آمنت، وقد الواو للحال وقد حرف تحقيق وعصيت فعل وفاعل وقبل ظرف مبني على الضم لانقطاعه عن الاضافة لفظا لا معنى وكنت من المفسدين عطف على عصيت وكنت كان واسمها ومن المفسدين خبرها. (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) الفاء استئنافية واليوم ظرف متعلق بننجيك وببدنك حال من الكاف أي مصاحبا لبدنك وسيأتي مزيد بحث عنها في باب البلاغة ولتكون اللام للتعليل وتكون منصوب بأن مضمرة واسم تكون مستتر تقديره أنت وآية خبرها ولمن خلفك حال والظرف متعلق بالاستقرار الذي هو صلة الموصول. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) الواو اعتراضية والجملة اعتراض تذييلي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 جيء به عقب الحكاية وان واسمها ومن الناس صفة لكثيرا وعن آياتنا متعلقان بغافلون واللام المزحلقة وغافلون خبر إن. البلاغة: في الآية تورية إذا فسر البدن بالدرع أما إذا فسر بالجسم فيكون المعنى ننجيك في الحال التي لا روح فيك وانما أنت بدن أو ببدنك كاملا سويا لم ينقص منه شيء أما تفسير البدن بالدرع فيدل عليه قول عمرو بن معدي كرب: أعاذل شكتي بدني وسيفي ... وكل مقلّص سلس القياد وكانت لفرعون درع من ذهب يعرف بها، وعندئذ صح في البدن التورية وهي ان البدن في القريب الظاهر بمعنى الجسم وفي البعيد الخفي بمعنى الدرع ومراده البعيد الخفي فان نجاة فرعون أي خروجه من البحر بعد الغرق بدرعه أعجب آية من خروجه مجردا والتورية في القرآن قليلة وسترد مواضعها في حينها ونتحدث عنها هنا باختصار فنقول: تعريف التورية: التورية هي أن يذكر المتكلم لفظا مفردا له معنيان: قريب ظاهر غير مراد وبعيد خفي هو المراد. وتنقسم الى أربعة أقسام: 1- التورية المجردة وسميت بذلك لتحردها من اللوازم وهي قسمان أيضا: آ- المجردة التي ذكر معها لازم المورّى به وهو المعنى القريب ولازم المورّى عنه وهو المعنى البعيد كقول مجير الدين بن تميم: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 وليلة بتّ أسقى في غياهبها ... راحا تسلّ شبابي من يد الهرم ما زلت أشربها حتى نظرت الى ... غزالة الصبح ترعى رجس الظلم فالصبح من لوازم الغزالة الشمسية والرعي من لوازم الغزالة الوحشية. ب- المجردة التي لم يذكر معها لازم من لوازم المورّى به ولا لازم من لوازم المورّى عنه كقول بعضهم في سنة كان فيها شهر كانون معتدلا فأزهرت الأرض: كأن نيسان أهدى من ملابسه ... لشهر كانون أنواعا من الحلل أو الغزالة من طول المدى خرفت ... فما تفرق بين الجدي والحمل فالتورية هنا مجردة إذ لم يذكر الشاعر شيئا من لوازم المورى به أو لوازم المورى عنه. 2- التورية المرشحة: وهي التي ذكر فيها لازم من لوازم المورى به كقول القائل: يا سيدا حاز لطفا ... له البرايا عبيد أنت الحسين ولكن ... جفاك فينا يزيد فإن ذكر الحسين لازم لكون يزيد اسما علما بعد احتماله للفعل المضارع الذي هو معناه المقصود المورّى عنه ولابن خطيب داريا في حمص: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 مدينة حمص كعبة الحسن أصبحت ... يطوف بها دان ويسعى بها قاصي له حلة من نبتها سندسية ... تعلق في أذيال أستارها العاصي فإن ذكر التعلق بأذيال الكعبة هنا على سبيل الاستعارة ترشيح للعاصي من العصيان كما سبق، وقد رد بعضهم على ابن خطيب داريا فقال: مدينة حمص لم تكن قط كعبة ... يطوف بها دان ويسعى بها قاصي ولكنها للهو والقصف حانة ... ألم تنظروها كيف جاورها العاصي 3- التورية المبينة: هي التي ذكر فيها لازم من لوازم المورى عنه ومن أمثلتها ما يحكى أن نقيب الأشراف ببغداد كان يهوى غلاما اسمه صدقة أخذه ابن المنير الطرابلسي يوما وأضافه وجلسوا في طبقة وإذا بالشريف أتى إليهم مستخفيا وقال لهم: يا من هم في الطبقة ... هل عندكم من شفقة؟ قد جاءكم متيّم ... يطلب منكم «صدقه» فأجابه ابن المنير في الحال: يا من أتانا سرقه ... بمهجة محترقة جدّك يا ذا لم يجز ... أخذك منا «صدقه» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 فخجل وذهب عنهما والشاهد في قول الشريف «متيم» يرشح المعنى المورى عنه في صدقة وهو اسم محبوبه والمعنى الثاني ظاهر وهو الصلة للفقراء. 4- التورية المهيئة: وهي التي لا يتهيأ معها في الكلام تورية إلا باللفظ قبله أو الذي بعده كقول الدماميني: يا عذولي في مغن مطرب ... حرّك الأوتار لما سفرا لم تهز العطف منه طربا ... عند ما تسمع منه وترا فإن لفظة تسمع هيأت قوله «وترا» للتورية بالرؤية وهو المعنى البعيد وأما المعنى القريب فأحد الأوتار للطنبور. الفوائد: (الآن) ظرف زمان للوقت الذي أنت فيه مبني على الفتح ويجوز أن يدخله من حروف الجر من والى وحتى ومذ ومنذ مبنيا معهن على الفتح ويكون في موضع الجر. [سورة يونس (10) : الآيات 93 الى 97] وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 اللغة: (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) اسم مكان أي مكان صدق والمعنى وأنزلناهم منزلا محمودا ويجوز أن يكون مصدرا. (الامتراء) طلب الشك مع ظهور الدليل وهو من مرى الضرع وهو مسحه ليدرّ. الإعراب: (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان النعم التي أفاضها الله على بني إسرائيل بعد انجائهم واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وبوأنا فعل وفاعل وبني إسرائيل مفعول به ومبوأ صدق مفعول به ثان لبوأ أو مفعول مطلق إن كانت مبوأ مصدرا (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) ورزقناهم عطف على بوأنا وهو فعل وفاعل ومفعول به ومن الطيبات متعلقان برزقناهم، فما: الفاء عاطفة وما نافية واختلفوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 فعل وفاعل وحتى حرف غاية وجر وجاءهم العلم فعل ومفعول به وفاعل والمراد بالاختلاف ما تعاورهم من شكوك بعد مجيء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وتضافر معجزاته (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) إن واسمها وجملة يقضي خبرها وبينهم متعلقان بيقضي ويوم القيامة ظرف متعلق بيقضي أيضا وفيما متعلقان بمحذوف حال أي فاصلا فيما، وجملة كانوا صلة ما وكان والواو اسمها وفيه متعلقان بيختلفون وجملة يختلفون خبر كانوا (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) الفاء استئنافية وإن شرطية وكنت كان واسمها والفعل في محل جزم فعل الشرط وفي شك خبرها ومما متعلقان بمحذوف صفة لشك وجملة أنزلنا إليك صلة ما (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) الفاء رابطة واسأل فعل أمر وفاعله أنت والذين مفعول به وجملة يقرءون الكتاب صلة ومن قبلك حال (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) اللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وجاءك الحق فعل ومفعول به وفاعل ومن ربك متعلقان بجاءك والفاء عاطفة ولا ناهية وتكونن مجزوم بلا محلا لأنه مبني واسمها مستتر تقديره أنت ومن الممترين خبرها (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ) تقدم اعرابها (فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) الفاء سببية وتكون مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية ومن الخاسرين خبرها وسيأتي في باب الفوائد ما قاله العلماء في هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) إن واسمها وجملة حقت صلة وعليهم متعلقان بحقت وكلمة فاعل وربك مضاف لكلمة وجملة لا يؤمنون خبر إن (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) الواو حالية ولو شرطية وجاءتهم كل آية فاعل وحتى غاية النفي ويروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والواو فاعل والعذاب مفعول به والرؤية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 عينية ولذلك نصبت مفعولا واحدا فقط والأليم صفة وجواب لو محذوف أي فلا ينفعهم ايمانهم حينئذ كما لم ينفع فرعون. الفوائد: قال الزجاج: إن هذه الآية قد كثر سؤال الناس عنها وخوضهم فيها وفي السورة ما يدل على بيانها فان الله سبحانه يخاطب النبي وذلك الخطاب شامل للخلق فالمعنى فان كنتم في شك فاسألوا، والدليل عليه قوله في آخر السورة: «يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم» الآية فأعلم الله سبحانه أن نبيه ليس في شك ومثل هذه قوله «يا أيها النبي إذا طلقتم النساء» فقال طلقتم والخطاب للنبي (صلى الله عليه وسلم) وحده قال أبو عمرو ومحمد بن عبد الواحد الزاهد: سمعت الإمامين ثعلبا والمبرد يقولان: معنى فإن كنت في شك أي قل يا محمد للكافر فإن كنت في شك. وقال الفراء: إن الخطاب لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وان لم يشك وعلم الله أنه غير شاك ولكن الكلام خرج مخرج التقرير والإفهام كما يقول الابن لأبيه، إن كنت والدي فتعطف علي أو لولده إن كنت ابني فأطعني يريد بذلك المبالغة وربما خرجوا في المبالغة الى ما يستحيل كقولهم: بكت السماء لموت فلان أي لو كانت السماء تبكي على ميت لبكت عليه وكذلك يكون هاهنا المعنى لو كنت ممن يشك فشككت فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك. وقال الزمخشري: إن أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 فأراد أن يؤكد علمهم بصحة القرآن وحجة نبوة محمد عليه السلام ويبالغ في ذلك فقال: فإن وقع لك شك فرضا وتقديرا- وسبيل من خالجته شبهة في الدين أن يسارع الى حلها واماطتها اما بالرجوع الى قوانين الدين وأدلّته وإما بمقادحة العلماء المنبّهين إلى الحق- فسل علماء أهل الكتاب. وقال أبو حيان: «والذي أقوله: أنّ إن الشرطية تقتضي تعليق شيء على شيء ولا تستلزم تحتيم وقوعه وإمكانه بل قد يكون ذلك في المستحيل عقلا كقوله تعالى: «قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين» ومستحيل أن يكون له ولد فكذلك هذا مستحيل أن يكون في شك وفي المستحيل عادة كقوله: «فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية» أي فافعل، لكن وقوع «إن» للتعليق على المستحيل قليل وهذه الآية من ذلك ولما خفي هذا الوجه على أكثر الناس اختلفوا في تخريج هذه الآية» . [سورة يونس (10) : الآيات 98 الى 100] فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 الإعراب: (فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ) الفاء استئنافية ولولا تحضيضيّة وهذا التحضيض فيه معنى التوبيخ والنفي وقد تقدمت الاشارة الى حروف التحضيض، وكانت قرية فعل وفاعل لأن كان هنا تامة وجملة آمنت صفة لقرية (فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) الفاء عاطفة ونفعها معطوف على الصفة عطف المسبب على السبب وإيمانها فاعل نفعها والجملة قد تقوم مقام الصفة للنكرة وإلا قوم يونس استثناء متصل واقع على المعنى لا على ظاهر اللفظ فكأنه قال: هلّا آمن أهل قرية والجميع مشتركون في العقاب وقوم يونس مستثنى من الجميع ومثل هذا الاستثناء قوله تعالى: «فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم» وقال الزجاج إلا قوم يونس استثناء منقطع وتقديره لكن قوم يونس لما آمنوا ومثله قول النابغة: وقفت فيها أصيلا كي اسائلها ... عيّت جوابا وما بالربع من أحد إلا الأواري لأيا ما أبيّنها ... والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد ويونس مضاف اليه ممنوع من الصّرف للعلمية والعجمية (لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) لما حينية أو رابطة وآمنوا فعل وفاعل وجملة كشفنا لا محل لها وعنهم متعلقان بكشفنا وعذاب الخزي مفعول به وفي الحياة متعلقان بمحذوف حال والدنيا صفة ومتعناهم عطف على كشفنا وإلى حين متعلقان بمتعناهم (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) الواو استئنافية ولو شرطية وشاء ربك فعل وفاعل لآمن وللام واقعة في جواب لو وجملة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 آمن لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومن فاعل آمن وفي الأرض صلة من وكلهم توكيد لمن وجميعا نصب على الحال من «من» (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) الهمزة للاستفهام والفاء عاطفة وأنت مبتدأ والجملة بعده خبر وقد مر معنا أن الهمزة مقدمة على العاطف أو ثم جملة محذوفة، وحتى حرف تعليل وجر ويكونوا منصوب بأن مضمرة بعد حتى ومؤمنين خبر يكونوا (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) الواو عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولنفس خبرها المقدم وأن المصدرية وما في حيزّها اسمها المؤخر وإلا أداة حصر وبإذن الله متعلقان بتؤمن (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) ويجعل معطوفة على مقدر كأنه قيل فيأذن لبعضهم في الايمان ويجعل، ويجعل مضارع والرجس مفعوله وعلى الذين متعلقان بيجعل وجملة لا يعقلون صلة. [سورة يونس (10) : الآيات 101 الى 103] قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 اللغة: (النظر) : طلب الشيء من جهة الفكر كما يطلب إدراكه بالعين والمعنى تأملوا تأمل اعتبار. (النُّذُرُ) : جمع نذير وهو صاحب النذارة. الإعراب: (قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قل فعل أمر وجملة انظروا مقول القول وماذا يحتمل أن تكون ما استفهامية مبتدأ وذا اسم موصول خبر وتكون الجملة في محل نصب لتعليق العامل وهو انظروا عنها بالاستفهام ويحتمل أن تكون ماذا بتمامها استفهاما في محل رفع مبتدأ وفي السموات خبره وعلى الأول يكون الجار والمجرور متعلقين بمحذوف هو الصلة للموصول أي ما الذي استقر في السموات والأرض. (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) هذه الجملة إما حالية من الواو في انظروا كأنه قيل انظروا والحال أن النظر لا ينفعكم، وإما معترضة وما نافية أو استفهامية في محل نصب على أنها مفعول مطلق لتغني أي: أي غناء تغني، والآيات فاعل والنذر عطف على الآيات وعن قوم جار ومجرور متعلقان بتغني وجملة لا يؤمنون صفة لقوم. (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) الفاء استئنافية وهل حرف استفهام وينتظرون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وإلا أداة حصر ومثل مفعول ينتظرون وأيام مضاف اليه والذين مضاف لأيام وجملة خلوا صلة ومن قبلهم متعلقان بخلوا أو بمحذوف حال. (قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) قل فعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 أمر والفاء الفصيحة وانتظروا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وإن واسمها ومن المنتظرين خبرها والظرف متعلق بمحذوف حال. (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) ثم حرف عطف للترتيب والتراخي وننجي فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن والجملة عطف على كلام محذوف تقديره نهلك الأمم ثم ننحي رسلنا على حكاية الأحوال الماضية ورسلنا مفعول به والذين عطف على رسلنا وجملة آمنوا صلة. (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) الكاف في محل نصب صفة لمصدر محذوف أي إنجاء مثل ذلك الانجاء فهي مفعول مطلق والعامل فيه ننجي المؤمنين ولك أن تجعل الكاف في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف وقدّروه بقولهم الأمر كذلك، وحقا نصب على المصدر أي يحق حقا ويجوز أن يعرب نصبا على الحال وإن كان لفظه لفظ المصدر وأورد جامع العلوم الضرير النحوي وجها طريفا وهو أن ينصب على البدلية من كذلك وعلينا متعلقان بحقا وننجي فعل مضارع والمؤمنين مفعول به. البلاغة: التشبيه التمثيلي في قوله كذلك ننجي إلخ فقد شبه نجاة من بقي من المؤمنين بنجاة من مضى في أنه واجب لهم وحق على الله. ووجه الشبه استحقاق كل منهم بالنجاة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 [سورة يونس (10) : الآيات 104 الى 109] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) الإعراب: (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) قل فعل أمر ويا أيها الناس تقدم إعرابها كثيرا وإن شرطية وكنتم فعل الشرط وهي كان واسمها وفي شك خبرها ومن ديني صفة لشك. (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) الفاء رابطة لجواب الشرط ولا نافية وأعبد فعل مضارع فاعله أنا والذين مفعول أعبد وجملة تعبدون صلة ومن دون الله حال. (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) الواو عاطفة ولكن حرف استدراك لا عمل لها وأعبد فعل مضارع وفاعله أنا ولفظ الجلالة مفعوله والذي صفة وجملة يتوفاكم صلة. (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 الواو عاطفة وأمرت فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل وأن وما في حيزها في موضع نصب بنزع الخافض أي بأن أكون والجار والمجرور متعلقان بأمرت واسم أكون مستتر تقديره أنا ومن المؤمنين خبر أكون. (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) الواو عاطفة وأن وما في حيزها عطف على ما قبلها كأنه قيل: وقيل لي وأقم، ولكن يشكل اعراب المصدر لأن عطفه على أن أكون فيه إشكال لامتناع عطف الإنشاء على الخبر ولكن سيبويه سوغ أن توصل أن بالأمر والنهي وشبه ذلك بقولهم أنت الذي تفعل على الخطاب لأن الغرض وصلها بما تكون معه بمعنى المصدر، والأمر والنهي دالان على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال. وقد لخص البيضاوي ما أفاض فيه سيبويه قال: «وان أقم عطف على أن أكون غير أن صلة أن محكية بصيغة الأمر ولا ضير في ذلك لأن مناط جواز وصلها بصيغ كل الأفعال دلالتها على المصدر وذلك لا يختلف بالخبرية والطلبية ووجوب كون الصلة خبرية في الموصول الاسمي إنما هو للتوصل الى وصف المعارف بالجمل وهي لا توصف إلا بالجمل الخبرية وليس الموصول الحر في كذلك» وهو تلخيص لما قاله الزمخشري أيضا وجرى عليه أبو السعود أما غيرهما فاختار أن «أن» المصدرية وما في حيزها في محل رفع بفعل مقدر أي: وقيل لي، ولا نرى هذا الرأي. أما السمين شهاب الدين الحلبي فقال ما نصه: «قوله وأن أقم يجوز أن يكون على إضمار فعل أي وأوحي إليّ أن أقم ثم لك في أن وجهان أحدهما أن تكون تفسيرية لتلك الجملة المقدّرة وفيه نظر لأن المفسر لا يجوز حذفه والثاني أن تكون مصدرية فتكون هي وما في حيزها في محل رفع بذلك الفعل المقدر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 وأقم فعل أمر ووجهك مفعول به وللدين متعلقان بأقم وحنيفا حال من الدين أو من الوجه. (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتكونن فعل مضارع مبني لاتصاله بنون التوكيد في محل جزم بلا واسم تكونن مستتر تقديره أنت ومن المشركين خبرها. (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتدع مضارع مجزوم بلا والفاعل أنت ومن دون الله حال وما موصول مفعول به وجملة لا ينفعك صلة وجملة ولا يضرك عطف على لا ينفعك. (فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) الفاء عاطفة وان شرطية وفعلت في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة وان واسمها واذن حرف جواب وجزاء مهمل ومن الظالمين خبر إن. (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) الواو عاطفة وان شرطية ويمسسك فعل الشرط والكاف مفعول به والله فاعل وبضر جار ومجرور متعلقان بيمسسك والفاء رابطة ولا نافية للجنس وكاشف اسمها مبني على الفتح وله متعلقان بكاشف والخبر محذوف ويجوز أن يكون له هو الخبر أي كائن له وإلا أداة حصر وهو بدل من الخبر المحذوف على ما تقدم في «لا إله إلا الله» . (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) الواو عاطفة وان شرطية ويردك فعل الشرط مجزوم والكاف مفعول به وبخير متعلقان بيردك والفاء رابطة ولا نافية للجنس وراد اسمها ولفضله متعلقان براد والخبر محذوف ويجوز أن يكون الجار والمجرور هو الخبر كما تقدم. (يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) جملة يصيب استئنافية والفاعل هو وبه جار ومجرور متعلقان بيصيب ومن مفعول يصيب وجملة يشاء صلة ومن عباده حال، وهو الواو استئنافية وهو مبتدأ والغفور خبر أول والرحيم خبر ثان. (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) قد جاءكم الحق فعل ومفعول به وفاعل ومن ربكم متعلقان بجاءكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) الفاء الفصيحة ومن شرطية أو موصولية مبتدأ واهتدى فعل الشرط والجملة صلة الموصول والفاء رابطة وانما كافة ومكفوفة ويهتدي فعل مضارع والفاعل هو ولنفسه متعلقان بيهتدي. (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) تقدم اعراب مماثلتها. (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) الواو استئنافية وما نافية حجازية وأنا اسمها وعليكم متعلقان بوكيل ووكيل خبر ما الحجازية محلا. (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) الواو استئنافية لاستبعاد عطف الإنشاء على الخبر واتبع فعل أمر وفاعله أنت وما مفعول به وجملة يوحى صلة وإليك متعلقان بيوحى. (وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) واصبر فعل أمر معطوف على اتبع وحتى حرف غاية وجر ويحكم الله منصوب بأن مضمرة بعد حتى والله فاعله وهو الواو استئنافية وهو مبتدأ وخير الحاكمين خبره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 (11) سورة هود مكية وآياتها ثلاث وعشرون ومائه [سورة هود (11) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) اللغة: (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) : نظمت نظما رصينا محكما لا يعتوره نقض ولا خلل كأنه البناء المحكم المرصف ويجوز أن يكون نقلا بالهمزة من حكم بضم الكاف أي صار حكيما وقيل معناه منعت من الفساد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 من قولهم أحكمت الدابة إذا وضعت فيها الحكمة لتمنعها من الجماع قال جرير: أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ... إني أخاف عليكم أن أغضبا وقد تقدم بحث مسهب عن الحكمة في القرآن وسيرد المزيد منها أيضا. الإعراب: (الر، كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) الر تقدم القول فيها وكتاب خبر مبتدأ محذوف أي هذا كتاب وجملة أحكمت آياته صفة لكتاب وآياته نائب فاعل. (ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وفصت فعل ماض مبني للمجهول ومن حرف جر ولدن ظرف مبني على السكون في محل جر وهما متعلقان بفصلت أو بمحذوف صفة لكتاب وهذا أولى لأنه وصف أولا بإحكام آياته وتفصيلها الدالين على علو رتبته من حيث الذات ثم وصف بهذه الصفة الدالة على علو شأنه من حيث الاضافة، وحكيم مضاف الى لدن وخبير صفة لحكيم. (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) يجوز أن تكون أن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولا ناهية وتعبدوا مجزوم بلا والجملة خبر أن المخففة، ويجوز أن تكون أن حرفا مصدريا ناصبا ولا نافية والفعل بعدها منصوب بأن وأن وما في حيزها مفعول لأجله بتقدير اللام على معنى لئلا تعبدوا ويجوز أن تكون تفسيرية لأن في تفصيل الآيات معنى القول كأنه قيل: قال لا تعبدوا إلا الله أو أمركم أن لا تعبدوا إلا الله ولعل هذا أسهل من الوجهين السابقين وإن كانت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 الأوجه الثلاثة متساوية في الرجحان، وإلا أداة حصر ولفظ الجلالة مفعول به وإن واسمها ونون الوقاية بينهما ولكم جار ومجرور متعلقان بنذير وبشير ومنه حال ونذير خبر إن وبشير عطف على نذير. (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) الواو عاطفة وأن معطوفة على أن الأولى عطف علة على أخرى وتجري مجراها في الاعراب وربكم مفعول استغفروا ثم حرف عطف وتوبوا عطف على أن استغفروا فهو علة ثالثة وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون «وأن استغفروا» وما بعده كلاما مبتدأ منقطعا عما قبله على لسان النبي صلى الله عليه وسلم إغراء منه على اختصاص الله بالعبادة ويدل عليه قوله: إنني لكم منه نذير وبشير. (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) يمتعكم فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب وهو قوله إن استغفروا ربكم والكاف مفعول به ومتاعا مفعول مطلق وحسنا صفة والى أجل متعلقان بيمتعكم ومسمى صفة لأجل. (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) الواو عاطفة ويوت عطف على يمتعكم مجزوم مثله وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاعل هو أي الله وكل مفعول به أول وذي فضل مضاف اليه وفضله مفعول به ثان. (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) الواو عاطفة وإن شرطية وتولوا فعل مضارع أصله تتولوا مجزوم لأنه فعل الشرط والواو فاعل والفاء رابطة وان واسمها وجملة أخاف عليكم خبر إن وجملة فإني أخاف عليكم في محل جزم جواب الشرط وعذاب مفعول به ويوم مضاف اليه وكبير صفة ليوم ويوم القيامة وصف بالكبر كما وصف بالعظم والثقل. (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الى الله خبر مقدم ومرجعكم مبتدأ مؤخر وهو مبتدأ وعلى كل شيء جار ومجرور متعلقان بقدير وقدير خبر هو. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 [سورة هود (11) : الآيات 5 الى 8] أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) اللغة: (يَثْنُونَ) : الثني: العطف تقول ثنيته عن كذا أي عطفته ومنه الاثنان لعطف أحدهما على الآخر في المعنى ومنه الثناء لعطف المناقب في المدح ومنه الاستثناء لأنه عطف عليه بالإخراج منه، وأصل يثنون يثنيون لأنه من باب يرمي فالمصدر الثني نقلت ضمة الياء الى النون قبلها ثم حذفت لالتقاء الساكنين فوزنه يعفون لأن الياء المحذوفة هي لام الكلمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 وقال الزمخشري: يثنون عنه: يزورون عن الحق وينحرفون عنه لأن من أقبل على الشيء استقبله بصدره ومن ازورّ عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه. (لِيَسْتَخْفُوا) : الاستخفاء: طلب خفاء الشيء قال استخفى وتخفّى. (يَسْتَغْشُونَ) : يطلبون الغطاء قالت الخنساء. أرعى النجوم وما كلفت رعيتها ... وتارة أتغشّى فضل اطماري وفي القاموس: واستغشى ثوبه تغطّى به كيلا يسمع ولا يرى. (الدابة) : الحي الذي من شأنه أن يدب، وقد صار في العرف مختصا بنوع من الحيوان، وفي المصباح: دب الصغير يدّب من باب ضرب، إذا مشى ودب الجيش دبيبا سار سيرا لينا، وكل حيوان في الأرض دابة. الإعراب: (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) ألا أداة استفتاح وتنبيه وإن واسمها وجملة يثنون صدورهم خبرها واللام للتعليل ويستخفوا مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام. (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) ألا تأكيد للتنبيه وحين ظرف والعامل فيه مقدر وهو يستخفون ويجوز أن يكون ظرفا ليعلم أي ألا يعلم سرهم وعلنهم حين يفعلون كذا وجملة يستغشون مضافة للظرف وثيابهم منصوب بنزع الخافض ويعلم فعل مضارع وفاعله هو الله وما مفعول به وجملة يسرون صلة وما يعلنون عطف عليه. (إِنَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) إن واسمها وخبرها وبذات الصدور متعلقان بعليم. (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان كونه تعالى محيطا بجميع الكائنات عالما بكل ما هب ودب، وما نافية ومن زائدة ودابة مبتدأ محلا مجرور بمن لفظا وإلا أداة حصر وعلى الله خبر مقدم ورزقها مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر دابة. (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) الواو حرف عطف ويعلم فعل مضارع وفاعله هو ومستقرها مفعول يعلم ومستودعها عطف على مستقرها وهما اسما مكان أي يعلم مواضع استقرارها ومساكنها ومواطن استيداعها من صلب أو رحم أو بيضة. (كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) كل مبتدأ وساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم أي كل واحد من الدواب وستأتي أحكام «كل» في باب الفوائد، وفي كتاب خبر ومبين صفة. (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) الواو عاطفة وهو مبتدا والذي خبر وجملة خلق السموات والأرض صلة وفي ستة أيام متلقان بخلق. (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) كان واسمها وعلى الماء خبرها وفي الصورة تجسيد للاحاطة. (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) اللام للتعليل ويبلوكم مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ولام التعليل الجارة ومدخولها متعلقان بخلق وأيكم مبتدأ وأحسن خبر وعملا تمييز والجملة في محل نصب معمولة ليبلوكم وعلق عنها بأي الاستفهامية، وقد أحسن الزمخشري في تقريره إذ قال: «فإن قلت كيف جاز تعليق فعل البلوى؟ قلت لما في الاختبار من معنى العلم لأنه طريق اليه فهو ملابس له كما تقول انظر أيهم أحسن وجها واستمع أيهم أحسن صوتا لأن النظر والاستماع من طرق العلم. (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم ولا يجوز أن تكون للابتداء لأنها دخلت على إن التي هي للجزاء ولام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 الابتداء من خصائص الاسم أو ما يضارع الاسم وإن حرف شرط جازم وقلت فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وإن واسمها ومبعوثون خبرها ومن بعد الموت متعلقان بمبعوثون. (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) اللام جواب القسم وجواب الجزاء مستغنى عنه بجواب القسم لأنه إذا جاء في صدر الكلام غلب عليه وقد تقدم ذلك، ويقولن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم كما تقدم وإن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وسحر خبر ومبين صفة وسيأتي بحث اللام وأقسامها في باب الفوائد. (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) لئن عطف على ما تقدم وقد تقدم إعراب لئن وعنهم متعلقان بأخرنا والعذاب مفعول به والى أمة متعلقان بأخرنا والمراد بالأمة الطائفة من الأزمنة وهي في الأصل للطائفة من الناس ومعدودة صفة الأمة. (لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) اللام جواب القسم ويقولن فعل مضارع مرفوع لأنه مفصول عن نون التوكيد بفاصل وهو واو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين والأصل ليقولوننّ حذفت إحدى النونات لتوالي الأمثال وحذفت الواو لالتقاء الساكنين والضمة على اللام دليل عليها وقد تقدم تحقيق ذلك وأعدناه للتذكير وما اسم استفهام مبتدأ وجملة يحبسه خبر والاستفهام للانكار والاستهزاء والسخرية حسب اعتقادهم. (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) ألا أداة استفهام وتنبيه وهي داخلة على ليس في المعنى ويوم يأتيهم نصب على الظرف وهو معمول لخبر ليس واسمها مستتر فيها يعود على العذاب ومصروفا خبر ليس وعنهم جار ومجرور متعلقان بمصروفا وستأتي الاشارة إلى جواز تقديم خبر ليس عليها في باب الفوائد . (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الواو عاطفة وجملة حاق عطف على جملة ليس فهو في حيز ألا وبهم متعلقان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 بحاق وما فاعل حاق وجملة كانوا صلة والواو اسم كان وبه متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون خبر كانوا. الفوائد: 1- (كُلٌّ) اسم موضوع لاستغراق أفراد المتعدد أو لعموم أجزاء الواحد ولا تستعمل إلا مضافة لفظا أو تقديرا وتقيد التكرار بدخول ما المصدرية الظرفيّة عليها نحو كلما أتاك أكرمه وقد تقدم في كلما عند قوله «كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا» وأنها منصوبة على الظرفية باتفاق وناصبها الفعل الذي هو جواب في المعنى والجملة بعدها لا محل لها لانها صلة موصول حرفي وتكون «كل» نعتا لنكرة أو معرفة فتدل على أنه كامل بلغ الغاية فيما تصفه به نحو هو العالم كل العالم وتكون توكيدا لمعرفة أو نكرة نحو «فسجد الملائكة كلهم» وأقمنا حولا كاملا كله ولفظة كل حكمها الافراد والتذكير ومعناها بحسب ما تضاف اليه فإن أضيف إلى مذكر وجب مراعاة معناها وجاء الضمير بعدها مفردا مذكرا «وكل شيء فعلوه في الزبر» أو مفردا مؤنثا نحو «كل نفس ذائقة الموت» أو مثنى كقول الفرزدق: وكل رفيقي كل رحل وإن هما ... تعاطى القنا قوما هما اخوان ولابن هشام تعسف وخبط في إعراب هذا البيت نكتفي بالاشارة إليه ليرجع اليه من شاء في مغني اللبيب. أو مجموعا مذكرا كقول لبيد: وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفر منها الأنامل أو مجموعا مؤنثا كقول الآخر: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 وكل مصيبات الزمان وجدتها ... سوى فرقة الأحباب هينة الخطب وإن أضيفت إلى معرفة جاز مراعاة لفظها ومراعاة معناها فيقال: كل القوم حضر وكل القوم حضروا وإن قطعت عن الاضافة لفظا فقيل تجوز مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى نحو كل حضر وكل حضروا وقيل إذا كان المقدر مفردا نكرة فيجب الإفراد وان كان جمعا معرفا فيجب الجمع، والتنوين في المنقطعة عن الإضافة لفظا عوض عن المضاف اليه والتقدير في المثال الأول كل أحد وفي الثاني كلهم وإن وقعت كل بعد النفي ثابتا لبعض الأفراد نحو ما جاء كل القوم وإن وقع النفي بعدها ثبت لكل فرد نحو كلهم لم يقوموا ولا تدخلها أل إلا إذا كانت عوضا عن المضاف اليه أو أريد لفظها كما يقال الكل لا حاطة الأفراد. 2- اللام: اللام على ثلاثة أقسام: عاملة للجر وعاملة للجزم وغير عاملة. وأقسامها: ا- اللام الجارة: تكون مكسورة مع الاسم الظاهر نحو لزيد إلا مع المستغاث المباشر ل «يا» فهي مفتوحة نحو يا لله وتكون مفتوحة مع الضمير إلا مع الياء فهي مكسورة نحو لك ولي. واللام الجارة قسمان: آ- اللام الداخلة على الاسم ولها معان كثيرة مذكورة في كتب النحو المطولة وأشهرها الاختصاص نحو «الجنة للمؤمن» والاستحقاق نحو «العزة لله» والملك نحو «لله ما في السموات وما في الأرض» والتبليغ نحو «قلت له» والتعدية نحو «ما أشد حب زيد لعمرو» والقسم نحو «لله لأفعلن هذا» أي والله والصيرورة نحو «ولد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 الإنسان لحياة أبدية» وتأتي أيضا بمعنى الى وعلى وعند وفي وبعد، وقد تكون زائدة نحو ضربت لزيد. ب- أما اللام الداخلة على الفعل فإن الفعل بعدها ينصب بأن المصدرية مضمرة وتكون أن وما في حيزها في تأويل مصدر مجرور باللام وهذه تكون أما للتعليل نحو «جئتك لتعلمني» وإما للصيرورة نحو «فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا» وأما لتوكيد النفي وهي المسبوقة بكون منفي وتسمى لام الجحود نحو ما كان زيد ليكذب. 2- اللام الجازمة: وهي لام الأمر وتسمى لام الطلب وتكون مكسورة نحو «لينفق ذو سعة من سعته» وقد تفتح، وإسكانها بعد الفاء والواو أكثر من تحريكها نحو «فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي» وقد تسكن بعد ثم نحو «ثم ليقض» . 3- غير العاملة: وتكون مفتوحة أبدا وهي: آ- لام الابتداء نحو «لزيد قائم» و «إن زيدا لقائم» وتسمى بعد إن: اللام المزحلقة. ب- لام الجواب بعد لو ولولا والقسم نحو «لو عدتم لعدنا» و «لولا زيد لهلكنا» و «والله لزيد كريم» . ج- اللام الزائدة كما في قوله «أراك لشاتمي» . د- لام البعد اللاحقة لأسماء الاشارة وأصلها السكون كما في تلك وإنما كسرت مع ذلك لالتقاء الساكنين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 3- ليس واسمها وخبرها: تختص ليس من بين أخوات كان بأمور: 1- ليس فعل لا يتصرف بحال لأنها وضعت موضع الحرف في أنها لا يفهم معناها إلا مع متعلقها. 2- لا يجوز أن يتقدم خبرها عليها عند جمهور النحاة وأجازه بعضهم من قدماء البصريين والفراء وابن برهان والزمخشري من المتأخرين بقوله تعالى «ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم» وتقرير الحجة منه أن يوم يأتيهم معمول لمصروفا وقد تقدم على ليس وتقديم المعمول لا يصح إلا حيث يصح تقديم عامله فلولا أن الخبر وهو مصروفا يجوز تقديمه على ليس لما جاز تقديم معموله عليها وأجيب بأن المعمول ظرف فيتسع فيه ما لا يتسع في غيره أو بأن يوم معمول المحذوف تقديره يعرفون يوم يأتيهم، وليس مصروفا جملة حالية مؤكدة أو مستأنفة وقال أبو حيان «وقد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر ليس عليها ولا بتقديم معموله إلا ما دل عليه ظاهر الآية» . 4- تعقيب لابن هشام على الزمخشري في تعليقه على قوله تعالى: «ليبلوكم أيكم أحسن عملا» وقد اضطرب كلام الزمخشري ثم أورد ما نقلناه عنه وقال: «ولم أقف على تعليق النظر البصري والاستماع إلا من جهته» . وذكر الرضي أن أفعال الحواس تعلق لأنها طرق للعلم وقال عبد القادر البغدادي في شرح شواهده على الكافية: إن كتاب الرضي لم ينقل للقاهرة إلا بعد موت ابن هشام فكذلك قال ولم أقف إلخ ... الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 [سورة هود (11) : الآيات 9 الى 11] وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) الإعراب: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) تقدم القول في لئن وأذقنا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ونا فاعل والإنسان مفعول به ومنّا حال لأنه كان في الأصل صفة لرحمة وتقدمت عليها ورحمة مفعول به ثان. (ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) ثم حرف عطف للترتيب والتراخي ونزعناها فعل وفاعل ومفعول به ومنه جار ومجرور متعلقان بنزعناها وان واسمها واللام المزحلقة ويئوس خبر إن وكفور خبر ثان لإن. (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) تقدم اعراب مثيلتها وبعد ظرف متعلق بمحذوف صفة لنعماء وضراء مضاف اليه ومنع من الصرف لانتهائه بألف التأنيث الممدودة وجملة مسته صفة. (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) اللام جواب القسم وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم ويقولن فعل مضارع مبني على الفتح وجملة ذهب السيئات مقول القول وعني متعلقان بذهب. (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) إن واسمها واللام المزحلقة وفرح خبر أول وفخور خبر ثان لإن. (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) إلا أداة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 استثناء والذين مستثنى من الإنسان لأن اللام فيه للجنس فهو متصل ويجوز أن يكون استثناء منقطعا إذ المراد شخص معين وعلى كل حال هو في محل نصب وجملة صبروا صلة وعملوا الصالحات معطوفة، وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم ومغفرة مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر أولئك. البلاغة: 1- في الاذاقة استعارة مكنية لأنه في الأصل تناول الشيء بالفم لإدراك الطعام ثم استعير للذات تشبيها لها بما يذاق ثم يزول بسرعة كما تزول الطعوم. 2- بين النعماء والضراء طباق وجميع هذه الأبحاث تقدم البحث فيها. الفوائد: السراء والنعماء والضراء قيل انها مصادر بمعنى المسرة والنعمة والمضرة والصواب انها أسماء للمصادر وليست أنفسها فالسراء الرخاء والنعماء النعمة والضراء الشدة فهي أسماء لهذه المعاني فإذا قلنا إنها مصادر كانت عبارة عن نفس الفعل الذي هو المعنى وإذا كانت أسماء لها كانت عبارة عن المحصّل لهذه المعاني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 [سورة هود (11) : الآيات 12 الى 14] فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) اللغة: (ضائِقٌ) : اسم فاعل من ضاق وهو أولى بالآية من ضيق لوجهين أحدهما انه عارض وليس على جهة الثبوت وثانيهما أنه أشبه بتارك. الإعراب: (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) الفاء استئنافية. ولعل على بابها من الترجي بالنسبة للمخاطب وقيل هي للاستفهام الانكاري كقوله صلى الله عليه وسلم لعلنا أعجلناك وسيأتي القول في لعل في باب الفوائد، والكاف اسمها وتارك خبرها وبعض مفعول به لتارك وما اسم موصول مضاف لبعض وجملة يوحى صلة وإليك متعلقان بيوحى أو بمحذوف حال وضائق عطف على تارك وبه متعلقان بضائق وصدرك فاعل لضائق ويجوز أن يكون ضائق خبرا مقدما وصدرك مبتدأ مؤخرا والجملة خبر ثان للعلك فيكون قد أخبر بخبرين أحدهما مفرد والثاني جملة عطفت على مفرد لأنها بمعناه. (أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) أن وما في حيزها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 مصدر في موضع نصب مفعول من أجله أي مخافة قولهم وأعربه بعضهم بدلا من الهاء في قوله وضائق به صدرك وليس ببعيد ولولا تحضيضية وأنزل فعل ماض مبني للمجهول وعليه جار ومجرور متعلقان به وكنز نائب فاعل، أو حرف عطف وجاء فعل ماض ومعه ظرف متعلق بجاء وملك فاعل. (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) إنما كافة ومكفوفة وأنت مبتدأ ونذير خبره والله مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بوكيل ووكيل خبر الله. (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أم منقطعة بمعنى بل ويقولون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون وجملة افتراه مقول القول وهو تقرير في صورة الاستفهام والتقدير بل أيقولون افتراه. (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) الفاء الفصيحة وأتوا فعل أمر وفاعل وبعشر متعلقان به وسور مضاف اليه ومثله صفة، ومثل وان كانت بلفظ الافراد فانها يوصف بها المثنى والمجموع والمؤنث كقوله تعالى «أنؤمن لبشرين مثلنا» وتجوز المطابقة، قال تعالى: «وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون» . (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وادعوا عطف على فأتوا والواو فاعل ومن مفعول به وجملة استطعتم صلة ومن دون الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وإن شرطية وكنتم كان واسمها وهو فعل الشرط وصادقين خبر كنتم وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فأتوا وادعوا. (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ) الفاء عاطفة وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم ويستجيبوا مجزوم بلم وهو فعل الشرط والواو فاعل والضمير يعود على من استطعتم ولكم متعلقان بيستجيبوا والفاء رابطة واعلموا فعل أمر وفاعل وأنما كافة ومكفوفة وقد سدت مع مدخولها مسد مفعولي اعلموا وأنزل فعل ماض مبني للمجهول وبعلم الله حال أي متلبسا بعلم الله فالباء للملابسة. (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) وأن الواو عاطفة وأن مخففة من الثقيلة وهي منسوقة على أن قبلها ولا إله إلا هو تقدم إعرابه مستوفى والفاء عاطفة وهل حرف استفهام وأنتم مبتدأ ومسلمون خبر. الفوائد: (لعل) هي للتوقع وعبر عنه قوم بالترجي في الشيء المحبوب نحو لعل الحبيب قادم وقوله تعالى «لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا» والإشفاق في الشيء المكروه نحو «فلعلك باخع نفسك» أي قاتل نفسك والمعنى أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على ما فاتك من اسلام قومك فتوقع المحبوب يسمى ترجيا وتوقع المكروه يسمى إشفاقا وقال الأخفش والكسائي: وتأتي لعل للتعليل نحو «افرغ من عملك لعلنا نتغدى» ومنه قوله تعالى: «لعله يتذكر» أي ليتذكر وقال الكوفيون تأتي لعل للاستفهام، قال في المغني ولهذا علق به الفعل نحو «لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا» وقوله تعالى «وما يدريك لعله يزكى» وبعض العرب يجرون بها ويستشهدون على ذلك بقوله: فقلت ادع أخرى وارفع الصوت جهرة ... لعل أبي المغوار منك قريب إذا عرفت ما قرره النحاة فأي من معاني لعل ينطبق على الآية التي نحن بصددها؟ إذا كانت للتوقع فتوقع ترك التبليغ لا يليق بمقام النبوة وأجابوا عن هذا الاعتراض بأننا لا نسلم أن لعل على بابها من الترجي بل هي هنا للتبعيد فانها تستعمل لذلك أيضا وجواب آخر وهو أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 تكون هنا للاستفهام الانكاري كما تقدم والمعنى انك بلغ الجهد في تبليغهم انهم يتوقعون منك ترك التبليغ لبعضه وهو جميل جدا. [سورة هود (11) : الآيات 15 الى 16] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) اللغة: (وَزِينَتَها) الزينة تحسين الشيء بغيره من لبسة أو حلية أو هيئة، يقال زانه يزينه زينة وزيّنه يزينه تزيينا. (نُوَفِّ) : التوفية تأدية الحق على التمام. (يُبْخَسُونَ) : البخس نقصان الحق وكل ظالم باخس وفي المثل «تحسبها حمقاء وهي باخس» . الإعراب: (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) من اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ واسم كان ضمير مستتر يعود على من وجملة يريد الحياة الدنيا خبر كان وكان فعل الشرط مجزوم محلا وزينتها عطف على الحياة ونوفّ جواب الشرط مجزوم بحذف حرف العلة وإليهم جار ومجرور متعلقان بنوفّ وأعمالهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 مفعول به وفيها متعلقان بمحذوف حال وهم الواو حالية وهم مبتدأ وفيها متعلقان بيبخسون وجملة لا يبخسون خبر هم، وقال الفراء: كان هنا زائدة وتقديره من يرد الحياة الدنيا، وهو قول جميل وضريف لولا أنه غير مطرد ولا يسوغ حمل القرآن عليه. (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) اسم الاشارة مبتدأ والذين خبره وجملة ليس صلة ولهم خبر مقدم لليس وفي الآخرة حال وإلا أداة حصر والنار اسم ليس المؤخر. (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) الواو عاطفة وحبط فعل ماض وما فاعله وجملة صنعوا صلة ويجوز أن تكون ما مصدرية وهي مع مدخولها في تأويل مصدر فاعل حبط، وفيها متعلقان بصنعوا أو بحبط وباطل الواو عاطفة وباطل خبر مقدم وما اسم موصول مبتدأ مؤخر ويجوز أن تكون ما مصدرية وهي مع مدخولها في تأويل مصدر مبتدأ مؤخر وكانوا كان واسمها وجملة يعملون خبرها. [سورة هود (11) : الآيات 17 الى 22] أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 اللغة: (البينة) : الحجة الفاصلة بين الحق والباطل. (مِرْيَةٍ) : المرية بالكسر والضم الشك ففيها لغتان أشهرهما الكسر وهي لغة أهل الحجاز والضم لغة بني أسد. (لا جَرَمَ) : قال السيوطي في الإتقان: «وردت في القرآن في خمسة مواضع متلوة بأن واسمها ولم يجىء بعدها فعل واختلف فيها فقيل لا نافية لما تقدم وقيل زائدة» . هذا وفي هذه اللفظة خلاف طويل بين النحاة ويتلخص ذلك الخلاف فيما يلي: الأول: ما ذهب اليه الخليل وسيبويه وهو انها مركبة من لا النافية وجرم، بنيتا على تركيبهما تركيب خمسة عشر وصار معناهما معنى فعل وهو حق فعلى هذا يرتفع ما بعدهما بالفاعلية فقوله تعالى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 «لا جرم أن لهم النار» أي حق وثبت كون النار لهم أو استقرارها لهم. الثاني: ان لا جرم بمنزلة لا رجل في كون لا نافية للجنس وجرم اسمها مبني على الفتح وهي واسمها في موضع رفع بالابتداء وما بعدهما خبر لا وصار معناها لا محالة ولا بد في أنهم في الآخرة أي في خسرانهم وهذا مذهب الفراء. الثالث: ان لا نافية لكلام متقدم تكلم به الكفرة فرد الله عليهم ذلك بقوله لا، كما ترد هذه قبل القسم في قوله «لا أقسم» ثم أتى بعدها بجملة فعلية وهي جرم أن لهم كذا وجرم فعل ماض معناه كسب وفاعله مستتر يعود على فعلهم المدلول عليه بسياق الكلام وأن وما في حيزها في موضع المفعول به لأن جرم يتعدى إذا كان بمعنى كسب وعلى هذا فالوقف على لا ثم يبتدأ بجرم بخلاف ما تقدم. الرابع: ان معناها لا حد ولا منع ويكون جرم بمعنى القطع تقول: جرمت أي قطعت فيكون جرم اسم لا مبنيا معها على الفتح كما نقدم وخبرها أن وما في حيزها على حذف حرف الجر أي لا منع من خسرانهم. وفي هذه اللفظة لغات: لا جرم بكسر الجيم ولا جرم بضمها ولا جر بحذف الميم ولا ذا جرم ولا ذو جرم وغير ذلك وعلى كل فإن هذا التعبير يستعمل في أمر يقطع عليه ولا يرتاب فيه. الإعراب: (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) الهمزة للاستفهام التقريري والفاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 استئنافية ومن موصولية مبتدأ خبره محذوف تقديره كغيره أو كمن ليس كذلك وجواب الاستفهام محذوف أيضا تقديره: لا يستويان وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر يعود على من وعلى بينة خبرها ومن ربه صفة لبينة. (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) الواو عاطفة ويتلوه شاهد فعل مضارع ومفعول به وفاعل ومنه صفة لشاهد. (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) الواو عاطفة أيضا ومن قبله حال من كتاب موسى المعطوف على شاهد عطف المفردات، هذا ما أعربه معظم المفسرين وأرى أن الحق مع البيضاوي الذي أعرب من قبله جارا ومجرورا متعلقين بمحذوف خبر مقدم وكتاب موسى مبتدأ مؤخرا ففي هذا الإعراب سلامة من المعاظلة الناشئة عن الفصل بين حرف العطف والمعطوف عليه وإماما حال من كتاب موسى ورحمة عطف على إماما. (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أولئك مبتدأ وجملة يؤمنون به خبر. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) الواو عاطفة ومن شرطية مبتدأ ويكفر فعل الشرط وبه متعلقان بيكفر ومن الأحزاب حال والفاء رابطة والنار مبتدأ وموعده خبر والجملة الاسمية جواب الشرط. وفي جعل النار موعدا إشعار بأن فيها ما لا يحيط به الوصف من أفانين العذاب، وقد تعلق حسان بأهداب هذا التعبير فقال: أوردتموها حياض الموت ضاحية ... فالنار موعدها والموت لا قيها (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) الفاء الفصيحة ولا ناهية وتك فعل مضارع مجزوم وعلامة جزمه السكون المقدرة على النون المحذوفة للتخفيف واسم تك مستتر تقديره أنت وفي مرية خبر ومنه صفة لمرية (إِنَّهُ الْحَقُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) إن واسمها والحق خبرها ومن ربك متعلقان بمحذوف حال والواو حالية ولكن واسمها والناس مضاف اليه وجملة لا يؤمنون خبر لكن. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لذكر أوصافهم الأربعة عشر والتي أولها افتراء الكذب وآخرها كونهم في الآخرة أخسر من غيرهم، ومن استفهامية مبتدأ والاستفهام هنا معناه النفي أي لا أحد أظلم وممن متعلقان بأظلم وجملة افترى صلة وعلى الله متعلقان بافترى وكذبا مفعول به. (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) أولئك مبتدأ وجملة يعرضون خبره والواو نائب فاعل وعلى ربهم متعلقان بيعرضون. (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) ويقول عطف على يعرضون والأشهاد فاعل وهؤلاء مبتدأ والذين خبره وجملة كذبوا على ربهم صلة الموصول وألا أداة تنبيه ولعنة الله مبتدأ وعلى الظالمين خبر. (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) الذين بدل من الظالمين وجملة يصدون صلة وعن سبيل الله متعلقان بيصدون ويبغونها عطف على يصدون وهو فعل وفاعل ومفعول وعوجا حال أي معوجة. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) الواو عاطفة وهم مبتدأ وبالآخرة متعلقان بكافرون وهم الثانية تأكيد لهم الأولى وكافرون خبر «هم» الأولى. (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أولئك مبتدأ وجملة لم يكونوا خبر ومعجزين خبر يكونوا وفي الأرض حال أي أنهم لا يخرجون عن قبضته على كل حال. (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ) الواو عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولهم خبر كان المقدم ومن دون الله حال ومن حرف جر زائد وأولياء اسم كان محلا. (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) يضاعف فعل مضارع مبني للمجهول ولهم متعلقان به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 والعذاب نائب فاعل والجملة مستأنفة، وما نافية وكانوا كان واسمها وجملة يستطيعون السمع خبر كان والسمع مفعول به وجملة ما كانوا يستطيعون السمع تعليل لمضاعفة العذاب وجملة وما كانوا يبصرون عطف على ما كانوا يستطيعون السمع وسيرد في باب البلاغة معنى هذا الكلام. (أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أولئك مبتدأ والذين خبر وجملة خسروا أنفسهم صلة وضل عنهم عطف وما فاعل ضل وجملة كانوا يفترون صلة (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) لا نافية وجرم فعل ماض وأنهم: أن وما في حيزها في محل رفع فاعل جرم وقد تمشينا على مذهب سيبويه والخليل وانظر باب اللغة وفي الآخرة حال وهم ضمير فصل أو مبتدأ والأخسرون خبر أن أو خبرهم والجملة خبر أن، وقد تقدمت لضمير الفصل نظائر. البلاغة: في قوله تعالى «ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون» تشبيه تمثيلي لأنه تشبيه مركب بمركب شبههم في فرط تصامهم عن استماع الحق ونبو أسماعهم عنه بمن لا يستطيع السمع وذلك لوجوه عديدة: أولها: يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون وبما كانوا يستطيعون الابصار فلا يبصرون عنادا واصرارا منهم على الخطل والصدوف عن الحق وهذا يقضي أن تكون ما مصدرية والمصدر المؤول منصوب بنزع الخافض وهو الباء على حد قول الشاعر: نغالي اللحم للأضياف نيا ... وتبذله إذا نضج القدور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 أراد نغالي باللحم وقد ذهب إلى هذا المذهب الفراء. وثانيها: انه لاستثقالهم استماع آيات الله وكراهتهم تذكرها وتفهمها جروا مجرى من لا يستطيع السمع وان أبصارهم لم تنفعهم مع اعراضهم عن نذر الآيات فكأنهم لم يبصروا. ومما يجري هذا المجرى قول الأعشى في مطلع معلقته: ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيّها الرّجل ومن المعلوم أن الأعشى كان يقدر على الوداع وإنما نفى الطاقة عن نفسه من حيث الكراهية والاستثقال. وثالثها- ان ما هنا ظرفية مصدرية تجري مجرى سأذكرك ما حييت والمعنى أنهم معذبون ما داموا أحياء. [سورة هود (11) : الآيات 23 الى 24] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) اللغة: (أَخْبَتُوا) سكنوا واطمأنوا وأنابوا، والإخبات الطمأنينة وأصله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 الاستواء من الخبت وهو الأرض المطمئنة المستوية الواسعة فكأن الإخبات خشوع مستمر على استواء فيه وهو يتعدى بالى وباللام فإذا قلت أخبت فلان إلى كذا فمعناه اطمأن اليه وإذا قلت أخبت له فمعناه خشع وخضع. وللخاء والباء فاء وعينا للكلمة خاصة غريبة إذ أن الكلمة تدل على معنى التغطية والستر والخفاء أو ما هو قريب من ذلك أو بيت إليه بصلة، فقولهم خبأ الشيء ستره وأخفاه وله خبيئة خبأها ليوم حاجة ومن أمثالهم «لا مخبأ لعطر بعد عروس» والله يخرج الخبء وخبّات الجارية وجارية مخبّاة ونساء مخبآت وخبّ الرجل نزل المنهبط من الأرض ليجهل منزله وخبّ الفرس خبا وخبيبا راوح في عدوه بين يديه ورجليه، والخب بكسر الخاء الخداع وهو إخفاء المكر وفي حديث عمر بن الخطاب «ما تكلم أحد بالفارسية إلا خبّ وما خبّ إلا ذهبت مروءته» وخبث فلان ضد طاب والخبيث يضمر خلاف ما يظهر وخبر الشيء علمه عن تجربة أي نفذ إلى دخائله واستوضحها، وخبز الخبز معروف وإيداعه إلى اخفائه فيه، واختبس الشيء تناوله وغنمه، وخبش الأشياء جمعها من هاهنا وهاهنا. وخبص الشيء بالشيء خلطه به، وخبط البعير بيده الأرض، وبات يختبط الظلماء وهو خابط عشوة للجاهل، وخبع في المكان دخل فيه ويقال جارية خبعة طلعة أي تخبأ نفسها مرة وتبديها مرة. وخبله أفسده أو أفسد عقله وفساد العقل ذهابه قال: أرى المال أفياء الظلال فتارة ... يؤوب وأخرى يخبل المال خابله وخبن الثوب عطفه وخاطه، وخبن الشاعر أتى بالخبن في شعره وهو حذف ثاني الجزء ساكنا وخبت النار خمدت وسكنت واستخبأ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 الخباء دخله ولو شئنا أن نستقيض في النقل من هذه المادة لأريناك العجب العجب وحسبك من القلادة ما أحاط بالجيد. الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) إن واسمها وجملة آمنوا صلة وجملة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا وكذلك جملة وأخبتوا الى ربهم. (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أولئك مبتدأ وأصحاب الجنة خبر وهم مبتدأ وفيها متعلقان بخالدون وخالدون خبر هم وجملة أولئك أصحاب الجنة خبر إن وجملة هم فيها خالدون خبر ثان لان (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) مثل مبتدأ والفريقين مضاف اليه وكالاعمى خبر أو الكاف اسم بمعنى مثل خبر وما بعده عطف عليه. (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ) هل استفهام معناه النفي ويستويان فعل مضارع مرفوع بثبوت النون ومثلا تمييز محول عن الفاعل والأصل هل يستوي مثلهم، أفلا تذكرون: الاستفهام للانكار والتوبيخ. البلاغة: في قوله تعالى «مثل الفريقين إلخ» تشبيه تمثيلي أي مثل فريق المسلمين كالبصير والسميع ومثل فريق الكافرين كالأعمى والأصم وقد زادت الآية على جميع أمثلة التشبيه التمثيلي كقول امرئ القيس: كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 وقول بشار: كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا، ليل تهاوى كواكبه ففي البيت الاول تشبيه قلوب الطير الرطبة بالعناب وتشبيه قلوب الطير اليابسة بالحشف البالي وفي البيت الثاني تشبيه الغبار القاتم والسيوف الملتمعة فيه بالليل الذي تنقض فيه الشهب والكواكب. أما الآية فقد زادت بتشبيه اثنين بأربعة كما هو واضح فقد شبهت كل واحد من الكافر والمؤمن تشبيهين. هذا ولو جاءت الآية على وجه الطباق خلاف نظمها بأن يقال: كالأعمى والبصير والأصم والسميع لفسد المعنى وان حصل الطباق في اللفظ لأنه سبحانه قسم المشبه به الى قسمين كالمشبه لأنه قسمان مبتلى ومعافى وضاد بينهما ليصح السؤال بينهما على قصد التوبيخ. [سورة هود (11) : الآيات 25 الى 28] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 اللغة: (أَراذِلُنا) أسافلنا وفيه وجهان أحدهما أنه جمع الجمع فهو جمع أرذل بضم الذال جمع رذل بسكونها ككلب وأكلب وأكالب وثانيهما أنه جمع مفرد وهو أرذل كأكبر وأكابر وأبطح وأباطح وأبرق وأبارق والأرذل المرغوب عنه لرداءته، واختار الزمخشري الوجه الثاني ورجحه صاحب القاموس. (بادِيَ الرَّأْيِ) ظاهر الرأي وقد يهمز فيقال بادىء الرأي فمن لم يهمز أراد: أنت فيما بدا من الرأي، ومن همز أراد: أنت أول الرأي ومبتداه، ولأبي علي بحث طريف في هذا التعبير ننقله بنصه لفائدته: «المعنى فيمن قال بادي الرأي بلا همز فجعله من بدا إذا ظهر أي ما اتبعك إلا الأراذل فيما ظهر لهم من الرأي إن لم يتعقبوه بنظر فيه وروية، وهاتان الكلمتان تتقاربان في المعنى لأن الهمزة في اللام معناها ابتداء الشيء وأوله واللام إذا كانت واوا كان المعنى الظهور، وابتداء الشيء يكون ظهورا فلذلك يستعمل كل منهما مكان الآخر وجاز في اسم الفاعل أن يكون ظرفا كما جاز في فعيل نحو قريب ومليء لأن فاعلا وفعيلا يتعاقبان على المعنى نحو عالم وعليم وشاهد وشهيد وحسن ذلك إضافته الى الرأي وقد أجروا المصدر أيضا في إضافته اليه في قولهم اما جهد رأيي فإني منطلق فهذا لا يكون إلا ظرفا» الى آخر هذا البحث الممتع وسيرد المزيد في الاعراب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 (الرَّأْيِ) : مصدر رأى رأيا ويجمع على آراء والرأي هو التفكر في مبادئ الأمور والنظر في عواقبها والعلم بما تئول اليه من الخطأ والصواب، وأصحاب الرأي عند الفقهاء هم أصحاب القياس والتأويل وقد أجمع الشعراء على امتداح الرأي فقال أبو فراس الحمداني: ولا أرضى الفتى ما لم يكمل ... برأي الكهل أقدام الغلام وقال أبو الطيب المتنبي: الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني فإذا هما اجتمعا لنفس حرة ... بلغت من العلياء كل مكان الإعراب: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) جملة مستأنفة مسوقة للشروع في ذكر عدد من القصص تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم واعتبارا بها، وتأسيا بما لاقاه أصحابها وقد احتوت هذه السورة على سبع قصص واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل ونوحا مفعول به والى قومه جار ومجرور متعلقان بأرسلنا وإني بكسر الهمزة على إرادة القول وكثيرا ما يضمر وهو غني عن الشواهد وان واسمها ولكم متعلقان بنذير ونذير خبر إن ومبين صفته. (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) أن مفسرة ولا ناهية وتعبدوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وإلا أداة حصر ولفظ الجلالة مفعول به وإن واسمها وجملة أخاف خبرها وعليكم متعلقان بأخاف وعذاب يوم مفعول أخاف وأليم صفة ليوم. (فَقالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) الفاء عاطفة وقال الملأ فعل وفاعل والذين صفة للملأ وجملة كفروا صلة ومن قومه حال. (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) الجملة مقول القول وما نافية ونراك فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وإلا أداة حصر والرؤية تحتمل القلبية والبصرية فبشرا مفعول به ثان على الأولى وحال على الثانية ومثلنا صفة وما نراك عطف على ما نراك الأولى وهي أيضا تحتمل القلبية والبصرية فجملة اتبعك إما مفعول به ثان واما حال وإلا أداة حصر والذين فاعل اتبعك وهم أراذلنا مبتدأ وخبر والجملة صلة وبادي الرأي منصوب على الظرفية أي أول الرأي والعامل فيه اتبعك وقد تقدم القول مسهبا فيه، وقيل انتصب حالا من ضمير نوح في اتبعك أي وأنت مكشوف الرأي لا حصافة لك. (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) وما نرى عطف على ما تقدم ولكم متعلقان بنرى وعلينا متعلقان بفضل ومن حرف جر زائد وفضل مجرور لفظا مفعول به منصوب محلا وبل حرف إضراب وعطف ونظنكم عطف على ما نرى والكاف مفعول به أول وكاذبين مفعول به ثان. (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) الجملة مستأنفة مسوقة للتلطف بهم في الخطاب ومنا صفتهم ويا قوم منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وأرأيتم تقدم الكلام عليه مفصلا ورأيتم فعل وفاعل أي اخبروني وهنا يتطلب البينة مفعولا به، وكنت تتطلب البينة مجرورة بعلى فأعمل الثاني وأضمر في الأول والتقدير أرأيتم البينة من ربي إن كنت عليها أنلزمكموها فحذف المفعول الأول والجملة الاستفهامية هي المفعول الثاني وجواب الشرط محذوف للدلالة عليه، وإن شرطية وكنت فعل الشرط والتاء اسمها وعلى بينة خبر كنت ومن ربي صفة ومعنى على هنا الاستعلاء لأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 صاحب البينة يكون مستعليا على سواه وقيل هي للمصاحبة بمعنى مع وليس ببعيد، وآتاني الواو عاطفة وآتاني فعل وفاعل مستتر ومفعول به ورحمة مفعول به ثان ومن عنده صفة لرحمة. (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) الفاء عاطفة وعميت فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هي وعليكم جار ومجرور متعلقان بعميت وسيأتي بيان حقيقة هذا التعبير في باب البلاغة وأ نلزمكموها الهمزة للاستفهام أي أنكرهكم عليها وفي هذا الفعل ثلاثة ضمائر الأول مستتر تقديره نحن وهو الفاعل والثاني ضمير المخاطب أي الكاف وهو المفعول الأول والثالث ضمير الغائب أي الهاء وهو المفعول الثاني، والميم علامة جمع الذكور والواو لإشباع حركة الضم على الميم وليست ضميرا وقد روعي الترتيب فيها لأن المتكلم أخص بالفعل ثم ضمير المخاطب ثم ضمير الغائب، وأنتم الواو للحال وأنتم مبتدأ ولها متعلقان بكارهون وكارهون خبر والجملة حالية وتقدم القول في جملة أنلزمكموها. البلاغة: 1- في إسناد العمى الى البينة مجاز عقلي تنزيلا لها منزلة من يعقل وحقيقته أن الحجة والبينة جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عميا لأن الأعمى لا يهتدي ولا يهدي غيره فعميت عليكم البينة فلم تهدكم كما لو عمي على القوم رائدهم الذي يسير بهم في المتاهات المظلمة والبوادي المتشعبة فبقوا حائرين يتخبطون ويلتمسون النجاة من حيرتهم وجملة بعضهم من باب القلب أي أنهم هم الذين عموا فيكون من باب أدخلت الخاتم في إصبعي وأدخلت القلنسوة في رأسي وقال الشاعر: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 ترى الشوك فيها مدخلا ظل رأسه ... وسائره باد الى الشمس أجمع 2- التعريض في قوله «قال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي» وقد تقدم القول في التعريض وغرضهم هنا منه التعريض بأنهم أحق منه بالنبوة وأن الله لو أراد أن يجعلها في أحد لجعلها فيهم وقد زعم هؤلاء أن يحجوا نوحا من وجهين أحدهما أن المتبعين أراذل ليسوا قدوة ولا أسوة والثاني انهم مع ذلك لم يترووا في اتباعه ولا أمعنوا الفكرة في صحة ما جاء به وإنما بادروا الى ذلك ارتجالا ومن غير فكر ولا روية. [سورة هود (11) : الآيات 29 الى 31] وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 اللغة: (بِطارِدِ) : الطرد: الإبعاد، وتطارد الأقوال حمل بعضها على بعض. (تَزْدَرِي) : الإزدراء: الاحتقار والعيب افتعال من الزراية يقال زريت عليه إذا عبته وأزرت به إذا قصرت، قال الشاعر: رأوه فازدروه وهو خرق ... وينفع أهله الرجل القبيح ولم يخشوا مقالته عليهم ... وتحت الرغوة اللبن الصريح الإعراب: (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا) عطف على ما تقدم ولا نافية وأسألكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وعليه حال ومالا مفعول به ثان. (إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) إن نافية وأجري مبتدأ وياء المتكلم مضافة وإلا أداة حصر وعلى الله خبر. (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) الواو عاطفة وما حجازية تعمل عمل ليس وأنا اسمها والباء حرف جر زائد وطارد مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما والذين مضاف اليه وجملة آمنوا صلة. (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) إن واسمها وملاقوا خبرها وربهم مضاف اليه ولكني الواو حالية أو عاطفة ولكن واسمها وجملة أراكم خبرها والكاف مفعول أول لأراكم وقوما مفعول به ثان وجملة تجهلون صفة. (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) عطف على ما قبله ومن اسم استفهام مبتدأ وجملة ينصرني خبر من الله جار ومجرور متعلقان بينصرني وإن شرطية وطردتهم فعل الشرط وهو فعل ماض وفاعل ومفعول به والجواب محذوف دل عليه ما قبله أي فمن ينصرني، وأفلا تذكرون الهمزة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 للاستفهام الانكاري وهي اما داخلة على مقدر تقديره أتأمروني بطردهم فلا تذكرون وإما مقدمة من تأخير والأصل فألا تذكرون وقدمت الهمزة على الفاء لأن لها الصدارة وقد تقدم تقرير ذلك وتذكرون مضارع حذفت منه إحدى التاءين وأصله تتذكرون. (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) الواو عاطفة ولا نافية وأقول فعل مضارع فاعله أنا ولكم متعلقان بأقول وعندي ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم وخزائن الله مبتدأ مؤخر ولا أعلم الغيب معطوف على عندي خزائن الله أي ولا أقول لكم إني أعلم الغيب ولكن يشكل على هذا العطف أنه يترتب عليه أن يكون معمولا لأقول المنفية فيصير التقدير ولا أقول لا أعلم الغيب وهو غير صحيح والأحوط أن يكون معطوفا على لا أقول لا على مقولها فيزول الاشكال، ولا أعلم كيف غرب هذا عن الزمخشري وغيره من كبار المعربين. (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) نسق على لا أقول الأولى أيضا وان واسمها وخبرها مقول القول. (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً) عطف أيضا وللذين متعلقان بأقول وجملة تزدري أعينكم صلة ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويؤتيهم منصوب بها والهاء مفعول يؤتي الأول والله فاعل وخيرا مفعول يؤتي الثاني. (اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) الله مبتدأ وأعلم خبر وبما متعلقان بأعلم وفي أنفسهم صلة الموصول وان واسمها واذن حرف جواب وجزاء مهمل واللام المزحلقة ومن الظالمين خبر إن والجملة تعليلية لا محل لها. البلاغة: في هذه الآيات فن رفيع من فنون البديع وهو الجمع مع التقسيم وهو أن يجمع المتكلم بين شيئين أو أكثر ثم يقسم ما جمع وفي هذه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 الآيات رد على ما أوردوه من شبه حيث قالوا «ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين» فرد عليهم ردا يمكن ارجاعه الى ما أوردوه من شبه فكأنه يقول: إن كان نفيكم الفضل عني متعلقا بفضل المال والجاه فأنا لم أدعه ولم أقل لكم إن خزائن الله عندي حتى تنازعوني في ذلك وتنكروه. وقد رمق أبو فراس هذه السماء بقوله: إنّا إذا اشتد الزما ... ن وناب خطب واد لهم ألفيت حول بيوتنا ... عدد الشجاعة والكرم للقا العدا بيض السيو ... ف وللندى حمر النعم هذا وهذا دأبنا ... يودى دم ويراق دم [سورة هود (11) : الآيات 32 الى 35] قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 اللغة: (الجدال) والمجادلة: المقابلة بما يفتل الخصم من مذهبه بحجة أو شبهة وهو الجدل أي شدة الفتل يقال: جدل الحبل فتله، وزمام مجدول وهو الجديل ويقولون: كأن في الجديل، إحدى بنات جديل، وطعنه فجدّله أي ألقاه على الجدالة وهي الأرض قال: قد أركب الآلة بعد الآله ... وأترك العاجز بالجداله ويقال للصقر أجدل لأنه من أشد الجوارح ويقولون: إن وقفن فجادل وإن مررن فأجادل، أي إن وفقن فقصور، وان مررن فصقور، قال الأعشى: في مجدل شيّد بنيانه ... يزلّ عنه ظفر الطائر ومن المجاز: امرأة مجدولة الخلق: قضيفة، ودرع مجدولة وجدلاء أي محكمة، وعمل على جديلته أي على شاكلته التي جدل عليها واستقام جدول القوم إذا انتظم أمرهم كالجدول إذا اطّرد وتتابع جريه، ونظر أعرابي الى قافلة الحاج متتابعة فقال: أما الحاج فقد استقام جدولهم. ومن متابعة اشتقاق هذه المادة تبين أن كل ما كانت فاؤه وعينه جيما ودالا دل على الشدة والفتل والمرة فجدب المكان جدوبة وجدب وأجدب ضد أخصب ولا يخفى ما في ذلك من شدة وبلاء على الذين تجدب أرضهم، والجدث القبر ومن أقوالهم «شر الأحداث، نزول الأجداث» وجدح السويق واللبن بالمجدح وهو عود في رأسه عودان معترضان يخاض به حتى يختلط وأرسلت السماء مجاديح الغيث، والمجاديح جمع المجدح أي الدّبران ونوءه غزير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 وفي حديث عمر بن الخطاب: «لقد استسقيت بمجاديح السماء» أراد الاستغفار، ورجل مجدود وليس في الدنيا أقوى من أفاعيل الجد بفتح الجيم أي الحظ والجد بالكسر الجهد والتعب ومشى على الجادّة وامشوا على الجوادّ وهو جمع الجادة وأجد المسير وجدّ قال: أشوقا ولما يمض لي غير ليلة ... فكيف إذا جدّ المطي بنا عشرا وجدره ناداه من وراء الجدار وهو جدير بكذا أي قوي ينهض به قال زهير: بخيل عليها جنّة عبقرية ... جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا وجدر الصبي وجدّر، وهو مجدور الوجه ومجدّر ومن أماليح ابن المعتز: بي قمر جدّر لما استوى ... فزاده حسنا وزالت هموم أظنه غنى لشمس الضحى ... فنقطته طربا بالنجوم وجدع أنفه وأذنه فهو مجدوع وإذا لزم النعت قيل أجدع وهي جدعاء وجادع صاحبه شارّه وشاتمه وجّدعه إذا قال له جدعا لك، وجدف الملّاح السفينة إذا دفعها بالمجداف قال أعشى همدان: لمن الظّعائن سيرهنّ تزحّف ... عوم السفين إذا تقاعس تجدف وخفق الطائر بمجدافيه أي بجناحيه وهما قوته، والجدا والجذوى العطاء وما أقواه، واستجديته سألته وجدوته واجتديته مثله قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 جدوت أناسا موسرين فما جدوا ... ألا الله أجدوه إذا كنت جاديا وقد فطن أحد أدبائنا القدامى إلى هذه المادة وسر اجتماع الجيم والدال فأحصى ذلك نظما نورده فيما يلي: عظمة والقطع حظ جدّ ... والاجتهاد ضد هزل جدّ وجانب وجاء جمعا جدّ ... واسم لما بين الكلا من بئر أمّ أب وأمّ أمّ جدّه ... ومصدر الشيء الجديد جدّه مدينة أي بالحجاز جدّه ... والضمّ والكسر لشط النهر للنبت والحائط قيل جدر ... وللنبات قيل أيضا جدر وجمع جدر أي جدار جدر ... وآفة الأطفال داء الجدري والسنة الشديدة الجداع ... أما الجدال فاسمه جداع والكلأ الذّاوي هو الجداع ... كذا وضيم الكلم المضرّ الفتل والصرع وعود جدل ... والصدر بالفتح وكسر جدل جمع جديل أي زمام جدل ... وجمع جدلاء لدرع الكر وهذا من الغرابة بمكان. الإعراب: (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) قالوا فعل وفاعل ويا أداة نداء ونوح منادى مفرد علم مبني على الضم وقد حرف تحقيق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 وجادلتنا فعل وفاعل ومفعول به فأكثرت عطف على جادلتنا وجدالنا مفعول به. (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) الفاء الفصيحة أي ان كنت صادقا فأتنا، وبما متعلقان بالفعل وجملة تعدنا صلة والعائد محذوف ويصح أن تكون ما مصدرية أي بوعدك إيانا وان كنت من الصادقين شرط جوابه دل عليه ما قبله أي فأتنا ومن الصادقين خبر كنت. (قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) إنما كافة ومكفوفة ويأتيكم فعل مضارع ومفعول به وبه متعلقان بيأتيكم والله فاعل وإن شاء شرط وفعله والجواب محذوف وما الواو حالية وما حجازيه وأنتم اسمها وبمعجزين خبرها منصوب محلا بسبب حرف الجر الزائد. (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) الواو عاطفة ولا نافية وينفعكم نصحي فعل ومفعول به وفاعل وإن أردت شرط وفعله وأن وما في حيزها مفعول أردت ولكم متعلقان بأنصح، وإن كان شرط وفعله أيضا والله اسم كان وجملة يريد خبر كان وأن يغويكم أن وما في حيزها مفعول يريد ووجه ترادف الشرطين أن جواب الشرط الثاني وهو إن كان الله يريد أن يغويكم جوابه ما دل عليه قوله لا ينفعكم نصحي ويكون الشرط الثاني وجوابه جواب الأول وسيأتي تفصيل ذلك ومعناه في باب الفوائد. (هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) هو مبتدأ وربكم خبر واليه متعلقان بترجعون وترجعون بالبناء للمجهول والواو نائب فاعل. (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أم منقطعة ويقولون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون وجملة افتراه مقول القول. (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) إن شرطية وافتريته فعل وفاعل ومفعول به وهو فعل الشرط والفاء رابطة وعلي خبر مقدم واجرامي مبتدأ مؤخر وأنا مبتدأ وبريء خبر ومما متعلقان ببريء وجملة تجرمون صلة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 الفوائد: إذا اجتمع في الكلام شرطان وجواب يجعل الشرط الثاني شرطا في الأول فلا يقع الجواب إلا ان حصل الشرط الثاني ووجد في الخارج قبل وجود الأول ونظير هذه الآية من مسائل الفقهاء قول القائل: «أنت طالق إن شربت إن أكلت» وهي المترجمة بمسألة اعتراض الشرط على الشرط فالمنقول انها ان شربت ثم أكلت لم يحنث وان أكلت ثم شربت حنث، وقد قرر المفسرون في الآية انه إذا طرأ شرط على شرط كان الثاني مقدما على الأول في المعنى وإن كان مؤخرا في اللفظ، والتقدير ولا ينفعكم نصحي ان كان الله يريد أن يغويكم إن أردت أن أنصح لكم وقال البيضاوي: «هكذا تقرير الكلام إن كان الله يريد أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي لذلك ولو قال أنت طالق ان دخلت الدار ان كلمت زيدا فدخلت ثم كلمت زيدا لم تطلق. وقال ابن هشام في المغني: ذكروا أنه إذا اعترض شرط على آخر نحو إن أكلت إن شربت فأنت طالق فإن الجواب المذكور للسابق منهما، وجواب الثاني محذوف مدلول عليه بالشرط الأول وجوابه (أي والشرط الأول وجوابه متأخر معنى لكونه دليل الجواب) كما قالوا في الجواب المتأخر عن القسم والشرط ولهذا قال محققو الفقهاء في المثال المذكور انها لا تطلق حتى تقدم المؤخر وتؤخر المقدم وذلك لأن التقدير حينئذ إن شربت إن أكلت فأنت طالق وهذا كله حسن ولكنهم جعلوا منه قوله تعالى: ولا ينفعكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم، وفيه نظر إذ لم يتوال شرطان وبعدهما جواب كما في المثال وكما في قول الشاعر: إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا ... منّا معاقل عزّ زانها كرم وقول ابن دريد: فإن عثرت بعدها إن وألت ... نفسي من هاتا فقولا: لا لعا إذ الآية الكريمة لم يذكر فيها جواب وإنما تقدم على الشرطين ما هو جواب في المعنى للشرط الأول فينبغي أن يقدر إلى جانبه ويكون الأصل إن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم وأما أن يقدر الجواب بعدهما ثم يقدر بعد ذلك مقدما إلى جانب الشرط فلا وجه له. وقال في الدرر: وإذا دخل شرط على شرط فتارة يكون بعطف وتارة يكون بغيره فإن كان بعطف فأطلق ابن مالك أن الجواب لا ولهم لسبقه، وفصل غيره فقال إن كان العطف بالواو فالجواب لهما لأن الواو لمطلق الجمع نحو «إن تأتني وإن تحسن الي أحسن إليك» وان كان العطف بأو فالجواب لأحدهما لأن «أو» لأحد الشيئين نحو ان جاء زيد أو إن جاءت هند فأكرمه أو فأكرمها وإن كان العطف بالفاء فالجواب للثاني والثاني وجوابه جواب للأول وإن كان بغير عطف فالجواب لأولهما والشرط الثاني مقيد للأول كتقييده بحال واقعة موقعه كما في بيت الشاهد وإذا دخل الاستفهام على الشرط فعن يونس ان الجواب للاستفهام لتقدمه على الشرط قياسا على مسألة تقدم القسم على الشرط نحو إن قام زيد تقوم؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 خلاصة مفيدة: توضيح المسألة: إنه قد وجد في هذه الصورة شرطان وليس فيها ما يصلح للجواب إلا شيء واحد فلا يخلو إما أن يجعل جوابا لهما معا ولا سبيل إليه لما يلزم عليه من اجتماع عاملين على معمول واحد وهو باطل. وإما أن لا يجعل جوابا لهما ولا سبيل إليه لما يلزم عليه من الآيتان بما لا مدخل له في الكلام وترك ما له مدخل وهو عبث. وإما ان يجعل جوابا للآخر دون الأول وهذا لا سبيل اليه لأنه يلزم عليه ان يكون الثاني وجوابه جوابا للأول فيجب الإتيان بالفاء الرابطة ولا فاء فتعين القسم الرابع وهو ان يكون جوابا للاول دون الثاني ويكون الأول وجوابه دليل جواب الثاني فالأصل إن شربت فإن أكلت فانت طالق وهو لو قال هذا الكلام لم تطلق حتى تشرب ثم تأكل فكذلك ما هو بمعناه. [سورة هود (11) : الآيات 36 الى 39] وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 اللغة: (الابتئاس) حزن في استكانة قال: ما يقسم الله اقبل غير مبتئس ... منه واقعد كريما ناعم البال وهو افتعال من البؤس وفي المختار «ولا تبتئس أي لا تحزن ولا تشتك والمبتئس الكاره الحزين» . (الْفُلْكَ) الجمهور على أنه بضم الفاء وسكون اللام وقيل انه يقال فلك بضمتين أيضا وأشار الرضي في شرح الشافية الى جواز أن يكون بصمتين هو الأصل وان ضم الأول وتسكين الثاني لعله تخفيف منه كعنق، وأطال في توجيهه وفي القاموس «والفلك بالضم السفينة ويذكر وهو للواحد والجميع، أو الفلك التي هي جمع تكسير للفلك التي هي واحد» وهذا بعينه ورد في الصحاح أيضا والعباب قال ابن بري صوابه الفلك الذي هو واحد لأنك إذا جعلت الفلك واحد فهو مذكر لا غير وان جمعته جمعا فهو مؤنث لا غير وقيل إن الفلك يؤنث وان كان واحدا قال تعالى: «قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين» وعليه فلا تصويب. الإعراب: (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) الواو عاطفة واوحي فعل ماض مبني للمجهول وأن وما في حيزها نائب الفاعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 وجملة لن يؤمن خبر أن وإلا اداة حصر ومن فاعل يؤمن وجملة قد آمن صلة. (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) الفاء عاطفة ولا ناهية وتبتئس مجزوم بلا وبما متعلقان بتبتئس وجملة كانوا صلة وجملة يفعلون خبر كانوا. (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) واصنع عطف على ما تقدم والفلك مفعول به وبأعيننا في موضع نصب على الحال أي مكلوءا بأعيننا وحقيقته ملتبسا كأن لله معه أعينا تكلؤه ووحينا عطف على أعيننا. (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) لا ناهية وتخاطبني مجزوم بها والياء مفعول به وفي الذين متعلقان بتخاطبني وجملة ظلموا صلة وانهم مغرقون ان واسمها وخبرها والجملة تعليلية لعدم الخطاب. (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) حكاية حال ماضية فالجملة ابتدائية مسوقة لهذا الغرض والتقدير وجعل يصنع الفلك، والفلك مفعول به والواو حالية وكلما ظرف زمان متضمن معنى الشرط متعلق بسخروا منه وقد مر القول في كلما، ومر عليه ملأ فعل وفاعل وعليه متعلقان بمرّ وجملة سخروا منه لا محل لها لانها جواب شرط غير جازم. (قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) قال فعل ماض وإن شرطية وتسخروا فعل الشرط ومنا متعلقان بتسخروا والفاء رابطة وان واسمها وجملة نسخر منكم خبر ان وكما تسخرون الكاف صفة لمصدر محذوف وقد مرت له نظائر كثيرة. (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) الفاء استئنافية وسوف حرف ينقل الفعل من الحال الى الاستقبال والفرق بينها وبين السين ان في سوف معنى من التسويف وهو تعليق النفس بما يكون من الأمور التي يمكن أن تحدث، وتعلمون فعل مضارع وفاعل ومن يجوز أن تكون موصولة في محل نصب بتعلمون وتعلمون بمعنى العرفان فتنصب مفعولا واحدا، ويجوز أن تكون استفهامية وتكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 أيضا مفعولا به، ويجوز أن تكون تعلمون يقينية فيكون المفعول الثاني محذوفا ويأتيه فعل ومفعول به وعذاب فاعل وجملة يخزيه صفة عذاب. (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) ويحل معطوف على يأتيه وعليه متعلقان بيحل وعذاب فاعل ومقيم صفة. البلاغة: في قوله «انهم مغرقون» مجيء الخبر إنكاريا مؤكدا بإن تأكيدا للكلام وتنزيلا للسامع منزلة المتردد لأنه للنفس اليقظى مظنة التردد في حكم الخبر ومؤونة الطلب له فقال أولا: ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي لا تدعني يا نوح في استدفاع العذاب عنهم ثم قال: انهم مغرقون لأن الكلام مظنة أن يتردد نوح بأنه هل يصيبهم بأس بل بأنهم هل هم مغرقون بملاحظة ما تقدم من قوله واصنع الفلك فأورد الخبر مؤكدا فقال انهم محكوم عليهم بالإغراق. [سورة هود (11) : الآيات 40 الى 43] حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 اللغة: (فارَ) الفور الغليان وأصله الارتفاع وفي المصباح «فار الماء يفور فورا نبع وجرى وفارت القدر فورا وفوراتا غلت» ومنه قولهم فعل ذلك من فوره أي من قبل أن يسكن، وشرب فورة العقار وهي طفاوتها وما فار منها. (التَّنُّورُ) قيل وزنه تفعول فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها ثم حذفت تخفيفا ثم شدّدت النون للعوض عن المحذوف قال هذا ثعلب وقال أبو علي الفارسي وزنه فعول وقيل هو أعجمي والمشهور أنه مما اتفقت فيه لغة العرب والعجم كالصابون وقال في القاموس والتاج: التنور الكانون يخبز فيه وصانعه تنّار ووجه الأرض وكل مفجر ما ومحفل ماء الوادي وعقبه التاج بقوله يقال هو في جميع اللغات كذلك وقال الليث التنور عمت بكل لسان قال أبو منصور وهذا يدل على أن الاسم في الأصل أعجمي فعربته العرب فصار عربيا على بناء فعول، ثم قيل هو تنور معروف فالكلام حقيقي، وقيل هو مجاز ومعنى قولهم فار التنور اشتد به الغضب كما يقولون حمي الوطيس إذا اشتدت الحرب وفار قدر القوم إذا اشتدت حربهم قال الشاعر: تفور علينا قدرهم فنديمها ... ونفثؤها عنا إذا حميها غلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 (الاثنان) الوجه في قراءة حفص بالتنوين «ومن كلّ زوجين اثنين» ان الاثنين زوجان قال تعالى «ومن كل شيء خلقنا زوجين» والمرأة زوج الرجل والرجل زوجها وقد يقال للاثنين هما زوج قال لبيد: من كل محفوف يظلّ عصيّه ... زوج عليه كلة وقرامها ومعنى البيت: الهوادج محفوفة بالثياب فعيدانها تحت ظلال ثيابها والمضر بعد القرام للعصي أو للكلة. الإعراب: (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ) حتى متعلقة بقوله واصنع الفلك بأعيننا أي الى هذا الوقت فهي حرف غاية وجر وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة جا أمرنا في محل جر بالاضافة وجملة وفار التنور معطوفة على جملة جاء أمرنا. (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) الجملة لا محل لها لأنها جواب إذا واحمل فعل أمر وفيها متعلقان باحمل ومن كل حال من زوجين لأنه كان في الأصل صفة له وزوجين مفعول به واثنين صفة للتأكيد والتشديد كما قال: «لا تتخذوا إلهين اثنين» . (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) وأهلك عطف على زوجين وإلا أداة استثناء ومن مستثنى متصل وجملة سبق عليه القول صلة. (وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) ومن آمن عطف على أهلك وما الواو عاطفة وما نافية وآمن فعل ماض ومعه ظرف متعلق بآمن والا أداة حصر وقليل فاعل آمن. (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها) الواو عاطفة وقال فعل ماض وجملة اركبوا فيها مقول القول وفيها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 متعلقان باركبوا، باسم الله خبر مقدم ومجراها مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية حال من الواو أو الهاء أي اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين باسم الله ومرساها عطف على مجراها وهما مصدران ميميان الأول من جرى ولذلك جاء مجرى والثاني من أرسى ولذلك جاء مرسى بضم الميم وقرىء الاثنان بالضم على أنهما مصدران ميميان أيضا، ويجوز أن يكونا اسمين للزمان أو المكان أي وقت جريانها وارسائها وبسم الله حال أي متبركين باسم الله ويتعلق الظرفان بهذا المحذوف فهو من باب خفوق النجم ومقدم الحاج وهنا أقوال أخرى للمعربين ضربنا عنها صفحا. (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) إن واسمها واللام المزحلقة وغفور خبر إن الأول ورحيم خبر إن الثاني. (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) حال من محذوف أي فركبوا فيها والحال انها تجري بهم ويجوز أن تكون مستأنفة، وهي مبتدأ وجملة تجري خبر وبهم متعلقان بمحذوف حال وفي موج متعلقان بتجري والكاف صفة لموج (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) الواو عاطفة ونادى نوح ابنه فعل وفاعل ومفعول، وكان الواو حالية وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هو يعود على الابن وهو كنعان وفي معزل خبر كان. (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) يا حرف نداء وبني منادى مضاف لياء المتكلم وأصله بثلاث ياءات الأولى ياء التصغير والثانية ياء الكلمة والثالثة ياء المتكلم فحذفت ياء المتكلم تخفيفا وأدغمت ياء التصغير في لام الكلمة فيقرأ بكسر الياء وفتحها فمن قرأ بالكسر جعل الكسرة دالة على الياء المحذوفة ومن فتح فقد أراد الاضافة كما أرادها في قوله يا بني إذا كسر الياء التي هي لام الفعل كأنه قال يا بنيي بإثبات باء الاضافة ثم أبدل من الكسرة الفتحة ومن الياء الألف فصار يا بنيا ثم حذف الألف كما كان حذف الياء والقراءتان سبعيتان واركب فعل أمر ومعنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 ظرف متعلق باركب ولا ناهية وتكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلا واسمها مستتر تقديره أنت ومع الكافرين ظرف متعلق بمحذوف خبر. (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) جملة سآوي مقول القول والى جبل جار ومجرور متعلقان بآوي وجملة يعصمني صفة لجبل ومن الماء متعلقان بيعصمني. (قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) لا نافية للجنس وعاصم اسمها مبني على الفتح واليوم ظرف متعلق بأمر الله لأنه بمعنى المصدر، وأحسن من ذلك أن يكون خبر «لا» محذوفا لأنه إذا علم كهذا الموضع التزم حذفه بنو تميم وكثر حذفه عند أهل الحجاز لأنه لما قال سآوي الى جبل يعصمني من الماء قال له نوح: لا عاصم أي لا عاصم موجود ويكون اليوم منصوبا على إضمار فعل يدل عليه عاصم أي لا عاصم يعصم اليوم من أمر الله ومن أمر جار ومجرور متعلقان بذلك الفعل المحذوف ولا يجوز أن يكون اليوم منصوبا بقوله لا عاصم ولا أن يكون «من أمر الله» متعلقا به لأن اسم لا إذ ذاك كان يكون مطولا وإذا كان مطولا لزم تنوينه وإعرابه ومن أمر الله خبر لا وإلا أداة استثناء أو حصر والاستثناء إما متصل فيكون من مستثنى وجملة رحم صلة. وإما منقطع وإلا بمعنى لكن ومن مبتدأ وجملة رحم صلة والخبر محذوف تقديره هو المعصوم ومن المفيد أن نورد هنا ما قاله أبو البقاء: «قوله تعالى لا عاصم اليوم فيه ثلاثة أوجه أحدها انه اسم فاعل على بابه فعلى هذا يكون قوله إلا من رحم فيه وجهان أحدهما هو استثناء متصل ومن رحم بمعنى الراحم أي لا عاصم إلا الله والثاني انه منقطع أي لكن من رحمه الله يعصم، الوجه الثاني أن عاصما بمعنى معصوم مثل ماء دافق أي مدفوق فعلى هذا يكون الاستثناء متصلا أي إلا من رحمه الله والثالث إن عاصما بمعنى ذا عصمة على النسب مثل حائض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 وطالق فالاستثناء على هذا متصل أيضا فأما خبر لا فلا يجوز أن يكون اليوم لأن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثة بل الخبر من أمر الله واليوم معمول من أمر الله ولا يجوز أن يكون اليوم معمول عاصم إذ لو كان كذلك لنون» . وأورد صاحب الانتصاف كلاما جميلا نورده فيما يلي: «إن الاحتمالات الممكنة هنا أربعة: لا عاصم إلا راحم ولا معصوم إلا مرحوم ولا عاصم إلا مرحوم ولا معصوم إلا راحم فالأولان استثناء من الجنس والآخران استثناء من غير الجنس فيكون منقطعا. (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) الواو عاطفة وحال فعل ماض وبينهما متعلقان بحال والموج فاعل فكان عطف على حال واسم كان مستتر ومن المغرقين خبر كان. [سورة هود (11) : آية 44] وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) اللغة: (البلع) معروف والفعل منه مكسور العين ومفتوحها بلع وبلع حكاهما الكسائي والفراء وفي المصباح: بلعت الطعام بلعا من باب تعب والماء والريق بلعا ساكن اللام وبلعته بلعا من باب نفع لغة وابتلعته، ومن مجاز هذا الفعل: أبلعني ريقي أي أمهلني حتى أقول أو أفعل. قال الزمخشري في أساس البلاغة: وقلت لبعض شيوخي: ابلعني ريقي فقال: قد أبلعتك الرافدين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 (الاقلاع) إذهاب الشيء من أصله حتى لا يرى له أثر يقال: أقلعت السماء إذا ذهب مطرها حتى لا يبقى منه شيء وأقلع عن الأمر إذا تركه رأسا. (غِيضَ) مبني للمجهول إذ يستعمل لازما ومتعديا والغيض النقصان وفعله لازم ومتعد فمن اللازم قوله تعالى «وما تغيض الأرحام» أي تنقص ومن المتعدي الآية التي نحن بصددها لأنه لا يبنى للمجهول من غير واسطة حرف جر إلا المتعدي بنفسه وفي المختار: غاض الماء: قلّ ونضب وبابه باع وانغاض مثله وغيض الماء فعل به ذلك وغاضه الله يتعدى ويلزم، وأغاضه الله أيضا، وغيّض الدمع تغييضا نقصه وحبسه ويقال: غاض الكرام أي قلّوا وفاض اللئام أي كثروا. (الْجُودِيِّ) : جبل بأرض الجزيرة استوت عليه السفينة عند انتهاء الطوفان. الإعراب: (وَقِيلَ: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) الواو عاطفة وقيل فعل ماض مبني للمجهول ويا حرف نداء وأرض منادى نكرة مقصودة مبني على الضم وابلعي فعل أمر والياء فاعل وماءك مفعول به ويا سماء أقلعي عطف على يا أرض ابلعي. (وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) جمل معطوفة بعضها على بعضها الآخر وسيأتي في البلاغة من أسرارها ما يدهش العقول. (وَقِيلَ: بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) بعدا منصوب على المصدر بفعل مقدر أي وقيل بعدوا بعدا فهو مصدر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 بمعنى الدعاء عليهم وللقوم جار ومجرور متعلقان بمحذوف والتقدير إرادتي ونحوه أو بقيل أي قيل لأجهلم هذا القول والظالمين صفة للقوم. البلاغة: في هذه الآية من أفانين البلاغة وبدائع الفصاحة ما يذهل اللب ويشده العقول وسنورد أهم الفنون التي تلفت النظر وتستهوي الموهوب ليحذو حذوها وينسج على منوالها. 1- المساواة: ونبدأ بالفن الذي يتناول الآية عموما وقد عرفوه بأن يكون اللفظ مساويا للمعنى لا يزيد عليه ولا ينقص عنه وهو من أعظم أبواب البلاغة بل هو البلاغة عينها كما وصف بعض الوصاف بعض البلغاء فقال: كانت أوصافه قوالب لمعانيه وكما قال العتابي: «الألفاظ أجساد والمعاني أرواح» وهو ميزة كل لغة، قال إميل فاكيه في وصف فيكتور هيغو «هيغو من الخالدين لأن الذي يخلد هو جمال الأسلوب» وجمال الأسلوب هو الملاءمة بين اللفظ والمعنى والآية التي نحن بصددها خير مثال لهذه المساواة فإنه سبحانه أراد اقتصاص من هذه القصة بأوجز لفظ وأبلغه فجاء بها مرتبة الألفاظ والجمل على حسب ما وقع في صور لا تفصل عن معانيها لا وتقصر عنها فإن قيل: لفظة «القوم» زائدة تمنع الآية من أن توصف بالمساواة لأنها إذا طرحت استقلّ الكلام بدونها بحيث يقال: «وقيل بعدا للظالمين» قلت: لا يستغني الكلام عنها وذلك انه لما قال في أول القصة «وكلما مر عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 ملأ من قومه سخروا منه» وقال بعد ذلك «ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون» جاءت لفظة القوم في آخر القصة، ووصفهم بالظلم ليرتد عجز الكلام على صدره. 2- رد العجز على الصدر: وهو الفن الثاني من فنون هذه الآية، وليعلم أن القوم الذين هلكوا بالطوفان هم الذين كانوا يسخرون من نوح فهم مستحقون للعقاب لئلا يتوهم ضعيف أن الطوفان لعمومه ربما أهلك من لا يستحق الهلاك فأخبر الله سبحانه أن الهالكين هم الذين تقدم ذكرهم وما كانوا يفعلونه مع نبيه من السخرية التي استحقوا بها الهلاك، وانهم الذين وصفهم بالظلم ووعد نبيه باغراقهم ونهاه عن مخاطبته فيهم ليرفع ذلك الاحتمال فيعلم أن الله سبحانه قد أنجز نبيه ما وعده وأهلك القوم الظالمين الذين قدم ذكرهم ووصفهم ووعد باغراقهم. 3- الاشارة: الفن الثالث من فنون هذه الآية فن الاشارة وقد تقدم بحثه وعرفه قدامة فقال: هو أن يكون اللفظ القليل دالا على الكثير من المعاني حتى تكون دلالة اللفظ بمثابة الإشارة باليد أو الايماءة بالحاجب والعين فانها تشير بحركة واحدة سريعة الى أشياء كثيرة تستوعب العبارات الطويلة ومن أمثلتها في الآية التي نحن بصددها قوله «وغيض الماء» فإن غيض الماء يشير الى انقطاع مادة الماء من نبع الأرض ومطر السماء ولولا ذلك لما غاض الماء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 4- الارداف: أما الفن الرابع فهو فن عجب في بابه، وهو أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الموضوع له، ولا بلفظ الاشارة الدال على المعاني الكثيرة بل بلفظ هو ردف المعنى الخاص وتابعه قريب من لفظ المعنى قرب الرديف من الردف وهو هنا في قوله تعالى «وقضي الأمر» وحقيقة ذلك: وهلك من قضى الله هلاكه ونجا من قضى نجاته وانما عدل عن هذه الحقيقة الى لفظ الارداف من الإيجاز والتنبيه على أن هلاك الهالك ونجاة الناجي كان بأمر آمر مطاع، وقضاء من لا يرد قضاؤه، والأمر يستلزم آمرا وقضاؤه يدل على قدرة الآمر به وطاعة المأمور تدل على قدرة الآمر وقهره، وان الخوف من عقابه ورجاء ثوابه يحضّان على طاعة الآمر، ولا يحصل ذلك كله من اللفظ الخاص. هذا ومن أمثلة الارداف في الشعر قول أبي الطيب المتنبي: لو كنت حشو قميصي فوق نمرقها ... سمعت للجن في غيطانها زجلا ومراده نفسه بقوله «حشو قميصي» ، يقول: لو كنت بدلي تحت ثيابي وفوق نمرق ناقتي وهو الذي يلقي عليه الراكب فخذه للاستراحة، لسمعت جلبة الجن وأصواتهم في منخفض هذه المفاوز البعيدة لأنها مأوى الجن لبعدها عن الإنس، والعرب تجعل المكان البعيد مسكنا للجن تهويلا له واستيحاشا منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 5- الاحتراس: والفن الخامس في هذه الآية هو الاحتراس وتعريفه أن يأتي المتكلم بمعنى يتوجه عليه فيه دخل فيفطن لذلك حال العمل فيأتي في أصل الكلام بما يخلصه من ذلك، ومن أمثلته قوله تعالى فيها: «وقيل بعدا للقوم الظالمين» فإنه سبحانه لما أخبر بهلاك من هلك بالطوفان أعقبه بالدعاء على الهالكين ووصفهم بالظلم ليعلم أن جميع من هلك كان مستحقا للعذاب مستأهلا له احتراسا من ضعيف يتوهم أن الهلاك بعمومه قد شمل من لا يستحق العذاب فلما دعا على الهالكين علم أن كل من هلك كان مستحقا للهلاك لأنه قد ثبت بالبرهان أنه عادل فلا يدعو إلا على من يستحق الدعاء ووصفهم بعد الدعاء عليهم بالظلم فإن لم يكونوا ظالمين فقد دخل خبره الخلف وخبره منزه عن ذلك فوقع هذا الدعاء وهذا الوصف احتراسا من ذلك الذي قدر توهمه والاحتراس يبدو جملا في الشعر ومنه قول طرفة المشهور: فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي فقوله «غير مفسدها» احتراس من محو معالمها وطمس آثارها وقد جنح أبو الطيب اليه كثيرا فقال: ويحتقر الدنيا احتقار مجرب ... يرى كل ما فيها، وحاشاك، فانيا فقوله «وحاشاك» احتراس من دخوله في كل من فيها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 وقوله أيضا: إذا خلت منك حمص لا خلت أبدا ... فلا سقاها من الوسمي باكره فقوله «لا خلت أبدا» احتراس من توهم الدعاء عليه. 6- حسن النسق: والفن السادس من فنون هذه الآية العجيبة هو فن النسق وهو عبارة عن أن يأتي المتكلم بالكلمات من النثر والأبيات من الشعر متتاليات متلاحمات تلاحما سليما مستحسنا لا معيبا مستهجنا، والآية من أولها الى آخرها من شواهد هذا الفن فقد ترادفت الجمل منسوقة بعضها على بعض بواو النسق على الترتيب الذي تقتضيه البلاغة لأنه سبحانه بدأ بالأهم إذ كان المراد اطلاق أهل السفينة من سجنها ولا يحصل ذلك ولا يتأتى إلا بانحسار الماء عن الأرض فلذلك بدأ بالأرض فأمرها بالابتلاع وثنى بالسماء فأمرها بالإقلاع لئلا يتأذى بذلك أهل السفينة ثم أخبر بغيض الماء عند ما ذهب ماء الأرض وانقطع ماء السماء ثم قال «وقضي الأمر» أي هلك من جفّ القلم بهلاكه، ونجا من سبق العلم بنجاته وهذه حقيقة المعجزة وكنه الآية ولا بد أن تكون معلومة لأهل السفينة ولا يتسنى علمهم بها إلا بعد خروجهم منها وخروجهم موقوف على ما تقدم فلذلك اقتضت البلاغة أن تأتي هذه الجملة رابعة الجمل وكذلك استقرار السفينة على الجودي أي استقرارها على المكان الذي استقرت عليه استقرارا لا حركة معه لتبقى آثارها آية لمن يأتي بعد أهلها وعدل عن لفظة استقرت الى لفظة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 استوت لما يحتمله الاستقرار من الزيغ والميل ويدل عليه الاستواء من استقامة وعدم انحراف وفي هذا طمأنينة أهل السفينة وأمنهم بعد المخافة وأفراخ روعهم إذا كان استقرارها استقرارا فقط بحيث لا تؤمن معه الحركة لكانت حالهم في مكابدة الحركة واضطراب القلوب ووجيفها واحدة في حال سيرها ووقوفها ثم قال أخيرا «وبعدا للقوم الظالمين» وهذا دعاء أوجبه الاحتراس ممن يظن أن الغرق لشموله الأرض ربما أودى بمن لا يستحق العذاب فدعا على الهالكين ووصفهم بالظلم ليعلم أن الهلاك إنما شمل من يستحق العذاب دون سواهم احتراسا من هذا الاحتمال. 7- التنظير: والفن السابع فيها هو فن التنظير وقد تكلم عنه ابن الأثير في كتابه الاستدراك تحت اسم المفاضلة بين الشعراء ليظهر الأفضل منهما وهو الى النقد أقرب منه الى فنون البديع، وحدّه أن ينظر الإنسان بين كلامين إما متفقي المعاني أو مختلفي المعاني ليظهر الأفضل منهما، والآية التي نحن بصددها تناولت قصة الطوفان التي انطوت على الكثير من العقد والحلول والعبر فإذا نظرتها بغيرها من القصص وجدتها سامية عليها جميعا باستقصاء جميع ما اتفق فيها وما سنح. 8- المناسبة اللفظية: بين ابلعي واقلعي وهي تشبه المناسبة التي مرت في قوله «لهم شراب من حميم وعذاب أليم» بسورة يونس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 9- الجناس الناقص: بين ابلعي واقلعي ويسميه بعضهم المضارعة ويكون أنواعا منها أن يختلف حرف في الكلمتين بعد أن تتفق بقية الأحرف ومثله قوله تعالى «وهم ينهون عنه وينأون عنه» وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل سمعه وهو ينشد على سبيل الافتخار وقيل بل سأله عن نسبه فقال: إني امرؤ حميري حين تنسبني ... لا من ربيعة آبائي ولا مضر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ذلك والله ألأم لجدك، وأضرع لخدك، وأقل لعدك، وأبعد لك عن الله ورسوله» . 10- الطباق: والفن العاشر هو الطباق فقد طابق بين السماء والأرض. 11- الاستعارة: والفن الحادي عشر هو الاستعارة المكنية الكائنة في نداء الأرض والسماء بما ينادى به الحيوان المميز على لفظ التحضيض والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات وهو قوله يا أرض ويا سماء ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل من قوله ابلعي ماءك واقلعي من الدلالة على الاقتدار العظيم والبلغ عبارة عن تغدير الماء وشربه في بطنها مستعار لهذا المعنى من بلع الحيوان أي ازدراده لطعامه وشرابه والبلع هو أثر القوة الجاذبة في المطعوم لكمال الشبه بينهما وهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 الذهاب الى مقر خفي ومع هذا فهي قرينة للاستعارة المكنية التي في الماء أي استعارة الماء للغذاء لجامع تقوي الأرض بالماء في الإنبات تقوي الآكل بالطعام. 12- المجاز المرسل: وذلك في قوله «يا سماء» فان الحقيقة: ويا مطر السماء اقلعي، والعلاقة في هذا المجاز السببية لأن الماء سبب المطر أو المحلية لأنها محلها بما يتجمع فيها من سحب واضافة الماء الى الأرض مجاز أيضا تشبيها لاتصاله بها باتصال الملك بالمالك، وفيها نكتة أخرى وهي التنبيه على حدوث هذا الماء من الأرض أيضا لا من السماء فقط كما يدل عليه قوله تعالى «وفار التنور» . 13- التمثيل: وهو أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الخاص ولا بلفظي الاشارة والارداف بل بلفظ هو أبعد من لفظ الارداف قليلا يصلح أن يكون مثلا للفظ الخاص لأن المثل لا يشبه المثل من جميع الوجوه ولو تماثل المثلان من كل الوجوه لاتحدا، وقد تقدم تفصيل هذا الفن في قوله «واستوت على الجودي» فإن حقيقة ذلك: وجلست على ذلك المكان فعدل عن الحقيقة الى التمثيل لما في الاستواء من الاشعار بجلوس متمكن لا زيغ فيه ولا ميل ولا حركة معه ولا اضطراب. 14- الإيجاز: فقد اقتص سبحانه القصة بلفظها مستوعبة بحيث لم يخلّ منها بشيء في أخصر عبارة وبألفاظ غير مطولة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 15- التسهيم: وهو أن يكون ما تقدم من الكلام دليلا على ما يتأخر منه أو بالعكس والتسهيم في الآية هو أن أول الآية يقتضي آخرها. 16- التهذيب: لأن مفردات الألفاظ موصوفة بصفات الحسن، وكل لفظة سهلة مخارج الحروف، سلمت من التنافر والغرابة ومخالفة القياس. 17- التمكين: لأن الفاصلة مستقرة في قرارها مطمئنة في مكانها غير قلقة ولا ناشزة. 18- الانسجام: وهو تحديد الكلمات بسهولة وعذوبة مع الجزالة التي يقتضيها المقام ويتطلبها مقتضى الحال. 19- الارصاد: وهو أن يحدس القارئ بالفاصلة قبل أن يتلفظ بها. 20- ائتلاف اللفظ مع المعنى: وهو ما يسميه أهل الفن المزاوجة بين الألفاظ حتى لقد قال أناتول فرانس الكاتب الفرنسي: «ان بين الألفاظ زواجا كاثوليكيا» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 وكل لفظة لا يصلح في موضعها غيرها، وقد كان أبو تمام يحرص في شعره على هذا الفن فاستمع الى قوله: وفي الكلمة الوردية اللون جؤذر ... من الانس يمشي في رقاق المجاسد رمته بخلف بعد أن عاش حقبة ... له رسفان في قيود المواعد وفاعل رمته في أبيات سبقت، وهذا أمر تعجز الألفاظ عن إيجاد حدود له وانما هو مما يستشعره الذوق وحده على حد قول فولتير: «ذوقك أستاذك» . 21- الاستعارة المتكررة: فاذا أضفت إلى ما تقدم أن الاستعارة وقعت فيها في موقعين وهما استعارة الابتلاع والإقلاع حصل لك واحد وعشرون فنا. هذا وقد أضاف بعض البلاغيين إلى هذه الفنون ما يلي: 1- ومنها انه تعالى لم يصرح بفاعل غيض وقضي وقيل، كما لم يصرح في صدر الآية بقائل قيل وكذا لم يصرح بمن سوى السفينة تنبيها على أن تلك الأمور العظام لا يتصور وقوعها إلا من قادر لا يكتنه وقهار لا يغالب فلا يذهب الوهم إلى فاعل غيره ولا ينشط الخيال الى مدى أبعد من هذا المدى وقيل في وجه العدول عن تصريح الفاعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 اشارة الى أن هذه الأمور أهون عند الله تعالى من أن ينسبها الى قدرته صراحة. 2- ومنها إفراد الماء إشعارا بأن هذا الماء لم يحصل من اجتماع المياه وتكاثرها بل هو نوع واحد حصل بقدرته تعالى دفعة واحدة. 3- ومنها افراد «أرض» إشارة الى شمول هذا الماء الكل بحيث صار الكل بمثابة شيء واحد باعتبار هذا الشمول، وأيضا افراد «سماء» إشارة الى أن المراد بها هاهنا جهة العلو الذي لا يكتنه مداه لا الاجرام العلوية. 4- ومنها التعريض الذي اختتم به الكلام تنبيها لسالكي مسلكهم والجانحين جنوحهم في تكذيب الرسل الى أن ما حل بهم من إغراق شمل العالم بأسره لم يكن إلا لظلمهم وإمعانهم في اللجاج والتمادي في الإنكار. 5- ومنها ذكر مفعول ابلعي لئلا يعم بالحذف ابتلاع البحار وسواكن الماء كما يقتضيه مقام الكبرياء. 6- ومنها تقديم أمر الأرض على السماء لابتداء الطوفان منها. هذا وقد ذكر السكاكي أسرارا أخرى أضربنا عنها لما فيها من تكلف قد يحيل الأمر الى العكس. الفوائد: 1- قد يقام المصدر المؤكد مقام فعله المستعمل أو المهمل فيمتنع ذكره معه وهو نوعان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 أ- ما لا فعل له أصلا من لفظه نحو ويلك وويحك وبله الأكف وسبحان الله. ب- ما له فعل مستعمل من لفظه وهو نوعان: نوع واقع في الطلب وهو الوارد في دعاء بخير أو ضده فالأول كسقيا ورعيا والأصل سقاك الله سقيا ورعاك الله رعيا أو الوارد نهيا أو أمرا نحو قياما لا قعودا وكذلك النوعي نحو «فضرب الرقاب» أي فاضربوا ضرب الرقاب ونوع واقع في الخبر نحو حمدا وشكرا لا كفرا، ولها أنواع مذكورة في المطولات والجار والمجرور الواقعان بعد نحو سقيا لك وبعدا للقوم الظالمين متعلق بمحذوف خرج مخرج البيان التقدير إرادتي لهم ولا تتعلق بالمصدر فنحو سقيا لك على هذا جملتان. 2- لام التبيين ويجدر بنا هنا أن نورد خلاصة وجيزة لهذه اللام التي شغلت النحاة كثيرا ولم يوفوها حقها من الشرح وهي ثلاثة أنواع: أ- ما تبين المفعول من الفاعل وضابطها أن تقع بعد فعل تعجب أو اسم تفضيل مفهمين حبا أو بغضا تقول: ما أحبني وما أبغضني فإن قلت: لفلان، فأنت فاعل الحب والبغض وهو مفعولهما وإن قلت: الى فلان، فالأمر بالعكس. ب وج: ما يبين فاعلية غير ملتبسة بمفعولية وما يبين مفعولية غير ملتبسة بفاعلية ومصحوب كل منهما إما غير معلوم مما قبلها أو معلوم لكن استؤنف بيانه تقوية للبيان وتوكيدا له واللام في ذلك كله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 متعلقه بمحذوف. مثال المبينة للمفعولية: سقيا لك وجدعا لك فهذه اللام ليست متعلقة بالمصدرين ولا بفعليهما المقدرين لأنهما متعديان بنفسيهما كالمصدرين و «لا» هي ومجرورها صفة للمصدر فتتعلق بالاستقرار لأن الفعل لا يوصف فكذا ما أقيم مقامه وإنما هي لام مبينة للمدعو له أو عليه والتقدير إرادتي لك، ومثال المبينة للفاعلية: تبا لزيد وويحا له، فإنه في معنى خسر وهلك وحينئذ فزيد هو الفاعل واللام متعلقة بمحذوف إرادتي كائنة لزيد. [سورة هود (11) : الآيات 45 الى 49] وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 الإعراب: (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) الواو استئنافية والنداء على ما يبدو كان قبل سير السفينة لأنه سؤال في نجاة ابنه ولا معنى للسؤال إلا عند إمكان النجاة، ونادى نوح فعل وفاعل وربه مفعول به، فقال الفاء حرف عطف وقال فعل ماض معطوف على نادى عطف تفسير لأن القول المذكور هو عين النداء ورب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وإن واسمها ومن أهلي خبرها وإنما أورد ذلك لأن الله تعالى وعده بنجاة أهله. وللمفسرين كلام طويل حول بنوة هذا الابن يخرج عن نطاق هذا الكتاب. (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) الواو عاطفة وان واسمها وخبرها وأنت أحكم الحاكمين مبتدأ وخبر والجملة معطوفة أيضا. (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) قال فعل ماض وضمير الله فاعله المستتر وان واسمها وجملة ليس من أهلك خبر إن ومن أهلك خبر ليس. (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) ان واسمها والضمير يعود الى ابنه ولا مبرر لقول من قال إن الضمير يعود الى سؤاله كما ذهب الجلال وغيره لأن بلاغة الكلام تستبعده وعمل خبر إن وهو من باب إقامة الصفة مقام الموصوف عند ظهور المعنى وقد تقدمت الاشارة إليه ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: أيها القائل في غير الصواب ... أخّر النصح وأقلل من عتابي وقوله أيضا: وكم من قتيل لا يباء به دم ... ومن غلق رهنا إذا ضمّه منى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 ومن مالىء عينيه من شيء غيره ... إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى أراد أيها الإنسان القاتل وكم من إنسان قتيل. وقول الخنساء: ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار وغير صالح صفة لعمل والجملة تعليل لانتفاء كونه من أهله الناجين. (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) الفاء الفصيحة ولا ناهية وتسأل فعل مضارع مجزوم بلا والنون للوقاية وياء المتكلم المحذوفة للتخفيف مفعول به وما مفعول به ثان وجملة ليس صلة واسم ليس علم ولك خبرها المقدم وبه جار ومجرور متعلقان بعلم. (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) إن واسمها وجملة أعظك خبرها وان وما في حيزها في محل نصب بنزع الخافض أي أخوفك من أن تكون، والجار والمجرور متعلقان بأعظك واسم تكون مستتر تقديره أنت ومن الجاهلين خبر تكون وسيأتي في باب الفوائد معنى تسمية سؤال نوح جهلا (قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) إن واسمها وجملة أعوذ خبرها وبك متعلقان بأعوذ وأن وما في حيزها منصوب بنزع الخافض وما ليس لي به علم تقدم إعرابها. (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) الواو عاطفة وإن شرطية ولا نافية وتغفر فعل الشرط ولي جار ومجرور متعلقان به وترحمني عطف على تغفر وأكن جواب الشرط واسمها مستتر تقديره أنا ومن الخاسرين خبرها. (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ) اهبط فعل أمر وبسلام جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل اهبط أي متلبسا بسلام ومنّا صفة لسلام أو بنفس سلام وبركات عطف على سلام وعليك صفة. (وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 وعلى أمم عطف على عليك وممن صفة لأمم ومعك ظرف مكان صلة الموصول. (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) الواو استئنافية وأمم مبتدأ وساغ الابتداء به لأنه موصوف تقديره أي وأمم ممن معك وجملة سنمتعهم خبرها أو تجعل سنمتعهم صفة والمحذوف هو الخبر وإنما حذف لأن قوله ممن معك يدل عليه، ثم حرف عطف للتراخي ويمسهم فعل مضارع ومفعول به ومنا حال لأنه كان صفة لعذاب وعذاب فاعل وأليم صفة ثانية. (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ) تلك مبتدأ ومن أنباء الغيب خبر أول وجملة نوحيها إليك خبر ثان وإن شئت كان في موضع الحال أي تلك كائنة من أنباء الغيب موحاة إليك. (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) خبر ثالث وهذا أولى الأعاريب وكان واسمها وجملة تعلمها خبر كنت و «ها» مفعول به وأنت تأكيد لفاعل تعلمها المستتر ولا قومك عطف على أنت ومن قبل هذا حال من الهاء في نوحيها أو الكاف في إليك أي جاهلا أنت وقومك بها. (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) الفاء الفصيحة أي ان عرفت هذه القصة ومنطوياتها وما آلت إليه حادثة الطوفان فاصبر وجملة إن العاقبة للمتقين من إن واسمها وخبرها تعليلية وهذا هو المقصود من قصة نوح والقصص التي ستتلوها. الفوائد: للمفسرين كلام طويل في هذه الآية وتعليل وصف سؤال نوح بالجهل وهو يدل على عدم العصمة حتى لقد ذهب الزمخشري الى أن نوحا عليه السلام صدر عنه ما يوجب نسبة الجهل اليه ومعاتبته على ذلك ويطول بنا القول إن أردنا أن ننقل ما أوردوه أو نلخصه على الأقل وأقرب ما يقال في ذلك انه لما صدر الوعد الى نوح بنجاة أهله إلا من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 سبق عليه القول منهم ولم يكن كاشفا لحال ابنه المذكور ولا مطلعا على دخيلة نفسه وحقيقة أمره بل معتقدا بظاهر الحال أنه مؤمن بقي على التمسك بصيغة العموم للأهلية الثابتة ولم يعارضها يقين في كفر ابنه حتى يخرج من الأهل ويدخل في المستثنين فسأل الله فيه بناء على ذلك فتبين له أنه في علمه من المستثنين وانه هو لا علم له بذلك فلذلك سأل فيه وهذا بأن يكون ابانة عذر أولى منه أن يكون عتبا وأما قوله: «إني أعظك أن تكون من الجاهلين» فالمراد منه النهي عن وقوع السؤال في المستقبل بعد أن أعلمه الله باطن أمره وأنه إن وقع في المستقبل السؤال كان من الجاهلين والغرض من ذلك تقديم ما يبقيه على سمة العصمة، والموعظة لا تستدعي وقوع ذنب وقد أشفق نوح من اقدامه على سؤال ربه فيما لم يؤذن له فخاف من ذلك الهلاك فلجأ الى ربه وخشع له ودعاه وسأله المغفرة والرحمة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين. [سورة هود (11) : الآيات 50 الى 60] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 اللغة: (فَطَرَنِي) : فطر الله الخلق وهو فاطر السموات مبتدعها وافتطر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 الأمر ابتدعه «وكل مولود يولد على الفطرة» أي على الجبلة وقد فطر هذه البئر وفطر الله الشجر بالورق فانفطر به وتفطّر، وتفطّرت الأرض بالنبات، وتفطرت اليد والثوب: تشققت وفطر ناب البعير: طلع وفطرت المرأة العجين، وهذا كلام يفطر الصوم أي يفسده. (مِدْراراً) : المدرار: الكثير الدرور كالمغزار ولم يؤنثه وإن كان من مؤنث لثلاثة أسباب أحدها أن المراد بالسماء السحاب أو المطر فذكر على المعنى والثاني أن مفعالا للمبالغة فيستوي فيه المذكر والمؤنث كصبور وشكور والثالث أن الهاء حذفت من مفعال على طريق النسب وفي القاموس: درت السماء بالمطر درا ودرورا فهي مدرار. (الناصية) : منبت الشعر من مقدّم الرأس ويسمى الشعر النابت أيضا ناصية باسم محله ونصوت الرجل أخذت بناصيته فلامها واو ويقال له ناصاة فقلبت ياؤها ألفا فالأخذ بالناصية عبارة عن الغلبة والقهر وإن لم يكن ثمة أخذ بناصيته ولذا كانوا إذا منّوا على أسير جزوا ناصيته. الإعراب: (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) عطف على قصة نوح والمعطوف محذوف أي وأرسلنا الى عاد فيكون من عطف الجمل لا من عطف المفردات لطول الفصل وعاد اسم قبيلة وصرفها لأنه أراد الحي ولو أراد القبيلة لم تصرف وأخاهم مفعول لأرسلنا المحذوفة وأراد إخوتهم في النسب وهودا بدل أو عطف بيان وسيرد في باب الفوائد الفرق الدقيق بين البدل وعطف البيان. (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 اعبدوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وما نافية ولكم خبر مقدم ومن حرف جر زائد وإله مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه مبتدأ مؤخر وغيره صفة لإله على المحل ويجوز الجر صفة على اللفظ وقد قرىء بها. (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) إن نافية وأنتم مبتدأ وإلا أداة حصر ومفترون خبر أنتم (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) لا نافية وأسألكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول وعليه حال وأجرا مفعول به ثان. (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ) إن نافية وأجري مبتدأ وإلا أداة حصر وعلى الذي خبر وجملة فطرني صلة والهمزة للاستفهام والفاء حرف عطف وقد تقدم بحث هذا التركيب وتعقلون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل. (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) استغفروا ربكم فعل أمر وفاعل ومفعول به، ثم توبوا اليه عطف على استغفروا، ويرسل فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب والسماء مفعول به وعليكم جار ومجرور متعلقان بمدرارا ومدرارا حال من السماء وقد تقدم ذكر السبب في عدم تأنيثها. (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) ويزدكم عطف على يرسل والكاف مفعول به أول وقوة مفعول به ثان وإلى قوتكم صفة والى بمعنى مع ولا تتولوا لا ناهية وتتولوا مجزوم بلا ومجرمين حال من الواو. (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) يا حرف نداء وهود منادى مفرد علم مبني على الضم وما نافية وجئتنا فعل وفاعل ومفعول به وببينة جار ومجرور متعلقان بجئتنا فتكون الباء للتعدية ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنها حال أي مستقرا أو متلبسا ببينة. (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ) الواو عاطفة وما حجازية ونحن اسمها والباء حرف جر زائد وتاركي مجرور لفظا منصوب محلا على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 أنه خبر ما وعن قولك حال من الضمير في تاركي كأنه قال وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك ويجوز أن تكون عن للتعليل والمعنى وما نحن بتاركي آلهتنا لقولك فيتعلق بنفس تاركي. (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة وما حجازية نحن اسمها ولك متعلقان بمؤمنين والباء حرف جر زائد ومؤمنين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما. (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) إن نافية ونقول فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن وإلا أداة حصر وجملة اعتراك معمول لنقول أي منصوبة بمصدر محذوف، وذلك المصدر منصوب بنقول أي: إلا قولنا اعتراك، والكاف مفعول به وبعض آلهتنا فاعل وبسوء جار ومجرور متعلقان باعتراك والمعنى ما نقول إلا قولنا اعتراك بعض آلهتنا بسوء وسيأتي مزيد بحث عن هذه الفائدة في باب الفوائد. (قالَ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) إن واسمها وقد كسرت همزتها بعد القول وجملة أشهد خبرها واشهدوا فعل أمر وأن المفتوحة الهمزة وما في حيزها معمول لاشهدوا أو لأشهد الله، على أن المسألة من باب التنازع وسيأتي بحث التنازع في باب الفوائد، وان واسمها وخبرها ومما متعلقان ببريء وجملة تشركون صلة ويجوز أن تكون ما مصدرية أي من اشراككم. (مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) من دونه حال، فكيدوني الفاء الفصيحة وكيدوني فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء المحذوفة للتخفيف مفعول به وجميعا حال ثم حرف عطف ولا ناهية وتنظرون فعل مضارع مجزوم بلا والياء المحذوفة للتخفيف مفعول به. (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) اني: ان واسمها وجملة توكلت خبرها وعلى الله جار ومجرور متعلقان بتوكلت وربي بدل أو صفة وربكم عطف على ربي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) ما نافية ومن حرف جر زائد ودابة مبتدأ وساغ الابتداء بالنكرة لسبقها بالنفي وإلا أداة حصر وهو مبتدأ وآخذ خبر وبناصيتها جار ومجرور متعلقان بآخذ. (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إن واسمها وعلى صراط خبرها ومستقيم صفة. (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) الفاء عاطفة وإن شرطية وتولوا فعل مضارع حذفت فيه إحدى التاءين والأصل تتولوا وهو فعل الشرط مجزوم بحذف النون والواو فاعل والفاء رابطة وقد حرف تحقيق وأبلغتم فعل وفاعل ومفعول به وما مفعول به ثان وجملة أرسلت صلة وبه متعلقان بأرسلت وإليكم حال. (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) كلام مستأنف ولذلك رفعه ولم ينسقه على الجواب على أنه قرىء بالجزم أيضا على الموضع وهو صحيح لا غبار عليه وربي فاعل وقوما مفعول به وغيركم صفة لقوما ولا تضرونه عطف على يستخلف وشيئا مفعول مطلق أي شيئا من الضرر. (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) إن واسمها وعلى كل شيء متعلقان بحفيظ وحفيظ خبر إن. (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) لما ظرفية حينية متعلقة بنجينا أو رابطة وجاء أمرنا فعل وفاعل ونجينا هودا فعل وفاعل ومفعول به والذين عطف على هود وجملة آمنوا صلة ومعه ظرف مكان متعلق بآمنوا وبرحمة متعلقان بنجينا ومنا صفة لرحمة. (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) ونجيناهم فعل وفاعل ومفعول به ومن عذاب جار ومجرور متعلقان بنجيناهم وغليظ صفة لعذاب. (وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة سيقت لتلخيص القبائح التي ارتكبها قوم عاد وتلك مبتدأ وعاد بدل أو عطف بيان وجملة جحدوا خبر تلك ولك أن تجعل تلك عاد مبتدأ وخبرا ثم تستأنف، وبآيات متعلقان بجحدوا وربهم مضاف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 وعصوا رسله فعل وفاعل ومفعول به. (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) واتبعوا عطف على جحدوا وأمر مفعول به وكل مضاف إليه وجبار مضاف لكل وعنيد صفة لجبار. (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) واتبعوا عطف على ما تقدم وهو فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل وفي هذه الدنيا متعلقان بأتبعوا والدنيا بدل من اسم الاشارة ولعنة مفعول به ثان ويوم القيامة ظرف متعلق بفعل محذوف تقديره اتبعوا، وأجاز الفارسي أن يكون يوم القيامة عطفا على محل هذه لأن قوله في هذه جار ومجرور متعلقان بأتبعوا فهو عامل في محل النصب ولا مانع من عطف الزمان على الدنيا لأنها ظرف مكان فاشتركا في الظرفية. (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) ألا أداة تنبيه وان واسمها وكفروا فعل وفاعل وربهم منصوب بنزع الخافض ولك أن تنصبه على المفعولية بتضمين كفروا معنى جحدوا. (أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) ألا أداة تنبيه تأكيد للأولى وبعدا تقدم اعرابها وتقدم معنى اللام وتعليقها مفصلا في موضع قريب فجدد به عهدا، وقوم بدل أو عطف وهود مضاف إليه. البلاغة: في قوله تعالى: «قال إني أشهد الله واشهدوا اني بريء مما تشركون» فإنه إنما قال: أشهد الله واشهدوا، ولم يقل وأشهدكم ليكون موازنا له وبمعناه لأن إشهاده الله على البراءة من الشرك صحيح ثابت وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة بهم ولذلك عدل به عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما وجيء به على لفظ الأمر كقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه اشهد عليّ اني لا أحبك تهكما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 به واستهانة بحاله، هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن صيغة الخبر لا تحتمل سوى الاخبار بوقوع الاشهاد منه فلما كان اشهاده لله واقعا ومحققا عبر عنه بصيغة الخبر لأنه إشهاد صحيح وثابت وعبر في جانبهم بصيغة الأمر التي تتضمن الاستهانة بدينهم وهو مراده في هذا المقام ومن جهة ثالثة إنما عدل الى صيغة الأمر عن صيغة الخبر للتمييز بين خطابه لله تعالى وخطابه لهم بأن يعبر عن خطاب الله تعالى بصيغة الخبر التي هي أجل وأشرف وأوقر للمخاطب من صيغة الأمر. الفوائد: 1- الفرق بين عطف البيان والبدل: أوجه الشبه بينهما: أوجه الشبه بين عطف البيان والبدل أربعة وهي: 1- ان فيه بيانا كما في البدل للثاني. 2- انه يكون بالأسماء الجوامد كالبدل. 3- انه يكون لفظه لفظ الاول على جهة التأكيد. 4- كلاهما تابع. أوجه المفارقة بينهما: أما أوجه المفارقة بينهما فهي: 1- ان البدل يكون هو المقصود بالحكم دون المبدل منه وأما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 عطف البيان فليس هو المقصود بل ان المقصود بالحكم هو المتبوع وإنما جيء بعطف البيان توضيحا له وكشفا عن المراد منه. 2- كل ما جاز أن يكون عطف بيان جاز أن يكون بدل الكل من الكل إذا لم يمكن الاستغناء عنه أو عن متبوعه فيجب حينئذ أن يكون عطف بيان فمثال عدم جواز الاستغناء عن التابع قولك: فاطمة جاء حسين أخوها، لأنك لو حذفت «أخوها» من الكلام لفسد التركيب. 3- ان عطف البيان يجري على ما قلبه في تعريفه وليس كذلك البدل لأنه يجوز أن تبدل النكرة من المعرفة والمعرفة من النكرة ولا يجوز ذلك في عطف البيان. 4- ان البدل يكون بالمظهر والمضمر وكذلك المبدل منه ولا يجوز ذلك في عطف البيان وان البدل قد يكون غير الاول كقولك: سلب زيد ثوبه، وعطف البيان لا يكون غير الاول. 2- الفائدة الثانية: «إن نقول إلا اعتراك» إن حرف نفي لحقت نقول فنفت جميع القول إلا قولا واحدا وهو قولهم اعتراك بعض آلهتنا بسوء والتقدير ما نقول قولا إلا هذه المقالة والفعل يدل على المصدر وعلى الظرف وعلى الحال ويجوز أن يذكر الفعل ثم يستثنى من مدلوله ما دلّ عليه من المصادر والظروف والأحوال فنقول اعتراك مستثنى من المصدر الذي دل عليه، نقول كقوله تعالى «فما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى» فنصب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 موتتنا على الاستثناء لأنه مستثنى من ضروب الموت الذي دل عليه قوله بميتين ومما جاء من ذلك في الظروف قوله «ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار» فساعة استثناء مما دل عليه لم يلبثوا من لأوقات، ومما جاء من ذلك في الحال قوله «ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله» التقدير ضربت عليهم الذلة في جميع الأحوال أينما ثقفوا إلا متمسكين بحبل أي بعهد من الله. 3- الفائدة الثالثة: التنازع: هو أن يتقدم فعلان متصرفان أو اسمان يشبهانهما ويتأخر عنهما معمول وهو مطلوب لكل منهما كقوله تعالى «آتوني أفرغ عليه قطرا» ولك أن تعمل في الاسم المذكور أي العاملين شئت، فإن أعملت الثاني فلقربه وإن أعملت الأول فلسبقه فإن أعملت الاول في الظاهر أعملت الثاني في ضميره مرفوعا كان أم غيره نحو: قام وقعدوا أخواك واجتهد فأكرمتهما أخواك ووقف فسلمت عليهما أخواك وأكرمت فسرا أخويك وأكرمت فشكر لي خالدا، ومن النحاة من أجاز حذفه إن كان غير ضمير رفع كقوله: بعكاظ يعشي الناظرين إذا هم لمحوا شعاعه وإن أعملت الثاني في الظاهر أعملت الأول في ضميره إن كان مرفوعا نحو قاما وقعد أخواك واجتهدا فأكرمت أخويك ووقفا فسلمت على أخويك ومنه قول الشاعر: جفوني ولم أجف الأخلاء إنني ... لغير جميل من خليلي مهمل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 وإن كان ضميره غير مرفوع حذفته نحو أكرمت فسر أخواك وأكرمت فشكر لي خالد وأكرمت وأكرمني سعيد ومررت ومر بي علي. وهناك أحكام أخرى للتنازع يرجع إليها في كتب النحو المطولة. [سورة هود (11) : الآيات 61 الى 68] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 اللغة: (وَاسْتَعْمَرَكُمْ) عمركم وأسكنكم فالسين والتاء زائدتان، أو صيركم عامرين لها فهما للصيرورة ولهذه المادة في اللغة شعاب واسعة نعرضهما فيما يلي: عمر يعمر من باب دخل عمرا المنزل بأهله كان مسكونا وعمر المنزل سكنه فهو معمور وعمر الدار بناها والاسم العمارة وعمر بالمكان أقام وعمره الله أبقاه، وعمر يعمر من بابي دخل وضرب عمورا وعمارة وعمرانا الرجل بيته لزمه وعمرته كذا جعلته له طول عمره أو عمري واستعمره في المكان جعله يعمره واستعمر الله عباده في الأرض أي طلب منهم العمارة فيها ولكن الكلمة تحولت في العصر الحديث الى معنى الاستعمار المشئوم الذي يسير في طريقه الى الزوال، والمستعمرات ما تمتلكه دولة من الدول في بلاد غير بلادها فهي مولدة ولكنها صارت من الكلمات الدراجة التي تعبر عن معنى شائع فلا بأس باقرارها، أما العمر بفتح العين فهو الحياة والدين، وفي القسم يقال: لعمري ولعمر الله وهو مبتدأ محذوف الخبر وجوبا تقديره قسمي واللام الداخلة عليه للابتداء لا للقسم لأنه لا يجوز دخول قسم على قسم وتقول عمر الله ما فعلت بالنصب على المصدرية وسيرد المزيد من هذه المادة والأعاريب المستعملة فيها ونعود الى الآية التي نحن بصددها فنقول معنى واستعمركم فيها أي أمركم بالعمارة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 وقد قسم الفقهاء العمارة الى واجب وندب ومباح ومكروه والتفاصيل مذكورة في المطولات، وعن معاوية بن أبي سفيان: انه أخذ في احياء الأرض في آخر أمره فقيل له ما حملك على ذلك؟ فقال: ما حملني إلا قول القائل: ليس الفتى بفتى لا يستضاء به ... ولا تكون له في الأرض آثار وقيل المعنى استعمركم من العمر نحو استبقاكم من البقاء وقيل هو من العمري بمعنى أعمركم فيها دياركم ورثها منكم بعد انصرام أعماركم أو جعلكم معمرين دياركم تسكنونها مدة عمركم ثم تتركونها نغيركم. (فَعَقَرُوها) : ضربها قدار في رجليها فأوقعها فذبحوها واقتسموا لحمها وقدار هذا شقي معروف أشار إليه زهير بن أبي سلمى في معلقته عند ما وصف شؤم الحرب وما تولده من أضرار فقال: فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتتئم أراد فتلد الحرب لكم أبناء من خلالها كل واحد منهم يضاهي في الشؤم أحمر عاد وهو عاقر الناقة واسمه قدار بن سالف وأراد أحمر ثمود ولكنه أطلق عليه الاسم الشائع على عاد الثانية وهم قوم ثمود فلا معنى لمن قال أن زهيرا غلط. (جاثِمِينَ) : في المصباح جثم الطائر والأرنب يجثم من باب ضرب جنوما وهو كالبروك من البعير والفاعل جاثم وجثّام مبالغة. (لَمْ يَغْنَوْا) : لم يقيموا وفي المختار وغني بالمكان أقام به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 الإعراب: (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) ثم عطف سبحانه على ذلك قصة صالح وهي القصة الثالثة من من قصص السورة وقد تقدم اعراب هذه الكلمات بنصها في قصة هود. (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) هو مبتدأ وجملة أنشأكم خبر ومن الأرض جار ومجرور متعلقان بأنشأكم واستعمركم فيها عطف على أنشأكم. (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) الفاء الفصيحة واستغفروه فعل أمر وفاعل ومفعول به ثم حرف عطف وتوبوا إليه عطف على استغفروه وان واسمها وخبراها. (قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) قد حرف تحقيق وكان واسمها ومرجوا خبرها وفينا جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وقبل ظرف متعلق بمرجوا وهذا مضاف إليه والمراد لقد خيبت رجاءنا فيك لما كنا نتوسمه من مخايل تنبىء بالرشد. (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) الهمزة للاستفهام الانكاري بزعمهم وتنهانا فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وأن وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض وهما متعلقان بتنهانا وآباؤنا فاعل يعبد. (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) الواو استئنافية وان واسمها واللام المزحلقة وفي شك خبر إننا ومما صفة لشك. وجملة تدعونا صلة ونا مفعول تدعو واليه متعلقان به ومريب صفة لشك. (قالَ: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أرأيتم تقدم نظيره أكثر من مرة وهي هنا معلقة عن العمل لمجيء ما له صدر الكلام بعدها وان شرطية وكنت فعل الشرط والتاء اسم كان وعلى بينة خبر كان ومن ربي صفة لبينة. (وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ) وآتاني عطف على كنت والياء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 مفعول به أول ومنه حال ورحمة مفعول به ثان والفاء رابطة لجواب الشرط ومن اسم استفهام مبتدأ وينصرني فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به والجملة خبر وجملة فمن ينصرني جواب إن وإن الثانية شرطية وعصيته فعلها وجوابها محذوف دل عليه جواب الأولى أي فمن ينصرني والاستفهام هنا معناه النفي فكأنه قال فلا ناصر لي من الله إن عصيته وانما جاز الغاء رأيت هنا لأنها دخلت على جملة قائمة بنفسها من جهة أنها تفيد لو انفردت عن غيرها. (فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) الفاء عاطفة وما نافية وتزيدونني فعل مضارع وفاعل ومفعول به وغير مفعول ثان لتزيدونني قال أبو البقاء: الأقوى هنا أن تكون صفة لمفعول محذوف أي شيئا غير تخسير. (وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً) الواو عاطفة وهذه مبتدأ وناقة الله خبر ولكم حال لأنه كان في الأصل صفة لآية وتقدمت، وآية حال من ناقة الله والعامل فيها ما دل عليه اسم الاشارة من معنى الفعل. (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ) فذروها الفاء عاطفة وذروها فعل أمر ومفعول به وتأكل جواب الطلب ولذلك جزم وفي أرض الله متعلقان بتأكل. (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) ولا تمسوها عطف على ما تقدم ولا ناهية وتمسوها مجزوم بلا والواو فاعل والهاء مفعول به وبسوء متعلقان بتمسوها والفاء فاء السببية والكاف مفعول به وعذاب فاعل وقريب صفة. (فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) فعقروها الفاء عاطفة وعقروها فعل ماض وفاعل ومفعول به، فقال عطف على عقروها وجملة تمتعوا من فعل الأمر والفاعل مقول القول وفي داركم حال وثلاثة أيام ظرف متعلق بتمتعوا. (ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) اسم الاشارة مبتدأ ووعد خبر وغير مكذوب صفته ومكذوب يجوز أن يكون مصدرا على وزن مفعول نحو المجلود والمعقول والمنشور والمغبون ويجوز أن يكون اسم مفعول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 على الأصل وفيه تأويلان أحدهما غير مكذوب فيه ثم حذف حرف الجر فاتصل الضمير مرفوعا مستترا في الصفة والثاني انه جعل هو نفسه غير مكذوب لأنه قد وفى به وإذا وفى به فقد صدق. (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وجاء أمرنا فعل وفاعل ونجينا صالحا فعل وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها والذين عطف على صالحا وجملة آمنوا صلة ومعه ظرف مكان متعلق بآمنوا. (بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) برحمة حال أي ملتبسين برحمة ومناصفة ومن خزي متعلقان بمحذوف دل عليه ما قبله أي ونجيناهم من خزي ويومئذ يوم مضاف الى خزي ويوم مضاف والظرف وهو إذ مضاف اليه ولم يفتح اليوم لاضافته الى المبني لأن المضاف منفصل من المضاف إليه ولا يلزمه الاضافة فلما لم يلزم الاضافة المضاف لم يلزم فيه البناء ويجوز فتح يوم بالبناء على الفتح لاضافة الى المبني ومن ذلك قوله تعالى «انه لحق مثل ما انكم تنطقون» فمثل في موضع رفع وقد جرى وصفا للنكرة إلا انه فتح للاضافة إلى ما وسيأتي مزيد من هذا البحث. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) ان واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والقوي العزيز خبر ان لإن أو لهو والجملة خبر إن (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) الواو عاطفة على المعنى وأخذ فعل ماض وحذفت منه تاء التأنيث إما لكون المؤنث وهو الصيحة مجازيا أو للفصل بالمفعول به والذين مفعول به وجملة ظلموا صلة والصيحة فاعل فأصبحوا عطف على أخذ والواو اسم أصبح وجاثمين خبرها وفي ديارهم جار ومجرور متعلقان بجاثمين. (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) كأن مخففة من الثقيلة واسمها أي كأنهم، وجملة لم يغنوا خبرها وفيها متعلقان بيغنوا. (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) تقدم إعراب نظيره بحروفه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 الفوائد: للأفعال التي تنصب مفعولين ثلاثة أحكام (وهي أفعال القلوب) : 1- الإعمال: وهو الأصل فيها وهو نصب مفعولين. 2- الإلغاء: وهو إبطال العمل لفظا ومحلا لضعف العامل بتوسطه بين المبتدأ والخبر أو تأخره عنهما فلتوسط كزيد ظننت قائم والتأخر نحو زيد قائم ظننت. قال منازل بن ربيعة المنقري: أبالأراجيز يا ابن اللؤم توعدني ... وفي الأراجيز خلت اللؤم والخور فوسط خلت بين المبتدأ المؤخر وهو اللؤم والخبر المقدم وهو في الأراجيز. وقال أبو سيده الدبيري: وإن لنا شيخين لا ينفعاننا ... غنيين لا يجري علينا غناهما هما سيدانا يزعمان وإنما ... يسوداننا إن أيسرت غنماهما وإلغاء العامل المتأخر أقوى من إعماله والعامل المتوسط بالعكس فالإعمال فيه أقوى من إهماله. 3- التعليق: وهو ابطال العمل لفظا لا محلا لمجيء ما له صدر الكلام بعده وهو: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 لام الابتداء نحو «لقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من حلاق» فمن مبتدأ وهو موصول اسمي وجملة اشتراه صلة من وعائدها فاعل اشتراه المستتر فيه وما نافية وله وفي الآخرة متعلقان بالاستقرار خبر خلاق ومن زائدة وجملة ما له في الآخرة من خلاق خبر من والرابط بينهما الضمير المجرور باللام وجملة من وخبره في محل نصب معلق عنها العامل بلام الابتداء لأن لها الصدر فلا يتخطاها عامل. ولام القسم كقول لبيد: ولقد علمت لتأتينّ منيتي ... إن المنايا لا تطيش سهامها فاللام في لتأتين لام جواب القسم، والقسم وجوابه في محل نصب معلق عنها العامل بلام القسم. وما النافية نحو «لقد علمت ما هؤلاء ينطقون» فما نافية وهؤلاء مبتدأ وينطقون خبره والجملة الاسمية في موضع نصب بعلمت وهي معلق عنها العامل في اللفظ بما النافية. ولا وإن النافيتان الواقعتان في جواب قسم ملفوظ به أو مقدر فالقسم الملفوظ نحو: علمت والله لا زيد في ولا عمرو وعلمت والله إن زيد قائم. والاستفهام وله صورتان: آ- أن يعترض حرف الاستفهام بين العامل والجملة بعده نحو «وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون» فقريب مبتدأ وأم بعيد معطوف عليه وما اسم موصول في محل رفع خبر المبتدأ وما عطف عليه وجملة توعدون صلة الموصول والعائد محذوف وجملة المبتدأ وخبره في موضع نصب بأدري المعلق بالهمزة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 ب- أن يكون في الجملة اسم استفهام عمدة كان نحو «لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا» فأي اسم استفهام مبتدأ وأحصى خبره وهو فعل ماض وقيل اسم تفضيل من الإحصاء بحذف الزوائد وجملة المبتدأ والخبر معلق عنها نعلم لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ولا فرق في العمدة بين المبتدأ كما مر والخبر نحو علمت متى السفر والمضاف إليه نحو علمت أبو من زيد أو الخبر نحو علمت صبيحة أي يوم سفرك أو فضلة نحو «سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون» فأي منقلب مفعول مطلق منصوب بينقلبون مقدم من تأخير والأصل ينقلبون أي انقلاب وليست أي مفعولا به ليعلم كما قد يتوهم لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله وجملة ينقلبون معلق عنها العامل فهي في محل نصب. تنبيه هام: إنما يعطف على محل الجملة المعلق عنها العامل مفرد فيه معنى الجملة فنقول علمت لزيد قائم وغير ذلك من أموره ولا تقول علمت لزيد قائم وعمرو لأن مطلوب هذه الأفعال إنما هو مضمون الجمل فإن كان في الكلام مفرد يؤدي معنى الجملة صح أن تتعلق به وإلا فلا. قال كثير عزة: وما كنت أدري قبل عزة ما البكا ... ولا موجعات القلب حتى تولت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 فعطف موجعات بالنصب بالكسرة على محل ما البكا الذي علق عن العمل فيه قوله أدري وأبحاث الإلغاء والتعليق تضيق عن استيعابها هذه الفوائد فحسبنا ما ذكرناه ومن شاء المزيد فليرجع الى المطولات. [سورة هود (11) : الآيات 69 الى 76] وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 اللغة: (العجل) : ولد البقرة ويسمى الحسيل والخبش بلغة أهل السراة ويجمع على عجول وعجلة وعجال وعجاجيل قيل: سمي بذلك لتعجيل أمره بقرب ميلاده. (حَنِيذٍ) : المشوي على الحجارة المحماة في حفرة من الأرض وهو من فعل أهل البادية وكان سمينا يسيل منه الودك وكان عامة مال ابراهيم البقر وفي المختار حنذ الشاة شواها وجعل فوقها حجارة محماة لينضجها فهي حنيذ وبابه ضرب. (نَكِرَهُمْ) : في المختار: نكره بالكسر نكرا بضم النون وأنكره كله بمعنى، وعبارة الأساس: «أنكر الشيء ونكره واستنكره وقيل نكر أبلغ من أنكر وقيل: نكر بالقلب وأنكر بالعين. قال الأعشى: وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا وفيهم العرف والنّكر، والمعروف والمنكر، وشتم فلان فما كان عنده نكير، وهم يركبون المنكرات والمناكير، وهو من مناكير قوم لوط» . (أَوْجَسَ) : الإيجاس: الاحساس وحديث النفس وأصله من الدخول كأن الخوف داخله والوجيس ما يعتري النفس أو ان الفزع ووجس في نفسه كذا أي: خطر بها يجس وجسا ووجوسا ووجيسا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 (بَعْلِي) : البعل هو المستعلي على غيره ولما كان زوج المرأة مستعليا عليها قائما بأمرها سمي بعلا، ويقولون للنخل الذي يستغني بماء السماء عن سقي الأنهار والعيون بعل لأنه قائم بالأمر في استغنائه عن تكلف السقي له ويجمع البعل على بعول وبعال وبعولة والبعل الرب أيضا والسيد، يقولون: من بعل هذه الناقة أي ربها وبهذا المعنى استعملها الكنعانيون وغيرهم من عبدة الأصنام للدلالة على أعظم آلهتهم. (أَوَّاهٌ) : تقدمت معانيه في سورة التوبة. الإعراب: (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) ثم شرع سبحانه في القصة الرابعة من قصص السورة وهي قصة ابراهيم توطئة لقصة لوط لا استقلالا ولهذا خولف في أسلوب القصة عن سابقاتها فلم يقل وأرسلنا. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وجاءت رسلنا فعل وفاعل وابراهيم مفعول به وبالبشرى متعلقان بجاءت. (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) قالوا فعل وفاعل وسلاما مصدر معمول لفعل محذوف كما تقدم أي سلمنا سلاما وقال فعل ماض وسلام مبتدأ خبره محذوف أي عليكم وسوغ الابتداء به معنى الدعاء وهو أولى من جعله خبرا لمبتدأ محذوف أي قولي سلام وستأتي مسوغات الابتداء بالنكرة في باب الفوائد. (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) الفاء عاطفة وما لبث يجوز في ما أن تكون نافية ولبث فعل ماض فاعله أن وما في حيزها أي مجيئه أو الفاعل مستتر تقديره إبراهيم وان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 وما في حيزها خبره والتقدير فلبثه أو الذي لبثه قدر مجيئه. (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) الفاء عاطفة على محذوف والتقدير فقربه إليهم فلم يمدوا أيديهم فقال ألا تأكلون فلما رأى أيديهم والرؤية هنا بصرية، وأيديهم مفعول به وجملة لا تصل إليه حالية وجملة نكرهم لا محل لها لأنها جواب لمّا وأوجس منهم عطف على نكرهم وخيفة مفعول به ومنهم حال لأنه كان صفة لخيفة. (قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) لا تخف لا ناهية وتخف مجزوم بها وان واسمها وجملة أرسلنا خبرها ونا نائب فاعل والى قوم لوط جار ومجرور متعلقان بأرسلنا. (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) وامرأته الواو حالية أو استئنافية وامرأته مبتدأ وقائمة خبر، فضحكت فعل ماض وفاعله هي فبشرناها عطف أيضا وهو فعل وفاعل ومفعول به وبإسحاق متعلقان ببشرناها ومن وراء اسحق خبر مقدم ويعقوب مبتدأ مؤخر. (قالَتْ: يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) يا ويلتا كلمة تقال للتعجب من أمر عجيب خارق للعادة من خير أو شر وهو منادى مضاف إلى ياء المتكلم المنقلبة ألفا وكذلك في يا لهفا ويا عجبا وقيل هي ألف الندبة التي يوقف عليها بهاء السكت وسيأتي الكلام عنها في حينه، أألد: الاستفهام مقصود به التعجب والواو حالية وأنا مبتدأ وعجوز خبر والجملة نصب على الحال من الضمير المستتر في أألد. (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) الواو حالية وهذا مبتدأ وبعلي خبر وشيخا حال والعامل فيه ما في اسم الاشارة من معنى الفعل، قال الزجاج: الحال هاهنا نصبها من لطيف النحو وذلك انك إذا قلت هذا زيد قائما يصلي فإن كنت تقصد أن تخبر من لا يعرف زيدا انه زيد لم يجز أن تقول هذا زيد قائما لأنه يكون «زيدا» ما دام قائما فإذا زال عن القيام فليس بزيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 وانما تقول للذي يعرف زيدا: هذا زيد قائما فيعمل في الحال التنبيه والمعنى انتبه لزيد في حال قيامه أو أشير لك الى زيد في حال قيامه. وإن واسمها واللام المزحلقة وشيء خبرها وعجيب صفة. (قالُوا: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) الهمزة للاستفهام والمقصود به النهي أي لا تعجبي ولم ينكروا عليها لأن عجبها ليس إنكارا وانما هو دهشة بما هو خارق للعادة، وتعجبين فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والياء فاعل ومن أمر الله جار ومجرور متعلقان بتعجبين. (رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) رحمة الله مبتدأ وبركاته عطف على رحمة وعليكم خبر رحمة وأهل البيت نصب على الاختصاص المراد به المدح ويجوز أن يكون منادى محذوفا منه حرف النداء أي يا أهل البيت وان واسمها وخبراها. وبين النصب على المدح والنصب على الاختصاص فرق ولذلك جعلهما سيبوية في بابين وهو أن المنصوب على المدح لفظ يتضمن بوضعه المدح كما أن المنصوب على الذم يتضمن بوضعه الذم والمنصوب على الاختصاص لا يكون إلا لمدح أو ذم لكن لفظه لا يتضمن بوضعه المدح ولا الذم كقوله «بنا تميما يكشف الضباب» وقوله «ولا الحجاج عيني نبت ماء» (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وذهب عن ابراهيم الروع فعل وفاعل وجاءته البشرى عطف على ذهب وجواب لما محذوف تقديره أقبل أو فطن لمجادلتهم. (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) جملة يجادلنا حالية أو مستأنفة وفي قوم لوط متعلقان بيجادلنا (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) ان واسمها واللام المزحلقة وحليم وأواه ومنيب أخبار ثلاثة. (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 الجملة مقول قول محذوف أي قالت الملائكة، وأعرض فعل أمر وعن هذا متعلقان به والاشارة الى الجدال. (إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) ان واسمها وجملة قد جاء أمر ربك خبر وانهم ان واسمها وآتيهم خبرها وعذاب فاعل آتيهم وغير صفة ومردود مضاف إليه. البلاغة: الاستعارة التمثيلية في قوله «فلما رأى أيديهم لا تصل إليه» جعل عدم الوصول استعارة لامتناعهم عن الأكل والمعنى لا يمدون أيديهم الى أكله فهو لا يريد أن ينفي الوصول الناشئ عن المدّ. الفوائد: مسوغات الابتداء بالنكرة: الواجب في المبتدأ أن يكون معرفة ويسوغ الابتداء بالنكرة إذا أفادت وذلك في مواضع أهمها: 1- بالاضافة اللفظية نحو «خمس صلوات كتبهن الله» وقد تكون الاضافة بالمعنى نحو «قل كلّ يعمل على شاكلته» أي كل أحد. 2- بالوصف لفظا نحو «لعبد مؤمن خير من مشرك» أو تقديرا نحو: أمر أتى من ربك أي عظيم، أو معنى بأن تكون النكرة مصغرة نحو: رجيل عندنا أي رجل حقير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 3- بأن يكون خبرها ظرفا أو جارا ومجرورا مقدما عليها نحو «وفوق كل ذي علم عليم» «ولكل أجل كتاب» . 4- بأن تقع بعد نفي أو استفهام أو لولا أو إذا الفجائية نحو: ما أحد عندنا ونحو «أإله مع الله» وقول الشاعر: لولا اصطبار الأودى كل ذي مقة ... لما استقلّت مطاياهنّ للظّعن ونحو: خرجت فاذا أسد رابص. 5- بأن تكون عاملة نحو: إعطاء قرشا في سبيل العلم ينهض بالأمة. 6- بأن تكون مبهمة كأسماء الشرط والاستفهام وما التعجبية وكم الخبرية. 7- بأن تكون مفيدة للدعاء بخير أو شر فالأول نحو: «سلام عليكم» والثاني: «ويل للمطففين» . 8- بأن تكون خلفا عن موصوف نحو: عالم خير من جاهل. 9- بأن تقع صدر جملة حالية نحو: سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا ... محياك أخفى ضوءه كلّ شارق 10- بأن يراد بها التنويع أي التفصيل والتقسيم كقول امرئ القيس: فأقبلت زحفا على الركبتين ... فثوب نسيت وثوب أجر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 11- بأن تعطف على معرفة أو يعطف عليها معرفة نحو: خالد ورجل يتعلمان النحو، أو رجل وخالد يتعلمان النحو. 12- بأن تعطف على نكرة موصوفة نحو: «قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى» . 13- بأن يراد بها حقيقة الجنس لا فرد واحد منه نحو: ثمرة خير من جرادة. 14- بأن تقع جوابا نحو: رجل، في جواب من قال: من عندك؟ [سورة هود (11) : الآيات 77 الى 83] وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 اللغة: (سِيءَ بِهِمْ) أصله سوىء بهم من السوء فأسكنت الواو وقلبت كسرتها الى السين ويقال: سؤته فسيء كما يقال شغلته فشغل وسررته فسرّ. (ذَرْعاً) : من أقوالهم ضاق فلان ذرعا: والذرع يوضع موضع الطاقة والأصل فيه أن البعير يذرع بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوه فإذا حمل عليه أكثر من طوقه ضاق ذرعه عن ذلك وضعف ومدّ عنقه فجعل ضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع والطاقة فمعنى قوله تعالى «وضاق بهم ذرعا» أي لم يجد من ذلك المكروه مخلصا، وقال بعض علماء اللغة: معناه وضاق بهم قلبا وصدرا ولا يعرف أصله إلا أن يقال إن الذرع كناية عن الوسع، والعرب تقول: ليس هذا في يدي، يعنون ليس هذا في وسعي لأن الذراع من اليد، وقال آخرون: ويقال ضاق فلان ذرعا بكذا إذا وقع في مكروه ولا يطيق الخروج منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 وفي القاموس والتاج ما ملخصه: «الذّرع مصدر، بسط اليد، وضقت بالأمر ذرعا: أي لم أقدر عليه وهو واسع الذرع أي مقتدر وهو خالي الذرع أي قلبه خال من الهموم والغموم» . (يُهْرَعُونَ) : أي يسوق بعضهم بعضا وفي المصباح هرع وأهرع بالبناء فيهما للمفعول إذا أعجل على الإسراع. وفي القاموس: والهرع محرك وكغراب والاهراع مشي في اضطراب وسرعة وأقبل يهرع بالضم واهرع بالبناء للمجهول فهو مهرع مرعد من غضب أو خوف وقد هرع كفرح ورجل هرع سريع البكاء. (عَصِيبٌ) : العصيب الشديد في الشر خاصة وأصله من الشد يقال عصبت الشيء شددته وعصبت فخذ الناقة لثدر وناقة عصوب ويوم عصيب وعصبصب كأنه التف على الناس بالشر أو يكون التف شره بعضه ببعض قال الشاعر: فإنك إن لم ترض بكر بن وائل ... يكن لك يوم بالعراق عصيب وقال الراجز: يوم عصيب ويعصب الأبطالا ... عصب القوي السلم الطوالا (رُكْنٍ) الركن: معتمد البناء بعد الأساس وركنا الجبل جانباه قال الراجز: يأوي الى ركن من الأركان ... في عدد طلس ومجد بان (فَأَسْرِ) : من أسرى بمعنى سرى أي سار ليلا قال النابغة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 أسرت عليه من الجوزاء سارية ... تزجي الشمال عليه جامد البرد ويروى سرت، وقال امرؤ القيس: سريت بهم حتى تكل مطيهم ... وحتى الجياد ما يقدن بأرسان (سِجِّيلٍ) : قال الزمخشري: «قيل هي كلمة معربة من سنككل بدليل قوله حجارة من طين وقيل هي من أسجله إذا أرسله لأنها ترسل على الظالمين وقيل مما كتب الله أن يعذب به من السجل وسجل لفلان» وقال أبو عبيدة: «هو الحجارة الشديدة» وأنشد لابن مقبل: ورجلة يضربون البيض ضاحية ... ضربا تواصى به الأبطال سجينا وسجين وسجيل بمعنى واحد والعرب تعاقب بين النون واللام فقلبت النون هاهنا لاما» واكتفى صاحب القاموس بقوله: «السجيل الطين اليابس» . (مَنْضُودٍ) : متراكب والنضد جعل الشيء بعضه فوق بعض والمراد وصف الحجارة بالكثرة. (مُسَوَّمَةً) : معلمة للعذاب، والتسويم العلامة. الإعراب: (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) لما ظرفية حينية أو رابطة وجاءت رسلنا لوطا فعل وفاعل ومفعول به وجملة سيء بهم لا محل لها ونائب الفاعل يعود الى لوط وبهم جار ومجرور متعلقان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 به وذرعا تمييز محول عن الفاعل. (وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) وقال عطف على ضاق وهذا مبتدأ ويوم خبر وعصيب صفة والجملة مقول القول. (وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) الواو عاطفة وجاءه قومه فعل ومفعول به وفاعل وجملة يهرعون في محل نصب على الحال واليه متعلقان بيهرعون. (وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) الواو حالية ومن قبل من حرف جر وقبل ظرف مبني على الضم لانقطاعه عن الاضافة لفظا لا معنى والجار والمجرور متعلقان بيعملون وكان واسمها وجملة يعملون السيئات خبر كانوا. (قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) هؤلاء مبتدأ وبناتي خبر وكذلك قوله هن أطهر لكم، وجوزوا في بناتي أن يكون بدلا أو عطف بيان، وهن ضمير فصل لا محل له وأطهر خبر هؤلاء، ولكم متعلقان بأطهر لأنه اسم تفضيل ولا يرد اعتراض خلاصته ان اسم التفضيل يعني المشاركة ليصح التفضيل فيقتضي أن يكون الذي يطلبونه من الرجال طاهرا والجواب أن هذا جار مجرى: أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم ومعلوم أن شجرة الزقوم لا خير فيها على الإطلاق. (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) الفاء الفصيحة واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به ولا تخزوني عطف على اتقوا الله ولا ناهية وتخزوني مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والنون للوقاية والواو فاعل والياء مفعول به وفي ضيفي جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، والضيف في الأصل مصدر ثم أطلق على الطارق ليلا إلى المضيف ولذلك يقع على المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع وقد يثنى فيقال ضيفان وقد يجمع فيقال أضياف وضيوف وضيفان. (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) الاستفهام للانكار والتوبيخ وليس فعل ماض ناقص ومنكم خبر ليس للمقدم ورجل اسمها المؤخر ورشيد صفة. (قالُوا: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ) علمت معلقة عن العمل بما النافية ولنا خبر مقدم وفي بناتك حال لأنه كان في الأصل صفة لحق وتقدمت ومن حرف جر زائد وحق مبتدأ مؤخر محلا. (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وجملة تعلم خبرها، وما: يجوز أن تكون مصدرية وأن تكون موصولة أي تعرف الذي نريد أو تعلم إرادتنا (قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) لو شرطية وأن وما في حيزها فاعل لفعل محذوف تقديره ثبت واستقر وأما سيبويه فيرى انه مبتدأ لا خبر له وسيأتي تفصيل ذلك في باب الفوائد. وأن حرف مشبه بالفعل ولي خبرها المقدم وبكم حال من قوة إذ هو في الأصل صفة للنكرة وقوة اسم ان وجواب لو محذوف تقديره لفعلت بكم وصنعت وأو حرف عطف وآوي معطوف على المعنى وتقدير الكلام أو أني آوي، ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة ثبت المحذوفة إذا أعربت أن وما في حيزها فاعلا لفعل محذوف، ويجوز أن تعطف على قوة لأنه منصوب في الأصل بتقدير «ان» فلما حذفت «أن» رفع الفعل كقوله تعالى «ومن آياته يريكم» واستضعف أبو البقاء هذا الوجه. والى ركن متعلق بآوي وشديد صفة. (قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) إن واسمها ورسل ربك خبرها ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويصلوا مضارع منصوب بأن وإليك متعلقان بيصلوا (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) الفاء عاطفة وبأهلك حال أي مصاحبا لهم وبقطع حال من أهلك أي مصاحبين لقطع، ولك أن تجعل الباء للتعدية فتعلقها بأسر والقطع هنا نصف الليل لأنه قطعة منه مساوية لباقيه وقد تقدم الكلام على القطع في سورة يونس، ومن الليل صفة لقطع. (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) الواو حرف عطف ولا ناهية ويلتفت فعل مضارع مجزوم بلا ومنكم حال لأنه كان في الأصل صفة لأحد وأحد فاعل وإلا أداة استثناء وامرأتك مستثنى من قوله فأسر بأهلك وفي قراءة بالرفع بدل من أحد وسيأتي تفصيل مسهب لهذا الاستثناء والمعنى لا تسر بها وخلّفها مع قومها وقيل هي مستثنى من أحد وان واسمها والهاء ضمير الشأن والحديث ومصيبها خبر مقدم وما اسم موصول مبتدأ مؤخر وجملة أصابهم صلة والجملة خبر ان لأن ضمير الشأن يفسر بجملة مصرح بجزأيها. (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) إن واسمها والصبح خبرها والهمزة للاستفهام التقريري وليس واسمها والباء حرف جر زائد وقريب مجرور لفظا خبر ليس محلا (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) لما ظرفية حينية أو رابطة وجاء أمرنا فعل وفاعل وجملة جعلنا جواب لما ونا فاعل وعاليها مفعول جعل الاول وسافلها مفعول جعلنا الثاني. (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) وأمطرنا عطف على جعلنا وعليها متعلقان بأمطرنا وحجارة مفعول به ومن سجيل صفة لحجارة ومنضود صفة لسجيل ومسومة صفة ثانية لحجارة وعند ربك الظرف متعلق بمسومة. (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) ما حجازية وهي اسمها واختلف في هذا الضمير فقيل يعود على العقوبة المفهومة السياق وقيل يعود على الحجارة وهي أقرب مذكور وقيل يعود على القرى المهلكة وكل ما ذكروه جائز وسائغ. ومن الظالمين متعلقان ببعيد والباء حرف جر زائد وبعيد مجرور لفظا خبر ما محلا ولم يؤنث بعيدا إما لأنه في الأصل نعت لمكان محذوف تقديره وما هي بمكان بعيد بل قريب وإما لأن العقوبة والعقاب شيء واحد وإما لتأويل الحجارة بعذاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 الفوائد: 1- عود إلى «لو» : تقدم بحث لو في البقرة وغيرها ونزيد هنا بحث الاسم الواقع بعد لو الشرطية والمعروف أنها تختص بالفعل شرطية كانت أم مصدرية ويجوز أن يليها الاسم فيعرب فاعلا لفعل محذوف يفسره ما بعده وعلى ذلك يتخرج قول عمر بن الخطاب لأبي عبيدة وقد كان في طريقة الى الشام وبلغه في أثناء الطريق قبل الوصول إليها انه وقع بها وباء فاستشار في التوجه اليه أو الرجوع الى المدينة فاختلفوا عليه ثم أجمع أمره على الرجوع بعد أن أشار به جماعة من الصحابة فقال له أبو عبيدة ابن الجراح أفرارا من قدر الله تعالى؟ فقال له عمر بن الخطاب: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفرّ من قدر الله إلى قدره. فغيرك فاعل لفعل محذوف يفسره قالها والتقدير لو قالها غيرك وجواب لو محذوف أي لعذرناه. وقال الغطمش الضبي: أقول وقد فاضت لعيني عبرة ... أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب أخلاي لو غير الحمام أصابكم ... عتبت ولكن ما على الدهر معتب فغير فاعل بفعل محذوف يفسره أصابكم والتقدير لو أصابكم غير الحمام- وهو بكسر الحاء الموت- عتبت، ومن ملاحظات التبريزي على هذا البيت الثاني قوله: الناس ينشدون أخلاي بياء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 مفتوحة وكأنهم حملوه على قصر المحدود وأجود من ذلك في حكم العربية أن ينشد أخلاء بهمزة مكسورة ويراد يا أخلائي فحذفت ياء الاضافة وتركت الهمزة كما تقول يا غلام، ومن ذلك أيضا قولهم في المثل «لو ذات سوار لطمتني» أخذا من قول حاتم الطائي حين لطمته جارية وهو مأسور في بعض أحياء العرب فذات سوار فاعل بفعل محذوف على شريطة التفسير والتقدير لو لطمتني ذات سوار وذات السوار الحرة لأن الإماء عند العرب لا تلبس السوار وجواب لو محذوف والتقدير لهان الأمر علي، أو يكون منصوبا بفعل محذوف أو خبرا لكان محذوفة فمثال الاول: لو زيدا رأيته أكرمته والثاني: نحو التمس ولو خاتما من حديد وقد تقدم ذلك. ويجوز أن يلي «لو» كثيرا أن المشددة وصلتها نحو «ولو أنهم صبروا» والآية التي نحن بصددها وهي «لو أن لي قوة» واختلف في اعراب أن وما في حيزها بعد أن اتفق الجميع على أنه مرفوع الموضع فقال سيبويه وجمهور البصريين مبتدأ لا خبر له أو خبره محذوف والتقدير ولو صبرهم ثابت وذهب الكوفيون والزمخشري والمبرد والزجاج من البصريين الى انه فاعل بثبت مقدرا كما تقدم أي ولو ثبت صبرهم وسيأتي المزيد من أحكام «لو» في مواضع أخرى من هذا الكتاب. 2- أقوال النحاة في «إلا امرأتك» : والفائدة الثانية هي أقوال النحاة في استثناء امرأتك قالوا: «ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك» بالرفع في قراءة أبي عمرو وابن كثير فامرأتك بدل من أحد بدل بعض من كل والنصب عربي جيد وقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 قرىء به في السبع لكنه خلاف المنتخب الراجح والذي قرىء به أكثر ومن هنا جعل الزمخشري النصب على الاستثناء من أهلك ليكون من تام موجب، والرفع على البدلية من أحد، واعترض بأنه يستلزم التناقض بين القراءتين فإن المرأة تكون مسريا بها على قراءة الرفع وغير مسري بها على قراءة النصب وأجاب أنصار الزمخشري بأن إخراجها من جملة النهي لا يدل على أنها مسري بها بل على أنها معهم وقد روي انها تبعتهم، وقد فنّد ابن هشام اعراب الزمخشري وقال إنه خلاف الظاهر وأسهب في الحديث عن هذا الاستثناء في الجهة الثانية من الباب الخامس. أقول: والأظهر من هذا كله أن الاستثناء من جملة الأمر أي فأسر بأهلك والاستثناء منقطع على القراءتين ووجه الرفع انه على الابتداء وخبره الجملة بعده وعندئذ تكون قراءة النصب جيدة غير مرجوحة وتتفادى بذلك وقوع غير المرجوح في القرآن، وقد تقدم في ابن نوح «انه ليس من أهلك» لأن المراد بالأهل المؤمنون وعلى هذا تكون امرأته من غير أهله. البلاغة: في قوله تعالى: «أليس الصبح بقريب» إرسال المثل أو التمثيل وهو فن يمكن تعريفه بأن يكون ما يخرجه المتكلم ساريا مسير الأمثال السائرة وقد تقدمت الاشارة إليه وسيرد المزيد منه وقد عني علماؤنا الأقدمون باستقصاء جميع أمثال الكتاب العزيز من السور على ترتيبها، أما في الشعر العربي فقد أوردنا فيما تقدم أمثالا ضمنها شاعر الخلود أبو الطيب المتنبي أبياته فجاءت آية في الإبداع كما أوردنا قصيدة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 لابن زيدون، ويحكى انه كان بعض مشايخ الأنبار في زمن الرشيد يؤذن ويصلي في مسجد وكان إذا حضر أوان الورد دفع مفتاح المسجد الى أهل المحلة ثم انغمس في لجة لهوه فلم يظهر وفي الدنيا وردة وكان إذا جلس الى شرابه يغني بصوت عال ويقول: يا صاحبي اسقياني ... من قهوة خندريس خذا من الورد حظا ... بالقصف غير حبيس على وجينات ورد ... يذهبن همّ النفوس ما تنظران فهذا ... زمان حث الكؤوس فبادروا قبل فوت ... «لا عطر بعد عروس» [سورة هود (11) : الآيات 84 الى 95] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 اللغة: (يَجْرِمَنَّكُمْ) : مضارع جرم وبابه ضرب كما في المختار ويتعدى لواحد أو اثنين ومعناه يكسبنكم. (رَهْطِي) : الرهط: جماعة الرجل وقيل الرهط والراهط لما دون العشرة من الرجال ولا يقع الرهط والعصبة والنفر إلا على الرجال وقال الزمخشري: من الثلاثة الى العشرة وقيل الى التسعة ويجمع على أرهط وأرهط على أراهط. وفي القاموس والتاج: الرّهط والرّهط: قوم الرجل وقبيلته، وعدد يجمع من الثلاثة الى العشرة وليس فيهم امرأة ولا واحد له من لفظه والجمع أرهط وأرهاط وجمع الجمع أراهط وأراهيط وإذا أضيف الى الرهط عدد كان المراد به الشخص والنفس نحو: عشرون رهطا أي شخصا ويقال: ذوو رهط أي مجتمعون. (ظِهْرِيًّا) : منبوذا خلف ظهوركم لا تراقبونه والظهري منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب والقياس فتح الظاء وقد قالوا في أمس إمسيّ بكسر الهمزة وفي الدهر دهري بضم الدال وسيأتي في باب الفوائد ما يطرأ على النسب من تغيير وللظهر في لغتنا تعابير نوردها ملخصة من معاجم اللغة: يقال ساروا في طريق الظهر أي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 طريق البر وقرأ الكتاب على ظهر قلبه أو على ظهر لسانه أي حفظا وأعطاه عن ظهر يد أي ابتداء بلا مكافأة وهو نازل بين ظهريهم وظهرانيهم وبين أظهرهم أي وسطهم وفي معظمهم ورأيته بين ظهراني الليل أي بين العشاء والفجر وقلب له ظهر المجن أي تغير عليه وعاداه وقلب الأمر ظهرا لبطن أي أنعم تدبيره وقتله ظهرا أي غيلة وهو يأكل على ظهر يدي أي إنني أنفق عليه وهذا من غريب لغتنا ونادره وما أجمل قول عمر بن أبي ربيعة: وضربنا الحديث ظهرا لبطن ... وأتينا من أمرنا ما اشتهينا (مَكانَتِكُمْ) : المكانة إما بمعنى المكان يقال مكان ومكانة ومقام ومقامة وإما مصدر من مكن فهو مكين. الإعراب: (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) جرت العادة أن يستهل كل قصة من قصص هذه السورة بهذه الجملة وهذه هي القصة السادسة وقد تقدم اعراب هذه الجملة بلفظها. (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) الواو عاطفة ولا ناهية وتنقصوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والمكيال مفعول به والميزان عطف على المكيال وان واسمها وجملة أراكم خبرها وجملة إني أراكم تعليلية للنهي. (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) الواو عاطفة وان واسمها وجملة أخاف عليكم خبرها وعذاب مفعول به ويوم مضاف إليه ومحيط صفة. (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 أوفوا فعل أمر والواو فاعل والمكيال مفعول به والميزان عطف عليه وبالقسط حال أي عادلين. (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتبخسوا مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والناس مفعول به وأشياءهم مفعول به ثان أي لا تنقصوهم أموالهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين عطف أيضا ومفسدين حال. (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) بقية الله مبتدأ أي رزقه الباقي بعد إيفاء الكيل والوزن، وخير خبر ولكم متعلقان بخير وان شرطية وكنتم فعل الشرط ومؤمنين خبر كنتم والجواب محذوف أي فبقية الله خير، وما الواو عاطفة وما نافية حجازية وأنا اسمها وعليكم متعلقان بحفيظ والباء حرف جر زائد وحفيظ مجرور لفظا منصوب محلا. (قالُوا: يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) الهمزة للاستفهام ومعناه الهزء والسخرية وصلاتك مبتدأ وجملة تأمرك خبر وأن وما في حيزها منصوب بنزع الخافض ومتعلقان بتأمرك أي تأمرك بترك، وما موصولية أو مصدرية وعلى كل حال هي مفعول الترك وجملة يعبد لا محل لها على الحالين وآباؤنا فاعل. (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) أو حرف عطف وأن نفعل مصدر مؤول معطوف على ما في حالتيها فالترك مسلط عليه أي هل تأمرك بتكليف لنا ترك ما يعبد آباؤنا وترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء. هذا وقد أورد ابن هشام في مغني اللبيب هذه الآية في الباب الخامس من الكتاب في الجهات التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها قال «وبعض هذه الأمثلة وقع للمعربين فيه وهم بهذا السبب وسترى ذلك معينا فأحدها قوله تعالى: «أصلاتك تأمرك أن نترك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء، فإنه يتبادر الى الذهن عطف أن نفعل على أن نترك وذلك باطل لأنه لم يأمرهم أن يفعلوا في أموالهم ما يشاءون وانما هو معطوف على «ما» فهو معمول للترك، والمعنى أن نترك ان نفعل» الى أن يقول: «وموجب هذا الوهم المذكور أن المعرب يرى أن والفعل مرتبين وبينهما حرف العطف» واختلف في «أو» فقيل هي بمعنى الواو وقيل هي على بابها للتخيير بمنزلتها في قولك جالس الحسن أو ابن سيرين. وما اسم موصول نفعل وجملة نشاء صلة. (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) إما أن يكونوا قد أرادوا الهزء به الى أقصى درجة فعكسوا ليتهكموا وإما أن يكون على حقيقته وان ما يأمرهم به لا يتفق مع ما يتسم به وإن واسمها واللام المزحلقة وأنت مبتدأ والحليم الرشيد خبراه والجملة خبر إنك. (قالَ: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) أرأيتم تقدم انها بمعنى أخبروني فينصب مفعولين وقد حذفا معا وتقدير الأول أخبروني فياء المتكلم هي المفعول الأول والثاني يقدر غالبا بجملة استفهامية أي أفأشوب رزقي بالحرام من البخس والتطفيف، وإن شرطية وكنت كان واسمها وهي فعل الشرط وعلى بينة خبر كنت ومن ربي صفة لبينة وجواب الشرط محذوف يدل عليه المفعول الثاني المحذوف ورزقني فعل وفاعل مستتر ومفعول به ورزقا مفعول به أو مفعول مطلق وحسنا صفة. (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) ما نافية وأريد فعل مضارع وفاعله أنا وأن وما في حيزها مفعول أريد وإلى ما متعلقان بأخالفكم وجملة أنهاكم عنه صلة والمعنى ما أريد أن أسبقكم الى أهوائكم التي نهيتكم عنها، يقال خالفه الى كذا إذا قصده وهو مول عنه. (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) ان نافية وأريد فعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 مضارع فاعله مستتر تقديره أنا وإلا أداة حصر والإصلاح مفعول به وما ظرفية زمانية متعلقة بأريد. (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) ما نافية وتوفيقي مبتدأ وإلا أداة حصر وبالله خبر وعليه متعلقان بتوكلت وإليه متعلقان بأنيب والجملتان حاليتان. (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ) لا يجرمنكم لا ناهية ويجرمنكم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وهو في موضع جزم بلا والكاف مفعوله الأول وشقاقي فاعل وأن وما في حيزها مفعول يجرمنكم الثاني والكاف مفعول يصيبكم ومثل فاعل يصيبكم وهو في الأصل صفة لفاعل محذوف أي عذاب مثل، وما مضاف إليه أي مثل الذي وجملة أصاب صلة وقوم نوح مفعول به. (أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) أو قوم هود عطف على قوم نوح وكذلك قوم صالح وما نافية حجازية وقوم اسمها ولوط مضاف إليه ومنكم جار ومجرور متعلقان ببعيد والباء حرف جر زائد وبعيد مجرور بالباء لفظا خبر ما محلا وأتى ببعيد مفردا وإن كان خبرا عن جمع لأحد أمور منها حذف مضاف تقديره وما إهلاك قوم لوط واما باعتبار زمان أي بزمان بعيد أو مكان أي بمكان بعيد أو لأن صيغة فعيل يستوي فيها المذكر والمؤنث مما سيرد معنا في تضاعيف هذا الكتاب الجامع. (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) واستغفروا ربكم فعل أمر وفاعل ومفعول به ثم توبوا إليه عطف على استغفروا وان واسمها وخبراها. (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) ما نافية ونفقه فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن وكثيرا مفعول به ومما صفة لكثيرا وجملة تقول صلة. (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) وانا ان واسمها واللام المزحلقة وجملة نراك خبر ان والكاف مفعول به وفينا حال وضعيفا مفعول به ثان لأن الرؤية علمية وان روي انه كان أعمى وألثغ لأنه لو قيل انا لنراك فينا أعمى لم يكن كلاما لأن الأعمى أعمى فيهم وفي غيرهم، ولولا حرف امتناع لوجود ورهطك مبتدأ محذوف الخبر واللام رابطة لجواب لولا وجملة رجمناك لا محل لها وما نافية حجازية وأنت اسمها والباء زائدة وعزيز خبرها وقد تقدمت نظائره كثيرا. (قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي ورهطي مبتدأ وأعز خبر وعليكم ومن الله متعلقان بأعز. (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) الواو حاليا بتقدير قد أي والحال انكم اتخذتموه وراءكم واتخذ يجوز أن يتعدى لاثنين أولهما الهاء والثاني ظهريا، ووراءكم متعلقان باتخذتموه أو حال من ظهريا ويجوز أن يتعدى لواحد فيكون الهاء مفعوله وظهريا حال والواو في اتخذتموه لاشباع ضمة الميم. (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) ان واسمها وبما متعلقان بمحيط وجملة تعملون صلة ومحيط خبر إن (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ) اعملوا فعل أمر وفاعل وعلى مكانتكم حال أي حال كونكم موصوفين بالمكانة العالية والقدرة البعيدة وان واسمها وخبرها. (سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) سوف حرف استقبال وتعلمون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والجملة استئناف بياني وسيأتي المزيد منه في باب البلاغة ومن اسم موصول مفعول به لتعلمون وهذا أرجح من جعلها استفهامية كما أعرابها بعضهم لتتساوق مع من الثانية وهي موصولة باتفاق وجملة يأتيه صلة والهاء مفعول يأتي وعذاب فاعل يأتي وجملة يخزيه صفة لعذاب. (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) ومن اسم موصول عطف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 على من الأولى وهو مبتدأ وكاذب خبر والجملة صلة وارتقبوا عطف على المعنى وارتقبوا فعل أمر وفاعل وإن واسمها ومعكم ظرف متعلق برقيب ورقيب خبر ان. (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) تقدم إعراب نظيرها تماما. (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) الذين مفعول مقدم لأخذت وجملة ظلموا صلة الموصول والصيحة فاعل أخذت. (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) أصبح واسمها وجاثمين خبرها وفي ديارهم متعلقان بجاثمين. (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) كأن مخففة واسمها محذوف وجملة لم يغنوا خبرها وفيها متعلقان بيغنوا وألا أداة تنبيه وبعدا مفعول مطلق لفعل محذوف ولمدين جار ومجرور متعلقان بمحذوف وقد تقدم وكما نعت لبعد وما مصدرية أي كبعد ثمود. البلاغة: 1- التكرار: فقد وقع التكرار في هذه القصة من ثلاثة أوجه لأنه قال ولا تنقصوا المكيال والميزان وهذا عين الاول وليس فيه إلا التعبير تبخسوا الناس أشياءهم والفائدة فيه أن القول لما كانوا مصرين على ذلك العمل القبيح احتيج في المنع منه الى المبالغة في التأكيد، والتكرير يفيد شدة الاهتمام بالشيء وقد نهوا أولا عن القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان ثم ورد الأمر بالإيفاء مصرحا بلفظه ليكون أهيج عليه وأدعى الى الترغيب فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 2- الاستئناف البياني: إذا كان الكلام المسوق أولى مما سبقه بالانتباه وأجدر بلفت الأسماع اليه قطع عما قبله بما يلفت النظر اليه وذلك في قوله تعالى: «ويا قوم اعلموا على مكانتكم اني عامل سوف تعلمون» فقد حذفت الفاء التي يتطلبها السياق لتلفت نظر السامع وانتباهه الى أن ثمة سؤالا وهو فماذا يكون بعد ذلك وهو أبلغ في التهويل لأن قوله سوف تعلمون ينطوي على ما لا يدرك كنهه ولا يسبر غوره من أعمال الانتقام والتهديد. قال الزمخشري في صدد هذا الحذف: «أي فرق بين إدخال الفاء وتركها في سوف؟» وأجاب بقوله: «إدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل وتركها وصل خفي تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا: فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت على مكانتك فقيل سوف تعلمون وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف لأنه أكمل في باب الفصاحة والتهويل. 3- التعريض: وفي قوله إني عامل تعريض وقد تقدمت الاشارة الى هذا الفن فقد ذكر لهم احدى العاقبتين دون ذكر الثانية تعريض أبلغ من التصريح وقد تقدم نظير هذا في سورة الانعام إذ قال «قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار» فذكر هناك إحدى العاقبتين لأن المراد بهذه العاقبة عاقبة الخير واستغنى عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 ذكر مقابلتها، أما في آية هود فقد ذكر عاقبتهم وهي «سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه» واستغنى بها عن عاقبته وقد لا يذكر عاقبته فتنصرف الى المخاطب كقولك لمن تهدده: ستعلم من يهان ومن يعاقب وانما تعني المخاطب في الكلامين. الفوائد: النسبة المعدولة عن القياس: نسبت العرب إلى أشياء كثيرة فغيروا لفظ المنسوب اليه فاستعمل ذلك كما استعملته العرب ولا يقاس عليه غيره، وقواعد النسبة معروفة في كتب النحو، وإنما أتت هذه النسبة معدولة عن القياس فمن ذلك قولهم بدوي نسبة الى البادية والقياس بادي أو بادوي وقالوا بصري بكسر الباء نسبة الى البصرة والقياس فتحها وقالوا طائي والقياس طيئي وقالوا سهلي ودهري بضم السين والدال والقياس سهلي ودهري وقالوا بحراني في النسب الى البحرين وصنعاني في النسب الى صنعاء وقد قسموا ذلك الى تسعة أقسام نوردها باختصار: 1- بالتحريف فقط كقولهم أموي بالفتح في الهمزة نسبة الى أمية بضمها ودهري للشيخ الكبير. 2- بالزيادة كقولهم مروزي نسبة الى مرو وفوقاني وتحتاني ورباني نسبة الى فوق وتحت ورب. 3- بالنقص كقولهم بدوي بحذف الألف وجلولي نسبة الى البادية وجلولاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 4- بالحذف والتحريف كشتوي في شتاء. 5- بالزيادة والتحريف كأنافي في أنف. 6- بالزيادة والحذف نحو رازي نسبة الى الري. 7- بالقلب نحو طائي وصنعاني وروحاني نسبة الى طي وصنعاء وروحاء. 8- بالقلب والتحريف نحو ثوب حاري نسبة الى الحيرة. 9- بتوقير ما يستحق التغيير نحو أميتي نسبة الى أمية. [سورة هود (11) : الآيات 96 الى 108] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 اللغة: (يَقْدُمُ) : يقال قدمت القوم أقدمهم قدما إذا مشيت أمامهم واتبعوك قال الأزهري قدم يقدم وتقدم وقدم واقدم واستقدم بمعنى. (الْوِرْدُ) ورود الماء الذي يورد والإبل الواردة والجمع أوراد، والإيراد إيجاب الورود في الماء أو ما يقوم مقامه، قال لبيد: فوردنا قبل فراط القطا ... إن من وردي تغليس النهل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 وأصل الورود الاشراف على الدخول وليس بالدخول قال زهير: فلما وردن الماء زرقا جمامه ... وضعن عصي الحاضر المتوسم (الرِّفْدُ) : العون على الأمر يقال: رفده يرفده رفدا ورفدا بفتح الراء وكسرها، قال الزجاج كل شيء جعلته عونا لشيء وأسندت به شيئا فقد رفدته به، يقال عمدت الى الحائط وأسندته وأرفدته ورفدته بمعنى واحد يقال رفده وأرفده إذا أعطاه والاسم الرفد لأن العطاء عون المعطي. (الحصيد) : بمعنى المحصود والحصد قطع الزرع من الأصل وهذا زمن الحصاد بفتح الحاء وكسرها يقال حصدهم بالسيف إذا قتلهم. (تَتْبِيبٍ) : من تبت يده أي خسرت وهلكت قال جرير: عرابة من بقية قوم لوط ... ألا تبا لما فعلوه تبا (الزفير والشهيق) : الزفير ترديد النفس حتى تتفتح منه الأضلاع والشهيق رد النفس الى الصدر وقال ابن فارس: الزفير ضد الشهيق لأن الشهيق رد النفس والزفير إخراج النفس من شدة الحزن مأخوذ من الزفر وهو الحمل على الظهر لشدته وقيل الشهيق النفس الممتد مأخوذ من قولهم جبل شاهق أي عال وقال الليث: الزفير أن يملأ الرجل صدره حال كونه في الغم الشديد من النفس، والشهيق أن يخرج ذلك النفس. وهو قريب من قولهم: تنفس الصعداء، وقال أبو العالية والربيع بن أنس: الزفير في الحلق والشهيق في الصدر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 وقيل الزفير للحمار والشهيق للبغل، وقال الثعالبي في ترتيب الأصوات: إذا أخرج المكروب أو المريض صوتا رقيقا فهو الرنين فإذا أخفاه فهو الهنين فإذا أظهره فخرج خافيا فهو الخنين فإذا زفر به وقبح الأنين فهو الزفير فإذا مد النفس ثم رمى به فهو الشهيق فإذا تردد نفسه في الصدر عند خروجه فهو الحشرجة. (مَجْذُوذٍ) مقطوع والجذّ القطع يقال جذه يجذه وبابه رد كما في المختار وجذ الله دابرهم قال النابغة: تجذ السلوقي المضاعف نسجه ... وتوقد بالصّفّاح نار الحباحب الإعراب: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) وهذه هي القصة السابعة والأخيرة في هذه السورة وقد تقدمها قصة نوح وهود وصالح وابراهيم ولوط وشعيب على هذا الترتيب وهذه قصة موسى. وبآياتنا حال أي حال كونه ملتبسا بآياتنا التسع وقد تقدمت الاشارة إليها وسلطان عطف على آياتنا ومبين صفة. (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) الى فرعون جار ومجرور متعلقان بأرسلنا وملئه عطف على فرعون فاتبعوا عطف على أرسلنا والواو فاعل وأمر فرعون مفعول به والواو حالية وما نافية حجازية وأمر اسمها وبرشيد خبرها على زيادة الباء وقد تقدم نظيره. (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) جملة يقدم قومه مستأنفة والفاء عاطفة وأوردهم النار فعل وفاعل مستتر والهاء مفعول به أول والنار مفعول به ثان وجاء بلفظ الماضي وسياق الكلام يقتضي أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 يكون مضارعا لإراءة الصورة كأنها أمر بت فيه وفرغ منه، وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والورد فاعل والمورود نعت والمخصوص بالذم محذوف أي وردهم. (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) اتبعوا فعل ماض بالبناء للمجهول والواو نائب فاعل وفي هذه متعلقان باتبعوا والاشارة للحياة الدنيا ويوم القيامة عطف على موضع في هذه والمعنى انهم الحقوا لعنة في الدنيا وفي الآخرة، وبئس الرفد المرفود تقدم إعرابها. (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) ذلك مبتدأ ومن أنباء القرى خبره الاول وجملة نقصه خبره الثاني وعليك متعلقان بنقصه ومنها خبر مقدم وقائم مبتدأ وحصيد عطف على قائم والجملة مستأنفة أي بعضها عفا أثره وامحى رسمه وبعضها باق ماثل للعيان والاستئناف بياني كأنه جواب لسؤال سائل عنها. وقال أبو البقاء: منها قائم ابتداء وخبر في موضع الحال من الهاء في نقصه وحصيد مبتدأ خبره محذوف أي ومنها حصيد ورجح أبو حيان أن تكون الجملة حالية قال «والحال أبلغ في التخويف وضرب المثل للحاضرين» . (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) الواو عاطفة وما نافية وظلمناهم فعل وفاعل ومفعول به ولكن مهملة للاستدراك وظلموا أنفسهم فعل وفاعل ومفعول به (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) الفاء عاطفة وما نافية وأغنت فعل ماض وعنهم متعلقان بأغنت وآلهتهم فاعل والتي صفة وجملة يدعون صلة ومن دون الله حال ومن زائدة وشيء مجرور لفظا منصوب محلا مفعول به. (لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) لما ظرفية حينية متعلقة بأغنت أو رابطة وجاء أمر ربك فعل وفاعل وما زادوهم عطف على ما أغنت وعبر بواو العقلاء عن الآلهة لأنهم نزلوها منزلتهم وزادوهم فعل وفاعل ومفعول به وغير تتبيت مفعول به ثان. (وَكَذلِكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) محل الكاف الرفع على الابتداء وأخذ ربك خبر وإذا أخذ القرى إذا ظرف مستقبل وجملة أخذ القرى في محل جر باضافة الظرف إليها. والواو حالية وهي مبتدأ وظالمة خبر والجملة نصب على الحال وتجدر الاشارة الى أن المسألة هنا من باب التنازع فقد تنازع المصدر وأخذ في القرى فأعمل الفعل وحذف الضمير من المصدر وجواب إذا الذي هو ناصبه محذوف والتقدير فلا يغني عنهم من أخذه شيء (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) إن واسمها وخبراها. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآية اسمها المؤخر ولمن صفة لآية وجملة خاف عذاب الآخرة صلة (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) ذلك مبتدأ ويوم خبر ومجموع صفة وله متعلقان بمجموع والناس نائب فاعل وذلك يوم مشهود عطف على ما تقدم ولا بد من تقدير جار ومجرور أي مشهود فيه وسيأتي في باب البلاغة السر في ذلك. (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) الواو استئنافية وما نافية ونؤخره فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وإلا أداة حصر ولأجل متعلقان بنؤخره ومعدود صفة. (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) اضطربت أقوال المعربين في هذه الآية كثيرا وخبطوا في متاهات يضل معها رائد الحقيقة والسهولة غير المتكلفة وسنختار الأجوبة التي لا معدى عن إيرادها ضاربين صفحا عن التطويل فنقول الظرف متعلق بقوله لا تكلم أي لا تتكلم في نفس ذلك اليوم وجملة يأتي مضافة الى الظرف وفاعل يأتي ضمير يعود على ذلك اليوم المتقدم ذكره لا ضمير اليوم المضاف الى يأتي واختار الزمخشري أن يكون فاعل يأتي هو الله عز وجل لأن ضمير بإذنه يعود عليه وهو قول وجيه ولكن الأول أقرب الى سياق الكلام، ولا نافية وتكلم مضارع أصله تتكلم فحذفت إحدى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 تاءيه ونفس فاعل تكلم وإلا أداة حصر وباذنه حال. (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) الفاء للتفريع ومنهم خبر مقدم وشقي مبتدأ مؤخر وسعيد مبتدأ خبره محذوف دل عليه ما قبله أي ومنهم سعيد. (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ) الفاء للتفريع أيضا وأما حرف شرط وتفصيل والذين مبتدأ وجملة شقوا صلة والفاء رابطة وفي النار خبر الذين (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) لهم خبر مقدم وفيها حال لأنه كان صفة لزفير وزفير مبتدأ مؤخر وشهيق مبتدأ حذف خبره أيضا. (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) خالدين حال من الذين شقوا وفيها متعلقان بخالدين وما دامت السموات ما مصدرية زمنية ودامت هنا تامة لأنها بمعنى بقيت والسموات فاعل دامت والأرض عطف. (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) إلا أداة استثناء وما مستثناة وسيأتي القول في هذا الاستثناء المشكل في باب الفوائد وجملة شاء ربك صلة. (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) ان واسمها وخبرها ولما متعلقان بفعال وجملة يريد صلة (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) تقدم اعرابها آنفا. قرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرف وابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وحفص سعدوا بضم السين وباقي السبعة والجمهور بفتحها وكان علي بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي سعدوا مع علمه بالعربية ولا يتعجب من ذلك إذ هي قراءة منقولة عن ابن مسعود ومن ذكرنا معه وقد احتج الكسائي بقولهم مسعود قيل ولا حجة فيه لأنه يقال مكان مسعود فيه ثم حذف فيه وسمي به وقال الثعلبي: «سعد وأسعد بمعنى واحد» وفي الأساس: «وسعدت به وسعدت وهو سعيد ومسعود» وفي القاموس «وقد سعد كعلم وعني فهو سعيد ومسعود ولا يقال مسعد» وقال أبو عمرو بن العلاء: «يقال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 429 سعد الرجل كما يقال حسن وقيل سعده لغة مهجورة وقد ضعف جماعة قراءة الأخوين» وهي قراءة حفص وفي المصباح: سعد فلان يسعد من باب تعب في دين أو دنيا سعدا وبالمصدر سمي والفاعل سعيد والجمع سعداء ويعدى بالحركة في لغة فيقال: سعده الله يسعده بفتحتين فهو مسعود وقرىء في السبعة بهذه اللغة في قوله: وأما الذين سعدوا بالبناء للمجهول والأكثر أن يتعدى بالهمزة فيقال أسعده الله وسعد بالضم خلاف شقي. (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) عطاء نصب على المصدر المؤكد من معنى الجملة قبله لأن قوله ففي الجنة خالدين فيها يقتضي إعطاء وإنعاما، وغير مجذوذ صفة لعطاء. البلاغة: انطوت هذه الآيات على أفانين من البلاغة، ومجموعة من الفوائد: 1- فأولها استعمال اسم المفعول مكان فعله في قوله تعالى: «ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود» والسر في إيثار المفعول هو وصف اليوم بمعنى الجمع والثبات المستقر والديمومة لذلك الثبات فيه وانه يوم أعد ليكون ميعادا مضروبا لا محيد عنه ولا مساغ لتبديله لجميع الناس على السواء ولو انه عبر بالفعل لم يقع ذلك الموقع ولأشعر بالتجدد والتبدل ونظيره قول المتهدّد: انك لمنهوب مالك، محروب قومك، فيه من ثبات الوصف وديمومته ما ليس في الفعل والاتساع في الظرف. 2- 3 وثانيها وثالثها الجمع مع التفريق فالجمع في قوله «لا تكلم نفس إلا بإذنه» والتفريق في قوله «فمنهم شقي وسعيد» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 430 4- التقسيم في قوله «فأما الذين شقوا» الى آخر الآية. ومن أمثله الجمع مع التفريق في الشعر قول البحتري: ولما التقينا والنقا موعد لنا ... تعجّب رائي الدّر منا ولاقطه فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه أما التقسيم فقد طفح به الشعر العربي فقال أبو نواس مقسما الزمن الى يوم وأمس وغد: أمر غد أنت منه في لبس ... وأمس قد فات فاله عن أمس وانما الشأن شأن يومك ذا ... فباكر الشمس بابنة الشمس وافتنوا فيه كثيرا فأطلقه أبو الطيب على أحوال الشيء المراد تقسيمه مضافا الى كل من تلك الأحوال ما يليق به فقال: سأطلب حقي بالقنا ومشايخ ... كأنهم من طول ما التثموا مرد ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا ... كثير إذا شدّوا قليل إذا عدوا وله أيضا: الدهر معتذر والسيف منتظر ... وأرضهم لك مصطاف ومرتبع للسبي ما نكحوا والقتل ما ولدوا ... والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا وله في الغزل: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 431 وأغيد يهوى نفسه كلّ عاقل ... ظريف ويهوى جسمه كل فاسق سهاد لأجفان وشمس لناظر ... وسقم لأبدان ومسك لناشق وما أحلى قول عمر بن الفارض: يقولون لي: صفها فأنت بوصفها ... خبير أجل عندي بأوصافها علم صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا ... ونور ولا نار وروح ولا جسم الفوائد: الاستثناء الموجود في قوله تعالى «إلا ما شاء ربك» تقدم بحثه في سورة الانعام فجدد به عهدا وقد رجحنا هناك ما ذهب اليه الزجاج ونضيف اليه هنا أن الفراء ذهب الى ما ذهب اليه الزجاج وقال كلاما لطيفا في صدده ننقله ليضاف الى ما تقدم قال: «انه استثناء في الزيادة من العذاب لأهل النار والزيادة من النعيم لأهل الجنة والتقدير إلا ما شاء ربك من الزيادة على هذا المقدار كما يقول الرجل لغيره لي عليك ألف دينار إلا الألفين اللذين أقرضتكهما في وقت كذا فالألفان زيادة على الألف بغير شك لأن الكثير لا يستثنى من القليل ورأيت لعلي بن عيسى المعروف بالرماني كلاما بهذا المعنى وحاصل ما تقدم أن الا في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 432 المعنى بمعنى حرف العطف والاستثناء منقطع فكأنه قيل خالدين فيها ما دامت السموات والأرض وزيادة على هذه المدة فكأن إلا بمعنى الواو وأنشد الفراء مستدلا على ذلك: وأرى لها دارا بأغدر السيدان لم يدرس لها رسم إلا رمادا هامدا رفعت ... عنه الرياح خوالد سحم وهذا الوجه الذي وقع عليه اختيارنا وذهب اليه الزجاج والفراء هو الثالث عشر فهناك اثنا عشر مذهبا متفاوتة. ويطول بنا القول إذا ما حاولنا نقل هذه الأوجه فليرجع إليها من شاء في التفاسير الكبرى ليرى كيف تتفاوت الأفهام ويطيب لنا أن ننقل هنا رأيا يحتاج الى التأويل وهو لفيلسوف الصوفية محيي الدين ابن عربي قال: انهم يعذبون فيها مدة ثم تنقلب عليهم وتبقى طبيعة نارية لهم يتلذذون بها لموافقتها لطبيعتهم فإن الثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد. وقال في موضع آخر: إن أهل النار إذا دخلوها لا يزالون خائفين مترقبين أن يخرجوا منها فاذا أغلقت عليهم أبوابها اطمأنوا لأنها خلقت على وفق طباعهم. ولبدوي الجبل في العصر الحديث قصيدة عصماء قال فيها يصف أهل النار: لا يألمون ولا تشكو جسومهم ... من اللظى فهي نيران بنيران وقد علق ابن القيم على هذا القول قائلا: وهذا في طرف والمعتزلة القائلون بأن الله يجب عليه تعذيب من توعده بالعذاب في طرف آخر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 433 فأولئك عندهم لا ينجو من النار من دخلها أصلا وقد استرسل الزمخشري في التشنيع على أهل السنة في هذا الصدد مما يطول بحثه وانما نقلنا هذه اللمح للاطلاع. [سورة هود (11) : الآيات 109 الى 112] فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) اللغة: (مِرْيَةٍ) : المرية بكسر الميم وضمها الشك مع ظهور الدلائل للتهمة وهي مأخوذة من مرى ضرع الناقة ليدرّ بعد دروره وامترى في الشيء شك واستمرى اللبن ونحو استخرجه واستدره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 434 الإعراب: (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) الفاء استئنافية والجملة مسوقة للدلالة على ما أحدثته القصص السالفة في نفسه صلى الله عليه وسلم من أثر وان عكوف كفار قريش على عبادة أصنامهم ليست من دواعي المثبطات لعزيمته. ولا ناهية وتك فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه السكون المقدرة على النون المحذوفة للتخفيف وقد سبق ذكر خصائص كان، واسمها ضمير مستتر تقديره أنت وفي مرية خبرها ومما صفة وجملة يعبد صلة وهؤلاء فاعل ويجوز أن تكون ما مصدرية (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) ما نافية ويعبدون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وإلا أداة حصر والكاف نعت لمصدر محذوف وما يجوز أن تكون موصولة أو مصدرية ومن قبل متعلقان بمحذوف حال. (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وموفوهم خبر ان والهاء مضاف اليه ونصيبهم مفعول به وغير منقوص حال مبينة للنصيب الموفى وقيل بل حال مؤكدة لأن التوفية تستلزم عدم نقصان الموفى كاملا كان أو ناقصا فقولك وفيته نصف حقه تستلزم عدم نقصان فما وجه انتصابه حالا عنه والأوجه أن يقال استعملت التوفية بمعنى الإعطاء ومن قال أعطيت فلانا حقه كان جديرا بأن يوكده بقوله غير منقوص. (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) الواو استئنافية واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وآتينا موسى الكتاب: فعل وفاعل ومفعول به، فاختلف: الفاء حرف عطف واختلف فعل ماض مبني للمجهول وفيه سد مسد نائب الفاعل ومعنى في الظرفية أي من شأنه وقيل هي سببية. (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) الواو عاطفة ولولا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 435 حرف امتناع لوجود وكلمة مبتدأ محذوف الخبر وجملة سبقت صفة ومن ربك جار ومجرور متعلقان بسبقت واللام جواب لو وقضي بينهم فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر والظرف متعلق به أي وقضي الأمر بينهم. (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) الواو حالية وان واسمها وفي شك خبرها ومنه صفة لشك ومريب صفة ثانية. (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) هذه الآية مشكلة جدا ويزداد الاشكال في قراءتنا وهي تشديد إن وتثقيل لما وقد اعترف المعربون القدامى بعجزهم فقال السمين ما نصه: «هذه الآية الكريمة مما تكلم الناس فيها قديما وحديثا وعسر على أكثرهم تلخيصها قراءة وتخريجا وقد سهل الله تعالى ذلك فذكرت أقاويلهم وما هو الراجح منها» ثم هام في متاهات سحيقة يضيع الطالب فيها وسنتجاوز جريا على عادتنا تلك الاوجه المتشعبة والمسالك المتباينة ونكتفي بقراءتنا وهي قراءة حفص وأبي جعفر وابن عامر وحمزة فنقول: إن واسمها ولمّا ذكروا فيها أوجها أربعة أسهلها وأبعدها عن التكلف ما اختاره الزجاج انها بمعنى إلا كقولهم سألتك لما فعلت بمعنى إلا وهو وجه سهل يزول به كل إشكال لولا أنه يتعارض مع ما قاله الفراء: هذا لا يجوز إلا في التمني كما قال الخليل أو بعد النفي كقوله تعالى «إن كل نفس لما عليها حافظ» ولكنه على ما فيه أسهل من الأوجه الثلاثة الباقية وهي أن تكون بمعنى لمن ما فحذفت الميمات الثلاث واختاره الفراء وأنشد: وإني لمما أصدر الأمر وجهه ... إذا هو أعيا بالسبيل مصادره والثاني أن تكون مخففة وشددت للتأكيد واختياره المازني ولكن هذا مردود لانه إنما يجوز تخفيف المشددة عند الضرورة فأما تشديد المخففة فلا يجوز بحال ورابع الأوجه انها مصدر لم من لمت الشيء إذا جمعته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 436 إلا أنها بنيت فلم تصرف فكأنه قال وإن كلا جميعا ليوفينهم وفي هذا ما فيه والله أعلم. وليوفينهم اللام جواب للقسم المقدر ويوفينهم فعل مضارع مبني على الفتح والهاء مفعول وربك فاعل والجملة خبر ان وأعمالهم مفعول به ثان (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) إن واسمها وبما يعملون متعلقان بخبير وخبير خبر ان (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ) الفاء الفصيحة واستقم فعل أمر وكما نعت لمصدر محذوف أي فاستقم استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها على جادة الحق غير منحرف عنها، ومن: الواو عاطفة ومن موصول معطوف على الضمير في استقم وانما جاز العطف عليه من غير تأكيد بالمنفصل لقيام الفاصل مقامه ومعك ظرف متعلق بمحذوف صلة للموصول ويجوز أن يكون مفعولا معه والواو للمعية. (وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا ناهية وتطغوا مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وان واسمها وبما تعملون خبرها وقد تقدم نظيره. البلاغة: الإيجاز في قوله تعالى «فاستقم» ذلك لأن الاستقامة هي الاستمرار في جهة واحدة وأن لا يعدل يمينا أو شمالا ومعروف أن الخط المستقيم هو أقصر بعد بين نقطتين فأقل انحراف يخرجه عن استقامته واذن فقد انتظم في كلمة الاستقامة جميع مكارم الأخلاق، ومحاسن الأحكام الأصلية والفرعية والكمالات التي ينشدها العارفون والمقربون، والتحلل من ذلك خطير واجتناب التحلل عسير ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه ابن عباس عند ما قال له أصحابه: لقد أسرع فيك الشيب: «شيبتني هود والواقعة وأخواتهما» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 437 الفوائد: ما يقوله أبو حيان: وقال أبو حيان: «وأما القراءة الثانية فتشديد إن وإعمالها في كل واضح وأما تشديد لما فقال المبرد: هذا لحن لا تقول العرب إن زيدا لما خارج، وهذه جسارة من المبرد على عادته وكيف تكون قراءة متواترة لحنا، وليس تركيب الآية كتركيب المثال الذي قال وهو إن زيدا لما خارج، هذا المثال لحن وأما في الآية فليس لحنا ولو سكت وقال كما قال الكسائي: ما أدري ما وجه هذه القراءة لكان قد وفق وأما غير هذين من النحويين فاختلفوا في تخريجها» . ثم أورد أبو حيان سيلا من التخريجات وشجبها كلها ومنها الوجه الذي اخترناه وقال أخيرا: «وهذه كلها تخريجات ضعيفة جدا ينزه عنها القرآن وكنت قد ظهر لي فيها وجه جار على قواعد العربية وهو ان «لما» هذه هي لما الجازمة حذف فعلها المجزوم لدلالة المعنى عليه كما حذفوه في قولهم: قاربت المدينة ولما يريدون ولما أدخلها وكذلك هنا التقدير: وإن كلا لما ينقص من جزاء عمله، ويدل عليه قوله تعالى: ليوفينهم ربك أعمالهم لما أخبر بانتفاء نقص أجزاء أعمالهم أكده بالقسم فقال ليوفينهم ربك أعمالهم وكنت اعتقدت اني سبقت الى هذا التخريج السائغ العاري من التكلف وذكرت ذلك لبعض من يقرأ علي فقال: قد ذكر ذلك أبو عمرو ابن الحاجب ولتركي النظر في كلام هذا الرجل لم أقف عليه ثم رأيت في كتاب التحرير نقل هذا التخريج عن ابن الحاجب قال: «لما» هذه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 438 هي الجازمة حذف فعلها للدلالة عليه لما ثبت من جواز حذف فعلها في قولهم: خرجت ولما سافرت ولما ونحوه وهو سائغ فصيح فيكون التقدير لما يتركوا لما تقدم من الدلالة عليه من تفصيل المجموعين في قوله: فمنهم شقي وسعيد ثم ذكر الأشقياء والسعداء ومجازاتهم ثم بين ذلك بقوله: ليوفينهم ربك أعمالهم قال: ما أعرف وجها أشبه من هذا وان كانت النفوس تستبعده من جهة أن مثله لم يقع في القرآن» . [سورة هود (11) : الآيات 113 الى 117] وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) اللغة: (تَرْكَنُوا) : الركون الى الشيء هو السكون إليه بالمحبة له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 439 والإنصات اليه وفي المصباح: «ركنت الى زيد اعتمدت عليه وفيه لغات احداها من باب تعب وعليه قوله تعالى: «ولا تركنوا الى الذين ظلموا» وركن ركونا من باب قعد قال الأزهري وليست بالفصيحة، والثالثة ركن يركن بفتحتين وليسب بالأصل بل من باب تداخل اللغتين لأن باب فعل يفعل يكون حلقي العين أو اللام» . وقال الراغب: «والصحيح انه يقال ركن يركن بالفتح فيهما وركن يركن بالكسر في الماضي والفتح في المضارع وبالفتح في الماضي والضم في المضارع» ويؤخذ من القاموس وشرحه وغيره من معاجم اللغة انه من باب دخل ومن باب تعب أما اللازم منه فبابه ركن بضم الكاف أي كان رزينا وقورا. (زُلَفاً) بضم الزاي وفتح اللام: جمع زلفة من الليل أي طائفة وفي القاموس: الزلفى الطائفة من الليل والجمع زلف وزلفات كغرف وغرفات، قال العجاج: تاج طواه الأين مما رجفا ... طيّ الليالي زلفا فزلفا (أُتْرِفُوا) نعموا وترف كفرح تنعم وأترفته النعمة أبطرته وأطغته الإعراب: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) الواو استئنافية ولا ناهية وتركنوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والى الذين جار ومجرور متعلقان بتركنوا وجملة ظلموا صلة، فتمسكم: الفاء السببية وتمسكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء الواقعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 440 بعد النهي والكاف مفعول به والنار فاعل. (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) الواو حالية أو استئنافية أيضا والجملة حالية أي تمسكم النار حال انتفاء ناصركم أو مستأنفة وما نافية ولكم خبر مقدم ومن دون الله حال لأنه كان في الأصل صفة لأولياء ومن حرف جر زائد وأولياء مجرور لفظا بالفتحة مرفوع محلا لأنه مبتدأ مؤخر وثم حرف عطف ولا نافية وتنصرون فعل مضارع ولم ينصبه نسقا على تركنوا لأنه من عطف الجمل عطف جملة فعلية على جملة اسمية (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) الواو عاطفة وأقم فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والصلاة مفعول به وطرفي النهار نصب على الظرفية بأقم والمراد بطرفي النهار الغداة والعشي وزلفا منصوب على الظرفية أيضا بأقم ومن الليل صفة. (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) إن واسمها وجملة يذهبن خبرها والنون فاعل يذهبن والسيئات مفعول به وذلك مبتدأ وذكرى خبر وللذاكرين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لذكرى (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) واصبر عطف على أقم والفاء تعليلية وان واسمها وجملة لا يضيع خبرها وأجر المحسنين مفعول به. (فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) الفاء استئنافية ولولا تحضيضية ولعل اعراب كان تامة أولى إذا المعنى فهلا وجد أو حدث فيتعلق من القرون بها أو بمحذوف حال ومن قبلكم حال من القرون وأولو فاعلها وعلامة رفعه الواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم وبقية مضاف اليه وجملة ينهون عن الفساد صفة لأولو بقية وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بالفساد وإذا جعلنا كان ناقصة فيكون من القرون متعلقان بمحذوف حال وتكون جملة ينهون خبرها وأولو بقية اسمها والمصدر المقترن بأل يعمل في المفاعيل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 441 الصريحة فيكون في المؤولة والظروف أولى ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الفساد. (إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) إلا أداة استثناء وقليلا مستثنى منقطع لئلا يفسد المعنى وننقل هنا عبارة الزمخشري وهي: «معناه ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تركوا النهي» ثم قال: «فإن قلت هل لوقوع هذا الاستثناء متصلا وجه يحمل عليه؟ قلت: ان جعلته متصلا على ما هو عليه ظاهر الكلام كان المعنى فاسدا لأنه يكون تحضيضا لأولي البقية على النهي عن الفساد لا للقليل من الناجين منهم كما تقول: هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم، يريد استثناء الصلحاء من المحضضين على قراءة القرآن وإن قلت في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم فكأنه قيل: ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلا كان استثناء متصلا ومعنى صحيحا وكان انتصابه على أصل الاستثناء وإن كان الأفصح أن يرفع على البدل» وممن صفة لقليلا وجملة أنجينا صلة ومنهم حال. (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ) واتبع عطف على مضمر دل عليه الكلام تقديره فلم ينهوا عن الفساد واتبع، والذين فاعل وجملة ظلموا صلة وما مفعول به وجملة أترفوا صلة وفيه متعلقان بأترفوا وكانوا مجرمين كان واسمها وخبرها والجملة عطف على أترفوا. (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) الواو استئنافية وما نافية وكان فعل ماض ناقص وربك اسمها وليهلك اللام للجحود وهي المسبوقة بكون منفي ويهلك منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بالخبر المحذوف أي مريدا ليهلك وقد سبق تقرير ذلك والقرى مفعول به وبظلم حال من الفاعل وأهلها الواو حالية وأهلها مبتدأ ومصلحون خبر والجملة حالية من المفعول به أي القرى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 442 البلاغة: في قوله تعالى: «ولا تركنوا الى الذين ظلموا» الى آخر الآية فنون عديدة من البلاغة التي تتقطع دونها الأعناق وسنبسطها بما يلي: 1- ائتلاف اللفظ مع المعنى: إذ لما كان الركون الى الذين ظلموا دون فعل الظالمين وجب أن يكون العقاب عليه دون عقاب الظالمين ومسّ النار في الحقيقة دون الإحراق ولما كان الإحراق عقابا للظالم أوجب العدل أن يكون المسّ عقاب الراكن الى الظالم فلهذا عدل عز وجل عن قوله مثلا ... فندخلوا النار، لكون الدخول مظنة الإحراق وخصّ المسّ ليشير به الى ما يقتضي الركون من العقاب ويميز بين ما يستحق الظالم وبين ما يستحق الراكن له من العقاب وإن كان مس النار قد يطلق ويراد به الإحراق لكن هذا الإطلاق مجاز والحقيقة ما ذكرناه لأن حقيقة المس أول ملاقاة الجسم حرارة النار وإذا احتمل اللفظ احتمالات صرف منها الى ما تدل عليه القرائن والائتلاف في هذه الآية معنوي. 2- الادماج: فقد أدمج الله سبحانه وصفه بالعدل فتعلق فن الفخر بفن الأدب إذ ظاهر الآية التأديب ومن أجله جاءت في هذا الباب الموعظة ووصف الحق عز وجل بالعدل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 443 3- البسط: فلم يقل الظالمين وعدل عن ذلك الى قوله «الذين ظلموا» لما يحتمل الاول من استمرار الظلم الذي لا يلائم المساس ولا تحصل به المبالغة التي تحصل من لفظ الثاني من وقوع الظلم على سبيل الندور ليلائم المعنى معنى الركون ومعنى المساس وتحصل المبالغة الحقة لأنه سبحانه إذا نهى عن الركون الى من استمر منه الظلم بطريق أولى وإذا نهى عن الركون إلى الظالم كان النهي عن فعل الظلم أحرى. ونثبت هنا بهذه المناسبة كتاب آية في البلاغة وهو يتناسب مع المقام: لما خالط الزهري السلاطين كتب اليه أخ في الدين: عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله ويرحمك، أصبحت شيخا كبيرا وقد أثقلتك نعم الله بما فهمك الله من كتابه وعلمك من سنة نبيه وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء، قال سبحانه: «لتبيننه للناس ولا تكتمونه» واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت انك آنست وحشة الظالم، وسهلت سبيل الغي، بدنوك ممن لم يؤد حقا، ولم يترك باطلا حين أدناك، اتخذوك قطبا تدور عليه رحى باطلهم، وجسرا يعبرون عليك الى بلائهم، وسلما يصعدون فيك الى ضلالهم، يدخلون الشك بك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خرّبوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك من دينك، فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله فيهم: «فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّا» فانك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل، فدا ودينك فقد دخله سقم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 444 وهيء زادك فقد حضر السفر البعيد «وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء» والسلام. [سورة هود (11) : الآيات 118 الى 123] وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) الإعراب: (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) الواو استئنافية ولو شرطية امتناعية وشاء ربك فعل وفاعل واللام واقعة في جواب لو وجعل الناس أمة جعل ومفعوليها وواحدة صفة. (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 445 الواو عاطفة ولا يزالون فعل مضارع ناقص والواو اسمها ومختلفين خبرها وإلا من رحم ربك قال الزجاج استثناء منقطع على معنى لكن وتقديره لكن من رحم ربك فإنه غير مختلف واكتفى أبو البقاء بقوله هو مستثنى من ضمير الفاعل في يزالون. (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) لذلك متعلق بخلقهم والاشارة الى الاختلاف والرحمة وخلقهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وتمت كلمة ربك فعل وفاعل والمراد بكلمته قضاؤه الأزلي وحكمه المبرم. (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) لأملأن جهنم جواب قسم مقدر تقديره يمينا لأملأن وأملأن فعل مضارع مبني على الفتح وجهنم مفعول به ومن الجنة جار ومجرور متعلقان بأملأن، والجنة هي الجن والتاء للمبالغة وأجمعين تأكيد. (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) يجوز أن تنصب كلا نصبا على المصدر وتقديره وكل القصص نقص عليك وجملة نقص عليك في موضع الصفة لقوله وكلا، ويجوز أن ينصب على المفعولية والمضاف اليه محذوف عوض منه التنوين تقديره كل نبأ نقص عليك ومن أنباء صفة لكلا وما اسم موصول في محل نصب بدل من كلا وقيل زائدة، وعلى الوجه الاول تعرب مفعولا وجملة نثبت به فؤادك صلة ومعنى تثبيت القلب زيادة يقينه وما فيه طمأنينة قلبه. (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) وجاءك فعل ومفعول به وفي هذه متعلقان بجاءك والاشارة الى السورة أو الأنباء المقتصة فيها والحق فاعل جاءك وما بعده عطف عليه. (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) للذين جار ومجرور متعلقان بقل وجملة لا يؤمنون صلة واعملوا فعل أمر والواو فاعل والجملة مقول القول وعلى مكانتكم حال أي حال كونكم ثابتين على مكانتكم وقد سبق القول في المكانة. (إِنَّا عامِلُونَ) ان واسمها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 446 وخبرها. (وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) انتظروا فعل أمر والواو فاعل وإنا منتظرون ان واسمها وخبرها والتهديد واضح. (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) لله خبر مقدم وغيب السموات مبتدأ مؤخر واليه متعلقان بيرجع والأمر نائب فاعله وكله تأكيد. (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) الفاء الفصيحة واعبده فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وتوكل عطف على اعبده وعليه متعلقان بتوكل وما حجازية وربك اسمها والباء حرف جر زائد وغافل مجرور لفظا منصوب محلا خبرها وعما متعلقان بغافل ويعملون صلة ما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 447 (12) سورة يوسف مكية وآياتها احدى عشرة ومائة [سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 448 اللغة: (الْقَصَصِ) : على وجهين: أحدهما يكون مصدرا بمعنى الاقتصاص تقول قصّ الحديث يقصّه قصصا وثانيهما يكون فعلا بمعنى مفعول كالنفض بمعنى المنفوض واشتقاقه من قصّ أثره إذا تبعه لأن الذي يقصّ الحديث يتبع ما حفظ منه شيئا فشيئا. الإعراب: (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) الر: تقدم اعرابها والقول فيها وتلك مبتدأ وآيات خبر والكتاب مضاف اليه والمبين صفة للكتاب. (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ان واسمها وجملة أنزلناه خبرها وقرآنا حال من ضمير أنزلناه أي الهاء وقيل انتصب على البدلية من الضمير، وعربيا صفة ولعلكم تعقلون: لعل واسمها وجملة تعقلون خبرها. (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) نحن مبتدأ وجملة نقص خبر والفاعل مستتر تقديره نحن وعليك متعلقان بنقص وأحسن مفعول به إذا كان القصص مصدرا بمعنى المفعول ومفعول مطلق إذا كان القصص مصدرا غير مراد به المفعول والقصص مضاف اليه والباء للسببية وما مصدرية وهي مع ما في حيزها مجرورة بالباء والجار والمجرور متعلقان بنقص أيضا أي بسبب ايحائنا وإليك متعلقان بأوحينا وهذا مفعول به والقرآن بدل من اسم الاشارة. (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) الواو للحال وان مخففة من الثقيلة وكان واسمها ومن قبله حال واللام الفارقة ومن الغافلين خبر كنت. (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ: يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 449 عَشَرَ كَوْكَباً) يجوز لك أن تعلق إذ الظرفية بفعل مضمر أي اذكر ولك أن تجعله بدل اشتمال من أحسن القصص ويجوز أن يتعلق بنقص ولكن في هذا إخراجا لاذ عن المضي، وجملة قال يوسف مضاف إليها الظرف ولأبيه متعلقان بقال ويا حرف نداء وأبت منادى مضاف الى ياء المتكلم التي حذفت وعوضت عنها التاء المكسورة أو المفتوحة وسيرد المزيد عنها في باب الفوائد وكسرت همزة إن بعد القول والياء اسم ان وجملة رأيت خبرها وأحد عشر جزءان عدديان مبنيان على الفتح في محل نصب مفعول به لرأيت وكوكبا تمييز ورأيت من الرؤيا أي المنام وهي تنصب مفعولين. (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) الواو حرف عطف والشمس والقمر معطوفان على أحد عشر كوكبا ورأيتهم فعل وفاعل ومفعول به وليست تأكيدا لرأيتهم الأولى ولي متعلقان بساجدين وساجدين مفعول به ثان لرأيتهم وأعربها أبو البقاء حالا وقال ان الرؤية عينية وسيأتي تحقيق هذا في باب البلاغة. (قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ) يا بني تقدم أعربها في هود ولا ناهية وتقصص فعل مضارع مجزوم بلا ورؤياك مفعول به وعلى إخوتك جار ومجرور متعلقان بتقصص. (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) الفاء سببية ويكيدوا منصوب بأن مضمرة لأنه وقع جوابا للنهي والواو فاعل ولك متعلقان بيكيدوا وكيدا يحتمل أن يكون مفعولا مطلقا مؤكدا ويحتمل أن يكون مفعولا به أي يصنعوا لك كيدا وإن الشيطان إن واسمها وللانسان حال وعدو خبر إن ومبين صفة. (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) كذلك نعت لمصدر محذوف أي كما اجتباك واختارك لهذه الرؤيا العظيمة يجتبيك لأمور عظام، والكاف مفعول يجتبيك وربك فاعل ويعلمك ليس عطفا على يجتبيك ولكنه كلام مستأنف كأنه قيل وهو يعلمك ويتم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 450 نعمته، ومن تأويل جار ومجرور متعلقان بيعلمك والأحاديث مضاف اليه. (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) عطف على يعلمك ونعمته مفعول به وعليك جار ومجرور متعلقان بنعمته أو بيتم وعلى آل يعقوب عطف عليه. (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) كما أنها نعت لمصدر محذوف أي إتماما مثل إتمامها على أبويك وعلى أبويك متعلقان بأتمها ومن قبل حال وابراهيم بدل من أبويك أو عطف بيان واسحق عطف على ابراهيم وان واسمها وخبراها. البلاغة: 1- في قوله تعالى «رأيتهم» تكرار يظنّه الناظر أنه تأكيد لأول وهلة وليس هو بالتأكيد وانما هو كلام مستأنف على تقدير سؤال وقع جوابا له ويجوز أن تكون للتوكيد باعتبار أن طول الفصل بالمفاعيل استدعى ذلك فجيء برأيتهم تطرية وتنويعا للحديث. 2- في قوله تعالى «ساجدين» أجرى الكواكب الأحد عشر والشمس والقمر مجرى العقلاء وهو الذي يسميه النحاة تغليبا وهذا الوصف صناعي، أما السر البياني فأمر كامن وراء هذا الوصف ذلك لأنه لما وصف الكواكب والشمس والقمر بما هو خاص بالعقلاء وهو السجود أجرى عليها حكمهم كأنها عاقلة وهذا كثير شائع في كلامهم وسيأتي الكثير منه في القرآن. 3- براعة التخلص: وهو فن مشهور ذائع في كلام البلغاء، وهو امتزاج ما يقدمه الكاتب أو للشاعر من البسط بأول ما استهل به كلامه كالبيت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 451 الاول من القصيدة والفقرة الاولى من المقالة على أن يختلس ذلك اختلاسا رشيقا دقيق المعنى بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع في الثاني لشدة الممازجة والالتئام كأنهما أفرغا في قالب واحد، أو يوطىء الكاتب فيه بفصل لفصل يريد أن يأتي به بعده وإما بنكتة تشير الى معنى الفصل المستقبل كقوله تعالى: «نحن نقص عليك أحسن القصص» فإنه سبحانه وطأ بهذا الفصل الى ما يأتي بعده من سرد قصة يوسف عليه السلام فتخلص به الى ذكر القصة تخلصا بارعا فإن النكتة التي أشارت الى وصف هذه القصة بنهاية الحسن دون سائر قصص الأنبياء المذكورة في القرآن وهي قوله: «أحسن القصص» فإن المخاطب إذا قرع سمعه هذا الوصف للقصة تنبه الى تأملها فيجد كل قضية فيها ختمت بخير وكل ضيق انتهى الى سعة، وكل شدة آلت الى رخاء وذلك أمر عجيب يستحيل أن يأتي على القصة الحديثة «العقدة» تختم بالخير أو ما يسمّى في عرف القصة الحديثة بالحل: 1- رمي يوسف في الجب واستحكمت عقدته فنجا. 2- بيع بالثمن البخس الذي يشير في مدلوله الى الضعة والمهانة واستحكمت العقدة ثانية فإذا الذي اشتراه يستصفيه وينزله منه بمنزلة الولد. 3- راودته التي هو في بيتها عن نفسه ووثبت الشهوة، وصرخت اللذة، وكاد العقل يقصف والرشد يغزب واستحكمت العقدة ثالثة فإذا هو يكبح جماح نفسه ويستعصم. 4- ودخل السجن، ورانت عليه ظلمته واقتمت معالمه واستحكمت العقدة رابعة فخرج منه ملكا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 452 5- وظفر بإخوته بعد أن عرف غدرهم به ومحاولتهم إهلاكه فلم يذهب مع هوى النفس التي تثأر وتنتقم وطأمن من غلوائه. 6- وسره الله بلقاء شقيقه بعد اليأس فأتنس به. 7- فارقه أبوه وحزن من أجله حتى عمي واستحكمت العقدة مرة أخرى ثم اجتمع به وسر بلقائه وارتد الوالد بصيرا. 8- جاء الله به من البدو وأحله بمصر على سرير الملك. 9- غضب هو وأبوه على بقية الأولاد ثم رضيا عنهم. 10- ثم وأخيرا سجد له أبواه واخوته تحقيقا لرؤياه فناسب الختام البدء وكانت براعة التخلص من أجمل ما عرف في الكتابة. حسن التخلص في الشعر: على أنه لا يفوتنا أن نورد بعض ما ورد من حسن التخلص في شعرنا العربي ومن المؤسف أن ينتهي غالبا بالمديح ونحن لا نقر هذا المديح ولا نعترف به إلا من حيث انه تقليد بحث أو تسجيل لما جرى على يد الممدوح من نفع عام، قال أبو تمام يمدح أبا دلف وهو بطل عربي اشتهر بجهاده: ودع فؤادك توديع الفراق فما ... أراه من سفر التوديع منصرفا يجاذب الشوق طورا ثم يجذبه ... جهاده للقوافي في أبي دلفا ومن ألطف المخالص قول أبي العلاء المعري: ولو أن المطيّ لها عقول ... وجدك لم تشد لها عقالا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 453 مواصلة لها رحلي كأني ... من الدنيا أريد بها ان فصالا سألن فقلت مقصدنا سعيد ... فكان اسم الأمير لهن فالا الفوائد: 1- «رأى» من الرؤيا: اختلف النحاة واللغويون في «رأى» الحلمية، والمحققون على أنها ملحقة برأى العلمية في التعدي لاثنين بجامع ادراك الحس في الباطن كقوله تعالى: «إني أراني أعصر خمرا» فأرى عملت في ضميرين متصلين لمسمى واحد وأحدهما فاعل والثاني مفعول أول وجملة أعصر حمرا المفعول الثاني وكقول عمرو بن أحمر الباهلي يذكر جماعة من قومه لحقوا بالشام فرآهم في منامه: أراهم رفقتي حتى إذا ما ... تجافى الليل وانخزل انخزالا فالهاء مفعول أول ورفقتي بضم الراي وكسرها مفعول ثان والرؤيا هنا حليمة بدليل قوله: حتى إذا ما تجافى الليل وانخزل انخزالا أي انطوى وانقطع، والى هذا أشار في الخلاصة: ولرأى الرؤيا الم ما لعلما ... طالب مفعولين من قبل انتمى وذهب بعضهم الى أن رأى الحلمية لا تنصب مفعولين من قبل انتمى وذهب بعضهم الى أن الحلمية لا تنصب مفعولين وان ثاني المنصوبين حال ورد بوقوعه معرفة هنا كما هنا واعترض بأن الرفقة وهم المخالطون والمرافقون فهو بمعنى اسم الفاعل فالاضافة فيه غير محضة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 454 2- حديث اليهودي وكواكب يوسف: ونرى من المفيد التنبيه الى ما يرويه المفسرون من أحاديث عن كواكب يوسف فقد أخرج الحاكم في مستدركه أن يهوديا جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أخبرني بأسماء الكواكب التي رآها يوسف عليه السلام فقال: إن أخبرتك بأسمائها أتسلم؟ قال: نعم. قال صلى الله عليه وسلم: الذيال والوثاب والطارق والفيلق والصبح والقابس والضروح والخرثان والكتفان والعمودان وذو الفرع. قال: صدقت يا محمد ولم يسلم» والوضع ظاهر على هذا الحديث وفي سنده جماعة متكلم فيهم. وقال ابن الجوزي هو موضوع. [سورة يوسف (12) : الآيات 7 الى 14] لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 455 اللغة: (غَيابَتِ الْجُبِّ) : الغيابة: سدّ أو طاق في البئر قريب الماء يغيب ما فيه عن العيون وقال الزمخشري: هي غوره وما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله قال المنخل: إذا أنا يوما غيبتني غيابتي ... فسيروا بسيري في العشيرة والأهل أراد غيابة حفرته التي يدفن فيها، والجب: البئر التي لم تطو وسمي بذلك إما لكونه محفورا في جيوب الأرض أي ما غلظ منها وإما لأنه قطع في الأرض ويجمع على أجباب وجباب وجببة. (السَّيَّارَةِ) : جمع سيار أي المبالغ في السير وفي المختار والسيارة القافلة، فتسميتهم السيارة المعروفة اليوم صحيح لا غبار عليه لأنه مؤنث سيار. الإعراب: (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) اللام جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق وكان فعل ماض ناقص وفي يوسف خبر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 456 مقدم واخوته عطف على يوسف وآيات اسم كان المؤخر وللسائلين صفة لآيات. (إِذْ قالُوا: لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بمحذوف تقديره اذكر وقيل الظرف متعلق بكان وجملة قالوا مضاف إليها الظرف واللام للابتداء وفيها تأكيد لتحقيق مضمون الجملة وأخوه عطف على يوسف وهو بنيامين شقيقه وأحب خبر والى أبينا جار ومجرور متعلقان بأحب وقد تقدم أن الحب والبغض إذا بني منهما أفعل التفضيل أو فعلا التعجب تعدى الفعل منهما الى الفاعل المعنوي بإلى والى المفعول المعنوي باللام فاذا قلت زيد أحب إلي من بكر كان معناها أنك تحب زيدا أكثر من بكر، ومنا متعلقان بأحب كذلك ولم يطابق أحب في الاثنين لأن أفعل التفضيل يلزم الافراد والتذكير إذا كان معه من ولا بد من الفرق مع ال وإذا أضيف جاز الأمران. (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الواو للحال ونحن مبتدأ عصبة خبر وان واسمها واللام المزحلقة وفي ضلال خبرها ومبين صفة. والعصبة: الجماعة، قيل: هي ما بين الواحد الى العشرة. (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) اقتلوا فعل أمر والواو فاعل ويوسف مفعول به أو اطرحوه عطف على اقتلوا وأرضا نصبت نصب الظروف المبهمة أي أرضا منكرة مجهولة بعيدة عن العمران. قال الزمخشري وقال ابن عطية: «وذلك خطأ لأن الظرف ينبغي أن يكون مبهما وهذه ليست كذلك بل هي أرض مقيدة بأنها بعيدة أو قاصية ونحو ذلك فزال بذلك ابهامها ومعلوم أن يوسف لم يخل من الكون في أرض فتبين أنهم أرادوا أرضا بعيدة غير التي هو فيها قريب من أبيه» وصحح أبو حيان هذا الرد. ويجوز أن تنصب بنزع الخافض أي في أرض وهو بمعنى الظرف، وقيل مفعول ثان لاطرحوه المتضمنة معنى أنزلوه ويخل جواب الأمر ولكم متعلقان بيخل ووجه فاعل وأبيكم مضاف اليه وسيأتي معنى يخل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 457 لكم وجه أبيكم في باب البلاغة، (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) وتكونوا عطف على يخل والواو اسم كان ومن بعده حال وقوما خبر وصالحين صفة. (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ) قال قائل فعل وفاعل ومنهم صفة ولا ناهية وتقتلوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل ويوسف مفعول به وألقوه فعل أمر وفاعل ومفعول به وفي غيابة الجب متعلقان بألقوه. (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) يلتقطه جزم لوقوعه جوابا للأمر وبعض السيارة فاعل وإن شرطية وكنتم فاعلين كان واسمها وخبرها وجواب ان محذوف أي ان كنتم على أن تفعلوا ما يحصل به الغرض فهذا هو الرأي الصواب (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) قالوا فعل وفاعل ويا أبانا منادى مضاف وما اسم استفهام مبتدأ ولك خبر ما ولا نافية وتأمنا فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنت ونا مفعول به وقد أدغمت نون تأمن بنا وقد قرىء على أشكال مختلفة وعلى يوسف متعلقان بتأمنا وجملة لا تأمنا حال وجملة مالك لا تأمنا مقول القول والتقدير أي شيء ثبت لك منا. (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) الواو للحال وان واسمها وله متعلقان بناصحون واللام المزحلقة وناصحون خبر إنا والجملة حال من نا فيكون حالا من حال. (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أرسله فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به ومعنا ظرف مكان متعلق بأرسله ونا مضاف اليه وغدا ظرف متعلق بأرسله أيضا ويرتع مجزوم لأنه جواب الأمر ويلعب عطف عليه وجملة إنا له لحافظون حالية وقد تقدم إعرابها. (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) إن واسمها واللام المزحلقة وجملة يحزنني خبر إن والياء مفعول به وأن وما في حيزها في تأويل مصدر فاعل يحزنني وبه جار ومجرور متعلقان بتذهبوا. (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) أن وما في حيزها مفعول أخاف والذئب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 458 فاعل يأكله ولا يغرب عنك أنه لقّنهم العلة التي يعتلون بها على حد قول المثل «إن البلاء موكل بالمنطق» . (وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) الواو للحال وأنتم مبتدأ وغافلون خبره وعنه متعلقان بغافلون (قالُوا: لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) اللام موطئة للقسم وان شرطية وأكله الذئب فعل ومفعول به وفاعل والواو حالية ونحن مبتدأ وعصبة خبر والجملة حالية وان واسمها وإذن حرف جواب وجزاء مهمل وخاسرون خبر إنا والجملة جواب القسم وجملة جواب الشرط محذوفة لأن الجواب يعطى للمتقدم كما قررنا سابقا. البلاغة: 1- المجاز في قوله تعالى «يخل لكم وجه أبيكم» وانما ذكر الوجه لأن الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل عليه بوجهه لأن أول ما يستقبل الإنسان الوجه فعبر به عن إقباله عليهم وعدم الالتفات الى غيرهم وانتفاء المشارك لهم في حب والدهم. 2- وفي قوله «لخاسرون» مجاز عن الضعف والعجز والعلاقة هي السببية. [سورة يوسف (12) : الآيات 15 الى 20] فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 459 اللغة: (أَجْمَعُوا) : يقال أجمعوا الأمر وأجمعوا عليه يتعدى بنفسه وبالباء أي عزموا عليه عزما مصمما. (سَوَّلَتْ) : أصل التسويل تقدير معنى في النفس مع الطمع في إتمامه وقال الزمخشري سولت سهلت من السول وهو الاسترخاء وفي القاموس: سولت له نفسه كذا: زينته له وسهلته له وهوّنته وقيل هو من السول بفتحتين أي استرخاء العصب ونحوه فكأن المسول بذله فيما حرص عليه. (دَلْوَهُ) : في المختار الدلو التي يستقى بها ودلا الدلو نزعها وبابه عدا وأدلاها أرسلها في البئر وفي القاموس ودلوت الدلو ودليتها أرسلتها في البئر ودلّاها جذبها ليخرجها والدلو مؤنث وقد يذكر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 460 الإعراب: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ) الفاء عاطفة والجملة معطوفة على محذوف يفهم من سياق القصة تقديره فأرسله معهم، ولما حينية أو رابطة وذهبوا فعل وفاعل وبه جار ومجرور متعلقان يذهبوا وأجمعوا عطف على ذهبوا، أو الواو للحال والجملة حالية بتقدير: قد، وان وما في حيزها مفعول أجمعوا أو منصوب بنزع الخافض وفي غيابة الجب متعلقان بيجعلوه وجواب لما محذوف تقديره فعلوا به ما فعلوه من الأذى. (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) اختلف في هذه الواو فقيل عاطفة وان الإيحاء الى يوسف كان في الجب وله سبع عشرة سنة أو دونها تطمينا لقلبه ولم يكن ايحاء نبوة وقيل زائدة وانها جواب لو أي جملة أوحينا وهو قول جيد لو ساعدت اللغة على زيادة الواو واليه متعلقان بأوحينا، اللام موطئة للقسم وتنبئنهم فعل مضارع مبني على الفتح والهاء مفعول به وبأمرهم متعلقان بتنبئنهم وهذا صفة لأمرهم والواو للحال وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر والجملة حالية. (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) الواو عاطفة وجاءوا فعل وفاعل وأباهم مفعول به وعشاء ظرف زمان متعلق بجاء وجملة يبكون حال من الواو أي وقت العشاء باكين. قيل: وانما جاءوا عشاء ليكونوا أقدر على الاعتذار في الظلمة. (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) جملة إنا ذهبنا مقول القول وان واسمها وجملة ذهبنا خبر إن وجملة نستبق حال والاستباق يكون بالعدو والترامي والتناضل (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) وتركنا يوسف عطف على ذهبنا والظرف متعلق بتركنا فأكله عطف والهاء مفعول به والذئب فاعل. قال ثعلب «والذئب مأخوذ من تذأبت الريح إذا هاجت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 461 من كل وجه» قال «والذئب مهموز لأنه يجيء من كل وجه» . (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) الواو عاطفة وما نافية حجازية وأنت اسمها والباء حرف جر زائد ومؤمن مجرور لفظا خبر ما محلا ولنا متعلقان بمؤمن ولو الواو عاطفة ولو شرطية وهي في هذا الموضع لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق من الحكم الموجب أو المنفي على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر بثبوته أو انتفائه معه ثبوته أو انتفاؤه مع غيره من الأحوال بطريق الأولوية ولا يذكر معه شيء من سائر الأحوال ويكتفى عنه بذكر الواو العاطفة للجملة على نظيرتها المقابلة لها الشاملة لجميع الأحوال المغايرة لها عند تعددها، وكنا كان واسمها وصادقين خبرها. (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) الواو عاطفة وجاءوا فعل وفاعل وعلى قميصه محله النصب على الظرفية كأنه قيل: وجاءوا فوق قميصه بدم وهذا الظرف معمول لحال محذوفة من دم والتقدير وجاءوا بدم كذب حال كونه كائنا فوق قميصه وقد منع ذلك الزمخشري وسترى في باب الفوائد بحثا مفيدا ممتعا بهذا الصدد. وبدم متعلقان بجاءوا وكذب صفة وسيرد في باب البلاغة معنى وصف الدم بالكذب. (قالَ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) بل حرف إضراب وسولت لكم أنفسكم فعل وفاعل وأمرا مفعول به فصبر جميل خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف وساغ الابتداء بالنكرة لوصفه. (وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) الواو عاطفة والله مبتدأ والمستعان خبر وعلى ما متعلقان بالمستعان وجملة تصفون صلة والعائد محذوف أي تصفونه. (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ) الواو استئنافية وجاءت سيارة فعل وفاعل فأرسلوا عطف على جاءت والواو فاعل وواردهم مفعول به وهو رجل يقال له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 462 مالك بن ذعر الخزاعي ليطلب لهم الماء لأن الوارد هو الذي يرد الماء ليستقي للقوم فأدلى عطف ودلوه مفعول به. (قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ) يا حرف نداء وبشرى منادى نكرة مقصودة نادى البشرى حيث كانت كأنه يقول لها تعالي فهذا وقتك وهذا مبتدأ وغلام خبر قيل عبر بالغلام للجمال الذي بهره لما رآه وانما سمي الغلام غلاما لاشتقاقه من الغلمة لأنه بريد الشهوة يقال اغتلم الشراب اشتدت سورته واغتلمت الأمواج اشتدت والغلامة أنثى الغلام وأبو نواس كان يتظرف ويقول عن الفتاة الجميلة غلامية. (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) وأسروه فعل وفاعل ومفعول أي أخفوه والضمير يعود للوارد وأصحابه وقيل لأخوة يوسف الذين عادوا وكانوا يظنون أن يوسف مات فقالوا هذا عبد أبق منا فإن أردتم بعناه لكم فاشتراه مالك بن ذعر الخزاعي. وبضاعة نصب على الحال أي أخفوه متاعا للتجارة، والبضاعة ما بضع من المال للتجارة. (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) الواو عاطفة وشروه فعل وفاعل ومفعول أي باعوه وبثمن متعلقان بشروه وبخس صفة ودراهم بدل من ثمن ومعدودة صفة ووصفها بامكان عدها كناية عن قلتها لأن الكثيرة يتعذر عدها. (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) كان واسمها وفيه متعلقان بمحذوف حال وقال أبو حيان: «متعلقان بأعني مضمرة أو بمحذوف يدل عليه من الزاهدين أو بالزاهدين لأنه يتسامح في الجار والمجرور والظرف» ومن الزاهدين خبر كانوا. وقال ابن هشام: وقول آخر «وكانوا فيه من الزاهدين» إن في متعلقة بزاهدين المذكور وهذا ممتنع إذا قدرت ال موصولة وهو الظاهر لأن معمول الصلة لا يتقدم على الموصول فيجب حينئذ تعلقها بأعني محذوفة أو بزاهدين محذوفا مدلو لا عليه بالمذكور أو بالكون المذكور الذي تعلق به من الزاهدين وأما إن قدرت أل للتعريف فواضح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 463 البلاغة: وصف الدم بالكذب مبالغة كأنه نفس الكذب وعينه كما يقال للكذاب هو الكذب بعينه والزور بذاته والفاعل والمفعول يسميان بالمصدر كما يقال ماء سكب أي مسكوب والفاعل كقوله «إن أصبح ماؤكم غورا» أي غائرا كما سموا المصدر بهما قالوا للعقل المعقول وللجلد المجلود ومنه قوله تعالى «بأيكم المفتون» . الفوائد: هل تتقدم الحال على الجار والمجرور: منع النحاة تقديم الحال على صاحبها إذا كان مجرورا كمررت بهند جالسة فجالسة حال من هند ولا يجوز تقديمها عليها. لا تقول مررت جالسة بهند وهذا تقريبا مذهب الجمهور وعللوا ذلك بأن تعلق العامل بالحال ثان لتعلقه بصاحبه فحقه إذا تعدى لصاحبه بواسطة أن يتعدى إليه بتلك الواسطة لكن منع من ذلك أن الفعل لا يتعدى بحرف واحد الى شيئين فجعلوا عوضا عن الاشتراك في الواسطة التزام التأخير وخالف في هذه الفارسي وابن جني وابن كيسان وابن برهان وغيرهم فأجازوا التقديم مستدلين بقوله تعالى «وجاءوا على قميصه بدم كذب» قالوا في الرد على الزمخشري القائل: إنه ليس بحال لأن حال المجرور لا يتقدم قالوا: فيه ان المعنى لا يساعد على نصبه على الظرف بمعنى لأن العامل فيه إذ ذاك جاءوا وليس الفوق ظرفا بل يستحيل أن يكون ظرفا وبقوله تعالى «وما أرسلناك إلا كافة للناس» فكافة حال من المجرور وهو الناس وقد تقدم على صاحبه المجرور باللام وبنحو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 464 قول الشاعر: تسليت طرا عنكم بعد بينكم ... بذكراكم حتى كأنكم عندي فطرا بمعنى جميعا حال من الكاف والميم وقد تقدم على صاحبه المجرور بعن ورد الزمخشري والمانعون بقولهم ان هذا البيت ضرورة أو طرا حال من عنكم محذوفة مدلولا عليها بعنكم المذكورة وإن كافة في الآية حال من الكاف في أرسلناك وان التاء للمبالغة لا للتأنيث، هذا ولا يحتمل هذا الباب ما استفاض فيه هؤلاء العلماء من ردود ومناقشات فحسبنا ما تقدم. [سورة يوسف (12) : الآيات 21 الى 24] وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 465 اللغة: (مَثْواهُ) : مقامه يقال ثوى بالمكان وأثوى أقام وفلان أكرم مثواي وطال بي الثواء وهو أبو مثواي وهي أم مثواي لمن أنت نازل به قال: أفي كل يوم أم مثوى تسوسني ... تنفّض أثوابي وتسألني ما اسسي (أَشُدَّهُ) : في الأشد ثلاثة أقوال أحدها قول سيبويه: انه جمع مفرده شدة نحو نغمة وأنعم، والثاني قول الكسائي: ان مفرده شد بوزن قفل، والثالث انه جمع لا واحد له من لفظه وهو قول أبي عبيدة وهو من الشد وهو الربط على الشيء والعقد عليه. وقال الراغب: وفيه تنبيه على أن الإنسان إذا بلغ هذا القدر يتقوّى خلقه الذي هو عليه فلا يكاد يزايله، وقيل في الأشد ثماني عشرة سنة وعشرون وثلاث، وثلاث وأربعون وقيل أقصاه ثنتان وستون. (راوَدَتْهُ) المراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب كأن المعنى خادعته عن نفسه أي فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده، يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه، وهي عبارة عن التحيل لمواقعته إياها ومنه الرائد لطالب الماء والكلأ وهي مفاعلة من واحد نحو مطالبة الدائن ومماطلة المدين ومداواة الطبيب ونظائرها مما يكون من أحد الجانبين الفعل ومن الآخر سببه فإن هذه الأفعال وإن كانت صادرة عن الجانبين لكن لما كانت أسبابها صادرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 466 عن الجانب الآخر جعلت كأنها صادرة عنهما وهذا باب لطيف المسلك مبني على اعتبار دقيق تحقيقه أن سبب الشيء يقوم مقامه ويطلق عليه اسمه كما في قولهم «كما تدين تدان» أي كما تجزي تجرى فإن فعل البادي وان لم يكن جزاء لكونه سببا للجزاء أطلق عليه اسمها وكذلك إرادة القيام إلى الصلاة وارادة القرآن حيث كانتا سببا للقيام والقراءة عبر عنهما بهما فقيل إذا قمتم الى الصلاة، فإذا قرأت القرآن وهذه قاعدة مطردة مستمرة. ويجوز أن يراد بصيغة المفاعلة مجرد المبالغة، وقيل الصيغة على بابها بمعنى أنها طلبت منه الفعل وهو طلب منها الترك، ويجوز أن تكون من الرويد وهو الرفق والتجمل وتعديتها بعن لتضمينها معنى المخادعة فالمعنى خادعه عن نفسه أي فعلت ما يفعل المخادع بصاحبه عن شيء لا يريد إخراجه من يده وهو يحتال أن يأخذه منه. (هَيْتَ لَكَ) : اسم للفعل وفيه ضمير المخاطب كصه ومه ومسماه أسرع يقال هيت إذا دعاه، قال الشاعر: أبلغ أمير المؤمنين أخا ... العراق إذا أتيتا أن العراق وأهله ... سلم عليك فهيت هيتا يريد أمير المؤمنين على بن أبي طالب وهو لازم لا يتعدى الى مفعول كما أن مسماه كذلك وفيه ثلاث لغات هيت بالفتح وهيت بالضم وهيت بالكسر، و «لك» من قولك هيت لك تبيين للمخاطب جيء به بعد استغناء الكلام عنه كما كان كذلك في سقيا لك، ألا ترى أن سقيا غير محتاجة إلى لك لأن معناه سقاك الله سقيا وإنما جيء بلك تأكيدا وزيادة فهي في هيت لك كذلك. وقيل هيت اسم فعل ماض بمعنى تهيأت، وفي القاموس: وهيت لك مثلثة الآخر وقد يكسر أوله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 467 أي هلم، وقال العلامة الغنيمي: يحتمل أن يكون الضمير المستتر في تهيأت تقديره هي وقرىء تهيأت بسكون التاء وهذه حكاية لكلامها كما تقول: قال زيد والله ليفعلن، أي قال والله لأفعلن. (مَعاذَ اللَّهِ) : هذا أحد مصادر عاذ يعوذ عوذا ومعاذا وعوذة وعياذة وعياذا ومعنى أعوذ بالله أعتصم وأمتنع لله من الشيطان الرجيم وينشد للراجز زيد بن عمرو بن نفيل أو لعبد المطلب: أنفي لك اللهم عان راغم ... مهما تجشّمني فإني جاشم عذت بما عاذ به ابراهم يريد به ابراهيم عليه السلام ومن العرب من يقول: ابراهام وكذلك قرأ ابن عامر وذلك أن ابراهيم اسم أعجمي فإذا عربته العرب فانها تخالف بين ألفاظه ومنهم من يقول إبراهم بغير ألف قال الشاعر: نحن آل الله في كعبته ... لم يزل ذاك على عهد إبرهم وعن الفراء قال: «العرب تقول نعوذ بالله من طئة الذليل أي أعوذ بالله من أن يطأني ذليل» وفي لسان العرب «وطأة الذليل من استعاذته بالله» . الإعراب: (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ) عطف على محذوف أي دخلوا مصر وعرضوه للبيع فاشتراه عزيز مصر الذي كان على خزائن مصر واسمه قطفير. وقال فعل ماض والذي فاعل وجملة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 468 اشتراه صلة ومن مصر حال ولامرأته جار ومجرور متعلقان بقال وجملة أكرمي مثواه مقول القول وهي فعل وفاعل ومفعول وقد تقدم شرحها (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) عسى من أفعال الرجاء واسمها مستتر وان وما في حيزها خبرها وقد تقدم القول فيها وأو حرف عطف ونتخذه فعل مضارع معطوف على ينفعنا والهاء مفعول به أول وولدا مفعول به ثان. (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) وكذلك نعت لمصدر أي مثل ذلك التمكين ومكنا فعل ماض وفاعل وليوسف متعلقان به فإن فعل مكن يتعدى بنفسه وباللام كما هنا وفي الأرض حال. (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) الواو عاطفة واللام للتعليل ونعلمه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والهاء مفعول به والجار والمجرور متعلقان بمحذوف أي ولنعلمه مكناه وقد سبق مثيله في «ولتكملوا العدة» ومن تأويل الأحاديث متعلقان بنعلمه وأعرابها الجلال على زيادة الواو فهي متعلقة بمكنا المذكورة. (وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) والله مبتدأ وغالب خبر وعلى أمره جار ومجرور متعلقان بغالب والواو حالية ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها. (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) لما حينية أو رابطة وبلغ أشده فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وآتيناه فعل وفاعل ومفعول به وحكما مفعول به ثان وعلما عطف عليه وكذلك نعت لمصدر محذوف ونجزي المحسنين فعل مضارع وفاعل ومفعول به. (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) الواو عاطفة وراودته فعل ومفعول به مقدم والتي فاعل وهو مبتدأ وفي بيتها خبر والجملة الاسمية صلة وعن نفسه جار ومجرور متعلقان براودته. (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) جمل معطوفة وتقدم اعراب هيت لك في باب اللغة واسم المرأة التي راودته زليخاء بفتح الزاي وكسر اللام. ولم يقل: وراودته زليخا أو امرأة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 469 العزيز إما لاستهجان التصريح بالاسم في حكم المراودة والاحتيال في طلب المواقعة وإما للإخفاء عن الآخرين لئلا يتهموها وإما لزيادة تقرير ثبوت المسند للمسند اليه فإن كونه في بيتها وتمكنها من مشاهدة جماله حينا فحينا مما يحقق مراودتها أو لزيادة تقرير المقصود لأن امتناعه منها مع كمال قدرتها عليه يدل على نزاهته وطهارة ذيله، وقيل اختار في الآية إذ يجوز الاشتراك في علمها وإرادة الجنس في امرأة العزيز بخلاف الموصول. (قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) معاذ الله نصب على المصدر أي أعوذ بالله معاذا وانه ربي ان واسمها وخبرها، والضمير يجوز أن يعود لطقفير الذي اشتراه ومعناه سيدي ومالكي يريد قطفير، وجملة أحسن مثواي حال ويجوز أن يعود الضمير الى الشأن والحديث، وربي مبتدأ وجملة أحسن مثواي خبر والجملة خبر إن ويجوز أن تكون الهاء ضمير الله تعالى وقد استبعد بعضهم الأول وقالوا يبعد جدا أن يطلق نبي كريم على مخلوق انه ربه ولو بمعنى السيد لأنه ليس مملوكا في الحقيقة (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) إن واسمها وجملة لا يفلح الظالمون خبرها والضمير يعود للشأن هنا. (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وهمت فعل ماض وهي فاعله وبه متعلقان بهمت، وهمّ فعل ماض وهو فاعله وبها متعلقان بهم ولولا حرف امتناع لوجود وأن وما في حيزها مبتدأ محذوف الخبر أي لولا رؤيته برهان ربه ماثل أمامه وجواب لولا محذوف أي لواقعها واختلف في البرهان الذي رآه، وللمفسرين فيه كلام طويل يرجع اليه في المطولات وحسبنا أن ننقل عبارة أبي حيان. قال: «والذي اختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه هم بها البتة بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول: لقد قارفت لولا أن عصمك الله ولا تقول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 470 إن جواب لولا متقدم عليها وإن كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها وقد ذهب الى ذلك الكوفيون ومن أعلام البصريين أبو زيد الأنصاري وأبو العباس المبرد بل نقول إن جواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه كما يقول جمهور البصريين في قول العرب أنت ظالم إن فعلت فيقدرونه إن فعلت فأنت ظالم ولا يدل قوله أنت ظالم على ثبوت الظلم بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل وكذلك هنا التقدير: لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها فكان يوجد الهم على تقدير انتفاء رؤية البرهان لكنه وجد رؤية البرهان فانتفى الهم، وهذا كلام جيد يؤيد ما ذهبنا إليه في الاعراب فتدبره. هذا ولا خلاف في أن يوسف عليه السلام لم يأت بالفاحشة وإنما الخلاف في وقوع الهم منه فمن المفسرين من ذهب الى أنه همّ وقصد الفاحشة وأتى ببعض مقدماتها ولقد أفرط صاحب الكشاف في التشنيع على هؤلاء فارجع اليه. ومنهم من نزهه عن الهمّ أيضا وهو الصحيح كما تقدم في عبارة أبي حيان وللامام الرازي في تفسيره الكبير نكتة لا بأس بإيرادها قال: «إن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة هم يوسف عليه السلام والمرأة وزوجها والنسوة والشهود ورب العالمين وإبليس وكلهم قالوا ببراءة يوسف عليه السلام عن الذنب فلم يبق لمسلم توقف في هذا الباب: أما يوسف فلقوله: هي راودتني عن نفسي وقوله رب السجن أحب إلي مما يدعونني اليه، وإما المرأة فلقولها ولقد راودته عن نفسه وأما زوجها فلقوله: انه من كيدكن ان كيدكن عظيم، وأما النسوة فلقولهن: امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين، وقولهن حاشا لله ما علمنا عليه من سوء وأما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 471 الشهود فلقوله تعالى وشهد شاهد من أهلها الى آخره وأما شهادة الله تعالى فقوله عز من قائل: «كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين» وأما إقرار إبليس بذلك فلقوله فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين فأقر إبليس بأنه لا يمكن إغواء العباد المخلصين وقد قال تعالى انه من عبادنا المخلصين فقد أقر إبليس أنه لم يغوه وعند هذا نقول: هؤلاء الجهال الذين نسبوا الى يوسف عليه السلام الفضيحة إن كانوا من أتباع دين الله فليقبلوا شهادة الله بطهارته وان كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا إقرار إبليس لطهارته. (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) كذلك نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه واللام متعلقة بذلك المحذوف ويصح أن تكون في محل رفع والتقدير الأمر مثل ذلك والنصب أجود وقد تقدمت نظائر لذلك والسوء مفعول به والفحشاء عطف على السوء. (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) ان واسمها ومن عبادنا خبر والمخلصين صفة لعبادنا. البلاغة: من مرجحات كون الاسم المسند إليه اسما موصولا تقرير الغرض المسوق له الكلام وذلك في قوله تعالى: «وراودته التي هي في بيتها عن نفسه» فإن الغرض المسوق له الكلام هو براءة يوسف عليه السلام فلو قيل راودته امرأة العزيز أو زليخا لم يفد ما أفاده الموصول باعتبار صلته فهو أدل على الغرض المسوق له وهو النزاهة لأنه إذا كان في بيتها وتمكن من نيل المراد منها أي مرادها لا مراده ومع ذلك عف عنها ولم يفعل كان ذلك غاية في النزاهة عن الفحشاء فكان في الموصول زيادة تقرير للغرض الذي هو النزاهة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 472 قول آخر: وقيل: معناه زيادة تقرير المسند أي المراودة لما فيه من فرط الاختلاط والإلفة فلو قال زليخا أو امرأة العزيز لم يفد ما أفاده الموصول من ذكر السبب الذي هو قرينه في تقرير المراودة باعتبار كونه في بيتها. قول آخر: وقيل: هو تقرير للمسند اليه لإمكان وقوع الإبهام والاشتراك في امرأة العزيز أو زليخا ولو ذكر إحداهما ولا يتأتى ذلك في التي هو في بيتها لأنها واحدة معنية مشخصة. [سورة يوسف (12) : الآيات 25 الى 29] وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 473 الإعراب: (وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) الواو عاطفة والجملة متصلة بقوله تعالى ولقد همت به وهمّ بها وقوله كذلك لنصرف إلخ اعتراض جيء به بين المتعاطفين تقريرا لنزاهته وبراءته والمعنى ولقد همّت به وأبى هو واستبقا الى الباب الخارجي الذي هو المخلص ولذلك وحده بعد الجمع وحذف حرف الجر وأوصل الفعل الى المجرور نحو وإذا كالوهم، واستبقا فعل ماض والألف فاعل والباب منصوب بنزع الخافض، وقدّت قميصه: قدّ فعل ماض وفاعله هي وقميصه مفعول به ومن دبر حال ويحتمل أن يكون «قدت» معطوفا على واستبقا، ويحتمل أن يكون حالا أي وقد قدت جذبته من خلفه بأعلى القميص من طوقه فانخرق الى أسفله، والقد القطع والشق وأكثر استعماله فيما كان طولا. قال النابغة: تقد السلوقي المضاعف نسجه ... وتوقد بالصفاح نار الحباحب والقطّ يستعمل فيما كان عرضا. (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) وألفيا عطف على ما تقدم والألف فاعل وسيدها أي بعلها كانت تقول المرأة لبعلها يا سيدي لملكة التصرف فيها، وهي مفعول به ولدي ظرف في محل نصب مفعول به ثان. (قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ما اسم استفهام مبتدأ ويحتمل أن تكون ما نافية أي ليس جزاؤه إلا السجن أو العذاب الأليم، وجزاء خبر ومن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 474 مضاف إليه وجملة أراد صلة وبأهلك جار ومجرور متعلقان بأراد وسوءا مفعول به وإلا أداة حصر وان وما في حيزها بدل من جزاء أي إلا السجن ويجوز أن تكون ما نافية وجزاء مبتدأ وأن يسجن خبره وأو حرف عطف وعذاب عطف على المصدر المؤول وأليم صفة ومن يجوز فيها أن تكون موصولا أو نكرة موصوفة. (قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) قال فعل ماض وفاعله هو أي يوسف مدافعه عن نفسه معلنا براءته وهي مبتدأ وجملة راودتني خبر وعن نفسي متعلقان براودتني. (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) الواو عاطفة وشهد شاهد فعل وفاعل ومن أهلها صفة شاهد وهو ابن عمها وكان بصحبة زوجها. (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ) الشرط مقول قول محذوف أي فقال، وإن شرطية وكان قميصه كان واسمها وجملة قدّ أي شق بالبناء للمجهول خبر ومن قبل متعلقان بقدّ، فصدقت الفاء رابطة وصدقت فعل ماض والجملة جواب الشرط أي فقد ظهر صدقها، وهو الواو حالية وهو مبتدأ ومن الكاذبين خبر ولا بد من تقدير قد ليصح دخول الفاء الرابطة وإلا فلو لم تقدر لم يصح دخول الفاء لأنه فعل ماض متصرف. (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) عطف على الجملة الاولى وهي مماثلة لها في اعرابها. (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة ورأى قميصه فعل وفاعل مستتر ومفعول وجملة قدّ من دبر حالية، قال جواب لما وان واسمها وخبرها. (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) ان واسمها وخبرها. (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) يوسف منادى محذوف منه حرف النداء وأعرض فعل أمر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 475 وفاعله أنت وعن هذا متعلقان بأعرض واستغفري فعل أمر والياء فاعله ولذنبك متعلقان باستغفري. (إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) ان واسمها وجملة كنت خبرها ومن الخاطئين خبر كنت والجملة تعليل للاستغفار. البلاغة: لقائل أن يقول إن الضمير وهو «هي» ليس غير مضمر باتفاق وليس هو للغائب بل لمن بالحضرة والجواب ما قاله السراج البلقيني في رسالته المسماة «نشر العبير، لطي الضمير» : الضمير المفسر لضمير الغائب إما مصرح به أو مستغنى بحضور مدلوله حسا أو علما فالحس نحو قوله «هي راودتني عن نفسي» و «يا أبت استأجره» كذا ذكر الشيخ ابن مالك وتعقبه أبو حيان بأن قال ليس كما مثل به لأن هذين الضميرين عائدان على ما قبلهما فالضمير في قال عائد على يوسف والضمير في هي عائد على قوله «بأهلك سوءا» ولما كنت عن نفسها بقولها «بأهلك» ولم تقل بي كنى هو عنها بضمير الغيبة بقوله «هي راودتني» ولم يخاطبها بقوله أنت راودتني ولا أشار إليها بقوله هذه راودتني وكل هذا على سبيل الأدب في الألفاظ والاستحياء في الخطاب فأبرز الاسم في ضمير الغائب تأديبا مع الملك وحياء منه وعندي أن الذي قاله ابن مالك أرجح مما قاله أبو حيان وذلك أن الاثنين إذا وقعت منهما خصومة عند حاكم فيقول المدعي للحاكم لي على هذا كذا فيقول المدعى عليه هو يعلم أنه لا حق له علي فالضمير في هو انما لحضور مدلوله حسا وسيأتي مزيد من هذا البحث الممتع عند الكلام على قصة ابنه شعيب في سورة القصص. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 476 الفوائد: لدى: ليست لدى من لفظ لدن وإن كانت من معناها لأن لدى معتلة اللام ولدن صحيح اللام وقالوا فيها لدن بفتح اللام وسكون الدال وكسر النون كأنهم استثقلوا ضم الدال فسكنوا تخفيفا كما قالوا في عضد عضد ولما سكنت الدال والنون ساكنة كسروا النون لالتقاء الساكنين وقالوا لدن بضم الدال وسكون اللام وكسر النون وقد حذفوا النون من لدن تخفيفا فقالوا من لد الصلاة ولد الحائط وليس حذف النون لالتقاء الساكنين واعلم أن حكم لدن أن يخفض ما بعدها بالإضافة كسائر الظروف لأن نونها من أصل الكلمة بمنزلة الدال من عند كما قال تعالى «من لدن حكيم عليم» غير أن من العرب من ينصب بها غدوة خاصة قال: لدن غدوة حتى ألاذ بخفها ... بقية منقوص من الظل قالص وقال ذو الرمة: لدن غدوة حتى إذا امتدت الضحى ... وحثّ القطين الشّحشحان المكلّف يعني الحادي والقطين جمع قاطن، قال سيبويه في هذا الصدد: وقد نصبوا غدوة تشبيها بالمميز في نحو عندي راقود خلا وجبة صوفا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 477 والمفعول في نحو هذا ضارب زيدا وقاتل بكرا وقال بعضهم تنصب غدوة بعد لدن على أنها خبر لكان المقدرة مع اسمها والتقدير لدن كان الوقت غدوة وجاز رفعها على أنها فاعل لفعل محذوف والتقدير لدن كانت عدوة أي وجدت فكان هنا تامة والغالب في لدن أن تجر بمن نحو «وعلمناه من لدنا علما» وإذا أضيفت الى ياء المتكلم لزمتها نون الوقاية نحو «لدني» وهي تضاف الى المفرد كما رأيت والى الجملة نحو انتظرتك من لدن طلعت الشمس الى أن غربت. [سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 33] وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 478 اللغة: (نِسْوَةٌ) : جماعة من النساء وكن خمسا والنسوة اسم جمع لا واحد له من لفظه بل من معناه وهو امرأة وتأنيثها غير حقيقي بل باعتبار الجماعة ولذلك لم يلحق فعلها تاء التأنيث والمشهور كسر نونها ويجوز ضمها في لغة، وقد قرىء بها وفي القاموس وشرحه ما يفهم منه أن النسوة والنسوة والنساء والنسوان والنّسون والنسنين جموع للمرأة من غير لفظها وقال الزمخشري: «النسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي ولذلك لم تلحق فعله تاء التأنيث» . (شَغَفَها) : دخل حبها شغاف قلبه وفي المصباح: «شغف الهوى قلبه شغفا من باب نفع والاسم الشغف بفتحتين، بلغ شغافه بالفتح وهو غشاؤه وشغفه المال زين له فأحبه فهو مشغوف به» . والشغاف حجاب القلب وقيل جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب قال النابغة: وقد حال هم دون ذلك والحج ... مكان الشغاف تبتغيه الأصابع (أَعْتَدَتْ) : هيأت وأحضرت، واعتده له هيأه وهو عتيد: معد حاضر ومنه العتيدة التي فيها الطيب والأدهان. (مُتَّكَأً) : ما يتكئن عليه من نمارق يستندن عليها على عادة المتكبرين في أكل الفواكه حيث يتكىء آكلها على الوسائد ويأكلها بالسكاكين وقيل سمي الطعام كالاترج والموز متكأ لحصول الاتكاء على الوسائد عند أكله فهو مجاز مرسل علاقته المجاورة أو استعارة تصريحية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 479 (أَكْبَرْنَهُ) : أعظمنه وهبن حسنه الرائع وجماله الأخاذ الفاتن واستولى عليهن الدهش وقيل: أكبرن بمعنى حضن والهاء للسكت يقال أكبرت المرأة إذا حاضت وحقيقته دخلت في الكبر لأنها إذا حاضت تخرج من حد الصغر الى حد الكبر وكأن أبا الطيب رمق هذا التفسير فقال متملحا متغزلا: خف الله واستر ذا الجمال ببرقع ... فإن لحت حاضت في الخدور العواتق في إحدى روايات البيت التي نقلها أبو الفتح بن جني ويقال إن المرأة إذا اشتدت شهوتها سال دم حيضها فمعنى البيت: استر جمالك عنهن وإلا حضن، على أن الرواية التي اختارها أبو البقاء «ذابت» . (حاشَ لِلَّهِ) : أي حاشا وسيأتي الحديث عنها في باب الفوائد. الإعراب: (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) الواو عاطفة لتتساوق مجريات القصة، وقال نسوة فعل وفاعل وفي المدينة صفة لنسوة. (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا) امرأة العزيز مبتدأ وجملة تراود خبر وفتاها مفعول به وعن نفسه جار ومجرور متعلقان بتراود وقد حرف تحقيق وشغفها فعل وفاعل مستتر ومفعول به وحبا تمييز محول عن الفاعل وجملة قد شغفها حال من فاعل تراود أو من مفعوله ويجوز أن تكون خبرا ثانيا لامرأة. (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) إن واسمها واللام المزحلقة وجملة نراها خبر إن وفي ضلال متعلقان بنراها ومبين صفة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 480 لضلال. (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وسمعت فعل وفاعل مستتر وبمكرهن متعلقان بسمعت وجملة أرسلت لا محل لها وإليهن متعلقان بأرسلت وأعتدت عطف على أرسلت ولهن متعلقان بأعتدت ومتكأ مفعول به وآتت عطف أيضا وكل واحدة مفعول آتت الأول ومنهن صفة لواحدة وسكينا مفعول آتت الثاني والسكين تذكر وتؤنث قاله الكسائي والفراء وقال الجوهري: والغالب عليها التذكير. (وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) الواو عاطفة وجملة اخرج مقول القول وعليهن متعلقان بمحذوف حال أي مطلا عليهن مستعليا بدلّك الفاتن وجمالك الآخذ. (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) الفاء عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة حرفية ورأينه فعل وفاعل ومفعول به وقطعن فعل وفاعل وأيديهن مفعول به، ولا نرى رأي القائلين بأن أكبرنه بمعنى حضن والهاء للسكت إذ هو تظرف مصنوع لا يليق بالقرآن. (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً) وقلن فعل وفاعل وحاش اسم للتنزيه في محل نصب مفعول مطلق ولله متعلقان بمحذوف حال وسيأتي مزيد بحث عن حاشا في باب الفوائد وما نافية حجازية وهذا اسمها وبشرا خبرها وعبارة أبي حيان: «وقال الزمخشري وقرىء ما هذا بشرى أي حاصل بشرى بمعنى هذا مشترى وتقول هذا لك بشرى أي بكرا وقال: واعمال ما عمل ليس هي اللغة القدمى الحجازية وبها ورد القرآن انتهى. وانما قال القدمى لأن الكثير في لغة الحجاز انما هو جر الخبر بالباء فتقول ما زيد بقائم وعليه أكثر ما جاء في القرآن وأما نصب الخبر فمن لغة الحجاز القديمة حتى أن النحويين لم يجدوا شاهدا على نصب الخبر في أشعار الحجازيين غير قول الشاعر: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 481 وأنا النذير بحرة مسودة ... يصل الجيوش إليكم قوادها أبناؤها متكنفون أباهم ... حنقوا الصدور وما هم أولادها وقال الفراء وهو سامع لغة حافظ ثقة: لا يكاد أهل الحجاز ينطقون إلا بالباء فلما غلب على أهل الحجاز النطق بالباء قال الزمخشري: اللغة القدمى الحجازية فالقرآن جاء باللغتين القدمى وغيرها» . (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) إن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وملك خبر وكريم صفة. (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) فذلك الفاء الفصيحة أي إن شئتم معرفته فذلكن واسم الاشارة مبتدأ ولم تقل فهذا وهو حاضر وسياق الكلام يتطلب ذلك رفعا لمنزلته في الحسن والذي خبر لمبتدأ محذوف أي هو الذي ولم يجعل الذي خبر لاسم الاشارة لأن لام البعد التي اقترن بها اقتضت بعده عنه لما تقدم من تعظيم رتبته في الحسن والجمال، وفيه متعلقان بلمتنني أي في حبه أو مراودته وسيأتي تحقيق في المحذوف في باب البلاغة. (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وراودته فعل وفاعل ومفعول به وعن نفسه متعلقان براودته، فاستعصم الفاء عاطفة واستعصم فعل ماض زيدت فيه السين للمبالغة في الامتناع. (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) اللام موطئة للقسم وان شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم ويفعل مضارع مجزوم وهو فعل الشرط وما مفعول به وجملة آمره صلة أي الذي آمره به ويصح كونها مصدرية أي أمري والضمير في آمره عائد على الموصول أي ما آمر به فحذف الجار كما حذف في أمرتك الخير ومفعول آمر الأول محذوف وكان التقدير ما آمره به وإن جعلت ما مصدرية جاز فيعود الضمير على يوسف أي أمري إياه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 482 ومعناه موجب أمري، واللام واقعة في جواب القسم وجواب الشرط محذوف على القاعدة في اجتماعهما دل عليه جواب القسم المذكور والتقدير ليسجنن وليكونن، وفي يسجنن نون التوكيد الثقيلة وفي يكون نون التوكيد الخفيفة واسم يكون مستتر تقديره هو ومن الصاغرين خبرها. (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا وهو ما كان جوابا لمقدر فقد قالت النسوة له بعد أن أسمعن تقرير زليخاء ألا تطيع مولاتك؟ قال إلخ، ورب منادى محذوف منه حرف النداء والسجن مبتدأ وأحب خبر وإلي للتبيين وهي المبينة لفاعلية مجرورها بعد ما يفيد حبا أو بغضا من فعل تعجب أو اسم تفضيل ومما متعلقان بأحب وجملة يدعونني صلة وهو فعل مضارع مبني على سكون الواو والنون الاولى نون النسوة والثانية نون الوقاية فالواو ليست ضميرا بل هي لام الكلمة وليس هو من الأفعال الخمسة التي ترفع بثبوت النون وتنصب وتجزم بحذفها وأضاف العمل إليهن لأنهن جميعا دعونه إلى أنفسهن وقيل لأنهن لما قلن له ألا تطيع مولاتك صح إضافة الدعاء إليهن جميعا، واليه متعلقان بيدعونني. (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) الواو عاطفة وان شرطية ولا نافية وتصرف فعل الشرط والفاعل مستتر تقديره أنت وعني متعلقان بتصرف وكيدهن مفعول به وأصب جواب الشرط والفاعل مستتر تقديره أنا وإليهن جار ومجرور متعلقان بأصب وأكن عطف على أصب واسم أكن مستتر تقديره أنا ومن الجاهلين خبر أكن. البلاغة: 1- في قوله تعالى «ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم» فنان متداخلان الأول ظاهر وهو التشبيه البليغ فقد شبهن يوسف بالملك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 483 من دون ذكر الأداة وهذا واضح كما قلنا يجري على غرار التشبيهات المألوفة المقصود منه إثبات الحسن لأنه تعالى ركب في الطبائع أن لا شيء أحسن من الملك وقد عاين ذلك قوم لوط في ضيف ابراهيم من الملائكة، كما ركب في الطباع أن لا شيء أقبح من الشيطان، وكذلك قوله تعالى في صفة جهنم «طلعها كأنه رؤوس الشيطان» فكذلك قد تقرر أن لا شيء أحسن من الملك، فلما أرادت النسوة وصف يوسف بالحسن شبهنه بالملك. ولكن الأسلوب القرآني شاء أن يتجاوز المألوف من تشبيهات العرب لكل ما راعهم حسنه من البشر بالجن فأدخل فيه فنا آخر لا يبدو للناظر للوهلة الأولى وهو فن عرفوه بأنه سؤال المتكلم عما يعلمه حقيقة تجاهلا منه ليخرج كلامه مخرج المدح أو ليدل- كما هنا- على شدة الوله في الحب وقد يقصد به الذم أو التعجب أو التوبيخ أو التقرير ويسمى هذا الفن تجاهل العارف وهو على قسمين: موجب ومنفي. أ- الموجب: وهو ما يكون فيه الاستفهام عن شيئين أحدهما واقع والآخر غير واقع وللمتكلم أن ينطق بأحدهما ويسكت عن الآخر لدلالة الحال عليه ومن هذا الباب قوله تعالى «أبشرا منا واحدا نتبعه» وهذا خارج مخرج التعجب وسيأتي بحثه عند الكلام على هذه الآية في سورة «القمر» وقوله تعالى «قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يبعد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء» وهذا خارج مخرج التوبيخ وقد مر ذكره في سورة هود وقوله تعالى: «أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم» وهذا خارج مخرج التقرير وجميعه موجب كما رأيت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 484 ب- المنفي: وأما الآية التي نحن بصددها فهي من القسم المنفي فقد تجاوز التشبيه، كما قلنا، تشبيه العرب كل من راعهم حسنه من البشر بالجن الى تشبيه يوسف حين كان حسنه بادي الروعة متجاوزا في ائتلاقه ووسامته المألوف المعهود من روائع الحسن وله مع روعته البادية نور ورأوة، وطلاقة وتهلل، وعليه مسحة من سكينة تؤمن ناظره من تلك الرعوة وتثبت قلبه بما يسري إليه من سكينة وايماءة بالخير واستهواء لما فيه راحة النفس ولذتها فكان كذلك تشبيهه بالملك الكريم. التشبيه المصون عن الابتذال: وما دام الكلام انجر معنا الى هذه النواحي التي تدق فيها الصنعة وتعزب أسرارها إلا عن الملهمين الذين تذوقوا أسرار القوم فلا ندحة لنا عن الاشارة الى أن هذا الفن انما يلجأ اليه في التشبيه بنوع خاص للخروج من التقليد والارتفاع بالتشبيه الى أبعد الآفاق وصيانته من الابتذال فلو لم تعرض الآية تشبيه يوسف بالملك بهذا الأسلوب المسبوق بالنفي الموجب للغرابة لم يكن للتشبيه ذلك الوقع الحسن ومن ذلك قول شاعر الخلود المتنبي: لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا ... إلا بوجه ليس فيه حياء فقد أراد تشبيه الوجه بالشمس ولكن هذا التشبيه شائع يكاد لشيوعه يسف الى حضيض الابتذال فأراد صيانته بأن قدم له النفي متجاهلا فقال لا حاجة الى الشمس مع ضيائك ونورك ولكنها لوقاحتها تطلع عليك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 485 تجاهل العارف في الشعر: هذا ولتجاهل العارف وقع في النفوس كأخذة السحر ونشوة الخمر ولهذا قال السكاكي رحمة الله: «لا أحب تسميته بالتجاهل لوروده كثيرا في كلام الله تعالى» ثم أطلق عليه تسمية أخرى وهي «سوق المعلوم مساق غيره لنكتة» وقد طفحت أشعارنا به ولم تقتصر على المديح أو الغزل، كما قلنا، بل تجاوزتهما الى أية مبالغة في أي موضوع من الموضوعات التي تعن للخواطر فاستمع الى قول زهير ابن أبي سلمى تر العجب العجاب: قال يهجو حصن بن حذيفة الفزاري: وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء فانظر كيف خطر بباله أن ينفي الدراية بحال الآل، ثم قبل أن يكمل ذلك خطر بباله الجزم بأنه سوف يدري، ثم قبل أن يكمل ذلك قال إن حصول الدراية في المستقبل على سبيل التخيل والظن فحكى حال النفس عند ترددها في شأنه. ويطربني قول أبي العباس النامي: أحقا أن قاتلتي زرود ... وأن عهودها تلك العهود وقفت وقد فقدت الصبر حتى ... تبين موقفي أني الفقيد وشكك فيّ عذالي فقالوا ... لرسم الدار أيكما العميد؟ وصيحة ابن الرومي صيحة الوهل حين يرى الوجنة الحمراء الى جانب الصدع الأدعج: يا وجنتيه اللتين من بهج ... فيّ صدغييه اللذين من دعج الجزء: 4 ¦ الصفحة: 486 ما حمرة فيكما؟ أمن خجل ... أم صبغة الله أم دم المهج وقد أطرفت ليلى بنت طريف الخارجية في رثاء أخيها: أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف وأراد مهيار أن يشبه المحبوبة بالظبي وبالبدر وبغصن البان فتجاوز المألوف المعتاد وسما الى سماء ما طاولتها سماء إذ قال: سلا ظبية الوادي وما الظبي مثلها ... وإن كان مصقول الترائب أكحلا أأنت أمرت البدر أن يصدع الدجى ... وعلمت غصن البان أن يتميّلا ونختم هذا الباب المستطاب بقول البهاء زهير: رعى الله ليلة وصل خلت ... وما خالط الصفو فيها الكدر أتت بغتة ومضت سرعة ... وما قصرت بعد ذاك القصر بغير احتيال ولا كلفة ... ولا موعد بيننا ينتظر فقلت وقد كاد عقلي يطير ... سرورا بنيل المنى والوطر أيا قلب تعرف من قد أتاك ... ويا عين تدرين من قد حضر ويا قمر الأفق عد راجعا ... فقد حل في الدار عندي القمر ويا ليلتي هكذا هكذا ... وبالله قف يا سحر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 487 فكانت كما أشتهي ليلة ... وطاب الحديث وطاب ا لسهر خلونا وما بيننا ثالث ... فأصبح عند النسيم الخبر ويقول الشريف الرضي وهو غاية الغايات: بين الاظاعن حاجة خلفتها ... أودعتها يوم الفراق مودعي وأظنها لا بل يقيني انها ... قلبي لأني لم أجد قلبي معي 2- الحذف: وفي قوله «فذلكن الذي لمتنني فيه» والتقدير في حبه لأن الذوات لا يتعلق بها لوم ودليل تقدير في حبه قوله «قد شغفها حبا» في مراودته، ولعلها أولى بدليل قوله: «تراود فتاها عن نفسه» وإنما قلنا أولى لأنه فعلها بخلاف الحب فإنه أمر قهري لا يلام عليه إلا من حيث تعاطي أسبابه أما المراودة فهي حاصلة باكتسابها فهي قادرة على دفعها فيتأتى اللوم عليها بخلاف الحب فانه ليس فعلا لها ولا تقدر على دفعه لأن الحب المفرط قد يقهر صاحبه ولا يطيق أن يدفعه وحينئذ فلا يلام عليه وعلى كل حال فهو من أسبابه. 3- وفي قوله «متكأ» تصوير لنوع من الطعام الذي انما يقدم تفكها وتبسطا وتجميلا للمجلس وتوفيرا لأسباب المتعة فيه حتى إن الشأن فيه أن يكون الإقبال عليه في حالة من الراحة والاتكاء، والكلمة بعد هذا من الألفاظ الكثيرة التي أبدع القرآن صياغتها فتعلق بها العرب فيما بعد ولولا ذلك لما اهتدوا إليها ولخاتنهم اللغة في هذا الباب عن تصوير ما يريدون انظر حينما يصف القرآن دعوة امرأة العزيز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 488 للنسوة اللائي تحدثن منتقدات عن مراودتها ليوسف عن نفسه إلى جلسة لطيفة رائعة في بيتها لتطلعهن فيها على يوسف وجماله فيعذرنها فيما أقدمت عليه، لقد قدمت لهن في ذلك المجلس طعاما ولا شك ولقد أوضح القرآن هذا ولكنه لم يعبر عن ذلك بالطعام فهذه الكلمة إنما تصور شهوة الجوع وتنتقل بالفكر الى «المطبخ» بكل ما فيه من ألوان الطعام وروائحه وأسبابه. الفوائد: 1- (حاشا) تكون على ثلاثة أوجه: 1- فعلا متعديا متصرفا، تقول: حاشيته بمعنى استثنيته وان سبقتها ما تكون نافية. 2- تنزيهية نحو حاشا لله فتكون اسما مرادفا للتنزيه منصوبا على المفعولية المطلقة وقيل هي فعل وتثبت الألف وتحذف. 3- أن تكون للاستثناء فتكون حرفا بمنزلة إلا لكنها تجر المستثنى وهناك تفاصيل أخرى يرجع إليها في المطولات. 2- المخالفة في نوني التوكيد: جمهور البصريين يرى أن نوني التوكيد الثقيلة والخفيفة أصلان لتخالفهما في بعض أحكامهما كإبدال الخفيفة ألفا في نحو وليكونا وحذفها في نحو قوله: ولا تهين الفقير علك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 489 وكلاهما ممتنع في الثقيلة، هذا ما قاله سيبويه وعورض بأن الفرع قد يختص بما ليس للأصل أحيانا وقد قال سيبويه نفسه في أن المفتوحة انها فرع المكسورة ولها إذا خففت أحكام تخصها أما الكوفيون فيرون أن الخفيفة فرع الثقيلة. وذكر الخليل بن أحمد: ان التوكيد بالثقيلة أشد من التوكيد بالخفيفة يدل له «ليسجنن وليكونن» فإن امرأة العزيز كانت أشدّ حرصا على سجنه من كينونته صاغرا. 3- لا يخلو اسم التفضيل المجرد من أل والاضافة غالبا من مشاركة المفضل عليه في المعنى لفظا أو تقديرا والمراد بقولنا تقديرا مشاركته بوجه ما كقولهم في البغيضين: هذا أحب إلي من هذا وفي الشرين هذا خير من هذا وفي التنزيل: «قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه» وتأويل ذلك هذا أقل بغضا وأقل شرا ومن غير الغالب العسل أحلى من الخل والصيف آخر من الشتاء. [سورة يوسف (12) : الآيات 34 الى 41] فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 490 اللغة: (كَيْدَهُنَّ) : الكيد: يطلق على معان شتى منها المكر والخبث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 491 كالمكيدة والحيلة وهو المراد هنا ويطلق على الحرب وإخراج الزند النار والقيء واجتهاد الغراب في صياحه وكاد قاء وبنفسه جاد والمرأة حاضت، وكاد يفعل كذا قارب وهمّ. الإعراب: (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ) الفاء عاطفة واستجاب فعل ماض وله متعلقان به وربه فاعل، فصرف عطف على فاستجاب وعنه متعلقان بصرف وكيدهن مفعول به. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ان واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ ثان والسميع العليم خبر ان لإن أو لهو والجملة خبر ان. (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) ثم حرف عطف وبدا فعل ماض وفاعله مضمر يفسره ليسجننه أي بدا لهم أن يسجنوه قال سيبويه: «وفاعل بدا لهم هو ليسجننه أي ظهر لهم أن يسجنوه» وقال المبرد: هذا غلط لأن الفاعل لا يكون جملة ولكن الفاعل ما دل عليه بدا وهو المصدر، قال الشاعر: وحق لمن أبو موسى أبوه ... يوفقه الذي نصب الجبالا أي وحق الحق، فحذف الفاعل لدلالة الفعل عليه، وعلى مذهب سيبويه فاعل حق هو يوفقه أي حق التوفيق، ولهم متعلقان ببدا ومن بعد حال وما مصدرية وهي مع ما في حيزها مضافة لبعد ورأوا فعل وفاعل والآيات مفعول به، ليسجننه اللام جواب قسم محذوف على تقدير القول المنصوب على الحال: أي ظهر لهم من بعد ما رأوا الآيات قائلين والله لنسجننه فجملة القسم وما بعده مقول القول ويسجننه فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 492 المحذوفة فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة ولكنها لم تباشر الفعل فأعرب، والهاء مفعول به منصوب وحتى حرف جر وحين مجرور بحتى والجار والمجرور متعلقان بيسجننه أي إلى أن ينقطع كلام الناس وتسكن الاشاعات والأراجيف. (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) الواو عاطفة على محذوف ودخل فعل ماض ومعه ظرف مكان متعلق بدخل والسجن مفعول به على السعة وفتيان فاعل أي غلامان للملك أحدهما ساقيه والآخر صاحب طعامه وكانا قد اتهما بأنهما حاولا أن يسما الملك فأمر بهما الى السجن فأدخلا السجن ساعة دخول يوسف. (قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) قال فعل وأحدهما فاعل والجملة استئناف بياني وقد تقدم، وان واسمها وجملة أراني خبرها والياء مفعول أراني الأول وجملة أعصر خمرا في محل المفعول الثاني، وعبارة أبي حيان: «ورأى الحلمية جرت مجرى أفعال القلوب في جواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متحدي المعنى فأراني فيه ضمير الفاعل المستكن وقد تعدى الفعل الى الضمير المتصل وهو رافع للضمير المتصل وكلاهما لمدلول واحد ولا يجوز أن تقول ضربني ولا أكرمني» . (وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) وقال الآخر فعل وفاعل وان واسمها وجملة أراني خبرها وجملة أحمل مفعول أراني الثاني وفوق رأسي ظرف متعلق بأحمل أو بمحذوف حال من خبزا لأنه كان في الأصل صفة له فلما تقدم أعرب حالا، وخبزا مفعول به وجملة تأكل الطير منه صفة لخبزا. (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) فعل أمر ونا مفعوله والفاعل مستتر تقديره أنت وبتأويله متعلقان بنبئنا وان واسمها وجملة نراك خبرها ومن المحسنين متعلقان بنراك. (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) لا نافية ويأتيكما طعام فعل مضارع ومفعول به وفاعل وجملة ترزقانه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 493 صفة لطعام وإلا أداة حصر ونبأتكما فعل وفاعل ومفعول به والميم والألف حرفان دالان على التثنية وقيل ظرف متعلق بنبأتكما وان وما في حيزها مضافة للظرف وجملة إلا نبأتكما نعت لطعام أو حال منه لأنه وصف. (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) اسم الاشارة مبتدأ ومما خبر وجملة علمني صلة وعلمني ربي فعل ومفعول به وفاعل. (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) ان واسمها وجملة تركت خبرها، وملة قوم مفعول به وجملة لا يؤمنون صفة لقوم وبالله متعلق بيؤمنون وهم مبتدأ وبالآخرة متعلقان بكافرون وهم تأكيد لهم وكافرون خبر هم وجملة إني تركت ابتدائية أو تعليلية وفي كلا الحالين لا محل لها من الإعراب. (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) واتبعت عطف على تركت والتاء فاعله وملة آبائي مفعول به وإبراهيم بدل من آبائي واسحق ويعقوب عطف على ابراهيم. (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) ما نافية وكان فعل ماض ناقص ولنا خبرها المقدم وان وما في حيزها اسمها المقدم وبالله متعلقان بنشرك ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا مفعول به منصوب محلا. (ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ) ذلك مبتدأ ومن فضل الله خبر وعلينا متعلقان بفضل وعلى الناس معطوف على علينا. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) الواو عاطفة ولكن واسمها وجملة لا يشكرون خبرها. (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) يا حرف نداء وصاحبي السجن منادى مضاف وعلامة نصبه الياء والسجن مضاف اليه ويجوز أن تكون هذه الاضافة من باب الاضافة للظرف إذ الأصل يا صاحبي في السجن ويجوز أن تكون من باب الاضافة الى الشبيه بالمفعول به والمعنى يا ساكني السجن وسيأتي مزيد بحث عن معنى الاضافة في باب الفوائد، أأرباب: الهمزة للاستفهام التقريري وأرباب مبتدأ ومتفرقون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 494 صفة وخير خبر وأم حرف عطف وهي هنا متصلة والله عطف على أرباب والواحد صفة والقهار صفة ثانية. (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) ما نافية وتعبدون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل ومن دونه حال وإلا أداة حصر وأسماء مفعول به وجملة سميتموها صفة والتاء فاعل وأنتم تأكيد للتاء وآباؤكم عطف على التاء قال صاحب الخلاصة: وإن على ضمير رفع متصل ... عطفت فافصل بالضمير المنفصل (ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) ما نافية وأنزل الله فعل وفاعل وبها متعلقان بأنزل ومن حرف جر زائد وسلطان مجرور لفظا مفعول به منصوب محلا والجملة نعت أو حال لأن اسماء وصفت. (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) إن نافية والحكم مبتدأ وإلا أداة حصر ولله خبر الحكم وجملة أمر مستأنفة أو حالية والأول أضبط وأن مصدرية ولا نافية وتعبدوا فعل مضارع منصوب بأن وأن وما بعدها منصوب بنزع الخافض وهو متعلق بأمر أي أمركم بأن لا تعبدوا ويجوز أن تكون مفسرة، ولا ناهية وتعبدوا مجزوم بلا وإلا أداة حصر وإياه مفعول تعبدوا. (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك مبتدأ والدين خبر والقيم صفة ولكن الواو استئنافية أو حالية ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها. (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) يا صاحبي السجن تقدم اعرابها وأما حرف شرط وتفصيل وأحدكما مبتدأ والفاء رابطة وجملة يسقي خبر أحدكما وربه مفعول به أول وخمرا مفعول به ثان وانما أبهم الساقي لكونه مفهوما أو لكراهة التصريح للخباز بأنه الذي سيصلب. (وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) وأما الآخر عطف على أما الأولى والآخر مبتدأ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 495 والفاء رابطة وجملة يصلب خبر، فتأكل الطير: الفاء عاطفة وتأكل عطف على يصلب والطير فاعل وتأكل ومن رأسه متعلقان بتأكل. (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) قضي الأمر فعل ماض مبني للمجهول والأمر نائب فاعل والذي صفة للأمر وفيه متعلقان بتستفتيان. البلاغة: في قوله تعالى (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) مجاز مرسل علاقته ما يكون وما يئول اليه فقد سمى العنب خمرا لأنه يئول الى الخمر ويقال فلان يطبخ الآجر أي يطبخ اللبن حتى يصير آجرا وقيل: الخمر هو العنب حقيقة في لغة غسان وأزد وعمان، وعن المعتمر: لقيت أعرابيا حاملا عنبا في وعاء فقلت ما تحمل؟ فقال خمرا وعلى هذا يكون الكلام حقيقيا لا مجازيا والأول أرجح. الفوائد: معنى الاضافة: تكون الاضافة على معنى اللام بأكثرية لأنها الأصل وعلى معنى من بكثرة ومن ذلك اضافة العدد الى المعدودات والمقادير الى المقدورات كثلاثة الأثواب ومائة درهم ومن ذلك اضافة عدد الى آخر نحو ثلاثمائة وعلى معنى «في» بقلّة، وضابط الاضافة التي تكون بمعنى في أن يكون الثاني ظرفا للأول وهو المضاف سواء أكان زمانا أم مكانا فالزمان نحو مكر الليل وتربص أربعة أشهر والمكان نحو «يا صاحبي السجن» فالليل ظرف للمكر والسجن ظرف للصاحبين والتقدير مكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 496 في الليل وصاحبين في السجن وضابط الاضافة التي تكون بمعنى من ان يكون الاول وهو المضاف بعض الثاني وهو المضاف اليه كخاتم فضة ألا ترى أن الخاتم بعض جنس الفضة المضاف إليها وان يصح الاخبار بالمضاف اليه عن المضاف فانه يقال هذا الخاتم فضة. هذا وذهب الجمهور الى أن الاضافة قسمان فقط: بمعنى اللام وبمعنى من ولا ثالث لهما، وما أوهم معنى «في» فهو على معنى اللام مجازا، وجعل الليل ماكرا والسجن صاحبا، لوقوع المكر والصحبة فيهما. [سورة يوسف (12) : الآيات 42 الى 49] وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 497 اللغة: (بِضْعَ سِنِينَ) : البضع: ما بين الثلاث الى التسع وأكثر الأقاويل على انه لبث فيه سبع سنين قال أحد علماء اللغة: والبضع بالكسر والفتح ما بين واحد الى خمسة في قول أبي عبيدة وقال غيره ما بين واحد الى عشرة والبضع بالفتح الشق والبضع بالضم النكاح قال بعضهم: شقّ وري وجماع بضع ... ما بين واحد وعشر بضع وفي الأساس: «وعندي بضعة عشر من الرجال وبضع عشرة من النساء، الذكور بالتاء والإناث بطرحها، على سنن حكم العدد. وأقمت عنده بضع سنين وهو ما بين الثلاث الى العشر» وفي القاموس والتاج: «البضع والبضع الطائفة من الليل وما بين الثلاث الى التسع يقال بضع سنين وبضع عشرة من النساء وبضع وعشرون امرأة ومع المذكر بضعة عشر من الرجال وبضعة وعشرون رجلا ويجب تقديم بضع فلا يقال عشرون وبضع» وقال الحريري في درة الغواص: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 498 «البضع أكثر ما يستعمل فيما بين الثلاث الى العشر وأسند ذلك الى النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: «وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين» وذلك أن المسلمين كانوا يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل الكتاب، والمشركون يميلون الى أهل فارس لأنهم أهل أوثان فلما بشر الله المسلمين بأن الروم سيغلبون سر المسلمون ثم ان أبا بكر رضي الله عنه أخبر مشركي قريش بما نزل عليهم فقال أمية بن خلف خاطراني على ذلك فخاطره على خمس قلائص في مدة ثلاث سنين ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن البضع فقال ما بين الثلاثة الى العشرة فأخبره بخطاره مع ابن خلف فقال له: ما حملك على تقريب المدة؟ قال الثقة بالله ورسوله فقال له: عد إليهم فزدهم في الخطر وازدد في الأجل فزادهم قلوصين وزادوه سنتين فظفرت الروم بفارس قبل انقضاء الأجل الثاني تصديقا لتقدير أبي بكر رضي الله عنه. (سِمانٍ) : جمع سمينة ويجمع سمين أيضا عليه يقال رجال سمان كما يقال نساء سمان والسمن مصدر سمن يسمن فهو سمين فالمصدر والاسم جاءا على غير قياس إذ قياسهما سمنا بالفتح فهو سمن نحو فرح فرحا فهو فرح وفي المصباح: «سمن يسمن من باب تعب وفي لغة من باب قرب إذا كثر لحمه وشحمه ويتعدى بالهمزة وبالتضعيف» ومن المجاز كلام غثّ وسمين، وقد أسمنت القدر، ودار سمينة: كثيرة الأهل، وسمّنوا لفلان: أعطوه عطاء كثيرا، وسمّنت في الحمد أعطيت فيه الكثير، قال ابن مقبل: تركت الخنا لست من أهله ... وسمّنت في الحمد حتى سمن وسمع أعرابي يقول لآخر: جعلت لك الدار بغير ثمن ليكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 499 أسمن لخطي عندك، وانقلب بلدهم سمنة وعسلة إذا كثرتا فيه وفي مثل «سمنكم هريق في أديمكم» أي ما لكم ينفق عليكم. (عِجافٌ) : جمع عجفاء على غير قياس والعجف الهزال الذي ليس بعده والسبب في وقوع عجاف جمعا لعجفاء وأفعل وفعلاء لا يجمعان على فعال حمله على سمان لأنه نقيضه ومن دأبهم حمل النظير على النظير والنقيض على النقيض والقياس عجف نحو حمراء وحمر. (رُءْيايَ) : فرق أرباب العربية بين الرؤيا والرؤية فقالوا: الرؤيا مصدر رأى الحلمية والرؤية مصدر رأى العينية وغلطوا أبا الطيب في قوله: مضى الليل والفضل الذي لك لم يمض ... ورؤياك أحلى في العيون من الغمض وقال أبو البقاء في شرحه لديوان المتنبي: «والرؤيا تستعمل في المنام خاصة ومنه قوله تعالى «لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق» و «لا تقصص رؤياك على إخوتك» و «إن كنتم للرؤيا تعبرون» و «قد صدقت الرؤيا» وهذا كله في المنام ولو قال «لقياك» لكان أحسن إلا أنه ذهب بالرؤيا الى الرؤية كقوله تعالى «وما جعلنا الرؤيا التي أريناك» فإنه لم يرد بها رؤيا المنام وانما أريد اليقظة وكان ذلك ليلا في ليلة الاسراء» . وقال أبو الفتح بن جني: «الرؤيا في المنام وأما في العين فلا أعرفها وإن جاءت فهي شاذة» . وقال ابن هشام في أوضح المسالك: «ولا تختص الرؤيا بمصدر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 500 الحلمية بل قد تقع مصدرا للبصرية خلافا للحريري وابن مالك بدليل: «وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس» قال ابن عباس: هي رؤيا عين ولكن المشهور استعمالها في الحلمية. واقتصر صاحب القاموس على أن الرؤيا في الحلم قال: «والرؤيا ما رأيته في منامك» وجمعه رؤى كهدى. (تَعْبُرُونَ) : من باب نصر ينصر ويستعمل أيضا بالتشديد كعلّم تعليما وحقيقة عبرت الرؤيا ذكرت عاقبتها وآخر أمرها كما تقول عبرت النهر إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه وهو عبره أو نحوه أولت الرؤيا إذا ذكرت مآلها وهو مرجعها وعبرت الرؤيا بالتخفيف هو الذي اعتمده الإثبات ورأيتهم ينكرون عبرت بالتشديد والتعبير والمعبر وقد عثرت على بيت أنشده المبرد في كتاب الكامل لبعض الإعراب: رأيت رؤيا ثم عبرتها ... وكنت للأحلام عبارا وفي القاموس: العبار مبالغة العابر ومفسر الأحلام وجمل عبار قوي على السير وشاع العبر اليوم بالفتح والكسر وهو من الوادي شاطئه وناحيته أما العبر بالضم فهو الكثير من كل شيء والعبارة بالكسر مصدر والاسم من عبّر والألفاظ الدالة على معنى ويقال فلان حسن العبارة أي البيان وهذا عبارة عن كذا أي بمعناه ومساوله في الدلالة. (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) تخاليطها وأباطيلها وما يكون منها من حديث نفس أو وسوسة شيطان وأصل الأضغاث ما جمع من أخلاط النبات وحزم الواحد ضغث فاستعيرت لذلك والاضافة بمعنى من أي أضغاث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 501 من أحلام وفي المثل «ضغث على إبالة» الإبّالة بكسر الهمزة وتشديد الباء الحزمة من الحشيش والحطب والضغث قبضة من حشيش مختلطة الرطب باليابس ومعنى المثل بلية على أخرى ويضرب أيضا مثلا للرجل يحمّل صاحبه المكروه ثم يريده منه. (ادَّكَرَ) : بالدال وهو الفصيح ويجوز واذّكر بالذال المعجمة وأصلها اذتكر افتعل من الذكر فوقعت تاء الافتعال بعد الذال فأبدلت دالا فاجتمع متقاربان فأبدل الاول من جنس الثاني وادغم. (أُمَّةٍ) : بضم الهمزة وتشديد الميم وتاء منونة وهي المدة الطويلة والأمة معروفة والإمة بكسر الهمزة النعمة وقرىء بها أيضا قال عدي: ثم بعد الفلاح والملك والإمة ووارتهم هناك القبور الإعراب: (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) وقال عطف على ما قبله وفاعله يوسف وللذي متعلقان به وجملة ظن صلة وفاعل ظن يوسف أيضا وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي ظن وان واسمها وناج خبرها ومنهما حال أي حال كون الناجي من جملة الاثنين وهو الساقي وجملة اذكرني مقول القول وعند ربك ظرف متعلق بمحذوف حال. (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) فأنساه الشيطان الفاء عاطفة وأنساه فعل ومفعول به والضمير يعود الى الساقي والشيطان فاعل والمعنى فأنساه الشيطان أن يذكر يوسف عند الملك وقيل فأنسي يوسف ذكر ربه حين وكل أمره الى غيرة. ذهب كثير من المفسرين الى أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو الذي نجا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 502 من الغلامين وهو الشرابي وقد رجح هذا بكون الشيطان لا سبيل له على الأنبياء وأجيب بأن النسيان وقع من يوسف ونسبته الى الشيطان على طريق المجاز، والأنبياء غير معصومين عن النسيان إلا فيما يخبرون به عن الله سبحانه وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فاذا نسيت فذكروني» ورجح أيضا بأن النسيان ليس بذنب فلو كان الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو يوسف لم يستحق العقوبة على ذلك بلبثه في السجن بضع سنين وأجيب بأن النسيان هو الترك وانه عوقب بسبب استعانته بغير الله سبحانه ويؤيد رجوع الضمير الى يوسف ما بعده من قوله: فلبث في السجن بضع سنين ويؤيد رجوعه الى الذي نجا من الغلامين قوله فيما سيأتي: وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة. وذكر مفعول به ثان، فلبث الفاء عاطفة ولبث فعل وفاعل مستتر وفي السجن جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وبضع سنين نصب على الظرفية متعلق بلبث. (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ) إن واسمها وجملة أرى خبرها وسبع بقرات مفعول به وسمان صفة لبقرات وسيأتي في باب الفوائد لماذا وصفت البقرات دون سبع ويأكلهن سبع فعل مضارع ومفعول به وفاعل وعجاف صفة لسبع وجملة يأكلهن في محل نصب مفعول ثان لأرى، وعبر بالمضارع لاستحضار الصورة. (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) وسبع عطف على سبع الأولى وسنبلات مضاف اليه وخضر صفة لسنبلات وأخر عطف على سبع وسيأتي القول في منعها من الصرف في باب الفوائد ويابسات صفة لأخر. (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) أفتوني فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والياء مفعول به وفي رؤياي متعلقان بأفتوني وإن شرطية وكنتم كان واسمها وهي في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 503 محل جزم فعل الشرط وجملة تعبرون خبر كنتم والجواب محذوف دل عليه ما قبله أي فأفتوني في رؤيا وقوله للرؤيا الجار والمجرور فيه أوجه أحدها ان اللام للبيان كقوله وكانوا فيه من الزاهدين فهي ومجرورها في محل نصب حال وإما أن تكون للتقوية لأن العامل إذا تقدم عليه معموله لم يكن في قوته على العمل فيه مثله إذا تأخر عنه فعضد بها كما يعضد بها اسم الفاعل إذا قلت عابر للرؤيا لانحطاطه عن الفعل في القوة فهي في حكم المزيدة فلا تعلق بشيء وانما زيدت لمجرد التقوية ويجوز أن تكون خبر كنتم كما تقول كان فلان لهذا الأمر إذا كان مضطلعا به متمكنا منه وعندئذ تكون جملة تعبرون خبرا ثانيا لكنتم. قال المبرد في الكامل: وهذه اللام تزاد في المفعول على معنى زيادتها في الاضافة، تقول هذا ضارب زيدا وهذا ضارب لزيد، لأنها لا تغير معنى الاضافة إذا قلت هذا ضارب زيد وضارب له، وفي القرآن «وأمرت لأن أكون أول المسلمين» وكذلك «إن كنتم للرؤيا تعبرون» (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) قالوا فعل وفاعل وأضغاث أحلام خبر لمبتدأ محذوف أي هذه أضغاث أحلام وتخاليط أوهام والجملة مقول القول وسيأتي سر جمعها في باب البلاغة وما الواو عاطفة وما نافية حجازية ونحن اسمها وبتأويل متعلقان بعالمين والباء حرف جر زائد وعالمين مجرور بالباء لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس. (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) الواو عاطفة وقال الذي فعل وفاعل وجملة نجا صلة ومنهما حال وادكر عطف على نجا وبعد أمة متعلقان بادكر ويجوز أن تكون الواو حالية وجملة نجا حالية من الموصول أو من عائده أي فاعل نجا. (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) أنا مبتدأ وجملة أنبئكم خبر والكاف مفعوله وبتأويله متعلقان بأنبئكم فأرسلون الفاء الفصيحة وأرسلوني فعل أمر وفاعل ومفعول به أي ان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 504 شئتم تعبير الرؤيا فأرسلوني. (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) لا بد من تقدير محذوف أي فأرسلوه فأتى يوسف في السجن فقال، ويوسف منادى محذوف منه حرف النداء وأيها منصوب محلا على الاختصاص لأنه مبني على الضم والصديق بدل منه أو عطف بيان له تابع له على اللفظ وسيأتي بحث الاختصاص في باب الفوائد وأفتنا فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله مستتر تقديره أنت ونا مفعول به وفي سبع جار ومجرور متعلقان بأفتنا وبقرات مضاف اليه وجملة يأكلهن سبع عجاف صفة لبقرات وما بعده عطف عليه. (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) لعل واسمها وجملة أرجح خبرها والى الناس متعلقان بأرجع ولعلهم يعلمون مثلها. (قالَ: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) جملة تزرعون مقول القول وسبع سنين ظرف متعلق بتزرعون ودأبا حال من المأمورين أي دائبين أو مصدر لفعل محذوف أي تدأبون دأبا. (فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ) الفاء عاطفة وما يجوز أن تكون شرطية أو موصولة وهي في محل نصب مفعول مقدم لحصدتم على الحالين، وحصدتم فعل وفاعل فذروه الفاء واقعه في جواب الشرط أو الموصول لما فيه من رائحة الشرط وذروه فعل وفاعل ومفعول به وفي سنبله متعلقان فذروه وإلا أداة استثناء وقليلا مستثنى واجب النصب ومما صفة لقليلا وجملة تأكلون صلة. (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ) ثم حرف عطف وتراخ ويأتي فعل مضارع ومن بعد ذلك حال وسبع فاعل يأتي وشداد صفة لسبع. (يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ) جملة يأكلن صفة ثانية لسبع والنون فاعل وما مفعول به وجملة قدمتم صلة ما ولهن متعلقان بقدمتم وإلا أداة استثناء وقليلا مستثنى ومما صفة لقليلا وجملة تحصنون صلة. (ثُمَّ يَأْتِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 505 مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) عطف أيضا وجملة فيه يغاث الناس صفة لعام ويعصرون عطف على يغاث أي يعصرون الأعناب وغيرها. البلاغة: 1- المبالغة: فقد جمعوا لفظ الضغث فقالوا أضغاث أحلام وجعلوه خبرا للرؤيا مع ايها واحدة للمبالغة في وصف الحلم بالبطلان أو لانطوائه على أشياء مباينة ولفظ الجمع كما يدل على كثرة الذوات يدل أيضا على المبالغة في الاتصاف كما في قولهم فلان يركب الخيل ويلبس العمائم لمن لا يملك إلا فرسا واحدة وعمامة فردة. 2- نفي الشيء بايجابه: وقد تقدمت الاشارة اليه ونزيده هنا بسطا لأنه من محاسن الكلام فإذا تأملته وجدت باطنه نفيا وظاهره إيجابا قال امرؤ القيس: على لا حب لا يهتدى بمناره ... إذا سافه العود النباطي جرجرا فقوله لا يهتدى بمناره لم يرد أن له منارا لا يهتدى به ولكن أراد أنه لا منار له على الإطلاق فضلا عن الاهتداء به وكذلك قول زهير ابن أبي سلمى: بأرض خلاء لا يسدّ وصيدها ... علي ومعروفي بها غير منكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 506 فأثبت لها في اللفظ وصيدا وإنما أراد ليس لها وصيد فيسدّ علي، ويتصل بهذا قول الزبير بن عبد المطلب يذكر عميلة بن السباق بن عبد الدار وكان نديما له وصاحبا: صبحت بهم طلقا يراح الى الندى ... إذا ما انتشى لم تحتضره صاقره ضعيفا يحث الكأس قبض بنانه ... كليلا على وجه النديم أظافره فظاهر كلامه أنه يخمش وجه النديم إلا أن أظفاره كليلة وانما أراد في الحقيقة انه لا يظفّر وجه النديم ولا يفعل شيئا من ذلك وكذلك قوله لم تحتضره مفاقره أي ليس له مفاقر فتحتضره وسيأتي ما هو أبلغ من ذلك في حينه وهو قوله تعالى: «لا يسألون الناس إلحافا» أي لا يسألون البتة وفي الآية التي نحن بصددها أراد البارئ تعالى نفي الأحلام الباطلة خاصة كأنهم قالوا: ولا تأويل للأحلام الباطلة فنكون به عالمين ويزداد الحسن اكتمالا بالمواءمة فقد قال الملك لهم أولا «إن كنتم للرؤيا تعبرون» للتدليل على أنهم لم يكونوا في علمه عالمين بها لأنه أتى بكلمة «إن» التي تفيد التشكيك رجاء اعترافهم بالقصور مطابقا لشك الملك الذي أخرجه مخرج الاستفهام عن كونهم عالمين بالرؤيا أولا وقول الفتى أنا أنبئكم بتأويله الى قوله لعلي أرجع الى الناس لعلهم يعلمون دليل على ذلك أيضا فسبحان قائل هذا الكلام. الفوائد: 1- أوقع سبحانه قوله «سمان» صفة للميّز وهو بقرات دون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 507 المميّز وهو سبع والفرق بين الأمرين وكلاهما جائز في قواعد النحو أنك لو أوقعتها صفة لبقرات فقد أردت أن تميز السبع بنوع من البقرات وهي السمان منهن خاصة لا بجنسهن ولو أوقعتها صفة لسبع فقد أردت أن تميز السبع بجنس البقرات لا بنوع خاص منها ثم رجعت فوصفت المميز بالجنس بالسمن. 2- دلت كلمة أخر على أن السنبلات اليابسات كانت سبعا كالخضر دون التصريح بالعدد ذلك لأن الكلام مبني على انصبابه الى هذا العدد في البقرات السمان والعجاف والسنابل الخضر فوجب أن يتناول معنى الأخر السبع ويكون قوله وأخر يابسات بمعنى وسبعا أخر. 3- أخر: صفة معدولة عن وزن آخر ولعدل الصفة موضعان: آ- الاعداد على وزن «فعال ومفعل» كأحاد وموحد وثناء ومثنى وثلاث ومثلث ورباع ومربع وهي معدولة عن واحد واحد واثنين اثنين إلخ فإذا قلت جاء القوم مثنى فالمعنى أنهم جاءوا اثنين اثنين وقد قالوا أن العدل في الأعداد مسموع عن العرب إلى الأربعة غير أن النحويين قاسوا ذلك الى العشرة والحق انه مسموع في الواحد والعشرة وما بينهما قال أبو الطيب: أحاد أم سداس في أحاد ... لييلتنا المنوطة بالتناد ب- أخر في قولك مررت بنساء أخر وقال تعالى «فعدة من أيام أخر» وهي جمع أخرى مؤنث آخر، وآخر بفتح الخاء اسم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 508 تفضيل على وزن أفعل بمعنى مغاير وكان القياس أن يقال مررت بنساء آخر كما يقال مررت بنساء أفضل لأن اسم التفضيل إذا كان مجردا من من أل والاضافة لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع. 4- الاختصاص: هو نصب الاسم بفعل محذوف وجوبا تقديره أخص أو أعني ولا يكون هذا الاسم إلا بعد ضمير لبيان المراد منه نحو: نحن العرب نكرم الضيف، فنحن مبتدأ وجملة نكرم الضيف خبر والعرب منصوب على الاختصاص بفعل محذوف تقديره أخص وجملة الفعل المحذوف معترضة بين المبتدأ وخبره وليس المراد الاخبار عن نحن بالعرب بل المراد أن إكرام الضيف مختص بالعرب ومقصور عليهم ومنه قول أبي عبادة البحتري: نحن أبناء يعرب، أعرب النا ... س لسانا وأنضر الناس عودا وقد يكون الاختصاص بلفظ أيها وأيتها فيستعملان كما يستعملان في النداء فيبنيان على الضمّ ويكونان في محل نصب بأخص محذوفا وجوبا ويكون ما بعدهما اسما محلى بأل لازم الرفع على أنه صفة أو بدل للفظهما ولا يجوز نصبه على أنه تابع لمحلهما كما في الآية الكريمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 509 [المجلد الخامس] [تتمة سورة يوسف] [سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 53] وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) اللغة: (خَطْبُكُنَّ) : شأنكن وهو في الأصل مصدر خطب يخطب وإنما يخطب في الأمور العظام وفي المختار: «الخطب الأمر تقول: ما خطبك قال الأزهري أي ما أمرك وتقول هذا خطب جليل وخطب يسير وجمعه خطوب» وفي القاموس والتاج: الخطب مصدر وهو الشأن يقال: ما خطبك؟ أي ما شأنك وما الذي حملك عليه، وغلب استعماله للأمر المكروه العظيم. (حَصْحَصَ) : أي ثبت واستقر وقال الخليل: حصحص معناه تبين وظهر بعد خفاء وقال بعضهم هو مأخوذ من الحصة والمعنى بانت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 حصة الحق من حصة الباطل كما تتميز حصص الأراضي وغيرها، وقال الراغب: حصحص الحق وذلك بانكشاف ما يغمره وحص وحصحص نحو كفّ وكفكف وحصه قطعه إما بالمباشرة وإما بالحكم والحصة القطعة من الجملة وتستعمل استعمال النصيب وفي الصحاح: هو من حصحص البعير إذا ألقى ثفناته للاناخة قال: فحصحص في صم الصفا ثفناته ... وناء بسلمى نوءة ثم صمما والثفنات هي ما يقع على الأرض من أعضاء البعير إذا استناخ وغلظ كالركبتين وغيرهما. وقيل هو من الحص وهو ذهاب الشعر فتبين ما تحته والحاء الثانية مبدلة من صاد ثالثة وإذا اجتمع الأمثال في مثل هذا أبدلت العرب من الحرف الأوسط حرفا من الجنس السابق ومثله حثحثت ورقرقت أصلهما حثثت ورققت هذا قول الكوفيين وقال البصريون هما لغتان تقاربتا إذ لا يبدل الحرف إلا من مثله أو من مقاربه في المخرج وهذه الحروف متباعدة لا يصح إبدالها. الإعراب: (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) معطوف على محذوف أي لما جاءه الرسول وأخبره بتأويلها فقال الملك، وجملة ائتوني به مقول القول، فلما: الفاء عاطفة ولما حينية ظرفية أو رابطة وجاءه الرسول فعل ومفعول به مقدم وفاعل. (قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) مهّد لتأويل الحلم بسؤال النسوة ليظهر براءة ساحته مما قرف به وسجن من أجله وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني» وارجع فعل أمر وفاعله أنت والى ربك جار ومجرور متعلقان بارجع، فاسأله معطوف على ارجع والهاء مفعول به وما اسم استفهام مبتدأ وبال خبر والجملة في محل نصب مفعول اسأله المعلقة عن العمل بالاستفهام والنسوة مضاف لبال واللاتي موصول صفة وجملة قطعن أيديهن صلة. (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) ان واسمها وبكيدهن متعلقان بعليم وعليم خبر ان. (قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) ما اسم استفهام مبتدأ وخطبكن خبر وإذ ظرف متعلق بخطبكن لأنه في معنى الفعل والمعنى ما فعلتن وما أردتن به في ذلك الوقت وجملة راودتن في محل جر باضافة الظرف إليها وراودتن فعل وفاعل ويوسف مفعول به وعن نفسه متعلقان براودتن. (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) حاش تقدم القول فيها أي تنزيها له عن أن يتصف بالعجز عن خلق بشر عفيف مثل هذا ولله بيان وما نافية وعلمنا فعل وفاعل وعليه متعلقان بعلمنا ومن حرف جر زائد وسوء مجرور لفظا بمن منصوب محلا على انه مفعول علمنا (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) قالت امرأة العزيز فعل وفاعل والآن ظرف زمان متعلق بحصحص والحق فاعل حصحص. (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) أنا مبتدأ وجملة راودته خبر وهي فعل وفاعل ومفعول به وعن نفسه متعلقان براودته والواو حرف عطف وان واسمها واللام المزحلقة ومن الصادقين خبر انه. (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) اختلف المفسرون في قائل هذا الكلام ومن الصعب البت في الأمر أو الترجيح فلنقل القولين قال بعضهم: من كلام يوسف أي ذلك التشمر والتثبت لظهور البراءة ليعلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 العزيز اني لم أخنه، قال الفراء: ولا يبعد وصل كلام انسان بكلام انسان آخر إذا دلت القرينة الصارفة لكل منهما الى ما يليق به والاشارة الى الحادثة الواقعة منه وهي تثبته وتأنيه. وقال آخرون هو من كلام زنيخاء والمعنى ذلك الذي قلت ليعلم يوسف اني لم أخنه ومهما يكن من أمر فذلك مبتدأ، وليعلم اللام للتعليل ويعلم مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور خبر ويجوز أن يراد هذا الكلام لعموم الأحوال فذلك عندئذ خبر لمبتدأ محذوف أي فالأمر ذلك وان وما بعدها في تأويل مصدر سد مسد مفعولي يعلم وجملة لم أخنه خبر اني وبالغيب في محل نصب حال من الفاعل أو المفعول ويجوز أن يكون ظرفا أي بمكان الغيب فيعلق بأخنه وأن الله عطف على أني وجملة لا يهدي خبر ان وكيد الخائنين مفعول به. (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) الواو حالية وما نافية وأبرىء نفسي فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وإن النفس ان واسمها واللام المزحلقة وأمارة بالسوء خبرها وإلا أداة استثناء، وما يجوز أن تكون مصدرية وموضعها النصب والتقدير إن النفس لأمارة بالسوء إلا لمن رحم ربي، وانتصابه على الظرف، ويجوز أن تكون ما بمعنى من والتقدير ان النفس لتأمر بالسوء إلا لمن رحم ربي أو إلا نفسا رحمها ربي فانها لا تأمر بالسوء. وعبارة أبي حيان: «والظاهر ان إلا ما رحم ربي استثناء متصل من قوله لأمارة بالسوء لأنه أراد الجنس بقوله: إن النفس فكأنه قال: إلا النفس التي رحمها ربي فلا تأمر بالسوء فيكون استثناء من الضمير المستكن في أمارة ويجوز أن يكون مستثنى من مفعول أمارة المحذوف إذ التقدير لأمارة بالسوء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 صاحبها إلا الذي رحمه ربي فلا تأمره بالسوء وجوزوا أن يكون مستثنى من ظرف الزمان المفهوم عمومه من ما قبل الاستثناء وما ظرفية إذ التقدير لأمارة بالسوء مدة بقائها إلا وقت رحمة الله العبد وذهابه بها عن اشتهاء المعاصي وجوزوا أن يكون استثناء منقطعا وما مصدرية، وذكر ابن عطية أنه قول الجمهور أي ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الاساءة. (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) ان واسمها وخبراها. البلاغة: رجح البلاغيون أن يكون الكلام «ذلك ليعلم ... » من قول زليخا، لأنه أقرب الى المقام وأليق بمقام الغزل حيث يفدي المحب من يحب بنفسه، ألا ترى انه عند ما استحكمت المحنة وبلغت النهاية فدته بنفسها فقالت: (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ» وتقربت الى قلبه بقولها «ذلك ليعلم اني لم أخنه بالغيب» وما أحسن قول كثير وقد رمق سماء هذا المعنى في التقرب الى المحبوب وخلب قلبه بهذا التلطف: يود بأن يمسي عليلا لعلها ... إذا سمعت شكواه يوما تراسله ويهتز للمعروف في طلب العلا ... لتحمد يوما عند ليلى شمائله ويثبت ذلك أيضا قولها للنسوة اللواتي سمعت بمكرهن: «فذلكن الذي لمتنني فيه» غير مكترثة لما فضحنها به. وقد رمق هذه السماء العالية أيضا جميل بن معمر الخزاعي فقال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا ... سوى أن يقولوا: إنني لك عاشق أجل صدق الواشون أنت حبيبة ... إليّ وإن لم تصف منك الخلائق وقد رواهما صاحب الأغاني لمجنون بني عامر. وقال عمرو بن ضبيعة الرقاشي أحد بني رقاش وهم منسوبون الى أمهم: ألا ليقل من شاء ما شاء إنما ... يلام الفتى فيما استطاع من الأمر قضى الله حب المالكية فاصطبر ... عليه فقد تجري الأمور على قدر وقد رمق أبو العتاهية بيتي جميل فقال: قال لي أحمد ولم يدر ما بي ... أتحب الغداة عتبة حقا فتنفست ثم قلت نعم حبا ... جرى في العروق عرقا فعرقا ولقد أربى عليه بهذا التنفس الذي تتبعه كل نفس لطيفة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 الفوائد: الآن: الآن ظرف من ظروف الزمان معناه الزمن الحاضر وهو مبني على الفتح وفي علة بنائه اشكال فذهب قوم الى أنه بني لأنه وقع في أول أحواله معرفة بالألف واللام وحكم الاسماء أن تكون منكورة شائعة في الجنس ثم يدخل عليها ما يعرفها من إضافة وألف ولام فلما خالفت أخواتها من الاسماء بأن وقعت معرفة بأول أحوالها ولزمت موضعا واحدا بنيت لذلك لأن لزومها بهذا الموضع ألحقها بشبه الحروف وهذا رأي أبي العباس المبرد وشايعه الزمخشري وغيره وقال الفراأ أصله آن من آن الشيء يئين إذا أنى وقته يقال آن لك أن تفعل كذا وأنى لك قال عمرو بن حسان: تمخضت المنون له بيوم ... أنى ولكل حاملة تمام وآن فعل ماض فلما أدخل عليه الألف واللام ترك على ما كان عليه من الفتح كما جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم «نهى عن قيل وقال» وقيل وقال فعلان ماضيان فأدخل الخافض عليهما وتركهما على ما كانا عليه وهناك تعليلات أخرى ضربنا عنها صفحا لأنه لا طائل تحتها. [سورة يوسف (12) : الآيات 54 الى 57] وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 الإعراب: (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) عطف على ما تقدم وقال الملك فعل وفاعل وجملة ائتوني به مقول القول واستخلصه فعل مضارع مجزوم لأنه وقع جوابا للأمر والاستخلاص خلوص الشيء من سوائب الشركة وقال ذلك لما كان يوسف نفيسا وعادة الملوك أن يجعلوا الأشياء النفيسة خالصة لهم دون غيرهم. (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) الفاء عاطفة على محذوف يمكن تقديره بما تتساوق معه مجريات القصة وحوادثها أي فجاء الرسول يوسف وقال أجب الملك فقام مودعا أهل السجن داعيا لهم لأنه كان مثابتهم وموضع ثقتهم ثم لبس ثيابه ودخل على الملك فلما ... إلخ، ولما ظرفية حينية أو رابطة وكلمه فعل وفاعل مستتر ومفعول به وجملة قال جواب لما لا محل لها وان واسمها والظرف متعلق بمحذوف حال ولدينا متعلق بمكين ومكين خبر إن وأمين خبر ثان. (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) اجعلني فعل أمر والنون للوقاية والفاعل مستتر تقديره أنت والياء مفعول به وعلى خزائن الأرض جار ومجرور متعلقان بالمفعول الثاني أي قيما على خزائن الأرض وان واسمها وحفيظ خبرها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 وعليم خبرها الثاني. (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) وكذلك نعت لمصدر محذوف أي ومثل ذلك التمكين الظاهر مكنا ليوسف ومكنا فعل وفاعل واللام متعلقة بمكنا ومفعول مكنا محذوف أي الأمور وفي الأرض حال وجملة يتبوأ جملة حالية من يوسف ومنها جار ومجرور متعلقان بيتبوأ وحيث ظرف ليتبوأ أو مفعول به له وجملة يشاء في محل جر بإضافة الظرف إليها ولا بد من الاشارة إلى تتمة القصة التي اقتضى سياق الكلام حذفها أي فولاه مكان العزيز ثم هلك قطفير عزيز مصر فزوج الملك يوسف امرأة العزيز بعد هلاكه وكانت مفاجأة تجمع بين المتعة والدهشة حين دخل عليها يوسف وقال لها: أليس هذا خيرا مما تريدين قالت أيها الصديق لا تلمني فإني كنت امرأة غريرة حسناء بلهاء وكان صاحبي لا يأتي النساء وكنت بالمثابة التي أنت عليها من الوسامة والجمال فغلبتني نفسي وعصمك الله إلى آخر تلك القصة الرائعة التي استوفت جميع عناصر القصة ثم استولى على مقاليد الأمور ودان له القريب والبعيد. (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) الجملة استئنافية مسوقة إلى التصرف العادل الذي اختص الله تعالى به نفسه ونصيب فعل مضارع مرفوع والفاعل نحن وبرحمتنا متعلقان بنصيب ومن مفعول به وجملة نشاء صلة ولا نضيع عطف على نصيب وأجر المحسنين مفعول به. (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) اللام لام الابتداء وأجر مبتدأ والآخرة مضاف إليه وخير خبر أجر وللذين متعلقان بخير وجملة آمنوا صلة وكانوا كان واسمها وجملة يتقون خبرها. الفوائد: نسج أرباب السير حوادث حول هذه القصة الرائعة من نسج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 للخيال ولفّقوا روايات يبدو عليها البطلان لتفاهتها وركاكتها أو لا حالتها ومنافاتها للعقل فعلى المرء أن يمحص تلك الروايات البادية التلفيق ويشجب الأخذ بها والتوريك على نقلة هذه الزيادات بالبهت وذلك شأن المبطلة من كل طائفة. [سورة يوسف (12) : الآيات 58 الى 62] وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) الإعراب: (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ) الكلام معطوف على كلام سابق يفهم من سياق القصة أي أصابت يعقوب وأولاده ضائقة وهم في فلسطين فقال لهم يعقوب بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فتجهزوا إليه واقصدوه لتشتروا ما نحن بحاجة إليه من الطعام فخرجوا حتى قدموا مصر ... إلى آخر القصة. وجاء إخوة يوسف فعل وفاعل ولم ينصرف يوسف للعلمية والعجمة، فدخلوا عليه عطف على جاء أخوة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 يوسف. (فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) الفاء عاطفة وعرفهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به والواو للحال وهم مبتدأ وله متعلقان بمنكرون ومنكرون خبر أي لم يعرفوه لطول العهد. (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) الواو عاطفة والكلام معطوف على مقدر يفهم من سياق الحوار أي لما وصلوا إليه قال لهم لعلكم جئتم عيونا تنظرون عورة بلادي قالوا معاذ الله نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار فاستوضح منهم عن أمرهم فقال نحن أخوة بنو أب واحد وهو شيخ صديق نبي اسمه يعقوب وكنا اثني عشر فهلك منا واحد قال أنتم الآن عشرة فأين الأخ الحادي عشر قالوا هو عند أبيه يتسلى به من الهالك لأنه شقيقه قال فأتوني به أي بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين واتركوا أحدكم عندي رهينة حتى تأتوني به ... الى آخره، ولما حينية أو رابطة وجهزهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وبجهازهم متعلقان بجهزهم وقال جملة لا محل لها لأنها جواب لما وجملة ائتوني مقول القول وهو فعل أمر وفاعل ومفعول به وبأخ جار ومجرور متعلقان به ولكم صفة لأخ ومن أبيكم صفة ثانية. (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) الهمزة للاستفهام ولا نافية وترون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي ترون وجملة أو في الكيل خبر ان والواو عاطفة وأنا مبتدأ وخير المنزلين خبر أي وأنا للضيف خير المضيفين. (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) الفاء عاطفة وان شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتأتوني مجزوم بلم وهو فعل الشرط والفاء رابطة ولا نافية للجنس وكيل اسمها ولكم خبرها وعندي طرف متعلق بمحذوف حال والواو عاطفة ولا ناهية وتقربون فعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون وهذه النون نون الوقاية وحذفت ياء المتكلم تخفيفا ويحتمل أن تكون لا نافية وتقربون مجزوم نسقا على محل قوله فلا كيل لكم وهو الجزم لأنه جواب الشرط كأنه قيل فإن لم تأتوني تحرموا ولا تقربوا. (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) جملة سنراود مقول القول وعنه متعلقان بنراود وقد تقدمت معاني المراودة قريبا فجدد به عهدا وأباه مفعول به وإنا من عطف الجمل وان واسمها واللام المزحلقة وفاعلون خبر إنا. (وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) لفتيانه متعلقان بقال وجملة اجعلوا مقول القول وبضاعتهم مفعول به وفي رحالهم في موضع المفعول الثاني وقد اختلف في معنى جعل البضاعة في الرحال وأقرب الأقوال انه أراد حملهم على الرجوع اليه أن يعرفوها إذا رجعوا الى أهلهم فتحملهم على الرجوع وهو يعلم أن ديانتهم لا تحل لهم إمساكها فيرجعون لأجلها. (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لعل واسمها وجملة يعرفونها خبر لعل وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة انقلبوا مضافة للظرف والجواب محذوف أي فلعلهم يرجعون والى أهلهم جار ومجرور متعلقان بانقلبوا ولعل واسمها وجملة يرجعون خبرها. [سورة يوسف (12) : الآيات 63 الى 67] فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 الإعراب: (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) الفاء حرف عطف ولما حينية أو رابطة ورجعوا فعل وفاعل وإلى أبيهم متعلقان برجعوا وجملة قالوا لا محل لها ويا حرف نداء وأبانا منادى مضاف ومنع فعل ماض مبني للمجهول ومنا متعلقان بمنع والكيل نائب فاعل وهم يشيرون إلى قول يوسف فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي. (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الفاء الفصيحة وأرسل فعل أمر ومعنا متعلقان بأرسل وأخانا مفعول به ونكتل مضارع مجزوم في جواب الطلب، وإنا: إن واسمها وله متعلقان بحافظون واللام المزحلقة وحافظون خبر إن. (قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كما تقدم نظائر ذلك في مواضع كثيرة. هل حرف استفهام وآمنكم فعل مضارع وفاعل مستتر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 ومفعول وعليه متعلقان بآمنكم وإلا أداة حصر، كما أمنتكم الكاف نعت لمصدر محذوف وما مصدرية يريد: انكم قلتم في يوسف «وإنا له لحافظون» كما تقولونه في أخيه بنيامين ثم خنتم بضمانكم فكيف آمنكم. وعلى أخيه جار ومجرور متعلقان بأمنتكم ومن قبل حال أي من قبل هذا الزمان. (فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) الفاء الفصيحة والله مبتدأ وخير خبر وحافظا تمييز أو حال وهو مبتدأ وأرحم الراحمين خبر والمعنى فتوكل على الله ودفع إليهم بنيامين. (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ) لما حينية أو رابطة وفتحوا متاعهم فعل وفاعل ومفعول به ووجدوا بضاعتهم فعل وفاعل ومفعول به وجملة ردت إليهم في محل نصب مفعول وجدوا الثاني. (قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي) قالوا فعل وفاعل ويا أبانا منادى مضاف وما اسم استفهام في محل نصب مفعول مقدم لنبغي أي أي شيء نبغي ونطلب من الكرامة هذه أموالنا ردت إلينا، وقال الزجاج: يحتمل أن تكون نافية أي ما بقي لنا ما نطلب ويحتمل أيضا أن تكون نبغي من البغي أي ما افترينا فكذبنا على هذا الملك. (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) هذه مبتدأ وبضاعتنا خبر وجملة ردت إلينا حالية ويجوز إعراب بضاعتنا بدل من هذه وجملة ردت إلينا خبر والجملة مستأنفة مسوقة لإيضاح قولهم ما نبغي. (وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) الواو عاطفة على محذوف أي نستظهر بها ونستعين ونمير أهلنا، وأهلنا مفعول به ونحفظ أخانا جملة منسوقة على ما قبلها ونزداد جملة منسوقة أيضا وكيل بعير مفعول به لنزداد. (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) ذلك مبتدأ وكيل خبر ويسير صفة أي ان كيل البعير الذي نزداده هين على الملك لأنه قد أحسن إلينا وإكرامنا أكثر من ذلك. (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ) لن حرف نفي ونصب واستقبال وأرسله مضارع منصوب بلن ومعكم ظرف متعلق بأرسله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 وحتى حرف غاية وجر وتؤتوني فعل مضارع منصوب بأن مضمرة والنون للوقاية وياء المتكلم مفعول به أول وموثقا مفعول به ثان ومن الله صفة وجعل الحلف بالله موثقا لأن الحلف به مما تؤكد به العهود. (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) اللام واقعة في جواب القسم المدلول عليه بقوله موثقا وتأتنني مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والياء مفعول به والنون المشددة للتوكيد والنون الثالثة نون الوقاية وقد تقدمت لهذا الإعراب نظائر وإلا أداة استثناء وأن وما في حيزها استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لتأتنني على كل حال إلا حال الإحاطة بكم فهو حال أو استثناء مفرغ من أعم العلل أي لا تمتنعون من الإتيان لعلة من العلل إلا علة الإحاطة بكم، وتقول العرب أحيط بفلان إذا هلك أو أشفى على الهلاك. وعبارة أبي حيان: «وهذا الاستثناء من المفعول من أجله مراعى في قوله لتأتنني وإن كان مثبتا معنى النفي لأن المعنى لا تستنعون من الإتيان به لشيء من الأشياء إلا لأن يحاط بكم ومثاله من المثبت في اللفظ ومعناه النفي قولهم أنشدك الله إلا فعلت أي ما أنشدك إلا الفعل ولا يجوز أن يكون مستثنى من الأحوال مقدرا بالمصدر الواقع حالا وإن كان صريح المصدر قد يقع حالا فيكون التقدير لتأتنني به على كل حال إلا إحاطة بكم أي محاطا بكم لأنهم نصّوا على أن «أن» الناصبة للفعل لا تقع حالا وإن كانت مقدرة بالمصدر الذي قد يقع بنفسه حالا فإن جعلت أن والفعل واقعة موقع المصدر الواقع ظرف زمان ويكون التقدير لتأتنني به في كل وقت إلا إحاطة بكم أي وقت إحاطة، قلت منع ذلك ابن الانباري فقال ما معناه: يجوز خروجنا صياح الديك أي وقت صياح الديك ولا يجوز خروجنا أن يصيح الديك ولا ما يصيح الديك وإن كانت أن وما مصدريتين وإنما يقع ظرفا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 المصدر المصرح بلفظه وأجاز ابن جني أن تقع ظرفا كما يقع صريح المصدر فأجاز في قول تأبط شرا: وقالوا لها لا تنكحيه فإنه ... لأول نصل أن يلاقي مجمعا وقول أبي ذؤيب الهذلي: وتالله ما إن شهلة أمّ واحد ... بأوجد مني أن يهان صغيرها أن يكون أن يلاقى تقديره وقت لقائه الجمع وان يكون ان يهان تقديره وقت إهانة صغيرها فعلى ما أجازه ابن جني يجوز أن تخرج الآية وتبقى لتأتنني به على ظاهره من الإثبات ولا يقدر فيه معنى النفي. (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ: اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) الفاء عاطفة ولما تقدمت وآتوه فعل وفاعل ومفعول به أول وموثقهم مفعول به ثان والله مبتدأ وعلى ما نقول متعلقان بوكيل ووكيل خبر الله. (وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ) يا حرف نداء وبني منادى مضاف وعلامة نصبه الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم ولا ناهية وتدخلوا فعل مضارع مجزوم بلا ومن باب جار ومجرور متعلقان بتدخلوا وواحد صفة خشي عليهم أن يلفتوا الأنظار بدخولهم جملة واحدة فيعانوا أو يصيبهم سوء. (وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) وادخلوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ومن أبواب متعلقان بادخلوا ومتفرقة صفة وما أغني: ما نافية وأغني فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا وعنكم متعلقان بأغنى ومن الله حال ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) إن نافية والحكم مبتدأ وإلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 أداة حصر ولله خبر وعليه جار ومجرور متعلقان بتوكلت وعليه عطف جملة على جملة وفليتوكل اللام لام الأمر ويتوكل فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والمتوكلون فاعل. [سورة يوسف (12) : الآيات 68 الى 73] وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) اللغة: (الحاجة) الأرب واللبانة وهي ترجع في اشتقاقها الى فكرة واحدة هي الاقامة على الشيء والتشبث به ذلك أن صاحب الحاجة كلف بها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 ملازم للفكر فيها مقيم على تنجزها والأصل في (الْحاجِّ) أنه شجر له شوك وما كانت هذه سبيله فهو متشبث بالأشياء كما يقول ابن جني في الخصائص، فأي شيء مر عليه اعتقله وتشبث به فسميت الحاجة به تشبيها بالشجرة ذات الشوك أي أنا مقيم عليها متمسّك بقضائها كهذه الشجرة في اجتذابها ما مرّ بها وقرب منها والحوجاء منها ومنها تصرف الفعل احتاج يحتاج احتياجا وأحوج يحوج وحاج يحوج فهو حائج. والأرب من الأربة وهي العقدة وعقد مؤرّب: مشدد والحاجة معقودة بنفس الإنسان متردّدة على فكره، واللبانة من قولهم تلبّن بالمكان إذا أقام به ولزمه وهذا هو المعنى عينه. وهذا بحث جليل يؤدي إذا تعورف الى معرفة معاني الكلمات وتصور مدلولاتها وقد ذكر الزجاج في أماليه عن ابن الاعرابي ان العشقة شجرة يقال لها اللبلابة تخضر ثم تدق ثم تصفر ومن ذلك اشتقاق العاشق. وفي اللغة: عشق به كفرح لصق به والعشق عشق المحب بمحبوبه أو هو افراط الحب وشدة التعلق به فأصل المعنى المادي ظاهر انقلب الى معنوي عريق الصلة بينه وبين المشتقات. وأورد الزجاج أيضا أن أصل المغازلة من الإدارة والفتل لأنه إدارة عن أمر ومنه سمي المغزل لاستدارته وسرعته في دورانه وسمي الغزال غزالا لسرعته وسميت الشمس غزالة لاستدارتها وسرعتها وأورد التعليل في الإدارة عن الأمر بقوله «ويقال غازل الكلب الظبي إذا عدا في أثره فلحقه وظفر به ثم عدل عنه، ومنه مغازلة النساء قال: كأنها يلاعبها الرجل فتطمعه في نفسها فإذا رام تقبيلها انصرفت» ثم ان الغزالة قد تكون مؤنث الغزال أيضا، وقد ورد في كلام العرب نظما ونثرا قديما وحديثا وأنكره الصفدي في شرح لامية العجم وقال: لم يسمع إلا بمعنى الشمس وقد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 ردّه الدماميني وأورد له شواهد كثيرة ولولا صحته لم تقع التورية في مثل قول الشاعر في العقاب: ترى الطير والوحش في كفها ... ومنقارها ذا عظام مزاله فلو أمكن الشمس من خوفها ... إذا طلعت ما تسمت غزاله والموغل في تتبع العلاقات القائمة بين المفردات يقع منها على مذهب طريف وسر عميق في نشأة اللغة وتشقق الكلام فيها، وفي هذا الكتاب يبدو لك العجب العجيب من هذه الأسرار. (السِّقايَةَ) : مشربة يسقى بها وهي الصواع الآتي ذكره وكان يشرب فيه الملك فيسمى سقاية باعتبار أول حالة ثم صاعا باعتبار آخر أمره لأن الصاع آلة الكيل وقيل كانت إناء مستطيلا يشبه المكوك وقيل هي المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه تشرب به الأعاجم وقيل كانت من فضة مموهة بالذهب وقيل كانت من ذهب وقيل كانت مرصعة بالجواهر. (رَحْلِ) الرحل بفتح الراء المشدّدة ما يجعل على ظهر البعير كالسرج والمراد به هنا مكان ركوبه. (الْعِيرُ) بكسر العين: الإبل التي يحمل عليها لأنها تعير أي تذهب وتجيء، وقيل: قافلة الحمير ثم كثر حتى قيل لكل قافلة عير كأنها جمع عير والمراد أصحاب العير كما سيأتي في باب البلاغة. (صُواعَ) : الصواع بضم الصاد المشددة والصّاع لغتان معنا هما واحد وهو المكيال وقد تقدم انه هو السقاية وانما اتخذ هذا الإناء مكيالا لعزة ما يكال به في ذلك الوقت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 (السَّارِقُ) : هو من يسرق المتاع من الأحراز وللعرب في لغتهم تفصيل حول السارقين فإذا كان يقطع الطريق على القوافل فهو لص وفرضوب فإذا كان يسرق الإبل فهو خارب أو الغنم فهو أحمص والحميصة الشاة المسروقة فإذا كان يسرق الدراهم بين أصابعه فهو قفاف فإذا كان يشق عنها الجيوب فهو طرّار فاذا كان تخصص بالتلصص والخبث والفسق فهو طمل فإذا كان يسرق ويزني ويؤذي الناس فهو داعر فاذا كان خبيثا منكرا فهو عفر وعفرية نفرية فاذا كان أخبث اللصوص فهو عمروط فاذا كان يدل اللصوص ويندس لهم فهو شص فإذا كان يأكل ويشرب معهم ويحفظ متاعهم ولا يسرق معهم فهو لفيف. هذا واللص بتثليت اللام وفرق بعض اللغويين بينها فقال: إغلاق باب ستر فعل لصّ ... وسارق بالحركات لصّ جمع الألصّ من رجال لصّ ... منضم أضراس فكن ذا خبر الإعراب: (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) لما ظرفية حينية أو رابطة ومن حرف جر وحيث ظرف مبني على الضم في محل جر بمن والجار والمجرور متعلقان بدخلوا والمعنى متفرقين وجملة أمرهم أبوهم مضافة للظرف. (ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) الجملة جواب لما وقيل الجواب هو آوى اليه أخاه قال أبو البقاء وهو جواب لما الأولى والثانية، وما نافية وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير التفرق المدلول عليه بالكلام السابق وعنهم متعلقان بيغني ومن الله حال ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به. (إِلَّا حاجَةً فِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) استثناء منقطع على معنى ولكن حاجة في نفس يعقوب قضاها وهي حدبه عليهم وفي نفس صفة ويعقوب مضاف اليه وجملة قضاها صفة لحاجة. (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الواو للحال وان واسمها واللام المزحلقة وذو علم خبر إن وجملة علمناه صلة ولكن الواو حالية أيضا ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبر. (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) تقدم اعرابها وأخاه مفعول آوى والجملة جواب لما الاولى والثانية. (قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) إن واسمها وأنا مبتدأ وأخوك خبر والجملة خبر ان والجملة مستأنفة وهكذا كل ما اقتضى جوابا وذكر جوابه ثم جاءت بعده قال فهي مستأنفة، وإلقاء الفصيحة ولا ناهية وتبتئس مضارع مجزوم بلا وبما متعلقان بتبتئس وجملة كانوا صلة وجملة يعملون خبر كانوا. (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) الفاء عاطفة للدلالة على رغبتهم الحثيثة بالسفر ولما ظرفية أو رابطة وجهزهم فعل وفاعل ومفعول به وبجهازهم جار ومجرور متعلقان بجهزهم وجملة جعل السقاية في رحل أخيه لا محل لها وفي رحل متعلقان بجعل. (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) ثم حرف عطف وتراخ وأذن مؤذن فعل وفاعل أي نادى مناد، وعطف بثم للاشارة إلى إمهال يوسف إياهم حتى انطلقوا وأيتها منادى محذوف منه حرف النداء وهو نكرة مقصودة مبني على الضم والهاء للتنبيه والعير بدل من أيتها وان واسمها واللام المزحلقة وسارقون خبرها. (قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ) الواو للحال بتقدير قد وعليهم متعلقان بأقبلوا وماذا اسم استفهام مفعول مقدم لتفقدون أو ما اسم استفهام وذا اسم موصول خبر وجملة تفقدون صلة وقد تقدم القول في ماذا. (قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) جملة نفقد صواع الملك مقول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 القول. (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) الواو عاطفة ولمن خبر مقدم وجملة جاء به صلة وحمل بعير مبتدأ مؤخر والواو عاطفة وأنا مبتدأ وبه متعلقان بزعيم وزعيم أي كفيل خبر. (قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ) التاء حرف جر وقسم ولله لفظ الجلالة مجرورة بتاء القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره نقسم واللام واقعة في جواب القسم أو هو تأكيد للقسم الاول وقد حرف تحقيق وعلمتم فعل وفاعل وما نافية وجئنا فعل وفاعل ولنفسد اللام للتعليل والفاعل مستتر تقديره نحن وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بنفسد، وما كنا: ما نافية وكان واسمها وسارقين حبرها. وأقسموا بالتاء من حروف القسم لما فيها من معنى التعجب غالبا كأنهم عجبوا من رميهم بهذا الأمر ولا تدخل التاء في القسم إلا على لفظ الله من بين أسمائه تعالى، لا تقول تالرحمن ولا تالرحيم ولكن حكي عن العرب دخولها على الرب وعلى الرحمن وعلى حياتك قالوا ترب الكعبة وتالرحمن وتحياتك. البلاغة: في قوله تعالى «أيتها العير انكم لسارقون» مجاز مرسل علاقته المجاورة والمراد أصحاب العير كما ورد في الحديث «يا خيل الله اركبي» وفي العير سؤال جرى في مجلس سيف الدولة بن حمدان وكان السائل ابن خالوية والمسئول المتنبي قال ابن خالوية: والبعير أيضا الحمار وهو صرف نادر ألقيته على المتنبي بين يدي سيف الدولة وكانت فيه خنزوانة وعنجهية فاضطرب فقلت المراد بالبعير في قوله تعالى «ولمن جاء به حمل بعير» الحمار وذلك أن يعقوب وأخوه يوسف عليهم السلام كانوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 بأرض كنعان وليس هناك إبل وانما كانوا يمتارون على الحمير وكذلك ذكره مقاتل بن سليمان في تفسيره. [سورة يوسف (12) : الآيات 74 الى 80] قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 اللغة: (كِدْنا) : الكيد في الأصل الحيلة والخديعة وذلك في حق الله تعالى محال وقد تقدم أن أمثال هذه الألفاظ الموهمة في حق الله تعالى تحمل على نهايات الأغراض لا على بداياتها فلكيد السعي في أمر الحيلة والخديعة ونهايته إيقاع الإنسان من حيث لا يشعر في أمر مكروه ولا سبيل له الى دفعه فالكيد بالنسبة لله تعالى محمول على هذا المعنى، وقال ابن الاعراب ي: الكيد التدبير بالباطل وبالحق فعلى هذا يكون المعنى كذلك دبرنا ليوسف. وعبارة ابن الخشاب: «ولكاد: استعمال آخر تكون فيه بمعنى أراد وعلى ذلك أنشد أبو الحسن «الأخفش» وغيره: كادت وكدت وتلك خير إرادة ... لو عاد من عصر الشبيبة ما مضى وحسلوا عليه قوله سبحانه: «كذلك كدنا ليوسف» أي أردنا. (اسْتَيْأَسُوا) : يئسوا وزيادة السين والتاء للمبالغة نحو عجب واستعجب وسخر واستسخر. (خَلَصُوا) : اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم أحد. (نَجِيًّا) : النجي فعيل بمعنى مفاعل كالعشير والخليط بمعنى المعاشر والمخالط كقوله تعالى: «وقربناه نجيا» أي مناجيا وهذا الاستعمال يفرد مطلقا يقال: هم خليطك وعشيرك أي مخالطوك ومعاشروك، وإما لأنه على صفة فعيل بمنزلة صديق وبابه فوحد لأنه بزنة المصادر كالصهيل والوحيد والذميل وإما لأنه مصدر بمعنى التناجي كما قيل النجوى بمعناه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 الإعراب: (قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) الفاء الفصيحة وما اسم استفهام مبتدأ وجزاؤه خبر والضمير للصواع أي فما جزاء سرقته أو الضمير للسارق وإن شرطية وكنتم فعل الشرط وكاذبين خبر كان وجواب إن محذوف دل عليه ما قبله أي فما جزاء سرقة الصواع أو السارق. (قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) جزاؤه مبتدأ ومن شرطية أو موصولة مبتدأ ثان ووجد صلة أو فعل الشرط وفي رحله متعلقان بوجد والفاء رابطة على الوجهين وهو مبتدأ وجزاؤه خبر وجملة فهو جزاؤه خبر من، ومن وما في حيزها خبر المبتدأ الأول والضمير على هذا الإعراب يعود على السارق ويجوز أن يكون جزاؤه مبتدأ والهاء تعود على المسروق ومن وجد في رحله خبره ومن بمعنى الذي والتقدير وجزاء الصواع الذي وجد في رحله، ويجوز أن يكون جزاؤه خبر مبتدأ محذوف أي المسئول عنه جزاؤه أي استرقاقه جزاؤه وكانت تلك شريعة آل يعقوب. (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) كذلك نعت لمصدر محذوف أي نجزي الظالمين جزاء كذلك الجزاء والظالمين مفعول به أي فهو كذلك في شريعتنا المقررة بيننا. (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) الفاء عاطفة وبدأ فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وبأوعيتهم جار ومجرور متعلقان ببدأ وقبل ظرف زمان متعلق بمحذوف حال ووعاء أخيه مضافان وثم حرف عطف واستخرجها فعل وفاعل مستتر ومفعول به والهاء تعود على الصواع لأن فيه التذكير والتأنيث أو على السقاية لأن الصواع يحمل معناها ومن وعاء أخيه متعلقان باستخرجها. (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) أي مثل ذلك الكيد كدنا ليوسف فالكاف نعت لمصدر محذوف كما تقدم وليوسف متعلقان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 بكدنا. (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) ما نافية وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر واللام للجحود ويأخذ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود واللام ومجرورها في موضع الخبر وأخاه مفعول به وفي دين الملك حال. (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) الاستثناء منقطع إذ الأخذ بدين الملك لا يشمل المراد بقوله إلا أن يشاء الله لأنه أخذه بشريعة يعقوب أو الاستثناء متصل من أعم الأحوال أي إلا حال مشيئته واذنه بذلك وإرادته له وجملة ما كان ليأخذ أخاه إلخ تعليل لما صنعه الله من الكيد ليوسف أو تفسير له وعلى كل لا محل لها. (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) درجات منصوب على الظرفية ومن مفعول به وجملة نشاء صلة وفوق الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وكل ذي علم مضافان وعليم مبتدأ مؤخر. (قالُوا: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) إن شرطية ويسرق فعل الشرط والفاء رابطة لاقتران الجواب بقد وسرق أخ فعل وفاعل والجملة في محل جزم جواب الشرط وله صفة ومن قبل حال، قالوا ذلك متنصلين من التهمة التي ثبتت عليهم مبرئين لساحتهم يعنون ان هذه الفعلة ليست ببعيدة من بنيامين فإن أخاه الذي هلك كان سارقا أيضا ونحن لسنا على طريقتهما لأنهما من أم أخرى ويروي المؤرخون أن يوسف كان قد سرق لأبي أمه صنما مما استفاض ذكره في المطولات والأولى ما حكاه الزجاج أنه قال: «كذبوا عليه فيما نسبوه اليه» ونقول ما هذه الكذبة بأول كذباتهم. (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) الفاء عاطفة وأسرها فعل ومفعول به والهاء تعود للكلمة الآتية وهي أنتم شر مكانا فهو إضمار على شريطة التفسير ويوسف فاعل وفي نفسه متعلقان بأسرها ولم يبدها عطف على أسرها ولهم متعلقان بيبدها. (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) أنتم مبتدأ وشر خبر ومكانا تمييز وجملة أنتم شر مكانا بدل من الهاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 ويجوز أن يعود الضمير أي الهاء على الحجة فيكون المعنى فأسر يوسف في نفسه الحجة عليهم في ادعائهم عليه السرقة ولم يبدها لهم وقال أنتم شر مكانا، والله مبتدأ وأعلم خبره وبما متعلقان بأعلم وجملة تصفون صلة. (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) يا حرف نداء وأيها منادى نكرة مقصودة والهاء للتنبيه والعزيز بدل وان حرف مشبه بالفعل وله خبرها المقدم وشيخا اسمها المؤخر وكبيرا صفة. (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) الفاء الفصيحة وخذ فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت وأحدنا مفعول به ومكانه ظرف مكان متعلق بخذ وان واسمها وجملة نراك خبرها ومن المحسنين متعلق بنراك على أنه مفعول ثان. (قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) معاذ الله نصب على المصدر بفعل محذوف أي نعوذ بالله معاذا وأن نأخذ أن وما في حيزه منصوب بنزع الخافض متعلق بنعوذ وإلا أداة حصر ومن مفعول نأخذ وجملة وجدنا صلة ومتاعنا مفعول وجدنا وعنده متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني لوجدنا أي كائنا عنده. (إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) ان واسمها واذن جواب وجزاء واللام المزحلقة وظالمون خبر إنا. (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) لما ظرفية حينية أو رابطة واستيئسوا فعل وفاعل ومنه متعلقان باستيأسوا وخلصوا فعل وفاعل ونجيا حال من فاعل خلصوا أي اعتزلوا هذه الحالة متناجين وإنما أفردت الحال وصاحبها جمع لأن النجي يفرد مطلقا كما تقدم في باب اللغة. (قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتعلموا مضارع مجزوم بلم وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تعلموا وان واسمها وجملة قد أخذ خبر وعليكم متعلقان بأخذ وموثقا مفعول به ومن الله صفة لموثقا. (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) في اعراب هذا الكلام وجوه أظهرها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 أن من قبل خبر مقدم وبني قبل على الضم لانقطاعه عن الاضافة لفظا لا معنى أي ومن قبل هذا، وما مصدرية وهي مع مدخولها مبتدأ مؤخر ومعناه ووقع من قبل هذا تفريطكم وفي يوسف متعلقان بفرطتم. ويجوز أن تكون ما موصولة بمعنى ومن قبل هذا الذي فرطتموه في يوسف من الجناية العظيمة ومحل الموصول الرفع على الابتداء أيضا ويجوز أن تكون ما صلة أي زائدة لتحسين اللفظ فمن متعلقة بالفعل وهو فرطتم وقد رجح أبو حيان هذا الوجه. قال ابن هشام: «وقوله تعالى: ومن قبل ما فرطتم في يوسف ما إما زائدة فمن متعلقة بفرطتم وإما مصدرية فقيل هي وصلتها رفع بالابتداء وخبره من قبل وردّ بأن الغايات لا تقع أخبارا ولا صلات ولا صفات ولا أحوالا نصّ على ذلك سيبويه وجماعة من المحققين ويشكل عليهم: كيف كان عاقبة الذين من قبل وقيل نصب عطفا على ان وصلتها أي ألم تعلموا أخذ أبيكم الموثق وتفريطكم ويلزم على هذا الإعراب الفصل بين العاطف والمعطوف بالظرف وهو ممتع» . هذا ما قاله ابن هشام وهو جميل غير أنّا لا نسلم به بأن الفصل ممنوع كما ذكر بل هو جائز كما ذكره ابن مالك وتمسك بعضهم لجوازه بقوله تعالى: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل» وأجاب ابن هشام عن هذا الاعتراض في حواشي التسهيل بأن التقدير ويأمركم إذا حكمتم فهو عطف جمل. والواو في قوله ومن قبل للحال على كل حال فالمعنى: ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله والحال انكم فرطتم في يوسف من قبل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) الفاء عاطفة على مقدر أي سأبقى في مصر ولن أبرحها، ولن حرف نفي ونصب واستقبال وأبرح فعل مضارع منصوب بلن ومعناه أفارق فهي تامة وفاعل أبرح مستتر تقديره أنا والأرض مفعول به وحتى يأذن حرف غاية وجر ويأذن فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ولي متعلقان بيأذن وأبي فاعل. (أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) أو حرف عطف ويحكم معطوف على يأذن ويجوز أن ينصب بأن مضمرة في جواب النفي والله فاعل ولي متعلقان بيحكم وهو مبتدأ وخير الحاكمين خبر. [سورة يوسف (12) : الآيات 81 الى 86] ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 اللغة: (كَظِيمٌ) : أي مكظوم ممتلىء من الحزن ممسك عليه لا يبثّه قال قتادة: هو الذي يردد حزنه في جوفه ولم يقل إلا خيرا وفي المصباح: «كظمت الغيظ كظما من باب ضرب وكظوما أمسكت على ما في نفسك منه على صفح أو غيظ» وقال الزمخشري: «فعيل بمعنى مفعول بدليل قوله: وهو مكظوم من كظم السقاء إذا شده على ملئه والكظم بفتح الظاء مخرج النفس يقال: أخذ بأكظامه» وأصل هذه المادة كما تقول معاجم اللغة من كظم البعير جرّته از دردها وكفّ عن الاجترار وباتت الإبل كظوما وكواظم وحفروا كظامة وكظيمة وكظائم وفي الحديث: «أتى كظامة قوم فتوضأ» وهي الفقير يحفر من بئر الى بئر والسقاية والحوض قال طرفة: يشربن من فضلة العقار كما استوجر ماء الكظيمة الشرب جمع شروب ومن المجاز كظم الغيظ وعلى الغيظ وهو كاظم وكظمه الغيظ والغمّ: أخذ بنفسه فهو كظيم ومكظوم. (حَرَضاً) : في المصباح: «حرض حرضا من باب تعب أشرف على الهلاك فهو حرض» ويستوي فيه الواحد وغيره أي المثنى والمجموع والمذكر والمؤنث. الإعراب: (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) ارجعوا فعل أمر وفاعل والى أبيكم متعلقان بارجعوا، فقولوا عطف على ارجعوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 ويا أبانا منادى مضاف وان واسمها وجملة سرق خبرها. (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) الواو حرف عطف وما نافية وشهدنا فعل وفاعل وإلا أداة حصر وبما متعلقان بشهدنا وجملة علمنا صلة وما عطف أيضا وما نافية وكان واسمها وللغيب متعلقان بحافظين وحافظين خبر كنا. (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) الواو عاطفة واسأل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والقرية مفعول به وسؤال القرية يعني سؤال أهلها كما يأتي في باب البلاغة والتي صفة وجملة كنا صلة وكان واسمها وفيها خبرها. (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ) والعير عطف على القرية والتي صفة وجملة أقبلنا صلة وفيها متعلقان بأقبلنا وإنا عطف وان واسمها واللام المزحلقة وصادقون خبرها. (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) قال مرتب على محذوف أي فرجعوا فقال، وبل حرف إضراب وسولت فعل ماض والتاء للتأنيث ولكم جار ومجرور متعلقان بسولت وأنفسكم فاعل وأمرا مفعول به. (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) الفاء عاطفة وصبر خبر لمبتدأ محذوف أي صبري وجميل نعت وعسى من أفعال الرجاء والله اسمها وان وما في حيزها خبرها وبهم متعلقان بيأتيني وجمع لأن المفقودين صاروا ثلاثة وهم يوسف وبنيامين وكبير الأخوة الذي آثر الاقامة بمصر وجميعا حال وان واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والعليم الحكيم خبر لأن أو للضمير والجملة خبر إن. (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) وتولى الواو عاطفة وتولى فعل ماض أي أعرض عنهم وعنهم متعلقان بتولي وقال عطف على تولى ويا حرف نداء وأسفا منادى مضاف لياء المتكلم المنقلبة ألفا والأصل يا أسفي وقد تقدم بحث المنادى المضاف لياء المتكلم وعلى يوسف متعلقان بالأسف وخص يوسف بالذكر للدلالة على تمادي الأسف عليه وان الرزء به كان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 ولا يزال غضا طريا وان رزأه بأخويه جدد حزنه عليه لأنه قاعدة أحزانه ومصائبه على حد قول ابن الرومي في رثاء ابنه الأوسط: أرى أخويك الباقيين كليهما ... يكونان للأحزان أورى من الزند ولعل ابن الرومي رمق هذه البلاغة العالية. (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) وابيضت عيناه فعل وفاعل وإذا كثر الاستعبار محقت العبرة سواد العين وقلبته الى بياض ومن الحزن جار ومجرور متعلقان بابيضت، فهو الفاء عاطفة وهو مبتدأ وكظيم خبره. (قالُوا: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) قالوا فعل وفاعل والتاء تاء القسم ولفظ الجلالة مجرور بتاء القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم وتفتأ أي لا تفتأ من أخوات كان واسمها مستتر تقديره أنت وجملة تذكر خبرها ويوسف مفعول به وحتى حرف غاية وجر وتكون منصوب بأن مضمرة بعد حتى وحرضا خبر تكون واسم تكون مستتر تقديره أنت وأو حرف عطف وتكون فعل مضارع ناقص واسمها أنت ومن الهالكين خبرها. الَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) إنما كافة ومكفوفة وأشكو بثي فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، وحزني عطف على بثي والى الله متعلقان بأشكو، والبث: ما يرد على الإنسان من الأشياء التي يعظم حزن صاحبها بها حتى لا يقدر على اخفائها كذا قال أهل اللغة وهو مأخوذ من بثثته أي فرقته فسميت المصيبة بثا مجازا قال ذو الرمة: وقفت على ربع لميّة ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه وأسقيه حتى كاد مما أبثه ... تكمني أحجاره وملاعبه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 َ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وأعلم عطف على أشكو، ومن الله متعلقان بأعلم، أي أعلم من صنعه ورحمته وحسن ظني به، وما مفعول به وجملة لا تعلمون صلة. البلاغة: 1- في قوله تعالى «واسأل القرية» مجاز مرسل إذ المراد أهلها والعلاقة المحلية وقد تقدمت نظائر كثيرة لهذا المجاز وأراد بالقرية مصر أي أرسل الى أهلها فاسألهم عن تفاصيل هذه القصة وكذلك قوله «والعير التي أقبلنا فيها» أي أصحاب العير. 2- في قوله «تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا» فن أصيل في البلاغة وهو ما يسمّى «ائتلاف اللفظ مع المعنى» وهو نسمة الحياة في الفن، وعموده الذي يقوم عليه ويتلخص بأن تكون ألفاظ المعنى المراد متلائمة بعضها مع بعض ليس فيها لفظة نابية أو قلقة عن أخواتها بحيث يمكن استبدالها ولا بد من ملاحظة أشياء ثلاثة في هذا الصدد وهي: آ- اختيار الألفاظ المفردة وحكم ذلك حكم اللآلئ المبدّدة فانها تتخير وتنتقى قبل النظم. ب- نظم كل كلمة مع أختها المشكلة لها. ج- الغرض المقصود من ذلك الكلام على اختلاف أنواعه وهذا الموضع جم الشعاب دقيق المسلك يضل عنه الكثيرون إلا من أشرقت نفوسهم بضياء المعرفة واليقين وسنورد أمثلة منه قبل أن تتناول الآية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 فمن ذلك قوله تعالى: «وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه» وقوله تعالى «رب إني نذرت لك ما في بطني محررا» فاستعمل الجوف في الأولى واستعمل البطن في الثانية ولم يستعمل الجوف موضع البطن ولا البطن موضع الجوف واللفظتان سواء في الدلالة وهما ثلاثيتان في عدد واحد ووزنهما واحد أيضا ولو استعمل هذه موضع تلك لكان الكلام نافرا قلقا وعلى هذا ورد قول الأعرج من أبيات الحماسة: نحن بنو الموت إذا الموت نزل ... لا عار بالموت إذا حم الأجل الموت أحلى عندنا من العسل وقال أبو الطيب المتنبي: إذا شئت حفت بي على كل سابح ... رجال كأن الموت في فمها شهد فهاتان لفظتان هما العسل والشهد وكلاهما حسن مستعمل لا يشك في حسنه واستعماله وقد وردت لفظة العسل في القرآن دون لفظة الشهد لأنها أحسن منها ومع هذا فإن لفظة الشهد وردت في بيت أبي الطيب فجاءت أحسن من لفظة العسل في بيت الأعرج. ويجمل بنا لإيضاح هذا الفن واظهار خصائصه الرفيعة اقتباس فصل ممتع لابن الأثير في كتابه «المثل السائر» قال: «وقد رأيت جماعة من الجهال إذا قيل لأحدهم إن هذه اللفظة حسنة وهذه قبيحة أنكر ذلك وقال: كل الألفاظ حسن والواضع لم يضع إلا حسنا ومن يبلغ جهله إلى أن لا يفرق بين لفظة الغصن ولفظة العسلوج وبين لفظة المدامة ولفظة الإسفنط وبين لفظة السيف ولفظة الخنشليل وبين لفظة الأسد ولفظة الفدوكس فلا ينبغي أن يخاطب ولا يجاب بجواب بل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 يترك وشأنه كما قيل: اتركوا الجاهل ولو ألقي الجعر في رحله وما مثاله في هذا المقام إلا كمن يسوي بن صورة زنجية سوداء مظلمة السواد، سوهاء الخلق، ذات عين محمرة، وشفة غليظة كأنها كلوة، وشعر قطط كأنه زبيبة وبين صورة رومية بيضاء مشربة بحمرة ذات خدّ أسيل، وطرف كحيل، ومبسم كأنما نظم من أقاح، وطرّة كأنها ليل على صباح، فإذا كان انسان من سقم النظر أن يسوي بين هذه الصورة وهذه فلا يبعد أن يكون به من سقم الفكر أن يسوي بين هذه الألفاظ وهذه ولا فرق بين النظر والسمع في هذا المقام» . أقسام الألفاظ: والواقع أن الألفاظ تنقسم في الاستعمال الى جزلة ورقيقة ولكل منها مواضع يحسن استعمالها فيه فالجزل يستعمل في مواقف الشدة وقوارع التهديد والتخويف، والرقيق يستعمل في وصف نباريح الأشواق، ولوعة الفراق، والآية التي نحن بصددها من أروع الأمثلة على ذلك فإنه سبحانه لما أتى بأغرب ألفاظ القسم بالنسبة الى أخواتها وهي التاء لأن الواو والباء أكثر دورانا على الألسنة منها أتى سبحانه بأغرب صيغ الأفعال الناقصة التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار بالنسبة الى أخواتها وهي تفتأ وحذف منها حرف النفي زيادة في الاغراب ولأن المقام لا يلتبث بالاثبات على حد قول امرئ القيس: فقلت: يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي وكذلك لفظ «حرضا» أغرب من جميع أخواتها من ألفاظ الهلاك فاقتضى حسن النظم وحسن الوضع فيه أن تجاور كل لفظة بلفظة من جنسها في الغرابة والاستعمال توخيا لحسن الجوار ورغبة في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 ائتلاف المعاني بالألفاظ ولتتعادل الألفاظ في الوضع وتتناسب في النظم وسيأتي المزيد من هذه الملاءمة فيما يأتي. 3- الجناس: وهو اشتراك اللفظتين في الاشتقاق وقد وقع جميلا جدا في قوله: «يا أسفا على يوسف» . الفوائد: 1- اشترط النحاة في اعمال زال ماضي يزال لا يزول، وفتئ، وبرح، وانفك، أن يتقدمها نفي أو نهي أو دعاء ب «لا» خاصة في الماضي أو بلن في المضارع، وانما اشترطوا فيها ذلك لأنها بمعنى النفي فإذا دخل عليها النفي انقلبت اثباتا فمعنى ما زال زيد قائما هو قائم فيما مضى وقد يحذف حرف النفي كما تقدم في الاعراب وكالآية الكريمة «تالله تفتأ تذكر يوسف» على أن حذف النافي لا ينقاس إلا بثلاثة شروط وهي كونه مضارعا وكونه جواب قسم وكون النافي «لا» ومن أمثلة النفي بعد الاسم قوله: غير منفك أسير هوى ... كل وان ليس يعتبر ومن أمثلة النفي بالفعل الموضوع للنفي قوله: ليس ينفك ذا غنى واعتزاز ... كل ذي عفة مقل قنوع ومن أمثلة النفي بالفعل العارض للنفي قوله: قلما يبرح اللبيب الى ما ... يورث الحمد داعيا أو مجيبا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 فإن قلما خلع منه معنى التقليل وصير بمعنى ما النافية. ومن أمثلة النفي بالفعل المستلزم للنفي قولهم: أبيت أزال استغفر الله أي لا أزال ووجهه أن من أبى شيئا لم يفعله والإباء مستلزم للنفي. ومثال النهي قوله: صاح شمر ولا تزل ذاكر المو ... ت فنسيانه ضلال مبين ومثال الدعاء قول ذي الرمة: ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلّا بجرعائك القطر 2- لمحة عن فعل الأمر: الأمر ينقسم الى قسمين: لغوي وهو طلب إيجاد الفاعل من الفعل في الخارج على سبيل الاستعلاء وقيل اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء والمراد بالاقتضاء ما يقوم بالنفس من الطلب لأنه الأمر في الحقيقة وتسمية الصيغة به مجاز وقيل غير كف ليقع الاحتراز من النهي على جهة الاستعلاء ليقع الاحتراز من الدعاء وأورد على طرده كف لأنه اقتضاء فعل غير كف فلا يكون هذا أمرا لكنه أمر فلا يكون مطردا وعلى عكسه لا تكف لأنه اقتضاء فعل غير كف فيكون أمرا لكنه ليس بأمر فلا يكون منعكسا. وصناعي وهو ما حصل به ذلك أي طلب إيجاد الفعل والذي حصل به ذلك هو الصيغة التي يطلب بها الفعل من الفاعل وفعل الأمر بني على السكون لأنه. الأصل في البناء وصيغته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 مأخوذة من المضارع فإذا أردت أن تصوغ فعل أمر حذفت حرف المضارعة ونظرت الى ما يليه فإن كان متحركا صغت مثال الأمر على صيغته وحركته فتقول مثلا من يشمر شمر ومن يدحرج دحرج ومن يثب ثب ومن يصل صل وإن كان الذي يلي حرف المضارعة ساكنا اجتلبت له همزة وصل ليتوصل الى النطق بأول الفعل ساكنا فتقول مثلا من يضرب اضرب ومن مثل ينطلق انطلق ومن مثل يستخرج استخرج لأن الابتداء بالساكن في النطق مستحيل. وما أحسن قول السراج الوراق: يا ساكنا قلبي ذكرتك قبله ... أرأيت قبلي من بدا بالساكن وجعلته وقفا عليك وقد غدا ... متحركا بخلاف قلب الآمن وبذا جرى الاعراب في نحو الهوى ... فإليك معذرتي فلست بلاحن وسواء كان الفعل ثلاثيا أو خماسيا أو سداسيا، وشذ من هذه القاعدة فعلان فلا تدخل عليهما همزة وهما خذ وكل وجوز في فعلين إلحاق الهمزة وحذفها وهما مر وسل وقد نطق القرآن بهما فقال تعالى: «سل بني إسرائيل» «واسأل القرية» وتقول: مره بكذا وأمره بكذا، فأما حركة الهمزة المجتلبة فإن كان الماضي رباعيا فانها مفتوحة في الأمر، تقول من أكرم: أكرم، وإذا كان ثالث المضارع مضموما فانها مضمومة في الأمر، تقول في الأمر من قتل: اقتل، وما عدا ذلك فهي مكسورة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 3- الكلام على «بل» : بل: حرف عطف للاضراب عن الأول واثبات الحكم للثاني سواء كان ذلك الحكم إيجابا أو سلبا واعلم أن للاضراب معنيين أحدهما ابطال الأول والرجوع عنه إما لغلط أو نسيان تقول في الإيجاب: قام زيد بل عمرو وتقول في النفي: ما قام زيد بل عمرو كأنك أردت الإخبار عن عمرو فغلطت وسبق لسانك الى ذكر زيد فأتيت ببل مضربا عن زيد ومثبتا ذلك الحكم لعمرو والآخر ابطاله لانتهاء مدة ذلك الحكم وعلى ذلك يأتي في الكتاب العزيز نحو قوله: «بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل» كأنه انتهت القصة الأولى فأخذ في قصة أخرى وكذلك قوله: «أتأتون الذكران من العالمين» ثم قال: «بل أنتم قوم عادون» ولم يرد أن الأول لم يكن، ومما ورد في ذلك شعرا قول رؤبة ابن العجاج: قلت لزير لم تصله مريمه ... هل تعرف الربع المحيل ارسمه عفت عوافيه وطال قدمه ... بل بلد ملء الفجاج قتمه والزير بكسر الزاي الرجل الذي يخالط النساء ويمازحهن بغير شر أو به ومريم أي سميرته وفي القاموس: المريم التي تحب محادثة الرجال ولا تفجر قال الشاعر: وزائرة ليلا كما لاح بارق ... تضوّع منها للكباء عبير فقلت لها: أهلا وسهلا أمريم؟ ... فقالت: نعم من أنت؟ قلت لها: زير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 [سورة يوسف (12) : الآيات 87 الى 92] يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اللغة: (فَتَحَسَّسُوا) : التحسّس: طلب الخير بالحاسة وهو قريب من التجسّس الذي بالجيم وقيل: ان التحسس بالحاء يكون في الخير وبالجيم يكون في الشر ومنه الجاسوس وهو الذي يطلب الكشف عن عورات الناس ولهذه المادة خواص عجيبة فهي تتناول جميع خوالج الناس وهواجس نفوسهم، وتشير إلى احداث التأثير في الأشياء يقال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 حسه يحسه من باب نصر قتله واستأصله، وحسّ الدابة نفض التراب عنها بالمحسة، وحسّ البرد الزرع أحرقه، وحسّ اللحم جعله على الجمر، وحسن النار ردّها على خبز الملة والشواء من نواحيه لينضج، وحس يحس حسا من باب تعب الشيء وبالشيء علمه وشعر به وأدركه، وحس يحس من بابي تعب وجلس بالخير أيقن به، وحس لفلان رق له، وتحسّس تسمع وتبصّر، وتحسّس الخبر سعى في إدراكه، وتحسّس الشيء تعرّفه وتطلّبه بالحاسة، وتحسّس منه تخبر خبره، والحاسة مؤنث الحاس والقوة النفسانية المدركة، والحواس الخمس هي السمع والبصر والشم والذوق واللمس، وحواسّ الأرض خمس وهي البرد والبرد والريح والجراد والمواشي أخذت من حسّ الزرع يقال مرت بالقوم حواسّ أي سنون شداد، والحسيس الصوت الخفي والحركة والقتيل، وحساس الحمى بالكسر مسها وأول ما يبدأ منها، والحسي ما يدرك بالحس الظاهر وضده العقلي، أما مادة جس فتشابهها مشابهة غريبة يقال جسّه يجسه من باب نصر، واجتسّه مسه بيده ليتعرفه، وجسّ الأرض وطئها، وجسه بعينه أحدّ النظر اليه ليتبينه، وجسّ وتجسّس واجتسّ الأخبار والأمور بحث عنها، والجاس وجمعه جواسيس، والجسّاس الذي يأتي بالأخبار، وجواسّ الإنسان هي حواسه الخمس والواحدة جاسة، والمجسّ والمجسّة موضع اللمس قال دوقلة: ولها هن بض ملاذهن ... رابي المجسّة حشوه وقد وفلان ضيق المجسّ والمجسّة أي غير رحب الصدر والمجسة أيضا هي الموضع الذي يجسه الطبيب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 (مُزْجاةٍ) : أي بضاعة مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقارا لها من أزجيته إذا دفعته وطردته، والريح تزجي السحاب. وفي المصباح: زجيته بالتثقيل دفعته برفق، والريح تزجي السحاب تسوقه سوقا رفيقا. يقال أزجاه بوزن أرضاه وزجاه بالتثقيل كزكاه، وفي القاموس: زجاه ساقه ودفعه. (تَثْرِيبَ) : عتب، وفي المصباح: ثرب عليه يثرب من باب ضرب عتب ولام، وبالمضارع بياء الغيبة سمي رجل من العمالقة وهو الذي بنى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فسميت المدينة باسمه، وقاله السهيلي وثرّب بالتشديد مبالغة وتكثير ومنه قوله تعالى «لا تثريب عليكم اليوم» والثرب وزان فلس شحم رقيق على الكرش والأمعاء. وقال الرازي: التثريب التعيير والاستقصاء في اللوم. وقال الزمخشري: «وأصل التثريب من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش ومعناه إزالة الثرب كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع لأنه إذا ذهب كان ذلك غاية الهزال والعجف الذي ليس بعده فضرب مثلا للتقريع الذي يمزق الأعراض ويذهب بماء الوجوه» . الإعراب: (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) يا بني تقدم اعرابها واذهبوا فعل أمر وفاعل والفاء عاطفة وتحسسوا فعل أمر وفاعل ومن يوسف متعلقان بتحسسوا وأخيه عطف على يوسف. (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) الواو عاطفة ولا ناهية وتيئسوا مجزوم بلا والواو فاعل ومن روح الله جار ومجرور متعلقان به وسيأتي بحث هذه الاستعارة في باب البلاغة. (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 ان واسمها وجملة لا ييئس خبرها ومن روح الله متعلقان بييئس وإلا أداة حصر والقوم فاعل والكافرون صفة. (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) فيه حذف واختصار تقديره فخرجوا من عند أبيهم قاصدين مصر فلما.. إلخ، والفاء عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة ودخلوا فعل وفاعل وعليه متعلقان بدخلوا. (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) جملة قالوا لا محل لها ويا أيها العزيز نداء تقدم إعرابه والعزيز بدل من أي، ومسنا فعل ومفعول به وأهلنا عطف على نا أو مفعول معه والضر فاعل. (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) الواو عاطفة وجئنا فعل وفاعل وببضاعة متعلقان بجئنا ومزجاة صفة، فأوف الفاء عاطفة وأوف فعل أمر ولنا متعلقان بأوف والكيل مفعول به. (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) وتصدق عطف على فأوف وعلينا متعلقان بتصدق وان واسمها وجملة يجزي خبرها والمتصدقين مفعول به. (قالَ: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) هل حرف استفهام وعلمتم فعل وفاعل وما اسم موصول مفعول به ويجوز أن تكون مصدرية أي فعلكم بيوسف والجار والمجرور متعلقان بفعلتم وأخيه عطف على يوسف وإذ ظرف متعلق بفعلتم أي فعلتم ذلك وقت جهلكم وأنتم مبتدأ وجاهلون خبر والجملة الاسمية مضاف إليها الظرف، والاستفهام يفيد التعظيم والتهويل أي ان الأمر الذي ارتكبتموه كان بمثابة لا يقدم عليه فيها أحد ولكنكم أقدمتم غير آبهين للعواقب ولا عارفين بما يئول اليه أمر يوسف من الخلاص من الجب ثم ولاية الملك وسيأتي نص كتاب يعقوب الذي قدموه إليه في باب الفوائد. (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) قالوا فعل وفاعل، أإنك الهمزة للاستفهام التقريري وان واسمها واللام المزحلقة وأنت مبتدأ ويوسف خبر والجملة خبر ان ويجوز أن يكون الضمير وهو أنت فصلا وقد تقدم. (قالَ: أَنَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا) أنا مبتدأ ويوسف خبر وأظهر الاسم فقال أنا يوسف تعظيما لما وقع به من ظلم أخوته كأنه قال: انا المظلوم المستحلّ منه المحرّم المراد قتله، وهذا مبتدأ وأخي خبر وقد حرف تحقيق ومنّ فعل ماض والله فاعل وعلينا متعلقان بمنّ والجملة حالية (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) ان واسمها وهو ضمير الشأن والحال ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، ويتق فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة ويصبر عطف عليه، فإنه: الفاء رابطة للجواب وان واسمها وجملة لا يضيع خبرها وأجر المحسنين مفعول به وجملة الشرط وجوابه خبر ان. (قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا) التاء تاء القسم ولفظ الجلالة مجرور بها والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره نقسم واللام جواب القسم وقد حرف تحقيق وآثرك الله فعل ومفعول به وفاعل وعلينا متعلقان بآثرك. (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) الواو عاطفة وان مخففة من لثقيلة مهملة وكان واسمها واللام الفارقة وخاطئين خبر كنا. (قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) جملة لا تثريب مقول القول ولا نافية للجنس وتثريب اسمها وعليكم خبرها واليوم ظرف متعلق بمحذوف خبر ثان أو بمتعلق الخبر وهو عليكم وعلى كل فالوقف عليه ولا يجوز تعليق الظرف بالمصدر وهو التثريب لأنه يصير شبيها بالمضاف ومتى كان كذلك أعرب ونون نحو لا خيرا من زيد عندك، والعجب من الزمخشري إذ أجاز تعليق الظرف بالتثريب وهي زلة لا أدري كيف وقع فهيا؟ ومن جهة ثانية فصل بينه وبين معموله على حد قوله بقوله «عليكم» ويجوز تعليق الظرف بالفعل الذي بعده. (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) جملة دعائية بمثابة التعليل ويغفر الله فعل وفاعل ولكم متعلقان بيغفر وهو مبتدأ وأرحم الراحمين خبر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 البلاغة: استعارة الروح للرحمة وإيضاحه ان الروح مصدر بمعنى الرحمة وأصله استراحة القلب من غمه، والمعنى لا تقنطوا من راحة تأتيكم من الله. الفوائد: روى التاريخ أن اخوة يوسف لما قالوا ليوسف «مسنا وأهلنا الضر» وتضرعوا اليه ارفضت عيناه وقيل أدوا اليه كتاب يعقوب اليه وهذا نصه نثبته لما فيه من عاطفة مضطرمة واحساس فياض: من يعقوب إسرائيل الله بن اسحق ذبيح الله بن ابراهيم خليل الله الى عزيز مصر، أما بعد فإنّا أهل بيت موكل بنا البلاء، أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي الى النار ليحرق فجعلها الله عليه بردا وسلاما وأما أبي فوضعت المدية في قفاه ليذبح ففداه الله وأما أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادي إلي فذهب به اخوته الى البرية ثم أتوني بقميصه ملطّخا بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي من بكائي عليه ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا فقالوا انه سرق وانك حبسته وإنّا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا فإن رددته إليّ وإلا دعوت عليك دعوة تبلغ السابع من ولدك والسلام. فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتماسك وعيل صبره، وعلى افتراض عدم صحة هذا الكتاب فنفحة العاطفة تدعو لاثباته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 [سورة يوسف (12) : الآيات 93 الى 101] اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 اللغة: (فَصَلَتِ الْعِيرُ) : خرجت من عريش مصر يقال فصل من البلد فصولا إذا انفصل منه وجاوز حيطانه وفي المختار: وفصل من الناحية خرج وبابه جلس، وللفاء والصاد فاء وعينا للكلمة سر غريب: إنهما تدلان على الخروج والمزايلة يقال: فصّ من كذا فصّا وافتصّ كذا من كذا انتزعه وافترزه وبابه ضرب وفصّ الجرح يفص من باب ضرب أيضا سال بما فيه وفصّ العرق رشح وفصّ الولد بكى وفصصت الشيء من الشيء فانفصّ أي فصلته فانفصل وفصح يفصح من باب فتح الصبح فلانا بان له وغلبه ضوءه وفصح يفصح فصاحة من باب ظرف جادت لغته وحسن منطقه فهو فصيح والفصاحة مصدر والبيان وخلوص الكلام من التعقيد ويوصف بها المتكلم والكلام والكلمة وفضح يفضح من باب فتح فضحا عن الأمر تغابى عنه وهو يعلمه فكأنه خرج عن عهدته وألقى عنه تبعاته، وفصد يفصد من باب ضرب فصدا المريض شق عرقه وفصد له عطاء قطعه له وافتصد العرق شقه وفي المثل «لم يحرم من فصد له» أي لم يخب من نال بعض حاجته وفصع التمرة يفصعها من باب فتح عصرها بإصبعيه حتى تنقشر وفصع عمامته عن رأسه حسرها وفصع الشيء دلكه بإصبعيه ليلين فينفتح عما فيه وفصم يفصم فصما من باب ضرب الدملج ونحوه كسره من غير أن تنفرق كسره وفصم الشيء قطعه وفصم البيت بالبناء للمجهول انهدم وكانت عروة قد فصمت وفصى يفصي من باب ضرب الشيء فصيا نزعه وأزاله وفصّى اللحم من أو عن العظم تفصية خلصه منه وأبانه عنه وتفصى الرجل من الديون خرج منها. وهذا من الأسرار التي تميزت بها لغتنا الشريفة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 (تُفَنِّدُونِ) : التفنيد النسبة الى الفند وهو الخرف وانكار العقل من هرم يقال شيخ مفند ولا يقال عجوز مفندة لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفند في كبرها، وفي المختار الفند بفتحتين الكذب وهو أيضا ضعف الرأي من الهرم والفعل منه أفند والتفنيد اللوم وتضعيف الرأي. وفي القاموس: الفند بالتحريك الخرق وانكار العقل لهرم أو مرض والخطأ في القول والرأي والكذب كالافناد ولا تقل عجوز مفندة لانها لم تكن ذات رأي أبدا وقال دعبل: ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم ... الله يعلم اني لم أقل فندا إني لأغمض عيني ثم أفتحها ... على كثير ولكن لا أرى أحدا (الْبَدْوِ) : البادية والبدو هو البسيط من الأرض يبدو الشخص فيه من بعد يعني يظهر، والبدو خلاف الحضر والبادية خلاف الحاضرة وكان يعقوب وأولاده أصحاب ماشية فسكنوا البادية، وفي القاموس والتاج: البدو والبادية والبداوة الصحراء والجمع باديات وبواد والبدو أيضا سكان البادية من القبائل العربية الرحّل وهم ينقسمون الى عدة قبائل والنسبة الى البدو بدوي بسكون الدال وبدوي بفتحها والأنثى بدوية والجمع بداويّ وفي الأساس: «لقد بدوت يا فلان أي نزلت البادية وصرت بدويا، وما لك والبداوة؟ وتبدّى الحضري، ويقال: أين الناس؟ فتقول قد بدوا أي خرجوا الى البدو، وكانت لهم غنيمات يبدون إليها. وقال الأصمعي: الحضارة والبداوة بالفتح وقال أبو زيد: بالكسر والحضارة الإقامة في الحضر والبداوة الإقامة في البدو وللمتنبي مقايسة بين الحضارة والبداوة جميلة نثبتها فيما يلي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 كم زورة لك في الاعراب خافية ... أدهى وقد رقدوا من زورة الذيب أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي قد وافقوا الوحش في سكنى مراتعها ... وخالقوها بتقويض وتطنيب يقول في هذا البيت واصفا حياة البدو: انهم يسكنون البدو فهم يجرون مجرى الوحوش في حلولها المراتع إلا أنهم لهم خيام يحطونها وينصبونها في الرحيل وفي الاقامة والوحش لا خيام لها فقد خالفوها في هذا ثم استرسل في وصفه: ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويات الرعابيب حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب أين المعيز من الآرام ناظرة ... وغير ناظرة في الحسن والطيب أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 ولا برزن من الحمام مائلة ... أوراكهنّ صقيلات العراقيب يريد بظباء الفلاة نساء العرب وانهن فصيحات لا يمضغن الكلام ولا يصبغن حواجبهن كعادة نساء الحضر وهو يريد أن حسنهن بغير تطرية ولا تصنع ولا دخول حمام بل هو خلقة فيهن. (نَزَغَ) : أفسد بيننا وأغرى وأصله من نخس الرائض الدابة وحملها على الجري يقال نزغه ونسغه إذا نخسه وفي المختار: نزغ الشيطان بينهم أفسد وبابه قطع. الإعراب: (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) لا بد من تقدير محذوف يمهد لقوله وذلك انه سألهم عن أبيه فقالوا: ذهبت عيناه فقال اذهبوا بقميصي، واذهبوا فعل أمر وفاعل وبقميصي يجوز أن يتعلق باذهبوا فتكون الباء للتعدية ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف حال أي اذهبوا معكم قميصي وهذا نعت أو بدل أو عطف بيان، فألقوه الفاء عاطفة وألقوه فعل وفاعل ومفعول به وعلى وجه أبي متعلقان بألقوه ويأت فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر والفاعل مستتر تقديره هو وبصيرا حال واختار الزمخشري أن يكون خبرا ليأت على تضمينه معنى يصر بصيرا ويشهد له: فارتد بصيرا. (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) وائتوني عطف على اذهبوا وبأهلكم متعلقان بائتوني وأجمعين تأكيد للأهل أي بنسائكم وأولادكم. (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ) لما ظرفية أو رابطة وفصلت العير فعل وفاعل وان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 واسمها واللام المزحلقة وجملة أجد خبر إن وريح يوسف مفعول به ولولا حرف امتناع لوجود وأن وما في حيزها مبتدأ خبره محذوف وحذفت ياء المتكلم من تفندون للتخفيف ولمراعاة الفواصل أما تقدير الخبر لولا تفنيدكم موجود وجواب لولا محذوف أي لصدقتموني. (قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) التاء تاء القسم والله ومجرور بتاء القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم وإن واسمها واللام المزحلقة وفي ضلالك خبر ان والقديم صفة. (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) لما ظرفية حينية أو رابطة وان زائدة وسيأتي بحث مفيد عنها في باب الفوائد وجاء البشير فعل وفاعل وجملة ألقاه لا محل لها والهاء مفعول به وعلى وجهه متعلقان بألقاه، فارتد الفاء عاطفة وارتد فعل ماض فاعله هو وبصيرا حال، أو ارتد فعل ماض ناقص يعمل عمل صار وبصيرا خبرها. (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وأقل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر تقديره أنا ولكم متعلقان بأقل وان واسمها وجملة أعلم خبرها ومن الله جار ومجرور متعلقان بأعلم وما موصول مفعول به وجملة لا تعلمون صلة. (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) يا أبانا منادى مضاف واستغفر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولنا متعلقان باستغفر وذنوبنا مفعول به وإن واسمها وجملة كنا خاطئين خبر إنا وكان واسمها وخاطئين خبرها. (قالَ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) جملة سوف أستغفر مقول القول ولكم متعلقان بأستغفر وربي مفعول به وان واسمها وهو مبتدأ أو ضمير فصل والغفور الرحيم خبران لإن أو لهم والجملة الاسمية خبر ان. (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) عطف على محذوف تقديره ثم توجهوا إلى مصر وخرج يوسف وحاشيته لاستقبالهم، ودخلوا فعل وفاعل وعلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 يوسف متعلقان بدخلوا وجملة آوى لا محل لها واليه متعلقان بآوى وأبويه مفعول به والظاهر أن دخولهم عليه كان في مضرب له في ضاحية البلد ولذلك عطف. (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) وادخلوا مصر فعل وفاعل ومفعول به وإن شرطية وشاء فعل الشرط والجواب محذوف لدلالة الكلام عليه وجملة الشرط اعتراضية بين الحال وصاحبها فآمنين حال من الواو. (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) ورفع أبويه فعل وفاعل مستتر ومفعول به وعلى العرش متعلقان برفع وخروا فعل وفاعل وله متعلقان بخروا وسجدا حال. (وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) يا أبت تقدم اعرابها وهذا مبتدأ وتأويل خبر ورؤياي مضاف اليه ومن قبل حال. (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) قد حرف تحقيق وجعلها ربي فعل وفاعل وحقا مفعول ثان والجملة حال مقدرة أو مقارنة. (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) الواو عاطفة وقد حرف تحقيق وأحسن فعل ماض وبي متعلقان بأحسن وأحسن أصله أن يتعدى بإلى وقد يتعدى بالباء كما يقال أساء اليه وبه قال كثير: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لعزة من أعراضنا ما استحلت قال ابن هشام معناها الغاية أي إليّ وقيل ضمن أحسن معنى لطف فعداه بالباء كما تقول: لطف الله بك فالباء حينئذ للالصاق لأن اللطف ملتصق وقائم بالمتكلم والتضمين شائع وهو إشراب الكلمة معنى آخر، وإذ متعلق بأحسن أيضا وجملة أخرجني مضافة والفاعل مستتر والياء مفعول به ومن السجن جار ومجرور متعلقان بأخرجني. (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) بكم متعلقان بجاء ومن البدو متعلق به أيضا ومن بعد حال وان وما في حيزها مضافة للظرف والشيطان فاعل نزغ وبيني ظرف متعلق بنزغ وبين عطف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 على الظرف الأول واخوتي مضاف الى بين. (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) ان واسمها وخبرها ولما متعلقان بلطيف أي لطيف التدبير لأجله رفيق، وجملة يشاء صلة وانه ان واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والعليم الحكيم خبران لإن أو لهو وقد تقدمت له نظائر. (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) رب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وحرف النداء محذوف وقد حرف تحقيق وآتيتني فعل وفاعل ومفعول به ومن الملك: من تبعيضية وهي ومجرورها صفة لمفعول به محذوف أي آتيتني شيئا عظيما من الملك وقيل تبيينية فتتعلق بآتيتني، وعلمتني عطف على آتيتني ومن تأويل الأحاديث متعلقان بعلمتني. (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يجوز أن يكون نعتا لرب أو بدلا منه ويجوز أن يكون منادى وحرف النداء محذوف ولعله أولى والسموات مضاف اليه. (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أنت مبتدأ ووليي خبر وفي الدنيا حال والآخرة عطف على الدنيا. (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) فعل دعاء والنون للوقاية والياء مفعول به ومسلما حال وألحقني عطف على توفني وبالصالحين متعلقان بألحقني. الفوائد: (أَنْ) حرف مصدري ينصب المضارع ويؤول مع ما في حيزه بمصدر يعرب حسب موقعه، وتكون مخففة من أن فتقع بعد فعل اليقين والظن وما شابهه، ومفسرة وهي التي تقع بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه نحو «فأوحينا إليه أن اصنع الفلك» وزائدة للتوكيد كالآية «فلما أن جاء البشير» قال ابن هشام: «ولا معنى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 لأن الزائدة غير التوكيد كسائر الزوائد» وقال ابن الأثير في المثل السائر: «وأما قوله تعالى «فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه» فإنه إذا نظر في قصة يوسف عليه السلام مع اخوته منذ ألقوه في الجب والى أن جاء البشير الى أبيه عليه السلام وجد أنه كان ثم إبطاء بعيد وقد اختلف المفسرون في طول تلك المدة ولو لم يكن ثم مدة بعيدة وأمد متطاول لما جيء بأن بعد لما وقبل الفعل بل كانت تكون الآية: فلما جاء البشير ألقاه على وجهه، وهذه دقئق ورموز لا تؤخذ من النحاة لأنها ليست من شأنهم. هذا وقد رد الصلاح الصفدي على ابن الأثير فقال: «قلت: هذا من جناية إعجاب المرء بعقله ألا تراه كيف يتصور الخطأ صوابا ثم أخذ يتبجح أنه ظفر بما لم يكن عند النحاة ولو أنه نظر الى هذه الفاء عقيب ماذا وردت؟ هل هي عقيب قوله تعالى: «فلما ذهبوا به وأجمعوا على أن يجعلوه في غيابة الجب» والآيات المتعلقة بواقعة إلقائه الجب، أو وردت عقيب قوله تعالى «اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وائتوني بأهلكم أجمعين ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون، قالوا تالله انك لفي ضلالك القديم فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتدّ بصيرا» لعلم ابن الأثير أنه لا تراخي بين هذين البعدين ولا مدة مديدة لأن المدة إنما كانت بقدر المسافة التي توجه فيها البشير من مصر الى أن وصل الى أرض كنعان وهي مقام يعقوب عليه السلام وقدر مسافة ما بين ذلك اثنا عشر يوما وما حولها ولهذا قال النحاة: إنها هنا زائدة، ولابن الأثير من هذه الشناعات على النحاة وغيرهم أشياء أجبت عنها في كتابي» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 [سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 107] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) اللغة: (حَرَصْتَ) : في المصباح: حرص عليه حرصا من باب ضرب إذا اجتهد والاسم الحرص بالكسر وحرص على الدنيا من باب ضرب وحرص حرصا من باب تعب لغة إذا رغب رغبة مذمومة. وقال علماء اللغة: وحرص على الشيء وهو حريص من قوم حراص وما أحرصك على الدنيا والحرص شؤم ولا حرس الله من حرص، وحرص القصار الثوب شقه وبثوبك حرصة وأصابته حارصة وهي من الشجاج التي شقت الجلد، وحما محرّص: مكدّح، وانهلّت الحارصة والحريصة وهي السحابة الشديدة وقع المطر وتحرّص وجه الأرض، قال الحويدرة: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 ظلم البطاح بها انهلال حريصة ... فصفا النّطاف بها بعيد المقلع ورأيت العرب حريصة، على وقع الحريصة. (غاشِيَةٌ) : نقمة تغشاهم وقيل ما يغمرهم من العذاب ويجللهم وفي القاموس والتاج الغاشية مؤنث الغاشي والغطاء والجمع غواش والداهية والقيامة وداء في الجوف وغاشية فلان خدمه وزواره. الإعراب: (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) ذلك اسم اشارة في محل رفع مبتدأ ومن أنباء الغيب خبره وجملة نوحيه إليك حال ويجوز أن تكون في محل رفع خبرا ثانيا وفي هذه الآية الكريمة دليل لا يقبل الريب على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان أميا لم يقرأ الكتب ولم يلق العلماء ولم يسافر الى غير بلده الذي نشأ فيه ومع ذلك أتى بهذه القصة الطويلة مستجمعة شرائط القصة وخصائصها التي ابتدعت ذكرها العصور الحديثة. (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) الواو عاطفة وكنت كان واسمها ولديهم ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر كنت وإذ ظرف متعلق بما تعلق به الظرف أي بالاستقرار المحذوف وجملة أجمعوا مضافة للظرف والواو للحال وهم مبتدأ وجملة يمكرون خبر والجملة حالية. (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة وما نافية حجازية بذلك زيادة الباء في خبرها وأكثر الناس اسمها والواو اعتراضية ولو شرطية وحرصت فعل وفاعل والجملة معترضة بين ما الحجازية وخبرها وسيأتي في باب الفوائد بحث مسهب عن الجملة الاعتراضية والباء حرف جر زائد ومؤمنين مجرور بالباء لفظا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 في محل نصب خبر لما وجواب لو محذوف أي لم يؤمنوا. (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) الواو عاطفة وما نافية وتسألهم فعل مضارع وفاعل مستتر والهاء مفعول به وعليه حال لأنه كان في الأصل صفة لأجر والضمير يعود على القرآن ومن حرف زائد وأجر مجرور بمن لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به وإن نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر وذكر خبر هو وللعالمين صفة لذكر. (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تقدم القول مسهبا في كأين وكم الخبريتين، وهي في محل رفع مبتدأ ومن آية تمييز مجرور بمن وفي السموات والأرض صفة لآية. (يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) جملة يمرون خبرا لمبتدأ وهو كأين وعليها متعلقان بيمرون، وهم: الواو حالية وهم مبتدأ وعنها متعلقان بمعرضون ومعرضون خبرهم والجملة الاسمية حالية ويجوز أن يكون في السموات والأرض خبرا لكأين وجملة يمرون صفة لآية (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) الواو عاطفة وما نافية ويؤمن أكثرهم فعل مضارع وفاعل وبالله متعلقان بيؤمن وإلا أداة حصر والواو حالية وهم مبتدأ ومشركون خبر والجملة نصب على الحال (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ) الهمزة للاستفهام الانكاري وفيه معنى التوبيخ والتهديد والفاء عاطفة وأمنوا فعل وفاعل، وأن تأتيهم المصدر المؤول مفعول أمنوا والهاء مفعول تأتي وغاشية فاعل تأتي ومن عذاب الله صفة لغاشية (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أو تأتيهم عطف على تأتيهم السابقة والساعة فاعل تأتيهم وبغتة حال والواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر والجملة نصب على الحال. البلاغة: 1- في قوله «وما كنت لديهم» الآية فن يسمى في علم البيان بالاحتجاج النظري وبعضهم يسميه المذهب الكلامي وهو أن يلزم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 الخصم ما هو لازم لهذا الاحتجاج وقد تقدم بحثه وفيه تهكم مرير بهم لأنه قد علم كل أحد أن محمدا صلى الله عليه وسلم ما كان معهم فإذا أخبر به وقصه هذا القصص البديع لم تقع شبهة في أنه ليس منه. 2- في قوله تعالى «وما أكثر الناس، ولو حرصت، بمؤمنين» فن الاعتراض وقد تقدم ذكره وتحديده ونزيد هنا ما يتعلق ببحث بلاغي طريف وهو أن الاعتراض ينقسم الى قسمين أحدهما لا يأتي في الكلام إلا لفائدة وهو جار مجرى التوكيد والآخر أن يأتي في الكلام لغير فائدة فإما أن يكون دخوله فيه كخروجه منه وإما أن يؤثر في تأليفه نقصا وفي معناه فسادا فالقسم الأول كهذه الآية، وفائدة الاعتراض من وجهين أولهما تصوير حرصه صلى الله عليه وسلم على ايمان قومه وهدايتهم وتهالكه على ردعهم عن غيهم وحرفهم عن مظان الخطأ ومواطن الضلال واستهدافه للأذى في سبيل هذا الحرص مع علمه بعدم جدوى ذلك واستحالة إقلاعهم عما هم فيه، وثاني الوجهين تصوير لجاجتهم، وجحود عقليتهم وإصرارهم على الغي الذي هم فيه شارعون وبه آخذون وعنادهم ومكابرتهم فيما لا تجدي معه الحجج والبراهين الثابتة المنيرة والقرآن الكريم حافل بهذا القسم وسيرد عليك في مواضعه إن شاء الله، وقد أوردنا طائفة من الشعر الجيد الذي زاده الاعتراض رقة وحلاوة وما أجمل قول ابن المعذب السعدي: فلو سألت سراة الحي سلمى ... على أن قد تلوّن بي زماني لخبرها ذو وأحساب قومي ... وأعدائي فكلّ قد بلاني وهذا اعتراض بين لو وجوابها وهو من فائق الاعتراض ونادره وتقديره فلو سألت سراة الحي سلمى لخبرها ذو وأحساب قومي وأعدائي وفائدة قوله: «على أن قد تلوّن بي زماني» أي أنهم يخبرون عني على تلون الزمان بي يريد تنقل حالاته من خير وشر وليس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 من عجمه على الزمان وأبان عن جوهره كغيره ممن لم يعجمه ولم يبن عنه. أما القسم الثاني وهو الذي يأتي في الكلام لغير فائدة فهو ضربان: الأول: يكون دخوله في الكلام كخروجه منه لا يكتسب به حسنا ولا قبحا فمن ذلك قول النابغة الذبياني يرثي النعمان بن المنذر: يقول رجال يجهلون خليقتي ... لعل زيادا- لا أبا لك- غافل فقوله: لا أبا لك من الاعتراض الذي لا فائدة فيه إلا إقامة الوزن وليس مؤثرا فيه حسنا ولا قبحا، ومثله قول زهير بن أبي سلمى: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا، لا أبا لك، يسأم والثاني: وهو الذي يؤثر في الكلام نقصا وفي المعنى فادا وسنورد أمثلة منه ليتفاداها العاقل فمن ذلك قول بعضهم: فقد، والشك: بيّن لي، عناء ... بوشك فراقهم صرد يصيح فإنه قدم «بوشك فراقهم» وهو معمول «يصيح» ويصيح صفة لصرد وذلك قبيح، ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال هذا من موضع كذا رجل ورد اليوم وانما يجوز وقوع المعمول بحيث يجوز وقوع العامل فكما لا يجوز تقديم الصفة على موصوفها فكذلك لا يجوز تقديم ما اتصل بها على موصوفها وفيه بعد ذلك من رديء الاعتراض الفصل بين «قد» والفعل الذي هو بيّن وذلك قبيح جدا لقوة اتصال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 «قد» بما تدخل عليه من الأفعال حتى انهم يعدونها بمثابة الجزء من الفعل ولذلك أدخلت عليه لام القسم المراد بها توكيد الفعل كقوله تعالى: «ولقد علموا لمن اشتراه» هذا وفي البيت عيب ثالث وهو الفصل بين المبتدأ الذي هو الشك وبين الخبر الذي هو عناء بقوله «بين لي» وعيب رابع وهو الفصل بين الفعل الذي هو بيّن وبين فاعله الذي هو صرد بخبر المبتدأ الذي هو عناء فجاء معنى البيت، كما تراه، كأنه صورة مشوهة قد نقلت أعضاؤها بعضها الى مكان بعض. ومن هذا الضرب قول الآخر: نظرت وشخصي مطلع الشمس ظله ... إلى الغرب حتى ظله الشمس قد عقل أراد نظرت مطلع الشمس وشخصي ظله الى الغروب حتى عقل الشمس أي حاذاها وعلى هذا التقدير فقد فصل بمطلع الشمس بين المبتدأ الذي هو شخصي وبين خبره الجملة وهو قوله «ظله الى الغرب» وأغلظ من ذلك وأسمج أنه فصل بين الفعل وفاعله بأجبني وهذا مما يبدو السكوت خيرا منه. وحيث تكلمنا على الاعتراض من الناحية البلاغة الفنية فلا ندحة لنا عن أن نتناوله من ناحيته النحوية فقد قرر النحاة أنه يقع في مواضع: 1- بين الفاعل ومرفوعه كقول بعضهم: شجاك أظن ربع الظاعنينا ... ولم تعبأ بعذل العاذلينا فشجاك فعل ماض وفاعله ربع الظاعنينا وفصل بينهما بجملة أظن وقد أفادت هذه الجملة المعترضة التقوية لأنه حين يقال شجاك ربع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 الظاعنين يحتمل أن ذلك مظنون أو متوهم فأخبر أنه مظنون على أنه يحتمل في هذا البيت نصب ربع على أنه مفعول أول لأظن وجملة شجاك مفعوله الثاني وتقديره أظن ربع الظاعنينا شجاك. 2- بين الفعل ومفعوله المنصوب كقول الشاعر: وبدلت، والدهر ذو تبدل، ... هيفا دبورا بالصبا والشمأل فبدلت فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل يعود على الريح والدهر ذو تبدل معترضة وهيفا مفعول بدلت أي ريحا هيفا ومعناها حارة وبالصبا داخلة على المتروك كما هي القاعدة في الباء التي تقع بعد بدل والصبا الريح التي تهب من المشرق. عند استواء الليل والنهار والشمأل هي الريح التي تأتي من ناحية القطب. 3- بين المبتدأ وخبره كقوله: وفيهن، والأيام يعثرن بالفتى ... نوادب لا يمللنه ونوائح فقد فصل بين فيهن وهو خبر مقدم ونوادب وهو مبتدأ مؤخر بجملة والأيام يعثرن بالفتى. 4- وبين ما أصله المبتدأ والخبر كقول عوف بن محلم: إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي الى ترجمان فقوله وبلغتها جملة دعائية اعترضت بين اسم ان وخبرها وأصلهما مبتدأ وخبر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 5- بين الشرط وجوابه كقوله تعالى «فإن لم تفعلوا. ولن تفعلوا، فاتقوا النار» وقد تقدم اعرابها. 6- بين القسم وجوابه كقول النابغة: لعمري وما عمري عليّ بهين ... لقد نطقت بطلا عليّ الأقارع فقد اعترض بجملة وما عمري علي بهين بين القسم وجوابه. 7- بين الموصوف وصفته كقوله تعالى «وانه لقسم لو تعلمون عظيم» فقد اعترض بجملة لو تعلمون بين الموصوف وهو قسم وصفته وهو عظيم. 8- بين الموصول وصلته كقول الشاعر: واني لرام نظرة قبل التي ... لعلي وإن شطت نواها أزورها فاعترض بين التي وصلتها وهي أزورها بلعلي وخبر لعل محذوف أي لعلي أفعل ذلك. 9- بين حرف التنفيس والفعل كقول زهير: وما أدري وسوف أخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء وهذا الاعتراض في أثناء اعتراض آخر فإن سوف وما بعدها اعتراض بين أدري وجملة الاستفهام. 10- بين حرف النفي ومنفيه كقوله: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 فلا وأبي دهماء زالت عزيزة ... على قومها ما دام للزند قادح وهناك مواضع أخرى ضربنا عنها صفحا لندرة وقوعها ويمكن الرجوع إليها في المطولات. [سورة يوسف (12) : الآيات 108 الى 111] قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) اللغة: (سَبِيلِي) : السبيل الطريق أو ما وضح منها يذكر ويؤنث والجمع سبل وسبل وأسبل وأسبلة وسبول، وابن السبيل: المسافر، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 وسبيل الله الجهاد وطلب العلم والحج وكل ما أمر الله به من الخير ويقال: ليس لك عليّ سبيل أي حجة تعتلّ بها وليس عليّ في كذا سبيل أي حرج ويقول المولّدون: ما على المحسن سبيل أي معارضة وسبيلنا أن نفعل كذا أي نحن جديرون بفعله. الإعراب: (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) هذه مبتدأ وسبيلي خبر وجملة أدعو الله تفسير للسبيل والى الله متعلقان بأدعو ويجوز أن تكون الجملة حالية من الياء والأول أولى وعلى بصيرة متعلقان بأدعو أو بمحذوف حال من فاعل أدعو وأنا تأكيد لفاعل أدعو المستتر ومن اتبعني عطف على فاعل أدعو المستتر ويجوز أن يكون من مبتدأ وخبره محذوف أي ومن اتبعني يدعو أيضا ويجوز أن يكون أنا مبتدأ مؤخرا وعلى بصيرة خبرا مقدما ومن اتبعني عطفا على أنا. (وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وسبحان مفعول مطلق لفعل محذوف أي وأسبح سبحان الله وما الواو حرف عطف وما نافية حجازية وأنا اسمها ومن المشركين خبرها. (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) ما نافية أرسلنا فعل وفاعل ومن قبلك حال وإلا أداة حصر ورجالا مفعول به وجملة نوحي إليهم صفة ومن أهل القرى صفة ثانية لرجالا. (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) الهمزة للاستفهام والفاء عاطفة على محذوف وقد تقدم تقريره ولم حرف نفي وقلب وجزم ويسيروا فعل مضارع مجزوم بلم وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بيسيروا. (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الفاء عاطفة أو سببية وينظروا فعل مضارع إما مجزوم نسقا على يسيروا أو منصوب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 بأن مضمرة في جواب النفي وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان مقدما وعاقبة اسم كان والذين مضاف لعاقبة ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صلة الموصول. (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ) الواو حالية واللام لام الابتداء ودار مبتدأ والآخرة مضاف إليه من إضافة الشيء الى نفسه لأن المراد بالدار الجنة وهي نفس الآخرة واختار الزمخشري والبيضاوي ان يكون التقدير ولدار الساعة الآخرة أو الحال الآخرة فليس في الكلام على ذلك اضافة الشيء الى نفسه. وخير خبر دار وللذين متعلقان بخير وجملة اتقوا صلة، أفلا تعقلون تقدم إعرابه. (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) حتى حرف غاية وهي متعلقة بمحذوف دل عليه الكلام كأنه قيل وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا فتراخى نصرهم حتى إذا استيئسوا من النصر ولا يلزم أن يكون الله وعدهم بالنصر في الدنيا بل كانوا يظنون ذلك ويرجونه لا عن اخبار ووحي وهذا خير ما قيل في هذه الآية التي اضطربت فيها أقوال العلماء والمفسرين والمعربين فيها اضطرابا شديدا وسياق الآية يرشد اليه وظنوا عطف على استيئسوا وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي ظنوا وكذبوا بالبناء للمجهول أي ظنت الأمم أن الرسل أخلفوا ما وعدوا به من النصر وجملة كذبوا خبر أنهم. (جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) جملة جاءهم لا محل لها لأنهم جواب إذا وجاءهم نصرنا فعل ومفعول به وفاعل والفاء عاطفة ونجي بالبناء للمجهول عطف على جاءهم ومن نائب فاعل ونشاء صلة. (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) الواو عاطفة ولا نافية ويرد بالبناء للمجهول وبأسنا نائب فاعل وعن القوم متعلقان بيرد والمجرمين صفة. (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) اللام جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق وفي قصصهم خبر مقدم وعبرة مبتدأ مؤخر ولأولي صفة لعبرة والألباب مضاف اليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 وسيرد في باب البلاغة مغزى هذه العبرة. (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) ما نافية وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر يعود على القرآن وحديثا خبرها وجملة يفترى صفة لحديثا. (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) الواو حرف عطف ولكن مخففة مهملة وتصديق عطف على حديثا وهو أولى من تقدير كان، وقد تقدم مثل هذا في سورة يونس، والذي مضاف اليه والظرف صلة وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة معطوفان على تصديق ولقوم صفة وجملة يؤمنون صفة لقوم. البلاغة: في سورة يوسف نفحة من القصص الرائع الذي استوفي شرائط القصة كما انتهت اليه أبحاث النقاد في العصر الحديث مما يؤخذ من مظانه الكثيرة وقد امتازت هذه القصة على تسلسل حوادثها وكثرة فنونها، وتنوع فصولها بالايجاز وقد ألمعنا اليه فيما تقدم ونزيده بسطا هنا فنقول: 1- تقسيم الإيجاز: يأتي الإيجاز على قسمين: 1- قسم طويل، 2- وقسم قصير. والطويل: طوله بالنسبة للقصير منه لا لغيره من الكلام كما جاءت قصص القرآن كلها وأحسن ما جاء منها في هذا الباب قصة يوسف فإنها جاءت على الطريقتين في سورة واحدة من قوله: «نحن نقض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 عليك أحسن القصص» إلى قوله: «وخروا له سجدا» وجاءت على الطريقة المختصرة في قوله على لسان يوسف: «يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي» فذكر تعالى القصة أولا على طريق البسط مفصلة لمن لم يشارك في طريق علمها وذكرها تعالى أخيرا مختصرة ليعلمها مفصلة من لم يكن يعلمها حتى إذا جاءت مجملة علم الإشارات فيها وابتدأها بقوله «نحن نقص عليك أحسن القصص» ثم أنهاها بقوله «لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب» ووجه الاعتبار بقصصهم هو أن هذه القصص انما سجلت لحصول العبرة منها ومعرفة الحكمة والمغزى. 2- اختلاف صيغة اللفظة: وفي قوله تعالى «لأولي الألباب» فن يطلق عليه القدامى الاسم الآنف الذكر وهو من البيان بمثابة القلب من الإنسان وهو يدق إلا على من صفت قرائحهم واستغزرت ملكة الفصاحة فيهم ونعني باختلاف صيغة اللفظة نقلها من هيئة الى هيئة كنقلها من وزن الى وزن آخر أو نقلها من صيغة الاسم الى صيغة الفعل أو بالعكس أو كنقلها من الماضي الى المستقبل أو بالعكس أو من الواحد الى التثنية أو الجمع أو إلى النسب إلى غير ذلك انتقل قبحها فصار حسنا وحسنها فصار قبحا وسنورد أمثلة مترتبة على نسق الترتيب الذي أوردناه فمن نقل اللفظة من صيغة الى أخرى لفظة «خود» عبارة عن المرأة الناعمة وإذا نقلت الى صيغة الفعل قيل خوّد على وزن فعّل ومعناها أسرع يقال: خوّد البعير إذا أسرع فهي على صيغة الاسم حسنة رائعة وإذا جاءت على صيغة الفعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 لم تكن مستحسنة كقول أبي تمام من قصيدة له يمدح فيها أحمد ابن عبد الكريم: وإلى بني عبد الكريم تواهقت ... رتك النعام رأى الظلام فخودا فهي ثقيلة سمجة كما ترى على أن ثقلها وسماجتها يخفان عند ما تنقل من الحقيقة الى المجاز كقول رجل من بني أسد: أقول لنفسي حين خود رألها ... رويدك لما تشفقي حين مشفق رويدك حتى تنظري عمّ ينجلي ... غيابة هذا البارق المتألق والرأل النعام والمراد به هاهنا أن نفسه فرت وفزعت وشبه ذلك باسراع النعام في فراره وفزعه ولما أورده على حكم المجاز خف عنه بعض القبح الذي على لفظة خوّد وهذا يدرك بالذوق السليم ولا ضابط له ولا يخفى ما بين هذه اللفظة في إيرادها هاهنا وإيرادها في بيت أبي تمام فانها وردت في بيت أبي تمام قبيحة سجة ووردت هنا متوسطة أما نقل الفعل من صيغة الى صيغة فمثاله لفظة «ودع» وهي فعل ماض ثلاثي لا ثقل بها وليست حروفها متنافرة ومع ذلك أحجم العرب عن استعمالها بصيغة الماضي لسماجتها فاذا نقلت الى المستقبل أو الأمر كانت حسنة فصيحة، أما الأمر فكقوله تعالى «فذرهم يخوضوا ويلعبوا» ولم تأت في القرآن إلا كذلك وأما نقلها الى صيغة المستقبل فكقول أبي الطيب المتنبي: تشقّكم بقناها كل سلهبة ... والضرب يأخذ منكم فوق ما يدع فهي هنا غاية في الفصاحة ولهذا أمات العرب ماضي يدع ويذر وقد استسمجوا قول أبي العتاهية مع حسن معناه: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 أثروا فلم يدخلوا قبورهم ... شيئا من الثروة التي جمعوا وكان ما قدموا لأنفسهم ... أعظم نفعا من الذي ودعوا أما النقل من الإفراد الى التثنية والجمع فمثاله الآية التي نحن بصددها وذلك ان لفظة «اللب» الذي هو العقل لا لفظة اللب الذي تحت القشر فانها لا تحسن في الاستعمال الا مجموعة وكذلك وردت هنا وفي أكثر من موضع من القرآن الكريم وقد تستعمل مفردة ولكن شريطة أن تكون مضافة أو مضافا إليها فأما كونها مضافة فكقول النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر النساء: «ما رأيت ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الحازم من إحداكن يا معشر النساء» واما كونها مضافا إليها فكقول جرير: إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصر عن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا وهذا أمر يكاد يذهل المبين، اسمع الى كلمة الصوف وهي مفردة تجدها سمجة في الاستعمال وقد استعملها أبو تمام فجاءت غثة وزاد في غثاثتها انها جاءت مجازية في نسبتها الى الزمان حيث يقول: كانوا برود زمانهم فتصدعوا ... فكأنما لبس الزمان الصوفا ولكنها وردت في القرآن. الكريم مجموعة فاذا هي مرقصة مطربة قال تعالى «وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا الى حين» . ولم يمنع العرب جمع المصادر إلا لهذا السبب والمدار في ذلك على الذوق السليم والجرس الموسيقي الذي لا يكتنه حسنه ولا يوصف وقد استعمل عنترة المصدر مجموعا فجاء سمجا مرذولا قال: فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإن يفقد فحق له الفقود فقوله الفقود جمع مصدر من قولك فقد يفقد فقدا، واستعمال مثل هذه اللفظة غير سائغ وهذا كله مرده الذوق السليم ويرحم الله فولتير القائل «ذوقك أستاذك» . وما دمنا قد وصلنا الى هذه المرحلة من التحليل الأدبي فلا بد لنا من أن نشير الى كتاب رائع هو «معاني القرآن للفراء» ومنهج الكتاب يقوم على الأمور التالية: ينهج الكتاب نهجا مبتكرا فهو يتعرض لآيات كل سورة بالترتيب فلا يقتصر على الغريب بل يتجاوزه الى إيضاح الجانب النحوي والاعراب في الآية وينتهي الى النظرية العامة فيبين قواعدها وأصولها وأدلتها وأسبابها ومسبباتها ثم يتكلم عن التشبيه والمثل والكناية والمجاز بصورة عامة ثم يتناول الاستعارة أحد قسمي المجاز والالتفات، على أن الجديد كل الجدة في كتاب الفراء انه لا حظ النسق الصوتي، والترابط بين الكلمات وانسجام النغم وتوافق الفواصل في آخر الآيات فيجيز حذف أواخر الكلمات موافقة لرؤوس الآيات مع موافقة ذلك لكلام العرب مثل قوله عز وجل: «والليل إذا يسر» وقد قرأ القراء يسري بإثبات الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 الياء ويسر بحذفها وحذفها أحب إليّ لمشاكلتها لرؤوس الآيات والعرب قد تحذف الياء وتكتفي بكسر ما قبلها أنشدني: كفاك كف ما تليق درهما ... جودا وأخرى تعط بالسيف الدما وأنشدني الآخر: ليس يخفي يسارتي قدر يوم ... ولقد يخف شيمتي إعساري وقوله «بطغواها» أراد بطغيانها إلا أن الطغوى أشكل برؤوس الآيات فاختير لذلك، ألا ترى أنه قال: «وآخر دعواهم أن الحمد لله» ومعناه آخر دعائهم وكذلك «دعواهم فيها سبحانك اللهم» دعواهم فيها هذا، «وما قلى» يريد ما قلاك فألقيت الكاف كما تقول: قد أعطيتك وأحسنت، معناه وأحسنت إليك فيكتفى بالياء الاولى من إعادة الأخرى ولأن رؤوس الآيات بالياء فاجتمع ذلك فيه» الى أن يقول الفراء: لله وقوله عز وجل فأغنى فآوى يريد به فأغناك وآواك جرى على طرح الياء لمشاكلة رؤوس الآيات» . ويجيز الفراء في كتابه الممتع «معاني القرآن» إضافة المصدر الى صاحبه مثل ما في قوله تعالى «إذا زلزلت الأرض زلزالها» قال: «فأضيف المصدر الى صاحبه وأنت قائل في الكلام: لأعطينك عطيتك وأنت تريد عطية وكان قربه من الجواز موافقة رءوس الآيات التي جاء بعدها» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 وعلى هذا النحو وضع الفراء أمامنا قواعد عامة للتغييرات التي يمكن أن تطرا على الكلمات والتي قد يعمد إليها القرآن أحيانا للتوافق الموسيقي في نظمه، وصلة تلك التغييرات بما يطرأ على القافية في الشعر لإقامة الوزن ولا يفتأ الفراء يشير الى أن القرآن في عدوله عن لفظ الى آخر أو تعديله الألفاظ لا يخرج عن أساليب العرب وفنون القول عندهم، وخاصة في الشعر وهو الكلام الموزون الذي يشابه ما في نظمه من توافق وانسجام ما يراعيه أسلوب القرآن، هذا وسيرد من كتاب الفراء في مواضع متفرقة من هذا الكتاب ما تميز به هذا السفر الجليل في مواضع متعددة من البيان. ويرى الجاحظ في كتابه «نظم القرآن» الذي ألفه للفتح بن خاقان وزير المتوكل على الله الذي لم يطبع- مع الأسف- بل فقد مع ما فقد من الكتب في محنة بغداد التي أوقعها بها هولاكو ولم تقع إلا نبذ منه مبثوثة في كتب الجاحظ المطبوعة الأخرى، يرى أن التنزيل قد أولى اللفظ عناية خاصة فاختاره بدقة ليدل على المعاني بدقة وقد يشترك لفظان في المعنى لكن أحدهما أدق من الآخر في الدلالة عليه، ولنظم القرآن براعته في تنزيل اللفظ منزلته في الموضع الذي أريد له ويمتاز بروعته أيضا في الاختيار ومراعاة الفروق بين الألفاظ فلا يأتي بالألفاظ المترادفة دالا على معنى واحد إنما للدلالة على معان مختلفة وبقدر الدقة في إصابة المعنى يكون الفرق بين ألفاظ الناس في كلامهم وألفاظ القرآن ويقول في هذا الصدد: «وقد يستخف الناس ألفاظا ويستعملونها وغيرها أحق بذلك منها ألا ترى أن الله تعالى لم يذكر في القرآن الجوع إلا في موضع العقاب أو في موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر والناس لا يذكرون السغب ويذكرون الجوع في حال القدرة والسلامة وكذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 ذكر المطر لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في مواضع الانتقام والأمة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وبين ذكر الغيث ولفظ القرآن الذي عليه نزل انه إذا ذكر الابصار لم يقل الاسماع وإذا ذكر سبع سموات لم يقل أرضين ألا ترى أنه لا تجمع الأرض على أرضين ولا السمع اسماعا، والجاري على أفواه العامة غير ذلك لا يتفقدون من الألفاظ إلا ما هو أحق بالذكر وأولى بالاستعمال وقد زعم بعض القراء انه لم يرد ذكر النكاح في القرآن إلا في موضع التزويج» . وتعرض الجاحظ لما جرى عليه نظم القرآن من نغم وموسيقى ووزن خاص رتيب مكون من وحدات مترابطة منسجمة، وكم كنا نتمنى لو بقي هذا الكتاب لنستمتع بما فيه من أبحاث ولكننا سنحاول جمع ما تفرق منه في هذا الكتاب فقد تصدى لوزن القرآن وتكلم كثيرا لينفي عنه وزن الشعر يقول في هذا الصدد «ويدخل على من طعن في قوله تعالى «تبت يدا أبي لهب وتب» وزعم انه شعر لأنه في تقدير مستفعلن مفاعلن فيقال له: اعلم انك لو اعترضت أحاديث الناس وخطبهم ورسائلهم لوجدت فيها مثل مستفعلن مستفعلن كثيرا ومستفعلن فاعلن وليس أحد في الأرض يجعل ذلك المقدار شعرا ولو أن رجلا من الباعة صاح: من يشتري باذنجان؟ لقد كان تكلم بكلام في وزن مستفعلن مفعولات وكيف يكون هذا شعرا وصاحبه لم يقصد الى الشعر؟ ومثل هذا المقدار من الوزن قد يتهيأ في جميع الكلام وإذا جاء المقدار الذي يعلم انه من نتاج الشعر والمعرفة بالاوزان والقصد إليها كان ذلك شعرا وهذا قريب والجواب فيه سهل والحمد لله» . ويرى ابن قتيبة في كتابه «مشكل القرآن» ان النغم الموسيقي والنظم والتوقيع الداخلي في الآيات هي احدى الخصائص التي يقوم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 عليها إعجاز القرآن فهو حلو النغم، رتيب الوقع، حبيب الجرس الى النفوس لا تمله الآذان لما ينساب في عباراته وخلال لفظه من الموسيقى الخافتة ولا تتعثر فيه الألسنة لسلاستها وفي هذا الصدد يقول ابن قتيبة: «وجعله متلوا على طول التلاوة ومسموعا لا تمجه الآذان، وغضا لا يخلق على كثرة الرد» . ونختم هذا المبحث، على أن نعود اليه في مكان آخر بكلمة وردت في القرآن جميلة جدا ووردت في الشعر فكانت باردة وهي كلمة يؤذي فقد قال أبو الطيب: تلذ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذ له الغرام وهذا البيت جميل شريف المعنى إلا أن لفظة يؤذي قد جاءت فيه غثة باردة بينما وردت في القرآن بالغة الروعة بادية الكمال وذلك في قوله تعالى: «فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق» ويبدو لنا أنها وردت في بيت أبي الطيب منقطعة، ألا ترى أنه قال: «تلذ له المروءة وهي تؤذي» ثم قال: «ومن يعشق يلذ له الغرام» فجاء بكلام مستأنف وهذا باب طويل المدار في سبر غوره واكتناه حسنه على الذوق السليم والطبع الرهيف. هذا ولا مندوحة عن الاشارة الى أن أكثر القصص التي وردت في القرآن الكريم من قصص الأنبياء في جهادهم لتبليغ رسالتهم ونشر دعوتهم ومقاومة خصومهم من ذوي السلطان الذين أنكروهم وحالوا بينهم وبين هداية أقوامهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 وإذا روجعت قصص القرآن الكريم مراجعة دقيقة تبيّن للناظر في مضامينها ان عبرتها الأولى دروس ينتفع بها الهداة ودعاة الإصلاح إذ كان من فرائض الإسلام الاجتماعية أن يندب من الأمة طائفة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. من تلك الدروس أن الجهلاء ينقادون للأمر والسطوة ولا ينقادون للحجة والدليل ويريدون من صاحب الدعوة كما جاء في قصة نوح أن يكون ملكا أو تكون عنده خزائن الله ويقولون له: «قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين» . ومن تلك الدروس أن أصحاب السادة في الأمة يكرهون التغيير ويتشبثون بالقديم، ويأخذون على النبي أن يتبعه أناس من غير ذوي السيادة والجاه «وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادىء الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كذبين» . ومن تلك الدروس أن الجمود على التقاليد الموروثة أكبر آفات العقل البشري لأنها تعطل تفكيره وتتركه في حكم الآلة التي تسير على نهج واحد في آثار الآباء والأجداد مع اختلاف الزمن وتبدل الأحوال. على أن في القرآن الكريم قصصا شتى من غير قصص الدعوة أو قصص الجهاد في تبليغ الرسالة ولكنها تراد كذلك لعبرتها ولا تراد لأخبارها التاريخية، ومنها قصة يوسف التي نحن بصددها فهي قصة إنسان قد تمرس من طفولته بآفات الطبائع البشرية من حسد الأخوة إلى غواية المرأة الى ظلم السجن الى تكاليف الولاية وتدبير المصالح في إبان الشدة والمجاعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 (13) سورة الرّعد مدنيّة وآياتها ثلاث وأربعون [سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 اللغة: (عَمَدٍ) بفتحتين وقد اضطربت أقوال علماء اللغة فقال بعضهم هو جمع عماد على غير قياس والقياس أن يجمع على عمد بضم العين والميم وقيل إن عمدا جمع عماد في المعنى أي انه اسم جمع لا جمع صناعي والذي في القاموس والتاج: «العمود ما يقوم عليه البيت وغيره وقضيب الحديد وجمعه أعمدة وعمد وعمد» وقال بعضهم: والعمد جمع عمود ولم يأت في كلام العرب على هذا الوزن إلا أحرف أربعة: أديم وأدم وعمود وعمد وأفيق وأفق وإهاب وأهب، وزاد الفراء خامسا: قضيم وقضم يعني الصكاك والجلود. (صِنْوانٌ) : الصنو بكسر الصاد وفتحها وضمها نخلة لها رأسان وأصلهما واحد والاثنان صنوان والجمع صنوان بكسر الصاد فيهما وفي المختار «إذا خرج نخلتان أو ثلاث من أصل واحد فكل واحدة منهن صنو والاثنتان صنوان والجمع صنوان» أي فهو معرب وفي الأساس: «شجر صنوان: من أصل واحد وكل واحد صنو ومن المجاز: هو شقيقه وصنوه قال: أتتركني وأنت أخي وصنوي ... فيا للناس للأمر العجيب وركيتان صنوان متقاربتان وتصغيره: صنيّ قالت ليلى الاخيلية: أنابغ لم تنبغ ولم تك أولا ... وكنت صنيّا بين صدّين مجهلا أي ركيا مجهولا بين جبلين، وقال بعض اللغويين: «والصنو الفرع يجمعه وفرعا آخر أصل واحد والمثل» وفي الحديث «عم الرجل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 صنو أبيه» أي مثله أو لأنهما يجمعهما أصل واحد والنخيل والنخل بمعنى واحد والواحدة نخلة قال: ألا يا نخلة من ذات عرق ... عليك ورحمة الله السلام وعبارة أبي حيان: «الصنو الفرع يجمعه وآخر أصل واحد وأصله المثل ومنه قيل للعم صنو وجمعه في لغة الحجاز صنوان بكسر الصاد كقنو وقنوان وبضمها في لغة تميم وقيس كذئب وذؤبان ويقال صنوان بفتح الصاد وهو اسم جمع لا جمع تكسير لأنه ليس من أبنيته» وقال: «ونظير هذه الكلمة قنو وقنوان ولا يوجد لهما ثالث» . (الْأُكُلِ) : بضم الكاف وسكونها وفي المصباح: الأكل بضمتين واسكان الثاني للتخفيف: المأكول. الإعراب: (المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) المر: تقدم اعرابها والقول فيها وفي أوائل السور عموما واسم الاشارة مبتدأ وآيات الكتاب خبر. (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) الواو عاطفة من عطف الجمل على الجمل والذي مبتدأ وجملة أنزل إليك صلة ومن ربك جار ومجرور متعلقان بأنزل أيضا والحق خبر الذي ولكن الواو حالية ولكن حرف استدراك ونصب وأكثر الناس اسمها وجملة لا يؤمنون خبرها. (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) الله مبتدأ والذي خبره ويجوز أن يكون صفة والخبر سيأتي وجملة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 رفع السموات صلة وبغير عمد هذا الجار والمجرور في محل نصب على الحال من السموات أي رفعها خالية من عمد وجملة ترونها فيها وجهان أولهما أن تكون مستأنفة ويكون الضمير عائدا على النون أو نصبا على الحال من السموات أي مرئية لكم ويجوز أن تكون صفة لعمد إذا كان الضمير عائدا إليها والجملة كلها مستأنفة مسوقة للشروع في ذكر دلائل العالم العلوي تمهيدا لذكر دلائل العالم السفلي. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي واستوى فعل ماض وفاعل مستتر وعلى العرش متعلقان باستوى وسخر الشمس والقمر عطف على استوى وكل مبتدأ وتقدم الكلام في تسويغ الابتداء به وجملة يجري خبر ولأجل متعلقان بيجري ومسمى صفة. (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) الجملة مستأنفة أو خبر لله على ما تقدم ويدبر الأمر فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به ويفصل الآيات عطف ولعل واسمها وبلقاء ربكم متعلقان بتوقنون وجملة توقنون خبر لعلكم. (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً) هو مبتدأ والذي خبره وجملة مدّ الأرض صلة وجعل عطف على مدّ وفيها متعلقان بجعل ورواسي مفعول به وأنهارا عطف عليه. (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) يجوز في هذا الجار والمجرور أن يتعلق بجعل بعده والتقدير وجعل فيها زوجين اثنين من كل الثمرات ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من اثنين لأنه في الأصل صفة له ويجوز أن يتم الكلام عند قوله من كل الثمرات فيتعلق بجعل الأولى والتقدير أنه جعل في الأرض كذا وكذا ومن كل الثمرات ويكون جعل الثاني مستأنفا وفيها متعلقان بجعل على كل حال وزوجين مفعول جعل واثنين صفة لزوجين. (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) الجملة مستأنفة أو حال من فاعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 الأفعال قبلها والفاعل ليغشي مستتر والليل مفعول أول والنهار مفعول ثان والمعنى يلبسه مكانه فيصير أسود مدلهما بعد ما كان أبيض منيرا والأنسب بالليل أن يكون هو الغاشي ولذلك جعلناه المفعول الأول وان كان الكلام يحتمل الثاني. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) إن وخبرها المقدم ولآيات اللام المزحلقة للتأكيد وآيات اسم ان المؤخر ولقوم صفة لآيات وجملة يتفكرون صفة لقوم. (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) الواو عاطفة وفي الأرض خبر مقدم وقطع مبتدأ مؤخر ومتجاورات صفة لقطع أي بقاع مختلفة متباينة مع كونها متجاورة. (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) وجنات عطف على قطع ومن أعناب صفة وزرع ونخيل معطوفان أيضا وصنوان صفة لنخيل وغير عطف وصنوان مضاف إليه. (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) جملة يسقى صفة لجنات وما بعدها وبماء متعلقان بيسقى وواحد صفة لماء ونفضل بعضها فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وعلى بعض متعلقان بنفضل وفي الأكل حال من بعضها أي نفضل بعضها مأكولا أو وفيه الأكل ويجوز أن يتعلق بنفضل لأنه ظرف له. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) تقدم اعراب مثيلتها قريبا. البلاغة: 1- في قوله تعالى «ثم استوى على العرش» استعارة مكنية أو تخييلية حسب تعريف الأقدمين لها فالمستعار الاستواء والمستعار منه كل جسم مستو والمستعار له الحق سبحانه ليتخيل السامع عند سماع لفظ هذه الاستعارة ملكا فرغ من ترتيب ممالكه وتشييد ملكه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 وجميع ما تحتاج اليه رعاياه وجنده من عمارة بلاده، وتدبير أحوال عباده استوى على سرير ملكه استواء عظمة فيقيس السامع ما غاب عن حسه من أمر الإلهية على ما هي متخيلة ولهذا لا يقع ذكر الاستواء على العرش إلا بعد الفراغ من خلق السموات والأرض وما بينهما وإن لم يكن ثمة سرير منصوب ولا جلوس محسوس ولا استواء على ما يدل عليه الظاهر من تعريف هيئة مخصوصة. 2- وفي قوله تعالى «بغير عمد ترونها» فن رفيع تقدم ذكره وهو نفي الشيء بايجابه أي رفع السموات خالية من العمد فالوجه انتفاء العمد والرؤية جميعا فلا رؤية ولا عمد. وقد أثارت هذه الآية في النفس موضوع غزو القمر وكيف ارتاد الإنسان الفضاء ورأى عجائب صنع الله وشهد الأرض معلقة والقمر معلقا وكذلك الكواكب والنجوم الأخرى معلقات بغير سناد يسندها ولا عمد تقوم عليها مصداقا لقول الله «بغير عمد ترونها» . [سورة الرعد (13) : الآيات 5 الى 6] وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 اللغة: (الْمَثُلاتُ) : جمع مثلة بفتح الميم وضم الثاء وفي القاموس: المثلة العقوبة وما أصاب القرون الماضية من العذاب وهي عبر يعتبر بها، وشرحها الزمخشري شرحا لطيفا فقال: المثلة لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة. وقال غيره: المثلة نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثالا يرتدع غيره به. وقال ابن الأنباري: المثلة كسمرة العقوبة التي تبقي في المعاقب شيئا بتغيير بعض خلقه من قولهم مثل فلان بفلان إذا شان خلقه بقطع أنفه وسمل عينيه وبقر بطنه. الإعراب: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) الواو استئنافية وإن شرطية وتعجب فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره أنت يا محمد والفاء رابطة وعجب خبر مقدم وقولهم مبتدأ مؤخر وجملة فعجب قولهم في محل جزم جواب الشرط الجازم. (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) هذه الجملة مقول للقول ولك أن تعربها بدلا منه والهمزة للاستفهام الانكاري وإذا ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه ومتعلق بجوابه وهو مدلول قوله أإنا لفي خلق جديد والتقدير نبعث أو نحشر واختار أبو حيان أن تكون إذا متمحضة للظرف وليس فيها معنى للشرط فالعامل فيها محذوف يفسره ما يدل عليه الجملة الثانية وتقريره أنبعث أو أنحشر، وكنا كان واسمها وترابا خبرها، أإنا الهمزة للاستفهام الانكاري وان واسمها واللام المزحلقة وفي خلق خبر إن وجديد صفة لخلق. (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) أولئك مبتدأ والذين خبره وجملة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 كفروا صلة وبربهم متعلقان بكفروا. (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) الواو عاطفة وأولئك مبتدأ والأغلال مبتدأ ثان وفي أعناقهم خبر الأغلال والمبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الاول والأغلال جمع غل وهو طوق من حديد يجعل في العنق. (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) الواو عاطفة أيضا وأولئك مبتدأ وأصحاب النار خبره وهم مبتدأ وفيها متعلقان بخالدون وخالدون خبرهم وجملة هم فيها خالدون خبر ثان لأولئك أو حال. (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) الواو عاطفة ويستعجلونك فعل وفاعل ومفعول به وبالسيئة متعلقان بيستعجلونك لأنه ظرف للاستعجال. (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) الواو للحال وقد حرف تحقيق وخلت فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف المحذوفة للالتقاء الساكنين ومن قبلهم متعلقان بخلت والمثلات فاعل خلت. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) الواو للحال أيضا وان واسمها واللام المزحلقة وذو مغفرة خبر إن وللناس جار ومجرور متعلقان بمغفرة وعلى ظلمهم حال من الناس والعامل فيها مغفرة لأنه العامل في صاحبها والمعنى ظالمين لأنفسهم ومعنى على هنا المصاحبة أي كمع. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وشديد العقاب خبرها. الفوائد: في هذه الآية فن من فنون العرب في كلامهم وهو القلب وذلك في قوله تعالى: «وأولئك الأغلال في أعناقهم» لأن الأعناق هي التي تكون في الأغلال ولا عكس ومنه قول رؤبة: ومهمه مغبرة أرجاؤه ... كأن لون أرضه سماؤه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 أي كأن لون سمائه لون أرضه فعكس التشبيه مبالغة وحذف المضاف. [سورة الرعد (13) : الآيات 7 الى 11] وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) اللغة: (الْأَرْحامُ) : جمع رحم بفتح الراء وكسر الحاء وبكسر الراء وسكون الحاء مستودع الجنين في أحشاء الحبلى وهي مؤنثة والرحم أيضا القرابة والمراد هنا الأول. (سارِبٌ) : ذاهب في سربه بالفتح أي في طريقه ووجهه يقال سرب في الأرض سروبا وفي المصباح: سرب في الأرض سروبا من باب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 قعد ذهب، وسرب الماء سروبا جرى وسرب المال سربا رعي نهارا بغير راع فهو سارب وسرب تسمة بالمصدر والسرب أيضا الطريق ومنه يقال خل سربه أي طريقه والسرب بالكسر النفس وهو واسع السرب أي رخيّ البال ويقال واسع الصدر بطيء الغضب والسرب بفتحتين بيت في الأرض لا منفذ له وهو الوكر. «معقبات» : فيها احتمالان: أحدهما أن يكون جمع معقبة بمعنى معقب والتاء للمبالغة كعلامة ونسابة، أي ملك معقب، ثم جمع هذا كعلامات ونسابات. والثاني أن يكون جمع معقبة صفة لجماعة ثم جمع هذا الوصف كجمل وجمال وجمالات وقال الزمخشري: «وقيل المعقبات الحرس والجلاوزة حول السلطان يحفظونه في توهمه، وتقديره من أمر الله أي من قضاياه ونوازله أو على التهكم به» . الإعراب: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) الواو استئنافية ويقول الذين فعل وفاعل وعدل عن الإضمار الى الموصول ذما لهم بكفرهم بآيات الله وجملة كفروا صلة ولولا حرف تحضيض بمعنى هلا وأنزل فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان بأنزل وآية نائب فاعل ومن ربه صفة لآية. (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) إنما كافة ومكفوفة وأنت مبتدأ ومنذر خبر ولكل خبر مقدم وقوم مضاف اليه وهاد مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة. (اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) الله مبتدأ وجملة يعلم خبر وفاعل يعلم مستتر تقديره هو وما تحتمل ثلاثة أوجه متساوية أحدها أن تكون موصولة في محل نصب مفعول يعلم وجملة تحمل كل أنثى صلة والعائد محذوف أي تحمله والثاني أن تكون مصدرية وهي مع مدخولها مفعول يعلم فالجملة بعدها لا محل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 لها ولا حاجة الى العائد والثالث أن تكون استفهامية إما مبتدأ وجملة تحمل خبر والجملة معلقة للعلم واما مفعول مقدم لتحمل. (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) عطف على الجملة السابقة وتسري على «ما» الأوجه المتقدمة وغاض وزاد يستعملان متعديين ولازمين ومعنى غيض الأرحام وازديادها أفاض فيه المفسرون وخلاصته أن المراد به غذاء الولد في الرحم فإذا خرج الدم نقص الغذاء فينقص الولد وإذا لم تحض يزداد الولد وينمو وقيل ما يتعلق بمدة الحمل والرجوع لمعرفة التفاصيل الى المطولات أولى. (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) كل مبتدأ وشيء مضاف اليه وعنده ظرف متعلق بمحذوف صفة لشيء أو لكل وبمقدار خبر والمراد بالعندية العلم بكمية كل شيء وكيفيته على الوجه المفصل المبين أو العلم بوقت كل شيء وحالته المعينة. (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) عالم الغيب خبر لمبتدأ محذوف أي هو والغيب مضاف اليه والشهادة عطف والكبير خبر ثان للمبتدأ المحذوف والمتعال خبر ثالث ورسمت بغير ياء لأنها رأس آية ولولا ذلك لكان الجيد إثباتها. (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) يجوز في سواء أن تكون خبرا مقدما ومنكم حال من ضميره ومن موصول مبتدأ مؤخر وهو في الأصل مصدر بمعنى مستو وقد تقدم القول فيه في البقرة ويجوز أن تكون مبتدأ ومنكم صفة ومن خبر وجملة أسر القول صلة أي أخفاه في نفسه ومن جهر به عطف على من أسر القول. (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) ومن عطف على من السابقة وهو مبتدأ ومستخف خبر والجملة الاسمية صلة وبالليل جار ومجرور متعلقان بمستخف وسارب عطف على مستخف وبالنهار متعلقان بسارب وقياس الكلام: ومن هو سارب، والسر فيه أن الموصول حذف وصلته باقية والمعنى ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار وحذف الموصول المعطوف وبقاء صلته شائع خصوصا وقد تكرر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 الموصول في الآية ثلاثا ومنه قوله تعالى: «وما أدري ما يفعل بي ولا بكم» والأصل ولا ما يفعل بكم وإلا كان حرف النفي دخيلا في غير موضعه لأن الجملة الثانية لو قدرت داخلة في صلة الأول بواسطة العاطف لم يكن للنهي موقع وانما صحب في الأول الموصول لا الصلة ومنه قول حسان: فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء أي ومن يمدحه وينصره سواء. (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) له خبر مقدم والضمير مردود على «من» كأنه قيل لمن أسر ومن جهر ومن استخفى ومن سرب معقبات، ومعقبات مبتدأ مؤخر ومن بين يديه صفة لمعقبات أو متعلقان بمعقبات نفسها ومن خلفه عطف على من بين يديه وجملة يحفظونه صفة لمعقبات أيضا ومن أمر الله متعلقان بيحفظونه وتقدّم القول في المراد بالمعقبات في باب اللغة ومعنى يحفظونه من أمر الله أي مما أمر هو به لأنهم يقدرون أن يدفعوا أمر الله قال ابن الأنباري: وفي هذا قول آخر وهو ان من بمعنى الباء أي يحفظونه بأمر الله وقيل ان من بمعنى عن أي يحفظونه عن أمر الله بمعنى من عند الله لا من عند أنفسهم كقوله: أطعمهم من جوع أي عن جوع وقيل يحفظونه من ملائكة العذاب وقيل يحفظونه من الجن واختار ابن جرير ان المعقبات المواكب بين أيدي الأمراء على معنى أن ذلك لا يدفع عنه القضاء. وعبارة الفراء: «في هذا قولان أحدهما أنه على التقديم والتأخير تقديره: له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه والثاني ان كون الحفظة يحفظونه هو مما أمر الله به» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) إن واسمها وجملة لا يغير خبرها وفاعل يغير عائد على الله وما موصول مفعول يغير وبقوم صلة وحتى حرف غاية وجر ويغيروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى وما مفعول به وبأنفسهم صلة. (وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) الواو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه وجملة أراد الله مضاف إليها وبقوم متعلقان بأراد والفاء رابطة ولا نافية للجنس ومرد اسمها وله خبرها. (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) الواو عاطفة وما نافية ولهم خبر مقدم ومن دونه حال ومن زائدة ووال مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه مبتدأ مؤخر. البلاغة: 1- الطباق في قوله «الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد» أي ما تنقص وتزيد. 2- المبالغة أو الافراط في الصفة على اختلاف في التسمية والأولى لقدامة والثانية لابن المعتز والناس على تسمية قدامة وعرفها قدامة فقال: هي أن يذكر المتكلم حالا لو وقف عندها لأجزأت فلا يقف عندها حتى يزيد في معنى كلامه ما يكون أبلغ في معنى قصده وهي أقسام عديدة نوردها مختصرة فيما يلي: آ- المبالغة في الصفة المعدولة عن الجارية بمعنى المبالغة وقد جاءت على ستة أمثلة: فعلان كرحمن عدل عن راحم للمبالغة، كما تقدم في البسملة، ولا يوصف به إلا الله تعالى ولم تنعت العرب به أحدا في جاهلية ولا إسلام إلا مسيلمة الكذاب نعتوه به فقال شاعرهم: سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا ... فأنت غيث الورى لا زلت رحمانا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 فأما الرحمن فلم يوصف به إلا الله. وفعال كقوله تعالى: «وإني لغفار لمن تاب» . وفعول كغفور وشكور وودود. وفعيل كعليم وحكيم وسميع. ومفعل كمدعس كمنبر الرمح يدعس به أي يطعن كما في تاج العروس. ومفعال كمطعام ومقدام. ب- ما جاء بالصيغة العامة موضع الخاصة كقولك أتاني الناس كلهم ولم يكن أتاك إلا واحد منهم أردت تعظيمه ومنه قوله تعالى: «إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب» فوعدهم سبحانه بجزاء غير مقدر لاخراج العبارة مخرجا عاما لتردد الأذهان في مقدار الثواب. ج- إخراج الكلام مخرج الاخبار عن الأعظم الأكبر للمبالغة كقوله تعالى: «وجاء ربك والملك صفا صفا» فجعل مجيء آياته مجيئا له سبحانه. د- إخراج الممكن من الشرط الى الممتنع ليمتنع وقوع المشروط كقوله تعالى في سورة الأعراف وقد تقدم: «ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط» . هـ- ما جرى مجرى الحقيقة وقد كان مجازا كقوله تعالى: «يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار» فإن اقتران هذه الجملة بيكاد يصرفها الى الحقيقة فانقلبت من الامتناع الى الإمكان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 وهذه مبالغة ظاهرة في جميع هذه الاقسام على أن هناك مبالغة مدمجة وهي قوله تعالى في الآية التي نحن بصددها وهي «سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار» فإن مبالغة هذه الآية جاءت مدمجة في المقابلة. وسيأتي مزيد من المبالغة وأقسامها في مواضع متفرقة من هذا الكتاب. الفوائد: يكاد المفسرون يجمعون على أن هذه الآية تدل على أنه إذا عاش قوم في نعمة فإن الله لا يغيرها عنهم إلا إذا عصوا ربهم وظلم بعضهم بعضا ولازم هذا التفسير أن النعمة تدوم وتزداد بالشكر والطاعة وانها تزول بالجحود والطغيان وكان وما زال في النفس شيء من هذا التفسير لأمور: أولها: اننا نرى المحتكرين والمستثمرين كلما نشطوا في الطغيان والسلب والنهب كثرت أموالهم وربت. وثانيها: ان هذا التفسير يتنافى مع قول الله تعالى في الآية الثالثة والثلاثين من سورة الزخرف «ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون، وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين» إذن فالسعة في الرزق لا تدل على رضا الله كما أن الضيق لا يشعر بغضبه لأنه لا يجزي الشاكرين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 بالذهب والفضة ولا يعاقب العاصين بالحرمان منهما بل الأمر بالعكس فقد جاء في القرآن الكريم أن الله يعاقب الجاحدين بكثرة الأموال «فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون» . وثالثها: انه متناف مع ما هو مأثور ومتعالم من أن المؤمن مبتلى وممتحن. ولعل خير تفسير تتحمله الآية هو أن يقال: ان المرء الذي يثور أولا على نفسه فيصلحها إنما هو المصلح الحقيقي وعلى ما ورث من تقاليد ونظم ربما كانت فاسدة أو على ما أفسده الزمان فيصلحه هو الذي يصح أن يكون معنيا بهذه الآية التي تكمن فيها روح الشجاعة والثورة على فساد العادات والتقاليد وفساد العقائد والمبادئ وعلى الفقر والجهل وعلى الاستعمار والاقطاع، كما تكمن فيها روح الثورة على الذين يبنون قصورا من عرق الكادحين ويعدون سيارات من دموع المنكوبين. [سورة الرعد (13) : الآيات 12 الى 14] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 اللغة: (السَّحابَ) : الغيم المنسحب في الهواء والسحاب اسم جنس واحده سحابة فلذلك وصف بالجمع وهو الثقال جمع ثقيلة، ويفهم من كلام صاحب القاموس انه جمع سحابة قال: والسحابة: الغيم والجمع سحاب وسحائب وسحب. (الْمِحالِ) : المماحلة وهي شدة المماكرة والمكايدة ومنه تحمل لكذا إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه ومحل بفلان إذا كاده وسعى به الى السلطان ومنه الحديث «ولا تجعله علينا ماحلا مصدقا» وقال الأعشى: فرع نبع يهشّ في غصن المجد غزير الندى شديد المحال ولعل أصله المحل بمعنى القحط وقيل: فعال من المحل بمعنى القوة فالميم أصلية وقيل أصله مفعل من الحول أو الحيلة أعل على غير قياس وفي القاموس: «والمحال ككتاب الكيد وروم الأمر بالحيل والتدبير والقدرة والجدال والعذاب والعقاب والعداوة والمعاداة كالمماحلة والقوة والشدة والهلاك والإهلاك، ومحل به مثلث الحاء محلا ومحالا كاده بسعاية الى السلطان وماحله مماحلة ومحالا قاواه حتى يتبين أيهما أشد» وفي الأساس: وماحله كايده، وهو شديد المحال ورجل متماحل فاحش الطول وبلد متماحل: بعيد، قال يصف فرسا: من المسبطرّات الجياد طمرّة ... لجوج هواها السبسب المتماحل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 وقال آخر يصف بعيرا: بعيد من الحادي إذا ما ترقّصت ... بنات الصّوى في السبسب المتماحل قال الزجاج يقال: ما حلته محالا: إذا قاويته حتى يتبين أيكما أشد، وقال ابن قتيبة: أي شديد الكيد وأصله من الحيلة جعل الميم كميم المكان وأصله من الكون قال الأزهري: غلط ابن قتيبة ان الميم فيه زائدة بل هي أصلية وإذا رأيت الحرف على مثال فعال أوله ميم مكسور فهي أصلية مثل مهاد وملاك ومراس. الإعراب: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) هو مبتدأ والذي خبره ويريكم البرق فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعولاه والجملة صلة وخوفا وطمعا اختلف في نصبهما فقيل على المصدرية أي لتخافوا خوفا ولتطمعوا طمعا وقيل هما حالان من الكاف في يريكم أي حال كونكم خائفين وطامعين ويجوز أن يكونا مفعولا لهما واختاره أبو البقاء ومنعه الزمخشري ونص عبارته: «لا يصح أن يكونا مفعولا لهما لأنهما ليسا بفعل فاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف المضاف أي إرادة خوف وطمع أو على معنى إخافة وإطماعا ويجوز أن يكونا منتصبين على الحال من البرق كأنه في نفسه خوف وطمع أو على ذا خوف وذا طمع أو من المخاطبين أي خائفين وطامعين ومعنى الخوف والطمع أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 وقوع الصواعق يخاف عند لمع البرق ويطمع في الغيث قال أبو الطيب: فتى كالسحاب الجون تخشى وترتجى ... يرجّى الحيا منها وتخشى الصواعق على أن منع الزمخشري فيه تعسف ويمكن أن يكونا مفعولا لهما على أن المفعول له في مثل هذا الفعل فاعل في المعنى لأنه إذا أراهم فقد رأوا والأصل: وهو الذي يريكم البرق فترونه خوفا وطمعا أي ترقبونه وتتراءونه تارة لأجل الخوف وتارة لأجل الطمع. وينشىء السحاب عطف والسحاب مفعول به والثقال صفة للسحاب. (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) عطف على ما تقدم ويسبح الرعد فعل مضارع وفاعل وبحمده في موضع نصب على الحال وفي هذه الباء خلاف ترى بحثا عنه في باب الفوائد، والملائكة عطف على الرعد أي ويسبح الملائكة من هيبته وإجلاله فهو متعلق بيسبح ولك أن تنصبه على الحال أي هائبين وخائفين. (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) ويرسل الصواعق عطف على ما تقدم فيصيب عطف أيضا وبها متعلقان بيصيب ومن مفعول به ليصيب وجملة يشاء صلة. (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) الواو استئنافية أو حالية وهم مبتدأ وجملة يجادلون خبر وفي الله متعلقان بيجادلون والواو حالية وهو مبتدأ وشديد المحال خبره والجملة حالية. (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) له خبر مقدم ودعوة الحق مبتدأ مؤخر وهي من اضافة الموصوف الى صفته أي لدعوة الحق المطابقة للواقع. (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) والذين مبتدأ وجملة يدعون صلة والضمير في يدعون عائد على الكفار والعائد على الذين محذوف أي يدعونهم ويؤيده قراءة من قرأ تدعون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 بالتاء في تدعون وقيل الذين أي الكفار الذين يدعون ومفعول يدعون محذوف أي يدعون الأصنام والعائد على الذين الواو في يدعون والواو في ولا يستجيبون عائد في هذا القول على مفعول يدعون المحذوف وعلى القول الأول على الذين، ومن دونه حال وجملة لا يستجيبون خبر ولهم متعلقان بيستجيبون وكذلك بشيء. (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ) إلا أداة حصر وكباسط متعلق بمحذوف نعت لمصدر محذوف أي إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه وكفيه مضاف لباسط والى الماء جار ومجرور متعلقان بباسط وليبلغ اللام للتعليل ويبلغ مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بباسط وفاه مفعول به وعلامة نصبه الألف لأنه من الأسماء الخمسة وفاعل يبلغ ضمير الماء والواو حالية وما نافية حجازية وهو اسمها واختلف في هذا الضمير فقيل انه ضمير الماء والهاء في ببالغه للفم وقيل انه ضمير الفم والهاء في ببالغه للماء وقيل انه ضمير لباسط والهاء في ببالغه للماء، وببالغه الباء حرف جر زائد وبالغه مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما. (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) الواو حالية أو استئنافية وما نافية ودعاء الكافرين مبتدأ وإلا أداة حصر وفي ضلال خبر. البلاغة: 1- في قوله تعالى «هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا» فن رائع من فنون البلاغة وهو «صحة الاقسام» ويمكن تحديده بأنه عبارة عن استيفاء المعنى من جميع اقسامه ووجوهه بحيث لا يغادر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 المتكلم منها شيئا، ففي الآية المذكورة استوفي قسمي رؤية البرق إذ لبس فيها إلا الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار كما ألمعنا في الاعراب ولا ثالث لهذين القسمين ولكن مجرد استيفاء الأقسام لا يعتبر بيانا بل هناك أمر أبعد من ذلك وأدق وأبعد منالا وهذا الأمر هو تقديم ما هو أولى بالذكر وأجدر بالتقديم وفي الآية قدم الخوف على الطمع إذ كانت الصواعق يجوز وقوعها من أول برقة ولا يحصل المطر إلا بعد تواتر الا براق لأن تواتره لا يكاد يخلف ولهذا كانت العرب تعد سبعين برقة وتنتجع فلا تخطىء الغيث والكلأ وقد رمق أبو الطيب سماء هذه البلاغة العالية فقال: وقد أرد المياه بغير هاد ... سوى عدي لها برق الغمام يقول: لا أحتاج في ورود الماء الى دليل يدلني سوى أن أعد برق الغمام فأتبعه كعادة العرب في عدها بروق الغمام، قال ابن السكيت: «العرب إذا عدت مائة برقة لم تشك في أنها ماطرة قد سقت فتتبعها على الثقة بالمطر» وقال ابن الاعرابي في النوادر: «العرب كانوا إذا لاح البرق عدوا سبعين برقة فإذا كملت وثقوا بأنه برق ماطر فرحلوا يطلبون موضع الغيث، وأنشد عمر بن الأعور: سقى الله جيرانا حمدت جوارهم ... كراما إذا عدّوا وفوق كرام يعدون برق المزن في كل مهمه ... فما رزقهم إلا بروق غمام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 ولما كان الأمر المخوف من البرق يجوز وقوعه من أول برقة واحدة أتى ذكر الخوف في الآية مقدما أولا لكون الواحد أول العدد ولما كان الأمر المطمع من البروق إنما يقع بعد عدد من الابراق أتى ذكر الطمع تاليا لكونه لا يقع إلا في أثناء العدد وليكون الطمع ناسخا للخوف كمجيء الرخاء بعد الشدة، والفرج بعد الكربة، والمسرة بعد الحزن، فيكون ذلك أحلى موقعا في القلوب ويشهد لهذا التفسير قوله: «وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحتمه» فجاء معنى الآية على ما جاء رحمة من الله سبحانه بخلقه وبشرى لعباده. المؤاخاة بين المعاني والمؤاخاة بين المباني وحيث وصلنا الى هذا المدى من ترتيب الاقسام يجدر بنا أن نتحدث عن المؤاخاة بين المعاني والمؤاخاة بين المباني وانها سر البيان ونسمة الروح فيه وقد أخذوا على أبي الطيب قوله على أنه آية في الحسن والروعة: لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور محب أو مساءة مجرم فإن المقابلة الصحيحة بن المحب والمبغض لا بين المحب والمجرم وليس كل من أجرم إليك كان مبغضا لك. وروى أبو الفرج في الأغاني انه اجتمع نصيب والكميت وذو الرمة فأنشد الكميت: أم هل ظعائن بالعلياء رافعة ... وإن تكامل فيها الدّلّ والشنب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 فعقد نصيب واحدة فقال له الكميت: ماذا تحصي؟ قال: خطأك فإنك تباعدت في القول، أين الدل من الشنب؟ ألّا قلت كما قال دو الرمة: لمياء في شفتيها حوّة لعس ... وفي اللّثات وفي أنيابها شنب وهذا موضع دقيق- كما قلنا- يتورط فيه أرباب النظم والنثر كثيرا وهو مظنة الغلط لأنه يحتاج الى شفوف طبع وثقوب نظر وقد وقع الخطأ لأبي نواس في قوله في وصف الديك وهي أرجوزة سنوردها في باب الفوائد لملاحتها وندرتها ولأن الدواوين الموجودة بين أيدينا أوردتها خطأ قال: له اعتدال وانتصاب قدّ ... وجلده يشبه وشي البرد كأنها الهداب في الفرند ... محدودب الظهر كريم الجد فإن ذكر الظهر من جملة الخلق والجد من النسب وكان ينبغي أن يذكر مع الظهر ما يقرب منه ويؤاخيه أيضا وسيرد من أمثلة هذا الفن في كتابنا الشيء الكثير. 2- وفي قوله تعالى: «والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه الى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه» تشبيه تمثيلي رائع فقد شبه دعوة الكفار للآلهة ليستجيبوا لهم ثم صمم الآلهة وجمودها وعدم استجابتها وهذا هو المشبه المركب بمن يبسط كفيه الى الماء ليبلغ فاه وهو بعيد عنه ثم يبالغ في الدعوة ويحمله الهوس على الرجاء من الماء أن يستجيب وهو جماد لا يشعر فهذا هو المشبه به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 وقيل شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه لبشربه فبسطها ناشرا أصابعه فلم تلق كفاه منه شيئا ولم يبلغ طلبته وشربته. وقال أبو عبيدة «أي كالقابض على الماء ليس على شيء» قال والعرب تضرب المثل في الساعي فيما لا يدركه بالقابض على الماء وأنشد سيبويه: فأصبحت فيما كان بيني وبينها ... من الود مثل القابض الماء باليد وقال آخر: وإني وإياكم وشوقا إليكم ... كقابض ماء لم تطعه أنامله وقال آخر: ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض ... على الماء خانته فروج الأصابع الفوائد: 1- خلاف حول الباء: اختلف النحاة والمعربون في الباء من قوله تعالى «ويسبح الرعد بحمده» فقيل: هي للمصاحبة أو الملابسة أو باء الحال أي يسبحه حامدا له أي ينزهه عما لا يليق به ويثبت له ما يليق به، وضابط هذه الباء أن يغني عنها وعن مصحوبها الحال كما رأيت أو يحسن في موضعها «مع» وقيل هي للاستعانة أي يسبحه بما حمد به نفسه فيكون الحمد مضافا الى الفاعل أما في الأولى فهو مضاف الى المفعول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 ومن العجيب أن ابن خالويه النحوي أعربها في كتابه اعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم عند إعرابه «فسبح بحمد ربك» أعربها زائدة ولا أدري كيف استساغ ذلك ومواضع زيادة الباء معروفة وهي هنا ليست واحدة منها. سبحانك اللهم وبحمدك: قال ابن هشام في مغني اللبيب: واختلف في «سبحانك اللهم وبحمدك» فقيل جملة واحدة، وليس مراد المغني الخلاف في الباء بل في الواو «على أن الواو زائدة وقيل جملتان على أنها عاطفة ومتعلق الباء محذوف أي بحمدك سبحتك وقال الخطابي: المعنى وبمعونتك التي هي نعمة توجب علي حمدك سبحتك لا بحولي وقوتي يريد انه مما أقيم فيه المسبّب مقام السبب. 2- قصيدة أبي نواس في وصف الديك: وعدناك بإثبات أرجوزة أبي نواسس في وصف الديك وبرا بالوعد نتبتها كما رأينا وخلافا لما وردت عليه في الدواوين: أنعت ديكا من ديوك الهند ... أحسن من طاووس قطر المهدي أسجع من عادي عرين الأسد ... ترى الدجاج حوله كالجند يقعين منه خيفة للسّفد ... له سقاع كدويّ الرّعد منقاره كالمعول المحدّ ... يقهر ما ناقره بالنقد عيناه منه في القفا والخد ... ذو هامة وعنق كالورد وجلدة تشبه وشي البرد ... ظاهرها زفّ شديد الوقد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 كأنه الهدّاب في الفرند ... مضمّر الخلق عميم ا لقدّ له اعتدال وأنصاب قد ... محدودب الظهر كريم الجدّ [سورة الرعد (13) : الآيات 15 الى 18] وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 اللغة: (الغدو) جمع غدوة بضم الغين وتجمع أيضا على غدى والغداة بفتح الغين وتجمع على غدوات والغديّة وتجمع على غدايا وغديات: البكرة أو ما بين الفجر وطلوع الشمس. (الْآصالِ) جمع الأصيل وهو الوقت بين العصر والمغرب ويجمع أيضا على آصال وأصائل وأصل وأصلان. (احتمل) : أي حمل فافتعل بمعنى المجرد أو هو بمعنى المطاوع كما يفهم من عبارة الأساس: «وحملت الشيء وحملنيه غيري فاحتملته وتحملته ومن المجاز حملت إدلاله عليّ واحتملته قال: أدلّت فلم أحمل وقالت فلم أجب ... لعمر أبيها انني لظلوم (زَبَداً) : الزبد وضر الغليان والوضر بفتحتين وبالضاد المعجمة وسخ الدسم ونحوه وعبارة الخازن: الزبد ما يعلو على وجه الماء عند الزيادة كالحبب وكذلك ما يعلو على القدر عند غليانها والمعنى فاحتمل السيل الذي حدث من ذلك الماء زبدا رابيا أي عاليا مرتفعا فوق الماء طافيا عليها، وفي القاموس: الزبد ما يعلو على وجه الماء ونحوه من الرغوة ومن معانيه الخبث ومنه المثل: «صرّح المخض عن الزبد» يعنون بالزبد رغوة اللبن يضرب للصدق يحصل بعد الخبر المظنون (جُفاءً) قال ابن الأنباي: الجفاء المتفرق يقال جفأت الريح السحاب أي قطعته ومزقته وقيل الجفاء ما يرمي به السيل يقال جفأت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 القدر بزبدها تجفأ من باب قطع وجفأ السيل بزبده وأجفأ وأجفل باللام وفي همزة جفاء وجهان أظهرهما أنها أصل لوجودها في تصاريف هذه المادة والثاني أنها بدل من واو وقال في الأساس: «ذهب الزبد جفاء أي مدفوعا مرميا به قد جفأه الوادي الى جنباته ويقال: جفأت القدر بزبدها، ومرّ جفاء من العسكر الى البيات أي جماعة معتزلة من معظمه وتقول سامه جفاء ونبذه جفاء إذا عزله عن صحبته» . وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤبة يقرأ جفالا قال أبو عبيدة يقال: أجفلت القدر إذا قذفت بزبدها وأجفلت الريح السحاب إذا قطعته» قال أبو حاتم: لا يقرأ بقراءة رؤبة لأنه كان يأكل الفأر. الإعراب: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) الواو استئنافية والجملة مستأنفة ومسوقة لبيان انقياد الخلائق جميعها والكائنات بأسرها للقوة الخالقة المدبرة والتصرف على مشيئته في الحركة والسكون والامتداد والزوال أو الفيء والتقلص ولله متعلقان بيسجد ومن فاعل يسجد وفي السموات والأرض صلة من وطوعا وكرها نصب على الحال أي طائعين وكارهين أو على المصدرية أي انقياد طوع وانقياد كره. (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) الواو عاطفة وظلالهم عطف على من وبالغدو والآصال متعلقان بيسجد. (قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ) قل فعل أمر وفاعله أنت والجملة بعده مقول القول ومن اسم استفهام مبتدأ ورب السموات والأرض خبر وقل فعل أمر والله خبر لمبتدأ محذوف أي هو الله أو مبتدأ والخبر محذوف أي لله رب السموات والأرض. (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 الهمزة للاستفهام الانكاري التهكمي والفاء عاطفة على محذوف كأن في الكلام تقديرا بين الهمزة والفاء تقديره قل أأقررتم بالجواب المذكور فاتخذتم، وقد تقرر هذا كثيرا، واتخذتم فعل وفاعل ومن دونه حال لأنه كان في الأصل صفة لأولياء وأولياء مفعول به وجملة لا يملكون صفة ولأنفسهم حال أو بالنفع والضر على أنهما مصدر ان ونفعا مفعول به ولا ضرا عطف عليه. (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) هل حرف استفهام بمعنى النفي أي لا يستويان ويستوي الأعمى فعل مضارع وفاعل وأم حرف عطف وهل تستوي الظلمات والنور عطف على الجملة السابقة ولك أن تجعل أم منقطعة بمعنى بل. (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) أم المنقطعة وجعلوا فعل وفاعل ولله حال لأنه كان صفة لشركاء وشركاء مفعول به أو لله مفعول به ثان لجعلوا وجملة خلقوا صفة والكاف مع مدخولها نعت لمفعول محذوف أي خلقوا خلقا مثل خلقه والفاء حرف عطف وتشابه الخلق فعل ماض وفاعل وعليهم متعلقان بتشابه. (قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) الله مبتدأ وخالق كل شيء خبر وهو مبتدأ والواحد خبر والقهار خبر ثان. (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) الجملة مستأنفة مسوقة لضرب مثل لتقدير ما تقدم وأنزل فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو أي الله تعالى ومن السماء جار ومجرور متعلقان بأنزل وماء مفعول به والفاء حرف عطف وسالت أودية فعل وفاعل وبقدرها متعلقان بسالت أو بمحذوف صفة لأودية أي بمقدار ما يملؤها وسيأتي مزيد بحث عنه في باب البلاغة. (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) الفاء عاطفة واحتمل السيل فعل ماض وفاعل وزبدا مفعول احتمل لأنه بمعنى حمل ورابيا صفة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 لزبدا أي طافيا على وجهه وعاليا عليه، ومما الواو عاطفة لتعطف مثلا آخر على المثل الأول ومما خبر مقدم وجملة يوقدون صلة وعليه متعلقان بيوقدون وفي النار حال وابتغاء حلية مفعول لأجله على الأصح وقيل مصدر بمعنى الحال أي مبتغين حلية وليس ثمة مانع من ذلك وأو حرف عطف ومتاع معطوف على حلية وزبد مبتدأ مؤخر ومثله صفة أي مثل زبد السيل وهو وضره الذي ينفيه كير الحداد. (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) كذلك نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك المذكور من الأمور الأربعة مثلين للحق ومثلين للباطل فالأولان الماء والجوهر والآخران الزبد والوضر. ويضرب الله الحق فعل مضارع ومفعول به والباطل عطف على الحق. (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) الفاء عاطفة للتفريع وأما حرف شرط وتفصيل والزبد مبتدأ والفاء رابطة وجملة يذهب خبر وجفاء حال. (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) الواو عاطفة وأما حرف شرط وتفصيل وما موصول مبتدأ وجملة ينفع الناس صلة والفاء رابطة وجملة يمكث في الأرض خبر. (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ) تقدم إعرابه. (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) اختلفت آراء المعربين في إعراب هذه الآية ونرى أن هنالك وجهين هما أولى نوردهما فالأول: للذين خبر مقدم وجملة استجابوا صلة ولربهم متعلقان باستجابوا والحسنى مبتدأ مؤخر والثاني: للذين متعلقان بيضرب في الآية السابقة والحسنى صفة لمصدر محذوف أي الاستجابة الحسنى. (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) ويتمشى على هذه الآية الاعرابان المتقدمان فلك أن تجعل الذين مبتدأ فيكون الكلام مستأنفا وخبره لو وما في حيزها، ولك أن تعطفها نسقا على الذين السابقة وجملة لم يستجيبوا صلة وله متعلقان بيستجيبوا ولو شرطية وأن وما في حيزها فاعل لفعل محذوف وقد تقدم، ولهم خبر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 ان وما اسمها وفي الأرض صلة وجميعا حال ومثله عطف ومعه ظرف متعلق بمحذوف حال أي كائنا معه، لافتدوا اللام واقعة في جواب لو وافتدوا فعل ماض والواو فاعل وبه متعلقان بافتدوا. (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) أولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم وسوء الحساب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر أولئك ومأواهم مبتدأ وجهنم خبر مأواهم وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والمهاد فاعل والمخصوص بالذم محذوف أي مهادهم أو هي. البلاغة: 1- استعارة السجود للانقياد والخضوع وهما من خصائص العقلاء للكائنات العاقلة وغير العاقلة والطوع الناشئ عن اختيار وهو الصادر عن الإنسان والكره الناشئ عن غير اختيار وهو الصادر عن الجماد ومعنى انقياد الظلال مطاوعتها لما يراد منها كطولها وقصرها وامتدادها وتقلصها. ولأبي حيان كلام لطيف نثبته فيما يلي دفعا للأوهام قال: «وكون الظلال يراد بها الأشخاص كما قال بعضهم ضعيف وأضعف منه قول ابن الأنباري: انه تعالى جعل للظلال عقولا تسجد بها وتخشع بها كما جعل للجبال أفهاما حتى خاطبت وخوطبت لأن الجبل لا يمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة وأما الظل فعرض لا يتصور قيام الحياة به» . 2- التهكم والفرق بينه وبين الهزل الذي يراد به الجد أن التهكم ظاهره جد وباطنه هزل لمجيئه على سبيل الاستهزاء والسخرية هذا على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 ما تعارفناه بيننا والهزل الذي يراد به الجد ظاهره هزل وباطنه جد وفي قوله تعالى «خلقوا كخلقه» في سياق الإنكار تهكم بهم لأن غير الله لا يخلق خلقا البتة لا بطريق المشابهة والمساواة ولا بطريق الانحطاط والقصور فقد كان يكفي في الإنكار عليهم أن الشركاء التي اتخذوها لا تخلق مطلقا ولكن جاء قوله تعالى كخلقه تهكما يزيد الإنكار تأكيدا وقد أسلفنا القول في التهكم وأوردنا أبياتا لابن الرومي وغيره فيه ونرى من المفيد أن نتحدث قليلا عن نقيضه وهو الهزل المراد به الجد وهو من يقصد المتكلم مدح شيء أو ذمه فيخرج ذلك المقصود مخرج الهزل المعجب والمجون المطرب وخير مثال عليه قول أبي نصر بن أبي الفتح كشاجم: صديق لنا من أبدع الناس في البخل ... وأفضلهم فيه وليس بذي فضل دعاني كما يدعو الصديق صديقه ... فجئت كما يأتي إلى مثله مثلي فلما جلسنا للطعام رأيته ... يرى أنه من بعض أعضائه كلّيّ ويغتاظ أحيانا ويشتم عبده ... وأعلم أن الشتم والغيظ من أجلي فأقبلت أستل الغذاء مخافة ... وألحاظ عينيه رقيب على فعلي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 أمدّ يدي سرا لأسرق لقمة ... فيلحظني شزرا فأعبث با لبقل إلى أن جنت كفي لحتفي جناية ... وذلك أن الجوع أعدمني عقلي فجرت يدي للحين رجل دجاجة ... فجرت كما جرت يدي رجلها رجلي وقدم من بعد الطعام حلاوة ... فلم أستطع منها أمر ولا أحلي وقمت لو اني كنت بيّتّ نية ... ربحت ثواب الصوم من عدم الأكل 3- المثل: تقدم القول في المثل السائر ونقول هنا إن كتاب الله الكريم طافح بالأمثال وفي قوله تعالى: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع فيمكث في الأرض» مثلان ضربهما الله للحق وأهله والباطل وحزبه فمثّل الحق وأهله بالماء الذي ينزله من السماء فتسيل به أودية الناس فتخصوصب وتخضر وتنبت وتزدهر وينتفعون بأنواع المنافع وبالجواهر التي يصوغون منها الحلي والآلات التي تضفي عليهم القوة والهيبة والجمال والبأس الشديد وإن ذلك كله ماكث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 في الأرض لا تخلق له جدة ولا تذبل منه نضارة وشبّه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنافع بزبد السيل الطافي الذي تقحمه العين وينبو عنه البصر لعدم جدواه وبالوضر الذي يطفو فوق الجوهر إذا أذيب وقد انطوت تحت هذا المثل الرائع أنواع من البلاغة نوردها باختصار: آ- تنكير الأودية لأن المطر لا يأتي إلا على طريق التناوب بين البقاع. ب- الاحتراس بقوله «بقدرها» أي بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضار وإلا فلو طما واستحال سيلا لا جتاح الأخضر واليابس ولأهلك الحرث والنسل. ج- تعريف السيل لأنه قد فهم من الفعل قبله وهو قوله تعالى: «فسالت» وهو لو ذكر لكان نكرة فلما أعيد أعيد معرفة نحو رأيت رجلا فأكرمت الرجل وهكذا تطرد القاعدة في النكرة إذا أعيدت. د- مراعاة النظير في ألفاظ الماء والسيل والزبد والربو وفي ألفاظ النار والجوهر والفلزات المعدنية والإيقاد والحلية والمتاع. هـ- اللف والنشر الموشى في قوله تعالى: «فأما الزبد فيذهب جفاء» الى آخر الآية. واعلم أن وجه المماثلة بين الزبدين في الزبد الذي يحمله السيل والزبد الذي يعلو الأجسام المنطرقة أن تراب الأرض لما خالط الماء وحمله معه صار زبدا رابيا فوقه وكذلك ما يوقد عليه في النار حتى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 يذوب من الأجسام المنطرقة فان أصله من المعادن التي تنبت في الأرض فيخالطها التراب فإذا أذيبت صار ذلك التراب الذي خالطها خبثا مرتفعا فوقها. [سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 24] أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) الإعراب: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) أفمن تقدم القول في هذا التركيب كثيرا ونعيده للفائدة فالهمزة للاستفهام الانكاري والفاء مؤخرة من تقديم أو عاطفة على محذوف هو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 مدخول الهمزة والتقدير: أيستوي المؤمن والكافر أفمن يعلم. ومن مبتدأ وجملة يعلم صلة ولك في أنما وجهان أن تجعلها كافة ومكفوفة فأنزل فعل ماض مبني للمجهول وإليك حال ومن ربك متعلقان بأنزل والحق نائب فاعل، ولك أن تفصل ما فتعرب أن حرفا مشبها للفعل وما اسمها والحق خبرها وأن وما في حيزها على الوجهين سدت مسد مفعولي يعلم والكاف اسم بمعنى مثل خبر من وهو مبتدأ وأعمى خبر والجملة الاسمية صلة من. (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) إنما كافة ومكفوفة ويتذكر فعل مضارع وأولو فاعله وهو مرفوع وعلامة رفعه الواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم والألباب مضاف اليه. (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) الذين مبتدأ وخبره سيأتي فيما بعد وهو قوله أولئك لهم عقبى الدار ولك أن تعربه بدلا من أولي الألباب تفاديا لطول الفصل بين الابتداء والخبر وجملة يوفون صلة وبعهد الله متعلقان بيوفون، ولا ينقضون الميثاق عطف على الجملة السابقة وستأتي سبع صفات أخرى لهم فتكون صفاتهم ثمانيا. (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) والذين عطف على الذين وجملة يصلون صلة وما مفعول به وجملة أمر الله صلة ومفعول أمر محذوف والتقدير ما أمرهم وبه متعلقان بأمر وأن وما في حيزها بدل من الضمير المجرور وهو الهاء أي بوصله. (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) ويخشون عطف على يصلون ويخشون فعل مضارع وفاعل وربهم مفعول به ويخافون عطف على يخشون وسوء الحساب مفعول به. (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) والذين عطف على الذين السابقة وصبروا صلة وابتغاء وجه ربهم مفعول لأجله، وقال بعضهم: «والذين صبروا» قيل هو كلام مستأنف وقيل معطوف على ما قبله والتعبير عنه بلفظ المضي للتنبيه على أنه ينبغي تحققه. (وَأَقامُوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) وأقاموا الصلاة عطف وهي فعل وفاعل ومفعول به وأنفقوا عطف على أقاموا ومما متعلقان بأنفقوا وجملة رزقناهم صلة وهي فعل وفاعل ومفعول به وسرا وعلانية منصوبان بنزع الخافض أو هما مصدران في موضع الحال واختار هذا أبو البقاء أي في السر والعلانية ويجوز نصبهما على الحال أي مسرين ومعلنين. (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) عطف على ما تقدم وبها تكتمل أوصافهم الثمانية وبالحسنة متعلقان بيدرءون والسيئة مفعول به ليدرءون. (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) أولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم وعقبى الدار مبتدأ مؤخر وجملة لهم عقبى الدار خبر أولئك والجملة كلها خبر الذين الأولى (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) جنات عدن بدل من عقبى الدار أو خبر لمبتدأ محذوف أي هي جنات أو مبتدأ وجملة يدخلونها خبر وعلى الأولين تكون الجملة حالية. ومن عطف على الواو في يدخلونها ولا حاجة لتقدير ضمير كما فعل بعض المعربين لوجود الفصل بالضمير المنصوب ولك أن تعربها مفعولا معه والواو واو المعية وجملة صلح صلة ومن آبائهم حال وما بعده عطف عليه. (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) الواو حالية والملائكة مبتدأ وجملة يدخلون خبر وعليهم متعلقان بيدخلون ومن كل باب متعلقان بيدخلون أيضا. (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) سلام مبتدأ وعليكم خبر وساغ الابتداء لما فيه من معنى الدعاء والجملة مقول قول محذوف في موضع نصب على الحال أي قائلين وبما صبرتم الباء حرف جر وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره هذا بما صبرتم أي هذا بسبب صبركم فهما خبر لمبتدأ محذوف أو متعلق بسلام أي نسلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 عليكم ونكرمكم بصبركم وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول: السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. والفاء الفصيحة ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح وعقبى الدار فاعل نعم والمخصوص بالمدح محذوف أي هي. البلاغة: في قوله تعالى «صبروا ابتغاء وجه ربهم» فن الاحتراس وقد تقدم فقد انتفى بقوله ابتغاء وجه ربهم أن يكون صبرهم ناشئا عن حب الجاه والشهرة أو ليقال ما أصبره وأحمله للنوازل وأوقره عند الزلازل لئلا يشمت به الأعداء كقول أبي ذؤيب: وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتزعزع ولا اعتقادا منهم بأن الأمر مقدور ولا مفر منه ولا طائل من الهلع ولا مرد للفائت ولا دافع لقضاء الله كقوله: ما إن جزعت ولا هلع .... ت ولا يرد بكاي زندا [سورة الرعد (13) : الآيات 25 الى 29] وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 اللغة: (طُوبى) : مصدر من الطيب كبشرى ورجعى وزلفى فالمصدر قد يجيء على وزن فعلى وأصله يائي فهي طيبى قلبت الياء واوا لوقوعها ساكنة إثر ضمة كما قلبت في موقن وموسر من اليقين واليسر ومعنى طوبى لك أصبت خير طيبا ومحلها النصب أو الرفع كقولك طيبا لك وطيب لك وسلاما لك وسلام لك وفي القاموس: الطوبى مؤنث الأطيب والغبطة والسعادة والخير والخيرة وجمع طيبة وهذا من نوادر الجموع. الإعراب: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) الذين مبتدأ وجملة ينقضون صلة والواو فاعل وعهد الله مفعول به ومن بعد ميثاقه حال. (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) تقدم إعراب نظيرتها. (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) عطف على الجمل السابقة. (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أولئك مبتدأ وخبره لهم اللعنة وقد تقدم اعراب نظيرتها وجملة أولئك لهم اللعنة خبر الذين ولهم سوء الدار عطف على لهم اللعنة. (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) الله مبتدأ وجملة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 يبسط الرزق خبر ولمن متعلقان بيبسط وجملة يشاء صلة ويقدر عطف على يشاء. (وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) الواو استئنافية وجملة فرحوا مستأنفة مسوقة لبيان قبح أفعالهم مع ما أفاضه عليهم من رزق ونعم سوابغ وبالحياة جار ومجرور متعلقان بفرحوا والدنيا صفة للحياة. (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) الواو حالية وما نافية والحياة مبتدأ والدنيا صفة وفي الآخرة حال على حذف مضاف أي في جنب الآخرة و «في» هذه للمقايسة وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لا حق والتقدير وما الحياة الدنيا كائنة في جنب الآخرة ولا يجوز أن تكون «في» للظرفية لأن الحياة الدنيا لا تكون في الآخرة وإلا أداة حصر ومتاع خبر. (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) الواو عاطفة ليتساوق الارتباط بين قولهم وما كانوا عليه من ضلال. ويقول الذين فعل مضارع وفاعل وجملة كفروا صلة ولولا حرف تحضيض بمثابة هلا وأنزل فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان بأنزل والضمير يعود على النبي محمد عليه السلام وآية نائب فاعل ومن ربه صفة. (قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) إن واسمها وجملة يضل خبرها ومن مفعول به وجملة يشاء صلة ويهدي عطف على يضل واليه متعلقان بيهدي ومن مفعول به وجملة أناب صلة. (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الذين بدل وجملة آمنوا صلة، أو الذين مبتدأ خبره الذين آمنوا والأول أولى، وتطمئن عدل عن الماضي إلى المضارع لإفادة التجدد وسيأتي مزيد بحث عنه في باب البلاغة وقلوبهم فاعل تطمئن وبذكر الله متعلقان بتطمئن والقلوب فاعل. (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) الذين مبتدأ أو خبر الذين الأولى وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على الصلة وطوبى مبتدأ ولهم خبر وساغ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 الابتداء بها لما فيها من معنى الدعاء، وقيل طوبى خبر لمبتدأ محذوف واللام في لهم للبيان مثل سقيا لك ورعيا لك أو مفعول لفعل محذوف أي أصبت خيرا طيبا وقرىء وحسن مآب بالنصب والرفع، ولك أن تعربها مفعولا مطلقا كما قدمنا على قراءة من نصب حسن لظهور حركة الاعراب عليها والأول أولى لأن الجمهور قرأ بالرفع ولأبي البقاء وهم فيها إذ أجاز اعرابها حالا مقدرة ولا أدري ما هو مبرره وحسن عطف على طوبى ومآب مضاف اليه. البلاغة: في قوله تعالى «الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم» فن رفيع من فنون البلاغة وقد سبق ذكره ونعيد الآن ما يتعلق بهذه الآية فقد عدل عن عطف الماضي على الماضي فلم يقل واطمأنت قلوبهم لسر من الأسرار يدق إلا على العارفين بأسرار هذه اللغة الشريفة ذلك أن من خصائص الفعل المضارع أنه قد لا يلاحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال وهما الزمانان اللذان يحتملهما المضارع فلا يدل إلا على مجرد الاستمرار ومنه هذه الآية أي أن المؤمنين تطمئن قلوبهم بصورة مطردة مهما تتالت المحن، وتعاقبت الأرزاء، وحدثت المفاجأة فكأنما أعدوا لكل محنة صبرا ولكل رزء اطمئنانا جديدا فتدبر هذه الملاحظة فإنها عمود الجمال وسره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 [سورة الرعد (13) : الآيات 30 الى 31] كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) اللغة: (يَيْأَسِ) قال الزمخشري: ومعنى أفلم ييئس: أفلم يعلم قيل: هي لغة قوم من النخع وقيل: إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لأن اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف والنسيان في معنى الترك قال سحيم بن وثيل الرياحي: أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ... ألم تيئسوا أني ابن فارس زهدم وفي المختار: «اليأس: القنوط وقد يئس من الشيء من باب فهم وفيه لغة أخرى يئس ييئس بالكسر فيهما وهو شاذ ويئس أيضا بمعنى علم في لغة النخع ومنه قوله تعالى: «أفلم ييئس الذين آمنوا» . (قارِعَةٌ) : داهية تقرعهم بصنوف البلاء وفي المختار قرع الباب من باب قطع والقارعة الشديدة من شدائد الدهر وهي الداهية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 الإعراب: (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) الكاف في محل نصب كنظائرها أي مثل ذلك الإرسال أرسلناك إرسالا له شأن وقد تقدمت نظائرها كثيرا وأرسلناك فعل وفاعل ومفعول به وفي أمة متعلقان بأرسلناك وجملة قد خلت صفة لأمم ومن قبلها حال لأنه كان صفة لأمم وأمم فاعل. (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) لتتلو اللام للتعليل وتتلو مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بتتلو والفاعل أنت وعليهم متعلقان بتتلو والذي مفعول به وجملة أوحينا إليك صلة. (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) الواو للحال أي وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن والجار والمجرور متعلقان بيكفرون ولا مانع من جعلها استئنافية كما قال بعضهم. (قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) هو ربي مبتدأ وخبر والجملة الاسمية مقول القول ولا إله إلا هو تقدم القول فيها مفصلا في البقرة فجدد به عهدا. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ) عليه متعلقان بتوكلت وإليه خبر مقدم ومتاب مبتدأ مؤخر. (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للرد على من طلبوا من رسول الله أن يسيّر الجبال بقرآنه عن مكة حتى تتسع لهم ويبعث لهم آباءهم ليشهدوا بنبوته. ولو شرطية وان حرف مشبه بالفعل وقرآنا اسمها وجملة سيرت خبر ان وبه متعلقان بسيرت والجبال نائب فاعل وأو حرف عطف وقطعت به الأرض معطوفة وكذلك أو كلم به الموتى وجواب لو محذوف كما تقول لمن تهدده لو أني قمت إليك وتترك الجواب والمعنى ولو أن قرآنا سيرت به الجبال عن مقارها أو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 قطعت به الأرض حتى تتصدع وتتزايل وتتهافت أو كلم به الموتى فتسمع وتجيب لما آمنوا وقدرة أبو حيان «لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ونهاية في الانذار والتخويف» وسيأتي مزيد بحث عن هذا الحذف في باب البلاغة. (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) بل حرف إضراب ولله خبر مقدم والأمر مبتدأ مؤخر وجميعا حال وهو عطف للاضراب عما تضمنته لو من معنى النفي أي بل الله قادر على الإتيان بما اقترحوه متعنتين. (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) الهمزة للاستفهام والتقرير ولم حرف نفي وقلب وجزم وييئس مضارع مجزوم بلم والذين فاعل وجملة آمنوا صلة وأن مخففة من الثقيلة لتقدم معنى العلم عليها واسمها ضمير الشأن ولو حرف شرط ويشاء فعل مضارع والله فاعل واللام رابطة وجملة هدى الناس جواب لولا محل لها وجميعا حال وجملة الشرط وجوابه خبر ان. (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) الواو عاطفة ولا يزال فعل مضارع ناقص والذين اسمها وجملة كفروا صلة وجملة تصيبهم خبر لا تزال وبما صنعوا متعلقان بتصيبهم أي بسبب صنعهم فالباء سببية وما مصدرية وقارعة فاعل تصيبهم. (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) أو حرف عطف وتحل عطف على تصيبهم والفاعل هي أي القارعة وقريبا ظرف مكان أي مكانا قريبا من دارهم ومن دارهم متعلقان بقريبا فيتطاير عليهم شرارها وتطوح بهم ويلاتها وقيل إن الفاعل لتحل يعود الى المخاطب وهو الرسول صلى الله عليه وسلم أي تحل أنت بجيشك قريبا من دارهم كما حل بالحديبية وقد أتى فتح مكة والأول أظهر وأولى. (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) حتى حرف غاية وجر ويأتي مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ووعد الله فاعل والمراد بوعده النصر المحتوم وان واسمها وجملة لا يخلف خبرها والميعاد مفعول به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 البلاغة: في قوله تعالى: ولو أن قرآنا سيرت به الجبال الى آخر الآية إيجاز عجيب فقد حذف الجواب كما تقدم، واختلف المعربون والمفسرون في تقديره وقد قدرناه في الإعراب: لما آمنوا وقد اختار الزمخشري هذا التقدير ولكنه جعله مرجوحا وقدر الأرجح بقوله «لكان هذا القرآن» لكونه غاية في التذكير ونهاية في الانذار وهو تقدير لا بأس به وإن كان الأول أقرب الى سياق الحديث وأوكد في تقرير المعنى وحذف جواب «لو» شائع في كلامهم ومن أمثلته في الشعر قول أبي تمام في قصيدته البائية التي يمدح بها المعتصم عند فتحه عمورية: لو يعلم الكفر كم من أعصر كنت ... له المنية بين السّمر والقضب فإن جواب لو محذوف تقديره لأخذ أهبته ولأعد للأمر عدته أو لما أقدم على ما أقدم عليه من اجتراء كما تدل عليه قصة المرأة الهاشمية التي سباها أحد العلوج فصرخت وا معتصماه. وعبارة ابن هشام: «ولو أن قرآنا سيرت به الجبال» الآية أي لما آمنوا به بدليل وهم يكفرون بالرحمن والنحويون يقدرون: لكان هذا القرآن وما قدرته أظهر» . أي للدليل المذكور وفيه أن ما قدروه أيضا دل عليه قوله تعالى: «لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله» فلم يتبين كون تقديره أظهره من تقديرهم واعلم أن كلّا من الوجهين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 ودليل كل واحد ذكره الزمخشري فلم يقدر المصنف شيئا انفرد به عن غيره خلافا لما يشعر به قوله: وما قدرته أظهر. هذا وقد أطلق الباقلاني على هذه الآية فن الاشارة وعرفه «بأنه اشتمال اللفظ القليل على المعاني الكثيرة وقال بعضهم في وصف البلاغة «لمحة دالة» وهو بعينه تعريف الإيجاز. [سورة الرعد (13) : الآيات 32 الى 34] وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34) اللغة: (فَأَمْلَيْتُ) : الاملاء أن يترك مدة طويلة من الزمن في دعة وأمن وفي القاموس وشرحه: «أملي إملاء الله فلانا أطال عمره: أطاله ومتعه به وأملى الله الظالم وله أمهله» وقال: والاملاء مصدر والامهال والتأخير وما يملى من الأقوال والمليّ الطويل من الزمان يقال: انتظرته مليا أي زمنا طويلا ومر مليّ من الليل وهو ما بين أوله إلى ثلثه وقيل هو قطعة منه لم تحد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 (أَشَقُّ) أشد منه اسم تفضيل من شق يشق من باب نصر مشقة وشقّ الأمر: اشتد وصعب. الإعراب: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) الواو عاطفة ليتساوق الكلام وللتمهيد الى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق واستهزىء فعل ماض مبني للمجهول وبرسل سد مسد نائب الفاعل ومن قبلك صفة لرسل. (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) الفاء للعطف وأمليت فعل وفاعل وللذين متعلقان بأمليت وجملة كفروا صلة وثم حرف عطف وأخذتهم فعل وفاعل ومفعول به، فكيف: الفاء عاطفة وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر لكان مقدم وكان فعل ماض ناقص وعقابي اسمها وحذفت الياء لمراعاة الفواصل. (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) الهمزة للاستفهام الانكاري وجوابه محذوف تقديره لا كما سيأتي والفاء عاطفة على محذوف وقد تقدم تقديره ومن اسم موصول مبتدأ وهو مبتدأ ثان وقائم خبر المبتدأ الثاني والجملة الاسمية صلة الموصول وعلى كل متعلقان بقائم والباء حرف جر بمعنى مع وما موصول مجرور بالباء أو مصدرية وهي مع مدخولها مجرورة بالباء والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال وخبر من محذوف تقديره كمن ليس كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع وقد دل عليه قوله فيما بعد: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) وجواب الاستفهام «لا» كما قدرناه. (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) الواو للاستئناف والجملة مستأنفة مسوقة للدلالة على خبر من المحذوف كما تقدم وهذا أحسن الأقوال فيها وجعلها أبو البقاء عاطفة وجعلها غيره حالية، وجعلوا فعل وفاعل ولله متعلقان بمحذوف مفعول ثان أو بمحذوف حال وشركاء مفعول جعلوا الأول إن كانت جعل بمعنى صيّر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 (قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) سموهم فعل أمر للتعجيز وهو فعل وفاعل ومفعول به وأم هي المنقطعة وتنبئونه فعل مضارع حذفت منه همزة الاستفهام والتقدير أتنبئونه وهو فعل وفاعل ومفعول به وبما متعلقان بتنبئونه وجملة لا يعلم صلة ومفعول يعلم محذوف أي يعلمه وفي الأرض حال والمراد نفي أن يكون له شركاء كما سيأتي في باب البلاغة وإلا لتناولهم علمه. (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أم المنقطعة أيضا وهي بمعنى بل وبظاهر متعلقان بتنبئونه أي من غير حقيقة واعتبار معنى ومن القول صفة لظاهر. (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) بل حرف إضراب وعطف وزين فعل ماضي مبني للمجهول وللذين متعلقان بزين وكفروا صلة ومكرهم نائب فاعل. (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) الواو عاطفة وصدوا فعل وفاعل وعن السبيل متعلقان بصدوا ومن الواو استئنافية ومن شرطية في محل نصب مفعول به مقدم ليضلل ويضلل فعل الشرط والله فاعل، فما: الفاء رابطة لجواب الشرط وما نافية حجازية وله خبرها المقدم ومن حرف جر زائد وهاد اسم ما محلا مجرور بما لفظا. (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) لهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وفي الحياة صفة لعذاب والدنيا صفة للحياة. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ) الواو عاطفة أو حالية واللام للابتداء والآخرة مضاف اليه وأشق خبر عذاب وما لهم من الله من واق تقدم اعرابها. البلاغة: انطوت الآية الكريمة وهي قوله تعالى: «أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ... » الى آخر الآية على فنون عديدة من البلاغة لأنها وردت في معرض الاحتجاج عليهم في اشراكهم بالله ندرجها فيما يلي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 1- الاستفهام الانكاري في قوله تعالى أفمن وحذف خبره تصريحا في التوبيخ والزراية عليهم على القياس الفاسد لفقد الجهة الجامعة لهما وهذا ما يسميه علماء البيان: الإضمار على شريطة التفسير وهو أن يحذف من صدر الكلام ما يؤتى به في آخره فيكون الآخر دليلا على الأول وهو على ثلاثة أضرب: آ- أن يأتي عن طريق الاستفهام فتذكر الجملة الأولى دون الثانية كالآية التي نحن بصددها وكقوله تعالى أيضا: «أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين» تقدير الآية أفمن شرح الله صدره للاسلام كمن أقسى قلبه ويدل على المحذوف قوله «فويل للقاسية قلوبهم» . ب- أن يرد على حد النفي والإثبات كقوله «لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا» تقديره لا يستوي منكم من أنفق قبل الفتح وقاتل ومن أنفق من بعده وقاتل. ج- أن يرد على غير هذين الوجهين فلا يكون استفهاما ولا نفيا واثباتا كقول أبي تمام: يتجنب الآثام ثم يخافها ... فكأنما حسناته آثام ففي صدر البيت إضمار مفسر في عجزه وتقديره انه يتجنب الآثام فيكون قد أتى بحسنة ثم يخاف تلك الحسنة فكأنما حسناته آثام والبيت بعد مأخوذ بطرف خفي من قوله تعالى: «والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة» . 2- وضع المظهر موضع المضمر للتنبيه على أنهم جعلوا شركاء لمن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 هو فرد واحد لا يشاركه أحد في اسمه وذلك في قوله «وجعلوا لله شركاء» . 3- التعجيز في قوله «قل سموهم» أي عيّنوا أسماءهم فقولوا فلان وفلان فهو إنكار لوجودها على وجه برهاني كما تقول: إن كان الذي تدعيه موجودا فسمّه لأن المراد بالاسم العلم. 4- نفي الشيء بايجابه أو عكس الظاهر وقد تقدم بحث هذا الفن وهو من متطرفات علم البيان وهو في قوله تعالى «أم تنبئونه بما لا يعلم» وحقيقة هذا النفي أنهم ليسوا بشركاء وان الله لا يعلمهم كذلك لأنهم- في الواقع- ليسوا كذلك وإن كانت لهم ذوات ثابتة يعلمها الله إلا أنها مربوبة حادثة لا آلهة. معبودة ولكن مجيء النفي على هذه السنن المتلو بديع لا تكاد تكتنه بلاغته وعبارته ومن طريفه قول علي بن أبي طالب في وصف مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تثنى فلتاته» أي لا تذاع سقطاته فظاهر هذا اللفظ انه كان ثم فلتات غير أنها لا تذاع وليس المراد ذلك بل المراد أنه لم يكن ثم فلتات فتثنى. 5- الاستدارج بقوله «أم بظاهر من القول» ليحثهم على التفكير دون القول المجرد من الفكر كقوله في مكان آخر: «ذلك قولهم بأفواههم» ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها» وهذا الاحتجاج من أعجب الأساليب وأقواها. 6- التدرج في كل من الإضرابات بأم المنقطعة وب «بل» على أنطف وجه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 [سورة الرعد (13) : الآيات 35 الى 37] مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) الإعراب: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) مثل الجنة مبتدأ وخبره محذوف على مذهب سيبويه أي فيما قصصناه عليكم مثل الجنة أي صفتها التي هي مثل في الغرابة وقد تقدمت مقتطفات من كلام سيبويه في مثل هذا التركيب وقال الزجاج معناه مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار على حذف الموصوف تمثيلا لما غاب عنا بما نشاهد. والتي صفة للجنة ووعد المتقون فعل ماض مبني للمجهول ونائب فاعل وجملة تجري من تحتها الأنهار تفسير للمحذوف على رأي سيبويه فهي نصب على الحال وكذلك جملة أكلها دائم، وأكلها مبتدأ ودائم خبر وظلها مبتدأ حذف خبره دل عليه ما قبله أي دائم وتلك مبتدأ وعقبى خبر والذين مضاف اليه وجملة اتقوا صلة. (وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) عقبى مبتدأ والنار خبر أو بالعكس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 لمناسبة الاول ولعله أولى. (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) والذين مبتدأ وجملة آتيناهم صلة والكتاب مفعول آتيناهم الثاني وجملة يفرحون خبر الذين وبما متعلقان بيفرحون وجملة أنزل إليك صلة وسر الفرح موافقته لما ورد عندهم. (وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) الواو عاطفة ومن الأحزاب خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة ينكر صلة وبعضه مفعول به وسيرد في باب الفوائد كتاب الصلح يوم الحديبية. (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ) إنما كافة ومكفوفة وأمرت فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي بأن أعبد الله والجار والمجرور متعلقان بأمرت. (وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ) ولا أشرك عطف على أن أعبد وبه متعلقان بأشرك واليه متعلقان بأدعو وإليه الثانية خبر مقدم ومآب مبتدأ مؤخر وعلامة رفعه الضمة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة لمراعاة الفواصل أي واليه مآبي أي مرجعي. (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) الكاف في موضع نصب صفة لمصدر محذوف أي ومثل ذلك الإنزال أنزلناه، وأنزلناه فعل وفاعل ومفعول به وحكما عربيا حالان أي حاكما بين الناس عربيا أي بلغة العرب ولما كان القرآن سببا للحكم جعل نفس الحكم وقد تقدمت له نظائر. (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) اللام موطئة لتقسم وان شرطية واتبعت فعل وفاعل وهو في محل جزم فعل الشرط وأهواءهم مفعول به وبعد ظرف متعلق باتبعت وما موصول مضاف اليه وجملة جاءك صلة ومن العلم حال. (ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ) ما نافية حجازية أو تميمية ولك خبر مقدم ومن الله حال لأنه كان في الأصل صفة ومن زائدة وولي اسم ما أو مبتدأ ولا واق عطف عليه وجملة مالك لا محل لها لأنها جواب القسم ولذلك لم تقترن بالفاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم وفقا للقاعدة في اجتماع الشرط والقسم. الفوائد: لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصلح يوم الحديبية كتب فيه بسم الله الرّحمن الرّحيم قالوا: ما نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب فأنزل الله تعالى «وهم يكفرون بالرحمن قل: هو ربي» وانما قال: «ومن الأحزاب من ينكر بعضه» لأنهم كانوا لا ينكرون الله وينكرون الرحمن وقيل لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني مما هو ثابت في كتبهم وكانوا ينكرون نعت رسول الله وغير ذلك. [سورة الرعد (13) : الآيات 38 الى 43] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 اللغة: (أُمُّ الْكِتابِ) : أصله الذي يرتد إليه فكل كائن مكتوب فيه والأم أصل الشيء والعرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أمّا له ومنه أم الرأس للدماغ وأم القرى لمكة. (مُعَقِّبَ) : المعقب في الأصل هو الذي يتعقب الشيء بالابطال ومنه قيل الحق معقب لأنه يتعقب غريمه بالطلب والمعقب هو الذي يكر على الشيء فيبطله. الإعراب: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ) الواو للاستئناف والجملة مستأنفة مسوقة لابطال الشبهات التي كانوا يوردونها لابطال النبوة وقد أنهاها المفسرون إلى ست شبهات ويمكن الرجوع إليها في المطولات واللام مواطئة للقسم وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل ورسلا مفعول به ومن قبلك متعلقان بأرسلنا. (وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) وجعلنا فعل وفاعل ولهم في موضع المفعول الثاني وأزواجا هو المفعول الأول وذرية عطف على أزواجا وهذا إبطال للشبهة الأولى من شبهاتهم وهي قولهم: لو كان رسولا من عند الله لما اشتغل بالنسوة ولما انهمك في تعدد الزوجات ولا نصرف الى النسك والزهادة فأجاب بأن الرسل الذين سبقوك كانت لهم زوجات كثيرة فلم يقدح ذلك في نبوتهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) الواو عاطفة وكان فعل ماض ناقص ولرسول خبر كان المقدم وأن وما في حيزها اسمها المؤخر وبآية جار ومجرور متعلقان بيأتي وإلا أداة حصر وبإذن الله استثناء من أعم الأحوال فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال. (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) لكل خبر مقدم وأجل مضاف اليه وكتاب مبتدأ مؤخر. (يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) يمحو الله فعل مضارع وفاعل وما مفعول به وجملة يشاء صلة ويثبت عطف على يمحو وعنده الظرف خبر مقدم وأم مبتدأ مؤخر والكتاب مضاف وهذا رد على شبهة ثانية كانوا يوردونها تعطيلا وإرجافا وهي أن محمدا يأمر أصحابه اليوم بأمر كاستقبال بيت المقدس ثم يأمرهم في الغد بخلافه كاستقبال الكعبة فرد عليهم مفندا شبهتهم بأنه سبحانه إنما شرع الشرائع كلها لإصلاح أحوالهم ورأب صدوعهم واختيار الأنفع لهم ولكنهم معطلة لا يأبهون لصلاح أمورهم ومقتضيات أحوالهم. (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) الواو عاطفة وإن الشرطية أدغمت بما الزائدة ونرينك فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم فعل الشرط والفاعل مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به وبعض مفعول به ثان والذي مضاف اليه وجملة نعدهم صلة الذي وأو حرف عطف ونتوفينك عطف على نرينك ويقدر المعربون جواب الشرط محذوفا أي فذلك شافيك ودليل صدقك ويعربون الفاء في قوله فإنما للتعليل لهذا المحذوف ولا داعي لهذا التكلف بل الأسهل أن يكون قوله فانما هو الجواب وتقدير الكلام ومهما يكن من أمر وكيفما دارت الأحوال وإن أريناك مصارعهم وأنزلنا بهم ما أوعدناهم به من عذاب أو توفيناك قبل أن ترى شيئا من ذلك فما يترتب عليك وليس قصاراك إلا تبليغ الرسالة فحسب. وإنما كافة ومكفوفة وعليك خبر مقدم والبلاغ مبتدأ مؤخر وعلينا خبر مقدم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 والحساب مبتدأ مؤخر. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على محذوف- كما تقدم- تقديره أأنكروا نزول ما أوعدناهم وشكوا في ذلك وامتروا فيه ألم ينظروا في ذلك؟ ألم يروا؟ ألم تكن لهم في تلك المشاهد الكافية والدلائل الوافية عبرة لهم؟ ولم حرف نفي وقلب وجزم وأن واسمها سدت مسد مفعولي يروا وجملة نأتي خبر أن وفاعل نأتي مستتر تقديره نحن والأرض مفعول به وجملة ننقصها من أطرافها حالية من فاعل نأتي أو من مفعوله أي نفتحها أرضا بعد أرض بما ينقص من أطراف المشركين ويزيد في أطراف المؤمنين. (وَاللَّهُ يَحْكُمُ) لفظ الجلالة مبتدأ وجملة يحكم خبر. (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لا نافية للجنس ومعقب اسمها المبني على الفتح ولحكمه خبر لا وهو الواو عاطفة وهو مبتدأ وسريع الحساب خبر هو وجملة لا معقب لحكمه حال أيضا من فاعل نأتي على الالتفات كأنه قيل والله يحكم نافذا حكمه وستأتي الفائدة من الالتفات في باب البلاغة. (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) الواو استئنافية وقد حرف تحقيق وجملة مكر الذين من قبلهم استئنافية مسوقة لتسليته صلى الله عليه وسلم وقد مر بحث اسناد المكر الى الله كثيرا فعرج عليه، فلله المكر الفاء عاطفة على محذوف بمثابة التعليل أي فلا تأبه لمكرهم ولا تخش ضيرا منه فحذف هذا اكتفاء بدلالة القصر المستفاد من التعليل، والله خبر مقدم والمكر مبتدأ مؤخر وجميعا حال وشتان بين مكرهم ومكره. (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) الجملة تفسير لقوله فلله المكر جميعا ويعلم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو وما مفعول به وجملة تكسب صلة وكل نفس فاعل. (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) السين للاستقبال ويعلم الكفار وفي قراءة الكافر فعل وفاعل ولمن اللام حرف جر ومن اسم استفهام في محل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 جر باللام والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وعقبى الدار مبتدأ مؤخر. (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا) الجملة مستأنفة مسوقة لاجمال الشبهات الست التي أوردوها والتي تنتهي في اعتقادهم الى هذه النتيجة وهي إبطال رسالته صلى الله عليه وسلم وجملة لست مرسلا مقول قولهم وهو مجمل شبهاتهم وليس واسمها وخبرها. (قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) كفى فعل ماض تقدم بحثه مستوفى وبالله الباء حرف جر زائد ولفظ الجلالة مجرور لفظا مرفوع محلا وشهيدا تمييز وبيني وبينكم ظرفان متعلقان بشهيدا ومن عطف على الله وعنده الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وعلم الكتاب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صلة من. البلاغة: 1- في قوله تعالى «أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب في حكمه» التفات بليغ، وقد سبق ذكر الالتفات مشفوعا بالأمثلة والشواهد ونزيده هنا بسطا بصدد ما يتعلق بالآية فتقول: الرجوع عن خطاب النفس الى الغيبة في الآية وبناء الحكم على الاسم الجليل ينطوي على أعظم الأسرار وأبهرها فإنه لما أبرز الكلام لهم في معرض المناصحة المشوبة بالتحذير كان لا بد أن يتوجه إليهم بالخطاب ليريهم مكان القوة والعظمة لديه، عاد الى تصوير الفخامة والمهابة، وتحقيق مضمون الخبر بالاشارة الى العلة التي هي السبب في إتيان الأرض وانتقاص أطرافها وإدالة الأمر من قوم لقوم، ونقل السيطرة من الظالمين بالأمس الى المظلومين ومن الغالبين بالأمس الى المغلوبين وهذه الفخمية لا تتأتى إلا بإيراد الكلام في معرض الغيبة فقال ملتفتا والله يحكم في خلقه بما يشاء لا راد لحكمه ثم أردف ذلك بقوله لا معقب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 لحكمه ولا مبطل لمشيئته وثلث بقوله وهو سريع الحساب فكل شيء محسوب لديه وعما قليل يحاسبهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا وستأتي شواهد بديعة من هذا الفن الرفيع. 2- الاستخدام: وفي قوله «لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب» فن رفيع من فنون البلاغة أطلق عليه علماء هذا الفن اسم: «فن الاستخدام» وعزفوه بتعريفات لا تخلو من غموض وسنحاول بسط ما أجملوه فأما تعريفه كما أورده ابن أبي الإصبع وابن منقذ وصاحب نهاية الأرب فهو: أن يأتي المتكلم بلفظة لها محملان ثم يأتي بلفظتين تتوسط تلك اللفظة بينهما وتستخدم كل لفظة منهما أحد محملي اللفظة المتوسطة، ففي الآية المذكورة لفظة «كتاب» تحتمل الأمد المحتوم بدليل قوله تعالى في البقرة «حتى يبلغ الكتاب أجله» أي حتى يبلغ الكتاب أمده أي أمد العدة وأجله منتهاه والكتاب المكتوب وقد توسطت لفظه كتاب بين لفظتي «أجل» و «يمحو» فاستخدمت لفظة أجل أحد مفهوميها وهو الأمد واستخدمت لفظة يمحو مفهومها الآخر وهو المكتوب فيكون التقدير على ذلك لكل حد مؤقت مكتوب يمحي ويثبت. وهنالك تعريف آخر يتمشى على طريقة صاحب الإيضاح ومشى عليه كثير من الناس وهو أن الاستخدام اطلاق لفظ مشترك بين معنيين فتريد بذلك اللفظ أحد المعنيين ثم تعيد عليه ضميرا تريد به المعنى الآخر أو تعيد عليه إن شئت ضميرين تريد بأحدهما أحد المعنيين وبالآخر المعنى الآخر ومثال هذا النوع قول القائل: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا فلفظة السماء يراد بها المطر وهو أحد المعنيين والضمير في رعيناه يراد به المعنى الآخر وهو النبات وأما شاهد الضميرين فمثاله قول البحتري: فسقى الغضا والساكنيه وان هم ... شبّوه بين جوانحي وضلوعي فإن لفظة الغضا محتملة الموضع والشجر والسقيا صالحة لكل منهما فلما قال والساكنيه أحد معنى اللفظة وهو الموضع بدلالة القرينة عليه ولما قال شبوه استعمل المعنى الآخر وهو الشجر بدلالة القرينة عليه، وقد أورد الشيخ عز الدين الموصلي في شرح بديعيته نقدا حسنا لبيت البحتري فقد قال: «شرط علماء البديع أن يكون اشتراك لفظة الاستخدام اشتراكا أصليا والنظر هنا في اشتراك لفظة الغضا فإنه ليس بأصلي لأن أحد المعنيين منقول من الآخر والغضا في الحقيقة الشجر وسموا الوادي غضا لكثرة نبته فيه وقالوا جمر الغضا لقوة ناره فكل منقول من أصل واحد. ومن الاستخدام قول أبي العلاء في داليته الشهيرة: قصد الدهر من أبي حمزة الأ ... واب مولى حجا وخدن اقتصاد وفقيها أفكاره شدن للنعمان ما لم يشده شعر زياد فالنعمان يحتمل هنا أبا حنيفة رحمه الله ويحتمل النعمان بن المنذر وقد أراد أبو العلاء بلفظ النعمان أبا حنيفة بدليل قوله وفقيها وأراد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 بالضمير المحذوف النعمان بن المنذر ملك الحيرة بدليل زياد وهو النابغة وكان معروفا بمدح النعمان بن المنذر وقد انتقدوه أيضا لأن ضمير يشده لم يعد على واحد منهما لأن شرط الضمير في الاستخدام أن يكون عائدا على اللفظة المشتركة ليستخدم بها معناها الآخر كما قال البحتري في شبوه فهذا الضمير عائد على الغضا وهذا قد جعل الضمير في يشده غير عائد على اللفظة المشتركة التي هي النعمان فصار طيب الذكر الذي شيده زياد لا يعلم لمن هو لأن الضمير لا يعود على النعمان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 (14) سورة ابراهيم مكيّة وآياتها ثنتان وخمسون [سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) الإعراب: (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) الر تقدم إعرابها وكتاب خبر مبتدأ محذوف أي هذا كتاب وجملة أنزلناه صفة وإليك متعلقان بأنزلناه واللام لام التعليل وتخرج فعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت والناس مفعول به ومن الظلمات متعلقان بتخرج والى النور متعلقان بتخرج أيضا. (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) بإذن متعلقان بمحذوف حال أي حال كونك مأذونا من ربك وربهم مضاف اليه والى صراط بدل من قوله الى النور باعادة العامل والعزيز مضاف اليه والحميد صفة. (اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الله بالجر بدل أو عطف بيان للعزيز الحميد وقرىء بالرفع على أنه خير لمبتدأ محذوف أي هو الله المتصف بملك ما في السموات وما في الأرض، والذي صفته وله خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر والجملة صلة الذي وفي السموات صلة ما وما في الأرض عطف على ما في السموات. (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) ويل مبتدأ سوغ الابتداء به قصد الدعاء على الكافرين وسيأتي مزيد بحث عن هذه الكلمة في باب الفوائد والجملة دعائية لا محل لها وللكافرين خبر ومن عذاب نعت لويل أو متعلقان بويل فعلى الأول تكون من بيانية وعلى الثاني تكون للتعدية وشديد صفة وفي تفسير أبي السعود: ومن عذاب شديد متعلقان بويل على معنى يولولون ويضجون منه قائلين يا ويلاه كقوله دعوا هنالك ثبورا، ومنع أبو حيان تعليقها بويل قال: «ومن عذاب شديد في موضع الصفة لويل ولا يضير الفصل بالخبر بين الصفة والموصوف ولا يجوز أن يكون متعلقا بويل لأنه مصدر ولا يجوز الفصل بين المصدر وما يتعلق به الخبر. (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) الذين نعت للكافرين أو مبتدأ خبره جملة أولئك في ضلال بعيد الآتية أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم الذين يستحبون وجميع هذه الأوجه متساوية في الأرجحية فلذلك ذكرناها وجملة يستحبون صلة والحياة مفعول به والدنيا صفة وعلى الآخرة متعلقان بيستحبون، لأنها بمعنى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 الإيثار والاختيار وهي استفعال من المحبة لأن المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحبّ إليها وأفضل عندها من الآخر. (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) ويصدون عطف على يستحبون وعن سبيل الله جار ومجرور متعلقان بيصدون ويبغونها عطف على يصدون ويبغون فعل وفاعل والهاء نصب بنزع الخافض أي يبغون لها وعوجا مفعول به. (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) اسم الاشارة مبتدأ وفي ضلال خبره وبعيد صفة لضلال وفي جعل الضلال ظرفا فن بلاغي سنعرض له في باب البلاغة. (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة لبيان وسيلة المخاطبة التي يظطلع بها كل رسول لأمته وما نافية وأرسلنا فعل وفاعل ومن زائدة ورسول مجرور لفظا منصوب على المفعولية محلا وإلا أداة حصر وبلسان قومه حال أي ملتبسا بلسان قومه فهو استثناء من أعم الأحوال وليبين اللام للتعليل ويبين مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ولهم متعلقان بيبين. (فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) الفاء استئنافية ويضل مرفوع على الاستئناف ولا يجوز عطفه على يبين كما يتوهم لأن المعطوف كالمعطوف عليه في المعنى والرسل أرسلت للبيان لا للإضلال، قال الفراء: إذا ذكر فعل وبعده فعل آخر فإن لم يكن النسق مشاكلا للأول فالرفع على الاستئناف هو الوجه، على أن الزجاج قال: «ولو قرىء بنصبه على أن اللام لام العاقبة جاز» ويضل الله فعل مضارع وفاعل ومن مفعول به ويشاء صلة ويهدي من يشاء عطف على يضل الله من يشاء. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) هو مبتدأ والعزيز خبر أول والحكيم خبر ثان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 البلاغة: انطوت هذه الآيات الأربع على فنون من البلاغة نوجزها فيما يلي: 1- الظلمات والنور استعارتان تصريحيتان للضلال والهدى وقد تقدم نظائرها فلا حاجة للاعادة. 2- في اسناد البعد الى الضلال مجاز عقلي لأن البعد في الحقيقة الضال لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق فوصف به فعله كما تقول جد جده وداهية دهياء. 3- في جعل الضلال ظرفا مجاز أيضا كأنه قد أحاط بهم وجلببهم بسوادة فهم منغمسون فيه الى الأذقان يتخبطون في متاهاته ويتعسفون في ظلماته. 4- في جعل اللسان لغة مجاز علاقته السببية لأنه آلة النطق لأن معنى بلسان قومه: بلغة قومه واللسن واللسان كالريش والرياش وسيأتي في باب الفوائد تفصيل مسهب عن لغة القرآن واللهجات السبع التي قرىء بها. ووحد اللسان لأن المراد اللغة، وقد قيل في هذه الآية إشكال لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الى الناس جميعا ولغاتهم متباينة وألسنتهم مختلفة وأجيب بأنه إن كان صلى الله عليه وسلم مرسلا الى الناس كافة لكن لما كان قومه العرب وكانوا أخص به وأقرب اليه كان إرساله بلسانهم أولى من إرساله بلسان غيرهم وهم يبينونه لمن كان على غير لسانهم ويوضحونه حتى يصير فاهما له كفهمهم إياه ولو نزل القرآن بجميع لغات من أرسل إليهم وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل قوم بلسانهم لكان ذلك مظنة للاختلاف وفتحا لباب التنازع على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 مصراعيه لأن كل أمة قد تدعي من المعاني في لسانها مالا يعرفه غيرها، وربما كان أيضا مفضيا الى التحريف والتصحيف بسبب الدعاوى الباطلة التي يقع فيها المتعصبون. 5- الطباق بين يضل ويهدي وجميع هذه الفنون تقدم بحثها في مظانها. الفوائد: في هذه الآيات من الفوائد ما يستوعب الاجلاد ولكننا جريا على نهج الكتاب سنجتزىء بما لا بد من ذكره فيما يلي: 1- (وَيْلٌ) : كلمة وعيد وتهديد وهو نقيض الوأل أي النجاة اسم بمعنى الهلاك إلا أنه لا يشتق منه فعل إنما يقال ويلا له فينصب نصب المصادر ثم يرفع رفعها لإفادة معنى الثبات فيقال ويل له كسلام عليك وفي المختار الوائل الملجأ وقد وأل اليه أي لجأ وبابه وعد وءولا بوزن وجود، وويل زيد وويحه منصوبان على المصدرية وقيل ويل كلمة عذاب وويح كلمة ترحّم. 2- لغة القرآن ورأي الدكتور طه حسين: لغة القرآن: علم قائم بذاته ويظهر أن الحديث الشريف «نزل القرآن على سبعة أحرف» كان سببا في نشوء هذا العلم من علوم القرآن وأحدث الدراسات فيه وأقومها ما قرره الدكتور طه حسين في كتابه الأدب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 الجاهلي وفيما يلي خلاصة هذا البحث القيم: يثبت الدكتور طه أن هنالك خلافا جوهريا بين اللغة التي يصطنعها الناس في جنوب البلاد العربية واللغة التي كانوا يصطنعها في شمال هذه البلاد وينتهي من إثبات ذلك الى القول بأن القدماء المحدثين مضطربون في تحديد ما ينبغي أن يفهم من لفظ العرب وفي تحديد ما ينبغي أن يفهم من لفظ اللغة العربية وهذا الاضطراب ليس من شأنه أن يعين على التحقيق العلمي ثم يمضي الأستاذ في ذكر الفروق بين لغة عرب الجنوب وعرب الشمال ويورد بعض النصوص التي كشفها الأستاذ جويدي من اللغة الحميرية وكيف أنها تختلف اختلافات كثيرة جدا عن اللغة الحجازية القرشية التي نعرفها ومثال هذا النص الذي يقول: «وهبم واخهو بنو كلبت هقنيو الى مقه ذهرن ذن فرندن حجن وقههمو بمسألهو لو فيهمو وسعدهمو نعمتم» ومعناها: «وهاب (اسم رجل) وأخوه بنو كلب أعطوا المقة (اسم إله في هران) هذا اللوح لأنه أجابهم عن سؤالهم وسلمهم وساعدهم بنعمته» ويمضي في هذا البحث الطويل الى أن يقول: «إن القرآن الذي تلي بلغة واحدة ولهجة واحدة هي لغة قريش ولهجتها لم يكد يتناوله القراء من القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته وتعددت اللهجات فيه وتباينت تباينا كثيرا حيّر القراء والعلماء المتأخرون في ضبطه وتحقيقه وأقاموا له علما أو علوما خاصة ولسنا نشير هنا الى هذه القراءات التي تختلف فيما بينها اختلافا كثيرا في ضبط الحركات سواء أكانت حركة بنية أو حركة إعراب، لسنا نشير الى اختلاف القراء في نصب الطير في الآية: «يا جبال أوّبي معه والطير» أو رفعها ولا إلى اختلافهم في ضم الفاء أو فتحها في الآية «لقد جاءكم رسول من أنفسكم» انما نشير الى اختلاف آخر في القراءات يقبله العقل ويسيغه النقل وتقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين قبائل العرب التي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 لم تستطع أن تغير حناجرها وألسنتها وشفاهها لتقرأ القرآن كما كان يتلوه النبي وعشيرته من قريش فقرأته كما كانت تتكلم فأمالت حيث لم تكن تميل، وقصرت حيث لم تكن تقصر وسكنت حيث لم تكن تسكن وأدغمت أو أخفت أو نقلت حيث لم تكن تدغم ولا تخفي ولا تنقل. وقفة لا بد منها: وهنا وقفة لا بد منها ذلك أن قوما من رجال الدين فهموا أن هذه القراءات السبع متواترة عن النبي نزل بها جبريل على قلبه فمنكرها كافر في غير شك ولا ريبة ولم يوفقوا الى دليل يستدلون به على ما يقولون سوى ما روي في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف، والحق أن هذه القراءات السبع ليست من الوحي في قليل ولا كثير وليس منكرها كافرا ولا فاسقا ولا مغتمزا في دينه وإنما قراءات مصدرها اللهجات واختلافها، للناس أن يجادلوا فيها وأن ينكروا بعضها ويقبلوا بعضها وقد جادلوا فيها بالفعل وتماروا وخطأ فيها بعضهم بعضا ولم نعرف أن أحدا من المسلمين كفّر أحدا لشيء من هذا، وليست هذا القراءات بالأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها وانما هي شيء وهذه الأحرف شيء آخر فالأحرف جمع حرف والحرف: اللغة فمعنى أنزل القرآن على سبعة أحرف أنه أنزل على سبع لغات مختلفة في لفظها ومادتها يفسر ذلك قول ابن مسعود: إنما هو كقولك هلم وتعال وأقبل ويفسر ذلك قول أنس في الآية: «إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأصوب قيلا» أصوب وأقوم وأهدى واحد ويفسر ذلك قراءة ابن مسعود «ما ينظرون إلا زقية واحدة» مكان «ما ينظرون إلا صيحة واحدة» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 الأحرف غير القراءات: الأحرف إذن اللغات التي تختلف فيما بينها لفظا ومادة فأما هذه القراءات التي تختلف في القصر والمد وفي الحركة والسكون وفي النقل والإثبات وفي حركات الاعراب فليست من الأحرف في شيء لأنها اختلاف في الصورة والشكل لا في المادة واللفظ وقد اتفق المسلمون على أن القرآن أنزل على سبعة أحرف أي على سبع لغات مختلفة في ألفاظها ومادتها، واتفق المسلمون على أن أصحاب النبي تماروا في هذه الأحرف السبعة كل يقرأ على الحرف الذي سمعه من النبي فاشتد الخلاف والمراء في ذلك حتى كادت الفتنة تقع بين الناس ولا سيما في جيوش المسلمين التي كانت تغزو وترابط في الثغور بعيدة عن مهبط الوحي ومستقر الخلافة فرفع الأمر الى الخيفة عثمان رضي الله عنه فجزع له وأشفق على المسلمين أن يقع بينهم مثل ما وقع بين النصارى من الاختلاف في نص القرآن كما اختلفوا في نص الإنجيل فجمع لهم المصحف وأذاعه في الأمصار وأمر بما عداه من المصاحف فمحي محوا وعلى هذا محيت الأحرف الستة ولم يبق إلا حرف واحد هو هذا الحرف الذي نقرؤه في مصحف عثمان وهو حرف قريش وهو الحرف الذي اختلفت لهجات القراء فيه فمدّ بعضهم وقصر بعضهم وفخّم فريق ورقّق فريق ونقلت طائفة وأثبتت طائفة ثم أورد الدكتور طه ما ورد في الجزء الأول من تفسير ابن جرير الطبري لتأييد رأيه. خلاصة قول الطبري: قال ابن جرير ما ملخصه: إن قوما من العلماء ذهبوا إلى أن الأحرف السبعة هي سبعة معان جملتها: الأمر والنهي والوعد والوعيد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 والجدل والقصص والمثل، ولكنه يعارض هذا ويقول: إن الأحرف السبعة هي سبع لغات من لغات احياء من قبائل العرب مختلفة الألسن وذكر أن أصحاب رسول الله تماروا في تلاوة بعض القرآن فاختلفوا في قراءته دون تأويله وأنكر بعض قراءة بعض مع دعوى كل قارئ منهم قراءة منها أن رسول الله أقرأه ما قرأه بالصفة التي قرأ ثم احتكموا الى رسول الله فكان من حكم رسول الله بينهم أن صوّب قراءة كل قارئ منهم على خلاف قراءة أصحابه الذين نازعوه فيها وأمر كل امرئ منهم أن يقرأ كما علم حتى خالط قلب بعضهم الشك في الإسلام لما رأى من تصويب رسول الله قراءة كل منهم على اختلافها ثم جلاه الله ببيان رسول الله له أن القرآن على سبعة أحرف. وعرض الطبري لنقطة هامة وهي الرد على سؤال المستفسرين: فما بال الأحرف الأخر الستة غير موجودة، وقد أقرأهن رسول الله أصحابه وأمر بالقراءة بهن وأنزلهن الله من عنده على نبيه؟ أنسخت فرفعت؟ فما الدلالة على نسخها ورفعها؟ أم نسيتهن الأمة؟ فذلك تضييع ما قد أمروا بحفظه أم ما القصة في ذلك؟ وأجاب ابن جرير على هذه الأسئلة المحرجة جوابا بارعا فقال: لم تنسخ الأحرف الستة فترفع ولا ضيّعتها الأمة وهي مأمور بحفظها ولكن الأمة أمرت بحفظ القرآن وخيرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة شاءت وضرب لها مثلا في الفقه: إذا حنث موسر في يمين فله أن يختار كفارة من ثلاث كفارات: اما بعتق أو اطعام أو كسوة، فكذلك الأمة أمرت بحفظ القرآن وقراءته وخيرت في قراءته بأي الأحرف السبعة شاءت قرأت، ولعلة من العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد قراءته بحرف واحد ورفض القراءة بالأحرف الستة الباقية ولم تحظر قراءته بجميع حروفه على قارئه بما أذن له في قراءته به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 رأي السيوطي في الإتقان: أما السيوطي فقد أكد في كتابه «الإتقان» صحة الحديث بشهادة واحد وعشرين صحابيا ذكروه ثم أراد عثمان بن عفان أن يستوثق من صحته فطلب من المسلمين وهم مجتمعون في المسجد أن يقف منهم من سمع هذا الحديث فوقف من في المسجد كلهم، فقال وأنا أشهد معهم، وانتقل السيوطي الى بحث الأقوال التي قيلت في هذا الحديث فإذا هي نحو أربعين قولا وبدأ فأضاف إشكالا الى الإشكالات الموجودة في هذا الموضوع فقال: انه ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد، بل المراد التيسير والتسهيل والسعة ولفظ السبعة يطلق على ارادة الكثرة في الآحاد كما يطلق السبعون في العشرات ولكنه ردّ هذا القول بأن في القرآن آيات كثيرة تقرأ على أكثر من سبعة أوجه ومنها ما يقرأ على أقل ومنها ما تغيرت حركته ولم يتغير معناه ولا صورته (مادة اللفظ) ومنها ما ذكره الطبري من اختلاف الألفاظ واتفاق المعاني وذكر الطحاوي أن ذلك كان رخصة لما كان يتعسر على كثير منهم التلاوة بلفظ واحد لعدم علمهم بالكتابة والضبط وإتقان الخط ثم نسخ بزوال العذر وتيسر الكتابة والحفظ وضرب مثلا لهذا أن عبد الله بن مسعود كان يعلّم رجلا القرآن فتلا عليه (طَعامُ الْأَثِيمِ) فقال الرجل: طعام اليثيم فردّها عليه فلم يستقم لسانه بها فقال: أتستطيع أن تقول طعام الفاجر؟ قال: نعم، قال: فافعل. وقول آخر ذهب اليه الكثير من العلماء مثل أبي عبيد وثعلب والزهري وهو: ان الأحرف السبعة هي لغات سبع فلما قيل لهم إن لغات العرب أكثر من سبع أجابوا أن المراد هو أفصحها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 ولأبي عبيد رأي قيم وهو أن في القرآن سبع لغات متفرقة فيه فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوازن وبعضه بلغة اليمن وغيرهم أي أن في القرآن ألفاظا وجملا مما كانت تعرف هذه القبيلة وهذه القبيلة. ومضى السيوطي يعرض طائفة أخرى من الأقوال لا أهمية لها ثم أنهى كلامه بقوله: لقد ظن كثير من العوام أن المراد بالأحرف السبعة القراءات السبع وهو جهل قبيح. خلاصة وافية: ويطول بنا البحث إن رحنا نتقصى ما قيل في هذا الصدد أو نبحث الأصول التي تمتد إليها اللغة العربية فبا مكان القارئ أن يرجع إليها في الكتب المؤلفة بهذا الشأن وحسبنا أن نقول الآن: ان القرآن نزل باللغة العربية القرشية التي ذابت فيها اللغات الأخرى ولغات القبائل المجاورة بنوع خاص وقد فهم الصحابة القرآن إجمالا ولكن ألفاظا غير قليلة استغلقت عليهم بل ان بعضها لا يزال مستغلقا علينا اليوم بالرغم من أن وسيلة العلم ببعض اللغات القديمة قد توفرت لدينا وقد روي أن عمر بن الخطاب لم يفهم كلمة «أبا» من قوله «وفاكهة وأبا» وله العذر فهي كلمة حبشية وروي عن ابن عباس أن اعرابيين اختصما لديه في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها وعارضه الثاني، قال ابن عباس: ففهمت حينئذ معنى قوله تعالى «فاطر السموات والأرض» وروي عن ابن عباس أيضا انه لم يكن يفهم معنى الآية «ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق» حتى سمع فتاة من اليمن «بنت ذي يزن» تنادي زوجها: أنا تحك تقصد أحاكمك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 وقد ذكر ابن النقيب في خصائص القرآن أن القرآن احتوى على جميع لغات العرب وأنزل فيه بلغات غيرهم من الروم والفرس والحبشة شيء كثير وقد سبق أن أوردنا هذا القول ومن الألفاظ غير العربية التي فطن الأقدمون الى وجودها في القرآن ما يأتي: ل 1 إستبرق: يونانية ابلعي ماءك: هندية أو حبشية الأرائك: حبشية إصر/ اي/ عهد: نبطية أواب: المسيح بالحبشية بطائنها: أي ظواهرها بالقبطية تنور: فارسية جهنم: يونانية أو فارسية حواريون: أي غسالون بالحبشية دري: أي مضيء بالحبشية السجل: الكتاب بالحبشية الرس: أي البئر باليونانية سريا: قيل سريانية أو نبطية أو يونانية الصراط: الطريق بلغة الروم عدن: الكروم بالسريانية غيض: أي نقص بالحبشية القسط: العدل بالفارسية قسورة: الأسد بالحبشية كفلين: ضعفين بالحبشية ل 2 مشكاة: الكوة بالحبشية منسأة: عصا بالنبطية اب: حبشية أخلد: عبرية أسفار: سريانية أو نبطية أليم: موجع قالوا زنجية أو عبرية الاداة: الموقن بالحبشية حصب: بمعنى حطب في الزنجية دينار: فارسية. رهوا: سهلا بالسريانية. سجيل: فارسية سندس: فارسية وهندية الطاغوت: الكاهن بالحبشية غساق: المنتن البارد بالتركية الفردوس: البستان بالرومية القسطاس: الميزان بالفارسية كافور: بالفارسية اليم: البحر بالسريانية والقبطية ناشئة الليل: بالحبشية وزر: الملجأ بالنبطية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 ل 1 كوّرت: أي غورت بالفارسية مرقوم: مكتوب بالعربية مناص: فرار بالنبطية المهل: الزيت بلسان البربر هونا: بالسريانية ل 2 هيت لك: بالقبطية ياقوت: بالفارسية يحور: يرجع بالحبشية يعهد: أي ينضج بالبربرية الفوم: الحنطة بالعبرية وقد أورد السيوطي في الإتقان هذه الألفاظ وغيرها كما أورد مئات الألفاظ وردت في القرآن بغير لغة الحجاز ومنها لغات اليمن وقد نص على كثير من الألفاظ الحميرية بالذات فقد ذكر مثلا أن أسطورا بلغة حمير تعني الكتاب وعلى هذا يفهم قوله: «وكتاب مسطور» وذكر أن اللهو تعني المرأة بلغة اليمن وعلى هذا تفهم الآية «لو أردنا أن نتخذ لهوا» ترى ما الذي يمنع وقد صح لدينا أن أمر الألفاظ القرآنية والمصادر العديد التي جاءت منها أن تكون الأحرف السبعة هي هذه اللغات العديدة التي ذابت في لغة قريش والتي علم النبي بعضها والتي تضمنتها ألفاظ القرآن. اننا نرجح مبدئيا وليس لدينا وسائل الجزم النهائي أن هذا هو الصواب في شأن الأحرف السبعة فهي تشير الى ألفاظ كثيرة من لغات عدة استعملها القرآن منها الفارسية واليونانية والآرامية والكلدانية والحبشية والحميرية والعبرية والسريانية والمصرية وكلها أضيفت الى لغة قريش فقوت من شأنها وأزالت الركاكة والغثاثة التي كانت موجودة في لغة القبائل الأخرى التي كانت تفد الى الحج وهي التي تلتزم حروفا بدل حروف مثل ابدال كاف المؤنث شيئا فيقولون كتابش بدل كتابك وعليه قوله: فعيناش عيناها وجيدش جيدها ... ولكن عظم الساق منش دقيق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 وأصله: فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولكن عظم الساق منك دقيق وهي قبيلة قيس ومثل الذين لا يستطيعون النطق بالسين فيستبدلون بها تاء فالناس عندهم النات وهم قبيلة تميم. خلا القرآن من هذه اللهجات الكثيرة والتزم الاعراب في أواخر الكلمات جميعا ولم يكن ملتزما في كثير من اللغات الاخرى وعرف النبي وهو متلقي الوحي ومعلم القرآن الأول تفسير ما أنزل عليه كله وما سأله عنه أصحابه كان يخبرهم به ولعلهم كانوا يتحاشون سؤاله في كثير من الألفاظ بدليل جهلهم بها بعد وفاته ونهيهم عن التكلف والتعمق أي البحث في معنى كل لفظ والتنقيب وراءه وليس هذا الذي نقوله في أمر ألفاظ القرآن وإنها هي الأحرف السبعة قولا شاذا لم يقل به أحد وانما قال به كثيرون منهم أبو عبيد القاسم بن سلام وثعلب وأبو حاتم السجستاني وغيرهم. واذن فمن الخطأ كل الخطأ أن نقول أن قرآنا نزل ليكون معجزة نبي ثم نقول: إنا قادرون على أن نبدل لفظا مكان لفظ لأن لدينا الكثير من الألفاظ أي المترادفات. استمع الى هذه الآية: «للذين آمنوا انظرونا» ثم نقرؤها على الأحرف التي يقولون عنها هكذا «للذين آمنوا امهلونا» أو «للذين آمنوا ارقبونا» ولنترك للقارىء أن يدقق النظر قليلا ويطيل التفكير ليرى هل يتفق معنى هذه التعابير كلها وهل يبقى لها مكانها من الاعجاز وهي بهذه الصورة واسمع الى الآية الأخرى: «كلما أضاء لهم مشوا فيه» و «كلما أضاء لهم مروا فيه» و «كلما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 أضاء لهم سعوا فيه» من يقل أن مشى وسعى ومر متساوية في الاستعمال فهو جاهل كل الجهل خابط في عشواء من الضلال. الأحرف السبعة، إذن، شيء آخر غير هذه التعديلات والتبديلات وأدنى الى الصواب في توضيحها ما ذكرناه من تضمن القرآن الكثير من الألفاظ الأعجمية التي دخلت اليه والى لغة قريش من الشعوب المحيطة بشبه الجزيرة وسيأتي مزيد بيان لهذا البحث الجليل الذي طال قليلا ولم يكن من شرط الكتاب. ونذكر بهذه المناسبة أن المرحوم الأستاذ عباس محمود العقاد وضع كتابيه: «أبو الأنبياء: الخليل ابراهيم» و «الثقافة العربية أسبق من ثقافة اليونان والعبريين» وتصدى فيهما لقضية لغة خليل الرحمن ابراهيم عليه الصلاة والسلام ورد على المنحرفين الذين يريدون أن ينحرفوا ببحوثهم في اتجاه معين مسبوق بتخطيط ينسلخ بسببه العرب عن صلتهم بالخليل وأثبت صلة ابراهيم الوثيقة بالعروبة في وقت مبكر يقع بين القرنين التاسع عشر والثامن عشر قبل الميلاد ونرى تتميما لبحثه الرفيع أن نورد حديثا ساقه الامام البخاري في صحيحه ورواه بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد استوعب هذا الحديث صفحات عدة من هذا السفر العظيم نوجز تلخيصه وتحديد موضوعاته فيما يأتي: 1- تحدّث عن الشخصيات الطاهرة التي نزلت بمكة وقت كان ليس بها أحد ولا ماء وهم: الخليل ابراهيم وهاجر وابنها الرضيع إسماعيل. 2- نبع زمزم لهاجر وولدها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 3- قدوم بطن عربي جرهمي واستئذانه هاجر في السماح له بالإقامة في مكة راضين بشرطها «أن لا حق لهم في الماء» واستقدموا أهلا لهم وقد شب إسماعيل عليه السلام بينهم وتزوج منهم مرتين. 4- زيارات ثلاث للخليل الى مكة لوديعته عدا الأولى التي قدم فيها بأهله إليها، وكان آخرها تلك الزورة مع ولده وأمر فأذن في الناس بالحج. وهذا الحديث يعطي حقائق موضوعية هامة توضح بعض ما غاب عن التاريخ في منهجه الحديث. أولها: بيانه الواضح عن مبدأ تاريخ العمران في مكة. ثانيها: يوضح حلقة مفقودة لدى المؤرخين عن ممالك الاسماعيليين في شمال الجزيرة العربية. ثالثهما: لغة الخليل فقد زار الخليل مكة أربع زيارات وتزوج إسماعيل امرأتين من جرهم وكان يخاطبهما ويحاورهما بالعربية حتما دون مترجم، فصحّ ما قاله العقاد ولسنا نقول أنه تحدث بالعربية التي هي عربيتنا أعني لغة القرآن الكريم لكنها عربية زمانه الوثيقة الصلة أصولا وفروعا بعربية القرآن الكريم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 [سورة إبراهيم (14) : الآيات 5 الى 6] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) اللغة: (يَسُومُونَكُمْ) يذيقونكم وأصله من سام السلعة يسوم سوما وسواما عرضها وذكر ثمنها، وسام المشتري السلعة طلب بيعها أو ثمنها وسامت الماشية خرجت الى المرعى وسامه الأمر كلفه إياه وسامه خسفا أذله، قال عمرو بن كلثوم: إذا ما الملك سام الناس خسفا ... أبينا أن نقر الذل فينا وسام الطير على الشيء حام عليه وسامت الريح مرّت واستمرّت وسام ناقته على الحوض: عرضها عليه. ومن المجاز سمت المرأة المعانقة: أردتها منها وعرضتها عليها وللسين مع الواو فاء وعينا خاصة عجيبة انهما تفيدان الكلمة معنى الإحاطة بالشيء والهيمنة عليه وشموله وتغطيته لأن المحيط بالأشياء شامل لها مهيمن عليها فالسوء القبح وهو يحيط بصاحبه ويلفه، كما يحيط بمن يمتد إليهم ويصيبهم وقال تعالى «عليهم دائرة السوء» وفلان يحيط الحسنى بالسوأى، وهذا مما ساءك وناءك ومما يسوءك وينوءك قال الجاحظ: هو من السوء: البرص وقال أبو زبيد: لم يهب حرمة النديم وحقّت ... يا لقومي للسوءة السواء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 وسوّج وسيّج الكرم ونحوه أو على الكرم عمل عليه سياجا يحوطه ويصونه والسياج بكسر السين الحائط وما أحيط به على كرم ونحوه وجمع السياج سياجات وأسوجة وسوج وعملت سفينة نوح من ساج وهي خشب سود رزان لا تكاد الأرض تبليها، ولبسوا السيجان وهي الطيالسة المدورة الواسعة، والساحة فضاء بين دور الحي يحيط بها لا بناء فيه ولا سقف وجمعه ساح وسوح وساحات ويقولون: احمر اللّوح واغبرّت السوح إذا وقع الجدب وقال أبو ذؤيب: وكان سيّان أن لا يسرحوا نعما ... أو يسرحوه بها واغبرت السّوح وساخت قوائم الدابة في الأرض وهذه أرض تسوخ بها الأقدام وساخت بهم الأرض، وساد قومه يسودهم كأنما أحاطهم بنعمته وغلبته وساده أي غلبه عند المغالبة والسواد خلاف البياض وهو لون يحيط بالجسم أو بالشيء والسواد الشخص سواد البلدة ما حولها من الريف والقرى ومنه سواد العراق لما بين البصرة والكوفة ولما حولهما من القرى وقد أبدع شوقي في قوله: قف تمهل وخذ أمانا لقلبي ... من عيون المها وراء السواد والأسود معروف والأسود الحية العظيمة السوداء وهي المعروفة بالحنش وفلان أسود الكبد أي عدو وهم سود الأكباد أي أعداء والسوداء والسويداء عند الأطباء خلط مقره في الطحال مرض الماليخوليا وهو فساد الفكر في حزن وسوداء القلب وسويداؤه حبته، وساوره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 وثب عليه وله سورة في الحرب وتسورت الحائط والسور حائط يطوف بالمدينة ويحيط بها وسورة الخمر وسوارها حدتها والسوار حلية كالطوق تلبسه المرأة في زندها وهو بكسر السين وضمها ويقال الإسوار، والوالي يسوس الرعية ويسوس أمرهم وسوس فلان أمر قومه بالبناء للمجهول قال الحطيئة: لقد سوّست أمر بنيك حتى ... تركتهم أدق من الطحين والسياسة استصلاح الخلق بإرشادهم الى الطريق المنجي في العاجل أو الآجل ولا جرم من يسوس القوم يحيط بأمورهم، وساطه يسوطه سوطا ضربه بالسوط ولا يضرب إلا من هيمن على الآخر وعليه، والساعة الوقت المعلوم وهو يحيط بالموجودات جميعها فلا يندّ عنها شيء، وساغ الشراب سهل فكأنه غالب لا يقف شيء في طريقه، وساف الشيء شمّه وفيه معنى الإحاطة والهيمنة وسوّفه مطّله وقال له مرة بعد مرة وكم مسافة هذه الأرض والمسافة تحيط بما يمتلكه صاحب الأرض وبينهم مساوف جمع مسافة، قال ذو الرمة: فقام الى حرف طواها بطية ... بها كل لمّاع بعيد المساوف وساق النعم فانساقت والسوق معروفة تحيط بما يعرض فيها من شخوص وبضائع وأمتعة، وساك يسوك سوكا دلك، وسوّل الشيطان له أمرا غلبه على أمره فزين له الشر، وسوّى بين الناس ساوى بينهم وسويت المعوج فاستوى والرحمن على العرش استوى أي استولى ورآه في سواء المكان: في وسطه وسوي الرجل استقام أمره ولا يستقيم الأمر إلا لمن غلب وهما سواء وهم سواسية في الشر وهذا من عجيب أمر هذه اللغة. (يَسْتَحْيُونَ) : يستبقون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 الإعراب: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) جملة مستأنفة مسوقة للشروع في تفصيل ما أجمله عن الرسل في قوله تعالى «وما أرسلنا من رسول» واللام جواب قسم محذوف، وأرسلنا فعل وفاعل وموسى مفعول به وبآياتنا متعلقان بمحذوف حال أي مصحوبا بآياتنا ومعززا بها. (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ان مفسرة والضابط لها موجود وهو أن يتقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه وأرسلنا فيه معنى قلنا أي قلنا له أخرج ويجوز أن تكون أن المصدرية الناصبة للفعل وانما صلح أن توصل بفعل الأمر لأن الغرض وصلها بما تكون معه في تأويل المصدر وهو الفعل والأمر وغيره سواء في الفعلية وتكون مع مدخولها منصوبة بنزع الخافض والتقدير بأن اخرج قومك والجار والمجرور متعلقان بمحذوف منصوب على الحال أي قائلين له اخرج قومك وعلى هذا يكون اعرابها تفسيرية أقل عناء ما دام التقديران يرتدان الى أصل واحد. وقومك مفعول به لأخرج ومن الظلمات الى النور متعلقان بأخرج. (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) الواو عاطفة وذكرهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وبأيام الله متعلقان بذكرهم وسترى بحثا مفيدا عن قوله أيام الله في باب الفوائد. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة للتوكيد وآيات اسم ان المؤخر ولكل صفة وصبار مضاف اليه وشكور صفة لصبار. (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) الظرف متعلق بمحذوف يفسره ما بعده وهو اذكروا أي اذكر وجملة قال موسى مضاف إليها الظرف ولقومه متعلقان بقال واذكروا فعل أمر والواو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 فاعل ونعمة الله مفعول به وعليكم متعلقان بمحذوف حال أي كائنة عليكم. (إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) الظرف متعلق بنعمة الله إذا كانت بمعنى الإنعام أي إنعامه ذلك الوقت ويجوز أن تكون بدلا من النعمة لأن النعمة تشتمل على النجاة فيكون بدل اشتمال ومن آل فرعون جار ومجرور متعلقان بأنجاكم. (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أحوال ثلاثة من آل فرعون أو من ضمير المخاطبين. (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) الواو عاطفة وفي ذلكم خبر مقدم وبلاء مبتدأ مؤخر ومن ربكم صفة بلاء وعظيم صفة ثانية. الفوائد: (أيام الله) في- كما في القاموس- نعمه، ويوم أيوم: شديد، وآخر يوم في الشهر وفي المختار: وربما عبروا عن الشدة باليوم. وهذا من باب المجاز العقلي ووجهه أن العرب تتجوز بنسبة الحدث الى الزمان مجازا فتضيفه اليه كقولهم نهاره صائم وليله قائم ومكر الليل ويترجح تفسير أيام الله ببلائه ونعمائه وجنح الزمخشري الى تفسير أيام الله بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم قوم نوح وعاد وثمود. قال ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها كيوم ذي قار ويوم الفجار وغيرها وقد عبر عنها عمر بن كلثوم بقوله: وأيام لنا غر طوال ... عصينا الملك فيها أن ندينا [سورة إبراهيم (14) : الآيات 7 الى 12] وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 اللغة: (تَأَذَّنَ) : أذن ونظير تأذن توعد وأوعد وتفضل وأفضل ولا بد في تفعل زيادة معنى ليس في أفعل لما في التفعل من التكلف والمبالغة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 الإعراب: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) وإذ عطف على نعمة الله عليكم كأنه قيل: وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا حين تأذن ربكم ويجوز عطفه على إذ أنجاكم وجملة تأذن مضاف إليها الظرف وربكم فاعل تأذن وجملة لئن شكرتم مقول قول محذوف أو أجري تأذن مجرى قال لأنه ضرب من القول فلا حاجة لتقدير القول واللام موطئة للقسم وإن شرطية وشكرتم فعل الشرط ولأزيدنكم اللام جواب القسم وجملة لأزيدنكم لا محل لها لأنها جواب القسم وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم وفاقا للقاعدة. (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) جملة معطوفة على نظيرتها وجواب القسم محذوف ولكنه مدلول عليه ضمنا بقوله: إن عذابي لشديد أي لأعذبنكم وانما حذفه هنا وأظهره في مقام الشكران لأن من عادة الله وهو الكريم أن يصرح بالوعد ويعرض بالوعيد، وإن واسمها وخبرها. (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) وقال موسى فعل وفاعل وجملة إن تكفروا مقول القول وان شرطية وتكفروا فعل الشرط والواو فاعل وأنتم تأكيد للواو ومن عطف على الواو وفي الأرض صلة من وجميعا حال والفاء رابطة وان واسمها واللام المزحلقة وحميد خبرها. (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويأت فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والكاف مفعول به ونبأ فاعل والذين مضاف اليه ومن قبلكم صفة. (قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) قوم بدل من الذين ونوح مضاف اليه وعاد وثمود معطوفان والذين من بعدهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 مبتدأ وجملة لا يعلمهم إلا الله خبر والجملة الاسمية معترضة بن المفسر وهو نبأ الذين من قبلكم وتفسيره وهو جاءتهم عليهم بالبينات ويجوز أن تكون والذين من بعدهم عطف على ما قبله وهو قوم نوح أو الذين من قبلكم وقوله لا يعلمهم إلا الله معترضة. (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) جملة مستأنفة أو خبر ثان للذين ورسلهم فاعل وبالبينات متعلقان بجاءتهم. (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا: إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) الفاء عاطفة وردوا فعل وفاعل وأيديهم مفعول به وفي أفواههم متعلقان بردوا أو بمحذوف حال وسيأتي بحث عن هذا التعبير في باب البلاغة وقالوا عطف على ردوا وان واسمها وجملة كفرنا خبر وبما متعلقان بكفرنا وجملة أرسلتم صلة وبه متعلقان بأرسلتم (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) وإنا عطف على إنا السابقة وان واسمها واللام المزحلقة وفي شك خبر ومما متعلقان بشك أو صفة له وجملة تدعوننا صلة وإليه متعلقان بتدعوننا ومريب صفة لشك. (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ) جملة مستأنفة مبنية على سؤال مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل فماذا قالت رسلهم فأجيب بأنهم قالوا منكرين فالهمزة الاستفهامية للانكار من مقالتهم الحمقاء وفي الله خبر مقدم وشك مبتدأ مؤخر وقيل شك فاعل أفي الله لاعتماده على الاستفهام ورجحه النحاة القدامى وجميع المعربين لئلا يلزم على الوجه الاول الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو المبتدأ بخلاف الفاعل الذي هو كالجزء من رافعه والحق ان هذا كله لا أساس له والوجه هو الاول. (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) فاطر صفة لله أو بدل منه وجملة يدعوكم حالية أي حالة كونه يدعوكم الى الايمان بإرساله إيانا واللام للتعليل ويغفر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بيدعوكم ومن ذنوبكم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 متعلقان بيغفر وهي بمعنى التبعيض قال في الكشاف: «فإن قلت ما معنى التبعيض في قوله من ذنوبكم قلت: ما علمته جاء إلا هكذا في خطاب الكافرين» لئلا يسوي بينهم وبين المؤمنين وقال الرازي: «أما قول صاحب الكشاف المراد تمييز خطاب المؤمن من خطاب الكافر فهو من باب الطامات لأن هذا التبعيض إن حصل فلا حاجة الى ذكر الجواب وإن لم يحصل كان هذا الكلام فاسدا» . وقال بعضهم هي للبدل أي بدل عقوبة ذنوبكم ويحتمل أن يضمن يغفر معنى يخلص أي يخلصكم من ذنوبكم واختار أبو عبيدة زيادتها تبعا للأخفش الذي يجيز زيادتها في الموجب. (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ويؤخركم عطف على يغفر والى أجل متعلقان بيؤخركم ومسمى نعت لأجل. (قالُوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) إن نافية وأنتم مبتدأ وإلا أداة حصر وبشر خبر ومثلنا صفة. (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) جملة تريدون صفة ثانية لبشر أو تكون مستأنفة وتريدون فعل وفاعل وأن وما في حيزها مفعول تريدون وعما متعلقان بتصدونا وجملة كان صلة وجملة يعبد خبر كان وآباؤنا فاعل يعبد. (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) الفاء الفصيحة وائتونا فعل أمر وفاعل ومفعول به وبسلطان متعلقان بأتونا ومبين صفة. (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) قالت لهم رسلهم فعل وفاعل ولهم متعلقان بقالت وإن نافية ونحن مبتدأ وإلا أداة حصر وبشر خبر ومثلكم صفة. (وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) الواو حالية أو عاطفة ولكن واسمها وجملة يمن خبرها وعلى من متعلقان بيمن وجملة يشاء صلة ومن عباده حال. (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) الواو عاطفة وكان فعل ماض ناقص ولنا خبر كان المقدم وأن ومدخولها في تأويل مصدر اسم كان المؤخر وبسلطان متعلقان بنأتيكم وإلا أداة حصر وبإذن الله حال أي ملتبسا بإذن الله. (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) الواو عاطفة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 وعلى الله متعلقان بيتوكل والفاء عاطفة أيضا واللام لام الأمر ويتوكل فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والمؤمنون فاعل يتوكل. (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) الواو عاطفة وما استفهامية والاستفهام هنا معناه النفي أي لا مانع لنا ولا عذر نتشبث بأهدابه، وهو في محل رفع مبتدأ ولنا الخبر وان وما في حيزها في موضع نصب على الحال أي الجار والمجرور فهو منصوب بنزع الخافض والواو للحال وقد حرف تحقيق وهدانا فعل وفاعل مستتر ومفعول به وسبلنا نصب بنزع الخافض والمعنى: والحال أنه قد هدانا وفعل بنا ما يوجب التوكل ويستدعيه حيث هدانا سبلنا أي ارشد كلامنا سبيله ومنهاجه. (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) الواو عاطفة واللام جواب قسم محذوف ونصبرن فعل مضارع مبني على الفتح، وعلى ما: على حرف جر وما مصدرية وآذيتمونا فعل وفاعل ومفعول والواو للاشباع ويجوز أن تكون ما موصولة أي على الذي آذيتمونا به. (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) تقدم اعرابها وكرر الأمر بالتوكل لأن الأول لاستحداث التوكل والثاني لاثباته. البلاغة: رد الأيدي في الأفواه بقوله تعالى: «فردوا أيديهم في أفواههم» وعض الأنامل وحرق الارم كناية عن الغيظ والضجر عند حدوث ما لا تهواه النفس وتريده. قال أبو عبيدة: هو ضرب مثل أي لم يؤمنوا ولم يجيبوا والعرب تقول للرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت: قد ردّ يده في فيه وهكذا قال الأخفش واعترض ذلك القتيبي فقال لم يسمع أحد من العرب يقول رد يده في فيه إذا ترك ما أمر به. وقيل: المراد برد الأيدي في الأفواه هنا الضحك والاستهزاء كمن غلبه الضحك فوضع يده على فيه وقيل ان المراد بالأيدي والأفواه غير الجارحتين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 فقيل المراد بالأيدي النعم ومعناه ردوا ما لو قبلوه لكان نعمة عليهم يقال: لفلان عندي يد أي نعمة والمراد بالأفواه تكذيبهم الرسل والمعنى كذبوا بأفواههم وردوا قولهم، وهناك أقوال أخرى ضربنا عنها صفحا لأن أقوى الوجوه هو الأول لأن اقناطهم الرسل من الايمان قولا وفعلا بوضع اليد في الفم هو المناسب لحسدهم في الكفر وتصدير العبارة بالحرف المؤكد ومواجهة الرسل بضمير الخطاب وإعادة ذلك مبالغة في التأكيد دل على قنوطهم بالمرة. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 13 الى 18] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 اللغة: (عادٍ) : لها معان كثيرة وهي هنا بمعنى صار فتلحق بها وتعمل عملها ويقال: عاد إليّ من فلان مكروه أي صار منه إلي ومن معانيها عاده يعوده عودا: صرفه وعاد السائل: رده وعاد فلانا بالمعروف صنعه معه ومن معانيها عاده عودا: صيره عادة وكذلك عاد يعود عودا وعيادا وعيادة وعوادة المريض زاره فهو عائد. وفي القاموس: عاد يعود الشيء عودا وعيادا بدأه وباشره ثانيا، قيل ومنه المثل: «العود أحمد» . (اسْتَفْتَحُوا) : استنصروا الله على أعدائهم كقوله تعالى: «إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح» وقيل استحكموا الله وسألوه القضاء بينهم من الفتاحة وهو الحكومة كقوله تعالى: «ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق» وفي القاموس: والفتح كالفتاحة بضم الفاء وكسرها: الحكم بين الخصمين. (صَدِيدٍ) : هو ما يسيل من جلود أهل النار. (يَتَجَرَّعُهُ) : يتكلف جرعه أي ابتلاعه وفي الأساس: «جرعت الماء واجترعته بمرة وتجرعته شيئا بعد شيء وما سقاني إلا جرعة وجريعة وجرعا وبتنا بالأجرع وبالجرعاء ونزلوا بالأجارع وهي أرضون حزنة يعلوها رمل. (يُسِيغُهُ) : من أساغ الطعام أو الشراب سهل دخوله في الحلق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 الإعراب: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا) قال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة ولرسلهم جار ومجرور متعلقان بقال واللام موطئة للقسم ونخرجنكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به ومن أرضنا متعلقان بنخرجنكم والجملة مقول القول. (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أو حرف عطف بمعنى إلا وسيأتي مزيد بحث عن أو في باب الفوائد. ولتعودن عطف على نخرجنكم غير أن الفعل هنا معروب لعدم مباشرة نون التوكيد له وهو مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة وقد تقدم له نظائر وفي ملتنا متعلقان بتعودن أو خبرها. (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) الفاء عاطفة وأوحى إليهم ربهم فعل وفاعل ولنهلكن اللام جواب للقسم المحذوف ونهلكن الظالمين فعل مضارع مبني على الفتح وفاعل مستتر ومفعول به والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها مفسرة.. (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) الواو عاطفة ونسكننكم فعل مضارع مبني على الفتح وفاعل ومفعول به والأرض نصب بنزع الخافض أو مفعول به على السعة وقد تقدم القول في دخل وسكن ونحوهما ومن بعدهم حال. (ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) ذلك مبتدأ ولمن خبر وجملة خاف صلة وفاعله مستتر تقديره هو ومقامي مفعول به وهو مصدر مضاف للفاعل أي قيامي عليه بالحفظ أو اسم مكان قال الزجاج مكان وقوفه بين يدي للحساب، وخاف فعل ماض أيضا ووعيد مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة لمراعاة الفواصل. (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) واستفتحوا فعل ماض والواو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 فاعل والضمير يعود على الرسل أي واستنصروا الله على أعدائهم وقيل يعود على الكفار أي واستفتح الكفار على الرسل والأولى انه يعود على كلا الفريقين لأن كلّا من الجانبين يلتمس النصر على صاحبه فالواو استئنافية والجملة مستأنفة وخاب كل جبار فعل وفاعل وعنيد صفة لجبار ومعنى خاب هلك أو خسر، والعنيد: المعاند للحق والمجانب له وهو مأخوذ من العند وهو الناحية أي أخذ في ناحيته معرضا قال الشاعر: إذا نزلت فاجعلوني وسطا ... إني كبير لا أطيق الغدا وقال الزجاج: العنيد الذي يعدل عن القصد. (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) من ورائه خبر مقدم وجهنم مبتدأ مؤخر ومعنى من ورائه: من بين يديه أي من أمامه وخلفه والجملة صفة ثانية لجبار ويسقى الواو عاطفة على مقدر جوابا عن سؤال سائل وكأنه قيل: فماذا يكون إذن؟ قيل يلقى فيها ويسقى. ويسقى فعل مضارع مبني للمجهول ومن ماء متعلقان بيسقى وصديد بدل من ماء أو عطف بيان له كأنه قال ويسقى من ماء ثم أراد أن يبين ما أبهمه فأردف بقوله صديد لأن الصديد هو الماء ولكنه السائل من جلود أهل النار خاصة قال أبو حيان «وقال ابن عطية: هو نعت لماء كما تقول: هذا خاتم حديد وليس بماء ولكنه لما كان بدل الماء في العرف عندنا يعني أطلق عليه ماء وقيل هو نعت على إسقاط أداة التشبيه كما تقول: مررت برجل أسد التقدير مثل صديد فعلى قول ابن عطية هو نفس الصديد وليس بماء حقيقة وعلى هذا القول لا يكون صديدا ولكنه ما يشبه الصديد وقال الزمخشري: صديد عطف بيان لماء قال ويسقى من ماء فابهمه إبهاما ثم بينه بقوله صديد» والبصريون لا يجيزون عطف البيان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 في النكرات وأجازه الكوفيون وتبعهم الفارسي فأعرب زيتونة عطف بيان لشجرة مباركة» . وجملة يسقى معطوفة على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى من ماء شديد يتميز عن عذابها بما هو أشدّ وأبلغ في الإيلام. (يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) الجملة صفة لماء ويتجرعه فعل وفاعل مستتر ومفعول به ولا بأس بجعل الجملة مستأنفة مسوقة للرد على سؤال كأنه قيل فماذا يفعل به؟ فقيل يتجرعه أي يتكلف جرعه مرة بعد مرة إطفاء لسورة العطش وحرارة الغليل، ولا الواو عاطفة ولا نافية ويكاد من أفعال المقاربة واسمها مستتر تقديره هو وجملة يسيغه خبر وسيأتي المزيد من بحث هذا التركيب العجيب في باب البلاغة. (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) الواو عاطفة ويأتيه الموت فعل وفاعل مؤخر ومفعول مقدم أي أسباب الموت كأنها تظاهرت عليه فهي تأتيه من كل مكان والجار والمجرور في موضع نصب على الحال أي تأتيه محيطة به من جميع جهاته. (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) الواو للحال وما نافية حجازية وهو اسمها والباء حرف جر زائد وميت مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما ومن ورائه خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وغليظ صفة لعذاب. (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) مثل الذين مبتدأ محذوف الخبر عند سيبويه تقديره وفيما يقص عليكم مثل وقد تقدمت نظائره وجملة كفروا بربهم صلة وأعمالهم مبتدأ والكاف بمعنى مثل خبر أو هي حرف مع مجرورها في محل رفع خبر والجملة مستأنفة للاجابة على سؤال مقدر نشأ عن تقدير المثل كأنه قال وما ذلك المثل فقيل أعمالهم كرماد ويجوز أن يكون مثل مبتدأ وأعمالهم مبتدأ ثانيا وكرماد خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول وقد رد أبو حيان هذا الوجه بقوله «وهو لا يجوز لأن الجملة الواقعة خبرا عن المبتدأ الذي هو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 مثل عارية من رابط يعود على المثل وليست نفس المبتدأ في المعنى فلا تحتاج الى رابط» ، ويجوز- وهو وجه جميل- أن يكون مثل مبتدأ وأعمالهم بدل اشتمال منه وكرماد خبر مثل وأعمالهم معا وجملة اشتدت به الريح صفة لرماد وفي يوم عاصف حال من الريح. (لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) الجملة حالية من فاعل كفروا ويقدرون فعل وفاعل ومما كسبوا حال لأنه كان في الأصل صفة لشيء وقد تقدم عليه وعلى شيء متعلقان بيقدرون وجملة كسبوا صلة وذلك مبتدأ وهو مبتدأ ثان والضلال خبر الثاني والثاني وخبره خبر الاول والبعيد صفة. البلاغة: في هذه الآيات أفانين متعددة من البلاغة نوردها فيما يلي: 1- في ألفاظ الآيات الواردة مورد التهديد والوعيد مراعاة النظير وقد تقدم بحثه فجميع ألفاظها متضافرة على التعبير عن المخيف القارع للقلوب. 2- في قوله تعالى: (يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) فنون عديدة فيما يلي أهمها: آ- الاستقصاء وهو أن يتناول المتكلم معنى فيستقصيه أي يأتي بجميع عوارضه ولوازمه بعد أن يستقصي جميع أوصافه الذاتية بحيث لا يترك لمن يتناوله بعده فيه مقالا يقوله فقد استقصى المعنى الذي أراده في الآية وهو كراهية الصديد الذي يشربه بأنه يتجرعه وفيه احتمالات أولها انه مطاوع جرعته بالتشديد نحو علمته فتعلم وثانيها انه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 للتكلف وقد اخترناه في الاعراب أي يتكلف جرعه ولم يذكر الزمخشري غيره وثالثها انه دال على المهلة نحو تفهمته أي يتناوله شيئا فشيئا بالجرع كما يتفهم شيئا فشيئا بالتفهيم ورابعها انه بمعنى جرعه المجرد وفي جميع هذه الأحوال استقصى غاية ما يمكن أن يتناوله شارب الماء. ب- المبالغة في قوله «ولا يكاد» فدخول فعل يكاد للمبالغة، يعني: ولا يقارب أن يسيغه فكيف تكون الاساغة؟ كقوله «لم يكد يراها» أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها. ج- ذكر الموت وأراد أسبابه وهذا مجاز. د- وصف العذاب بالغلظة كناية عن قوته واتصاله لأن الغلظة تستوجب القوة وتستدعي أن يكون متصلا تتصل به الأزمنة كلها فلا انفصال بينها. هـ- الغلو: بذكر كاد وهذا يطرد في كل كلام تستعمل فيه أداة المقاربة كقول الفرزدق: يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم وقد أفرط أبو العلاء في استعمالها قال: تكاد قسيه من غير رام ... تمكن في سيوفهم النبالا تكاد سوابق حملته تغني ... تجد الى رقابهم انسلالا تكاد سوابق حملته تغني ... عن الأقدار صونا وابتذالا سرى برق المعرة بعد وهن ... فبات براحة يصف الكلالا شجا ركبا وأفراسا وإبلا ... وزاد فكاد أن يشجو الرحالا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 ولا بن خفاجة الاندلسي. وكاد هنا مرقصة: وأهيف قام يسعى ... والسكر يعطف قده وقد ترنح غصنا ... وحمر الكأس ورده وألهب السكر خدا ... أورى به الوجد زنده فكاد يشرب نفسي ... وكدت أشرب خدّه وكل هذا من الغلو المقبول لأنه مقترن بالأداة ويزداد حسنه إذا تضمن نوعا حسنا من التخييل كقول المتنبي: عقدت سنابكها عليه عثيرا ... لو تبتغي عنقا عليه أمكنا ولأبي العلاء في صفة السيف: يذيب الرعب منه كل عضب ... فلولا الغمد يمسكه لسالا وقال في وصف الخيل: ولما لم يسابقهن شيء ... من الحيوان سابقن الظلالا أما الغلو غير المقبول فهو نوعان نوع يستسيغه الفن كقول المتنبي: ولو قلم ألقيت في شقّ رأسه ... من السقم ما غيرت من خط كاتب وقول أبي نواس: وأخفت أهل الشرك حتى انه ... لتخافك النطف التي لم تخلق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 والتتميم: وقد تحدثنا عنه أيضا ونبينه هنا فنقول التتميم أنواع ثلاثة تتميم النقص وتتميم الاحتياط وتتميم المبالغة فقد قال يتجرعه ولو قال جرعه لما أفاد المعنى الذي أراده لأن جرع الماء لا يشير الى معنى الكراهية ولكنه عند ما أتي بالتاء على صيغة التفعل أفهم أنه يتكلف شربه تكلفا وانه يعاني من جراء شربه مالا يأتي الوصف عليه من تقزز وكراهية ثم احتاط للأمر لأنه قد يوهم بأنه تكلف شربه ثم هان عليه الأمر بعد ذلك فأتي بالكيدودة أي أنه تكلف شربه وهو لا يكاد يشربه ولو اكتفى بالكيدودة لصح المعنى دون مبالغة ولكن عند ما جاءت يسيغه افهم انه لا يسيغه بل يغص به فيشربه بعد اللتيا والتي جرعة غب جرعة فيطول عذابه تارة بالحرارة وتارة بالعطش. 3- التشبيه التمثيلي بقوله «والذين كفروا أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف» فالمشبه مركب وهو الذين كفروا وأعمالهم الصالحة التي يقومون بها في حياتهم كصلة يرفدون بها المحتاج وصدقة يجبرون بها المكسور وعلم يعم نفعه العباد والمشبه به الرماد وهو ما سحقته النار من الاجرام واشتداد الريح واليوم العاصف ووجه الشبه ان الريح العاصف تطير الرماد وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى له أثر فكذلك كفرهم أبطل أعمالهم وأحبطها بحيث لا يبقى لها أثر. 4- المجاز العقلي في اسناد العصف لليوم كقولهم نهاره صائم وليله قائم شبهت صنائعهم الحميدة ومكارمهم المجيدة وما كانوا ينتدبون له من إغاثة الملهوف وعتق الرقاب وفك العاني وافتداء الأسارى وعقر الإبل للأضياف وغير ذلك شبهت هذه الصنائع في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 حبوطها وذهابها هباء منثورا لبنائها على غير أساس من معرفة الله والايمان به برماد طيرته الريح في اليوم الذي أسند اليه العصف. 5- وصف الضلال بالبعد تقدم القول فيه قريبا فجدد به عهدا. الفوائد: «أو» حرف عطف وله معان نوردها فيما يلي: آ- الشك نحو «لبثنا يوما أو بعض يوم» . ب- الإبهام نحو «وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين» والشاهد في أو الأولى. ج- الإباحة وهي الواقعة قبل ما يجوز فيه الجمع نحو: جالس العلماء أو الزهاد. د- التخيير وهي الواقعة قبل ما يمتنع فيه الجمع نحو: تزوج هندا أو أختها وسر ماشيا أو راكبا. هـ- مطلق الجمع كالواو كقوله: وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها وقد أنكرها بعضهم هنا وقال هي للابهام أي انها تعلم اتصافها بالأمرين وقصدت الإبهام على السامع وهذا مردود لأن كون التقى للنفس والفجور عليها أمران مجتمعان في الواقع كما قال تعالى: «لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» ومن ورودها لمطلق الجمع قول جرير: جاء الخلافة أو كانت له قدرا ... كما أتى ربه موسى على قدر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 وقول النابغة المشهور في معلقته: قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا أو نصفه فقد وعلى هذا المعنى حمل بعض العلماء أو في قوله تعالى «وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون» وفيها أقوال أخرى سترد في مكانها إن شاء الله. والإضراب ك «بل» واشترط سيبويه لاجازة ذلك شرطين تقدم نفي أو نهي وإعادة العامل نحو ما قام زيدا وما قام عمرو واستشهد بقوله تعالى: «ولا تطع منهما آثما أو كفورا» ولم يشترط غير سيبويه هذين الشرطين واستشهدوا بقول جرير: كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية ... لولا رجاؤك قد قتلت أولادي وقيل هي المقصودة بقوله تعالى «وأرسلناه الى مائة ألف أو يزيدون» فقال الفراء الاخبار الاول بحسب ما يظهر للناس ليندفع الاعتراض بأنه كيف يجوز الاضراب مع كونه عالما بعددهم وأنهم يزيدون فهو إخبار منه تعالى بناء على ما يحزر الناس من غير تحقيق ثم أخذ في التحقيق مضربا عما يغلط فيه الناس بناء على ظاهر الحزر وسيأتي المزيد من هذا البحث القيم عند الكلام على هذه الآية. ز- التقسيم نحو: الكلمة اسم أو فعل أو حرف وسماه بعضهم التفريق نحو قوله تعالى: «وقالوا كونوا هودا أو نصارى» وهو أولى من التعبير بالتقسيم لأن استعمال الواو في التقسيم أجود. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 ح- أن تكون بمعنى إلا في الاستثناء وهذه ينتصب المضارع بعدها بإضمار أن كقول زياد الأعجم: وكنت إذا غمزت قناة قوم ... كسرت كعوبها أو تستقيما وهذه الآية منها ولكن امتنع النصب لدخول اللام الدالة على الحال فيمتنع تقدير ان الدالة على الاستقبال لئلا تحصل المنافاة. ط- أن تكون بمعنى الى وهي كالتي قبلها في انتصاب المضارع بعدها بأن مضمرة كقوله: لأستسهلنّ الصعب أو أدرك المنى ... فما انقادت الآمال إلا لصابر ي- أن تكون للتقريب نحو ما أدري أسلّم أو ودع قال الحريري في درة لغواص: «انهم لا يفرقون بين قولهم: لا أدري أينا أقام أو أذن وقولهم أدري أقام أم أذن والفرق بينهما انك إذا نطقت بأم كنت شاكأ فيما أتى به من الإقامة والأذان وإذا أتيت بأو فقد حققت أنه أتى بالأمرين إلا انه لسرعة وقرب ما بينهما صار بمنزلة من لم يقم ولم يؤذن» . ك- الشرطية نحو: لأضربنه عاش أو مات أي إن عاش بعد الضرب وإن مات. ل- التبعيض ذكره بعضهم واستشهد بقوله تعالى: «وقالوا كونوا هودا أو نصارى» وهذا محض تكلف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 [سورة إبراهيم (14) : الآيات 19 الى 22] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) اللغة: (مَحِيصٍ) : منجى ومهرب والمحيص يجوز أن يكون مصدرا كالمغيب والمشيب ومكانا كالمبيت والمصيف وفي المختار حاص عنه عدل وحاد وبابه باع وحيوصا ومحيصا ومحاصا وحيصانا بفتح الياء، يقال ما عنه محيص أي محيد ومهرب والانحياص مثله. ومن أقوالهم: وقع في حيص بيص أي في اختلاط لا مخرج منه وفتنة تموج بأهلها وهما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 اسمان ركبا اسما واحدا وبنيا بناء خمسة عشر والذي أوجب بناءها تقدير الواو فيهما فالحيص التأخر والهرب والبوص مأخوذ من قولهم باص يبوص أي فات وسبق لأنه إذا وقع الاختلاط والفتنة فمنهم فائت ومنهم هارب وكان القياس يقضي أن يقال حيص بوص إلا أنهم أتبعوا الثاني الاول وفيها لغات كثيرة أشهرها حيص بيص بفتح الحاء والباء وفتح آخرهما على البناء كما تقدم، أنشد الأصمعي لأمية بن عائذ الهذلي: قد كنت خراجا ولوجا صرفا ... لم تلتحصني حيص بيص لحاص وقالوا: حيص بيص بكسر أولهما وفتح آخرهما وبعضهم يبنيهما على الكسر كما تكسر الأصوات نحو غاق غاق وهناك لغات أخرى أضربنا عن ذكرها. (بِمُصْرِخِكُمْ) : بمغيثكم وفي المصباح: «صرخ يصرخ من باب قتل صراخا فهو صارخ وصريخ إذا صاح وصرخ فهو صارخ إذا استغاث واستصرخته فأصرخني استغثت به فأغاثني فهو صريخ أي مغيث ومصرخ على القياس» وهو المغيث والمستغيث فهو من أسماء الأضداد كما في الصحاح. قال ابن الاعرابي المستغيث والمصرخ المغيث. الإعراب: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وان وما في حيزها سدت مسد مفعولي تر، والسموات مفعول خلق وقيل مفعول مطلق وسترى بحثا شيقا في باب الفوائد وبالحق متعلقان بخلق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 أو بمحذوف حال فالباء للسببية على الأول وللمصاحبة على الثاني. (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) إن شرطية ويشأ فعل الشرط ويذهبكم جواب الشرط والكاف مفعول به ويأت عطف على يذهبكم وبخلق متعلقان بيأت وجديد صفة (وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) الواو عاطفة أو حالية وما نافية حجازية وذلك اسمها وعلى الله جار ومجرور متعلقان بعزيز والباء حرف جر زائد وعزيز مجرور لفظا منصوب محلا على انه خبر ما. (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) الواو استئنافية والجملة مستأنفة لتقرير بعثهم من القبور وعبر عنه بصيغة الماضي وان كان معناه الاستقبال لأن كل ما أخبر الله عنه فهو حق وصدق كائن لا محالة فصار كأنه قد حصل ودخل في حيز الوجود وبرزوا فعل وفاعل ولله متعلقان ببرزوا وجميعا حال. (فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) الفاء عاطفة وقال الضعفاء فعل وفاعل وللذين متعلقان بقال وجملة استكبروا صلة وجملة إنا مقول القول وان واسمها وجملة كنا خبرها وكان واسمها ولكم متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة له ثم تقدمت وتبعا خبر كنا وهو جمع تابع كقولم خادم وخدم. (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) الفاء عاطفة وهل حرف استفهام وأنتم مبتدأ ومغنون خبر وعنا متعلقان بمغنون ومن عذاب الله حال ومن الثانية زائدة وشيء مفعول به محلا مجرور بمن لفظا وهذا أولى الأعاريب الكثيرة. (قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) قالوا فعل وفاعل ولو حرف امتناع وهدانا الله: فعل ومفعول به وفاعل، لهديناكم: اللام واقعة في جواب الشرط وهديناكم: فعل وفاعل ومفعول به، سواء خبر مقدم وأ جزعنا مبتدأ مؤخر لأنه في تأويل مصدر لأن الهمزة للتسوية والفعل بعدها يؤول بمصدر وأم حرف عطف متصلة وصبرنا عطف على جزعنا. (ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) ما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 نافية حجازية ولنا خبر مقدم ومن حرف جر زائد ومحيص مجرور لفظا اسم ما محلا. (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ) الواو عاطفة وقال الشيطان فعل وفاعل ولما ظرفية حينية أو رابطة وقضي الأمر فعل ونائب فاعل والجملة مضافة للما أو لا محل لها وإن واسمها وجملة وعدكم خبرها ووعد مفعول مطلق والحق مضاف اليه وجملة إن الله مقول القول وهو من كلام إبليس قاله ردا على أهل النار الذين أخذوا يلومونه ويقرعونه. (وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) لا بد من تقدير محذوف أي فصدقكم، ووعدتكم عطف على وعدكم، فأخلفتكم عطف على وعدتكم وهو فعل وفاعل ومفعول به. (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) الواو عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولي خبرها المقدم وعليكم متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لسلطان ومن حرف جر وسلطان مجرور لفظا واسم كان محلا وإلا أداة استثناء وأن وما في حيزها مستثنى لأن الاستثناء المنقطع يجب نصبه ولو كان الكلام غير موجب ولأن الدعاء ليس من جنس السلطان فاستجبتم عطف على دعوتكم ولي متعلقان باستجبتم. (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) الفاء الفصيحة كأنه قيل إن علمتم انكم أسرعتم في اجابتي فأنتم الملومون ولا ناهية وتلوموني مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به ولوموا فعل أمر وفاعل وأنفسكم مفعول به. (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) ما نافية حجازية وأنا اسمها وبمصرخكم الباء حرف جر زائد ومصرخكم خبر ما محلا وما أنتم بمصرخي عطف على مثيلتها وأصل بمصرخي بمصرخين لي جمع مصرخ فياء الجمع ساكنة وياء الاضافة ساكنة كذلك فحذفت اللام للتخفيف والنون للاضافة فالتقى ساكنان وهما الياء ان فأدغمت ياء الجمع في ياء الاضافة ثم حركت ياء الاضافة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 بالفتح طلبا للخفة وتخلصا من توالي ثلاث كسرات. (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) إن واسمها وجملة كفرت خبرها والباء حرف جر وما مصدرية مؤولة مع أشركتموني بمصدر مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بكفرت أي كفرت باشراككم إياي ويجوز أن تكون موصولة والأول أولى كما قررنا والياء مفعول أشركتموني ومن قبل متعلقان بأشركتموني وسيأتي في باب البلاغة معنى اشراكهم إياه مع الله تعالى. (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ان واسمها ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم صفة والجملة الاسمية خبر ان. البلاغة: في قوله تعالى: «إني كفرت بما أشركتموني» استعارة تصريحية شبه الطاعة بالاشراك ونزلها منزلته لأنهم كانوا يطيعونه في أعمال الشر كما يطاع الله في أعمال الخير أو لأنهم لما أشركوا الأصنام ونحوها باتباعهم له في ذلك فكأنهم أشركوه لأنه هو الذي كان يزين لهم عبادة الأوثان ثم حذف المشبه وأبقى المشبه به على طريق الاستعارة التصريحية التبعية. وبوضوح هذه الاستعارة يتضح أن الشيطان قام لهم في هذا اليوم مقاما يقصم ظهورهم ويقطع قلوبهم فقد أوضح لهم: أولا- ان مواعيده التي كان يعدهم بها في الدنيا باطلة ومعارضة لوعد الحق من الله سبحانه. ثانيا- انه أخلفهم ما وعدهم من تلك المواعيد ولم يف لهم بشيء منها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 ثالثا- أوضح لهم أنهم قبلوا قوله بما لا يوجب القبول ولا ينفق على عقل عاقل لعدم الحجة التي لا بد للعاقل منها في قبول قبول غيره. رابعا- أوضح لهم انه لم يكن منه إلا مجرد الدعوة العاطلة عن البرهان الخالية من أيسر شيء مما يتمسك به العقلاء. خامسا- ثم نعى عليهم ما وقعوا فيه ودفع لومهم له وأمرهم بأن يلوموا أنفسهم لأنهم هم الذين قبلوا الباطل البحت الذي لا يلتبس بطلانه على من له أدنى مسكة من عقل. سادسا- أوضح لهم انه لا نصر عنده ولا إغاثة ولا يستطيع لهم نفعا ولا يدفع عنهم ضرا بل هو مثلهم في الوقوع في البلية والعجز عن الخلوص من هذه المحنة. سابعا: ثم صرح لهم بأنه قد كفر بما اعتقدوه وأثبتوه له فتضاعفت عليهم الحسرات وتوالت عليهم المصائب. وإذا كانت جملة «ان الظالمين لهم عذاب أليم» من تتمة كلامه كما ذهب اليه بعض المفسرين فهو نوع ثامن من كلامه الذي خاطبهم به. الفوائد: إعراب خلق الله السموات: هذا بحث شيق وإن يكن لا حقيقة له فقد اعترض عبد القاهر الجرجاني على إعراب خلق الله السموات والعالم ونحوهما إذ قال: «العالم هنا مصدر لا مفعول به لأن المفعول به هو الذي كان موجودا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 أو أثر فيه الفاعل شيئا آخر بفعله والمصدر هو الذي لم يكن موجودا بل كان عدما محضا والفاعل موجده ومخرجه من العدم الى الوجود بفعله والعالم في قولنا خلق الله العالم كذلك فكان مصدرا» واعترض عليه بأنه لو كان مصدرا لكان نفس الخلق ولا يجوز أن يكون ذلك لوجهين أحدهما انا نعلم العالم مع الشك في كونه مخلوقا لله تعالى الى أن نعلم ذلك بدليل منفصل فالعالم على هذا معلوم وكونه مخلوقا له تعالى غير معلوم لتوفقه على الدليل والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم فكان الخلق غير العالم والوجه الثاني ان الله تعالى يوصف بالخلق فلو كان الخلق العالم لكان الله موصوفا بالعالم وهو لا يجوز لأنه يلزم من ذلك وصف القديم بالحادث أو قدم العالم وهذه حذلقة لا طائل تحتها والحق ان الذي أورده عبد القاهر الجرجاني طائح من أساسه لأن الكلام إنما هو في اصطلاح النحاة وهذا المصطلح إنما هو فيما يعرض لأواخر الكلم من الرفع والنصب والجر لا تصاف الكلمة بالفاعلية تارة وبالمفعولية تارة وبالإضافة تارة أخرى الى غير ذلك فإذا قلنا خلق الله السموات والأرض قلنا: هذه الكلمات المركبة المسموعة نسميها في اصطلاحنا فعلا وفاعلا ومفعولا به فرفعنا اسم الله تعالى على أنه فاعل ونصبنا السموات والأرض على المفعولية لوقوع فعل الفاعل عليها ولا يلزمنا من هذه العبارة التي أوقعناها على هذه الألفاظ أن يكون المعنى في الأصل قد وقع وتجدّد لأن الألفاظ أدلة على المعاني والدليل غير المدلول ولأن الاسم غير المسمى وإلا لزم احتراق فم من تلفّظ بالنار ولزم إذا قلنا أعدم الله العالم وأقام القيامة وأمات زيدا أن يكون هذا كله قد وقع الآن وتجدّد ونحن نجد هذا باطلا. ونعتقد أن الامام عبد القاهر كان يعتقد بطلان ما أورده وإنما أورده مغالطة وإظهارا لصناعة البحث ليس غير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 ناصب المفعول به: وهنا لا بد من إيراد بحث دقيق وهو: ما هو ناصب المفعول به؟ مذهب سيبويه أنه الفعل ولذلك تعددت المفاعيل بحسب اقتضاء الفعل لأن الفعل إن اقتضى مفعولا نصبه أو اثنين نصبهما أو ثلاثة نصبها، وقال ابن هشام: إنه الفاعل لأنه الذي أثر فيه في المعنى فيؤثر فيه في اللفظ. أقول: وهذا ليس بشيء لأن الفاعل يضمر والمضمر لا يعمل في المظهر ولأنهم قسموا الفعل الى لازم ومتعدّ فدل على أن العمل له. أما الفراء فاختار أن يكون الفعل والفاعل هما اللذين نصبا المفعول قياسا على الابتداء والخبر، وهو خلاف لا طائل تحته وانما أوردنا هذه المباحث النظرية لأنها مصقلة للذهن، ورياضة له، ويرد على الجميع قوله تعالى: «أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ... » إذ لا فاعل ولا فعل هنا والكلام في هذا لا يتسع له هذا المقام. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 23 الى 27] وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 الإعراب: (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) بعد أن شرح أحوال الكفار الأشقياء شرع في شرح أحوال المؤمنين السعداء. وأدخل فعل ماض مبني للمجهول والذين نائب فاعل وجملة آمنوا صلة وعملوا عطف على آمنوا وهي فعل وفاعل والصالحات مفعول به وجنات مفعول به ثان على السعة وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة لجنات. (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) بإذن جار ومجرور متعلقان بأدخل وربهم مضاف لإذن وتحيتهم مبتدأ وفيها حال وسلام خبر تحيتهم. (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره أنت وكيف اسم استفهام في محل نصب على الحال وضرب الله مثلا فعل وفاعل ومفعول به والحال من المفعول به. (كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) كلمة بدل من مثلا أو منصوبة بفعل محذوف أي جعل كلمة طيبة أو بتضمين ضرب معنى جعل فيكون مفعولا به ثانيا وكشجرة خبر لمبتدأ محذوف بمعنى هي كشجرة طيبة وطيبة صفة لشجرة وأصلها مبتدأ وثابت خبر والجملة صفة ثانية لشجرة وفرعها في السماء عطف على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 أصلها ثابت ويجوز أن يكون قوله كشجرة صفة ثانية لكلمة طيبة. (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) الجملة صفة ثالثة لشجرة وتؤتي فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره هي وأكلها مفعول به وكلّ حين ظرف متعلق بتؤتي وسيأتي حديث عن الشجرة الطيبة وبإذن ربها متعلقان بتؤتي أو بمحذوف حال أي ملتبسة بإذن ربها. (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ويضرب الله الأمثال فعل مضارع وفاعل ومفعول به وللناس متعلقان بيضرب ولعل واسمها وجملة يتذكرون خبرها. (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) ومثل مبتدأ وكلمة مضاف اليه وخبيثة صفة وكشجرة خبر مثل وخبيثة صفة وجملة اجتثت من فوق الأرض صفة ثانية لشجرة وجملة مالها من قرار صفة ثالثة لشجرة وما نافية حجازية أو تميميه ولها خبر مقدم ومن زائدة وقرار مبتدأ مؤخر أو اسم ما مؤخر. (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير حالة كل من المرادين بالمثلين المتقدمين ويثبت فعل مضارع والله فاعل والذين مفعول به وجملة آمنوا صلة وبالقول متعلقان بيثبت والثابت نعت للقول وفي الحياة الدنيا حال. (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ) ويضل الله الظالمين فعل وفاعل ومفعول به ويفعل الله ما يشاء فعل وفاعل ومفعول به وجملة يشاء صلة. البلاغة: 1- التشبيه التمثيلي في تشبيه الكلمة الطيبة الموصوفة بثلاث صفات وهي إيتاء الاكل كل حين أي من وقت أن نؤكل الى حين انصرامها قال الربيع بن أنس هي النخلة لأن ثمرها يؤكل أبدا ليلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 ونهارا وصيفا وشتاء فيؤكل منها الجمار والطلع والبلح والبسر والمنصف والرطب وبعد ذلك يؤكل التمر اليابس إلى حين الطري الرطب فأكلها دائم في كل وقت وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: إن الله ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبروني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي وكنت صبيا فوقع في قلبي أنها النخلة فهبت رسول الله أن أقولها وأنا أصغر القوم وروي فمنعني منها مكان عمر واستحييت فقال لي عمر: يا بني لو كنت قلتها لكانت أحب إليّ من حمر النعم. ووجه الشبه في تمثيل الايمان بالشجرة أن الشجرة لا تكون شجرة إلا بثلاثة أشياء عرق راسخ وأصل قائم وفرع عال كذلك الايمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالأبدان فوجود الصفات الثلاث في جانب المشبه به حسية بينما هي في جانب المشبه معنوية. 2- التشبيه التمثيلي أيضا في تشبيه الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة غير الثابتة كأنها اجتثت أو كأنها ملقاة على وجه الأرض فلا تغوص الى الأرض بل عروقها في وجه الأرض ولا غصون لها تمتد صعدا الى السماء وهذا معنى قوله ما لها من قرار. 3- المجاز العقلي في قوله «تؤتي أكلها» ففعل الإيتاء مسند الى غير فاعله الحقيقي لأن النخلة لا تؤتي الأكل على حد قول الصلتان العبدي. أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومرّ العشي فالمجاز وقع في اثبات الشيب فعلا لكر الغداة ومر العشي وهو في الحقيقة فعل الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 [سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 34] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) اللغة: (الْبَوارِ) : الهلاك وفي المصباح: «بار الشيء يبور بورا بالضم هلك وبار الشيء بوارا كسد على الاستعارة لأنه إذا ترك صار غير منتفع به فأشبه الهالك من هذا الوجه» وفي القاموس والتاج: «البور بفتح الباء: الأرض قبل أن تصلح للزرع أو التي تجم سنة لتزرع من قابل، والاختبار كالابتيار والهلاك، وأباره الله، وكساد السوق كالبوار فيهما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 وجمع بائر وبالضم الرجل الفاسد والهالك لا خير فيه يستوي فيه الاثنان والجمع والمؤنث، وما بار من الأرض فلم يعمّر كالبائر والبائرة» وفي الأساس: «فلان له نوره وعليك بوره أي هلاكه وقوم بور وأحلوا دار البوار ونزلت بوار على الكفار قال أبو مكعت الأسدي: قتلت فكان تظالما وتباغيا ... إن التظالم في الصديق بوار لو كان أول ما أتيت تهارشت ... أولاد عرج عليك عند وجار جعلها علما للضباع فاجتمع التعريف والتأنيث ومن المجاز: بارت البياعات كسدت وسوق بائرة وبارت الأيم إذا لم يرغب فيها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من بوار الأيم وبارت الأرض إذا لم تزرع وأرض بوار وأرضون بور» . (يَصْلَوْنَها) : يدخلونها وفي المصباح صلي بالنار وصليها صليا من باب تعب وجد حرّها والصلاء وزان كتاب حرّ النار وصليت اللحم أصليه من باب رمى إذا شويته» . (خِلالٌ) مخالّة أي صداقة كذا فسرها الزمخشري والجلال وغيرها وهو يقتضي أنها مفرد وفي القرطبي: انه جمع خلة بالضم مثله قلة وقلال وفي الأساس ما يؤيد انه مفرد قال: «هو خليلي وخلّي وخلتي وهم أخلائي وخلّاني وبيننا خلة قديمة، وخاللته مخالّة وخلالا» وما يؤيد أنه جمع قال: «وهذه خلة صالحة وفيه خلال حسنة» . الإعراب: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 الهمزة للاستفهام التعجبي أي ألا تعجب من صنيع هؤلاء الكفرة الذي لا يصدر عمن له أدنى إدراك. ولم حرف نفي وقلب وجزم والى الذين متعلقان بتر وجملة بدلوا صلة ونعمة الله مفعول به ثان لأنه هو الذي يدخل عليه حرف الجر أي بنعمة الله وكفرا هو المفعول الأول قال أبو حيان: «وزعم الحوفي وأبو البقاء ان كفرا هو مفعول ثان لبدلوا وليس بصحيح لأن «بدّل» من أخوات «اختار» فالذي يباشره حرف الجر هو المفعول الثاني والذي يصل اليه الفعل بنفسه لا بواسطة حرف الجر هو المفعول الاول» وأحلوا عطف على بدلوا وقومهم مفعول به أول ودار البوار مفعول به ثان. (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) جهنم بدل أو عطف بيان من دار البوار أو بنصبه بفعل محذوف يفسره ما بعده أي يصلون جهنم وجملة يصلونها حالية على الأول وتفسيرية على الثانية والواو حالية وبئس القرار فعل وفاعل والمخصوص بالذم محذوف أي هي. (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) الواو عاطفة وجعلوا فعل وفاعل ولله في محل نصب مفعول به ثان لجعلوا وأندادا مفعول به أول ولك أن تعلق لله بمحذوف حال وليضلوا قيل اللام للعاقبة أو الصيرورة وقيل هي على بابها من التعليل ولكن ليس ذلك غرضا حقيقيا لهم من اتخاذ الأنداد ولكن لما كان ذلك نتيجة له شبه بالغرض وأدخل عليه اللام بطريق الاستعارة التبعية ويضلوا منصوب بأن مضمرة بعد لام العاقبة أو لام التعليل والواو فاعل وعن سبيله متعلقان بيضلوا. (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) قل فعل أمر وجملة تمتعوا مقول القول وتمتعوا فعل أمر وفاعله، فإن: الفاء للتعليل وان واسمها والى النار خبرها. (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) اتفق أكثر المعربين على أن مقول القول محذوف يدل عليه جوابه أي قل لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا وسيرد على هذا القول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 ما اعترض به بعضهم وذلك في باب البلاغة والذين صفة لعبادي وجملة آمنوا صلة ويقيموا مجزوم في جواب الأمر أي إن قلت لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا إلخ يقيموا الصلاة وينفقوا وجوزوا أن يكون يقيموا وينفقوا بمعنى ليقيموا ولينفقوا فهما مجزومان بلام الأمر ويكون هذا هو المقول وسيرد في باب البلاغة بحث طريف بهذا الصدد والصلاة مفعول به. وعبارة ابن هشام في المغني: «والجمهور على أن الجزم في الآية- أي قل لعبادي- مثله في قولك ائتني أكرمك وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: 1- أحدها للخليل وسيبويه انه بنفس الطلب لما تضمنه من معنى ان الشرطية كما أن أسماء الشرط انما جزمت لذلك. 2- والثاني للسيرا في والفارسي انه بالطلب لنيابته مناب الجازم الذي هو الشرط المقدر كما أن النصب بضربا في قولك ضربا زيدا لنيابته عن أضرب لا لتضمنه معناه. 3- والثالث للجمهور انه بشرط مقدر بعد الطلب وهذا أرجح من الأول لأن الحذف والتضمين وان اشتركا في أنهما خلاف الأصل لكن في التضمين تغيير معنى الأصل ولا كذلك الحذف وأيضا فإن تضمين الفعل معنى الحرف إما غير واقع أو غير كثير ومن الثاني لأن نائب الشيء يؤدي معناه والطلب لا يؤدي معنى الشرط، وأبطل ابن مالك بالآية أن يكون الجزم في جواب شرط مقدر لأن تقديره يستلزم أن لا يتخلف أحد من المقول له ذلك عن الامتثال لكن التخلف واقع وأجاب ابنه بأن الحكم مسند إليهم على سبيل الإجمال لا إلى كل فرد فيحتمل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 أن الأصل يقيم أكثرهم ثم حذف المضاف وأنيب عنه المضاف اليه فارتفع واتصل بالفعل وباحتمال انه ليس المراد بالعباد الموصوفين بالإيمان مطلقا بل المخلصين منهم وكل مؤمن مخلص قال له الرسول أقم الصلاة أقامها، وقال المبرد: التقدير قل لهم أقيموا يقيموا والجزم في جواب أقيموا المقدر لا في جواب قل ويرده أن الجواب لا بد أن يخالف المجاب إما في الفعل والفاعل نحو ائتني أكرمك أو في الفعل نحو أسلم تدخل الجنة أو في الفاعل نحو قم أقم ولا يجوز أن يتوافقا فيهما وأيضا فإن الأمر المقدر للمواجهة ويقيموا للغيبة وقيل يقيموا مبني لحلوله محل أقيموا وهو مبني وليس بشيء وزعم الكوفيون وأبو الحسن أن لام الطلب حذفت حذفا مستمرا في نحو قم واقعد وان الأصل لتقم ولتقعد فحذفت اللام للتخفيف وتبعها حرف المضارعة وبقولهم أقول لأن الأمر معنى فحقه أن يؤدى بالحرف ولأنه أخو النهي ولم يدل عليه إلا بالحرف ولأن الفعل إنما وضع لتقييد الحدث بالزمان المحصل وكونه أمرا أو خبرا خارج عن مقصوده ولأنهم قد نطقوا بذلك الأصل كقوله «لتقم أنت يا ابن خير قريش» . (وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) وينفقوا عطف على يقيموا ومما رزقناهم متعلقان بينفقوا وسرا وعلانية منصوبان على الحال أي ذوي سر وذوي علانية بمعنى مسرين ومعلنين أو على المصدر أي انفاق سر وعلانية أو على الظرفية أي وقتي سر وعلانية أو بنزع الخافض أي في سر وعلانية. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) من قبل متعلقان بينفقوا وان وما في حيزها مصدر مضاف لقبل ويوم فاعل يأتي ولا نافية للجنس أهملت لتكرارها كما في لا حول ولا قوة وقد تقدمت الأوجه فيها وبيع مبتدأ وفيه خبر ولا خلال عطف على لا بيع. (اللَّهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الله مبتدأ والذي خبره وخلق صلة والسموات والأرض مفعوله. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) وأنزل عطف على خلق والفاعل مستتر هو الله ومن السماء متعلقان بأنزل وماء مفعول به فأخرج عطف على أنزل وبه جار ومجرور متعلقان بأخرج ومن الثمرات حال لأنه تقدم على موصوفه وهو رزقا، ورزقا مفعول به ولكم صفة لرزقا. (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) وسخر لكم الفلك عطف على ما تقدم ولتجري اللام للتعليل وتجري منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وفي البحر متعلقان بتجري وبأمره حال. (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) عطف على ما تقدم. (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) عطف أيضا ودائبين حال من الشمس والقمر فلما اتفقا لفظا ومعنى ثنيا ولا يضر اختلافهما في التذكير والتأنبث. (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) وآتاكم عطف أيضا وهو فعل وفاعل مستتر ومفعول به ومن كل متعلقان بآتاكم وما موصول مضاف لكل وسألتموه صلة ويجوز أن تكون ما مصدرية. (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها) الواو عاطفة وان شرطية وتعدوا فعل الشرط والواو فاعل ونعمة الله مفعول تعدوا ولا نافية وتحصوها جواب ان. (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) جملة مستأنفة مسوقة للتأكيد على جحود الإنسان الظالم لآلاء الله ونعمه متغافل عن شكرها وان واسمها واللام المزحلقة وظلوم خبر ان الأول وكفار خبر إن الثاني. البلاغة: في هذه الآيات من التهديد والوعيد والارعاد والابراق ما فيها، وسنورد خصائصها بصورة متعاقبة: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 فأولها: التعجب الوارد بصيغة الاستفهام من أعمالهم التي لا تمت الى الحلم بصلة فقد بدلوا نفس النعمة كفرا وجنوا على أنفسهم وعلى قومهم. وثانيهما: الاستعارة في قوله ليضلوا عن سبيل الله ولم يكن ذلك غرضا لهم ولكنه شبيه به لأنه نتيجة محتومة لاتخاذ الأنداد فهي استعارة تصريحية تبعية. وثالثهما: حذف المقول من قوله «قل لعبادي الذين آمنوا إلخ» وقد رد الحذاق على هذا الإعراب بقوله «وفي هذا الإعراب نظر لأن الجواب حينئذ يكون خبرا من الله تعالى بأنه إن قال لهم هذا القول امتثلوا مقتضاه فأقاموا الصلاة وأنفقوا لكنهم قد قيل لهم فلم يمتثل كثير منهم وخبر الله يجل عن الحلف وهذه النكتة هي الباعثة لكثير من المعربين على العدول عن هذا الوجه من الاعراب مع تبادره فيما ذكر بادي الرأي ويمكن تصحيحه بحمل العام على الغالب لا على الاستغراق ويقوى بوجهين لطيفين أحدهما ان هذا النظم لم يرد إلا لموصوف بالايمان الحق المنوه بايمانه عند الأمر كهذه الآية وغيرها مثل قوله تعالى «قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن» و «قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم» والثاني تكرر مجيئه للموصوفين بأنهم عباد الله المشرفون باضافتهم الى اسم الله تعالى وقد قالوا: إن لفظ العباد لم يرد في الكتاب العزيز إلا مدحة للمؤمنين وخصوصا إذا انضاف اليه تعالى اضافة التشريف والحاصل ان المأمور في هذه الآي من هو بصدد الامتثال وفي حيز المسارعة للطاعة فالخبر في أمثالهم حق وصدق اما على العموم إن أريد أو على الغالب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 ورابعها: التأكيد الذي جعل الخبر إنكاريا بقوله «إن الإنسان لظلوم كفار» فقد اشتملت هذه الآية على أربعة تأكيدات أولها «ان» وثانيها «اللام المزحلقة أو لام التأكيد» وصيغة «ظلوم» وصيغة «كفار» . [سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 41] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 اللغة: (وَاجْنُبْنِي) : أهل الحجاز يقولون: جنبني شره بالتشديد وأهل نجد جنبني وأجنبني والمعنى أدمنا وثبتنا على اجتناب عبادتها، ويقال جنبه الشر وأجنبه إياه ثلاثيا ورباعيا وهي لغة نجد وجنّبه إياه مشددا وهي لغة الحجاز وهو المنع وأصله من الجانب، وقال الراغب: «وقوله تعالى وأجنبني وبني من جنبته عن كذا أي أبعدته منه وقيل من جنبت الفرس وكأنه سأله أن يبعده عن جانب الشرك بألطاف منه وأسباب خفية وأن نعبد على حذف حرف الجر أي عن أن نعبد» وفي القاموس: «والجنب محركة أن يجنب فرسا الى فرسه في السباق فاذا فتر المركوب تحول الى المجنوب» وفي المصباح: «وجنبت الرجل الشر جنوبا من باب قعد أبعدته عنه وجنبته بالثقيل مبالغة» وفي المختار: وجنبه الشيء من باب نصر وجنّبة الشيء تجنيبا بمعنى أي نحاه عنه ومنه قوله تعالى: «واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام» وقال أبو علي: ويقال جنبت فلانا الخير، أي نحيته عنه وجنبته أيضا بالتثقيل. قال أبو نصر: والتخفيف أجود قال الله تعالى: «وأجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام» . (تَهْوِي إِلَيْهِمْ) : تميل وتحن وتطير شوقا نحوهم وأصله أن يتعدى باللام وإنما تعدى بإلى لأنه تضمن معنى تميل قال في الأساس: وهوى الى الجبل وهوى الجبل صعده هو يا قال أبو بكر الهذلي يصف تأبط شرا: وإذا رميت به الفجاج رأيته ... يهوى مخارمها هوي الأجدل أي إذا قذفته في نواحي الأمكنة المتشعبة رأيته يهوى مخارمها أي يسرع في سلوك مسالكها الضيقة كهوي الأجدل وهو الصقر أي كاسراعه في الطيران» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 الإعراب: (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) إذ ظرف زمان لما مضى متعلق باذكر وجملة قال مضاف إليها الظرف وابراهيم فاعل ورب منادى محذوف منه حرف النداء مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة واجعل فعل دعاء وفاعله مستتر تقديره أنت وهذا مفعوله الأول والبلد بدل من اسم الاشارة وآمنا مفعول به ثان. (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) واجنبني فعل دعاء والنون للوقاية والياء مفعوله وبني عطف على الياء أو مفعول معه وان نعبد ان وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض كما قال الراغب أي عن أن نعبد والجار والمجرور متعلقان باجنبني والأصنام مفعول به لنعبد. (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) رب منادى محذوف منه حرف النداء وقد تقدم نظيره وان واسمها وجملة أضللن خبر إن والضمير يعود على الأصنام والمراد بالدعاء طلب الثبات والدوام على ذلك وكثيرا مفعول به ومن الناس صفة لكثيرا وجملة إنهن تعليلية لقوله واجنبني. (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) الفاء عاطفة ومن اسم شرط جازم مبتدأ وتبعني فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والنون للوقاية والياء مفعول به فانه الفاء رابطة لجواب الشرط وان واسمها ومني خبرها والجملة في محل جزم جواب الشرط والفعل وجوابه خبر من. (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) جملة معطوفة على نظيرتها. (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) تكرر النداء لتأكيد الابتهال والتضرع وان واسمها وجملة أسكنت خبرها ومن ذريتي متعلقان بمحذوف صفة لمفعول أسكنت المحذوف أي أسكنت ذرية من ذريتي ومن للتبعيض، بواد جار ومجرور متعلقان بأسكنت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 وغير صفة لواد وذي مضاف لغير وزرع مضاف لذي وعند بيتك الظرف صفة لواد والمحرم صفة لبيتك وسيأتي تفصيل هذا الإسكان في باب الفوائد (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) كرر نداء ربنا تأكيدا للابتهال. وليقيموا اللام لام التعليل وهي متعلقة بأسكنت أي أسكنتهم هذا الوادي الخلاء البلقع من كل مرتفق ومرتزق ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم أي العظيم الحرمة ويعمروه بذكراك وعبادتك. (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) الفاء الفصيحة واجعل أفئدة فعل دعاء ومفعول به ومن الناس صفة لأفئدة أي قلوبا وجملة تهوي مفعول به ثان لا جعل وإليهم متعلقان بتهوي. (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) وارزقهم عطف على اجعل ومن الثمرات متعلقان بارزقهم أي بعض الثمرات فمن للتبعيض ولعل واسمها وجملة يشكرون خبرها. (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) تكرير النداء لتكرير الابتهال ودليل التضرع واللياذ بالله تعالى. وان واسمها وجملة تعلم خبرها وما مفعول تعلم وجملة نخفي صلة وما نعلن عطف على ما نخفي. (وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى تصديقا لابراهيم أو من كلام ابراهيم. وما نافية ويخفى فعل مضارع وعلى الله جار ومجرور متعلقان بيخفى ومن زائدة وشيء مجرور بمن لفظا فاعل محلا وفي الأرض صفة لشيء ولا في السماء عطف على في الأرض. (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) الحمد مبتدأ ولله خبر والذي نعت لله وجملة وهب صلة ولي متعلقان بوهب وعلى الكبر في محل نصب حال وعلى بمعنى مع كقول الشاعر: إني على ما ترين من كبري ... أعلم من حيث تؤكل الكتف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 وإسماعيل مفعول به واسحق عطف عليه. (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) إن واسمها واللام المزحلقة وسميع الدعاء خبرها والجملة تعليل لقوله وهب لي على الكبر. (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) اجعلني فعل دعاء والياء مفعوله الأول ومقيم الصلاة مفعوله الثاني أي مستمرا عليها. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) ومن ذريتي عطف على ياء المتكلم أي واجعل بعض ذريتي مقيم الصلاة وهذا الجار في الحقيقة صفة لذلك المفعول المحذوف أي وبعضا من ذريتي، وربنا منادى وتقبل عطف على ما تقدم ودعائي مفعول به وحذفت الياء مراعاة للفواصل. (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) اغفر فعل دعاء ولي متعلقان باغفر ولوالدي وللمؤمنين عطف على لي ويوم ظرف زمان متعلق بمحذوف حال أي حال كون الغفران في ذلك اليوم العصيب وسيأتي مزيد بحث حول قيام الحساب في باب البلاغة. البلاغة: هذه الآيات مجموعة رائعة من الابتهالات التي تغرق نفس المؤمن في سبحاتها وتذوب في بحرانها الجميل، وقد انطوت على مجموعة من الفنون البلاغية نوجزها فيما يلي: 1- المجاز العقلي في اسناد الإضلال للاصنام وهي جمادات أو مجاز مرسل والعلاقة هي السببية لأنها سبب الإضلال. 2- الطباق بصورة متعددة كقوله تعالى «ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن» و «وما يخفى عليه من شيء في الأرض ولا في السماء» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 3- الاستعارة في قوله «يوم يقوم الحساب» أي يثبت وهو مستعار من قيام القائم على الرجل والدليل عليه قولهم: قامت الحرب على ساقها ونحوه ولك أن تجعله مجازا مرسلا علاقته المحلية مثل واسأل القرية. الفوائد: قصة اسكان ابراهيم ذريته: روى التاريخ أن هاجر كانت جارية لسارة فوهبتها لابراهيم فولدت منه إسماعيل فغارت سارة منهما لأنها لم تكن قد ولدت قط فأنشدته الله أن يخرجها من عندها فأمره الله تعالى بالوحي أن ينقلها الى أرض مكة فأتى من الشام ووضعها في مكة ورجع من يومه فتبعته هاجر فقالت أين تذهب وتتركني بهذا الوادي الذي ليس به إنس ولا شيء فلم يلتفت فقالت: آلله أمرك بذلك؟ قال: نعم، فقالت: إذن لا يضيعني ثم رجعت فانطلق ابراهيم ثم رفع يديه الى السماء وتلا الابتهالات التي عبر الله عنها بآياته الرائعة وترك عندها جرابا من تمر وسقاء من ماء فلما نفد الماء عطشت هي وابنها فجاء جبريل وضرب موضع زمزم بعقبه أو جناحه فخرج الماء فجعلت تشرب منه فمكثوا كذلك حتى مرت بهم قبيلة من جرهم كانوا ذاهبين الى الشام فعطشوا فرأوا الماء عندها فقالوا لها: تأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت نعم ولكن لا حق لكم في الماء قالوا نعم وأرسلوا الى أهليهم فنزلوا معهم فلما شب إسماعيل تعلم منهم العربية وكان أنفسهم وأعجبهم فزوجوه امرأة منهم وماتت أمه بعد ما تزوج الى آخر هذه القصة التي تحتاج الى القلم المبدع ليحيك منها المسرحية الخالدة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 [سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 52] وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 اللغة: (مُهْطِعِينَ) : مسرعين الى الداعي وقيل: الإهطاع أن تقبل ببصرك على المرئي تديم النظر إليه لا تطرف وفي المختار: «اهطع الرجل إذا مدّ عنقه وصوب رأسه، وأهطع في عدوه أسرع» وفي الأساس: «بعير مهطع: في عنقه تصويب وقيل: هو المسرع وقد أهطع في سيره واستهطع وقال: تعبّدني نمر بن سعد وقد أرى ... ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع وقال آخر يصف ثورا: بمستهطع رسل كأنّ زمامه ... بقيدوم رعن من رضام ممتّع (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) : الإقناع رفع الرأس وإدامة النظر من غير التفات إلى غيره. وفي القاموس «وأقنعه أرضاه ورأسه نصبه ورفعه أو لا يلتفت يمينا ولا شمالا وجعل طرفه موازيا» وقيل الاقناع من الاضداد يكون رفعا وخفضا، «مقنعي رءوسهم» رافعيها. (الطرف) : في الأصل مصدر والطرف أيضا: تحريك الجفن قال جرير: إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك ... وهنّ أضعف خلق الله إنسانا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 (مُقَرَّنِينَ) : قرن بعضهم مع بعض أقرنت أيديهم إلى أرجلهم مغللين. (الْأَصْفادِ) : القيود وقيل الأغلال وانشد لسلامة بن جندل: وزيد الخيل قد لاقى صفادا ... يعضّ بساعد وبعظم ساق وهو جمع صفد يقال صفده يصفده صفدا من باب ضرب قيده وصفّده مشددا للتكثير ومن أقوالهم «الصّفد صفد» أي العطاء قيد ومن المجاز صفّدته بكلامي تصفيدا إذا غلبته، وقال عمرو ابن كلثوم: فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مصفّدينا (قَطِرانٍ) : القطران فيه ثلاث لغات: قطران بفتح القاف وكسر الطاء وقطران بزنة سكران وقطران بكسر القاف وسكون الطاء بزنة سرحان وهو ما يتحلب من شجر يسمى الأبهل فيطبخ فتهنأ به الإبل الجربى فيحرق الجرب بحره وحدته، والجلد وقد تبلغ حرارته الجوف ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار وقد يستسرج به وهو أسود اللون منتن الريح فتطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل وهي القمص ليجتمع عليهم لذع القطران وحرقته واسراع النار في جلودهم واللون الوحش ونتن الريح وفي المنجد: «القطران والقطران والقطران: سيال دهني يتخذ من بعض الأشجار كالصنوبر والأرز» . الإعراب: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) الواو استئنافية ولا ناهية وتحسبن فعل مضارع مبني على الفتح لا تصاله بنون التوكيد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 الثقيلة وهو في محل جزم بلا الناهية والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت ولفظ الجلالة مفعول به أول وغافلا مفعول به ثان وعما متعلقان بغافلا وجملة يعمل الظالمون صلة. (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) الجملة مستأنفة أيضا مسوقة لتعليل النهي السابق وانما كافة ومكفوفة ويؤخرهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وليوم متعلق بيؤخرهم وجملة تشخص صفة ليوم وفيه متعلقان بتشخص والأبصار فاعل والمعنى لا تستقر في أماكنها من هول ما ترى. (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) مهطعين ومقنعي رءوسهم حالان من المضاف المحذوف إذ التقدير أصحاب الأبصار أو تكون الأبصار دلت على أصحابها فجاءت الحال من المدلول عليه وجملة لا يرتد إليهم طرفهم حال ثالثة من الضمير في مقنعي رءوسهم ويجوز أن تكون مستأنفة وأفئدتهم الواو للحال أيضا، وأفئدتهم هواء مبتدأ وخبر والجملة حال رابعة ويجوز أن تكون الواو استئنافية والجملة مستأنفة. (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) وأنذر عطف على قوله ولا تحسبن والناس مفعول به أول ويوم مفعول به ثان لا مفعول فيه كما يتوهم للوهلة الاولى على حذف المضاف أي أنذرهم أهواله وعظائمه إذ لا إنذار في ذلك اليوم وإنما الانذار يقع في الدنيا وجملة يأتيهم العذاب مضافة للظرف ويأتيهم فعل ومفعول به والعذاب فاعل مؤخر. (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) الفاء عاطفة ويقول عطف على يأتيهم والذين فاعل وجملة ظلموا صلة وربنا منادى مضاف وأخرنا فعل وفاعل مستتر ومفعول به والى أجل متعلقان بأخرنا وقريب صفة ونجب جزم لأنه جواب الطلب والفاعل مستتر تقديره نحن ودعوتك مفعول به. (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) الهمزة للاستفهام التوبيخي التقريري والواو عاطفة ولم حرف نفي وقلب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 وجزم وتكونوا مضارع ناقص مجزوم بلم والواو اسمها والجملة مقول القول محذوف أي فيقال لهم هذا القول توبيخا وتقريعا، وجملة أقسمتم خبر تكونوا وما نافية حجازية أو تميمية ولكم خبر مقدم ومن حرف جر زائد وزوال اسم ما أو مبتدأ مؤخر محلا مجرور بمن لفظا والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وجاءت بلفظ الخطاب مراعاة لقوله أقسمتم. (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) وسكنتم عطف على أقسمتم وهو فعل وفاعل وفي مساكن جار ومجرور متعلقان بسكنتم والذين مضاف لمساكن وجملة ظلموا صلة وأنفسهم مفعول به. (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) وتبين عطف على ما تقدم والفاعل مقدر على منطوق الجملة أي حالهم وذلك بالأخبار والمشاهدة ولكم متعلقان بتبين وكيف مفعول مطلق أي أيّ فعل فعلنا بهم ولك أن تعربها حالا ولا يصح أن تكون فاعلا لتبين لأن اسم الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله وله الصدارة وفعلنا فعل وفاعل وبهم متعلقان بفعلنا، وضربنا: لك أن تعطفه على تبين ولك أن تجعله مستأنفا وضربنا فعل وفاعل والأمثال مفعول به ولكم متعلقان بضربنا. (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ) الواو عاطفة وقد حرف تحقيق ومكروا فعل وفاعل ومكرهم مفعول مطلق والواو حالية وعند الله ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم ومكرهم مبتدأ مؤخر والهاء مضاف اليه وهي إما هاء الفاعل فيكون المعنى ومكتوب عند الله مكرهم فهو مجازيهم عليه بمكر أعظم ويجوز وإن نافية وكان فعل ماض ناقص ومكرهم اسمها واللام لام الجحود الذي يستحقونه يأتيهم من حيث لا يشعرون والأول أولى لتلاؤمه مع هاء مكرهم الأولى. (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) الواو عاطفة وإن نافية وكان فعل ماض ناقص مكرهم اسمها واللام لام الجحود وتزول فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود والجار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 والمجرور خبر كان ومنه متعلقان بتزول والجبال فاعل والمعنى ولن تزول الجبال بمكرهم وسيأتي معنى ضرب المثل بالجبال في باب البلاغة. (فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) عطف تفريعي على ولا تحسبن ولا ناهية وتحسبن مجزوم محلا بلا الناهية ولفظ الجلالة مفعول به ومخلف مفعول ثان لتحسبن وهو اسم فاعل ووعده مضاف الى مخلف وهو المفعول الثاني لمخلف ورسله هو المفعول الاول لمخلف والأصل مخلف رسله وعده ولكنه قدم الوعد لأهميته وإيذانا منه بأنه لا يخلف الوعد أصلا. (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) ان واسمها وخبرها وذو انتقام خبر ثان لها. (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) يوم الظرف بدل من يوم يأتيهم العذاب أو متعلق بمحذوف أي اذكر يوم وجملة تبدل مضاف إليها الظرف وتبدل فعل مضارع مبني للمجهول والأرض نائب فاعل وغير الأرض مفعول تبدل الثاني والسموات عطف على الأرض أي تتغير معالمهما على حد قوله: وما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت تعلم وفي المطولات أحاديث وأقوال عن تبدل الأرض والسموات لا بأس بالرجوع إليها. (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) عطف على تبدل فهو ماض بمعنى المضارع ولله متعلقان ببرزوا والواحد القهار صفتان لله. (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) عطف على تبدل أيضا والمجرمين مفعول به والرؤية هنا بصرية أي تراهم رؤية العين ويومئذ ظرف أضيف اليه ظرف وهو متعلق بتراهم ومقرنين حال من المجرمين وفي الأصفاد جار ومجرور متعلقان بمقرنين أو بمحذوف حال (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) الجملة حال ثانية أو جملة مستأنفة وسرابيلهم مبتدأ ومن قطران خبره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) عطف على الجملة الحالية وتغشى فعل مضارع ووجوهم مفعول به مقدم والنار فاعل مؤخر. (لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) اللام لام التعليل ويجزي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان ببرزوا والله فاعل وكل نفس مفعول به وما كسبت ما مفعول به ثان وجملة كسبت صلة. (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ان واسمها وخبرها والجملة تعليلية لا محل لها. (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) هذا مبتدأ وبلاغ خبر وللناس صفة ولينذروا معطوف على محذوف أي لينصحوا ويحذروا وبه متعلقان بينذروا. (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) وليعلموا عطف على لينذروا وإنما كافة ومكفوفة وقد سدت مسد مفعولي يعلموا وهو مبتدأ وإله خبر وواحد صفة وليذكر عطف على ما تقدم وأولو الألباب فاعل. البلاغة: الاستعارة التمثيلية في قوله «وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال» فقد شبه بقوله لتزول منه الجبال مكرهم لتفاقمه وشدته، وافتتانهم فيه. وبلوغهم الغاية منه وشبه شريعته وآياته وما أنزله على نبيه من تعاليم سامية، وحجج بينة شبهها بالجبال في رسوخها وتمكنها من نفوس المؤمنين بها المتشبثين بأهدابها وهي من أرقى الاستعارات وأجملها وتزداد روعتها بأن صدور المكر المعدّ لإزالة الجبال صادر عن قوم جوف لا جدوى فيه ولا قوة لهم، وهم في تقلبهم وخفتهم أشبه بالهواء إذ قال قبل ذلك «وأفئدتهم هواء» والهواء الخلاء والخواء الذي لم تشغله الاجرام فوصف به القلب فقيل قلب هواء إذا كان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 قزوقة جبانا لا قوة في قلبه ولا جرأة ويقال للأحمق أيضا قلبه هواء، قال زهير بن أبي سلمى يصف ناقته: كأن الرجل منها فوق صعل ... من الظلمان جؤجؤه هواء الصعل: المنجرد شعر الرأس والصغير الرأس والظلمان جمع ظليم وهو ذكر النعام، والجؤجؤ الصدر وجعل صدره فارغا ليكون أسرع في السير الى طعامه، والنعام مثل في الجبن والخوف والحمق. وقال حسان بن ثابت يهجو أبا سفيان قبل إسلامه: ألا أبلغ أبا سفيان عني ... فأنت مجوف نخب هواء بأن سيوفنا تركت عبيدا ... وعبد الدار سادتها الإماء هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد فيكم وقاء والمجوف والنخب والهواء: خالي الجوف أو فارغ القلب من العقل والشجاعة، وقد رمق شوقي في العصر الحديث هذا المعنى فاقتبسه لوصف الغيد العذارى بقوله: فاتقوا الله في قلوب العذارى ... فالعذارى قلوبهن هواء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 الفوائد: معنى تبدل الأرض غير الأرض: ننقل لك خلاصة كلام الامام الرازي في قوله تعالى «يوم تبدل الأرض غير الأرض» الى آخر الآية لأهميته ثم نعقب على هذا الكلام بكلمات لا تقل عنه أهمية. قال الرازي: «اعلم أن التبديل يحتمل وجهين أحدهما: أن تكون الأرض باقية وتبدل صفتها بصفة أخرى والثاني أن تفنى الذات وتحدث ذات ثانية والدليل على أن اطلاق التبديل لإرادة التغيير في الصفة جائز انه يقال بدلت الحلقة خاتما إذا أنت سويتها خاتما فنقلتها من شكل الى شكل ومنه قوله تعالى «فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات» ويقال بدلت قميصي جبة أي نقلت العين من صفة الى صفة أخرى ويقال تبدل زيد إذا تغيرت أحواله، أما ذكر التبديل عند وقوع المبدل في الذات فكقولك بدلت الدرهم دنانير ومنه قوله تعالى «بدلناهم جلودا غيرها» وقوله: «وبدلناهم بجنتيهم جنتين» فإذا عرفت أن اللفظ محتمل لكل واحد من هذين المفهومين ففي الآية قولان: الاول: المراد تبديل الصفة لا تبديل الذات .... وقوله والسموات أي وتبدل السموات بانتثار كواكبها وانفطارها وتكوير شمسها وخسوف قمرها وكورها فتارة تكون كالمهل وتارة تكون كالدهان. القول الثاني: ان المراد تبديل الذات قال ابن مسعود تبدل بأرض كالفضة البيضاء النقية لم يسفك فيها دم ولم تعمل عليها خطيئة» انتهى كلام الرازي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 وقد علل الفيلسوف الشيخ علاء الدين بن النفيس في رسالته التي عارض بها رسالة حي بن يقظان لا بن الطفيل خراب هذه الدار وفساد هذا العالم وظهور الآيات فقال ما معناه ملخصا: وإذ قد ثبت أن ميل الشمس الى الشمال والجنوب يتناقص دائما فإذا بطل هذا الميل أو قرب منه صارت الشمس دائمة المسامتة لخط الاستواء أو ما يقرب منه فلذلك تحدث حرارة شديدة جدا ويحدث في البقاع التي لها عرض بعيد برد مفرط فتفسد الأمزجة وتضعف القلوب ويكثر موت الفجأة وتسوء الأخلاق فتفسد المعاملات وتكثر الشرور والمخاصمات وتكثر الحروب والفتن ويتقدم الأشرار وتفسد الأذهان، وبفسادها تبعد الناس عن قبول العلوم والحكمة» الى أن يقول: «وإذا دام فقدان ميل الشمس مدة أفرط الخروج عن الاعتدال حتى أفسد الأمزجة الحيوانية والنباتية وكان من ذلك القيامة» انتهى كلام ابن النفيس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 (15) سورة الحجر مكية وآياتها تسع وتسعون [سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) الإعراب: (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) الر تقدم اعرابها وتلك مبتدأ وآيات الكتاب خبر وقرآن عطف على الكتاب ومبين صفة للقرآن وساغ عطف قرآن على الكتاب وإن كان المراد واحدا للتعدد اللفظي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 والتغاير فيه ولزيادة صفة في المعطوف وهي مبين وجميل قول البيضاوي: «تنكير القرآن للتفخيم وكذا تعريف الكتاب» . (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) ربما: كافة ومكفوفة، قال أبو حيان: «ولما كانت «رب» عند الأكثرين لا تدخل على مستقبل تأولوا يود في معنى ود لما كان المستقبل في اخبار الله لتحقق وقوعه كالماضي فكأنه قيل ود وليس ذلك بلازم بل قد تدخل على المستقبل لكنه قليل بالنسبة الى دخولها على الماضي ومما وردت فيه للمستقبل قول هند أم معاوية: يا رب قائلة غدا ... يا لهف أم معاويه وقول جحدر: فإن أهلك فرب فتى سيبكي ... عليّ مهذّب رخص البنان وسيأتي قول مسهب فيها في باب الفوائد، ويود الذين فعل مضارع وفاعل وجملة كفروا صلة ولو مصدرية لوقوعها بعد يود وهي مع مدخولها في تأويل مصدر هو المفعول للودادة والمعنى يودون كونهم مسلمين، ويجوز أن تكون لو امتناعية ويكون جوابها محذوفا تقديره لو كانوا مسلمين لسروا بذلك إذ تخلصوا مما هم فيه ومفعول يود على هذا التقدير أي ربما يود الذين كفروا النجاة. (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ذرهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وقد تقدم أن هذا الأمر وأمر دع لا يستعمل لهما ماض إلا قليلا بل يستعمل منهما المضارع نحو «ونذرهم في طغيانهم» ويأكلوا جواب مجزوم على انه جواب الأمر ويتمتعوا عطف على يأكلوا وكذلك يلههم الأمل والأمل فاعل، فسوف الفاء الفصيحة وسوف حرف استقبال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 ويعلمون فعل وفاعل والمفعول محذوف أي عاقبة أمرهم وسوء صنيعهم. (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) الواو استئنافية وما نافية وأهلكنا فعل وفاعل ومن حرف جر زائد وقرية مجرور لفظا ومنصوب محلا على المفعولية وإلا أداة حصر والواو حالية ولها خبر مقدم وكتاب مبتدأ مؤخر ومعلوم صفة للكتاب والجملة حالية وقيل الواو زائدة واختار الزمخشري وجها آخر وهو أن تكون جملة لها كتاب معلوم صفة لقرية قال: «والقياس أن لا تتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى: «وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون» وانما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال: «جاءني زيد عليه ثوب وعليه ثوب» وسيأتي مزيد بحث عن هذا التركيب في باب الفوائد. (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) ما نافية وتسبق فعل مضارع ومن حرف جر زائد وأمة فاعل تسبق محلا وهي مجرورة لفظا وأجلها مفعول به وما يستأخرون عطف على ما تسبق وحمل على لفظ أمة أجلها فأفرد وأنّث وعلى معناها قوله وما يستأخرون فجمع وذكر. (وَقالُوا: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) الواو استئنافية وقالوا فعل وفاعل وجملة يا أيها الذي نزل إلخ مقول القول ويا حرف نداء وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب والهاء للتنبيه والذي بدل من أي وجملة نزل صلة وعليه متعلقان بنزل والذكر نائب فاعل وإن واسمها واللام المزحلقة ومجنون خبر إن. (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) لو ما حرف تحضيض كهلا وتكون حرف امتناع لوجود والفرق بينهما أن التحضيضية لا يليها إلا الفعل ظاهرا أو مضمرا والامتناعية لا يليها إلا الأسماء وقد تقدم بسط ذلك وسيأتي مزيد من بحث لو ما. وتأتينا فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وبالملائكة متعلقان بتأتينا وإن شرطية وكنت كان واسمها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 ومن الصادقين خبرها وجواب إن محذوف تقديره آتيتنا بالملائكة. (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) كلام مستأنف مسوق للرد على دعواهم وفيه لف ونشر مشوش وسيأتي حكمه في باب البلاغة وما نافية وننزل فعل مضارع فاعله مستتر تقديره نحن والملائكة مفعول به. وإلا أداة حصر وبالحق حال أي ملتبسا بالحق فالباء للملابسة ويجوز تعليقه بنزل وجعله الزمخشري نعتا لمصدر محذوف أي الا تنزلا ملتبسا بالحق والجميع جائز والواو عاطفة وما نافية وكانوا كان واسمها وإذن حرف جواب وجزاء مهمل ومنظرين خبر كان. (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ان واسمها ونحن تأكيد لاسم ان أو ضمير فصل لا محل له وجملة نزلنا خبر إن وإنا عطف وله متعلقان بحافظون واللام المزحلقة وحافظون خبر انا. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وأرسلنا فعل وفاعل ومن قبلك صفة للمفعول به المحذوف المفهوم من منطوق الإرسال أي رسلا من قبلك وفي شيع الأولين نعت آخر للمفعول المحذوف والشيع جمعة شيعة وهي الفرقة المتفقة على طريق ومذهب. (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الواو عاطفة وما نافية ويأتيهم فعل ومفعول به ومن حرف جر زائد ورسول مجرور لفظا مرفوع محلا على الفاعلية وإلا أداة حصر وكانوا كان واسمها وبه متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون خبر كانوا وجملة كانوا به يستهزئون حال أو صفة لرسول. قال الزمخشري: «وما يأتيهم حكاية حال ماضية لأن «ما» لا تدخل على مضارع إلا وهو في موضع الحال ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال» وهذا الذي ذكره الزمخشري هو قول الأكثر من أن «ما» تخلص المضارع للحال وتعينه له وذهب غيره الى أن ما يكثر دخولها على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 المضارع مرادا به الحال وتدخل عليه مرادا به الاستقبال وأنشد على ذلك قول أبي ذؤيب: أودى بنيّ وأعقبوني حسرة ... عند الرقاد وعبرة ما تقلع وقول الأعشى يمدح الرسول عليه السلام: له نافلات ما يغب نوالها ... وليس عطاء اليوم مانعه غدا البلاغة: 1- التعبير بالضد: في قوله: «ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين» اختلف علماء البلاغة في المراد بهذا التعبير وقد قرر النحاة أن ربما لا تدخل إلا على الماضي؟ وما المراد بمعنى التقليل الذي تفيده رب؟ وقد أجيب عن الاول بأن المترقب في اخبار الله تعالى بمثابة الماضي المقطوع به في تحققه فكأنه قيل ربما ود، وأجيب عن الثاني بأن هذا مذهب وارد على سنن العرب في قولهم لعلك ستندم على فعلك وربما ندم الإنسان على ما يفعل ولا يشكون في ندامته ولا يقصدون تقليله والعقلاء يتحرزون من التعرض من المظنون كما يتحرزون من المتيقن الثابت وهذا الجواب جميل ولكن الاجمل منه أن يقال: إن العرب تعبر عن المعنى بما يؤدي عكس مقصوده ومنه قول أبي الطيب المتنبي: ولجدت حتى كدت تبخل حائلا ... للمنتهى ومن السرور بكاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 وقد سبقت الاشارة الى هذا الفن الجميل وكلا هذين الوجهين يحمل الكلام على المبالغة بنوع من الإيقاظ إليها والعمدة في ذلك على سياق الكلام. 2- اللف والنشر المشوش: وقد تقدم ذكر هذا الفن وذلك في قوله تعالى: ما ننزل ... ردا على مقالتهم الثانية وهي لو ما تأتينا بالملائكة» أما رده على مقالتهم الأولى وهي «انك لمجنون» فهو قوله: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» ثم أردف ذلك بقوله ولقد أرسلنا من قبلك الى آخر الآية أي أن هذا ديدنهم وديدن الجاهلية مع جميع الأنبياء فلا تبتئس واقتد بمن قبلك وتأسّ بهم. الفوائد: 1- (رب) ويقال ربت وربما وربتما وقد تخفف حرف جر للتقليل أو للتكثير حسبما يستفاد من سياق الكلام ولا يدخل الا على نكرة وهو في حكم الزائد فلا يتعلق بشيء نحو: رب جهل رفع، وإذا لحقته «ما» كفته عن العمل فيجوز دخوله على الافعال والمعارف فتقول ربما أقبل الخليل وربما الخليل مقبل وقد يبقى على عمله كقوله «ربما ضربة بسيف صقيل» وتكف بما فتدخل حينئذ على الاسم والفعل وتصير كحرف الابتداء يقع بعدها الجملة من الفعل والفاعل كقوله: ربما تجزع النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال والمبتدأ والخبر كقول أبي دؤاد الايادي: ربما الجامل المؤبل فيهم ... وعناجيج بينهنّ المهار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 وتخلفها الواو كقول امرئ القيس: وليل كموج البحر أرخى سدوله ... عليّ بأنواع الهموم ليبتلي كما تخلفها الفاء كقول امرئ القيس أيضا: فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول هذا ورب في الآية معناها التكثير كما قال الشاعر: رب رفد هرقته ذلك اليوم ... وأسرى من معشر أقيال أما علة دخوله على النكرة واختصاصها بها لأن النكرة تدل على الشيوع فيجوز فيها التقليل لقبولها التقليل، والتكثير لقبولها التكثير وأما المعرفة فمعلومة المقدر لا تحتمل تقليلا ولا تكثيرا، ولكنها قد تدخل في السعة على المضمر كما تدخل على المظهر مثل دخول الكاف في الضرورة كقول العجاج: كل الذنابات شمالا كثبا ... وأم أوعال كها أو أقربا إلا أن الضمير بعد رب يلزم الإفراد والتذكير والتفسير بتمييز يأتي بعده نحو ربه رجلا عرفته وربه امرأة لقيها وقال ابن النحاس: «اختلف في الضمير العائد الى النكرة هل هو معرفة أو نكرة فإن قلنا بأن ضمير النكرة نكرة وبه قال السيرافي والزمخشري وجماعة فلا إشكال في دخول رب على الضمير لأنه لما أبهم من جهة تقديمه على المفسر من جهة وقوعه للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد وشاع من جهة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 تفسيره بالنكرة صار فيه من الإبهام والشيوع ما قارب به النكرة فجاز دخول رب عليه. وقال الشيخ ابن النحاس: لا بد للمخفوض بها أو بما ناب منابها من الصفة أولا فمن الناس من قال منهم بعدم اللزوم ومنهم من قال باللزوم كأبي علي الزمخشري وابن عصفور واحتجوا لذلك بأن الصفة في النكرة للتخصيص فهي تفيد الموصوف تقليلا فيوافق المعنى المقصود في أن رب للتقليل» وقال الشيخ بهاء الدين أيضا «إنما جاز: رب رجل وأخيه، ولم يجز: رب أخيه، لأن الثواني يجوز فيها ما لم يجز في الأوائل من قبل انه إذا كان ثانيا يكون ما قبله قد وفى الموضوع حقه فيما يقتضيه فجاز التوسع في ثاني الأمر بخلاف ما إذا أتينا بالتوسع في أول الأمر فإنا حينئذ لا نعطي الموضع شيئا مما يستحقه، هذا إذا لم نقل إن المضاف الى ضمير النكرة نكرة فإن قلنا انه نكرة كان الجواز أسوغ» قال: «ولا يكون العامل فيها إلا بمعنى المضي كقولك رب رجل جواد لقيته أو أنا لاق أو هو ملقي ولا تقول: رب رجل جواد سألقى أو لألقين لأن التقليل في الماضي شائع ولا كذلك في المستقبل لأنه لم يعلم فيتحقق تقليله» قال: وتلزم أبدا الصدر لشبهها بحرف النفي من جهة مقاربة التقليل للنفي لأن النفي اعدام الشيء وتقليله تقريب من إعدامه ولأن العرب استعملوا القليل في موضع النفي قال الشاعر: قلما يبرح المطيع هواه ... كلفا ذا صبابة وجنون معناه ما يبرح المطيع هواه كلفا. وهناك أبحاث تتعلق برب لا يتسع لها صدر هذه الفوائد. 2- واو الحال أيضا: مما توهم فيه النحاة اشتراطهم في واو الحال عدم اقترانها بإلا الإيجابية ومن العجيب أن يتورط في هذا الوهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 ابن هشام في شرحه لألفية ابن مالك ويشايعه في وهمه الشيخ خالد الأزهري فإن ذلك ثابت في فصيح الكلام وهو هذه الآية «وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم» وقول الشاعر كما قال شارح اللب: نعم امرأ هرم لم تعر نائبه ... إلا وكان لمرتاع بها وزرا وكأن الزمخشري شايع القائلين بعدم الجواز فجعل الجملة صفة والواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف. 3- لو ما: لو ما ولولا لهما وجهان أحدهما أن يدلا على امتناع جوابهما لوجود تاليهما فيختصان بالجمل الاسمية والى ذلك أشار ابن مالك بقوله في الخلاصة: لولا ولو ما يلزمان الابتداء ... إذا امتناعا بوجود عقدا نحو قوله تعالى: «لولا أنتم لكنا مؤمنين» وقول الشاعر: لو ما الاصاخة للوشاة لكان لي ... من بعد سخطك في رضاك رجاء والوجه الثاني أن يدلا على التحضيض فيختصان بالجمل الفعلية نحو «لو ما تأتينا بالملائكة» . [سورة الحجر (15) : الآيات 12 الى 20] كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 اللغة: (نَسْلُكُهُ) : ندخله يقال سلكت الخيط في الإبرة وأسلكته إذا أدخلته فيها وفي المختار: «السلك بالكسر الخيط وبالفتح مصدر سلك الشيء في الشيء فانسلك أي أدخله فيه فدخل وبابه نصر قال الله تعالى: «كذلك نسلكه في قلوب المجرمين» واسلك لغة فيه» وفي القاموس وغيره: سلك يسلك بضم اللام في المضارع سلكا وسلوكا المكان دخل فيه والطريق سار فيه متبعا إياه وأسلك الشيء في الشيء أدخله فيه كما يسلك الخيط في الإبرة وسلكه المكان وأسلكه المكان وفيه وعليه أدخله فيه. (سُكِّرَتْ) : حيرت أو حبست من الأبصار أو سدت يقال سكرت النهر سكرا من باب قتل سددته والسكر بالكسر ما يسد به وفي القاموس وشرحه وغيرهما: سكر يسكر الإناء سكرا من باب قتل: ملأه والنهر جعل له سدا والباب سده وسكرت الريح سكورا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 وسكرانا سكنت والحر فتر وسكر، وسكّر بصره تحير وحبس عن النظر وسكر يسكر من باب علم الحوض امتلأ وسكر الرجل عليه اغتاظ وغضب وسكر سكرا، وسكرا وسكرا وسكرا وسكرانا من الشراب نقيض صحا فهو سكر وسكران وهي سكرة وسكرى وسكرانة والجمع سكرى وسكارى وسكارى. وللسين مع الكاف إذا وقعتا فاء وعينا للفعل معنى التأثير في الشيء واحداث الأثر فيه يقال سكب الماء سفحه وصبه وماء ودم أسكوب قالت جنوب أخت عمرو ذي الكلب: الطاعن الطعنة النجلاء يتبعها ... مثعنجر من دم الأجواف أسكوب وهذا أمر سكب وسنّة سكب: حتم قال لقيط بن زرارة لأخيه معبد وقد طلب اليه حين أسر أن يفديه بمئتين من الإبل: ما أنا بمنط (أي بمعط) عنك شيئا يكون على أهل بيتك سنة سكبا، ويدرب له الناس بنا دربا وسكت الرجل أصابته علة منعته من الكلام ورجل سكوت وساكوت وسكّيت وبه سكات إذا كان طويل السكوت من علة وللحبلى صرخة ثم سكتة، ومن المجاز ضربته حتى أسكتّ حركته، والسّكتة: داء معروف تتعطل به الأعضاء عن الحسّ والحركة إلا التنفس والسّكتة: ما تبقى في الوعاء وما تسكت به الصبيّ أو غيره والسّكات داء يمنع من الحيات والسكات من الحياة ما يلدغ قبل أن يشعر به. وسكع يسكع من بابي فهم وفتح سكعا وسكعا مشى على غير هدى لتأثره وفلان يتسكع لا يدري أين يتوجّه من أرض الله وتسكّع في الظلمة خبط فيها قال: أيادي بيضا بيّضت وجه مطلبي ... وقد كنت في ظلمائه أتسكع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 وسئل بعض العرب عن قوله تعالى: «في طغيانهم يعمهون» فقال: في عمههم يتسكعون، وهو إسكاف بكسر الهمزة من الأساكفة وهو الخراز وقيل: كل صانع، وما وطئت أسكفّة بابه، وما تسكّفت بابه وو الله لا أتسكّف له بيتا، ومن المجاز وقفت الدمعة على أسكفّة عينه أي على جفنها الأسفل، وسكّ الباب سده بالحديد وسكّ البئر حفرها وسك أذنيه اصطلمهما وسك النّعام ما في بطنه: رمى به رقيقا يقال: ما سك سمعي مثل ذلك الكلام أي ما دخل وضرب هذا الدرهم في سكة فلان وشقّ الأرض بالسّكة وله سكة من نخل وهو يسكن سكّة بني فلان وهي الزقاق الواسع، ومن المجاز استكت مسامعه: صمت، قال النابغة: أتاني أبيت اللعين أنك لمتني ... وتلك التي تستك منها المسامع وسكن المتحرك وأسكنته وسكّنته وتناسبت حركاته وسكناته وسكنوا الدار وسكنوا فيها وأسكنتهم الدار وأسكنتهم فيها، ومن المجاز سكنت نفسي بعد الاضطراب وعلمته علما سكنت إليه النفس ومالي سكن أي من أسكن اليه من امرأة أو حميم، قال أبو الطيب: بم التعلل لا أهل ولا وطن ... ولا نديم ولا كأس ولا سكن وعليه سكينة ووقار ودعة ولهم ضرب يزيل الهام عن سكناته. قال النابغة: بضرب يزيل الهام عن سكناته ... وطعن كايزاغ المخاض الضوارب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 وهذا- كما يبدو- أشبه بأن يكون مقصودا ولكن لغتنا ولدت مع الإلهام متمشية مع خواطر النفوس وهواجسها. (بُرُوجاً) : جمع برج وبروج السماء اثنا عشر- كما كانوا يقولون- وهي الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، قالوا: وهي منازل الكواكب السبعة السيارة: المريخ وله الحمل والعقرب، والزهرة ولها الثور والميزان، وعطارد (ويمنع من الصرف لصيغة منتهى الجموع) وله الجوزاء والسنبلة، والقمر وله السرطان، والشمس ولها الأسد، والمشتري وله القوس والحوت، وزحل (بمنع الصرف للعلمية والعدل كعمر) وله الجدي والدلو، ولم نورد هذه الأسماء على سبيل التحقيق العلمي فقد بدل العلم الكثير من هذه المعلومات الابتدائية واكتشف ما لم يكن يدور بالخلد والحسبان ولكننا أوردناها للفوائد اللغوية فقط. (اسْتَرَقَ) : خطفه وسرقه وسارقه النظر مثله واسترق الكاتب بعض المحاسبات إذا لم يبرزه. (شِهابٌ) : الشهاب كل مضيء متولد من النار وما يرى كأنه كوكب انقضّ والكوكب عموما والسنان لما فيه من البريق والجمع شهب، قال أبو تمام وجانس: والعلم في شهب الأرماح ساطعة ... بين الخمسين لا في السبعة الشهب (مَعايِشَ) : جمع معيشة وهي ما يعيش به الإنسان مدة حياته من المطاعم والمشارب والملابس وهي بياء صريحة بخلاف الشمائل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 والخبائث وذلك لأن الياء في معايش أصلية في المفرد والمدّ في المفرد لا يقلب همزا في الجمع إلا إذا كان زائدا في المفرد كما قال ابن مالك في الخلاصة: والمد زيد ثالثا في الواحد ... همزا يرى في مثل كالقلائد الإعراب: (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) الكاف نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الإدخال ندخله في قلوب المجرمين ونسلكه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وفي قلوب المجرمين متعلقان بنسلكه. (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) الجملة في محل نصب على الحال ويجوز أن تكون مفسرة لقوله نسلكه فلا محل لها ويؤمنون فعل مضارع وفاعل وبه جار ومجرور متعلقان بيؤمنون وقد: الواو حالية وقد حرف تحقيق وخلت سنة الأولين فعل وفاعل والجملة حالية ويجوز أن تكون الواو استئنافية والجملة مستأنفة أي مضت سنة الله في إهلاكهم وتعذيبهم. (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) الواو عاطفة ولو امتناعية شرطية وفتحنا فعل وفاعل وعليهم متعلقان بفتحنا وبابا مفعول به ومن السماء صفة لبابا والفاء عاطفة وظل واسمها وسيأتي في باب البلاغة ذكر الضمير في يعرجون وفيه متعلقان بيعرجون وجملة يعرجون خبر ظل. (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) اللام واقعة في جواب لو وقالوا فعل وفاعل وانما كافة ومكفوفة وسكرت أبصارنا فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب لو وجملة إنما سكرت أبصارنا مقول القول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 وجملة نحن قوم مسحورون تابعة لجملة سكرت أبصارنا، وبل حرف إضراب ونحن مبتدأ وقوم خبر ومسحورون صفة. (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ) الواو عاطفة واللام جواب القسم المحذوف وقد حرف تحقيق وجعلنا فعل وفاعل وإذا كان بمعنى خلقنا كان قوله في السماء متعلقا به وإذا كان بمعنى صيرنا فيكون مفعوله الأول بروجا والجار والمجرور في محل نصب هو المفعول الثاني وزيناها فعل وفاعل ومفعول به وللناظرين متعلقان بزيناها. (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) الواو عاطفة وحفظناها فعل وفاعل ومفعول به ومن كل شيطان رجيم جار ومجرور متعلقان بحفظناها ورجيم صفة لشيطان. (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) إلا أداة استثناء ومن اسم موصول في موضع نصب على الاستثناء المتصل إن فسر الحفظ بمعنى المنع أي منع الشياطين من التعرض لها على الإطلاق والوقوف على ما فيها في الجملة، أو الاستثناء المنقطع إن فسر بالمنع من دخولها والتصرف فيها. والفاء عاطفة وأتبعه فعل ماض ومفعول به وشهاب فاعل ومبين صفة. (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) والأرض نصب على الاشتغال أي مفعول به لفعل محذوف يفسره ما بعده ومددناها فعل وفاعل ومفعول به وألقينا فعل وفاعل وفيها متعلقان بألقينا ورواسي مفعول به أي جبالا ثابتة لئلا تميد بأهلها. (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) وأنبتنا عطف على ما قبله وفيها متعلقان بأنبتنا ومن كل شيء صفة للمفعول به المحذوف أي نباتا من كل شيء، وموزون صفة أي معلوم مقداره. (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) وجعلنا عطف على ما تقدم ولكم متعلقان بجعلنا أو في موضوع المفعول الثاني وفيها حال ومعايش مفعول جعلنا ومن الموصول عطف على معايش أو على محل لكم كأنه قيل وجعلنا لكم فيها معايش وجعلنا لكم من لستم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 له برازقين أو وجعلنا لكم فيها معايش ولمن لستم له برازقين وأراد بهم العيال والخدم والحشم والدواب وقدره الزجاج منصوبا بفعل محذوف مقدر تقديره وأغنينا من لستم له برازقين ويجوز قطع الواو فتكون ابتدائية ومن مبتدأ خبره محذوف تقديره ومن لستم له برازقين جعلنا له فيها معايش. البلاغة: في قوله تعالى «كذلك نسلكه في قلوب المجرمين، لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين، ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون» تشبيه تمثيلي للعناد المستحوذ عليهم واللدد الراسخ في صدورهم وتفصيل ذلك أن الله تعالى سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويداءاتها كما سلك ذلك في قلوب المؤمنين المصدقين فكذب به هؤلاء وصدّق به هؤلاء كل على علم وبينة ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة ولئلا يكون للكفار على الله حجة بأنهم ما فهموا وجوه الاعجاز كما فهمها من آمن فأعلمهم الله تعالى من الآن، وهم في مهلة وإمكان: انهم ما كفروا إلا على علم معاندين باغين ليكون أدحض لأية حجة يختلقونها وأنقى لكل ادعاء يخرصون به ولذلك عقبه الله تعالى بقوله «ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا» إلخ أي إن هؤلاء فهموا القرآن حق الفهم واكتنهوا أسراره، وسبروا أغوار معجزاته وعلموا وجوه إعجازه وولج ذلك الى قرارات نفوسهم ووقر في أسماعهم ولكنهم قوم ديدنهم العناد وشيمتهم اللجاج والمكابرة حتى لو سلك بهم أوضح السبل وأدعاها الى الايمان بضرورة العيان والمشاهدة وذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 بأن يفتح لهم بابا في السماء يعرج ويعرج بهم حتى يدخلوا منه نهارا وقد أشار الى ذلك بقوله ظلوا لأن الظلول إنما يكون نهارا لقالوا بعد ذلك الإيضاح العظيم المكشوف انما سكرت أبصارنا وسحرنا محمد وما هذه إلا خيالات مموهة لا حقائق تحتها فأسجل عليهم بذلك أنهم لا عذر لهم في التكذيب من عدم سماع ووعي ووصول الى القلوب وفهم كما فهم غيرهم من المصدقين لأن شأنهم الاستمرار في اللدد والعناد والمكابرة واللجاج فاذا انتقلنا الى التفصيل قلنا في هذا التشبيه التمثيلي: 1- التتميم وقد مر سابقا وذلك بعرض مختلف مجالي المشاهدة والاعتبار. 2- الاحتراس بكلمة ظلوا خشية أن يكون عروجهم في الظلام فيتعلوا به على عدم الاهتداء. 3- سكر الابصار على طريق الاستعارة المكنية التبعية. 4- وفي كلمتي الحصر والاضراب دلالة على البت بأن ما يرونه لا حقيقة له بل هو باطل خيل إليهم بنوع من السحر حسب ادعائهم وإيضاح ذلك انهم قالوا: «انما» وهي تفيد الحصر في المذكور آخرا فيكون الحصر في الأبصار لا في التسكير فكأنهم قالوا سكرت أبصارنا لا عقولنا ونحن وإن كنا نتخيل بأبصارنا هذه الأشياء لكنا نعلم بعقولنا أن الحال بخلافه أي لا حقيقة له ثم قالوا «بل» كأنهم أضربوا عن الحصر في الأبصار وقالوا بل جاوز ذلك الى عقولنا بسحر صنعه لنا. وهذه الآيات من الروائع التي يقف البيان أمامها مذعنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 [سورة الحجر (15) : الآيات 21 الى 25] وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) اللغة: (لَواقِحَ) : حوامل لأنها تحمل السحاب وتثيره وفيها قولان أحدهما أنها جمع لاقح إذا جاءت بخير من إنشاء سحاب ماطر كما قيل للتي لا تأتي بخير ريح عقيم والثاني أنها بمعنى الملاحق وهي الإناث التي في بطونها أولادها، قال: ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط ممّا تطيح الطوائح يريد المطاوح جمع مطيحة وفعله لقح يقال لقحت تلقح من باب تعب لقحا ولقحا ولقاحا الناقة ونحوها قبلت اللقاح أو حملت فهي لاقح ولقوح ولقحت الحرب هاجت بعد سكون ولقحت المرأة حملت. وفيما يلي أقوال كبار اللغويين: قال أبو عبيدة: اللواقح: جمع ملقح لأنه من ألقح يلقح فهو ملحق فجمعه ملاقح فحذفت الميم تخفيفا يقال ألقحت الريح السحاب كما يقال ألقح الفحل الأنثى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 وقال الأزهري: اللواقح: جمع لاقح يقال لقحت الريح إذا حملت الماء فهي حوامل لأنها تحمل السحاب كقولك ألقحت الناقة فلقحت إذا حملت الجنين في بطنها فشبهت الريح بها. وقال الفراء: اللواقح: جمع لاقح على النسب كلا بن وتامر أي ذات لقاح. وفي المختار: «ألقح الفحل الناقة ولريح السحاب، ورياح لواقح ولا تقل ملاقح» . الإعراب: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) إن نافية ومن شيء من زائدة في المبتدأ وإلا أداة حصر وعندنا الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وخزائنه مبتدأ مؤخر والجملة خبر شيء. (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) الواو عاطفة وما نافية وننزله فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وإلا أداة حصر وبقدر حال من المفعول أي ملتبسا بقدر ولك أن تعلقه بننزله ومعلوم صفة لقدر. (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) وأرسلنا الرياح فعل وفاعل ومفعول به ولواقح حال مقدرة من الرياح. (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) فأنزلنا الفاء عاطفة وأنزلنا عطف على أرسلنا ومن السماء جار ومجرور متعلقان بأنزلنا وماء مفعول به فأسقيناكموه الفاء عاطفة وأسقى فعل ماض ونا فاعل والكاف مفعول به أول والميم علامة جمع الذكور والواو لا شباع ضمة الميم والهاء مفعول به ثان وما الواو للحال وما نافية حجازية وأنتم اسمها وله متعلقان بخازنين والباء حرف جر زائد وخازنين خبر ما محلا مجرور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 بالباء لفظا. (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) الواو عاطفة وإن واسمها واللام المزحلقة ونحن مبتدأ وجملة نحيي خبره ويجوز أن تكون نحن تأكيدا لنا ولا يجوز أن تكون فصلا لأنها لم تقع بين اسمين ونحن مبتدأ والوارثون خبر. (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وعلمنا فعل وفاعل والمستقدمين مفعول به ومنكم حال ولقد علمنا المستأخرين عطف. (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) وان ربك ان واسمها وهو مبتدأ وجملة يحشرهم خبر والجملة الاسمية خبر ان وان واسمها وحكيم خبر أول وعليم خبر ثان. البلاغة: 1- الاستعارة التمثيلية في قوله «وإن من شيء إلا عندنا خزائنه» فقد شبه ما ينتفع به العباد جميعا لا المطر وحده كما قال بعضهم بالخزائن التي تودع فيها المكنونات والمخبآت لا خراج كل شيء بحسب ما اقتضته الحكمة الإلهية ومصالح العباد الحيوية. 2- الاستعارة المكنية في تشبيه الرياح باللواقح وهي النوق لتوليد المطر مما أفاض الحديث في بسطه ولا يتنافى مع هذه الاستعارة. [سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 44] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 اللغة: (الصلصال) : الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ وإذا طبخ فهو فخار، قالوا: إذا توهمت في صوته مدا فهو صليل وإن توهمت فيه ترجيعا فهو صلصلة وقيل هو تضعيف صل إذا أنتن، وقيل: الصلصال: طين يابس إذا نقر سمع له صوت أي صلصلة وهو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 بمعنى المصلصل كالزلزال بمعنى المزلزل ويكون فعلال أيضا مصدرا نحو الزلزال وفي وزن هذا النوع أي ما كررت فاؤه وعينه خلاف، فقيل وزنه فعفع كررت الفاء والعين ولا لام للكلمة وهو قول الفراء وهو غلط لأن أقل الأصول ثلاثة فاء وعين ولام وقد عدل عنه الفراء فقال إن وزنه فعفل وقيل إن أصله فعّل بتشديد العين وأصله صلّل فلما اجتمع ثلاثة أمثال أبدل الثاني من جنس فاء الكلمة، وخص بعضهم هذا الخلاف بما إذا لم يختلّ المعنى بسقوط الثالث نحو لملم وكبكب فانك تقول فيهما لمّ وكبّ فلو لم يصح المعنى بسقوطه نحو سمسم فلا خلاف في أصالة الجميع. وقيل: ان وزنه فعلل بتكرير اللام فقلبت الأولى منهما من جنس فاء الكلمة، وفي القاموس: الصلصال الطين اليابس الذي يصل من نفسه أي يصوت ويقال صلصل صلصلة الحلي أو اللجام صوت، والرعد صفا صوته والجرس رجع صوته وصلصل فلانا تهدده. هذا وقد جاءت الزيادة رابعة بعد اللام الأولى في أسماء صالحة العدة تقارب عشرة أبنية من ذلك: فعليل وذلك في الاسم والصفة فالاسم قنديل وبرطيل والصفة شنظير وهمهيم فالقنديل معروف والبرطيل حجر طويل قدر الذراع والشنظير السيّء الخلق والهمهيم الذي يردّد ويهمهم ويقال حمار همهيم أي في صوته ترديد من الهمهمة. ومن ذلك فعلول في الاسم والصفة فالاسم عصفور وزنبور والصفة سرحوب وقرضوب فالعصفور والزنبور معروفان والسرحوب الطويل والقرضوب الفقير وهو من أسماء السيف وربما قيل للص قرضوب. ومن ذلك فعليل بضم الفاء وسكون العين وفتح اللام الأولى قالوا في الصفة: غرنيق وهو الرفيع السيد والغرنيق من طيور الماء طويل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 العنق قال الجوهري إذا وصف به الرجال قيل: غرنيق بكسر الغين وغرنيق بالضم والجمع غرانق بالفتح وغرانيق. ومن ذلك فعلول جاء في الاسم والصفة والاسم فردوس وحرذون والصفة علطوس فالفردوس هو البستان والحرذون دويبة كالقطاة والعلطوس الناقة الفارهة. ومن ذلك فعلول في الاسم والصفة فالاسم فربوس وزرجون والصفة قرقوس وحلكوك فالقربوس للسرج معروف والزرجون الخمر سميت بذلك للونها وأصلها بالفارسية زركون (الزر الذهب والكون اللون) وقال أبو عمرو الجرمي: هو صبغ أحمر. ومن ذلك فعلول بفتح الفاء والعين وسكون اللام وفتح اللام قالوا كنهور وبلهور، والكنهور: السحاب العظيم والبلهور من ملوك الهند يقال لكل ملك عظيم منهم بلهور ولا نعلمه اسما. ومن ذلك فعلال ولا يكون إلا في الكلام المضاعف من ذوات الأربعة يكون اسما وصفة فالاسم الزلزال والحثحاث والصفة الصلصال والقسقاس فالزلزال مصدر كالزلزلة والحثحاث بمعنى الحثحثة والصلصال الطين الحر خلط بالرمل فصار يتصلصل إذا جف فإن طبخ فهو الفخار والقسقاس الدليل الهادي وقد جاء حرف واحد على فعلال غير مضاعف قالوا ناقة بها خزعال وهو سوء مشي من داء. ومن ذلك فعلال بكسر الفاء يكون اسما وصفة فالاسم نحو سربال وحملاق والصفة سرداح وهلباج، والسربال القميص والحملاق ما تغطيه الأجفان من العين والسرداح الأرض الواسعة والهلباج الكثير العيوب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 ومن ذلك فعلّل بفتح الفاء والعين وتضعيف اللام الأولى يكون اسما وصفة فالاسم شفلح وهمرّجة والصفة العدبس والعملّس فالشفلح ثمر معين وقد يكون صفة بمعنى الغليظ الشفة والهمرّجة الاختلاط يقال همرجت عليه الخبر أي خلطته والعدبس الضخم والعملس الخفيف وقيل للذئب عملّس، قال الشنفري: ولي دونكم أهلون سيد عملّس ... وأرقط زهلول وعرفاء جيأل ومن ذلك فعلّل بضم الفاء والعين وهو قليل قالوا الصفرق والزمرذ وهما اسمان فالصفرّق نبت والزمرذ من الجوهر معروف. (حَمَإٍ) : الحمأ: الطين الأسود المتغيّر الرائحة من طول مكثه ويقال الحمأة. (مَسْنُونٍ) : منتن من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به فإن ما يسيل بينهما يكون منتنا ويسمى سنينا وقيل المصبوب المفرغ أي أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذابة في أمثلتها وقد امتاز فعل سنّ بكثرة معانيه حتى ليكاد المرء يذهل يقال سن يسن السكين من باب نصر أحدّه وشحذه ويقال هذا مما يسنك على الطعام أي يشحذك على أكله ويشهيه إليك وسن الرمع ركب فيه السنان وسن الأسنان سوكها وسن العقدة حلها وسن الإبل ساقها سوقا سريعا وسن الرجل طعنه بالسنان وعضه بأسنانه وكسر أسنانه ومدحه وأطراه وسن الأمر بينه وسهله وأجراه وسن الطريقة سارفيها وسن عليهم السنة وضعها وسن الطين عمله فخارا وسن الشيء صوّره وسن الماء أو التراب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 صبه برفق وسنت العين الدمع صبته وسن الأمير رعيته أحسن سياستها يقال سن فلان طريقا من الخير أي ابتدأ أمرا من البر لم يعرفه قومه وهذا من أعاجيب لغتنا الشريفة. (الْجَانَّ) : للجن كآدم للناس. (السَّمُومِ) : نار الحر الشديد النافذ من المسام وقيل هي نار لا دخان لها تنفذ في المسام وقيل السموم: ما يقتل من افراط الحر من شمس أو ريح أو نار لأنها تدخل في المسام وهي الثقوب فتقتل وتجمع على سمائم. (رَجِيمٌ) مطرود وفي المصباح: الرجم بفتحتين الحجارة والرجم القبر سمي بذلك لما يجتمع عليه من الحجارة ورجمته رجما من باب قتل ضربته بالرجم، وفي القاموس: «الرجم: اللعن والشتم والطرد والهجران» والمرجوم المطرود الملعون ولعنه الله طرده وأبعده قال الشماخ: وماء قد وردت لوصل أروى ... عليه الطير كالورق اللّجين ذعرت به القطا ونفيت عنه ... مقام الذئب كالرجل اللعين الإعراب: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وخلقنا الإنسان فعل وفاعل ومفعول به ومن صلصال جار ومجرور متعلقان بخلقنا ومن حمأ يجوز أن يكون صفة لصلصال وأن يكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 236 بدلا من قوله من صلصال باعادة الجار ومسنون صفة لحمأ. (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) والجان نصب على الاشتغال وخلقناه فعل وفاعل ومفعول به ومن قبل متعلقان بمحذوف حال ومن نار السموم متعلقان بخلقناه. (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) الظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر وجملة قال ربك مضافة للظرف وللملائكة متعلقان بقال وإن واسمها وخالق خبرها وبشرا مفعول به لخالق ومن صلصال من حمأ مسنون تقدم اعرابها. (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة سويته مضافة للظرف ونفخت عطف على سويته وفيه متعلقان بنفخت ومن روحي صفة لمفعول محذوف أي روحا من روحي والمراد الأحياء وليس ثمة نفخ ولا منفوخ فقعوا الفاء رابطة لجواب إذا وقعوا فعل أمر والواو فاعل وله متعلقان بساجدين وساجدين حال (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) الفاء عاطفة على محذوف أي فخلقه وسواه ونفخ فيه من روحه فسجد الملائكة وكلهم وأجمعون تأكيدان لزيادة تمكين المعنى وترسيخه في الذهن، وسئل المبرد عن هذه الآية فقال: لو قال فسجد الملائكة احتمل أن يكون سجد بعضهم فلما قال كلهم زال هذا الاحتمال فظهر أنهم بأسرهم سجدوا ثم عند هذا بقي احتمال وهو أنهم هل سجدوا دفعة واحدة أو سجد كل واحد في وقت فلما قال أجمعون ظهر أنهم جميعا سجدوا دفعة واحدة. (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) تقدم القول في هذا الاستثناء أنه متصل إما لأنه كان جنيا مغمورا بألوف الملائكة فعدّ منهم تغليبا واما لأنه منهم حقيقة ويجوز أن يكون منقطعا فيتصل به ما بعده أي لكن إبليس أبى أن يكون معهم، وأبى فعل ماض وأن يكون مصدر مؤول منصوب على المفعولية لأبى واسم يكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 مستتر تقديره هو أي إبليس ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر يكون والساجدين مضاف اليه. (قالَ: يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) يا حرف نداء وإبليس منادى مفرد علم وما اسم استفهام للتوبيخ مبتدأ ولك خبر وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض والجار والمجرور في محل نصب على الحال أي مالك غير كائن مع الساجدين، وأن لا تكون مع الساجدين تقدم اعرابها. (قالَ: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) لم حرف نفي وقلب وجزم وأكن مضارع مجزوم بلم واسمها مستتر تقديره أنا واللام لام الجحود وهي لتأكيد النفي وأسجد فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعدها والجار والمجرور خبر أكن ولبشر متعلقان بأسجد وجملة خلقته صفة لبشر ومن صلصال من حمأ مسنون تقدم إعرابها. (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) الفاء الفصيحة لأنها جواب شرط مقدر أي إن تماديت وعصيت فاخرج ومنها متعلقان باخرج والفاء تعليلية وان واسمها وخبرها والجملة لا محل لها. (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) الواو عاطفة وان حرف مشبه بالفعل للتوكيد وعليك خبر ان المقدم واللعنة اسمها المؤخر والى يوم الدين حال أي مستقرة الى تلك الغاية. (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) رب منادى محذوف منه حرف النداء وهو مضاف الى ياء المتكلم والفاء الفصيحة لأنها وقعت في جواب شرط مقدر أي إن قضيت علي بهذا الجزاء فأنظرني أي أمهلني، والى يوم متعلقان بأنظرني ويبعثون مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وجملة يبعثون مضاف إليها وانما طلب الانظار الى اليوم الذي فيه يبعثون ليجد مندوحة وفسحة في الإغواء ونجاة عند الموت إذ لا موت بعد وقت البعث فأجابه الى الاول دون الثاني أي انظر الى آخر أيام التكليف كما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 سيأتي. (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) الفاء عاطفة وإن واسمها ومن المنظرين خبرها. (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) الى يوم جار ومجرور متعلقان بالمنظرين والوقت مضاف اليه والمعلوم صفة. (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) رب منادى كما تقدم وبما الباء للقسم وما مصدرية أي أقسم باغوائك إياي وجملة لأزينن جواب القسم وقد تقدم نظيره في الأعراف وقيل الباء للسببية وكلاهما جائز، لأزينن اللام جواب القسم أو هي موطئة للقسم إن كانت الباء سببية وأزينن فعل مضارع مبني على الفتح ولهم متعلقان بأزينن وفي الأرض حال ولأغوينهم عطف على لأزينن وأجمعين تأكيد للضمير. (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) إلا أداة استثناء وعبادك مستثنى والمخلصين صفة ومنهم حال. (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) هذا مبتدأ وصراط خبر وعلي متعلقان بمحذوف صفة أي حق ومستقيم صفة ثانية أي هذا طريق حق علي أن أراعيه ولا أتجاوزه وهو: (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) فالجملة تفسيرية للصراط المستقيم الذي أوجبت على نفسي التزامه وان واسمها وجملة ليس خبر ولك خبر ليس المقدم وعليهم حال لأنه كان صفة لسلطان وسلطان اسم ليس المؤخر. قال ابن هشام: «قول كثير من النحويين في قوله تعالى: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك» إنه دليل على جواز استثناء الأكثر من الأقل والصواب ان المراد بالعباد المخلصون لا عموم المملوكين وان الاستثناء منقطع بدليل سقوطه في الآية 65 سورة الاسراء «ان عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا» وتعقبه الدماميني بقوله: «اختياره لكون الاستثناء منقطعا مقدوح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 فيه بأنه ارتكاب لخلاف الأصل من غير ضرورة لإمكان حمل الاستثناء على الاتصال وهو الأصل ويكون المراد بالعباد عموم المملوكين ولا يضر في ذلك أن آية الاسراء بدون استثناء لأنه أريد بالعباد فيها المخلصون فترك الاستثناء وقد يجاب بأنه القرآن يفسر بعضه بعضا فإذا تكرر لفظ فيه وكان له موضع محمل واحد وفي آخر ذلك المحمل وغيره حمل في الآخر على ذلك المحمل دون غيره والاستثناء المنقطع وإن كان خلاف الأصل إلا أنه فصيح شائع. (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) قيل هو استثناء من غير الجنس لأن المراد بعبادي الموحدون ومتبع الشيطان غير موحد وقيل هو من الجنس لأن عبادي جميع المكلفين ومن الغاوين حال. (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وموعدهم خبر إن وأجمعين تأكيد للضمير. (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) لها خبر مقدم وسبعة أبواب مبتدأ مؤخر ولكل باب خبر مقدم ومنهم حال لأنه كان صفة لجزء وجزء مبتدأ مؤخر ومقسوم نعت لجزء أيضا والمراد بالجزء الطائفة. البلاغة: 1- الإيجاز في قوله «قال هذا صراط علي مستقيم» ولعله من أبلغ الايجازات لأنه قسيم الإيجاز بالحذف فهو إيجاز بالتقدير وهو قسمان: أحدهما ما ساوى لفظه معناه، وثانيهما ما زاد معناه على لفظه ويسمى بالقصر إذ يدل لفظه على محتملات عديدة ومشتملات كثيرة ولا يمكن التعبير عنه بمثل ألفاظه وفي عدتها لا بل يستحيل ذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 240 فقوله «هذا» اشارة تدل على القرب فكأنه يشير إلى ما هو على مرأى من عيونهم، ومسمع من آذانهم، وبين متناول أيديهم، وصراط تدل على الطريق المسلوكة التي تفضي بسالكها إلى حيث يختار لنفسه من مذاهب ولكن الطريق قد تكون معوجة ملتوية كثيرة المنعطفات فيتيه السالك في متاهاتها وتلتبس عليه أوجه الاستهداء في سلوكها فجاء بكلمة «مستقيم» والمستقيم هو أقصر بعد بين نقطتين وأقل انحراف يخرجه عن سنن الاستقامة وحدودها وكلمة «علي» تعني الإلزام والإيجاب تقول علي عهد الله لأفعلن كذلك فتشعر أنك قد ألزمت نفسك بما هو حق مفروض الأداء ثم ان الاشارة تضمنت كل ما يحتويه الاستثناء فيما بعد وهو قوله «الا عبادك منهم المخلصين» فكأنه أخذ على نفسه وأوجب على ذاته حقا لا انفكاك له عنه وهو تخليص المخلصين من إغوائه، وقد تضمن تعريف المخلصين أيضا ما يؤكد هذا المعنى ويجعله مستقرا في الذهن لأن التعريف فيه مع تحقيق الصفة للموصوف وهي الإخلاص تفخيم لشأنهم وبيان لمنزلتهم ولانقطاع مخالب الإغواء عنهم، وفل معاول النقد ان تتوجه إليهم، فهذه الآية كلمات قليلة وقد احتوت على هذه الأغراض ولا بد لنا من أن نعرض نماذج من غير القرآن لا لأنها ترقى الى مستواه ولكن لأنها تدور في فلكه وتحوم حوله وتستقي من مناهله استمع الى هذه القصة العجيبة: لما أرسل المهلب بن أبي صفرة أبا الحسن المدائني الى الحجاج ابن يوسف يخبره أخبار الأزارقة كلمه كلاما موجزا كالذي نحن بصدده هنا وذلك ان الحجاج سأله فقال كيف تركت المهلب؟ فقال أدرك ما أمّل وأمن مما خاف فقال: كيف هو لجنده؟ قال: والد رءوف، قال: كيف جنده له؟ قال: أولاد بررة، قال: كيف رضاهم عنه؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 قال: وسعهم بفضله، وأغناهم بعدله، قال: كيف تصنعون إذا لقيتم العدو؟ قال: نلقاهم بجدنا ويلقوننا بجدهم، قال: كذلك الجد إذا لقي الجد، قال فأخبرني عن بني المهلب قال: هم أحلاس القتال بالليل، حماة السرج بالنهار قال: أيهم أفضل؟ قال: هم كحلقة مضروبة لا أيعرف طرفاها فقال الحجاج لجلسائه: هذا هو والله الكلام الفضل الذي ليس بمصنوع. وتأمل وصف الحجاج للكلام فقد وصف الكلام الموجز البليغ بما يدانيه في الإيجاز والبلاغة ولا غرو فالحجاج كان آية في إتقان اللغة ومعرفة خصائصها، روى الزجاج في أماليه قال: «أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد قال: أخبرنا أبو حاتم السجستاني عن الأصمعي قال: أربعة لم يلحنوا في جد ولا هزل: الشعبي وعبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف وابن القريّة، والحجاج أفصحهم، قال يوما لطباخه: اطبخ لنا مخلّلة وأكثر عليها الفيجن (أي السذاب وهو نبات ورقه كالصعتر) واعمل لنا مزعزعا فلم يفهم عنه الطباخ فسأل بعض ندمائه فقال له: اطبخ له سكباجا وأكثر عليها من السذاب واعمل له فالوذا سلسا. وسترى نماذج من الإيجاز في أماكن كثيرة يتم بها شرط الكتاب. 2- الاستثناء في قوله تعالى: «فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس» فإن هذا الاستثناء لو لم يتقدم لفظه هذا الاحتراس من قوله كلهم أجمعون لا حتمل- كما أشرنا في الاعراب- أن يكون في الملائكة من لم يسجد فيتأسى به إبليس ولا يكون منفردا بهذه الكبيرة لاحتمال أن تكون آلة التعريف للعهد لا للجنس فلما كان هذا الاشكال يتوجه على الكلام إذا اقتصر فيه على ما دون التوكيد وجب الإتيان بالتوكيد ليعلم أن آلة التعريف للجنس فيرتفع هذا الإشكال بهذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 الاحتراس فحينئذ تعظم كبيرة إبليس لكونه فارق جميع الملأ الأعلى، وخرق إجماع الملائكة فيستحق أن يفرد بهذا اللعن إلى آخر الأبد، هذا والاستثناء الذي يطلقه البلاغيون هو غير الاستثناء المعروف عند النحاة فهو قسمان إذن لغوي وصناعي أما اللغوي فقد فرغ النحاة من تقريره وأما الصناعي فهو الذي نحن بصدده وهو المتعلق بعلم البيان وسترد له نماذج رائعة في هذا الكتاب العجيب. [سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 50] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) اللغة: (غِلٍّ) : الغل بكسر الغين الحقد الكامن في القلب من انغل في جوفه وتغلغل ويطلق على الشحناء والعداوة والبغضاء والحقد والحسد وتقول: جعل الله في كبده غلة وفي صدره غلّا وفي ماله غلو لا وفي رقبته غلا فالغل بالضم القيد وهي مادة تدل على التغلغل مطابقة للفظها يقال وبي وجد تغلغل في الحشا وأبلغ فلانا مغلغلة وهي الرسالة الواردة من بلد بعيد وغلغلت اليه رسالة قال الأخطل: لأغلغلن إلى كريم مدحة ... ولأثنينّ بنائل وفعال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 الإعراب: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) إن واسمها وفي جنات خبرها وعيون عطف على جنات. (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) الجملة مقول قول محذوف أي يقال لهم وادخلوها فعل أمر وفاعل ومفعول به وبسلام في محل نصب على الحال من الواو في ادخلوها أي سالمين من كل أذى أو مسلّما عليكم وآمنين حال ثانية من الواو في ادخلوها. (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) ونزعنا فعل وفاعل وما مفعول به وفي صدورهم صلة ومن غل حال بيان للذي استقر في صدورهم وإخوانا حال ثانية من هم وعلى سرر جار ومجرور متعلقان بمتقابلين ومتقابلين حال ثالثة من ضمير صدورهم وجاز ذلك لأن المضاف جزء من المضاف اليه والعامل فيها معنى الإلصاق وقيل متقابلين صفة لإخوانا وليس ببعيد والأول أولى أي لا ينظر بعضهم قفا بعض لدوران الأسرة بهم وهي صفة الجالسين على موائد الشراب والولائم لأن ذلك أبلغ في المؤانسة والإكرام. (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة أو حالا من الضمير في متقابلين ولا نافية ويمسهم فعل مضارع ومفعول به مقدم ونصب فاعل مؤخر وما هم الواو عاطفة وما نافية حجازية وهم اسمها ومنها متعلقان بمخرجين والباء حرف جر زائد ومخرجين مجرور لفظا منصوب محلا لأنه خبر ما. (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) نبىء فعل أمر والفاعل مستتر وعبادي مفعول به وأن وما في حيزها سدت مسد مفاعيل نبىء وأن واسمها وأنا ضمير فصل أو مبتدأ والغفور خبر أن أو خبر أنا والجملة خبر أن والرحيم خبر ثان. (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) عطف على سابقتها والاعراب واحد ولكن الأليم صفة للعذاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 الفوائد: قوله «نبىء عبادي اني أنا الغفور الرحيم» هذا مما ورد منظوما في القرآن ولكنه ليس شعرا لأنه ليس مقصودا وقد تقدم القول في بعض الآيات التي وردت موزونة وهذه الآية تؤلف بيتا كاملا من البحر المجتث ولكننا لم نذكر هناك معاني أسماء الأبحر وفيما يلي بيان بالأسماء ومعانيها: ذكر الزجاج أن ابن دريد أخبره عن أبي حاتم عن الأخفش قال: سألت الخليل: لم سميت الطويل طويلا؟ قال لأنه طال بتمام أجزائه قلت: فالبسيط؟ قال: لأنه انبسط عن مدى الطويل وجاء وسطه فعلن وآخره فعلن، قلت: فالمديد؟ قال: لتمدد سباعيه حول حماسيه قلت: فالوافر؟ قال: لوفور أجزائه وتدا بوتد قلت: فالكامل؟ قال: لأن فيه ثلاثين حركة لم تجتمع في غيره من الشعر قلت: فالهزج؟ قال: لأنه يضطرب شبه بهزج الصوت قلت: فالرجز؟ قال: لاضطرابه كاضطراب قوائم الناقة عند القيام قلت: فالرمل؟ قال: لأنه برمل الحصير لضم بعضه الى بعض قلت: فالسريع؟ قال: لأنه يسرع على اللسان، قلت: فالمنسرح؟ قال: لانسراحه وسهولته، قلت: فالخفيف؟ قال: لأنه أخف السباعيات قلت: فالمقتضب؟ قال: لأنه اقتضب من السريع، قلت: فالمضارع؟ قال: لأنه ضارع المقتضب، قلت: فالمجتثّ؟ قال: لأنه اجتث أي قطع من طويل دائرته، قلت: فالمتقارب؟ قال: لتقارب أجزائه لأنها خماسية كلها يشبه بعضها بعضا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 [سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 64] وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) الإعراب: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) عطف على نبىء عبادي ليعتبروا بما حل بقوم لوط من عذاب ونبئهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وعن ضيف ابراهيم متعلقان بنبئهم وأصل الضيف مصدر ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع على أنه قد يجمع فيقال أضياف وضيوف وضيفان. (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) الظرف متعلق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 بمحذوف تقديره اذكر وجملة دخلوا مضاف إليها وعليه متعلقان بدخلوا فقالوا عطف على دخلوا وسلاما مفعول مطلق لفعل محذوف أي نسلم سلاما أو مفعول به على المعنى أي اذكروا سلاما وقال فعل ماض وجملة إنا إلخ مقول القول وإن واسمها ومنكم متعلقان بوجلون ووجلون خبر إنا أي خائفون إما لامتناعهم من الأكل واما لأنهم دخلوا بغير إذن. (قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) لا ناهية وتوجل مضارع مجزوم بلا الناهية وان واسمها وجملة نبشرك خبرها وبغلام متعلقان بنبشرك وعليم صفة والجملة تعليلية لعدم الوجل. (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) الهمزة للاستفهام التعجبي وبشرتموني فعل وفاعل ومفعول به وعلى حرف جر وان وما في حيزها في محل جر بعلى والجار والمجرور في موضع نصب على الحال أي حالة كونه قد مسني والكبر فاعل مسني، فبم الباء حرف جر وما اسم استفهام حذفت ألفها لدخول حرف الجر والجار والمجرور متعلقان بتبشرون. (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) جملة بشرناك مقول القول وهو فعل ماض وفاعل ومفعول به وبالحق متعلقان ببشرناك والفاء حرف عطف ولا ناهية وتكن مضارع مجزوم بلا الناهية واسم تكن مستتر تقديره أنت ومن القانطين خبرها. (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) الواو عاطفة ومن اسم استفهام معناه النفي في محل رفع مبتدأ وجملة يقنط خبره ومن رحمة ربه متعلقان بيقنط وإلا أداة حصر والضالون بدل من الضمير المستتر في يقنط بدل بعض من كل ولم يؤت معه بضمير لقوة تعلق المستثنى بالمستثنى منه. (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) الفاء عاطفة لتتساوق المحاورة وما اسم استفهام مبتدأ وخطبكم خبر أي ما شأنكم وأيها منادى نكرة مقصودة وحرف النداء محذوف والهاء للتنبيه والمرسلون بدل أو نعت لأيها. (قالُوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) إن واسمها وجملة أرسلنا خبرها ونا نائب فاعل أرسل والى قوم متعلقان بأرسلنا ومجرمين صفة. (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) فيه وجهان أحدهما أنه مستثنى متصل على أنه مستثنى من الضمير المستكن في مجرمين والمعنى أنهم أجرموا كلهم إلا آل لوط فانهم لم يجرموا وجملة إنا لمنجوهم على هذا استئنافية مسوقة للإخبار بنجاتهم لأنهم لم يجرموا وثانيهما انه مستثنى منقطع لأن آل لوط لم يندرجوا في المجرمين البتة وعلى كل حال محله النصب ويبدو أن جعله منقطعا أولى وأمكن وذلك ان في استثنائهم من الضمير العائد على قوم مجرمين بعدا من حيث ان موقع الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل المستثنى في حكم الأول وهذا الدخول متعذر من التنكير ولذلك قلما تجد النكرة يستثنى منها إلا في سياق نفي لأنها حينئذ أعم فيتحقق الدخول لولا الاستثناء ومن ثم لم يحسن: رأيت قوما إلا زيدا، وحسن: ما رأيت أحدا إلا زيدا. وإن واسمها واللام المزحلقة ومنجوهم خبر إنا وأجمعين تأكيد للضمير، وعلى هذا تكون جملة إنا لمنجوهم متصلة بآل لوط كأنها خبر لكن المقدرة أي لكن آل لوط منجون. (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) اختلف المعربون في هذا الاستثناء وسننقل ما قاله الزمخشري وأبو البقاء، قال الزمخشري: «فإن قلت فقوله إلا امرأته ممّ استثني وهل هو استثناء من استثناء؟ قلت استثنى من الضمير المجرور في قوله لمنجوهم وليس من الاستثناء من الاستثناء في شيء لأن الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه وان يقال: أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأته كما اتحد الحكم في قول المطلّق أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة وفي قول المقرّ: لفلان عليّ عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهما فأما في الآية فقد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 اختلف الحكمان لأن إلا آل لوط متعلق بأرسلنا أو بمجرمين وإلا امرأته قد تعلق بمنجوهم فأنى يكون استثناء من استثناء؟» . وقال أبو البقاء: قوله تعالى: إلا امرأته فيه وجهان أحدهما هو مستثنى من آل لوط والاستثناء إذا جاء بعد الاستثناء كان الاستثناء الثاني مضافا الى المبتدأ كقولك له عندي عشرة إلا أربعة لا درهما فإن الدرهم يستثنى من الأربعة فهو مضاف الى العشرة فكأنك قلت أحد عشر إلا أربعة أو عشرة إلا ثلاثة والوجه الثاني أن يكون مستثنى من ضمير المفعول في منجوهم وسيأتي في باب الفوائد مزيد. وقدرنا فعل وفاعل وقد ضمن معنى العلم فلذلك علق باللام فكسرت إن وإنما أسند الملائكة التقدير لأنفسهم لما لهم من المكانة والقربى من الله كما تقول خاصة الملك نحن أمرنا ونحن رسمنا وان كانوا قد أمروا به ورسموه بأمر الملك، وان واسمها واللام المزحلقة ومن الغابرين خبر ان. (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ) الفاء عاطفة على محذوف أي فخرجوا من عنده وسافروا مع قريته الى قرية قوم لوط ولما حينية أو رابطة وجاء فعل ماض وآل لوط مفعول به مقدم والمرسلون فاعل مؤخر. (قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وان واسمها وخبرها ومنكرون صفة لقوم. (قالُوا: بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) بل حرف إضراب وعطف وجئناك فعل وفاعل ومفعول به وبما متعلقان بجئناك وجملة كانوا صلة وفيه متعلقان بيمترون وجملة يمترون خبر كانوا. (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) الواو عاطفة وأتيناك فعل وفاعل ومفعول به وبالحق متعلقان بمحذوف حال أي ملتبسين أو ملتبسا أنت لا بصارك له ويجوز تعليقه بآتيناك وان واسمها واللام المزحلقة وصادقون خبر إن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 الفوائد: وقفنا على مناظرة جرت بين الكسائي وأبي يوسف بصدد قوله تعالى «إلا امرأته» وحكم «إلا» إذا تكررت فقد سأل الكسائي أبا يوسف عمن قال: له عليّ مائة درهم إلا عشرة إلا اثنين فقال: يلزمه ثمانية وثمانون فقال الكسائي بل يلزمه اثنان وتسعون واستدل بالآية فلم يخالفه وهذا يؤيد رأي أبي البقاء ويخطىء قول الزمخشري وقال ابن هشام: ونظيره قوله تعالى «إنا أرسلنا الى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته» فالمرأة مستثناة من الأول والآل مستثنون من القوم المجرمين وهو منقطع والثاني متصل كذا ظهر لي وبعد فلا يمتنع عندي في مثل عشرة إلا أربعة الا اثنين أن يستثنى الاثنان من الأصل لأن الحمل على الأقرب أرجح لا متعين وكفى بباب التنازع شاهدا وإن كلّا من الفريقين يجيز أعمال كل من العاملين إلا ما استثني لعارض والعارض يوجد هنا أيضا نحو عشرة إلا ثلاثة إلا أربعة فإن قلت: ما المانع من أن يكون في الآية الاستثناء الثاني من القوم المجرمين ويرجحه الاتصال على هذا أيضا لأنها من الآل ومن المجرمين قلت: متى قيل هذا فقد أبعد القائل وأحال أما الأول فواضح وأما الثاني فلأن معنى أرسلنا بالعذاب فلا يصح إخراجها من المعذبين فان قلت: فما المانع من أن يستثنى من هم في إنا لمنجوهم وحينئذ تكون معذبة ويكون حملا على أقرب ما ذكرت وتخرج الآية عن الاستثناء من الاستثناء قلت هو قول الزمخشري وليس عندي كغالب أقواله الاعرابية لأن «إنا لمنجوهم أجمعين» إنما ذكرت توكيدا لا تأسيسا لاستفادة معناها من الإخراج من حكم المعذبين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 250 وبعد نقل ما تقدم عثرت على اعتراض جميل وهو أنه تقدم أن المراد بالاجرام ذلك الفعل الشنيع فكيف يقولون إن المرأة من الآل ومن المجرمين وذلك الفعل لا يتصور منها وعلى هذا يطيح الرأيان جميعا ويمكن أن يجاب بأن الدلالة على الشيء كفعله أو السكوت على الاجرام والرضا به إجرام وانما أطلنا الكلام لأن هذه الآية مما كثر فيه الكلام وقل من أصاب الغرض من الأئمة الاعلام وسئل عنها الجلال السيوطي في الفتاوى فما أتى بالمرام والله أعلم. وقد اضطرب أبو حيان في كلامه على الرأيين والموازنة بينهما فقال: «ولما استسلف الزمخشري أن إلا امرأته مستثنى من الضمير المجرور في لمنجوهم لم يجوز أن يكون استثناء من استثناء ومن قال انه استثناء من استثناء فيمكن تصحيح كلامه بأحد وجهين أحدهما انه لما كان الضمير في لمنجوهم عائدا على آل لوط وقد استثنى منه المرأة صار كأنّه مستثنى من آل لوط لأن المضمر هو الظاهر في المعنى والوجه الآخر أن قوله إلا آل لوط لمّا حكم عليهم بغير الحكم على قوم مجرمين اقتضى ذلك نجاتهم فجاء قوله إنا لمنجوهم أجمعين تأكيدا لمعنى الاستثناء إذ المعنى إلا آل لوط فلم يرسل إليهم بالعذاب فصار نظير قولك قام القوم إلا زيدا فانه لم يقم أو إلا زيدا لم يقم فهذه الجملة تأكيد لما تضمنه الاستثناء من الحكم على ما بعد إلا بضد الحكم السابق على المستثنى منه فإلا امرأته على هذا التقرير الذي قررناه استثناء من آل لوط لأن الاستثناء مما جيء به للتأسيس أولى مما جيء به للتأكيد» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 251 [سورة الحجر (15) : الآيات 65 الى 77] فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) اللغة: (فَأَسْرِ) : بقطع الهمزة من أسرى وقرىء بوصلها من سرى يقال سرى بالليل وأسرى وسريت به وأسريت به وطال بهم السّرى وطالت يكون مصدرا كالهدى وجمع سرية يقال: سرينا سرية من الليل وسرية كالغرفة والغرفة وأنشد أبو زيد: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 252 وأرفع صدر العنس وهي شملّة ... إذا ما السرى مالت بلوث العمائم (يَعْمَهُونَ) يتحيرون وقد تقدم ذكره. (سِجِّيلٍ) طين طبخ بالنار. (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) للمتفرسين والمعتبرين المتأملين والتوسم تفعل من الوسم والتوسم أصله التثبت والتفكر مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البقر أو غيره، وقال ثعلب: الواسم الناظر إليك من فرقك الى قدمك. (القطع) تقدم تفسيره ولا يكون إلا في آخر الليل، قال: افتحي الباب وانظري في النجوم ... كم علينا من قطع ليل بهيم الإعراب: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) الفاء الفصيحة وأسر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وبأهلك حال وبقطع متعلقان بأسر ومن الليل صفة لقطع. (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) واتبع عطف على فأسر وأدبارهم مفعول به والواو حرف عطف ولا ناهية ويلتفت مجزوم بلا ومنكم حال لأنه كان في الأصل صفة وأحد فاعل وامضوا عطف أيضا وحيث ظرف مبهم في محل نصب مفعول لأمضوا ولإبهامه تعدى إليه الفعل من غير واسطة وجملة تؤمرون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 مضاف إليها الظرف. (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) وقضينا فعل وفاعل واليه جار ومجرور متعلقان بقفينا لأنها تضمنت معنى أوحينا وذلك مفعول ففينا والأمر بدل من اسم الاشارة وأن وما في حيزها مصدر مؤول بدل من ذلك الأمر أو خبر لمبتدأ محذوف وفي إبهامه وتفسيره تفخيم للأمر وتعظيم لشأنه وان واسمها ومقطوع خبرها ومصبحين حال من الضمير المستقر في مقطوع وجمعه على المعنى فيكون معنى مقطوع مقطوعين. (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) الواو عاطفة وجاء أهل المدينة فعل وفاعل وجملة يستبشرون حال. (قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ) إن واسمها وخبرها والفاء الفصيحة ولا ناهية وتفضحوني مجزوم بلا والواو فاعل والنون نون الوقاية والياء المحذوفة لمراعاة الفواصل مفعول به. (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ) عطف على ما تقدم وقد تقدم إعراب نظيرها. (قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) الهمزة للاستفهام والواو عاطفة على محذوف ولم حرف نفي وقلب وجزم وننهك فعل مضارع مجزوم بلم والكاف مفعول به وعن العالمين متعلقان بننهك وأصح الأقوال في نهيه عن العالمين هو نهيه عن أن يجير أحدا منهم ويمنع بينهم وبين قومه. (قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) هؤلاء بناتي مبتدأ وخبر ولا بد من تقدير محذوف أي فانكحوهن ويجوز أن يكون هؤلاء مفعولا به بفعل مقدر أي انكحوا هؤلاء وبناتي بدل وإن شرطية وكنتم كان واسمها وهي في محل جزم فعل الشرط وفاعلين خبر كنتم وجواب إن محذوف دل عليه ما قبله المحذوفة أي فانكحوهن. (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) اللام للابتداء وعمرك مبتدأ محذوف الخبر وجوبا تقديره قسمي وجملة إنهم جواب القسم لا محل لها وان واسمها واللام المزحلقة وفي سكرتهم متعلقان بيعمهون وجملة يعمهون خبر إنهم وجملة لعمرك إنهم لفي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 سكرتهم يعمهون اعتراضية. (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) الفاء عاطفة وأخذتهم الصيحة فعل ومفعول به وفاعل ومشرقين حال أي داخلين في الشروق وهو بزوغ الشمس. (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) الفاء عاطفة والعطف مرتب على أخذ الصيحة وجعلنا فعل وفاعل وعاليها مفعول جعلنا الأول وسافلها مفعول جعلنا الثاني وأمطرنا عطف على جعلنا وحجارة مفعول به وعليهم متعلقان بأمطرنا ومن سجيل صفة لحجارة. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها وللمتوسمين صفة لآيات أو تتعلق بنفس الآيات لأنها بمعنى العلامات. (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) ان واسمها والضمير يعود للمدينة وهي سدوم والمراد آثارها واللام المزحلقة وبسبيل خبرها ومقيم صفة أي ثابت مسلوك يعرفه الناس وفيه تنبيه لقريش انكم لتمرون عليها كل يوم. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) تقدم اعراب نظيرتها. البلاغة: شملت الآية الكريمة وهي «فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون» شملت على وجازتها آداب المسافرين لأمر مهم ديني أو دنيوي من الآمر والمأمور والتابع والمتبوع وسنلخص ما ورد فيها من آداب: 1- أمره بأن يقدمهم أمامه لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه وليكون مطلعا عليهم وعلى أحوالهم. 2- جعل السرى في آخر الليل لأنه أخفى للويل ولأن الإنسان يكون نشيطا فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 3- نهاهم عن الالتفات الذي يعوق الساري المسرع المغذ في سراه في تلك الحالة المهولة المحذورة ولئلا يروا ما حلّ بقومهم من العذاب فترق قلوبهم لهم. 4- ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض فيصيبه العذاب ولأن المتلفت يقف دائما ويتذكر مرابعه ومراتعه فيتحسر ويأسى وقد يدوم النشيج كما حدث للصمة بن عبد الله. تلفت نحو الحي حتى وجدتني ... وجعت من الإصغاء ليتا واخدعا وكما حدث للشريف الرضي: ولقد وقفت على ديارهم ... وطلولها بيد البلى نهب وبكيت حتى ضج من لغب ... نضوي ولج بعذلي الركب وتلفتت عيني فمذ خفيت ... عني الطلول تلفت القلب الفوائد: وفي أمثال العرب: «أجور من قاضي سدوم» قالوا بفتح السين مدينة من مدائن قوم لوط، قال الأزهري قال أبو حاتم في كتابه الذي صنفه في المفسد والمذال: إنما هو سذوم بالذال المعجمة والدال خطأ قال الأزهري: وهذا عندي هو الصحيح قال الطبري: «هو ملك من بقايا اليونانية غشوم كان بمدينة سرمين من أرض قنسرين» وهذا هو الذي اعتمده صاحب القاموس فحمله على تغليط الجوهري وقال الثعالبي: إن سدوم من الملوك المتقدمين المتصفين بالجور «كالة» قاض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 أشد جورا منه قال الزبيدي: «وقد علم مما تقدم أن المثل مضبوط بالوجهين وان المشهور فيه إهمال الدال» ونقل عن الشهاب انه يمكن أن يكون بالمعجمة في الأصل قبل التعريب، فلما عرب أهملوا داله. [سورة الحجر (15) : الآيات 78 الى 85] وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) اللغة: (الْأَيْكَةِ) : هي غيضة شجر بقرب المدينة وأصحابها هم قوم شعيب وفي المختار: الأيك الشجر الملتف والكثير والواحدة أيكة مثل تمر وتمرة. (الْحِجْرِ) : واد بين المدينة والشام وهم قوم ثمود. الإعراب: (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) الواو استئنافية أو عاطفة وإن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 مخففة من الثقيلة مهملة أو عاملة واسمها ضمير الشأن المحذوف أي وإن الشأن كان أصحاب الأيكة وكان واسمها والأيكة مضاف اليه واللام الفارقة وظالمين خبر كان. (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) فانتقمنا الفاء عاطفة على محذوف أي أمعنوا في الإثم فانتقمنا، وانتقمنا فعل وفاعل ومنهم متعلقان بانتقمنا وإنهما الواو حالية أو عاطفة وإنهما ان واسمها والميم والألف حرفان دالان على التثنية واختلف في عودتهما فقيل يعني قرى قوم لوط والأيكة وقيل يعودان على الأيكة ومدين لأن شعيبا كان مبعوثا إليهما فلما ذكر الأيكة دل بذكرها على مدين فجاء بضميرهما وقيل يعود على لوط وشعيب وقيل يعود على الخبرين خبر إهلاك قوم لوط وخبر إهلاك قوم شعيب واللام المزحلقة وبإمام خبر إنهما وسمي الطريق إماما لأن السالك فيه يأتم به حتى يصل الى الموضع الذي يريده ومبين صفته. (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) عطف على ما تقدم لتتساوق القصص واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وكذب أصحاب الحجر فعل وفاعل والمرسلين مفعول به وهذا شروع في قصة صالح. (وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) وآتيناهم فعل وفاعل ومفعول به أول وآياتنا مفعول به ثان فكانوا عطف على آتيناهم وكان واسمها وعنها متعلقان بمعرضين ومعرضين خبر كانوا (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) وكانوا عطف وكان واسمها وجملة ينحتون خبرها ومن الجبال حال لأنه كان في الأصل صفة أو بينحتون وبيوتا مفعول به وآمنين حال من الضمير في ينحتون أي حال كونهم آمنين عليها من أن تتهدم لاستيثاق بنائها واستحكامها أو من الاستهداف للغارات والاعتداءات لأنها معاقل حصينة لهم. (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) الفاء عاطفة وأخذتهم فعل ومفعول به مقدم والصيحة فاعل مؤخر ومصبحين حال أي داخلين في وقت الصباح. (فَما أَغْنى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) الفاء عاطفة وما نافية وأغنى فعل ماض وعنهم متعلقان بأغنى وما فاعل وجملة كانوا صلة وجملة يكسبون خبر كانوا ويجوز أن تكون ما استفهامية مفعولا مقدما لأغنى ويجوز أن تكون ما مصدرية والاعراب واحد. (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) الواو عاطفة وما نافية وخلقنا السموات فعل وفاعل ومفعول به والأرض عطف على السموات وإلا أداة حصر وبالحق حال والباء للملابسة أي ملتبسا بالحق والحكمة والمصلحة. (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) الواو عاطفة وإن واسمها واللام المزحلقة وآتية خبرها والفاء الفصيحة واصفح فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والصفح مفعول مطلق والجميل صفة. البلاغة: 1- في قوله تعالى: «وان كان أصحاب الأيكة لظالمين» مجاز مرسل علاقته الحالية لأن الأيكة هي شجر ملتف مزدحم. 2- في قوله «لبإمام مبين» استعارة تصريحية لأن الطريق سبيل للوصول والمسافر فيه يتبعه حتى النهاية فاستعمل المشبه به بدلا عن المشبه. [سورة الحجر (15) : الآيات 86 الى 99] إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 اللغة: (الْمَثانِي) : المراد بالمثاني هنا مختلف فيه فقيل الفاتحة لأنها تثنى في كل ركعة وهي سبع آيات وقيل هي السور السبع الطوال وهي جمع مثناة مؤنث مثنى وقد تقدم بحثه مفصلا في النساء وسميت السور السبع الطوال مثاني لما وقع فيها من تكرير القصص والمواعظ والوعد والوعيد والكلام في ذلك مبسوط في المطولات. (عِضِينَ) : جمع عضة وأصلها عضوة من عضي الشاة إذا جعلها أعضاء وقيل عضهة من عضهته إذا بهته وفي المختار: «قال الكسائي: العضة الكذب والبهتان وجمعها عضون مثل عزة وعزون قال الله تعالى: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 260 «الذين جعلوا القرآن عضين» قيل نقصانه الواو وهو من عضوته أي فرقته لأن المشركين فرقوا أقاويلهم فيه فجعلوه كذبا وسحرا وكهانة وشعرا وقيل نقصانه الهاء وأصله عضهة لأن العضة والعضين في لغة قريش السحر يقولون للساحر عاضه» وسيأتي مزيد بحث عن الملحقات بجمع المذكر السالم في باب الفوائد. (فَاصْدَعْ) : فاجهر به وأظهره يقال صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا كقولك صرح بها من الصديع وهو الفجر والصدع في الزجاجة الإبانة وقال الضحاك: وأصل الصدع الشق والفرق أي افرق بين الحق والباطل وسيأتي مزيد بحث عن هذا التعبير العجيب في باب البلاغة. الإعراب: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) ان واسمها وخبرها، وهو ضمير فصل (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) كلام مستأنف مسوق لتنبيه المسلمين الى أن ما أنزل عليهم خبر من متاع الدنيا قيل: وافت من بصرى وأذرعان سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب والجوهر وسائر الأمتعة فقال المسلمون لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله فقال لهم الله عز وعلا لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتيناك فعل ماض وفاعل ومفعول به أول وسبعا مفعول به ثان ومن المثاني صفة لسبعا والقرآن عطف على سبعا من قبيل عطف الصفات مع وحدة ذات الموصوف والعظيم صفة للقرآن. (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) لا ناهية وتمدن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 الثقيلة وهو في محل جزم بلا الناهية والفاعل مستتر تقديره أنت وعينيك مفعول به والى ما متعلقان بتمدن وجملة متعنا صلة وبه متعلقان بمتعنا وأزواجا مفعول متعنا ومنهم صفة لأزواجا والمراد بالأزواج الأصناف منهم أي أن ما أوتيته من نعماء سابغة يضؤل أمامه كل ما في الدنيا من بهارج الحياة وتزاويقها. (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) ولا تحزن عطف على لا تمدن وعليهم متعلقان بتحزن واخفض عطف أيضا وجناحك مفعول به وللمؤمنين متعلقان بأخفض. (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) إن واسمها وأنا مبتدأ أو ضمير فصل والنذير خبر أنا أو خبر إن والمبين صفة. (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) كما فيها وجهان أحدهما أن يتعلقا بقوله ولقد آتيناك أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون والثاني أن يتعلقا بالنذير أي ينزل عليك مثل الذي نزل بأهل الكتاب وعلى كل حال صفة لمفعول مطلق محذوف وعلى المقتسمين جار ومجرور متعلقان بأنزلنا وسيأتي بيانهم. (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) الذين صفة للمقتسمين وجملة جعلوا صلة والقرآن مفعول جعلوا وعضين مفعول به ثان أي قسموا القرآن أقساما فجعلوه سحرا وشعرا وأساطير وقد اختلف بهؤلاء المقتسمين وقصصهم اختلافا يخرج بنا عن النهج المقرر للكتاب فارجع اليه في المطولات. (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) الفاء عاطفة والواو للقسم وربك مجرور بواو القسم وهما متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم، واللام واقعة في جواب القسم ولنسئلنهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وأجمعين تأكيد (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) الفاء الفصيحة أي إن عرفت هذا فاصدع، واصدع فعل أمر وفاعله أنت وبما متعلقان به وما مصدرية أو موصولة وعن المشركين متعلقان بأعرض. وقد رجح ابن هشام في المغني أن تكون مصدرية وعلل ذلك ابن الشجري قال: فيه أي في الموصولية خمسة حذوف والأصل بما تؤمر بالصدع به فحذفت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 الباء فصار بالصدعة فحذفت أل لامتناع اجتماعها مع الاضافة فصار يصدعه ثم حذف المضاف كما في: واسأل القرية فصار به ثم حذف الجار كما قال عمرو بن معد يكرب: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب فصار تؤمره ثم حذفت الهاء كما حذفت في: أهذا الذي بعث الله رسولا وانما ارتكب خمسة حذوف لأجل أن يكون جاريا على القياس في حذف العائد المجرور لأنه لا يحذف العائد المجرور إلا إذا كان مجرورا بمثل الحرف الذي جر الموصول وأن يكون كل من الحرفين متعلقا بعامل مماثل لما تعلق به الآخر فقول ابن الشجري: والأصل بما تؤمر بالصدع به العائد متعلق بمثل ما تعلق به الجار للموصول ولو قال: اصدع بما تؤمر به لم توجد تلك الشروط لاختلاف المتعلق لأن الباء الأولى متعلقة بالصدع والثانية متعلقة بتؤمر. (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) ان واسمها وجملة كفيناك خبرها وهو فعل وفاعل ومفعول به والمستهزئين مفعول به ثان. (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) الذين صفة للمستهزئين وجملة يجعلون صلة والواو فاعل ومع الله ظرف مكان متعلق بمحذوف مفعول به ثان ليجعلون وإلها مفعول به وآخر صفة والفاء استئنافية وسوف حرف استقبال ويعلمون فعل مضارع وفاعل والمفعول محذوف أي عاقبة أمرهم. (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف تقليل والمراد به هنا التكثير والتحقيق ونعلم فعل مضارع فاعله مستتر تقديره نحن وأنك أن وما في حيزها سدت مسد مفعولي نعلم وان واسمها وجملة يضيق صدرك خبرها وصدرك فاعل يضيق وبما متعلقان بيضيق وجملة يقولون صلة والعائد محذوف أي يقولون من أقاويل ويرجفون به من أراجيف. (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 السَّاجِدِينَ) الفاء الفصيحة وسبح بحمد ربك تقدم إعرابه قريبا وكن مع الساجدين كان واسمها ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف خبرها والساجدين مضاف اليه. (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) حتى حرف غاية وجر ويأتيك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والكاف مفعول به واليقين فاعل وسمي الموت يقينا لأنه متيقن الوقوع. البلاغة: 1- في قوله «فاصدع بما تؤمر» استعارة مكنية فالمستعار منه الزجاجة والمستعار الصدع وهو الشق والمستعار له هو عقوق المكلفين وهو من استعارة المحسوس للمعقول وقد تقدمت الاشارة الى أقسام الاستعارة والمعنى صرح بجميع ما أوحي إليك وبين كل ما أمرت ببيانه وإن شق ذلك على بعض القلوب فانصدعت والمشابهة بينهما فيما يؤثره التصديع في القلوب فيظهر أثر ذلك على ظاهر الوجوه من التقبض والانبساط ويلوح عليها من علامات الإنكار والاستبشار كما يظهر ذلك على ظاهر الزجاجة المصدوعة فانظر الى هذه الاستعارة ما أروعها وما أبعد دلائلها ومراميها وما أوجزها لأنها وقعت في ثلاث كلمات انطوت على ما يستوعب الصفحات، قال عبد الله بن عبيدة ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا حتى نزلت هذه الآية فخرج هو وأصحابه. ويروى أن بعض الأعراب لما سمع هذه اللفظات الثلاث سجد فقيل له: لم سجدت؟ فقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام لأنه أدرك منه بديها من غير تأمل كل ما أدركناه بعد الروية والنظر ومن هذا يتبين لك أن العرب تيقنت من أول ما سمعت القرآن أنه غير مقدور للبشر فلم تشتغل بالمعارضة ولا حدثت نفوسها بها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 2- في قوله «واخفض جناحك للمؤمنين» استعارة مكنية وسيأتي القول فيها مسهبا عند قوله «واخفض لهما جناح الذل من الرحمة» . الفوائد: الملحق بجمع المذكر السالم: حملوا على جمع المذكر السالم أربعة أنواع أعربت بالحروف وليست جمعا مذكرا سالما وهي كما يلي: الأول: أسماء جموع: وهي: أولو بمعنى أصحاب، وعالمون اسم جمع عالم بفتح اللام وليس جمعا له لأن العالم عام في العقلاء وغيرهم والعالمون مختص بالعقلاء والخاص لا يكون جمعا لما هو أعم منه، وعشرون وبابه وهو سائر العقود الى التسعين وقد وردت العقود كلها في القرآن وقد أحصيناها على الشكل التالي: آ- «ان يكن منكم عشرون صابرون» . ب- «وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة» . ج- «فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما» . د- «فإطعام ستين مسكينا» . هـ- «ذرعها سبعون ذراعا» . و «فاجلدوهم ثمانين جلدة» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 ز- «إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة» . الثاني: جموع تكسير تغير فيها بناء الواحد وأعربت بالحروف وهي: (بَنُونَ) جمع ابن وقياس جمعه جمع السلامة ابنون كما يقال في تثنيته ابنان ولكن خالف تصحيحه تثنيته لعلة تصريفية أدت الى حذف الهمزة وذلك أن ابن أصله بنو حذفت لامه للتخفيف وعوض عنها همزة الوصل والجمع يرد الأشياء إلى أصولها فلما جمع رجعت الواو فذهبت الهمزة ثم حذفت الواو والمحذوف لعلة كالثابت فلم تأت الهمزة وأما التثنية فلو رجعت الواو لم يكن هناك ما يقتضي حذفها لأنها متحركة بالفتح والفتح خفيف وقد حذفت أولا لغرض التخفيف فلو حذفت لزال ذلك الغرض والمانع من حذفها لو رجعت ومن قلبها ألفا سكون ما بعدها كما في بيان ولو حذفت لصار اللفظ بنان فيحصل اللبس ببنان الكف بخلاف بنون فليتأمل وأرضون بفتح الراء جمع أرض بسكونها وجمع هذا الجمع لأنه ربما يورد في مقام الاستعظام كقوله: لقد ضجت الأرضون إذ قام من بني ... سدوس خطيب فوق أعواد منبر إلا أنه سكن الراء للضرورة، وسنون بكسر السين جمع سنة بفتحها اسم للعام ولامها واو أو هاء لقولهم سنوات وسنهات وبابه وهو شائع في كل اسم ثلاثي حذفت لامه وعوض عنها هاء التأنيث ولم يكسر نحو عضة وعضين وأصل عضة عضه بالهاء من العضه وهو البهتان والكذب وفي الحديث: لا يعضه بعضكم بعضا وقيل أصله عضو من قولهم عضيته تعضية إذا فرقته فعلى الاول لامها هاء ويدل له تصغيرها على عضيهة وعلى الثاني واو ويدل له جمعها على عضوات فكل من التصغير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 والجمع يردان الأشياء الى أصولها، وعزة وعزين والعزة بكسر العين وفتح الزاي أصلها عزى فلامها ياء وهي الفرقة من الناس والعزين الفرق المختلفة لأن كل فرقة تعتزي الى غير من تعتزي إليه الأخرى، وثبة وثبين والثبة بضم الثاء وفتح الباء الجماعة وأصلها ثبو وقيل ثبي من ثبيت أي جمعت فلامها على الأول واو وعلى الثاني ياء ولا يجوز في نحو اسم واخت وبنت لأن العوض فيهنّ عن لامهنّ المحذوفة غير الهاء، أما اسم فأصله سمو فحذفت لامه وعوض عنها الهمزة في أوله وأما أخت وبنت فأصلهما أخو وبنو وحذفت لامهما وعوض منهما تاء التأنيث لا هاء التأنيث والفرق بينهما أن تاء التأنيث فيهما لا تبدل هاء في الوقف وتكتب مجرورة وهاء التأنيث يوقف عليها بالهاء وتكتب مربوطة ولا في نحو شاة وشفة لأنهما كسرا على شفاه وشياه، قال الجوهري: وإنما لم يجمعا بالحروف لأن العرب استغنت بتكسيرهما عن تصحيحهما. الثالث: مما حمل على هذا الجمع جموع تصحيح لم تستوف شروط الجمع كأهلون ووابلون لأن أهلا ووابلا ليسا علمين ولا صفتين ولأن وابلا غير عاقل والمعروف أن شرط هذا الجمع أن يكون لعلم من يعقل أو صفته. الرابع: ما سمي به من هذا الجمع ومما ألحق به فالأول نحو زيدون مسمى به شخص والثاني كعليون فإنه ملحق بهذا الجمع وسمي به أعلى الجنة قال تعالى: «إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون» وهناك تفاصيل أخرى لا حاجة إلى إثباتها لأنها دون الفصيح ولهذا أضربنا عن ذكرها ويرجع إليها في المطولات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 (16) سورة النحل مكية وآياتها ثمان وعشرون ومائة [سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 اللغة: (نُطْفَةٍ) : في المصباح: «نطف الماء ينطف من باب قتل سال، وقال أبو زيد: نطفت القربة تنطف وتنطف نطفانا إذا قطرت والنقطة ماء الرجل والمرأة وجمعها نطف ونطاف مثل برمة وبرام والنطفة أيضا الماء الصافي قلّ أو كثر ولا فعل للنطفة أي لا يستعمل لها فعل من لفظها» وفي المختار أن نطف من بابي قتل وضرب. (خَصِيمٌ) : شديد الخصومة وفيه معنيان أحدهما أنه خصيم لربه منكر على خالقه قائل «من يحيي العظام وهي رميم» والثاني فإذا هو منطيق مجادل عن نفسه مكافح للخصوم باللدد والجدل والسفسطة وما إلى ذلك من ضروب الوقاحة والشرة وسيأتي المزيد من هذا في باب البلاغة. (دِفْءٌ) : في المختار: «الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها قال الله تعالى: «لكم فيها دفء» وفي الحديث: «لنا من دفئهم ما سلموا بالميثاق» وهو أيضا السخونة اسم من دفىء الرجل: من باب طرب وسلم فالذكر دفآن والأنثى دفأى مثل غضبان وغضبى ورجل دفىء بالقصر ورجل دفيء بالمد» وفي المصباح: «دفيء البيت يدفأ مهموز من باب تعب قالوا: ولا يقال في اسم الفاعل دفيء وزان كريم بل وزان تعب ودفىء الشخص فالذكر دفآن والأنثى دفأى مثل غضبان وغضبى إذا لبس ما يدفئه ودفؤ اليوم مثل قرب والدفء وزان حمل خلاف البرد» وفي القاموس: «والدفء بالكسر ويحرك نقيض حدة البرد كالدفاءة والجمع أدفاء دفىء كفرح وكرم وتدفأ واستدفأ وادّفأ وأدفأه ألبسه الدفء والدفآن المستدفئ كالدفىء والدفء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 بالكسر نتاج الإبل وأوبارها والانتفاع بها وما أدفأ من الأصواف والأوبار» وقال الزمخشري: «والدفء اسم ما يدفأ به كما أن الملء اسم ما يملأ به وهو الدفاء من لباس معمول من صوف أو وبر أو شعر» فتلخص أن للدفء ثلاثة معان: 1- ضد البرودة أي السخونة. 2- ما يتدفأ به من الثياب. 3- ما يتحصل من الإبل من نتاج ولبن ومنافع. (تُرِيحُونَ) : تردونها الى مراحها بالعشي. (تَسْرَحُونَ) : تخرجونها الى المرعى بالغداة وسيرد المزيد من بحث الاراحة والتسريح في باب البلاغة وفي المصباح: سرحت الإبل سرحا من باب نفع وسروحا رعت بنفسها وسرحتها يتعدى ولا يتعدّى وسرحتها بالتثقيل مبالغة وتكثير. (بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) : بجهدها بكسر الشين وفتحها وهما لغتان في معنى المشقة وبينهما فرق وهو ان المكسور بمعنى النصف كأنه يذهب نصف قوته لما يناله من الجهد وأما المفتوح فهو مصدر شق عليه الأمر شقا وحقيقته راجعة الى الشق وهو الصدع وفي المختار: «الشق بالكسر نصف الشيء والشق أيضا المشقة ومنه قوله تعالى: «إلا بشق الأنفس» وهذا قد يفتح» . (قَصْدُ السَّبِيلِ) : القصد: مصدر بمعنى الفاعل وهو القاصد يقال سبيل قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه. (جائِرٌ) : حائد عن الاستقامة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 الإعراب: (أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) أتى فعل ماض وأمر الله فاعله عبر عن المستقبل بالماضي لأنه بمثابة الأمر الواقع الذي لا محيد عنه، والفاء عاطفة ولا ناهية وتستعجلوه فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل والهاء مفعول به. (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) سبحانه مفعول مطلق لفعل محذوف وتعالى فعل ماض وعما تنازعه كل من سبحانه وتعالى وما يحتمل أن تكون مصدرية فلا تحتاج الى عائد ويحتمل أن تكون موصولة فتحتاج الى تقدير عائد وجملة يشركون لا محل لها على كل حال. (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ينزل الملائكة فعل وفاعل مستتر ومفعول به وبالروح متعلقان بينزل أو بمحذوف حال أي ملتبسة بالروح ومن أمره متعلقان بمحذوف حال وعلى من يشاء متعلقان بينزل ومن عباده حال. (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) أن مخففة وهي وما في حيزها بدل من قوله بالروح أي ينزل الملائكة بأن أنذروا وتقديره بأنه أنذروا فاسم أن ضمير الشأن وجملة أنذروا مقول قول محذوف أي بأن الشأن أقول لكم أنذروا ولك أن تجعل أن مفسرة لأن الروح بمعنى الوحي الذي فيه معنى القول دون حروفه وأنه سدت مع ما في حيزها مسد مفعول أنذروا لأنه متضمن معنى أعلموا الناس أو تكون أنذروا على معناها الأصلي وأنه نصب بنزع الخافض أي أنذروا بأنه وجملة لا إله إلا أنا خبر أنه وقد تقدم القول مفصلا في «لا إله إلا الله» ، فاتقون: الفاء الفصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من جريان عادته تعالى بتنزيل الملائكة على الأنبياء وأمرهم بأن ينذروا الناس أنه لا شريك له في الألوهية فاتقون في الإخلال بمضمونه، واتقون فعل أمر وفاعل والنون للوقاية وياء المتكلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 حذفت لمراعاة الفواصل. (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) خلق السموات والأرض فعل وفاعل مستتر والسموات مفعول به والأرض عطف على السموات وبالحق في محل نصب على الحال أي محقا وتعالى فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وعما متعلقان بتعالى وجملة يشركون صلة لما. (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) خلق الإنسان فعل وفاعل مستتر ومفعول به ومن نطفة متعلقان بخلق ومن للابتداء فإذا الفاء عاطفة وإذا الفجائية وهو مبتدأ وخصيم خبر ومبين صفة. (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) الواو عاطفة والأنعام منصوب بفعل محذوف يفسره ما بعده وخلقها فعل وفاعل مستتر ومفعول به والجملة مفسرة ولكم خبر مقدم وفيها حال ودفء مبتدأ مؤخر والجملة حالية ويجوز أن تكون مستأنفة ويجوز أن يكون لكم حالا من دفء وفيها الخبر، وقع الاسم المشتغل عنه وهو الانعام بعد عاطف غير مفصول من الاسم بأما مسبوق بفعل وهو خلق الإنسان من نطفة فترجح نصبه لأن المتكلم عاطف جملة فعلية على جملة فعلية والرافع عاطف جملة اسمية على جملة فعليه وتشاكل الجملتين أحسن من تخالفهما وقد يقال: إن في الرفع تخلصا من تقدير العامل فلكل مرجح فكان ينبغي التساوي لا أرجحية النصب ويجاب بأن مراعاة التشاكل أقوى مما ذكر ومنافع عطف على دفء ومنها متعلقان بتأكلون وتأكلون فعل مضارع وفاعل وتقديم الجار والمجرور وهو معمول للفعل يوجب حصره فيه. (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) الواو عاطفة ولكم خبر مقدم وفيها حال وجمال مبتدأ مؤخر وحين ظرف متعلق بمحذوف صفة وجملة تريحون مضاف إليها وكذلك قوله وحين تسرحون وسيأتي مزيد بحث عن الإراحة والتسريح في باب البلاغة. (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 الواو عاطفة وتحمل أثقالكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به والى بلد متعلقان بتحمل وجملة لم تكونوا بالغيه صفة لبلد وبالغيه خبر تكونوا وإلا أداة حصر وبشق الأنفس في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في بالغيه أي مشقوقا عليكم. (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ان واسمها واللام المزحلقة ورءوف رحيم خبران. (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) والخيل وما بعده عطف على الانعام أي وخلق هؤلاء للركوب والزينة ولتركبوها مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور في موضع نصب مفعول لأجله وزينة عطف على محل لتركبوها وجر الأول بالجر لاختلاف الفاعل لأن الركوب فعل المخاطبين وفاعل الخلق هو الله تعالى أما زينة فهي من فعله تعالى ولذلك نصبت فالمزين والخالق هو الله ويجوز أن تعرب نصبا على الحال من الهاء في تركبوها. (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان إحاطته تعالى وقدرته وان ما تناهى إليهم علمه يعد ضئيلا جدا بالنسبة إلى علمه الواسع. (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ) على الله خبر مقدم وقصد السبيل مبتدأ مؤخر ومنها خبر مقدم وجائر صفة لموصوف هو المبتدأ المؤخر أي سبيل جائر أي حائد عن الاستقامة. (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) الواو عاطفة ولو امتناعية شرطية ومفعول شاء محذوف أي شاء هدايتكم واللام رابطة لجواب لو وهداكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وأجمعين تأكيد. البلاغة: 1- الإيجاز في قوله تعالى «حين تريحون وحين تسرحون» فقد انطوت كلمتا «تريحون» و «تسرحون» على الكثير من المعاني والصور، مما يضفي على مقتني هذه الأنعام جمالا ورواء وأبهة ليس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 في المكنة تصوره لأن الرعاة إذا ردوا الأنعام بالعشي الى مراحها أي مأواها بالليل أو سرحوها عند الغداة إلى المراعي المعشوشبة وعرجوا على الأفنية والبيوت رغت الإبل وخارت البقر وثغت الشاء فتجاوب ذلك كله مع صياح الصبيان وحديث العقائل والأوانس وهن يتهادين متخطرات متوثبات شمل الفرح الجميع، ورقصت النعمة، ورفرفت السعادة وقدم الإراحة على التسريح لأن الجمال في الإراحة أكثر تقبل وهي ملأى البطون حافلة الضروع معسولة الحلب. 2- المجاز المرسل في قوله «فإذا هو خصيم مبين» لأن الفاء تدل على التعقيب وكونه خصيما مبينا لا يكون عقب خلقه من نطفة ولكنه إشارة إلى ما تؤول إليه حاله فهو مجاز مرسل والعلاقة اعتبار ما سيكون كقوله تعالى «إني أراني أعصر خمرا» أي عنبا يئول إلى الخمر. [سورة النحل (16) : الآيات 10 الى 17] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 اللغة: (تُسِيمُونَ) : ترعون دوابكم من سامت الماشية إذا رعت فهي سائمة وأسامها صاحبها وهي من السومة وهي العلامة لأنها تؤثر بالرعي علامات في الأرض. قال السيوطي: لم يأت اسم المفعول من أفعل على فاعل إلا في حرف واحد وهو قول العرب: أسمت الماشية من المرعى فهي سائمة ولم يقولوا مسامة وقوله تعالى: «فيه تسيمون» من أسام يسيم واجب المراد أسمتها أنا فسامت هي فهي سائمة كما تقول: أدخلته الدار فدخل فهو داخل. (ذَرَأَ) : خلق وذرأنا الأرض وذروناها: بذرناها وذرأ الله الخلق وبرأ ومن الذارىء البارئ سواه واللهم لك الذّرء والبرء، ومنك السّقم والبرء، وقد علته ذرأة وهي بياض الشيب أول ما يبدو في الفودين وقد ذرىء رأسه ذرءا ورجل أذرأ وامرأة ذرءاء بيضاء الرأس أو بيضاء الوجه قال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 فمرّ ولما تسخن الشمس غدوة ... بذرءاء تدري كيف تمشي المنائح أي منحت كثيرا فاعتادت ذلك فهي تسامح بالمشي لا تأبى. (طَرِيًّا) : الطراوة ضد اليبوسة أي غضا جديدا ويقال طريت كذا أي جددته وفي المصباح: طرو الشيء وزان قرب فهو طري أي غضّ بين الطراوة وطرىء بالهمز وزان تعب لغة فهو طريء بين الطراوة وطرأ فلان علينا يطرأ مهموز بفتحتين طروءا طلع فهو طارئ وطرأ الشيء يطرأ أيضا طرآنا مهموز حصل بغتة فهو طارئ وأطريت العسل بالياء عقدته وأطريت فلانا مدحته بأحسن ما فيه وستأتي النكتة في وصف اللحم بالطراوة أو الطراءة في باب البلاغة. (حِلْيَةً) : في المصباح: «حلي الشيء بعيني وبصدري يحلى من باب تعب حسن عندي وأعجبني وحليت المرأة حليا ساكن اللام لبست الحلي وجمعه حلي والأصل على فعول مثل فلس وفلوس والحلية بالكسر الصفة والجمع حلى مقصور وتضم الحاء وتكسر وحلية السيف زينته، قال ابن فارس: ولا تجمع وتحلت المرأة لبست الحلي أو اتخذته وحليتها بالتشديد ألبستها الحلي أو اتخذته لها لتلبسه وحليت السويق جعلت فيه شيئا حلوا حتى حلا» وفي القاموس وشرحه وغيرهما: الحلي وجمعه حلي وحليّ والحلية وجمعها حليّ وحلى على غير القياس ما يزين به من مصوغ المعدنيات أو الحجارة الكريمة وقول بعض المفسرين: اللؤلؤ والمرجان تفسير معنى للحلية لا تفسير لغة والمراد بلبسهم لبس نسائهم لأنهن من جملتهم ولأنهن إنما يتزين من أجلهم فكأنها زينتهم ولباسهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 (مَواخِرَ) : جواري والمخر شق الماء بحيزومها وعن الفراء هو صوت جري الفلك بالرياح وفي المختار: «مخرت السفينة من باب قطع ودخل جرت تشق الماء مع صوت ومنه قوله تعالى: وترى الفلك مواخر فيه أي جواري» وفي الأساس: «فلك مواخر تمخر الماء تشقه مع صوت ونشأت بنات مخر وهي سحاب الصيف تمخر الجو مخرا واستمخرت الريح استقبلتها بأنفي وخرجت أتمخر الريح وأستنشئها ومخرت الأرض مخرا سقيتها لتطيب» . (تَمِيدَ) : تميل بكم وفي المختار: «ماد الشيء يميد ميدا من باب باع ومادت الأغصان والأشجار تمايلت وماد الرجل: تبختر» وفي القاموس: «ماد يميد ميدا وميدانا تحرك وزاغ والسراب اضطرب والرجل تبختر وأصابه غثيان ودوار من سكر أو ركوب بحر ومنه المائدة: الطعام والخوان عليه الطعام كالميدة فيهما» (عَلاماتٍ) جمع علامة ففي المصباح: «وأعلمت على كذا بالألف من الكتاب وغيره جعلت عليه علامة وأعلمت الثوب جعلت له علما من طراز وغيره وهو العلامة وجمع العلم أعلام وجمع العلامة علامات وعلمت له علامة بالتشديد وضعت له أمارة يعرفها» . الإعراب: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة أنزل صلة ومن السماء جار ومجرور متعلقان بأنزل وماء مفعول به ولكم خبر مقدم ومنه متعلقان بمحذوف حال من شراب وشراب مبتدأ مؤخر والجملة صفة لماء ومنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 شراب جملة مستأنفة متألفة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر وفيه متعلقان بتسيمون وجملة تسيمون صفة لشجر والباء للسببية أي بسببه ينبت الشجر. (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ينبت فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره هو ولكم متعلقان بينبت وبه متعلقان بينبت أيضا والباء للسببية والزرع مفعول به والزيتون والنخيل والأعناب عطف على الزرع ومن كل الثمرات عطف على ما تقدم أيضا ومن تبعيضية أي وبعض كل الثمرات. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآية اسم إن المؤخر ولقوم صفة لآية وجملة يتفكرون صفة لقوم. (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) وسخر لكم الليل فعل وفاعل مستتر ومفعول به ولكم متعلقان بسخر والشمس والقمر معطوفان على الليل والنهار. (وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) الواو عاطفة والنجوم مبتدأ ومسخرات خبر والجملة عطف على الجملة السابقة وبأمره متعلقان بمسخرات. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) تقدم اعراب نظيرتها. (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) الواو عاطفة وما عطف على الليل والنهار يعني ما خلق فيها من حيوان ونبات وجماد ويجوز أن تنصبه بفعل محذوف أي وخلق وأنبت والمعنى واحد ولكم متعلقان بذرأ وفي الأرض متعلقان بذرأ أيضا ومختلفا حال وألوانه فاعل مختلفا. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) تقدم اعرابها. (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) الواو عاطفة وهو مبتدأ والذي خبر وجملة سخر صلة والبحر مفعول به ولتأكلوا اللام للتعليل وتأكلوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بسخر ومنه متعلقان بتأكلوا ولحما مفعول به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 وطريا صفة. (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) وتستخرجوا عطف على لتأكلوا ومنه متعلقان بتستخرجوا وحلية مفعول به وجملة تلبسونها صفة لحلية. (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الواو اعتراضية وترى الفلك فعل وفاعل مستتر ومفعول به والجملة معترضة ومواخر حال لأن الرؤية بصرية وفيه متعلقان بمواخر ولتبتغوا عطف على لتأكلوا ولعل واسمها وجملة تشكرون خبرها. (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) وألقى عطف على وسخر وفي الأرض متعلقان بألقى ورواسي صفة لمفعول به محذوف أي جبالا رواسي وأن وما في حيزها مفعول لأجله أي كراهة أن تميل بكم وتضطرب كالمائد الذي يدار به إذا ركب البحر وبكم متعلقان بتميد. (وَأَنْهاراً وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) وأنهارا وسبلا عطف على رواسي أو مفعول به لفعل محذوف والتقدير وجعل فيها لأن ألقى فيه معنى جعل قال تعالى: «ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا» ولعل واسمها وجملة تهتدون خبرها. (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) وعلامات عطف على أنهارا وسبلا وبالنجم متعلقان بيهتدون وهم مبتدأ وجملة يهتدون خبره وقال ابن عطية: وعلامات نصب كالمصدر أي فعل هذه الأشياء لعلكم تعتبرون بها وعلامات أي عبرة واعلاما في كل سلوك فقد يهتدى بالجبال والأنهر وبالسبل، وهذا كلام غير مفهوم ولعل أبا البقاء كان على حق حين أعربها مفعولا لفعل محذوف أي ووضع فيها علامات. (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف ومن مبتدأ وجملة يخلق صلة والكاف خبر من وجملة لا يخلق صلة لمن الثانية والهمزة انكار ثان والفاء عاطفة ولا نافية وتذكرون أصله تتذكرون فحذفت إحدى التاءين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 البلاغة: 1- التتميم: في قوله تعالى «لتأكلوا منه لحما طريا» تتميم احتياط وقد تقدم أن التتميم فن يشتمل على كلمة لو طرحت من الكلام نقص معناه كما تقدم أنه ثلاثة أنواع تتميم نقص وتتميم احتياط وتتميم مبالغة وتقدمت الأمثلة عليه ونقول هنا انه علم سبحانه انه إذا لم يصف اللحم بالطراوة لم يكن مظنة للفساد ولكن المعروف أن الفساد الى اللحم الطري أكثر من غيره فلزم وصفه بها ليسارع الى أكله خيفة الفساد عليه، وللفقهاء مباحث في لحم السمك تدل على ذكاء وألمعية وسنشير إليها في باب الفوائد إشارة سريعة، ولهذا التميم فائدة عامة وهي التعليم والإرشاد إلى أن اللحم لا ينبغي أن يتناول إلا طريا والأطباء يقولون: إن تناوله بعد ذهاب طراوته أضر شيء يكون. 2- الالتفات: في قوله تعالى: «وبالنجم هم يهتدون» التفات من الخطاب الى الغيبة والفائدة منه انه لما كانت الدلالة من النجم أنفع الدلالات وأوضحها في البر والبحر نبه على عظمها بالالتفات إلى مقام الغيبة لإفهام العموم ولئلا يظن أن المخاطب مخصوص بذلك وزاد التأكيد بتقديم الجار والمجرور كأنما يشير من طرف خفي الى أن دلالة غير النجم ضئيلة لا يؤبه لها. 3- التشبيه المقلوب: وذلك في قوله تعالى «أفمن يخلق كمن لا يخلق» إذ مقتضى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 280 الظاهر عكسه لأن الخطاب لعباد الأوثان حيث سموها آلهة تشبيها به تعالى فجعلوا غير الخالق كالخالق فجاءت المخالفة في الخطاب كأنهم لمبالغتهم في عبادتها ولا سفافهم- بالتالي- وارتكاس عقولهم صارت عندهم كالأصل وصار الخالق الحقيقي هو الفرع فجاء الإنكار على وفق ذلك. وللتشبيه المقلوب أسرار كثيرة ومنها هذا السر الذي ألمعنا اليه ومنها أن ينسى الإنسان أن المشبه به هو المقدّم لشدة ولعه بالمشبه فيعكس التشبيه كما فعل البحتري في وصف البركة التي بناها المتوكل على الله إذ قال: كأنها حين لجت في تدفقها ... يد الخليفة لمّا سال واديها والمعهود أن تشبه يد الخليفة في تدفقها بالكرم بالبركة إذا تدفقت بالماء. هذا وقد جرى الشعراء على مذهب القلب كثيرا فمنهم من أصاب كما أصاب أبو عبادة البحتري ومنهم من أخطأ وتعسف، وزعم أبو بكر الصولي أن أبا تمام قد أخطأ في قلبه بقوله: طلل الجميع لقد عفوت حميدا ... وكفى على رزئي بذاك شهيدا قال أبو بكر: «أراد وكفى بأنه مضى حميدا شاهدا على اني رزئت وكان وجه الكلام أن يقول: وكفى برزئي شاهدا على أنه مضى حميدا لأن حمد أمر الطلل قد مضى وليس بشاهد ولا بمعلوم ورزؤه بما ظهر من تفجعه شاهد معلوم فلأن يكون الحاضر شاهدا على الغالب أولى من أن يكون الغائب شاهدا على الحاضر» ومضى الصولي في نقده منكرا أن يكون القلب قد ورد في القرآن وان ما احتج به أصحاب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 281 أبي تمام من قلب في القرآن على ما جاء به في بيته من قلب ليس صحيحا رغم قول المفسرين وانه لهذا لا يصحّ القياس عليه فلا يصح القلب في بيت أبي تمام. وهذا تعسف وتحامل من الصولي حدا به الى انكار ما انعقد الإجماع ودل المنطق عليه وسنعود الى مناقشته في مكان آخر من هذا الكتاب. 4- التغليب: في قوله تعالى أيضا «أفمن يخلق كمن لا يخلق» إذ المراد بمن لا يخلق الأصنام وجاء بمن الذي هو للعقلاء ذوي العلم وذلك لأنهم لما عبدوها وسموها آلهة أجروها مجرى أولي العلم فجيء بمن على اعتقادهم ووفق ما هو مركوز في سلائقهم، وأيضا للمشاكلة بينها وبين الخالق الحقيقي وهو المعبر عنه بقوله «أفمن يخلق كمن لا يخلق» قال العز بن عبد السلام هذه الآية مشكلة لأن قاعدة التشبيه تقتضي أن يقال أفمن لا يخلق كمن يخلق ولا يقال انهم كانوا يعظمون الأصنام أكثر من الله لأنهم لم يقولوا ذلك وإنما قالوا: نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى بخلاف قوله تعالى: أفنجعل المسلمين كالمجرمين وقوله: أم نجعل المتقين كالفجار فإنهم لما كانوا يقولون نحن نسود في الآخرة كما سدنا في الدنيا جاء الجواب على وفق معتقدهم انهم أعلى والمؤمنون أدنى. وأجاب شيخ الإسلام زكريا في فتح الرحمن: «بأن الخطاب لعباد الأوثان وهم بالغوا في عبادتها حتى صارت عندهم أصلا في العبادة والخالق فرعا فجاء الإنكار على وفق ذلك ليفهموا المراد على معتقدهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 282 الفوائد: اللحم الطري ولحم السمك: من طرائف الفقهاء أنهم يقولون: إذا حلف الرجل لا يأكل لحما فأكل سمكا لم يحنث فإذا اعترض عليهم معترض بأن الله تعالى سماه لحما قالوا إن الأمر مبني على العادة وعادة الناس إذا ذكر اللحم على إطلاقه لا يفهم منه السمك قالوا: ألا ترى أنه لو حلف لا يركب دابة فركب كافرا لا يحنث وإن سماه الله دابة في قوله: «إن شر الدواب عند الله الذين كفروا» وكذا لو خرب بيت العنكبوت لا يحنث بيمينه لا يخرب بيتا وكذلك الألية وشحم البطن ليسا بلحم لأنهما لا يستعملان استعمال اللحم ولا يتخذ منهما ما يتخذ من اللحم ولا يسميان لحما عرفا إلى آخر هذه المباحث التي يرجع إليها في المطولات من كتب الفقه. [سورة النحل (16) : الآيات 18 الى 23] وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 الإعراب: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها) جملة مستأنفة مسوقة للتذكير الاجمالي بأنعم الله وآلائه وإن شرطية وتعدوا فعل الشرط والواو فاعل ونعمة الله مفعول به ولا نافية وتحصوها جواب الشرط والواو فاعل والهاء مفعول به. (إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) إن واسمها واللام المزحلقة للتوكيد وغفور خبر إن الاول ورحيم خبرها الثاني. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) الله مبتدأ وجملة يعلم خبر وفاعل يعلم مستتر تقديره هو وما مفعول به وجملة تسرون صلة وما تعلنون عطف على ما تسرون. (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) والذين مبتدأ وجملة يدعون صلة ومن دون الله حال وجملة لا يخلقون خبر الذين وشيئا مفعول به والواو عاطفة أو حالية وهم مبتدأ وجملة يخلقون خبر وهو بالبناء للمجهول. (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي هم أموات فهو خبر لمبتدأ محذوف وهو أولى من جعله خبرا ثانيا للذين وان كان لا يمتنع وغير أحياء صفة لأموات قصد به التأكيد وما يشعرون عطف على أموات فهو بمثابة الجزء الثاني ل «هم» المقدرة أو خبر ثالث للذين وأيان ظرف ليبعثون فهو متعلق به واختلف في ضمير يبعثون فقيل هو للاصنام والمعنى وما يعلم هؤلاء الآلهة متى تبعث الأحياء وفي ذلك من التهكم ما فيه وهذا أرجح ما قيل فيه ولهذا اقتصرنا عليه واجتزأنا به. (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) إلهكم مبتدأ وإله خبر وواحد صفة والفاء الفصيحة والذين مبتدأ وجملة لا يؤمنون بالآخرة صلة وقلوبهم مبتدأ ومنكرة خبر لقلوبهم والجملة الاسمية خبر الذين وهم الواو حالية وهم مبتدأ ومستكبرون خبر والجملة في محل نصب على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 الحال. (لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) لا جرم تقدم القول فيه في سورة هود ونضيف هنا ان لا نافية وجرم بمعنى بد وهذا بحسب الأصل أما هنا فقد ركبت لا مع جرم تركيب خمسة عشر وجعلا بمعنى فعل معناه حق وثبت وأن وما في حيزها فاعله وجملة يعلم خبر أن وجملة يسرون صلة وما يعلنون عطف على ما يسرون. (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) ان واسمها وجملة لا يحب خبرها والمستكبرين مفعول يحب. الفوائد: (أَيَّانَ) : اسم شرط للزمان يجزم فعلين ملحقا بما أو غير ملحق بها، كقول الشاعر: أيان نؤمنك تأمن غيرنا وإذا ... لم تدرك الأمن منا لم تزل حذرا وقول الآخر وقد ألحقها ما الزائدة للتوكيد: إذا النعجة الأدماء باتت بقفره ... فأيان ما تعدل به الريح تنزل وتكون اسم استفهام عن الزمان مثل متى وأصلها «أي آن» فهي مركبة من أي المتضمنة معنى الشرط وآن بمعنى حين فصارتا بعد التركيب اسما للشرط أو للاستفهام مبنيا على الفتح في محل نصب على الظرفية الزمانية. [سورة النحل (16) : الآيات 24 الى 29] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 اللغة: (أَساطِيرُ) : جمع أسطورة كأحاديث وأضاحيك وأعاجيب جمع أحدوثة وأضحوكة وأعجوبة وفي القاموس والتاج: الإسطار والأسطار والأسطور والأساطير وأيضا كلها بالهاء ما يكتب والجمع أساطير والحديث الذي لا أصل له. (أَوْزارَهُمْ) جمع وزر وهو الذنب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 الإعراب: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة قيل لهم مضاف إليها الظرف وجملة ماذا أنزل ربكم نائب فاعل لقيل والكلام مستأنف مسوق للشروع في ذكر نماذج من مثالب المشركين، وماذا: تقدم انه يجوز فيها وجهان فإما أن تكون كلها اسم استفهام في محل نصب مفعول مقدم لأنزل وإما أن تكون ما وحدها اسم استفهام وذا اسم موصول في محل رفع خبر، وأنزل ربكم فعل وفاعل وجملة قالوا لا محل لها وأساطير الأولين خبر لمبتدأ محذوف أي هي أساطير الأولين أو المنزل أساطير الأولين وفي تقديره المنزل بلاغة زائدة لأنه يكون تهكما أي على فرض أنه منزل فهو أساطير لا طائل تحتها. (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) اللام للتعليل ويحملوا مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والواو فاعل وأوزارهم مفعول به وكاملة حال ويوم القيامة ظرف متعلق بيحملوا ولك أن تجعل اللام للعاقبة وعلى كل حال هي متعلقة بقوله قالوا أساطير الأولين فإما أن يكون المعنى أنهم جنوا على أنفسهم بأيديهم وقالوا ما يسبب لهم حمل الأوزار أو أنهم فعلوا ذلك جاهلين غافلين فكانت عاقبتهم بذلك أن يحملوا أوزارهم يعني ذنوب أنفسهم التي اجترحوها سيأتي سر قوله «كاملة» في باب البلاغة. (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) ومن أوزار عطف على أوازرهم فالجار والمجرور متعلقان بيحملوا ومن للتبعيض أي وبعض أوزار من يضل بضلالهم وهذا ما ذهبت إليه طائفة من المفسرين على رأسهم الزمخشري والبيضاوي والجلال وقال الواحدي: «ولفظ من في قوله «ومن أوزار الذين يضلونهم» ليست للتبعيض لأنها لو كانت للتبعيض لنقص الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 عن الاتباع بعض الأوزار وذلك غير جائز لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» لكنها للجنس أي ليحملوا من جنس أوزار الكفار» وهو كلام جميل أيضا وجملة يضلونهم صلة الذين وبغير علم حال من المفعول به أي يضلون من لا يعلم انهم ضلال ويجوز أن تكون من الفاعل المسند إليه الإضلال والمعنى أنهم يقدمون على الإضلال جهلا منهم بما يترتب عليهم من العذاب الشديد. وألا أداة تنبيه وساء فعل ماض لانشاء الذم وما تمييز أي شيئا أو فاعل ساء وجملة يزرون صفة لما على الاول أو صلة لها على الثاني وعلى كل حال المخصوص بالذم محذوف تقديره وزرهم. (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) جملة مستأنفة مسوقة لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما كابده من تعنتهم ومكرهم وقد حرف تحقيق ومكر الذين فعل وفاعل ومن قبلهم صلة الذين فأتى الله بنيانهم عطف على ما تقدم وهو فعل وفاعل ومفعول به ومن القواعد حال أو جار ومجرور متعلقان بأتى. (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) الفاء عاطفة وخر فعل ماض وعليهم جار ومجرور متعلقان بخر والسقف فاعل ومن فوقهم حال وأتاهم العذاب فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ومن حيث متعلقان بأتاهم وجملة لا يشعرون مضافة إلى الظرف. (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ) ثم حرف عطف ويوم ظرف متعلق بيخزيهم والقيامة مضاف اليه ويخزيهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به. (وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) أين اسم استفهام في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بمحذوف خبر مقدم وشركائي مبتدأ مؤخر والذين صفة لشركائي وجملة كنتم صلة وجملة تشاقون خبر كنتم وفيهم متعلقان بتشاقون. (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) قال الذين فعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 وفاعل وجملة أوتوا صلة والواو نائب فاعل والعلم مفعول به ثان وإن واسمها واليوم ظرف متعلق بالخزي لأنه مصدر يعمل عمل الفعل والسوء عطف على الخزي وعلى الكافرين خبر إن. (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) الذين نعت للكافرين أو بدل منه وجملة تتوفاهم الملائكة صلة والجملة فعل ومفعول به وفاعل وظالمي أنفسهم حال من مفعول تتوفاهم وأنفسهم مضاف اليه وتتوفاهم مضارع بمعنى الماضي. (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) يجوز أن تكون الفاء عاطفة وألقوا معطوف على توفاهم لأنه بمعنى توفتهم ويجوز أن يكون ألقوا معطوفا على قال الذين أوتوا العلم ويجوز أن تكون للاستئناف، وألقوا فعل وفاعل والسلم مفعول به، والسلم المسالمة والإخبات وجملة ما كنا مقول لقول محذوف أي قائلين وما نافية وكنا كان واسمها وجملة نعمل خبر كنا ومن زائدة وسوء مجرور لفظا منصوب محلا على انه مفعول به. (بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بلى حرف جواب وان واسمها وخبرها وبما متعلقان بعليم وجملة كنتم تعملون صلة ما وجملة تعملون خبر كنتم. (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) الفاء الفصيحة وادخلوا فعل أمر وفاعل وأبواب مفعول به على السعة وجهنم مضاف اليه وخالدين حال من فاعل ادخلوا وفيها متعلقان بخالدين والفاء استئنافية واللام للابتداء وبئس فعل ماض لانشاء الذم ومثوى المتكبرين فاعل والمخصوص بالذم محذوف أي هي. البلاغة: 1- في قوله تعالى: «قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم» استعارة تمثيلية فقد شبه حال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 جميع الماكرين المبطلين المدبرين للمكايد والمؤامرات والذين يحاولون إيقاع الضرر والمكر بالمؤمنين ونصب الشباك لهم بحال قوم بنوا بنيانا شامخا ودعموه بأساطين البناء وقواعده فطاح البنيان من الأساطين نفسها بأن وهنت ولم تقو على إمساك ما أقيم عليها فتهدم السقف وهوى عليها. هذا وقد ذكر علماء البلاغة ان للتمثيل مظهرين أحدهما أن يظهر المعنى ابتداء في صورة التمثيل وثانيهما ما يجيء في أعقاب المعاني لإيضاحها وتقريرها في النفوس وهو على الحالين يكسو المعاني أبهة ويرفع من أقدارها ويضاعف قواها في تحريك النفوس لها ودعوة القلوب إليها. تأمل قول أبي الطيب: ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرا به الماء الزلالا لو كان عبر عن المعنى بقوله مثلا: ان الجاهل لمفاسد الطبع يتصور المعنى بغير صورته ويخيل اليه في الصواب انه خطأ فهل كنت تجد هذه الروعة؟ وهل كان يبلغ من التهجين للجاهل والكشف عن نقصه ما بلغ التمثيل في البيت؟ ومهما بالغت في تصوير المؤامرات المبطلة يدبرها المبطلون، ويحوكونها من خلف ستار حتى إذا خيل لهم انها قد أحكمت واستطاعت أن توقع الخصوم في شراكها إذا بها تحبط فجأة فهل يبلغ ذلك من نفسك مبلغ مشهد البناء وقد تطاول وتسامق وتشامخ وأحكمه بانيه إحكاما خيل اليه معه أنه ضمن له الخلود فما عتم أن تزلزلت منه أواخيه وصياصيه وانهار بمن وعلى من فيه وفيما يلي طائفة من أبيات التمثيل لتقيس عليها: قال ابن لنكك يهجو قوما حسنت مناظرهم وقبحت مخابرهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 في شجر السرو منهم مثل ... له رواء وما له ثمر وقال ابن الرومي في المعنى نفسه: فغدا كالخلاف يورق للعي ... ين ويأبى الإثمار كل الإباء وتأمل كذلك قول أبي تمام: وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود مقطوعا عن البيت الذي يليه برغم أن البيت واضح المعنى ثم اتبعه بالبيت التالي: لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود وانظر هل نشر المعنى تمام حلته وأظهر المكنون من حليته وزينته واستحق التقديم كله إلا بالبيت الأخير، وما فيه من التمثيل والتصوير. وسيأتي من روائع التمثيل في كتابنا ما يذهل الألباب. عودة إلى الآية: والآية التي نحن بصددها من أرقى ما يصل اليه التمثيل وهي خالدة لا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة فالبناء كان ولا يزال يمثل القوة والجدّة والثراء، وتداعيه وتطوحه يمثل قديما وحديثا زوال ذلك كله وفناءه ذلك لأن الاستعارة التمثيلية أساسها التشبيه فلا عجب أن تختلف فبها الأذواق باختلاف الأزمنة كما اختلفت في تقدير التشبيه وها نحن أولاء اليوم لا نستسيغ كثيرا من الاستعارات التي أوحت بها البيئة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 الماضية والتي تبقى رواسم جامدة يبهرنا لفظها أكثر مما يوضحه في نفوسنا معناها أما الاستعارة التي تتجاوز ظروف الزمان والمكان وتضمن لها الجدّة الباقية بقاء الدهر فهي الاستعارة التي تحقق غرض القائل وتكون فيها الصورة المشبهة بها واضحة معروفة تصور ما تريد أن تصوره بوضوح وتأثير وإيجاز وتضاف إليها روافد كهذه الآية عند ما قال «فخر عليهم السقف من فوقهم» فقد أكد التمثيل بقوله من فوقهم لأن السقف لا يخر إلا من فوق لأنه أشعر بخروره فوقهم أنهم تحته فأزال احتمال أن يكونوا غير موجودين تحته وأكد إبطال مؤامراتهم بموتهم متأثرين بما نصبوه للآخرين على حد قول المثل: «من حفر حفرة لأخيه وقع فيها» . 2- الاحتراس: في قوله تعالى «فخر عليهم السقف من فوقهم» فإن لقائل أن يقول: السقف لا يكون إلا من فوق فما معنى ذكر من فوقهم والجواب انه احتراس من احتمال أن السقف قد يكون أرضا بالنسبة لغيرهم، فإن كثيرا من السقوف يكون أرضا لقوم وسقفا لقوم آخرين فرفع الله تعالى هذا الاحتمال بجملتين وهما قوله «عليهم» وقوله «خر» لأنها لا تستعمل إلا فيما يهبط أو يسقط من العلو إلى السفل. هذا وقد ساق بعض النقاد بيتا في شواهد العيوب وهو: زياد بن عين عينه تحت حاجبه ... وبيض الثنايا تحت خضرة شاربه فقال: وجه العيب فيه كون العين لا تكون إلا تحت الحاجب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 والثنايا تحت الشارب، وقيل في الرد على هذا العائب: ان الشاعر أراد أن هذا الممدوح خلق في أحسن تقويم وولد كذلك ولم يولد مشوه الخلق ولا معيب الصورة ولم يطرأ عليه وهو جنين ما ينقص خلقه أو يشوهه. وقال ابن الاعراب ي: «وإنما قال: من فوقهم ليعلمك انهم كانوا حالين تحته والعرب تقول: خر علينا سقف ووقع علينا حائط إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه فجاء بقوله: من فوقهم ليخرج هذا الشك الذي في كلام العرب» وهو كلام لا بأس به. [سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 34] وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 الإعراب: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) وقيل للذين قيل فعل ماض مبني للمجهول واختلف في ضميره وأقرب الأقوال انهم وفود العرب الذين كانت تبعثهم القبائل الى مكة وللذين متعلقان بقيل وجملة اتقوا صلة وماذا تقدم القول فيها كثيرا وأنزل ربكم فعل وفاعل وخيرا مفعول لفعل محذوف أي أنزل خيرا وعبارة الزمخشري «فإن قلت لم رفع الأول ونصب هذا قلت فرقا بين جواب المقر وجواب الجاحد يعني أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا وأطبقوا الجواب على السؤال بينا مكشوفا مفعولا للانزال فقالوا: خيرا أي أنزل خيرا وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا هو أساطير الأولين وليس من الانزال في شيء» . (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) للذين خبر مقدم وجملة أحسنوا صلة وفي هذه متعلقان بأحسنوا والدنيا بدل وحسنة مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة ويجوز أن تكون مفسرة لقوله «خيرا» ولدار الآخرة اللام للابتداء ودار الآخرة مبتدأ وخير خبر ولنعم دار المتقين اللام للابتداء ايضا ونعم فعل ماض لإنشاء المدح ودار المتقين فاعل والمخصوص بالمدح محذوف أي هي (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) جنات خبر لمبتدأ محذوف ويجوز أن تكون هي المخصوص بالمدح فتعرب مبتدأ خبره جملة نعم دار المتقين أو خبرا لمبتدأ محذوف والأول أرجح وأقل تكلفا وجملة يدخلونها حالية. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) جملة تجري من تحتهم الأنهار حال أيضا ولهم خبر مقدم وفيها حال وما مبتدأ مؤخر وجملة يشاءون صلة وجملة لهم فيها حال ثالثة. (كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ) الكاف نعت لمصدر محذوف ويجوز أن تعرب حالا وقد تقدم تقرير ذلك كثيرا ويجزي الله المتقين فعل وفاعل ومفعول به. (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 294 الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) الذين نعت للمتقين أو بدل منه وجملة تتوفاهم صلة والهاء مفعول به والملائكة فاعل وطيبين حال من المفعول في تتوفاهم أي طاهرين من الشوائب. (يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) جملة يقولون حال من الملائكة مقارنة أو مقدرة وسيأتي تعريفهما في باب الفوائد وسلام مبتدأ وعليكم خبر وادخلوا الجنة فعل أمر وفاعل ومفعول به وبما متعلقان بادخلوا وجملة كنتم صلة وجملة تعملون خبر كنتم ويجوز أن تكون ما مصدرية والاعراب واحد. َلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) هل حرف استفهام ومعناه النفي وينظرون فعل مضارع وفاعل وإلا أداة حصر وأن وما في حيزها مصدر مؤول مفعول ينظرون وأو حرف عطف ويأتي أمر ربك عطف على تأتيهم الملائكة أي العذاب. َذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) تقدم إعراب كذلك قريبا فجدد به عهدا وفعل الذين فعل وفاعل ومن قبلهم صلة الموصول. َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الواو عاطفة وما نافية وظلمهم الله فعل ومفعول به وفاعل والواو حالية أو اعتراضية ولكن مخففة مهملة وكان واسمها وجملة يظلمون خبرها وأنفسهم مفعول مقدم لقوله يظلمون. (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) الفاء عاطفة وأصابهم فعل ومفعول به مقدم وسيئات فاعل وما موصولة أو مصدرية وهي على كل مضافة لسيئات. (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الواو عاطفة وبهم متعلقان بحاق وما فاعل وجملة كانوا صلة وبه متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون خبر كانوا. الفوائد: الحال بالنسبة للزمان: للحال بالنسبة للزمان ثلاثة أقسام: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 1- مقارنة وهي الغالبة نحو: «هذا بعلي شيخا» . 2- مقدرة وهي المستقبلة نحو: «ادخلوها خالدين» . 3- ومحكية وهي الماضية نحو: جاء زيد أمس راكبا. وفي الآية التي نحن بصددها وهي «يقولون سلام عليكم» يجوز أن تكون مقارنة إن كان القول واقعا منهم في الدنيا وأن تكون مقدرة إن كان القول واقعا منهم في الآخرة. [سورة النحل (16) : الآيات 35 الى 36] وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) الإعراب: (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا) الواو استئنافية والجملة مستأنفة لتقرير مغالطتهم وقولهم كلمة حق أريد بها باطل واحتجاجهم على الله تعالى بمشيئته التي لا حجة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 296 لهم فيها مع ما خلق لها من اختيار النجدين وسلوك أحد الطريقين. وقال الذين فعل وفاعل وجملة أشركوا صلة ولو امتناعية شرطية وشاء الله فعل وفاعل والمفعول محذوف أي لو شاء خلاف طريقتنا وما يصدر عنا وسيأتي مزيد بحث عن حذف المفعول به في باب البلاغة وما نافية وعبدنا فعل وفاعل ومن دونه حال ومن زائدة وشيء مجرور لفظا مفعول عبدنا محلا ونحن تأكيد لفاعل عبدنا والمعنى ما عبدنا شيئا حال كونه دونه ولا الواو عاطفة ولا نافية وآباؤنا عطف على نحن. (وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) الواو عاطفة وحرمنا فعل وفاعل ومن دونه حال من شيء ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا مفعول به منصوب محلا. (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كذلك نعت لمصدر محذوف مفعول مطلق وفعل الذين فعل وفاعل ومن قبلهم صلة. (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الفاء عاطفة وهل حرف استفهام معناه النفي وعلى الرسل خبر مقدم وإلا أداة حصر والبلاغ مبتدأ مؤخر والمبين صفته. (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وبعثنا فعل وفاعل وفي كل أمة متعلقان ببعثنا ورسولا مفعول به. (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) أن يجوز أن تكون مصدرية وهي مع مدخولها نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان ببعثنا ويجوز أن تكون مفسرة لأن البعث فيه معنى القول واعبدوا فعل أمر وفاعل ولفظ الجلالة مفعول به واجتنبوا الطاغوت فعل أمر وفاعل ومفعول به. (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) الفاء تفريعية استئنافية ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وهي نكرة موصوفة وجملة هدى الله صفة لمن ومنهم من حقت عليه الضلالة عطف على سابقتها وهي مثلها في الإعراب. (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) الفاء الفصيحة أي إن أردتم الاهتداء والاستدلال على الطريق المثلى فسيروا وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بسيروا فانظروا الفاء عاطفة وانظروا فعل أمر وفاعل وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وعاقبة المكذبين اسمها المؤخر. البلاغة: إيجاز الحذف: الحذف للايجاز فقد حذف مفعول شاء في قوله «لو شاء الله ما عبدنا من دونه» أي لو شاء هدايتنا، ولحذف المفعول به لطائف هي أكثر من أن تذكر، ذلك أن أغراض الناس تختلف في ذكر الأفعال المتعدية فتارة يذكرونها ويريدون أن يقتصروا على إثبات المعاني التي اشتقت منها للفاعلين من غير أن يتعرضوا لذكر المفعولين وعندئذ يكون الفعل المتعدي كغير المتعدي ومثال ذلك قول الناس: فلان يحلّ ويعقد، ويأمر وينهى، ويضر وينفع، والقسم الثاني أن يكون للفعل مفعول مقصود إلا أنه يحذف من اللفظ لدليل يدل عليه وقد يكون ذلك جليا لا صنعة فيه كقولهم: «أصغيت اليه» أي بأذني، والخفي منه ما تدخله الصنعة، فمن الخفي أن تذكر الفعل وفي نفسك له مفعول مخصوص إلا أنك تنساه وتخفيه عن نفسك وتوهم أنك إنما تذكر الفعل لتثبت نفس معناه من غير أن تعديه إلى مفعول كقول البحتري: شجو حساده وغيظ عداه ... أن يرى مبصر ويسمع واع المعنى أن يرى مبصر محاسنه ويسمع واع أخباره، ومن الخفي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 ايضا أن يكون معك مفعول معلوم مقصود قد علم انه ليس للفعل الذي ذكرت مفعول سواه بدليل الحال أو ما سبق من الكلام إلا أنك تطرحه وتتناساه لكي تتوفر العناية على إثبات الفعل للفاعل وتخلص له وتنصرف بجملتها اليه، قال طفيل الغنوي في بني جعفر بن كلاب: جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت أبو أن يملونا ولو أن أمّنا ... تلاقي الذي يلقون منا لملّت هم خلطونا بالنفوس وألجئوا ... إلى حجرات أدفأت وأظلت حذف المفعول في أربعة مواضع هي «لملت» و «ألجئوا» و «أدفأت» و «أظلت» لأن الأصل لملتنا وألجئونا الى حجرات أدفأتنا وأظلتنا وقول الشاعر «ولو أن أمنا تلاقي الذي لا قوه منا لملت» يتضمن أن ما لا قوه منا قد بلغ من القوة الى أن يجعل كل أم تملّ وتسأم وان المشقّة بلغت من ذلك حدا يجعل الأم له تمل الابن وتتبرم به مع ما في طباع الأمهات من الصبر على المكاره في مصالح الأولاد وذلك انه وإن قال «أمنا» فإن المعنى على أن ذلك حكم كل أم مع أولادها ولو قال لملتنا لم يصلح لأنه يراد به معنى العموم وان بحيث يملّ كل أم من كل ابن، ومن ذلك حذف المفعول بعد فعل المشيئة كقوله: لو شئت لم تفسد سماحة حاتم ... كرما ولم تهدم مآثر خالد والأصل: لو شئت أن تفسد سماحة حاتم لم تفسدها ثم حذف ذلك من الأول استغناء بدلالة في الثاني عليه ثم هو على ما تراه من الحسن والغرابة لأن الواجب في حكم البلاغة أن لا ينطق بالمحذوف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 فليس يخفى أنك لو رجعت إلى الأصل لصرت إلى كلام غث وإلى شيء يمجه السمع وتعافه النفس. ويعلل عبد القاهر الجرجاني لجمال حذف المفعول بعد فعل المشيئة بأن في البيان بعد الإبهام وبعد تحريك النفس الى معرفته لطفا ونبلا لا يكون إذا لم يتقدم ما يحرك فأنت إذا قلت لو شئت علم السامع انك قد علقت هذه المشيئة في المعنى بشيء فهو يضع في نفسه أن هاهنا شيئا تقتضيه المشيئة فاذا قلت لم تفسد سماحة حاتم عرف ذلك الشيء. [سورة النحل (16) : الآيات 37 الى 42] إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) الإعراب: (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) إن شرطية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 وتحرص فعل الشرط وعلى هداهم متعلقان بتحرص أي ترغب فيه، فإن الفاء رابطة لجواب الشرط وان واسمها وجملة لا يهدي خبرها ومن اسم موصول مفعول به وجملة يضل صلة وقيل جواب الشرط محذوف وجملة فإن الله لا يهدي تعليل للجواب والتقدير لا تقدر أنت ولا يقدر أحد على هدايتهم. (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) الواو عاطفة وما نافية حجازية ولهم خبر ما مقدم ومن حرف جر زائد وناصرين اسم ما محلا أو مبتدأ مؤخر ومجرور لفظا. (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) وأقسموا فعل وفاعل وبالله جار ومجرور متعلقان بأقسموا وجهد أيمانهم نصب على المصدرية وقيل مصدر في موضع الحال أي جاهدين والجملة عطف على وقال الذين أشركوا أو استئنافية إخبارية. (لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) لا نافية ويبعث الله من يموت فعل وفاعل ومفعول والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وسمي الحلف قسما لأنه يكون عند انقسام الناس الى مصدق ومكذب وبلى حرف جواب أي بلى يبعثهم لأنه إثبات لما بعد النفي ووعدا عليه حقا مصدران مؤكدان لما دل عليه بلى وقيل حقا صفة لوعدا وكذا عليه، وعليه متعلقان بحقا. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الجملة حالية ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها. (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) اللام للتعليل ويبين فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بما دل عليه بلى أي يبعثهم ليبين ولهم متعلقان بيبين والذي مفعول به وجملة يختلفون صلة وفيه متعلقان بيختلفون. (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) وليعلم عطف على ليبين والذين فاعل وجملة كفروا صلة وان وما في حيزها سدت مسد مفعولي يعلم وان واسمها وجملة كانوا خبرها وكاذبين خبر كانوا. (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) إنما كافة ومكفوفة وقولنا مبتدأ ولشيء جار ومجرور متعلقان بقولنا وإذا ظرف متعلق بقولنا وجملة أردناه مضافة للظرف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 وأن ومدخولها مصدر مؤول خبر قولنا وله متعلقان بنقول وكن فعل أمر من كان التامة وجملة كن مقول القول، فيكون: الفاء عاطفة ويكون معطوف على مقدر تفصح منه الفاء وينسحب عليه الكلام أي فنقول له ذلك فيكون، واما جواب لشرط محذوف فتكون فصيحة أي فإذا قلنا ذلك فهو يكون وسيأتي مزيد بحث عن هذا القول والمقول والأمر والمأمور في باب البلاغة والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير القدرة على البعث أو كيفية التكوين على الإطلاق إبداء وإعادة. (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) والذين مبتدأ وجملة هاجروا صلة أي انتقلوا من مكة الى المدينة، ومنهم من هاجر الى الحبشة فجمع بين الهجرتين وفي الله متعلقان بهاجروا وفي للتعليل أي لإقامة دين الله ومن بعد حال وما مصدرية مؤولة مع مدخولها بمصدر مضاف الى بعد، أي من بعد ظلمهم بالأذى من أهل مكة. (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) اللام موطئة للقسم وجملة نبوئنهم خبر الذين وفي الدنيا حال وحسنة صفة لمصدر محذوف أي تبوئة حسنة فهي نائب مفعول مطلق ولك أن تعربها مفعولا ثانيا لنبوئنهم لتضمن معناه نعطينهم فتكون صفة لمحذوف أي دارا حسنة (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) الواو حالية واللام للابتداء وأجر الآخرة مبتدأ وأكبر خبر ولو شرطية وكان واسمها وخبرها. (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الذين خبر لمبتدأ محذوف أي هم الذين صبروا فمحله الرفع أو منصوب على المدح أي أعني الذين صبروا فمحله النصب وجملة صبروا صلة وعلى ربهم جار ومجرور متعلقان بيتوكلون ويتوكلون فعل مضارع وفاعل. البلاغة: 1- إنما: «إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون» عقد الامام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 عبد القاهر الجرجاني في كتابه دلائل الاعجاز فصلا ممتعا عن إنما ننقل خلاصته، فقد وقف يستلهم معاني «إنما» ويرى أن الوقوف فيها عند قول النحاة: انه ليس في انضمام «ما» إلى «ان» فائدة أكثر من أنها تبطل عملها خطأ بيّن، وأصل انما أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا ينكر صحته أو لما ينزل هذه المنزلة فمن الاول قوله تعالى «انما يستجيب الذين يسمعون» فكل عاقل يعلم انه لا تكون استجابة إلا ممن يعقل ما يقال له ويدعى اليه ومثال ما ينزل هذه المنزلة قول ابن الرقيات: انما مصعب شهاب من الله تجلّت عن وجهه الظلماء وتفيد انما في الكلام الذي بعدها إيجاب الفعل لشيء ونفيه عن غيره وتجعل الأمر ظاهرا فإذا قلت إنما جاءني زيد عقل منه أنك أردت أن يكون الجائي غيره فمعنى الكلام معها شبيه بالمعنى في قولك: جاءني زيد لا عمرو إلا أن لها مزية وهي انك تعقل معها إيجاب الفعل لشيء ونفيه عن غيره دفعة واحدة وتجعل الأمر ظاهرا في أن الجائي زيد. 2- الاستعارة التمثيلية: في قوله «كن فيكون» فهي استعارة للكينونة تمثل سرعة الإيجاد عند تعلق الارادة وليس هناك أمر حقيقة ولا كاف ولا نون وإلا لو كان هناك أمر لتوجه أن يقال إن كان الخطاب للشيء حال عدمه فلا يعقل لأن خطاب المعدوم لا يعقل وإن كان بعد وجوده ففيه تحصيل الحاصل وإنما القصد منه تصوير سرعة الحدوث بما لا يتجاوز أمده النطق بلفظ كن وما أسهلها. 3- الاخبار عن الماضي بالمستقبل أبلغ من الاخبار بالفعل الماضي وذلك في قوله تعالى «وعلى ربهم يتوكلون» فالظاهر أن المعنى على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 المضي والتعبير بالمضارع لاستحضار تلك الصورة البديعة حتى كأن السامع يشاهدها وقد تقدم بحثه. [سورة النحل (16) : الآيات 43 الى 47] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) اللغة: (الزُّبُرِ) : الكتب جمع زبور بمعنى مزبور. (تَخَوُّفٍ) : تنقص وهو من قولك تخوفته وتخونته إذا تنقصته قال زهير بن أبي سلمى- وقيل هو لأبي كبير الهذلي-: تخوف الرحل منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السبفن والمعنى يأخذهم على أن ينتقصهم شيئا بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا وعن عمر بن الخطاب أنه سأل عن معنى التخوف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 في قوله تعالى «أو يأخذهم على تخوف» فيقوم له رجل من هذيل ويقول: هذه لغتنا التخوف التنقص قال عمر: فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم وأنشد البيت الآنف فقال عمر: عليكم بديوانكم لا يضل، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم. الصحابة والغريب في القرآن: بدأت مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم تترسّم خطاه في التفسير وتحفظ ما نقل عنه وترويه وقد تتزيد فيه بشرح لفظ غريب وعلى الرغم من هذا لا نعدم بعض الغريب في آيات الكتاب توفقوا عنده من ذلك ما أخرجه أبو عبيدة في الفضائل عن ابراهيم التيمي أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله تعالى: «وفاكهة وأبّا» فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟ ونقل عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر «وفاكهة وأبّا» فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأبّ؟ ثم رجع الى نفسه فقال: إن هذا لهو الكلف يا عمر، وقد انقسم الصحابة في صدر الإسلام الى قسمين: متحرج من القول في القرآن ومن هؤلاء أبو بكر وعمر وعبد الله بن عمر وكان عبد الله يأخذ على عبد الله بن عباس تفسيره القرآن بالشعر، والقسم الثاني الذين لم يتحرجوا وفسروا القرآن حسب ما فهموا من الرسول أو حسب فهمهم الخاص بالمقارنة الى الشعر العربي وكلام العرب ومن هؤلاء علي ابن أبي طالب وعبد الله بن عباس ومن أخذ عنهما وقد وقف ابن عباس على رأس المفسرين بالرأي المتخذين شعر العرب وسيلة الى كشف معاني القرآن وكان علي بن أبي طالب يثني على عبد الله بن عباس ويقول: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 كأنما ينظر الى الغيب من ستر رقيق ومن هؤلاء أيضا ابن مسعود وأبي ابن كعب وغيرهما وتبعهم الحسن البصري ومجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم ويقول أحمد أمين في كتابه الممتع فجر الإسلام ما خلاصته ان هؤلاء المفسرين من الصحابة والتابعين كانوا ينهجون منهجا يتلخص في الاسترشاد بحديث رسول الله وبروح القرآن وبالشعر العربي والأدب الجاهلي بوجه عام ثم عادات العرب في جاهليتها وصدر إسلامها وما قابلهم من أحداث وما لقي رسول الله من عداء ومنازعات وهجرة وحروب لمحة عن ابن عباس ومدرسته: وشق ابن عباس طريقه بين هؤلاء جميعا متزعما مدرسة خاصة تسلطت على التفسير وطبعته بطابعها وقد أورد السيوطي في «الإتقان» مسائل ابن الأزرق المائة في القرآن وجواب ابن عباس عليها بالشعر مفسرا غريب كل آية ببيت ويقول ابن عباس في تفسير القرآن بالشعر: إذا تعاجم شيء من القرآن فانظروا في الشعر فإن الشعر عربي ويقول: إذا سألتم عن شيء من غريب القرآن فالتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب، وكان إلمام ابن عباس واسعا بلغة القرآن ومعانيه حتى انه قال: كل القرآن أعلم إلا أربعا: غسلين وحنانا والأواه والرقيم. وقد بدأت بمحاولات ابن عباس مدرسة جديدة في التفسير تكشف عن أسلوب القرآن ومعانيه بمقارنته بالأدب العربي شعره ونثره ومهدت هذه المدرسة لقيام حركة واسعة لجمع اللغة والشعر من مضارب الخيام وبوادي العرب ليواجهوا ما في القرآن من الغريب الذي ابتعدت به الشقة عن الحجاز وقلب الجزيرة العربية في العراق وفارس والشام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 وغيرها من الأمصار الاسلامية وتلقط العلماء ما كانت تجود به ألسنة الأعراب من أمثلة توافق ما يجري في آيات القرآن وكانت هذه الحركة الكبرى سببا في حفظ العربية من الضياع. الإعراب: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) الواو عاطفة ليتناسق الكلام يورد ناحية أخرى من نواحي تعنتهم وإصرارهم على القول: ان الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا فهلا بعث إلينا ملكا، ولك أن تجعلها استئنافية قائمة بنفسها والجملة مسوقة لما ذكرناه، وما نافية وأرسلنا فعل وفاعل ومن قبلك حال وإلا أداة حصر ورجالا مفعول أرسلنا وجملة نوحي إليهم صفة. (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الفاء الفصيحة أي إن شككتم فيما ذكر فاسألوا، واسألوا فعل أمر وفاعل وأهل الذكر مفعوله وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف دل عليه فاسألوا وكان واسمها وجملة لا تعلمون خبرها. (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) بالبينات يحتمل متعلقات شتى فإما أن يتعلقا بأرسلنا داخلا تحت حكم الاستثناء مع رجالا أي وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات ومثل له الزمخشري بقول القائل: ما ضربت إلا زيدا بالسوط لأن أصله ضربت زيدا بالسوط وإما متعلقان بمحذوف صفة لرجالا أي رجالا ملتبسين بالبينات أي مصاحبين لها وإما بأرسلنا مضمرا كأنما قيل بم أرسلوا فقيل بالبينات وإما بنوحي أي نوحي إليهم بالبينات وهناك أوجه أخرى ضربنا عنها صفحا، وأنزلنا عطف على أرسلنا وإليك متعلقان بأنزلنا والذكر مفعول به ولتبين اللام للتعليل وتبين منصوب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 بأن مضمرة وهو متعلق بأنزلنا وللناس جار ومجرور متعلقان بتبين. (ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ما مفعول تبين وجملة نزل إليهم صلة ولعلهم لعل واسمها وجملة يتفكرون خبرها. (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والفاء عاطفة على محذوف- كما تقدم- يرشد اليه النظم أي أنزلنا إليك الذكر لتبين لهم مضمونه ولم يتفكروا في ذلك فكأنه قيل ألم يتفكروا فأمن الذين مكروا السيئات؟ وأمن الذين فعل وفاعل وجملة مكروا صلة والسيئات صفة لمفعول مطلق محذوف أي المكرات السيئات ويجوز أن يكون مفعولا به لأمن أي أمنوا العقوبات السيئات أو منصوبا بنزع الخافض أي مكروا بالسيئات وان يخسف أن وما في حيزها مصدر مفعول أمن على الوجه الأول في السيئات وبدل من السيئات على الوجه الثاني والله فاعل يخسف، وبهم متعلقان بيخسف والأرض مفعول به. (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) عطف على أن يخسف ومن حيث حال وجملة لا يشعرون مضافة للظرف. (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) عطف أيضا على أن يخسف وفي تقلبهم حال من المفعول أي حال كونهم متقلبين في الأسفار والمتاجر وأسباب الدنيا والفاء عاطفة وما نافية حجازية وهم اسمها والباء حرف جر زائد ومعجزين مجرور بالباء لفظا منصوب محلا على انه خبر ما. (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) عطف ثالث على أن يخسف وعلى تخوف حال أيضا من الفاعل أو المفعول أي يأخذهم متنقصا إياهم شيئا بعد شيء أو وهم متخوفون والفاء تعليل لما تقدم وان واسمها واللام المزحلقة ورؤوف خبر إن الاول ورحيم خبر إن الثاني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 308 [سورة النحل (16) : الآيات 48 الى 52] أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) اللغة: (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) تفيأ الظل تقلب وانتقل من جانب الى آخر والمصدر التفيؤ من فاء يفيء إذا رجع، وفاء لازم فإذا أريد تعديته عدي بالهمزة كقوله تعالى: «ما أفاء الله على رسوله» أو بالتضعيف نحو فيأ الله الظل فتفيأ، وتفيأ مطاوع فيها فهو لازم واختلف في الفيء فقيل هو مطلق الظل سواء كان قبل الزوال أو بعده وهو ينسجم مع الآية وقيل ما كان قبل الزوال فهو ظل فقط وما كان بعده فهو ظل وفيء فالظل أعم وقيل بل يختص الظل بما قبل الزوال والفيء بما بعده فالفيء لا يكون إلا في العشي وهو ما انصرفت عنه الشمس والظل ما يكون بالغداة وهو ما لم تنله. وفي القاموس والتاج وغيرهما: الظل: الفيء والجمع ظلال وأظلال وظلول وظل الليل سواده، يقال أتانا في ظل الليل، قال ذو الرمة: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 قد أسعف النازح المجهول مسعفه ... في ظل أخضر يدعو هامة البوم وهو استعارة لأن الظل في الحقيقة إنما هو ضوء شعاع الشمس دون الشعاع فإذا لم يكن ضوء فهو ظلمة وليس بظل وقال أصحاب العلم: الظل مطلقا هو الضوء الثاني ومعنى ذلك أن النير إذا ارتفع عن الأفق استضاء الهواء بإثبات الشعاع فيه فهذا هو الضوء الأول فإذا حجب هذا الضوء حاجب كان ما وراء ذلك الحاجب ضوءا ثانيا بالنسبة إلى الضوء الاول لأنه مستفاد منه وهذا الضوء الثاني هو الظل وقد أوحى خيال الظل الى الشعراء طرائف بديعة فمن ذلك قول المناوي في راقصة: إذا ما تغنت قلت: سكرى صبابة ... وإن رقصت قلنا احتكام مدام أرتنا خيال الظل والستر دونها ... فأبدت خيال الشمس وهو غمام وذكر ابن قتيبة في كتابه (أدب الكاتب) ما نصه: «يذهب الناس إلى أن الظل والفيء واحد وليس كذلك لأن الظل يكون من أول النهار إلى آخره، ومعنى الظل الستر والفيء لا يكون إلا بعد الزوال ولا يقال لما كان قبل الزوال فيء وانما سمي فيئا لأنه ظل فاء من جانب الى جانب أي رجع من جانب المغرب الى جانب المشرق والفيء الرجوع قال الله تعالى: «حتى تفيء إلى أمر الله» أي ترجع. (الشَّمائِلِ) : جمع شمال أي عن جانبيهما أول النهار وآخره قال العلماء: إذا طلعت الشمس من المشرق وأنت متوجه إلى القبلة كان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 ظلك عن يمينك فإذا ارتفعت الشمس واستوت في وسط السماء كان ظلك خلفك فإذا مالت الشمس الى الغروب كان ظلك عن يسارك. (داخِرُونَ) : خاضعون صاغرون. الإعراب: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي والواو عاطفة على محذوف مقدر يقتضيه السياق أي ألم ينظروا ولم يروا متوجهين الى ما خلق الله والى ما جار ومجرور متعلقان بيروا، وهذه الرؤية لما كانت بمعنى النظر وصلت بإلى لأن المراد منها الاعتبار وذلك الاعتبار لا يتأتى إلا بنفس الرؤية التي يكون معها النظر إلى الشيء لتدبره والتبصر فيه والتأمل بمغابه وعواقبه، وجملة خلق الله صلة ومن شيء حال من ما خلق الله وصح أن تكون مبنية لوصفها مع أن كلمة شيء مبهمة وجملة يتفيأ ظلاله صفة لشيء وظلاله فاعل يتفيأ وعن اليمين حال وعن الشمائل عطف ويصح أن تكون «عن» اسما بمعنى جانب فعلى هذا تنتصب على الظرف ويصح أن تتعلق بتتفيأ ومعناه المجاوزة أي تتجاوز الظلال عن اليمين الى الشمال، بقي هنا سؤال وهو لماذا أفرد اليمين وجمع الشمال وأجاب العلماء بأجوبة عديدة أقربها الى المنطق أن الابتداء يقع من اليمين وهو شيء واحد فلذلك وحد اليمين ثم ينتقص شيئا فشيئا وحالا بعد حال فهو بمعنى الجمع فصدق على كل حال لفظ الشمائل فتعدد بتعدد الحالات، وللفراء رأي طريف قال: كأنه إذا وحّد ذهب الى واحد من ذوات الظلال وإذا جمع ذهب إلى كلها لأن قوله «ما خلق الله من شيء» لفظه واحد ومعناه الجمع، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 فعبر عن أحدهما بلفظ الواحد كقوله تعالى «وجعل الظلمات والنور» وقال ابن الصائغ: «أفرد وجمع بالنظر الى الغايتين لأن ظل الغداة يضمحل حتى لا يبقي منه إلا اليسير فكأنه في جهة واحدة وهو بالعشي على العكس لاستيلائه على جميع الجهات فلحظت الغايتان في الآية، هذا من جهة المعنى وفيه من جهة اللفظ المطابقة لأن سجّدا جمع فطابقه جمع الشمائل لاتصاله به فحصل في الآية مطابقة اللفظ للمعنى ولحظهما معا وتلك الغاية في الإعجاز» . وقيل أفرد اليمين مراعاة للفظ ما وجمع ثانيا مراعاة لمعناها وقد أفرد السهيلي رسالة لطيفة على هذه الآية. وسجّدا حال من ظلاله والواو للحال وهم مبتدأ وداخرون خبر والجملة حالية من الضمير المستتر في سجدا فهي حال متداخلة. (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ) لله جار ومجرور متعلقان بيسجد وما فاعل ليسجد وفي السموات صلة وما في الأرض عطف على ما في السموات ومن دابة في موضع نصب على الحال المبنية والملائكة عطف على ما، وخصهم بالذكر بعد العموم تنويها بفضلهم. (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) الواو عاطفة وهم مبتدأ وجملة لا يستكبرون خبر. (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) جملة يخافون نصب على الحال من ضمير يستكبرون أو بدل من جملة لا يستكبرون لأن من خاف الله لم يستكبر عن عبادته ويخافون ربهم فعل مضارع وفاعل ومفعول به ومن فوقهم حال من ربهم أي يخافون ربهم عاليا عليهم في الرتبة على حد قوله «وهو القاهر فوق عباده» ويفعلون عطف على يخافون وما مفعول به وجملة يؤمرون صلة. (وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) الواو استئنافية وقال الله فعل وفاعل ولا ناهية وتتخذوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وإلهين مفعول به واثنين صفة لإلهين ومن طريف المفارقات أن جميع المفسرين تقريبا يعربونها توكيدا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 لإلهين وليست اثنين من ألفاظ التوكيد المعنوي وليست من باب التوكيد اللفظي ويظهر أن إعرابهم لها كذلك قائم على المعنى لأن معنى الوصف هو التوكيد وسترى بحثا طريفا عن ذلك في باب البلاغة وقد اضطر بعضهم الى القول أن لفظ اثنين تأكيد لما فهم من إلهين من التثنية وقيل: إن في الكلام تقديما وتأخيرا والتقدير: لا تتخذوا إثنين إلهين. إنما هو إله واحد (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) إنما كافة ومكفوفة وهو مبتدأ وإله خبر وواحد صفة للتأكيد أيضا، فإياي: الفاء الفصيحة وإياي مفعول به لفعل مضمر يفسره ما بعده أي بقوله ارهبون، وارهبون فعل أمر والواو فاعل والنون للوقاية والياء المحذوفة لمراعاة الفواصل مفعوله. (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لك أن تجعل الواو عاطفة والجملة معطوفة على قوله إنما هو إله واحد ولك أن تجعلها استئنافية والجملة مستأنفة وله خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي السموات صلة والأرض عطف على ما في السموات. (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) الواو عاطفة وله خبر مقدم والدين مبتدأ مؤخر وواصبا حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور والتقدير والدين ثابت له حال كونه واصبا وفي معنى الوصب قولان أحدهما الدوام أي له الدين ثابتا سرمدا وثانيهما المشقة والكلفة، أي له الدين ذا كلفة ومشقة. (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف والتقدير أبعد ما تقرر من توحيد الله وبعد ما عرفتم أن كل ما سواه محتاج إليه كيف يعقل أن تتقوا غيره وترهبوا من غيره وغير الله مفعول مقدم لتتقون وتتقون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعله. البلاغة: اشتملت هذه الآيات على وجازتها على فنون من البلاغة تستوعب الأجلاد، وسنحاول تلخيصها في العبارات الآتية: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 1- التغليب: في قوله تعالى «ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض إلخ» فقد أتى بلفظ ما الموصولية في قوله ما في السموات وما في الأرض للتغليب لأن ما لا يعقل أكثر ممن يعقل في العدد والحكم للأغلب وما الموصولة في أصل وضعها لما لا يعقل كما أن من موضوعة في الأصل لمن يعقل وقد تتخالفان، ومن استعمال «من» لغير العاقل في الشعر قول العباس بن الأحنف: أسرب القطا هل من يعير جناحه ... لعلّي الى من قد هويت أطير فأوقع من على سرب القطا وهو غير عاقل وقول امرؤ القيس: ألا عم صباحا أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي فأوقع من على الطلل وهو غير عاقل. وفيما يلي ضابط هام نوجزه فبما يلي: - قد تستعمل «من» لغير العقلاء في ثلاث مسائل: آ- أن ينزل غير العاقل منزلة العاقل كقوله تعالى «ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له الى يوم القيامة» وقول امرئ القيس السابق. وكذلك قول العباس بن الأحنف السابق الذكر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 فدعاء الأصنام التي لا تستجيب الدعاء في الآية الكريمة ونداء الطلل والقطا في البيتين سوغا تنزيلها منزلة العاقل إذ لا ينادى إلا العقلاء. ب- أن يندمج غير العاقل مع العاقل في حكم واحد كقوله تعالى: «أفمن يخلق كمن لا يخلق» وقوله «ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض» . ح- أن يقترن غير العاقل بالعاقل في عموم مفصل كقوله تعالى: «والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع» فالدابة تعم أصناف من يدب عن وجه الأرض وقد فصلها على ثلاثة أنواع. - وقد تستعمل (ما) للعاقل إذا اقترن العاقل بغير العاقل في حكم واحد كما في الآية المتقدمة. 2- الاحتراس: وذلك في قوله تعالى «وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد» والمعروف انه لا يجمع بين العدد والمعدود إلا فيما وراء الواحد والاثنين فيقولون عندي رجال ثلاثة ونساء ثلاث لأن المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص فلو لم تشفعه بصفته لما فهمت العدد المراد وأما رجل وامرأة ورجلان وامرأتان فمعدودان فيهما دلالة على العدد فلا حاجة إلى أن يقال: رجل واحد وامرأة واحدة ورجلان اثنان وامرأتان اثنتان أما في الآية فالاسم الحامل لمعنى الافراد والتثنية وهو إله وإلهان دال على شيئين على الجنسية والعدد المخصوص فإذا أريد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 الدلالة على أن المراد الذي يساق إليه الحديث هو العدد كان لا بد من أن يشفع بما يؤكده ألا ترى أنك لو قلت إله ولم تؤكده بواحد لم يحسن وخيل إليك أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية فكان لا بد من الاحتراس وهذا من روائع البلاغة التي تتقطع دونها الأعناق. 3- الالتفات: عن الغيبة الى التكلم فقد قال: «وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إلخ» ثم عدل الى الحضور وهو قوله «وإياي فارهبون» لأن ذلك أبلغ في الرهبة من أن يقول جريا على السياق فإياه فارهبون. [سورة النحل (16) : الآيات 53 الى 60] وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 اللغة: (تَجْئَرُونَ) تتضرعون والجؤار بوزن الزكام رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة قال الأعشى يصف راهبا: يراوح من صلوات المليك طورا سجودا وطورا جؤارا والمراوحة في العمل الانتقال من حالة الى أخرى ولا يفوتنك ما في هذا الوصف من دقة، وقبله: وما آبلي على هيكل ... بناه وصلب فيه وصارا والآبلي الراهب نسبة إلى آبل وهو قيم البيعة وصلب أي صور الصليب وفي القاموس: «جأر كمنع جأرا وجؤارا بوزن غراب رفع صوته بالدعاء وتضرع واستغاث والبقرة والثور صاحا والنبت جأرا طال والأرض طال نبتها» . (ظَلَّ) هنا بمعنى صار وليست على بابها من كونها تدل على الإقامة نهارا على الصفة المسندة إلى اسمها وعلى التقديرين هي ناقصة ومصدرها الظلول ويجوز ابقاؤها على معناها الأصلي وهو اتصاف الشيء بصفة ما نهارا فقط لأن الأوضاع تتشابه في الليل أي يظل سحابة نهاره مغتما مربدّ الوجه من الكآبة والحياء من الناس. (كَظِيمٌ) : مملوء حنقا على الأنثى وفي المصباح: «كظمت الغيظ كظما من باب ضرب وكظوما أمسكت على ما في نفسك منه على صفح أو غيظ وفي التنزيل «الكاظمين الغيظ» وربما قيل كظمت على الغيظ وكظمني الغيظ فأنا كظيم ومكظوم وكظم البعير كظوما لم يجتر» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 317 (هُونٍ) : هوان وذل قال اليزيدي: والهون الهوان بلغة قريش. وكذا حكاه أبو عبيد عن الكسائي وحكى الكسائي انه البلاء والمشقة قالت الخنساء: نهين النفوس وهون النفو ... س يوم الكريهة أبقى لها الإعراب: (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) ما شرطية في محل رفع مبتدأ وفعل الشرط محذوف وبكم متعلقان بفعل الشرط المحذوف ومن نعمة حال من اسم الشرط واختار أبو البقاء أن تكون حالا من الضمير في الجار والفاء رابطة لجواب الشرط ومن الله خبر لمبتدأ محذوف والتقدير فهو من الله والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط المحذوف والجواب في محل رفع خبر ما ويجوز أن تكون ما موصولة مبتدأ والجار والمجرور صلتها والخبر قوله فمن الله والفاء رابطة لتضمن الموصول معنى الشرط والتقدير والذي استقر بكم وسيأتي مزيد بحث عن حذف فعل الشرط والجواب في باب الفوائد. (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) ثم حرف عطف وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب تجأرون وجملة مسكم مضافة للظرف ومسكم فعل ومفعول به مقدم والضر فاعل مؤخر والفاء رابطة واليه متعلقان بتجأرون وتجأرون فعل مضارع وفاعل وجملة فإليه تجأرون لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم. (ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) ثم حرف عطف وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بما في إذا من معنى المفاجأة ولا يجوز أن يكون العامل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 في إذا هو الجواب لأنه لا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها وجملة كشف مضافة والضر مفعول به وعنكم متعلقان بكشف وإذا فجائية لا محل لها وقد تقدم القول فيها وفريق مبتدأ ساغ الابتداء به لأنه وصف بقوله منهم وبربهم جار ومجرور متعلقان يشركون وجملة يشركون خبر فريق ومن العجيب أن أبا البقاء تورط فقاس إذا الفجائية على إذا الشرطية فقال «فريق فاعل لفعل محذوف» وهذا طائح من أساسه. (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ليكفروا اللام لام التعليل ويكفروا مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بيشركون أي اشراكهم سببه كفر هم بربهم ويجوز أن تكون اللام لام الصيرورة أو العاقبة أي فعاقبة إشراكهم بالله غيره كفرهم بالنعمة التي هي كشف الضر عنهم فيكون متعلق ليكفروا بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف وبما متعلقان بيكفروا وجملة آتيناهم صلة، فتستعوا جملة معمولة لقول محذوف أي قل لهم يا محمد تمتعوا، فسوف تعلمون الفاء الفصيحة وسوف حرف استقبال وتعلمون فعل وفاعل ومفعوله محذوف تقديره عاقبة ذلك. (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) عطف على ما سبق ويجعلون فعل مضارع وفاعل ولما متعلقان بيجعلون وجملة لا يعلمون صلة لما والضمير في يعلمون عائد على المشركين والعائد محذوف يقدر بأنها تضر ولا تنفع ولك أن تجعله عائدا على الأصنام المدلول عليها بما أي الأشياء غير موصوفة بالعلم لا تشعر أجعلوا لها نصيبا في أنعامهم وزروعهم أم لا، ونصيبا مفعول يجعلون ومما صفة لنصيبا وجملة رزقناهم صلة. (تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) التاء تاء القسم الجارة ولفظ الجلالة مجرور بتاء القسم والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره قسمي واللام واقعة في جواب القسم وتسألن فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 المحذوفة لتوالي الأمثال والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة وقد تقدم لهذا الإعراب نظائر وعما متعلقان تسألن وجملة كنتم صلة وجملة تفترون خبر كنتم. (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) ويجعلون عطف على ما تقدم ولله متعلقان بيجعلون والبنات مفعول يجعلون وسبحانه منصوب على المصدرية بفعل محذوف والجملة معترضة لكونه بتقدير الفعل وقد وقعت في مطاوي الكلام لأن قوله تعالى ولهم ما يشتهون عطف على قوله لله البنات على رأي الزمخشري والفراء، ولهم خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وجملة يشتهون صلة وبعضهم أعراب ما في محل نصب فعل مقدر وجملة ولهم ما يشتهون إما استئنافية وإما حالية ولك أن تعطف ما على البنات ولهم على لله فيكون من قبيل عطف المفردات وهذا رأي الزمخشري والفراء وتعقبهما أبو حيان فقال «وذهلوا عن قاعدة في النحو وهي أن الفعل إذا رفع ضميرا وجاء بعده ضمير منصوب لا يجوز أن ينصبه الفعل إلا إن كان من باب ظن وأخواتها من الأفعال القلبية أو فقد وعدم فيجوز زيد ظنه قائما تريد ظن نفسه، ولو قلت زيد ضربه فتجعل في ضرب ضمير رفع عائدا على زيد وقد تعدي للضمير المنصوب لم يجز والمجرور يجري مجرى المنصوب فلو قلت زيد غضب عليه لم يجز كما لم يجز زيد ضربه فلذلك امتنع أن يكون قولهم لهم متعلقا بيجعلون. (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) الواو حالية من ضمير يجعلون أي الواو أي كيف يستسيغون نسبة البنات اليه تعالى وهذه حالتهم وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة بشر أحدهم مضافة للظرف وبالأنثى جار ومجرور متعلقان ببشر وجملة ظل لا محل لها ووجهه اسم ظل ومسودا خبرها والواو حالية أيضا وهو مبتدأ وكظيم خبر والجملة حال متداخلة، وليس المراد السواد الذي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 320 هو ضد البياض بل المراد الكناية بالسواد عن التغير والانكسار بما يحصل من الغم، والعرب تقول لكل من لقي مكروها قد اسود وجهه غما وحزنا قاله الزجاج وقال الماوردي: بل المراد سواد اللون حقيقة قال: وهو قول الجمهور والأول أولى فإن المعلوم بالوجدان أن من غضب وحزن واغتم لا يحصل في لونه إلا مجرد التغير وظهور الكآبة والانكسار لا السواد الحقيقي. (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) جملة يتوارى حالية من الضمير في كظيم ومن القوم متعلقان به ومن سوء متعلق به أيضا فالأولى للابتداء والثانية للعلة وما اسم موصول مضاف لسوء وجملة بشر به صلة أي من الأنثى وسوءها حسب اعتقاداتهم أنها مستهدفة للغواية ويخافون عليها من الزنا ومن حيث كونها لا تكسب. (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) الهمزة للاستفهام وجملة يمسكه الاستفهامية معمولة لشيء محذوف هو حال من فاعل يتوارى أي يتوارى حائرا مترددا مترجحا بين اليقين والشك أيمسكه محتملا الذل أم يئده في الحياة ويمسكه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وعلى هون حال من الفاعل المستتر أو من المفعول به وأم حرف عطف ويدسه عطف على يمسكه وفي التراب متعلقان بيدسه والتذكير في يمسكه ويدسه مع كونه عبارة عن الأنثى لرعاية اللفظ. (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) ألا حرف تنبيه وساء فعل ماض لإنشاء الذم وما نكرة منصوبة على التمييز أو موصولة فاعل ساء وجملة يحكمون صلة ولك أن تجعلها مصدرية والمصدر المؤول فاعل أي ساء حكمهم. (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) للذين خبر مقدم وجملة لا يؤمنون صلة وبالآخرة متعلقان بيؤمنون ومثل السوء مبتدأ مؤخر ولله المثل الأعلى عطف على ما سبق وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والحكيم خبر ثان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 الفوائد: حذف فعل الشرط وجوابه: يجوز حذف ما علم ما شرط إن كانت الأداة إن مقرونة بلا النافية كقول الأحوص يخاطب مطرا وكان مطر دميم الخلقة وتحته امرأة وسيمة: فطلّقها فلست لها بكفء ... وإلّا يعل مفرقك الحسام فحذف فعل الشرط لدلالة قوله فطلقها عليه وأبقى جوابه أي وإن لا تطلقها يعل ولهذه الشروط منع بعض المفسرين إعراب «وما بكم من نعمة فمن الله» شرطية واكتفى بأن جعلها موصولة لكن نقل النحاة ان هذه الشروط ليست ملزمة فقد يتخلف واحد من إن والاقتران بلا وقد يتخلفان معا فالأول ما حكاه ابن الأنباري في الإنصاف عن العرب: من يسلم عليك فسلم عليه ومن لا فلا تعبأ به أي ومن لا يسلم عليك فلا تعبأ به قال الشاطبي وهذا نص في الجواز والثاني نحو «وإن امرأة خافت من بعلها» فحذف الشرط مع انتفاء اقتران إن بلا والثالث كقوله: متى تؤخذوا قسرا بظنة عامر ... ولم ينج إلا في الصفاد يزيد أي متى تثقفوا تؤخذوا فحذف الشرط مع انتفاء الأمرين ويجوز حذف ما علم من جواب شرط ماض نحو «فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية» فإن استطعت شرط حذف جوابه لدلالة الكلام عليه والتقدير فافعل والشرط الثاني وجوابه جواب للشرط الأول والمعنى إن استطعت منفذا تحت الأرض تنفذ فيه فتطلع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 لهم بآية أو سلما تصعد به الى السماء فتنزل منها بآية فافعل وسيأتي تفصيل ذلك في مواضعه. وفيما يلي عبارة ابن هشام في المغني قال عند الكلام على ما الشرطية: «وقد جوزت في: وما بكم من نعمة فمن الله على أن الأصل وما يكن ثم حذف فعل الشرط كقوله: إن العقل في أموالنا لا نضق بها ... ذراعا وإن صبرا فنصبر للصبر أي إن يكن العقل وان نحبس حبسا والأرجح في الآية أنها موصولة وان الفاء داخلة على الخبر لا شرطية والفاء داخلة على الجواب» . [سورة النحل (16) : الآيات 61 الى 64] وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 اللغة: (مُفْرَطُونَ) : اسم مفعول من أفرط أي أعجل يقال: أفرطت فلانا وفرطته في طلب الماء إذا قدمته وقيل منسيون متروكون من أفرطت فلانا خلفي إذا خلفته ونسيته وفي المختار: «وفرط القوم سبقهم الى الماء فهو فارط والجمع فراط بوزن كتاب وبابه نصر وأفرطه تركه ومنه قوله تعالى «وانهم مفرطون» أي متروكون في النار منسيون وأفرط في الأمر جاوز الحدّ فيه» وفي القاموس: «وأفرط فلانا: تركه وتقدمه وجاوز الحد وأعجل بالأمر وانهم مفرطون أي منسيون متروكون في النار أو مقدمون معجلون إليها. وفي الحديث: عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني فرطكم على الحوض من مرّ عليّ شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا، ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم» وقال القطامي: فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا ... كما تعجل فراط لورّاد الإعراب: (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) الواو استئنافية ولو شرطية ويؤاخذ الله الناس فعل مضارع وفاعل ومفعول به وبظلمهم الباء حرف جر للسببية أي بسبب ظلمهم متعلقان بيؤاخذ وجملة ما ترك لا محل لها وترك فعل وفاعل مستتر وعليها متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لدابة ومن حرف جر زائد ودابة مجرور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 لفظا مفعول به محلا والضمير يعود على الأرض وان لم تذكر فقد دلّ عليها ذكر الناس وذكر الدابة فإن الجميع مستقرون على الأرض. (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) الواو عاطفة ولكن حرف استدراك مهمل لأنها مخففة ويؤخرهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وإلى أجل متعلقان بيؤخرهم ومسمى صفة أي معين. (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) الفاء عاطفة أو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة جاء أجلهم مضافة للظرف وجملة لا يستأخرون لا محل لها وساعة ظرف متعلق بيستأخرون ولا يستقدمون عطف على لا يستأخرون وقد تقدمت الاشارة في آية مماثلة لها إلى معنى لا يستأخرون ولا يستقدمون. (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) ويجعلون فعل مضارع وفاعل ولله متعلقان بيجعلون وما مفعول يجعلون وجملة يكرهون صلة وتصف ألسنتهم الكذب فعل مضارع وفاعل ومفعول به وقد فسر الكذب بقوله: (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) فأن وما في حيزها بدل من الكذب بدل الكل من الكل ولهم خبر أن المقدم والحسني اسمها المؤخر. (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) تقدم القول في لا جرم، وأن وخبرها المقدم واسمها المؤخر وإنهم مفرطون عطف على أن لهم النار. (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) التاء تاء القسم والجر والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المقدر واللام واقعة في جواب القسم وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل والى أمم متعلقان بأرسلنا ومن قبلك صفة. (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) الفاء عاطفة وزين فعل ماض ولهم متعلقان بزين والشيطان فاعل وأعمالهم مفعول به. (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الفاء عاطفة وهو مبتدأ ووليهم خبر واليوم ظرف متعلق بمحذوف حال إذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 325 أردت حكاية الحال الآتية أو في الدنيا أو متعلق بوليهم إذا أردت حكاية انحال الماضية التي كان الشيطان يزين لهم أعمالهم فيها بمعنى ناصرهم ومعينهم، ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم صفة. (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) الواو عاطفة وما نافية وأنزلنا فعل وفاعل وعليك متعلقان بأنزلنا والكتاب مفعول به وإلا أداة حصر ولتبين لام التعليل ومدخولها متعلقة بأنزلنا على معنى التعليل وإنما جر المفعول لأجله باللام لاختلاف فاعله مع فاعل الفعل فإن المنزل هو الله والمبين هو النبي. (وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) هدى ورحمة عطف على محل لتبين وقد انتصبا نصب المفعول لأجله لاتحاد فاعلهما مع فاعل الفعل لأن الهادي والرحم هو الله كما هو المنزل ولقوم صفة أو متعلقان بالمصدر وجملة يؤمنون صفة لقوم. الفوائد: بحث مهم عن فاء التعقيب: المعروف عن الفاء العاطفة أنها للعطف مع التعقيب ولكنه ليس التعقيب الفوري بل هي للتعقيب حسب ما يصح إما عقلا وإما عادة ولهذا صح أن يقال دخلت البصرة فبغداد وإن كان بينهما زمان كثير لكن يعقب دخول هذه دخول تلك على ما يمكن بمعنى انه لم يمكث بواسط مثلا سنة أو مدة طويلة بل طوى المنازل بعد البصرة ولم يقم بواحد منها إقامة يخرج بها عن حد السفر إلى أن دخل بغداد، هذا الذي يقوله أهل اللغة وأهل الأصول وليست الفاء للفور الحقيقي الذي معناه حصول هذا بعد هذا بغير فصل ولا زمان، ألا ترى إلى قوله تعالى «فإذا جاء أجلهم» فإن مجيء الأجل متراخ عن التأخير وسيأتي لهذا نظائر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 [سورة النحل (16) : الآيات 65 الى 69] وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) اللغة: (الْأَنْعامِ) : تقدم شرحها في سورة الانعام وقد ذكر سيبويه الانعام في باب مالا ينصرف في الأسماء الواردة على أفعال ولذلك رجع الضمير اليه مفردا وقد رجع الضمير إليها مؤنثا في سورة المؤمنون لأن معناها الجمع ويجوز أن يقال في الأنعام وجهان أحدهما أن يكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 تكسير نعم كأجبال في جبل وأن يكون اسما مفردا مقتضيا لمعنى الجمع فاذا ذكر فكما يذكر نعم في قوله: في كل عام نعم تحوونه ... يلقحه قوم وتنتجونه وإذا أنث ففيه وجهان انه تكسير نعم وانه في معنى الجمع، ولسيبويه بحث طريف كما قلنا فقد عدّ المفردات المبنية على أفعال كأخلاق وأمشاج فيعامل بالتذكير تارة باعتبار لفظه وبالتأنيث أخرى اعتبارا بمعناه وقيل هو جمع نعم كأسباب وسبب. وقال ابن يعيش: «واعلم أن أبنية القلة أقرب الى الواحد من أبنية الكثرة ولذلك يجري عليها كثير من أحكام المفرد ومن ذلك جواز تصغيره على لفظه خلافا للجمع الكثير ومنها جواز وصف المفرد بها: غرب ثوب أسمال وبرمة اكسار ومنها جواز عود الضمير إليها بلفظ الإفراد نحو قوله تعالى: «وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه» . (عبرة) : عظة أي دلالة يعبر عليها من الجهل الى العلم فهي مصدر بمعنى العبور أطلق على ما يعبر به الى العلم مبالغة في كونه سببا الى العبور. (فَرْثٍ) : الفرث الروث والأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش. قال الحريري في درة الغواص: «ويقولون: فرث لما يخرج من الكرش وهو وهم لأنه إنما يسسى به مادام فيها فإذا خرج سمي سرجينا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 ومن أمثال العرب فيمن يحفظ الحقير ويضع الجليل: «فلان يحفظ الفرث ويفسد الحرث» وأجيب عن هذا بأن ذلك القول باعتبار ما كان ومثله كثير مطرد. (سائِغاً) : سهل المرور في الحلق لا يغص به. (سَكَراً) : السكر بفتحتين الخمر سميت بالمصدر من سكر سكرا وسكرا نحو رشد رشدا ورشدا، قال: فجاءونا لهم سكر علينا ... فأجلى اليوم والسكران صاح وفي القاموس والتاج: سكر يسكر من باب تعب سكرا بفتحتين وسكرا بضم فسكون وسكرا بضمتين وسكرا بفتح فسكون وسكرانا بفتحتين من الشراب نقيض صحا فهو سكر وسكران وهي سكرة وسكرى وسكرانة والجمع سكرى وسكارى بفتح السين وسكارى بضمها وجاء في غيره: «في السكر أربعة أقوال: الأول أنه من أسماء الخمر والثاني أنه مصدر في الأصل ثم سمي به الخمر والثالث أنه اسم للخل بلغة الحبشة والرابع أنه اسم للعصير ما دام حلوا كأنه سمي مجازا لمآله لذلك لو ترك» . (يَعْرِشُونَ) : يبنون وبابه ضرب ونصر كما في المختار وفي القاموس: وعرش يعرش بنى عريشا كأعرش وعرش بالتثقيل. الإعراب: (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) الله مبتدأ وجملة أنزل خبر ومن السماء متعلقان بأنزل وماء مفعول به فأحيا عطف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 على أنزل وبه متعلقان بأحيا والأرض مفعول وبعد موتها الظرف متعلق بمحذوف حال. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) إن وخبرها المقدم واللام المزحلقة وآية اسم ان ولقوم صفة لآية وجملة يسمعون صفة لقوم. (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) الواو عاطفة وإن حرف مشبه بالفعل ولكم خبرها المقدم وفي الأنعام حال لأنه كان صفة لعبرة واللام المزحلقة وعبرة اسمها المؤخر. (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) نسقيكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به ومما متعلقان بنسقيكم وفي بطونه صلة ما وجملة نسقيكم مفسرة لعبرة أو خبر لمبتدأ محذوف على حد قوله «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» كأنه قيل: العبرة هي نسقيكم ومن بين فرث ودم حال لأنه كان في الأصل صفة لقوله لبنا وقدم عليه ولك أن تجعله حالا من ما التي قبله ومعنى من الأولى للتبعيض لأن اللبن بعض ما في بطونها والثانية ابتدائية لأن بين الفرث والدم مكان الاسقاء الذي منه يبتدأ ولبنا مفعول ثان لنسقيكم وسائغا صفة وللشاربين متعلقان بسائغا. (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) ومن ثمرات النخيل خبر مقدم وجملة تتخذون صفة لموصوف محذوف هو المبتدأ المؤخر أي ثمر كانوا يتخذون منه سكرا ورزقا حسنا لأنهم كانوا يأكلون منه بعضا ويتخذون السكر من بعضه الآخر ولك أن تعلقه بمحذوف دل عليه نسقيكم أي نسقيكم من عصير النخيل والأعناب وعندئذ تكون جملة تتخذون حالا وقال أبو حيان: «والظاهر تعلق من ثمرات بتتخذون وكررت من للتوكيد وكان الضمير مفردا راعيا لمحذوف أي ومن عصير ثمرات أو على معنى الثمرات وهو الثمر وقيل تتعلق بنسقيكم فيكون معطوفا على مما في بطونه أو بنسقيكم محذوفة دل عليها نسقيكم المتقدمة فيكون من عطف الجمل والذي قبله من عطف المفردات إذا اشتركا في العامل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 330 وقيل معطوف على الأنعام أي ومن ثمرات النخيل والأعناب عبرة ثم بيّن العبرة بقوله تتخذون» وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون تتخذون صفة موصوف محذوف كقوله «بكفي كان من أرمى البشر» تقديره ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه. والضمير في منه يعود على العصير المقدر والأول أضبط وسكرا مفعول تتخذون ورزقا عطف على سكرا وحسنا صفة ولا يخفى ما يتولد عن العنب والتمر من خل وزبيب ودبس وفي المختار: الدبس ما يسيل من الرطب. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) إن وخبرها المقدم واللام المزحلقة وآية اسمها المؤخر وجملة يعقلون صفة لقوم. (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) الواو عاطفة على ما قبلها لتتساوق الدلائل على عجائب صنعته تعالى وبدائع قدرته ولك أن تجعلها مستأنفة مسوقة لما ذكر وأوحى ربك فعل وفاعل والى النحل متعلقان بأوحى وأن هي المفسرة لأن في الإيحاء معنى القول دون حروفه وهو الشرط المعقود لأن التفسيرية، ولك أن تجعلها مصدرية وهي مع مدخولها نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بأوحينا أي بأن اتخذي وسيأتي مزيد بيان لذلك في باب الفوائد فتنبّه له ومن الجبال متعلقان باتخذي فمن للتبعيض لأنها لا تبني بيوتها في كل جبل وشجر وكل ما يعرش وسيأتي مزيد بيان لذلك في باب البلاغة وبيوتا مفعول اتخذي ومن الشجر عطف على من الجبال وكذلك مما يعرشون. (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا) ثم حرف عطف للتراخي والسرّ فيه أن سعيها لطلب الرزق بعد اتخاذها البيوت نسكناها لتطلب بعد ذلك الرزق في مظانه، وكلّيّ فعل أمر وفاعل ومن كل الثمرات متعلقان بكلّيّ فاسلكي الفاء عاطفة واسلكي عطف على كلّيّ وسبل ربك مفعول به وذللا حال من السبل لأن الله ذللها لها ووطأ لها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 مهادها ومسالكها أو من فاعل اسلكي أي وأنت منقادة لما أمرت به وهيئت له. (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) في الكلام التفات من الخطاب الى الغيبة سيأتي الكلام عنه في باب البلاغة ويخرج فعل مضارع ومن بطونها متعلقان بيخرج وشراب فاعل يخرج ومختلف صفة لشراب وألوانه فاعل مختلف لأنه اسم فاعل وفيه خبر مقدم وشفاء مبتدأ مؤخر وللناس جار ومجرور متعلقان بشفاء والجملة صفة ثانية لشراب. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) تقدم إعراب نظيرتها قريبا فجدد به عهدا. البلاغة: 1- الالتفات: في قوله تعالى «يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه» إلى آخر الآية، التفات من الخطاب الى الغيبة ولو جاء الكلام على النسق الأول لقيل من بطونك، وإنما صرف الكلام هاهنا من الخطاب إلى الغيبة لفائدة وهي انه ذكر للبشر العسل وأوصافه وألوانه المختلفة وأخبرهم أن فيه فوائد شتى لهم ليلفت انتباههم اليه ولو قال من بطونك لذهبت تلك الفائدة التي أنتجها خطاب الغيبة وليس ذلك بخاف عن نقدة الكلام. 2- التنكير: ونكر قوله «فيه شفاء» ولم يقل فيه الشفاء لكل الناس فاندفع الاعتراض بأن كثيرين يأكلون العسل ولا يشفون مما ألم بهم. فيلاحظ أن النكرة في سياق الإثبات لا تفيد العموم وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 332 وسلم فقال يا رسول الله إن أخي استطلق بطنه فقال: اسقه عسلا فسقاه عسلا ثم جاء فقال سقيته عسلا فما زاد إلا استطلاقا، قال اذهب فاسقه عسلا فذهب فسقاه، ثم جاء فقال ما زاده إلا استطلاقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الله وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا فذهب فسقاه عسلا فبرىء. 3- التنكيت: في قوله تعالى: «أن اتخذي من الجبال بيوتا» وقد تقدمت الاشارة إليه وهو هنا في قوله من الجبال إذ معنى من هنا للتبعيض ولم يقل في الجبال لأنها لا تبني بيوتها في كل جبل وفي كل شجر وكل ما يعرش فلم يترك لها الحرية في بناء البيوت ولم يكل الأمر إلى شهواتها كما وكله إليها في قوله ثم كلّيّ من الثمرات وإنما خولف ذلك وحجر عليها في المسكن ولم يحجر عليها في المأكل لأن مصلحة الآكل حاصلة على الإطلاق لاستمراء مشتهاها منه وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها في كل موضع ولهذا المعنى بالذات دخلت ثم لتفاوت الأمر وتباعده بين الحجر عليها في اتخاذ البيوت والإطلاق لها في تناول الثمرات. الفوائد: أن التفسيرية: تقدم القول في «أن التفسيرية» وانها الواقعة بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه وقد وقعت هنا بعد الإيحاء لما فيه من معنى القول فما بعدها لا محل له من الإعراب ومن طريف المناقشات أن أبا عبد الله الرازي وهو الفخر المشهور منع ذلك وقال إننا لا نسلم أنها مفسرة كيف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 وقد انتفى شرط التفسير لأن الوحي هنا إلهام باتفاق وليس في الإلهام معنى القول قال: وإنما هي مصدرية أي باتخاذ الجبال بيوتا ولكن الفخر الرازي جنح به الخيال هذه المرة فلم يقع على الصواب إذ المقصود من القول الإعلام والإلهام فعل من أفعال الله يتضمن الإعلام بحيث يكون الملهم عالما بما ألهم به وإلهام الله النحل من هذا القبيل. [سورة النحل (16) : الآيات 70 الى 72] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) اللغة: (حَفَدَةً) : الحفدة: جمع حافد وهو الذي يحفد أي يسرع في الطاعة والخدمة، قال: حفد الولائد بينهن وأسلمت ... بأكفهنّ أزمة الأجمال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 وفي الصحاح: «الحفدة الأعوان والخدم أيضا» وفي المختار: «الحفد السرعة وبابه ضرب وحفدا أيضا بفتح الفاء ومنه قولهم في الدعاء وإليك نسعى ونحفد، وأحفده حمله على الحفد وبعضهم يجعل أحفد لازما والحفد بفتحتين الأعوان والخدم وقيل ولد الولد واحدهم حافد» وفي القاموس والتاج: «حفد يحفد من باب ضرب حفدا بسكون الفاء وحفودا وحفدانا واحتفد في العمل أسرع وحفده خدمه وأحفد الظلم أسرع وأحفده حمله على الحفد أي الإسراع والحفيد ولد الولد وجمعه حفداء والحافد: الخادم والتابع والناصر وولد الولد وجمعه حفدة وحفد والحفدة أيضا: صناع الوشي» وللمفسرين كلام طويل حول المراد بهم واللفظ يحتمل الجميع لاشتمال الحفدة على الكثير من المعاني كما تقدم. الإعراب: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) الله مبتدأ وجملة خلقكم خبر ثم حرف عطف للتراخي كما تقدم ومنكم الواو حرف عطف ومنكم خبر مقدم وهو معطوف على مقدر أي فمنكم من يبقى محتفظا بقوة جسمه وعقله ومنكم، ومن مبتدأ مؤخر وجملة يرد صلة ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وإلى أرذل العمر متعلقان بيرد وأرذل العمر هو الهرم حيث تغور الأعين وتضعف الحركات وترتعش المفاصل ويدب الوهن إلى جميع أنحاء الجسم ويستولي الخرف عليه. (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) اللام لام التعليل وكي حرف مصدري ونصب ولا نافية ويعلم منصوب بكي واللام ومدخولها متعلقة بيرد ويجوز أن تكون اللام للصيرورة أي فكانت عاقبته أنه رجع الى حال الطفولة في النسيان وعدم الإدراك، وبعد علم ظرف متعلق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 بيعلم وشيئا مفعول به ليعلم ولك أن تجعل المسألة من باب التنازع فتنصب شيئا بالعلم وهو مصدر وإن واسمها وعليم خبرها الأول وقدير خبرها الثاني. (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) الله مبتدأ وجملة فضل خبر وبعضكم مفعول به وعلى بعض جار ومجرور متعلقان بفضل وفي الرزق حال أي حالة كونكم مرزوقين فمنكم غني ومنكم فقير. (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) الفاء عاطفة وما نافية حجازية والذين اسمها وجملة فضلوا صلة والباء حرف جر زائد ورادي مجرور لفظا خبر ما محلا ورزقهم مضاف اليه من إضافة المصدر إلى مفعوله وعلى ما متعلقان برادي وملكت أيمانهم صلة. (فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) الفاء عاطفة للدلالة على أن التساوي مترتب على التراد أي لا يردون عليهم ردا مستتبعا للتساوي وإنما يردون عليهم شيئا يسيرا وهم مبتدأ وفيه متعلقان بسواء وسواء خبر هم وسيأتي بحث هذا الإيجاز البليغ في باب البلاغة. (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) استفهام إنكار وتوبيخ والفاء عاطفة على مقدر أي يشركون به فيجحدون نعمته وبنعمة الله متعلقان بيجحدون لأنه متضمن معنى الكفران. (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) الله مبتدأ وجملة جعل خبر ولكم متعلقان بجعل ومن أنفسكم حال لأنه كان في الأصل صفة لأزواجا وأزواجا مفعول جعل (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) عطف على ما تقدم والاعراب مماثل لها (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) ورزقكم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به ومن الطيبات متعلقان برزقكم والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والفاء عاطفة على مقدر أي يكفرون بالله فيؤمنون بالباطل وبنعمة الله متعلقان يكفرون وهم مبتدأ وجملة يكفرون خبر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 336 البلاغة: الإيجاز: في قوله تعالى «فهم فيه سواء» إيجاز بليغ، وإشارة الى أرفع النظم التي يتحتم على البشر سلكوكها في دنياهم لتستقيم أمورهم، وتزول أسباب العداوة والخصام من قلوبهم وليسود السلام بينهم فقد أخبر تعالى أنه جعلهم متفاوتين في الرزق ولكن هذا التفاوت لا يعني تفضيلهم عليهم في الانسانية أو كأنه يشير إلى أن الواجب يحتم عليكم أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تتساووا في الملابس والمطاعم روي عن أبي ذر الغفاري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون» ويزداد هذا المعنى رسوخا بما تلاه من توبيخ لهم وتقريع لأنهم فرقوا بين الناس وما يزوا بين الطبقات. وفي قوله تعالى «إلى أرذل العمر» إيجاز آخر، إلى الهرم وما يستوجبه من حالات الضعف والخرف التي تدنو بالعاجز والهرم إلى عالم الطفولة الأول مع الفارق البيّن بين الأمل المترتب على الطفولة ومخايلها المبشرة بالفوز في المستقبل والأمل بالحياة الراغد في الآتي أما الآن فليس أمامه إلا مكابدة الحالات التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ منها وهي قوله: «اللهم إني أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات» . [سورة النحل (16) : الآيات 73 الى 76] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 اللغة: (أَبْكَمُ) : الأبكم الذي ولد أخرس فهو أخص من مطلق الأخرس وفي القاموس: «البكم محرك الخرس كالبكامة أو مع عيّ وبله أو أن يولد ولا ينطق ولا يسمع ولا يبصر وبكم كفرح فهو أبكم وبكيم والجمع بكم، وبكم ككرم امتنع عن الكلام تعمدا» وروى ثعلب عن ابن الاعراب ي: الأبكم الذي لا يسمع ولا يبصر وعلى هذا يتميز عن الأخرس بأنه لا يفهم ولا يفهم أما الأخرس فيفهم بالسماع أو بالاشارة ويفهم بالاشارة. (كَلٌّ) : ثقيل على من يلي أمره ويعوله وفي القاموس وغيره: «مصدر كل يكل من باب تعب كلّا وكلة وكلالة وكلولا وكلالة وكلولة تعب وأعيا والضعيف والذي لا ولد له ولا والد وقفا السكين أو السيف والوكيل والصنم والمصيبة تحدث والعيّل والعيال والثقل ويطلق الكلّ على الواحد وغيره وبعضهم يجمع المذكر والمؤنث على كلول» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 338 الإعراب: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الواو عاطفة ويعبدون فعل مضارع وفاعل ومن دون الله حال وما مفعول به وجملة لا يملك صلة ورزقا مفعول به ومن السموات والأرض صفة لرزقا أو متعلقان برزقا. (شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ) شيئا مفعول به لرزقا إذا أردت به المصدر أو اسم المصدر كقوله تعالى: «أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ... » ، وان أردت به المرزوق كان شيئا بدلا منه بمعنى قليلا وسيأتي في باب الفوائد تفصيل حول إعراب شيئا لا بد من معرفته، ولا يستطيعون يجوز في هذه الجملة العطف على صلة ما والاخبار عنهم بعدم الاستطاعة باعتبار معناها لأن ما هنا مفردة لفظا جمع معنى ويجوز أن تكون مستأنفة وعلى كل حال الواو عائدة على ما والمراد بها آلهتهم (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) الفاء استئنافية ولا ناهية وتضربوا فعل مضارع مجزوم والواو فاعل ولله متعلقان بتضربوا والأمثال مفعول به لأن ضرب المثل تشبيه حال بحال وذلك يتنافى مع الذات الإلهية. (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) إن واسمها وجملة يعلم خبر والجملة تعليلية وأنتم الواو حالية وأنتم مبتدأ وجملة لا تعلمون خبر. (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) جملة مستأنفة لتعليمهم كيف يضرب الله المثل، وضرب الله مثلا فعل وفاعل ومفعول به وعبدا بدل من مثلا ومملوكا صفة وجملة لا يقدر على شيء صفة ثانية وعلى شيء متعلقان بيقدر أي من التصرفات (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) الواو عاطفة ومن عطف على عبدا مملوكا ومن اسم موصول أو نكرة موصوفة كأنه قيل وحرا رزقناه ليطابق عبدا وجملة رزقناه صلة على الأول وصفة على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 339 الثاني ونا فاعل والها مفعول به ومنا متعلقان برزقناه ورزقا مفعول به ثان إن أردت به الحال أو مفعول مطلق إن أردت به المصدر وحسنا صفة لرزقا. (فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ) الفاء عاطفة وهو مبتدأ وجملة ينفق خبر ومنه متعلقان بينفق وسرا وجهرا مصدران منصوبان على المفعولية المطلقة أي انفاق سر وجهر أو منصوبان على الحال أي مسرا ومجاهرا وتقديم السر على الجهر مشعر بفضيلته عليه وأن الثواب فيه أكثر، وهل حرف استفهام للنفي وجمع الضمير في يستوون وان تقدمه اثنان لأن المراد جنس الأحرار والعبيد المدلول عليهما والمعنى لا يستوي الأحرار والعبيد. (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الحمد مبتدأ ولله خبر وبل حرف إضراب وأكثرهم مبتدأ وجملة لا يعلمون خبر وأتى بالجملة الاخبارية إرشادا للعبد الى وجوب شكر المنعم على ما أسبغ من العوارف والآلاء. (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ) الواو عاطفة وضرب الله مثلا فعل وفاعل ومفعول به ورجلين بدل من مثلا. (أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) أحدهما مبتدأ وأبكم خبره وجملة لا يقدر على شيء صفة أبكم (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) الواو حالية وهو مبتدأ وكل خبره وعلى مولاه متعلقان بكل (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) أينما اسم شرط جازم في محل نصب على الظرفية المكانية، وهو متعلق بفعل الشرط كما هي القاعدة وقيل بجوابه ولكل وجه وقال الرضي: «العامل في متى وكل ظرف فيه معنى الشرط شرطه على ما قاله الأكثرون» غير إذا والصحيح ان العامل فيها الجواب ووجهه ابن الحاجب فقال: ان الشرط والجزاء جملتان ولا يستقيم عمل الجواب في اسم الشرط لأنه يؤدي إلى أنه يصير جملة واحدة لأنه إذا كان ظرفا له كان من تتمته ولا يكون جملة ثانية أما إذا فالعامل فيها هو الجزاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 340 ووجه ذلك قوة توهم الاضافة في إذا وضعفه في متى، وفصل بعضهم فقال: والأولى أن نفصل ونقول إن تضمن إذا معنى الشرط فحكمه حكم أخواته من متى ونحوه وإن لم يتضمن نحو إذا غربت الشمس جئتك بمعنى أجيئك وقت غروب الشمس فالعامل هو الفعل الذي في محل الجزاء وإن لم يكن جزاء في الحقيقة دون الذي في محل الشرط إذ هو مخصص للظرف وتخصيصه له إما لكونه صفة له أو لكونه مضافا اليه ولا ثالث بالاستقراء. ويوجهه فعل الشرط ولا نافية ويأت جواب الشرط وبخير متعلقان بيأت. (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هل حرف استفهام معناه النفي ويستوي فعل مضارع وهو تأكيد للفاعل المستتر ومن عطف على الفاعل المستتر في يستوي والشرط موجود وهو العطف بالضمير المنفصل وهو لفظ هو وهو مبتدأ وعلى صراط مستقيم خبره والجملة الاسمية صلة من وحذف مقابل أحدهما أبكم للدلالة عليه بقوله ومن يأمر أي والآخر ناطق قادر خفيف على مولاه أينما يوجهه يأت بخير. الفوائد: الفرق بين المصدر واسم المصدر: كثر الاختلاف في إعراب شيئا ولهذا كان لا بد من التبسّط في إعمال المصدر، والفرق بينهما: ان المصدر هو الذي له فعل يجري عليه كالانطلاق في انطلق واسم المصدر هو اسم المعنى وليس له فعل يجري عليه كالقهقرى فإنه لنوع من الرجوع ولا فعل له يجري عليه من لفظه وقد يقولون مصدر واسم مصدر في الشيئين المتغايرين لفظا أحدهما للفعل والآخر للدلالة التي يستعمل بها الفعل كالطهور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 341 والطهور والأكل والأكل فالطهور المصدر والطهور اسم ما يتطهر به والأكل المصدر والأكل ما يؤكل. ويعمل المصدر عمل فعله إن كان يحل محله فعل إما مع أن المصدرية والزمان ماض أو مستقبل نحو عجبت من ضربك زيدا أمس، ونحو يعجبني ضربك زيدا غدا وإما مع ما المصدرية والزمان حال فقط كيعجبني ضربك زيدا الآن أي ما تضربه الآن وعمل المصدر مضافا أكثر من عمله غير مضاف نحو: «ولولا دفع الله الناس» وعمله منونا هو القياس لأنه أقرب إلى الشبه بالفعل لتنكيره نحو: «أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما» فإطعام مصدر وفاعله مستتر ويتيما مفعوله وعمله معرفا بأل قليل في السماع ضعيف في القياس لبعده من مشابهة الفعل كقوله: ضعيف النكاية أعداءه ... يخال الفرار يراخي الأجل فالنكاية مصدر مقرون بأل وأعداءه مفعوله والمعنى ضعيف نكايته أعداءه يظن أن الفرار من الموت يباعد الأجل. أما اسم المصدر فيعمل أيضا كالمصدر إذا كان ميميا كقول العرجي وقيل الحارث بن خالد المخزومي: أظلوم إن مصابكم رجلا ... أهدى السلام تحية ظلم فمصاب مصدر ميمي مضاف إلى فاعله ورجلا مفعوله وجملة أهدى السلام نعت رجلا وتحية مفعول مطلق وستأتي قصة هذا البيت، وإن كان غير ميمي لم يعمل عند البصريين لأن أصل وضعه لغير المصدر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 342 فالغسل موضوع لما يغتسل به والوضوء لما يتوضأ به ويعمل عند الكوفيين وجماعة من البصريين وعليه قول القطامي: أكفرا بعد رد الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا فعطاء اسم مصدر مضاف الى فاعله والمائة مفعوله الثاني أما الأول فهو محذوف أي عطائك إياي المائة الرتاع أي الراتعة وهي الإبل التي ترتعي والواقع أن البصريين اضطربت أقوالهم فقال بعضهم بالجواز وقال بعضهم بالمنع. قصة بيت العرجي: غنت جارية بحضرة الواثق من شعر العرجي: أظلوم إن مصابكم رجلا ... أهدى السلام تحية ظلم فاختلف من بالحضرة في إعراب رجلا فمنهم من نصبه وجعله اسم ان ومنهم من رفعه على انه خبرها والجارية مصرة على أن شيخها أبا عثمان المازني لقنها إياه بالنصب فأمر الواثق بأشخاصه قال أبو عثمان: فلما مثلت بين يديه قال: ممن الرجل؟ قلت من مازن، قال: من أي الموازن؟ قلت: من مازن ربيعة فكلمني بكلام قومي وقال با اسمك؟ لأنهم يقلبون الميم باء والباء ميما إذا كانت في أول الأسماء فكرهت أن أجيبه على لغة قومي لئلا أواجهه بالمكر فقلت: بكر يا أمير المؤمنين ففطن لما قصدته وأعجبه مني ذلك ثم قال: ما تقول في قول الشاعر: أظلوم إن مصابكم رجلا ... أهدى السلام تحية ظلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 343 أترفع رجلا أم تنصبه فقلت الوجه النصب قال ولم ذلك؟ فقلت: لأن مصابكم مصدر بمعنى إصابتكم وهو بمنزلة قولك: إن ضربك زيدا ظلم فالرجل مفعول مصاب ومنصوب به والدليل عليه ان الكلام متعلق الى أن تقول ظلم فيتم فاستحسنه الواثق وأمر له بألف دينار. [سورة النحل (16) : الآيات 77 الى 82] وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 344 اللغة: (ظَعْنِكُمْ) : سفركم يقال ظعن يظعن من باب فتح ظعنا وظعنا وظعونا ومظعنا سار ورجل قال: أقاطن قوم سلمى أم نووا ظعنا ... إن يظعنوا فعجيب عيش من قطنا والقاعدة هي: كل ما كان بوزن فعل مما عينه حرف حلق يجوز تسكينه كبحر ونحر ونهر وشعر وشهر، وقال ابن درستويه في شرح الفصيح: أهل اللغة وأكثر النحويين يقولون: كل ما كان الحرف الثاني منه حرف حلق جاز فيه التسكين والفتح وقال الحذاق: ليس ذلك صحيحا ولكن هي كلمات فيها لغتان فمن سكن من العرب لا يفتح ومن فتح لا يسكن إلا في ضرورة شعر والدليل على ذلك انه قد جاء عنهم مثل ذلك في كلام كثير ليس في شيء منه من حروف الحلق شيء مثل القبض والقبض فإنه جاء فيهما الفتح والإسكان، قال: ومما يدل على بطلان ما ذهبوا اليه أنه قد جاء في النطع أربع لغات فلو كان ذلك من أجل حروف الحلق لجازت هذه الأربع في الشعر والنهر وكل ما كان فيه شيء من حروف الحلق قال: ومما جاء فيه الوجهان مما ثانية حرف حلق: الشعر والشعر والنهر والنهر والصخر والصخر والبعر والبعر والظعن والظعن والدأب والدأب والفحم والفحم والسحر والسحر للرئة، ومما جاء فيه الوجهان وليس ثانيه حرف حلق نشز من الأرض ونشز مرتفع ورجل صدع وصدع خفيف اللحم وليلة النفر والنفر وسطر وسطر وقدر وقدر ولفظ ولفظ وشمع وشمع ونطع ونطع وغذل وغذل وطرد وطرد وطرد وغبن وغبن ودرك ودرك وشبح وشبح للشخص، وهو صريح في أن طريق ذلك السماع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 345 (أَثاثاً) : الأثاث: متاع البيت الكبير وأصله من أث أي تكاثف وكثر ومنه شعر أثيث أي كثير مجتمع قال امرؤ القيس: وفرع يزين المتن أسود فاحم ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل وقال الخليل: الأثاث والمتاع واحد وجمع بينهما لاختلاف لفظيهما، فإن قلت لا بد من فرق بين الأثاث والمتاع حتى يصح ذكر واو العطف والعطف يوجب المغايرة فما هو هذا الفرق؟ قلت الأثاث ما كثر من آلات البيت وحوائجه فيدخل فيه جميع أصناف المال، والمتاع ما ينتفع به في البيت خاصة فظهر الفرق بين اللفظين. (أكنان) : جمع كن وهو ما يستكن فيه من البيوت المنحوتة في الجبال والغيران والكهوف وفي المختار: «الكنّ السترة والجمع أكنان قال تعالى: «وجعل لكم من الجبال أكنانا» والأكنة الأغطية قال تعالى: «وجعلنا على قلوبهم أكنة» الواحد كنان وقال الكسائي كنّ الشيء ستره وبابه رد» وقد تقدم ذكر الأكنة. (سَرابِيلَ) هي القمصان والثياب المتخذة من الصوف والكتان والقطن ومنه قول لبيد: الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى اكتسيت من الإسلام سربالا الإعراب: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) الواو استئنافية ولله خبر مقدم وغيب السموات والأرض مبتدأ مؤخر والواو عاطفة وما نافية وأمر مبتدأ والساعة مضاف إليه وإلا أداة حصر وكلمح البصر خبره وأو حرف عطف وهو مبتدأ وأقرب خبره. (إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إن واسمها وعلى كل شيء متعلقان بقدير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 346 وقدير خبر إن. (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) الله مبتدأ وجملة أخرجكم خبر ومن بطون أمهاتكم جار ومجرور متعلقان بأخرجكم. (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) الجملة في محل نصب على الحال من الكاف أي غير عالمين شيئا، وشيئا مفعول به. (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وجعل عطف على أخرجكم والفاعل مستتر تقديره هو ولكم في موضع المفعول الثاني لجعل والسمع مفعوله الأول والأبصار والأفئدة عطف عليه ولعل واسمها وجملة تشكرون خبرها. (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل والى الطير متعلقان بيروا ومسخرات حال أي مذللة للطيران بما خلق لها من أجنحة وأسباب مواتية له وفي جو السماء متعلقان بمسخرات أي للتحليق في سمت العلو وسكاكه. و (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) الجملة حالية وما نافية ويمسكهن فعل وفاعل مستتر ومفعول به وإلا أداة حصر والله فاعل. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) إن وخبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها المؤخر ولقوم صفة لآيات وجملة يؤمنون صفة لقوم. (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) والله مبتدأ وجملة جعل خبر مفعوله الأول سكنا ومفعوله الثاني أحد الجارين والثاني حال لأنه كان صفة لسكنا وتقدم عليه وإذا كانت جعل بمعنى خلق تعلق أحد الجارين به واكتفى بمفعول واحد وقد تقدمت الاشارة إلى ذلك. (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تقدم إعراب نظيرتها والمراد بالبيوت هنا القباب والأبنية من الأدم والأنطاع كالخيام وغيرها وجملة تستخفونها صفة لبيوتا ويوم ظعنكم الظرف متعلق بتستخفونها ويوم إقامتكم عطف على يوم ظعنكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 347 (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) ومن أصوافها عطف على من جلود الأنعام وأثاثا معطوف على بيوتا أي وجعل لكم من أصوافها أثاثا فيكون من باب عطف الجار والمجرور والمنصوب على مثله ومتاعا عطف على أثاثا وإلى حين متعلقان بمتاعا أو صفة له. (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا) تقدم إعرابها. (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) تقدم إعرابها أيضا. (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) جملة تقيكم الحر صفة لسرابيل وحذف المعطوف للعلم به أي والبرد. (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) وسرابيل عطف على سرابيل الأولى وجملة تقيكم صفة وتقيكم فعل مضارع وفاعل مستتر والكاف مفعوله الأول وبأسكم مفعوله الثاني والمراد بها الدروع والجواشن. (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) كذلك نعت مصدر محذوف وقد تقدم كثيرا ويتم نعمته فعل وفاعل مستتر ومفعول به ولعل واسمها وجملة تسلمون خبرها. (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الفاء استئنافية وان شرطية وتولوا فعل الشرط وأصله تتولوا فحذفت إحدى التاءين ويجوز أن يكون فعلا ماضيا والكلام فيه التفات ولعله أولى وجواب إن محذوف أي فلا غضاضة عليك والفاء تعليلية وإنما أداة حصر كافة ومكفوفة وعليك البلاغ خبر مقدم ومبتدأ مؤخر والمبين صفة. البلاغة: معنى التشبيه هنا التمثيل، أي ان الساعة لما كانت آتية ولا بد جعلت من القرب بمثابة لمح البصر، واللمح النظر بسرعة، ولا بد فيه من زمان تنقلب فيه الحدقة نحو المرئي، وكل زمان قابل للتجزئة، وقال الزجاج: «لم يرد ان الساعة تأتي في لمح البصر وانما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها لأنه يقول للشيء كن فيكون» وقيل: المعنى هي عند الله كذلك وان لم تكن عند المخلوقين بهذه الصفة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 348 [سورة النحل (16) : الآيات 83 الى 86] يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) اللغة: (يُسْتَعْتَبُونَ) : يسترضون وقد اختلفت عبارات المفسرين فيها فلنرجع الى كتب اللغة. قال في المختار: عتب عليه وجد وبابه ضرب ونصر ومعتبا أيضا بفتح التاء والتعتب كالعتب والاسم المعتبة بفتح التاء وكسرها وقال الخليل: العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة وعاتبه معاتبة وعتابا وأعتبه سره بعد ما أساءه والاسم منه العتبى واستعتب وأعتب بمعنى. واستعتب أيضا طلب أن يعتب تقول استعتبه فأعتبه أي استرضاه فأرضاه» وفي الأساس: «واستعتبه استرضاه «وما بعد الموت مستعتب» وبينهم أعتوبة إذا كانوا يتعاتبون. تقول: سمعت منها أعتوبة، لم تكن إلا أعجوبة. وعتابك السيف وعاتبت المشيب قال النابغة: على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت: ألمّا أصح والشيب وازع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 349 أي قلت للشيب: ما أقبح بك أن تصبو وعلى: من صلة عاتبت كما تقول عاتبته على الذنب» . (نَبْعَثُ) : نرسل، وفي القاموس وغيره: بعثه يبعثه من باب فتح بعثا وتبعاثا أرسله وحده وبعث به أرسله مع غيره وبذلك يتضح صواب أبي الطيب المتنبي في قوله: فآجرك الإله على عليل ... بعثت إلى المسيح به طبيبا وقد أخطأ الصاحب في نقده لهذا البيت لأنه عدى بعث بالباء بحجة أن بعث يتعدى الى العاقل بنفسه والى غير العاقل بالباء وقد صرفه تحامله على أبي الطيب عن التأمل في قصة البيت فقد ذكر الواحدي في كتابه قال سمعت الشيخ كريم بن الفضل قال سمعت والدي أبا بشر قاضي القضاة قال: أنشدني أبو الحسين الشامي الملقب بالمشوق قال كنت عند المتنبي فجاء وكيل علي بن محمد بن سيار بن مكرم وكان يحب الرمي فلما دخل عليه أنشده أبياتا سخيفة فنظم المتنبي قصيدته الرائعة في مديح علي بن مكرم والتي مطلعها: ضروب الناس عشاق ضروبا ... فأعذرهم أشفهم حبيبا وفيها يصف نفسه بأبيات ما لحسنها نهاية نثبتها فيما يلي: أعزمي طال هذا الليل فانظر ... أمنك الصبح يفرق أن يئوبا كأن الفجر حبّ مستزار ... يراعي من دجنته رقيبا كأن نجومه حلي عليه ... وقد حذيت قوائمه الجبوبا كأن الجو قاسى ما أقاسي ... فصار سواده فيه شحوبا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 350 كأن دجاه يجذبها سهادي ... فليس تغيب إلا أن ت غيبا أقلب فيه أجفاني كأني ... أعد به على الدهر ألذ نوبا وما ليل بأطول من نهار ... يظل بلحظ حسادي م شوبا وما موت بأبغض من حياة ... أرى لهم معي فيها نصيبا ثم يتطرق إلى مديح علي بن مكرم ويشير الى قصة وكيله الشاعر السخيف: تيممني وكيلك مادحا لي ... وأنشدني من الشعر الغريبا فآجرك الإله على عليل ... بعثت الى المسيح به طبيبا وعبر عنه بما لا يعقل لأنه عدى البعث بحرف الجر أو انه من جملة الهدايا التي بعث بها اليه ولكنها هدية منكرة إذ يقول: ولست بمنكر منك الهدايا ... ولكن زدتني فيها أديبا أما أبيات الوكيل فهي تافهة غير مستقيمة الوزن ولهذا أعرضنا عنها. الإعراب: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) يعرفون نعمة الله يعرفون فعل مضارع والواو فاعل ونعمة الله مفعول به وثم حرف عطف للتراخي ينكرونها عطف على يعرفون وعطف بثم للدلالة على أن إنكارهم أمر مستبعد بعد توفر دلائل المعرفة، وأكثرهم الواو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 351 للحال وأكثرهم مبتدأ والكافرون خبره أو بالعكس أي انهم كانوا يعرفون وينحرفون. (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) الظرف متلق بمحذوف أي اذكر وجملة نبعث مضاف إليها الظرف ومن كل أمة حال لأنه كان في الأصل صفة لشهيدا وشهيدا مفعول به. (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ثم حرف عطف للتراخي ولا نافية ويؤذن فعل مضارع مبني للمجهول وللذين متعلقان به وقد اختلفت الآراء في هذا الإذن وأصحها أنه لا يؤذن لهم في الاعتذار لا سيما وان لها مثيلا في القرآن وهو قوله «ولا يؤذن لهم فيعتذرون» ولا الواو عاطفة ولا نافية وهم مبتدأ وجملة يستعتبون خبر وإنما عطف بثم لطول المدة التي كانت مغبتها منعهم من الكلام. (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة رأى مضافة الى الظرف والذين فاعل رأى وجملة ظلموا صلة والعذاب مفعول به والفاء رابطة لجواب إذا. (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) الفاء رابطة لجواب إذا ولا نافية ويخفف فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر أي العذاب ولا عاطفة وهم مبتدأ وجملة ينظرون خبر. (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) تقدم نظيرتها وشركاءهم مفعول رأى. (قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) جملة قالوا لا محل لها لأنها جواب إذا وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وهؤلاء مبتدأ وشركاؤنا خبر والذين صفة شركاؤنا وجملة كنا صلة وكان واسمها وجملة ندعو خبر كنا ومن دونك حال من مفعول ندعو المحذوف أي ندعوهم ونعبدهم من دونك. (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) الفاء عاطفة وألقوا فعل وفاعل وهو الشركاء وإليهم متعلقان بألقوا والقول مفعول به وإنكم لكاذبون ان واسمها واللام المزحلقة وخبرها والجملة مقول القول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 352 [سورة النحل (16) : الآيات 87 الى 90] وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) الإعراب: (وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) الواو عاطفة وألقوا فعل وفاعل وهو الكفار والى الله جار ومجرور متعلقان بألقوا ويومئذ ظرف أضيف إلى ظرف مثله والتنوين عوضا عن جملة وقد مرّ مثاله كثيرا والسلم مفعول به. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) الواو عاطفة وضل فعل ماض وعنهم متعلقان به وما فاعل ضل وجملة كانوا صلة وكان واسمها وجملة يفترون خبر كانوا. (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) الذين مبتدأ خبره جملة زدناهم وجملة كفروا صلة وصدوا عن سبيل الله عطف على كفروا، وزدناهم فعل وفاعل ومفعول به وعذابا مفعول به ثان وفوق العذاب ظرف متعلق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 353 بمحذوف صفة لعذابا وبما متعلقان بزدناهم والباء للسببية وما مصدرية أي بسبب صدهم وإفسادهم وكان واسمها وجملة يفسدون خبرها. (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) الظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر وقد تكررت هذه الجملة مبالغة في التهديد والوعيد وجملة نبعث مضافة للظرف وفي كل أمة متعلقان بنبعث وشهيدا مفعول به وعليهم متعلقان بشهيدا ومن أنفسهم صفة لشهيدا (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) وجئنا الواو عاطفة وجئنا فعل وفاعل وبك جار ومجرور متعلقان بجئنا وشهيدا حال وعلى هؤلاء متعلقان بشهيدا. (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) ونزلنا عطف على جئنا ونا فاعل وعليك متعلقان بنزلنا والكتاب مفعول به وتبيانا مفعول لأجله أو حال أي مبينا ولكل شيء متعلقان بتبيانا وهدى ورحمة وبشرى عطف على تبيانا وللمسلمين متعلقان ببشرى وهو متعلق بالمصادر الأخرى المتقدمة من حيث المعنى. (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) إن واسمها وجملة يأمر خبر إن وبالعدل متعلقان بيأمر والإحسان عطف على العدل وكذلك إيتاء وذي القربى مضاف لإيتاء. (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) وينهى عطف على يأمر والفاعل مستتر وعن الفحشاء متعلقان بينهى وما بعده عطف عليه وجملة يعظكم حال من فاعل يأمر وينهى ولعل واسمها وجملة تذكرون أي تتذكرون خبرها. البلاغة: اتفق علماء البلاغة والمفسرون جميعا على أن هذه الآية أجمع آية في القرآن للخير والشر وهي قوله تعالى: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان إلخ» وقد أمر عمر بن عبد العزيز الخليفة الصالح بتلاوتها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 354 بدلا من القذف الذي كان يعقب خطب الجمعة بالإمام علي بن أبي طالب وبسببها أسلم عثمان بن مظعون، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها على الوليد بن المغيرة فقال له: يا ابن أخي أعد فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم قراءتها عليه فقال له: إن له لحلاوة. وإن عليه لطلاوة. وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق وما هو بقول البشر. وقد اشتملت في الواقع على أفانين من البلاغة نبينها فيما يلي: 1- الإيجاز: فقد أمر في أول الآية بكل معروف ونهى بعد ذلك عن كل منكر وختم الآية بأبلغ العظات وصاغ ذلك في أوجز العبارات. 2- صحة التقسيم: فقد استوفى فيها جميع أقسام المعنى فلم يبق معروف إلا وهو داخل في نطاق الأمر ولم يبق منكر إلا وهو داخل في حيز النهي، وقدم ذكر العدل لأنه واجب وتلاه بالإحسان لأنه مندوب ليقع نظم الكلام على أحسن ترتيب وقرنهما في الأمر لأن الفرض لا يخلو من خلل وتفريط يجبره الندب والنوافل وخص ذا القربى بالذكر بعد دخوله في عموم من أمر بمعاملته بالعدل والإحسان لبيان فضل ذي القربى وفضل الثواب عليه. 3- الطباق اللفظي والمقابلة بين يأمر وينهى وبين العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وبين الفحشاء والمنكر والبغي. 4- حسن النسق: في ترتيب الجمل وعطفها بعضها على بعض كما بنبغي حيث قدم العدل وعطف عليه الإحسان لكون الإحسان اسما عاما وإيتاء ذي القربى خاص فكأنه نوع من ذلك الجنس ثم أتى بجملة الأمر مقدمة وعطف عليها جملة النهي. 5- التسهيم: لأن صدر الكلام يدل على عجزه كدلالة صدر البيت المسهم على عجزه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 355 6- حسن البيان: لأن لفظ الآية لا يتوقف من سمعه في فهم معناه إذ سلم من التعقيد في لفظه ودل على معناه دلالة واضحة بأقرب الطرق وأسهلها واستوى في فهمه الذكي والغبي. 7- الائتلاف: لأن كل لفظة لا يصلح مكانها غيرها. 8- المساواة: لأن ألفاظ الكلام قوالب لمعانيه لا تفضل عنها ولا تقصر دونها. 9- تمكين الفاصلة: لأن مقطع الآية مستقر في حيزه ثابت في مقره وقراره معناه متعلق بما قبله الى أول الكلام ولأنه لا تحسن الموعظة إلا بعد التكليف ببيان الأمر والنهي ولأن أي لفظة حذفتها من ألفاظ الآية يختل المعنى بحذفها اختلالا ظاهرا وينقص نقصا بيّنا. [سورة النحل (16) : الآيات 91 الى 93] وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 356 اللغة: (تَوْكِيدِها) : توثيقها والتوكيد مصدر وكد يوكد بالواو وفيه لغة أخرى أكد يؤكد بالهمز ومعناه التقوية وهذا كقولهم ورخت الكتاب وأرخته وليست الهمزة بدلا من واو كما زعم بعضهم لأن الاستعسالين في المادتين متساويان فليس ادعاء كون أحدهما أصلا أولى من الآخر. (أَنْكاثاً) : جمع نكث بكسر النون وهو ما ينكث فتله وفي المصباح: «نكث الرجل العهد نكثا من باب قتل نقضه ونبذه فانتكث مثل نقضه فانتقض ونكث الكساء وغير نقضه أيضا والنكث بالكسر ما نقض ليغزل ثانية والجمع أنكاث مثل حمل وأحمال وفي القاموس: «النكث بالكسر ما نقض من الأكسية والأخبية ليغزل ثانية وجمعه أنكاث، يقال: حبل نكث وأنكاث أي منكوث» . (دَخَلًا) : مفسدة ودغلا وفي الصحاح الدغل بالتحريك الفساد مثل الدخل وفي المعاجم الدخل العيب وفي القاموس والتاج: «الدخل بفتحتين ما داخل الإنسان من فساد في العقل أو الجسم والخديعة والعيب في الحسب والقوم الذين يتسبون إلى من ليسوا منهم ومن غريب أمر الدال والخاء أنهما لا تجتمعان إلا دلتا على فساد أو ظلام فالدّخ والدّخ بفتح الدال وضمها الدخان وناهيك بظلمته واربداده قالت امرأة أعرابية لزوجها وكان قد كبر: لا خير في الشيخ إذا ما اجلخا ... وسال غرب عينه ولخا وكان أكلا قاعدا وشخا ... تحت رواق البيت يغشى الدخا وانثنت الرجل فصارت فخا ... وصار وصل الغانيات أخا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 357 ودخر: ذل وصغر وأدخره أذله ودخس الحافر بكسر الخاء أصابه داء الدخس بسكون الخاء وهو ورم في الحافر والدخس بضم الدال وسكون الخاء دابة في البحر والدخيس الملتف من الكلأ وإذا التف فقد قارب السواد والعدد الكثير واللحم المكتنز وتداخلت الأمور التبست وتشابهت والدخل بفتح الدال وسكون الخاء ما دخل عليك من مالك ويقابله الخرج وهو مفسدة لصاحبه ما لم يؤدّ زكاته وما يترتب عليه ومنه سميت ضريبة الدخل ودخلة الرجل بتثليث الدال داخلته وهي محتجبة بظلمة الخفاء والدخيل من دخل في قوم وانتسب إليهم وليس منهم فهو في لبس من أمره وقلما يكون صالحا وداء دخيل أي داخل في أعماق البدن وكل كلمة أعجمية أدخلت في كلام العرب ودخمه دفعه بإزعاج ودخن الطعام واللحم وغيرهما أصابه الدخان في حال طبخه أو شيه فتغلبت رائحة الدخان على طعمه فهو دخن والدخن بفتحتين الحقد والفساد وتغير العقل والدين والحسب يقال: «لست أصالحه على دخن» أي على مكر وفساد والدخي بفتح الدال المشددة الظلمة وليلة دخياء مظلمة وهذا من عجائب اللغات. (أَرْبى) أزيد عددا وأوفر مالا. الإعراب: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ) الواو عاطفة وأوفوا فعل أمر وفاعل وبعهد الله جار ومجرور متعلقان بأوفوا وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة عاهدتم مضاف إليها الظرف. (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا) الواو عاطفة ولا ناهية وتنقضوا مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والأيمان مفعول به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 358 وبعد ظرف متعلق بتنقضوا وتوكيدها مضاف اليه والواو حالية والجملة حال من فاعل تنقضوا وقد حرف تحقيق وجعلتم الله فعل وفاعل ومفعول به وعليكم متعلقان بكفيلا وكفيلا مفعول به ثان لجعلتم. (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) تقدم إعراب مثيلتها كثيرا. (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) الواو عاطفة ولا ناهية وتكونوا مجزوم بها وكان واسمها والكاف خبرها وجملة نقضت صلة وغزلها مفعول به ومن بعد قوة حال من فاعل نقضت أو من مفعوله أي محكمة له أو محكمأ وأنكاثا منصوب بفعل محذوف أي فجعلته أنكاثا أو بتضمين نقضت معنى صيرت فهو مفعول ثان وجوّز الزجاج فيه وجها آخر وهو النصب على المصدرية لأن معنى نقضت نكثت فهو مطابق لعامله في المعنى وقيل هو حال من غزلها أي منقوضا وستأتي قصة هذه المرأة في باب الفوائد. (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) جملة تتخذون حال من ضمير تكونوا أي لا تكونوا مثلها متخذين أيمانكم دخلا وتتخذون فعل مضارع وفاعل وأيمانكم مفعول به أول ودخلا مفعول به ثان وبينكم صفة لدخلا وأن وما في حيزها مصدر في محل نصب مفعول لأجله أي مخافة أن تكون وأمة اسم تكون وهي مبتدأ وأربى خبر والجملة خبر تكون ومن أمة جار ومجرور متعلقان بأربى، كانوا يحالفون الحلفاء ويقطعون العهود والمواثيق فإذا وجدوا أكثر منهم وأعز جانبا نقضوا حلف أولئك وحالفوا هؤلاء. (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) إنما كافة ومكفوفة وهي للحصر ويبلوكم الله فعل ومفعول مقدم وفاعل مؤخر وبه متعلقان بيبلوكم وليبيننّ الواو عاطفة واللام موطئة للقسم ويبينّ فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وجوبا ولكم متعلقان بيبينن ويوم القيامة ظرف متعلق بمحذوف حال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 359 وما مفعول به وكنتم صلة وهي كان واسمها وفيه جار ومجرور متعلقان بتختلفون وجملة تختلفون خبر كنتم. (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) الواو عاطفة ولو شرطية وشاء الله فعل وفاعل واللام واقعة في جواب لو وجعلكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول وأمة مفعول به ثان وواحدة صفة. (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) الواو حالية ولكن حرف استدراك مهملة لأنها خففت، ويضل فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو ومن مفعول به ويشاء صلة ويهدي من يشاء عطف على ما تقدم. (وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وتسألن فعل مضارع معرب لأن النون لم تباشره فهو مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين نائب فاعل والنون المشددة هي نون التوكيد الثقيلة وعما متعلقان بتسألن وجملة كنتم تعملون خبر كنتم. الفوائد: روى التاريخ أن امرأة حمقاء اسمها ريطة بنت سعد بن تميم من مكة اتخذت مغزلا قدر ذراع وصنارة مثل إصبع وفلكة عظيمة على قدرها فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن فالكلام تشبيه تمثيلي مرسل والمشبه به معين. [سورة النحل (16) : الآيات 94 الى 97] وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 360 الإعراب: (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ) كرره تأكيدا مع التصريح بالنهي عنه مبالغة في قبحه (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) الفاء فاء السببية المسبوقة بالنهي وتزل مضارع منصوب بإضمار أن وقدم فاعل وبعد ظرف متعلق بتزل وثبوتها مضاف اليه. (وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وتذوقوا عطف على تزل والسوء مفعول به والباء حرف جر وهي للسببية وما مصدرية وهي مع مدخولها في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان بتذوقوا وعن سبيل الله متعلقان بصددتم ولكم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وعظيم صفته. (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا) الواو عاطفة ولا ناهية وتشتروا فعل مضارع مجزوم بلا وبعهد الله متعلقان بتشتروا فالباء داخلة على المتروك وثمنا مفعول به وقليلا صفة (إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إن واسمها والظرف صلة ما وهو مبتدأ وخير خبر والجملة خبر ان ولكم متعلقان به وإن شرطية وكنتم في محل جزم فعل الشرط الجزء: 5 ¦ الصفحة: 361 والتاء اسم كان وجملة تعلمون خبرها وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فلا تنقضوا (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ) ما اسم موصول مبتدأ وعندكم ظرف متعلق بالصلة وجملة ينفد خبر ما ومثلها وما عند الله باق. (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) اللام موطئة للقسم ونجزين فعل مضارع مبني على الفتح لتأكيده بالنون المشددة والفاعل مستتر تقديره نحن والذين صبروا مفعوله وأجرهم مفعول ثان لنجزين وبأحسن جار ومجرور متعلقان بنجزين وهو صفة لمحذوف أي بجزاء أحسن، وما مصدرية وكان واسمها وجملة يعملون خبرها ولك أن تجعل ما موصولة والتقدير بجزاء أحسن من عملهم الذي كانوا يعملونه في الدنيا أو نجعل الأجر متناسبا مع الأحسن من أعمالهم. (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) من اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وعمل فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ومن ذكر متعلقان بمحذوف حال من فاعل عمل وأو حرف عطف وأنثى عطف على ذكر وهو الواو حالية وهو مبتدأ ومؤمن خبر والجملة حالية فلنحيينه الفاء رابطة واللام موطئة للقسم ونحيينه فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والهاء مفعول به وحياة مفعول مطلق وطيبة صفة وجملة فلنحيينه جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من ولك أن تجعل من اسما موصولا والفاء الداخلة لما في الموصوف من رائحة الشرط فتكون جملة فلنحيينه خبره. (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) تقدم إعرابها وسيأتي مزيد بيان لهذه الآيات في باب البلاغة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 362 البلاغة: 1- في قوله تعالى «من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن إلى آخر الآية» فنون شتى أبرزها التتميم وقد تقدم القول فيه وتكرر في هذه الآية مرتين الأولى في قوله من ذكر أو أنثى لأن من الشرطية أو الموصولية تفيد العموم فكان لا بد من تتميمها بذلك للتأكيد وإزالة لوهم التخصيص جريا على معتقدات العرب القديمة في تفضيل الذكر على الأنثى وإيثاره بكل ما هو خير والثانية في قوله وهو مؤمن وقد اختلفت الآراء في هذا التميم وما هو المراد بالحياة الطيبة التي ينالها من هو بهذه المثابة وأحسن ما نختاره منها قول الزمخشري وننقله بنصه لفائدته قال وأبدع: «وذلك أن المؤمن مع العمل الصالح موسرا كان أو معسرا يعيش عيشا طيبا إن كان موسرا فلا مقال فيه وإن كان معسرا فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة والرضا بقسمة الله وأما الفاجر فأمره على العكس إن كان معسرا فلا إشكال في أمره على حد قول أبي دلامة: ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس في الرجل وإن كان موسرا فالحرص لا يدعه أن يهنأ بعيشه» ويؤيد هذا ما نراه من انهماك النوع البشري في ابتكار وسائل التدمير والخراب للاستعلاء والاستغلال والسيطرة على العالم وهيهات!! 2- وفي قوله «فتزل قدم بعد ثبوتها استعارة تمثيلية للمستقيم الحال يقع في شر عظيم ويسقط فيه لأن القدم إذا زلت نقلت الإنسان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 363 من حال خير الى حال شر ويقال لمن أخطأ في شيء زلت به قدمه ومنه قول زهير: تداركتما عبسا وقد ثل عرشها ... وذبيان قد زلت بأقدامها النعل 3- وفي قوله «فتزل قدم بعد ثبوتها إلخ» توحيد القدم وتنكيرها والسر في ذلك استعظام أن تزلّ قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن توطأ لها مهاده وثبتت عليه فكيف بأقدام كثيرة وفيه تقليل للواعي من الناس لما يقضي بسداد الرأي واستقامته ومن جنس إفادة التنكير هنا للتقليل إفادته له في قوله تعالى: «وتعيها اذن واعية» وفي قوله «اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد» فنكر الاذن والنفس تقليلا للواعي من الناس لما يقضي بسداده. [سورة النحل (16) : الآيات 98 الى 102] فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 364 الإعراب: (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) الفاء استئنافية وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متعلق باستعذ وجملة قرأت مضاف إليها الظرف والقرآن مفعول به أي إذا أردت قراءة القرآن، والفاء رابطة للجواب واستعذ فعل أمر وفاعله أنت وبالله متعلقان باستعذ وكذلك يتعلق باستعذ من الشيطان، والرجيم صفة. (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الجملة تعليلية للأمر وان واسمها وجملة ليس خبرها وله خبر مقدم لليس وسلطان اسمها المؤخر وعلى الذين جار ومجرور متعلقان بسلطان لأنه مصدر بمعنى التسلط أي الاستيلاء والقهر والتمكن وآمنوا صلة وعلى ربهم متعلقان بيتوكلون. (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) إنما كافة ومكفوفة وسلطانه مبتدأ وعلى الذين خبر وجملة يتولونه من الفعل والفاعل والمفعول به صلة الموصول وعائده والذين عطف على الذين الأولى وجملة هم مشركون صلة وهم مبتدأ وبه متعلقان بمشركون ومشركون خبرهم. (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل وبدلنا فعل وفاعل وآية مفعول به ومكان مفعول ثان لبدلنا أو ظرف مكان متعلق ببدلنا وآية مضاف إليه. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا) الواو اعتراضية والجملة معترضة بين شرط إذا وجوابها لا محل لها والله مبتدأ وأعلم خبر وبما متعلقان بأعلم وينزل صلة وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب إذا. (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الجملة مقول القول وإنما كافة ومكفوفة وأنت مبتدأ ومفتر خبر وبل حرف إضراب وأكثرهم مبتدأ وجملة لا يعلمون خبر وحذف مفعول يعلمون للعلم به أي حقيقة التبديل والنسخ وفائدتهما. (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 365 الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) جملة نزله مقول قل وهو فعل ومفعول به مقدم وروح فاعل مؤخر والقدس مضاف اليه من إضافة الموصوف لصفته أي الروح المقدس وهو جبريل ومن ربك متعلقان بنزله وبالحق حال أي ملتبسا بالحق، وليثبت اللام لام التعليل ويثبت فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والفاعل هو والذين مفعول به وآمنوا صلة وليثبت في محل نصب مفعول لأجله وجر باللام لأن المصدر ليس بقلبي ولاختلاف الفعل لأن المنزل هو جبريل والمثبت هو القرآن. (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) هذان المصدران معطوفان على محل ليثبت أي تثبيتا وهداية وبشرى. [سورة النحل (16) : الآيات 103 الى 106] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) اللغة: (يُلْحِدُونَ) : يميلون ولحدت القبر وألحدته وقبروه في لحد وملحود ولحد للميت وألحد له حفر له لحدا ولحد الميت وألحده جعله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 366 في اللحد ولحد السهم عن الهدف وألحد، وألحد في دين الله ولحد عن القصد عدل عنه وألحد في الحرم ولحد إليه مال إليه والتحد اليه: التجأ ومالي دونه ملتحد قال ذو الرمة: إذا استوسجت آذانها استأنست لها ... أناسيّ ملحود لها في الحواجب الإعراب: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف يراد به التكثير هنا ونعلم فعل مضارع وفاعل مستتر وان وما في حيزها سدت مسدّ مفعولي نعلم وأن واسمها وجملة يقولون خبرها. (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) الجملة مقول قولهم وإنما كافة ومكفوفة ويعلمه بشر فعل ومفعول به مقدم وبشر فاعل مؤخر وهو قين أي حداد رومي اسمه جبر بفتح الجيم وسكون الباء الموحدة وهو غلام عامر بن الحضرمي وقيل يعنون جبرا ويسارا وكانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمر عليهما ويسمع ما يقرأانه وقيل غير ذلك مما لا يخرج عن الصدد. (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) لسان مبتدأ والذي مضاف إليه وجملة يلحدون إليه صلة وأعجمي خبر لسان أي غير مبين وهذا مبتدأ وعربي خبر ومبين صفة وهذا تأكيد على عروبة لغة القرآن ووجه الجواب ان الذي يعزون إليه أنه يعلم النبي القرآن رجل أعجمي في لسانه لكنة وعجمة تمنعانه من الإفصاح والإبانة ومحمد صلى الله عليه وسلم الذي جاءكم بهذا القرآن المبين الذي عجزتم عن الإتيان بسورة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 367 من مثله. (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) إن واسمها وجملة لا يؤمنون صلة وبآيات الله متعلقان بيؤمنون وجملة لا يهديهم الله خبر إن والواو عاطفة ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم صفته. (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ) إنما كافة ومكفوفة ويفتري فعل مضارع والكذب مفعول به مقدم والذين فاعل مؤخر وجملة لا يؤمنون بآيات الله صلة. (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) الواو اعتراضية وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان والكاذبون خبر أولئك أو خبرهم والجملة خبر أولئك وجملة أولئك هم الكاذبون معترضة. (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) أولى الأعاريب التي ذكرها المعربون لمن أن تكون بدلا من الذين لا يؤمنون بآيات الله وتكون جملة وأولئك هم الكاذبون اعتراضا بين البدل والمبدل منه والمعنى إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ويجوز على بعد أن تعربه مبتدأ خبره جملة فعليهم والفاء زيدت لتضمن الموصول معنى الشرط وجملة كفر بالله صلة كما يجوز أن تعرب من شرطية وبالله جار ومجرور متعلقان بكفر ومن بعد إيمانه حال وإلا أداة استثناء ومن مستثنى متصل لأن الكفر يكون بالقول من غير اعتقاد وقيل هو منقطع لأن الكفر اعتقاد والإكراه على القول دون الاعتقاد كالمكره وجملة أكره صلة الموصول، وقلبه الواو حالية وقلبه مبتدأ ومطمئن خبر وبالايمان متعلقان بمطمئن. (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ولكن الواو استئنافية ولكن حرف مشبه بالفعل واسمها ضمير الشأن ومن مبتدأ وشرح فعل الشرط إن جعلتها صلة وصلة إن جعلتها موصولا والله فاعل وصدرا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 368 تمييز أي طاب به نفسا واعتقده، فعليهم الفاء رابطة وعليهم خبر مقدم وغضب مبتدأ مؤخر ومن الله صفة ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وعظيم صفة. البلاغة: الإلجاء: في قوله تعالى: «ولقد نعلم انهم يقولون انما يعلمه بشر إلخ» وقول الله تعالى جوابا لهذا القول: «لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين» والإلجاء فن لم يذكره علماء البديع كثيرا وقد تكلم عنه أسامة بن منقذ في بديعه تحت اسم الالتجاء والمغالطة، وهو أن تكون صحة الكلام المدخول ظاهرة موقوفه على الإتيان فيه بما يبادر الخصم إلى رده بشيء يلجئه الى الاعتراف بصحته، أو بعبارة أوضح: لكل كلام يرد فيه على المعترض عليه جواب مدخول إذا دخله الخصم به التجأ إلى تصحيح الجواب كقوله تعالى الآنف الذكر فإن للخصم أن يقول: نحن أردنا القصص والاخبار ونحن نعلم أن الأعجمي إذا ألقى الكلام إلى العربي لا يخرجه عن كونه تعلم معانيه من الأعجمي فظاهر الكلام لا يصح أن يكون ردا على المشركين فيقال لهم: هب الأعجمي علّمه المعاني فهذه العبارة الهائلة التي قطعت أطماعكم عن الإتيان بمثلها من علمها له؟ فإن كان هو الذي أتى بها من قبل نفسه فقد أقررتم أن رجلا واحدا منكم أتى بهذا المقدار من الكلام الذي هو مائة سورة وأربع عشرة سورة وقد عجزتم بأجمعكم وكل من تدعون من دون الله عن الإتيان بأقصر سوره فإن قلتم إن الأعجمي علمه المعاني والألفاظ فهذا أشد عليكم لأنه إقرار بأن رجلا أعجميا قدر على بين الآيات المتضمنة للأخبار والقصص وقد عجزتم عن ثلاث آيات منهن، يلجئهم ذلك الى الإقرار بأنه من عند الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 369 الفوائد: قصة عمار بن ياسر: روى التاريخ أن ناسا من أهل مكة فتنوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان منهم عمار بن ياسر وأبواه ياسر وسمية وصهيب وبلال وخباب وسالم عذبوا فأما سمية أم عمار فربطوها بين بعيرين وضربها أبو جهل بحربة في قلبها فماتت وقتل زوجها ياسر وهما أول قتيلين في الإسلام وأما عمار فإنه أعطاهم بعض ما أرادوا بلسانه مكرها فقيل يا رسول الله إن عمارا كفر، فقال: كلا إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله يبكي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله نلت منك فذكرت فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال: إن عادوا لك فقل لهم ما قلت إلى آخر هذه القصة الممتعة التي يرجع إليها في المطولات. [سورة النحل (16) : الآيات 107 الى 111] ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 370 اللغة: (النفس) يؤخذ من مجموع أقوال المعاجم العربية أن النفس مصدر وهي أيضا الروح والدم يقال دفق نفسه أي دمه والجسد يقال هو عظيم النفس أي الجسد والعين يقال أصابته نفس أي عين وشخص الإنسان، ونفس الشيء عينه ويؤكد به فيقال: جاءني هو نفسه وبنفسه ونفس الأمر حقيقته والنفس أيضا العظمة والهمة والعزة والأنفة والإرادة والرأي والعقوبة والماء، والنفس مؤنث إن أريد بها الروح نحو خرجت نفسه ومذكر إن أريد بها الشخص نحو عندي خمسة عشر نفسا والجمع أنفس ونفوس ويقال في نفسي أن أفعل شيئا أي قصدي ومرادي أن أفعل كذا وفلان يؤامر نفسيه ويشاورهما أي يتردد في الأمر ويتجه له رأيان لا يدري على أيهما يثبت وخرجت نفسه وجاد بنفسه إذا مات، أما معنى النفس عند الفلاسفة فمرجعه علم النفس وليس هذا مكانه والخلاف فيه طويل وقد أصاب أبو الطيب حيث قال: تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب فقيل تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 371 ومن تفكر في الدنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين الهمّ والتعب من قصيدة الرئيس ابن سينا في النفس: هذا ومن المفيد أن نقتبس هنا أبياتا مختارة من قصيدة الشيخ الرئيس أبي علي بن سينا في النفس: هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تعزّز وتمنع محجوب عن كل مقلة عارف ... وهي التي سفرت ولم تتبرقع وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات توجع أنفت وما أنست فلما واصلت ... ألفت مجاورة الغراب الأبقع وأظنها نسيت عهودا بالحمى ... ومنازلا بفراقها لم تقنع حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها ... عن ميم مركزها بذات الاجرع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 372 علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت ... بين المعالم والطلول ا لخضع تبكي وقد ذكرت عهودا بالحمى ... بمدامع تهمي ولما تقلع وتظل ساجعة على الدمن التي ... درست بتكرار الرياح الأربع ويطول بنا القول إن حاولنا شرح ما رمزت إليه هذه الأبيات المقتبسة من العينية الرائعة وحاصل ما أراده أنه يتساءل: لم تعلقت النفس بالبدن؟ إن كان رائدها غير الكمال فهي حكيمة خفية على الأذهان وإن كان رائدها الكمال فلم ينقطع تعلقها به قبل حصوله. الإعراب: (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) الاشارة الى ما تقدم من ذكر الغضب والعذاب واسم الاشارة مبتدأ خبره بأنهم أي ثابت بسبب أنهم فالباء للسببية وان واسمها وجملة استحبوا خبرها أي اختاروا والحياة مفعول به والدنيا صفة وعلى الآخرة جار ومجرور متعلقان باستحبوا. (وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) وأن عطف على بأنهم وأن واسمها وجملة لا يهدي خبرها والقوم مفعول به والكافرين صفة القوم. (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) أولئك مبتدأ والذين خبره وجملة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 373 طبع الله صلة وعلى قلوبهم جار ومجرور متعلقان بطبع وسمعهم وأبصارهم عطف على قلوبهم وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ ثان أو ضمير فصل والغافلون خبر هم أو خبر أولئك. (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) لا جرم تقدم القول فيها وأن واسمها وفي الآخرة متعلقان بالخاسرون وهم مبتدأ والخاسرون خبره والجملة خبر ان. (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا) ثم للترتيب مع التراخي لتباعد حال هؤلاء عن حال أولئك وإن واسمها وللذين خبر إن بمعنى أنه وليهم وناصرهم وجملة هاجروا صلة ومن بعد متعلقان بهاجروا وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مضاف للظرف أي من بعد فتنتهم ثم حرف عطف وتراخ وجاهدوا وصبروا عطف على هاجروا (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) إن واسمها ومن بعدها حال واللام المزحلقة وغفور خبر إن الأول ورحيم خبرها الثاني، هذا وقد أسهب المعربون في إعراب هذه الآية واضطربت أقوالهم اضطرابا شديدا لفرط عنايتهم وتحريهم مواقع الصواب فجهدهم مشكور ولكن لا حاجة لذلك كله والكلام واضح لا لبس فيه. (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) الظرف متعلق بمحذوف أي اذكر وجملة تأتي مضافة للظرف وكل نفس فاعل تأتي وجملة تجادل حال وعن نفسها متعلقان بتجادل وإنما جازت إضافة النفس الى النفس ومن شرط المتضايفين أن يكونا متغايرين ان المراد بالنفس الأولى الإنسان وبالثاني ذاته فكأنه قال يوم يأتي كل إنسان يجادل على ذاته أي يعتذر عنها لا يهمه شأن غيره. (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) وتوفى عطف على تجادل وكل نفس نائب فاعل وما عملت مفعول توفى الثاني وهم الواو حالية أو عاطفة وهم متدأ وجملة لا يظلمون خبر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 374 [سورة النحل (16) : الآيات 112 الى 113] وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) الإعراب: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ) الواو استئنافية وضرب الله مثلا فعل وفاعل ومفعول به وقرية بدل من مثلا أي جعل القرية الموسومة بهذه السمات مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكفروا، وجملة كانت صفة لقرية وكان واسمها المستتر وآمنة خبرها ومطمئنة خبر ثان وجملة يأتيها خبر ثالث وهو فعل مضارع ومفعول به مقدم ورزقها فاعل مؤخر ورغدا وصف للمصدر أي اتيانا رغدا فهو مفعول مطلق أو بمعنى راغدا فهو حال ومن كل مكان متعلقان بيأتيها. (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) الفاء عاطفة وكفرت فعل ماض والفاعل مستتر يعود على القرية وبأنعم الله متعلقان بكفرت فأذاقها الفاء عاطفة للتعقيب وأذاقها فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ولباس الجوع والخوف مفعول ثان والباء حرف جر للسببية وما مصدرية أو موصولة والعائد محذوف أي بسبب صنعهم أو بسبب الذي كانوا يصنعونه. (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ) الواو عاطفة واللام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 375 موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وجاءهم رسول فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ومنهم صفة لرسول فكذبوه الفاء حرف عطف وكذبوه فعل ماض وفاعل ومفعول به. (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) فأخذهم عطف على فكذبوه والعذاب فاعل والواو حالية وهم مبتدأ وظالمون خبر والجملة حالية. البلاغة: في قوله تعالى «وضرب الله مثلا قرية» مجاز مرسل واستعارتان مكنيتان، أما المجاز المرسل ففي قوله قرية والمراد أهلها فعلاقة المجاز المحلية إذ أطلق المحل وأريد الحال وأما الاستعارة الأولى فهي استعارة الذوق للباس فأما الإذاقة فقد كادت تجري عند العرب مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا فيقولون ذاق فلان البؤس والضرر شبّه ما يدرك منهما من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المرّ البشع وأما اللباس فقد صح التشبيه به لأنه يشتمل على لابسه وأما الاستعارة الثانية فهي استعارة اللباس للجوع والخوف كأنما قد أحاط بهم واشتمل عليهم كما يشتمل اللباس على لابسه، وبناء الاستعارة على الاستعارة ميدان فسيح تضل فيه الأفكار وقد ينغلق فهمه كما انغلق على ابن سنان الخفاجي في نقده للآمدي حين تناول بيت امرئ القيس: فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل فقد قال الآمدي في كتاب الموازنة «وقد عاب امرأ القيس بهذا المعنى من لم يعرف موضوعات المعاني ولا المجازات وهو في غاية الحسن والجودة والصحة وهو إنما قصد وصف أجزاء الليل الطويل فذكر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 376 امتداد وسطه وتثاقل صدره للذهاب والانبعاث وترادف اعجازه وأواخره شيئا فشيئا وهذا عندي منتظم لجميع نعوت الليل الطويل على هيئته وذلك أشد ما يكون على من يراعيه ويترقب تصرمه فلما جعل له وسطا يمتد وأعجازا رادفة للوسط وصدرا متثاقلا في نهوضه حسن أن يستعير للوسط اسم الصلب وجعله متمطيا من أجل امتداده لأن تمطّى وتمدّد بمنزلة واحدة وصلح أن يستعير للصدر اسم الكلكل من أجل نهوضه وهذه أقرب الاستعارات من الحقيقة وأشد للاءمته هنا لما استعيرت له وكذلك قول زهير: وعرّي أفراس الصبا ورواحله لما كان من شأن ذي الصّبا أن يوصف أبدا بأن يقال: ركب جواده وجرى في ميدانه، وجمح في عنانه، ونحو هذا، حسن أن يستعار للصبا اسم الأفراس وأن يجعل النزوع عنه أن تعرى أفراسه ورواحله وكانت هذه الاستعارة أيضا من أليق شيء بما استعيرت له» . وقال ابن سنان الخفاجي في كتابه «سر الفصاحة» : حول قول امرئ القيس: فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل «إن هذا الذي ذكره الآمدي ليس بمرضي غاية الرضا وإن بيت امرئ القيس ليس من الاستعارة الجيدة ولا الرديئة بل هو وسط فإن الآمدي قد أفصح بأن امرأ القيس لما جعل لليل وسطا ممتدا استعار له اسم الصلب وجعل متمطيا من أجل امتداده وحيث جعل له أولا وآخرا استعار له عجزا وكلكلا وهذا كله إنما يحسن بعضه مع بعض فذكر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 377 الصلب إنما يحسن من أجل العجز والوسط والتمطي من أجل الصلب والكلكل لمجموع ذلك استعارة مبنية على استعارة أخرى» . هذا ما قاله الرجلان بصدد الاستعارة المبنية على استعارة أخرى وقد غفل ابن سنان على سموه في البلاغة عن آية القرآن وإلا ما كان أساغ لنفسه أن يذم هذه الاستعارة. وروي أن ابن الراوندي الزنديق قال لابن الأعراب ي إمام اللغة والأدب: هل يذاق اللباس؟ فقال له ابن الأعرابي: لا بأس أيها النسناس هب أن محمدا ما كان نبيا أما كان عربيا؟ كأنه طعن في الآية بأن المناسب أن يقال فكساها الله لباس الجوع أو فأذاقها الله طعم الجوع فرد عليه ابن الأعرابي، وقد أجاب علماء البلاغة أن هذا من تجريد الاستعارة وذلك انه استعار اللباس لما خشي الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف لاشتماله عليه اشتمال الثوب على اللابس ثم ذكر الوصف ملائما للمستعار له وهو الجوع والخوف لأن اطلاق الذوق على إدراك الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة فيقولون ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه غيره فكانت الاستعارة مجردة ولو قال فكساها كانت مرشحة، قيل وترشيح الاستعارة وان كان مستحسنا من جهة المبالغة إلا أن للتجريد ترجيحا من حيث أنه روعي جانب المستعار له فازداد الكلام وضوحا. [سورة النحل (16) : الآيات 114 الى 117] فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 378 الإعراب: (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً) الفاء الفصيحة أي إذا استبان لكم حال من كفر وما آل إليه أمرهم فانتهوا عما أنتم عليه وأقلعوا عن كفران النعم وكلوا واشربوا ومما متعلقان بكلوا وجملة رزقكم صلة وحلالا حال ولك أن تجعله مفعولا به لكلوا وطيبا صفة. (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) واشكروا نعمة الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وإن شرطية وكنتم فعل الشرط وكان واسمها وإياه مفعول مقدم لتعبدون وجملة تعبدون خبر كنتم. (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) إنما كافة ومكفوفة وحرم فعل وفاعل مستتر وعليكم جار ومجرور متعلقان بحرم والميتة مفعول به والدم والخنزير عطف على الميتة وما عطف أيضا وجملة أهل صلة ولغير الله حال وبه متعلقان بأهل وقد تقدمت هذه الآية. (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الفاء تفريعية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ واضطر فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط ونائب الفاعل مستتر يعود على من وغير باغ حال ولا عاد عطف على باغ والفاء رابطة وان واسمها وغفور خبرها الأول ورحيم خبرها الثاني والجملة في محل جزم جواب الشرط. (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 379 لا ناهية وتقولوا مضارع مجزوم بلا والواو فاعل ولما تصف اللام حرف جر وما مصدرية وهي مع مدخولها في محل جر باللام والجار والمجرور متعلقان بتقولوا وألسنتكم فاعل تصف والكذب مفعول تصف وجملة هذا حلال مقول القول فيكون المعنى ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب أي لتعودها عليه وجريانها به أي لا تحللوا ولا تحرموا لأجل قول تنطق به ألسنتكم وهو قول مدفوع لا تقوم به حجة وهذا حرام عطف على هذا حلال ولتفتروا بدل من قوله لما تصف، وعلى الله متعلقان بتفتروا والكذب مفعول به لتفتروا ويجوز أن ينتصب الكذب مفعولا لتقولوا ولكون جملة هذا حلال بدل منه وعندئذ تكون ما موصولة أي ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم فتقولوا هذا حرام وهذا حلال وكلا الاعرابين صحيح وسائغ وأورد ابن هشام في المغني هذه الآية وعبارته: قيل في ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب وفي كما أرسلنا فيكم رسولا منكم، أن الكذب بدل من مفعول تصف المحذوف أي لما تصفه وكذلك في رسولا بناء على أن «ما» في «كما» موصول اسمي ويرده أن فيه إطلاق ما على الواحد من أولي العلم والظاهر أن ما كافة وأظهر منه أنها مصدرية لإبقاء الكاف حينئذ على عمل الجر وقيل في الكذب إنه مفعول لتقولوا والجملتان بعده بدل منه أي لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل أو الحرمة وإما لمحذوف أي فتقولون الكذب وإما لنصف على أن ما مصدرية والجملتان محكيتا القول أي لا تحللوا وتحرموا لمجرد قول تنطق به ألسنتكم. وسيأتي معنى وصف الألسنة بالكذب في باب البلاغة. (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) ان واسمها وجملة يفترون صلة وعلى الله متعلقان بيفترون والكذب مفعول يفترون وجملة لا يفلحون خبر ان. (مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 380 أَلِيمٌ) متاع خبر مبتدأ محذوف أي ذلك العمل الذي هو ديدنهم متاع قليل الفائدة أو مبتدأ محذوف الخبر أي لهم متاع وقليل صفة متاع ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم صفة عذاب. البلاغة: وصف الألسنة للكذب تعبير عربي مبين للمبالغة جعلت الألسنة لاستساغتها الكذب وجريانه عليها وتردده فيما تنطق به دائما كأنها تصفه وتجسده للسامع ومن ذلك قولهم وجهها يصف الجمال وعينها توحي بالسحر أو كأن الكذب أمر مجهول وعليهم تبيانه للناس وكشف الغطاء عن خوافيه فهو مجاز عقلي. [سورة النحل (16) : الآيات 118 الى 123] وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 381 الإعراب: (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) وعلى الذين متعلقان بحرمنا وهادوا صلة الذين وما مفعول به وقصصنا صلة وعليك متعلقان بقصصنا ومن قبل متعلقان بحرمنا وقد تقدمت الاشارة الى ما خص اليهود بتحريمه وذلك في قوله تعالى: «وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر» الى آخر الآية من سورة الأنعام (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الواو عاطفة وما نافية وظلمناهم فعل وفاعل ومفعول به والواو حالية ولكن مخففة مهملة فهي حرف استدراك وكانوا كان واسمها وأنفسهم مفعول مقدم ليظلمون وجملة يظلمون خبر كانوا. (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) ثم حرف عطف للتراخي وان واسمها وللذين خبرها أي غفور للذين وعملوا صلة والسوء مفعول به وبجهالة في موضع الحال من الواو أي عملوا السوء جاهلين ثم تابوا عطف على عملوا ومن بعد متعلقان بتابوا وذلك مضافة لبعد وأصلحوا عطف على تابوا. (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) إن واسمها ومن بعدها متعلقان بغفور واللام المزحلقة وغفور خبر إن ورحيم خبر ثان. (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) إن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو أي ابراهيم وأمة خبر كان أي كان وحده أمة بذاتها لأنه اجتمعت فيه من صفات الكمال ما يجتمع في أمة فصدق فيه قول أبي نواس: ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد وقانتا خبر ثان لكان ولله متعلقان بقانتا وحنيفا خبر ثالث. ولم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 382 بك: لم حرف نفي وقلب وجزم ويك فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون وحذفت النون للتخفيف وقد مر ذلك في بحث خصائص كان واسم يك مستتر تقديره هو ومن المشركين خبر يك. (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) شاكرا خبر رابع لكان ولأنعمه منعلقان بشاكرا وجملة اجتباه خبر خامس وهداه عطف على اجتباه والى صراط جار ومجرور متعلقان بهداه ومستقيم صفة لصراط. (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) عطف على ما تقدم على طريق الالتفات عن الغيبة الى التكلم لزيادة الاعتناء بشأنه وآتيناه فعل وفاعل ومفعول به وفي الدنيا جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لحسنة وحسنة مفعول به ثان وانه ان واسمها وفي الآخرة متعلقان بمحذوف حال واللام المزحلقة ومن الصالحين خبر ان. (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ثم حرف عطف وأوحينا فعل وفاعل وعطفها بثم الدالة على التراخي والتباعد إشعار بالمكانة السميا والمنزلة العليا لمحمد صلى الله عليه وسلم وان أجلّ ما أوتي ابراهيم من النعمة اتباع محمد لشريعته، وإليك متعلقان بأوحينا وأن اتبع أن مفسرة أو مصدرية فتكون منصوبة بنزع الخافض وملة ابراهيم مفعول اتبع وحنيفا حال من ابراهيم وسيأتي بحث مجيء الحال من المضاف اليه والواو عاطفة وما نافية وكان واسمها المستتر ومن المشركين خبرها. الفوائد: مجيء الحال من المضاف اليه: تأتي الحال من المضاف اليه بشروط ثلاثة: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 383 1- أن يكون المضاف جزءا من المضاف اليه نحو «ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا» فإخوانا حال من المضاف اليه وهو الضمير والصدور بعضه ونحو «أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه» فميتا حال من الأخ المضاف اليه اللحم واللحم بعض الأخ 2- أو كالجزء منه مثل هذه الآية فحنيفا حال من ابراهيم المضاف اليه الملة والملة كبعضه في صحة حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه إذ لو قيل واتبع ابراهيم لكان صحيحا. 3- أن يكون المضاف عاملا في الحال كأن يكون مصدرا أو وصفا نحو «إليه مرجعكم جميعا» فجميعا حال من الكاف والميم المضاف اليه مرجع ومرجع مصدر ميمي عامل في الحال النصب. [سورة النحل (16) : الآيات 124 الى 128] إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 384 الإعراب: (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) إنما كافة ومكفوفة وجعل فعل ماض مبني للمجهول والسبت نائب فاعل وعلى الذين جار ومجرور متعلقان بجعل فهو بمثابة المفعول الثاني وجملة اختلفوا صلة وفيه متعلقان باختلفوا وقد تقدم أن اليهود خالفوا نبيهم موسى حيث أمرهم أن يعظموا يوم الجمعة بالتفرغ للعبادة فيه وترك الأشغال فقالوا لا نريده واختاروا السبت فشدد عليهم فيه. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) الواو عاطفة أو استئنافية وان واسمها واللام المزحلقة وجملة يحكم خبر إن وبينهم متعلقان بيحكم وكذلك الظرف وهو يوم القيامة وفيما متعلقان بمحذوف حال وجملة كانوا صلة وفيه متعلقان بيختلفون وجملة يختلفون خبر كانوا. (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) ادع فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والمفعول محذوف أي الناس والى سبيل ربك متعلقان بادع وبالحكمة حال أي ملتبسا بها والموعظة الحسنة عطف على الحكمة. (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وجادلهم عطف على ادع والهاء مفعول به وبالتي متعلقان بادع وهي مبتدأ وأحسن خبر والجملة الاسمية صلة التي. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) إن واسمها وهو مبتدأ وأعلم خبر والجملة خبر إن وبمن متعلقان بأعلم وجملة ضل صلة وعن سبيله متعلقان بضل وهو مبتدأ وأعلم خبر وبالمهتدين متعلقان بأعلم. (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) الواو استئنافية وان شرطية وعاقبتم فعل ماض والتاء فاعل وهو في محل جزم فعل الشرط فعاقبوا الفاء رابطة وعاقبوا فعل أمر وفاعل وبمثل جار ومجرور متعلقان بعاقبوا وما مضاف اليه وجملة عوقبتم صلة وبه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 385 متعلقان بعوقبتم وجملة فعاقبوا في محل جزم جواب الشرط. (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) اللام موطئة للقسم وان شرطية وصبرتم في محل جزم فعل الشرط واللام واقعة في جواب القسم لتقدمه وقد تقدم ذلك وهو مبتدأ وخير خبر وللصابرين متعلقان بخير. (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) واصبر الواو استئنافية واصبر فعل أمر وفاعله مستتر وما صبرك الواو حالية وما نافية وصبرك مبتدأ وإلا أداة حصر وبالله خبر والواو عاطفة ولا ناهية وتحزن فعل مضارع مجزوم بلا وعليهم متعلقان بتحزن. (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتك فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه السكون المقدر على النون المحذوفة للتخفيف واسم تك مستتر تقديره أنت وفي ضيق خبر تك ومما صفة لضيق وجملة يمكرون صلة. (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) إن واسمها ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر والذين مضاف اليه واتقوا صلة والذين عطف على الذين وهم مبتدأ ومحسنون خبر والجملة صلة. البلاغة: خواتم سورة النحل: قوله تعالى «ولا تك في ضيق» يجوز أن يكون من الكلام المقلوب لأن الضيق وصف يكون في الإنسان ولا يكون الإنسان فيه ويجوز أن يراد أن في الكلام تشبيها فقد شبه الضيق بالشيء الذي يحيط بالإنسان وهو من روائع التعبير وجوامع الكلم ولذلك روي عن ابراهيم بن حيان عند ما احتضر أنه قيل له: أوص، فقال: إنما الوصية من المال ولا مال لي ولكني أوصيكم بخواتم سورة النحل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 386 (17) سورة الإسراء مكية وآياتها إحدى عشرة ومائة [سورة الإسراء (17) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 387 اللغة: (سُبْحانَ) : علم جنس للتنزيه والتقديس وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره تقديره أسبح الله سبحانه أو سبحت الله سبحان أي فهو مفعول مطلق ومعناه ما أبعد الذي له هذه القدرة عن جميع النقائص ولذا لا يستعمل إلا فيه تعالى. (أَسْرى) : سرى بمعنى سار في الليل وهما لازمان ومصدر الأول الإسراء ومصدر الثاني السرى بضم السين. (مَرَّتَيْنِ) : تثنية مرة وفي القاموس مرمرا ومرورا جاز وذهب واستمر ومره وبه جاز عليه وامترّ به وعليه كمر والمرة الفعلة الواحدة والجمع مرّ ومرار ومرر بكسرهما ومرور بالضم ولقيه ذات مرة ولا يستعمل إلا ظرفا» . (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) : في القاموس: «الجوس بالجيم طلب الشيء باستقصاء والتردد خلال الدور والبيوت في الغارة والطوف فيها كالجوسان والاجتياس وبابه قال وخلال الديار فيه وجهان أحدهما أنه اسم مفرد بمعنى وسط والثاني انه جمع خلل كجبل وجبال وجمل وجمال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 388 وقال الجوهري: الجوس مصدر جاسوا خلال الديار أي تخللوا فطلبوا ما فيها كما يجوس الرجل الأخبار أي يطلبها. وحكى الهروي في الغريبين عن الأزهري أن معنى جاسوا وطئوا. وحكي عن الأصمعي انه يقال تركت فلانا يجوس بني فلان ويحوسهم ويدوسهم أي يضؤهم. وقال أبو عبيد كل موضع خالطته ووطئته فقد جسته وحسته. (الْكَرَّةَ) : الغلبة والدولة وهي في الأصل مصدر كريكر أي رجع ثم استعملت تعبيرا عن الدولة والقهر والغلبة. (نَفِيراً) : النفير من ينفر مع الرجل من قومه وقيل جمع نفر كالعبيد والمعيز وفيه أوجه أحدها انه فعيل بمعنى فاعل أي نافر والثاني أنه جمع نفر نحو عبيد والثالث انه مصدر أي أكثر خروجا الى الأعداء وفد قدمنا أن النون والفاء إذا كاتنا فاء للكلمة وعينا لها، دلتا على الخروج والنفاذ. (يتبروا) : التتبير: الهلاك. (حَصِيراً) : محبسا وسجنا. قال لبيد: ومقامه غلب الرجال كأنهم ... جن لدى باب الحصير قيام وقال الحسن: يعني فراشا، وعنه أيضا: وهو مأخوذ من الحصر والذي يظهر انها حاصرة لهم أي محيطة بهم من جميع جهاتهم فحصير معناه ذات حصر إذ لو كان للمبالغة لزمته التاء لجريانه على مؤنث كما تقول: رحيمة وعليمة، ولكنه على معنى النسب كقوله: السماء منفطر به، أي ذات انفطار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 389 الإعراب: (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) سبحان مفعول مطلق لفعل محذوف وقد تقدم بحثه في باب اللغة والذي مضاف اليه وجملة أسرى صلة، وبعبده متعلقان بأسرى وليلا ظرف متعلق بأسرى وسيأتي في باب البلاغة سر ذكره مع أن السرى لا يكون إلا في الليل وبعبده جار ومجرور متعلقان بأسرى وليلا ظرف زمان متعلق بأسرى أيضا ومن المسجد جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي مبتدئا وإلى المسجد الأقصى حال أيضا أي منتهيا الى المسجد والأقصى نعت للمسجد والذي نعت ثان وباركنا صلة وهي فعل وفاعل وحوله ظرف متعلق بباركنا. (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) اللام للتعليل ونريه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به والأولى أن تجعل الجار والمجرور خبرا لمبتدأ محذوف أي وذلك لنريه ومن آياتنا جار ومجرور متعلقان بنريه ومن حرف جر للتبعيض وان واسمها وهو مبتدأ أو ضمير فصل والسميع خبر هو أو خبر إن والبصير خبر ثان وسيأتي سر هذه الالتفاتات في باب البلاغة. (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) الواو استئنافية أو عاطفة على جملة سبحان الذي أسرى ونا فاعل وموسى مفعول به أول والكتاب مفعول به ثان وجعلناه هدى فعل وفاعل والهاء مفعول به أول وهدى مفعول به ثان ولبني متعلقان بهدى وإسرائيل مضاف اليه. (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا) يصح في أن أن تكون مصدرية منصوبة مع مدخولها بنزع الخافض أي بأن لا تتخذوا والجار والمجرور متعلقان بكتبنا ويجوز أن تكون مفسرة لأن الإتيان فيه معنى القول دون حروفه ولا ناهية وتتخذوا مضارع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 390 مجزوم بلا ووكيلا مفعول تتخذوا الأول ومن دوني هو المفعول الثاني لتتخذوا. (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) ذرية: اضطربت أقوال المعربين في نصبها المتفق عليه بين القراء جميعا فقيل: نصبت على الاختصاص وبه بدأ الزمخشري وقيل على النداء وقيل بدل من وكيلا وقيل مفعول ثان لتتخذوا، على أن النفس لا تطمئن لواحد منها والله أعلم ومن مضاف الى ذرية وحملنا صلة ومع ظرف مكان متعلق بحملنا ونوح مضاف إليه وان واسمها وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره هو وعبدا خبرها وشكورا صفة ومما يرجح إعراب ذرية على الاختصاص أو النداء قول الزمخشري في إعراب جملة: «إنه كان عبدا شكورا» انها تعليلية لاختصاصهم بأنهم أولاد المحمولين مع نوح فكأنه قيل: «لا تتخذوا من دوني وكيلا ولا تشركوا بي لأن نوحا عليه السلام كان عبدا شكورا وأنتم ذرية من آمن به وحمل معه فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم» وهذه فطنة من الزمخشري تسترعي الانتباه وتستحق الاعجاب. (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) الواو عاطفة وقضينا فعل وفاعل وإلى بني إسرائيل متعلقان بقضينا وقضينا في الأصل فعل يتعدى بنفسه ولكنه تعدى هنا بإلى لتضمنه معنى أوحينا، ومعنى قضينا أعلمنا وأخبرنا أو حكمنا وأتممنا، وأصل القضاء الإحكام للشيء والفراغ منه وقيل أوحينا ويدل عليه قوله إلى بني إسرائيل ولو كان بمعنى الإعلام والاخبار لقال قضينا بني إسرائيل ولو كان بمعنى حكمنا لقال على بني إسرائيل ولو كان بمعنى أتممنا لقال لبني إسرائيل. وفي الكتاب حال والمراد به التوراة. (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) اللام جواب للقسم المحذوف أو أجرى القضاء المبتوت مجرى القسم كأنه قيل: وأقسمنا لتفسدن، وتفسدن فعل مضارع معرب لأنه لم يتصل مباشرة بنون التوكيد الثقيلة وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي النونات الجزء: 5 ¦ الصفحة: 391 وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين هي الفاعل والأصل لتفسدونن وقد تقدمت له نظائر وفي الأرض متعلقان بتفسدن ومرتين نصب على الظرفية وأعربه أبو البقاء مفعولا مطلقا على أنه صفة لمصدر محذوف أو على أنه في نفسه مصدر عمل فيه ما هو من غير جنسه وسيأتي المراد بالمرتين في باب الفوائد. (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) الواو عطف ولتعلن عطف على لتفسدن وهي مماثلة لها في إعرابها وعلوا مفعول مطلق وكبيرا صفة. (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة جاء مضاف إليها الظرف ووعد فاعل وأولاهما مضافة لوعد ولما كان الوعد على إطلاقه خاصا بالخير كان لا بد من تقدير مضاف محذوف أي وعد عقاب أولاهما وجملة بعثنا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعليكم متعلقان ببعثنا وعبادا مفعول به وأولي صفة لعبادا وهي من الأسماء الخمسة بمعنى أصحاب وبأس مضاف اليه وشديد صفة لبأس. (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا) الفاء عاطفة وجاسوا عطف على بعثنا وخلال ظرف مكان متعلق بجاسوا والديار مضاف اليه والواو عاطفة وكان عطف على الجوس واسمها ضمير يعود على الجوس أو الوعد بالعقاب ووعدا خبر كان ومفعولا صفة لوعدا. (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) ثم حرف عطف للتراخي ورددنا فعل وفاعل ولكم متعلقان برددنا والكرة مفعول به وعليهم متعلقان بالكرة أي الغلبة عليهم أو حال منها. (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) وأمددناكم عطف على رددنا وهو فعل وفاعل ومفعول به وبأموال جار ومجرور متعلقان بأمددناكم وبنين عطف على أموال وجعلناكم فعل وفاعل ومفعول به وأكثر مفعول به ثان ونفيرا تمييز. (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) إن شرطية وأحسنتم فعل وفاعل وهو في محل جزم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 392 فعل الشرط وأحسنتم جوابه وإن أسأتم عطف على إن أحسنتم والفاء رابطة للجواب ولها متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف أي فإساءتكم، وكان القياس يقتضي أن يقول فعليها ولكنه عدل الى اللام للمشاكلة مع قوله لأنفسكم، وقيل اللام بمعنى على أي فعليها كما في قول عنترة: فخرّ صريعا لليدين وللفم (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل، وجاء وعد فعل وفاعل والآخرة مضاف لوعد وأراد المرة الآخرة وليسوءوا اللام للتعليل ويسيئوا مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وهو متعلق بجواب إذا المحذوف أي بعثناهم ليسوءوا وقد دل على الجواب جواب إذا الأولى ووجوهكم مفعول به والمعنى ليجعلوا وجوهكم بادية المساءة منكسفة المعالم. (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) وليدخلوا عطف على ليسوءوا أي فهو متعلق بمحذوف هو بعثناهم والمسجد منصوب على السعة وكما نصب على المصدرية أي دخولا مثل دخولهم وأول مرة نصب على الظرفية. (وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) وليتبروا عطف على ليسوءوا وواو الجماعة فاعل وما مفعول به ليتبروا أي ليهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه ويجوز أن تجعل ما مصدرية ظرفية ومفعول يتبروا محذوف ولعله أولى لإفساح المجال أمام الخيال ليتصور مدى إهلاكهم الحرث والنسل مدة علوهم على البلاد ويكون الظرف متعلقا بيتبروا وتتبيرا مفعول مطلق. (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) عسى فعل ماض من أفعال الرجاء ترفع الاسم وتنصب الخبر وربكم اسمها وأن مع مدخولها في محل نصب خبر والواو حرف عطف وإن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 393 شرطية وعدتم فعل ماض وفاعل في محل جزم فعل الشرط وعدنا فعل ماض وفاعل في محل جزم جواب الشرط وجعلنا عطف على عدنا ونا فاعل وجهنم مفعول به أول وللكافرين متعلقان بحصيرا وحصيرا مفعول به ثان هذا إذا اعتبرنا حصيرا فعيلا بمعنى فاعل وان اعتبرناه اسما جامدا أي مكان الحبس المعروف فتكون للكافرين حالا منه. البلاغة: اشتملت هذه الآيات على ضروب من البلاغة ندرجها فيما يلي: 1- الذكر: ذكر الليل مع أن السرى لا يكون إلا بالليل يحتمل أمرين: آ- أولهما أن الاسراء لما دل على أمرين أحدهما السير والآخر كونه ليلا أريد إفراد أحدهما بالذكر تثبيتا في نفس المخاطب وتنبيها على أنه مقصود بالذكر وقد مرت الاشارة الى هذه النكتة في قوله تعالى «وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد» فالاسم الحامل للتثنية دال عليها وعلى الجنسية وكذلك المفرد فأريد التنبيه لأن أحد المعنيين وهو التثنية مقصود مراد. ب- وثانيهما الإشارة بتنكير الليل إلى تقليل مدته لأن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية وهذا بخلاف ما لو قيل أسرى بعبده الليل فإن التركيب مع التعريف يفيد استغراق السير لجميع أجزاء الليل. 2- الوصل والفصل: ومن الفنون البعيدة المنال التي تطول على من رامها الفصل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 394 والوصل فإن القارئ ليشعر أن بين آية الاسراء وقوله «وآتينا موسى الكتاب» إلى آخر الآية تباينا شديدا في ظاهر الأمر حتى إذا تمعّن وتدبر وجد الوصل بين الفعلين فإنه تعالى أخبر أنه أسرى بمحمد صلى الله عليه وسلم الى الأرض المقدسة ليريه من آياته ويرسله الى عباده كما أسرى بموسى من مصر إلى مدين حين خرج خائفا يترقب وأسرى به وبابنه شعيب الى الأرض المقدسة ليريه من آياته ويرسله الى فرعون وملئه وآتاه الكتاب فهذا هو الوصل بين الفصلين المذكورين وأما الوصل بين قوله تعالى: «ذرية من حملنا مع نوح» وبين ما قبله فتذكار بني إسرائيل بأول نعمه عز وجل عليهم بنجاة آبائهم مع نوح في السفينة من الغرق إذ لو لم ينج آباؤهم لما وجدوا فكأنما النعم السابغة عليهم سلسلة متعاقبة الحلقات أولها نجاة آبائهم من غرق الطوفان الذي عم العالم بأسره وآخرها نجاتهم من الغرق حين شق لهم البحر ليغرق فرعون وجنوده وملؤه وينجوا هم وإذن كان يترتب عليهم أن يشكروا من أسبغ عليهم هذه الآلاء والعوارف وأن يتأسوا بنوح جدهم الأكبر الذي كان عبدا شكورا، أليس الولد سر أبيه؟ بيد أن هؤلاء نسيج وحدهم من الجحود والإنكار، وغمط النعمة، ومقابلة الحسنات بالسيئات. 3- الالتفات: تحدثنا عن الالتفات كثيرا في هذا الكتاب وتقدمت له شواهد متعددة وفي هذه الآية، آية الاسراء، تعاقب الالتفات كثيرا على قصر متنه وتقارب طرفيه، فقد قال أولا «سبحان الذي أسرى» بلفظ الواحد الغائب ثم قال «الذي باركنا» بلفظ الجمع المتكلم ثم قال «إنه هو السميع البصير» بلفظ الواحد الغائب ولو جاء الكلام على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 395 مساق الأول لكان «سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته إنه هو السميع البصير» وهذا جميعه محمول على أسرى فلما خولف بين المعطوف والمعطوف عليه في الانتقال من صيغة الى صيغة كان ذلك اتساعا في الكلام، وتفننا فيه، وتنويعا لأساليبه والفائدة منه فضلا عن تطرية نشاط الذهن، واستحضاره، واسترعائه لعرض الحقائق المملوءة بالعظات والعبر، أنه لما بدأ الكلام بسبحانه ردفه بقوله الذي أسرى إذ لا يجوز أن يقال الذي أسرينا فلما جاء بلفظ الواحد، والله تعالى أعظم العظماء وهو أولى بخطاب العظيم في نفسه الذي هو بلفظ الجمع استدرك الاول بالثاني فقال: «باركنا» ثم قال «لنريه من آياتنا» فجاء بذلك على نسق «باركنا» ثم قال «إنه هو» عطفا على أسرى وذلك موضع متوسط الصفة لأن السمع والبصر صفتان يشاركه فيهما غيره، بصرف النظر عن التفاوت بين السمعين والبصريين وتلك حال متوسطة فخرج بهما عن خطاب العظيم في نفسه الى خطاب غائب وهذه مرام بعيدة المدى، جليلة الغرض لا يسبر غورها ولا يكتنه فحواها إلا المطبوع. الفوائد: 1- «من» و «إلى» الجارتين: ل «من» الجارة معان كثيرة يمكن الرجوع إليها في معني اللبيب وغيره من الكتب المطولة في النحو ولكننا نريد أن نشير إلى المعنى الرئيسي لها الوارد في آية الاسراء وهو الابتداء أي ابتداء الغاية المكانية باتفاق جميع النحاة بصريهم وكوفيهم بدليل انتهاء الغاية بعدها وهي قوله «الى المسجد الأقصى» أما ابتداء الغاية الزمانية فقد اختلف النحاة فأقرها الكوفيون وأقرها من البصريين المبرد والأخفش وابن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 396 درستويه وهذا هو الصحيح لورودها في الكتاب العزيز وهو قوله «من أول يوم أحق أن تقوم فيه رجال» وفي الحديث وهو قول أنس «فمطرنا من الجمعة الى الجمعة» وفي الشعر وهو قول النابغة الذبياني يصف السيوف: تخيرن من أزمان يوم حليمة ... إلى اليوم قد جربن كل التجارب أما «إلى» الجارة فهي تفيد انتهاء الغاية مكانية وزمانية فمثالها في المكان «الى المسجد الأقصى» ومثالها في الزمان «ثم أتموا الصيام إلى الليل» ولإلى سبعة معان أخرى حكاها في مغني اللبيب وغيره ومما أشكل من معاني إلى قول النابغة الذبياني أيضا يعتذر الى النعمان ابن المنذر: فلا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطلي به القار أجرب ذكر في المغني أنها هنا بمعنى في وهو غريب وقال الدماميني: «إلى متعلقة بمحذوف وهو حال من اسم كأن، أي: كأنني مبغضا إلى الناس بسبب الوعيد كجمل أجرب طلي به القار أي جعل فيه أو اتصف به» وقد ذهل الدماميني عن القلب في مطلي به القار أو انه تكلفه ليجعل مطليا بمعنى مبغض فالقار يطلى به ولا يطلي هو ولهذا كان لا بد من الرجوع الى رأي ابن هشام وهو ان الى بمعنى في وان الجار والمجرور في موضع النصب على الحال أي كأنني كائنا في الناس بعير طلي بالقار وهو مبغض. 2- معنى مرتين: اختلف المفسرون في تفسير المرتين الواردتين في قوله تعالى «لتفسدن في الأرض مرتين» فذهب بعضهم الى أن المرة الأولى هي قتل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 397 زكريا وحبس أرميا والثانية قتل يحيى وقصد قتل عيسى وقال البيضاوي: «أولاهما مخالفة أحكام التوراة وقتل شعيا وقيل أرميا وثانيتهما قتل زكريا ويحيى وقصد قتل عيسى عليهم الصلاة والسلام» على أن فساد اليهود في الأرض لا يمكن حصره بمرتين وإنما أتى القرآن الكريم بالمرتين مثالا سريعا لفسادهم الذي لا يحصى والذي يستمر مدى الدهور. ويمكن الرجوع الى المطولات لهذا الغرض. [سورة الإسراء (17) : الآيات 9 الى 15] إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 398 الإعراب: (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) إن واسمها والقرآن بدل من اسم الاشارة ويهدي فعل وفاعل مستتر والمفعول به محذوف أي يهدي الناس والجملة خبر إن وللتي جار ومجرور متعلقان بيهدي وهي مبتدأ وأقوم خبر والجملة الاسمية صلة التي وأقوم اسم تفضيل على قول الزجاج إذ قدر أقوم الحالات، وقدره غيره أقوم مما عداها أو من كل حال ورجح أبو حيان انها ليست للتفضيل إذ قال لا مشاركة بين الطريقة التي يرشد إليها القرآن وطريقة غيرها وفضلت هذه عليها وانما المعنى التي هي قيمة أي مستقيمة كما قال: وذلك دين القيمة، وفيها كتب قيمة، أي مستقيمة الطريقة، قائمة بما يحتاج إليه من أمر الدين. (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) ويبشر عطف على يهدي والمؤمنين مفعول به والذين صفة المؤمنين وجملة يعملون صلة والصالحات مفعول به وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بيبشر ولهم خبر أن المقدم وأجرا اسمها المؤخر وكبيرا صفة. (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) وان الذين عطف على أن لهم أجرا كبيرا أي يبشر المؤمنين ببشارتين عظيمتين الأولى بثوابهم والثانية بعقاب أعدائهم ويجوز أن يعطف على يبشر بإضمار ويخبر بأن الذين لا يؤمنون معذبون وجملة أعتدنا خبر أن ولهم متعلقان بأعتدنا وعذابا مفعول به وأليما صفة. (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا) الواو استئنافية ويدعو الإنسان فعل وفاعل وبالشر متعلقان بمحذوف حال أو بيدعو ودعاءه مفعول مطلق وبالخير حال أيضا أو متعلقان بالدعاء لأنه مصدر والواو عاطفة أو حالية وكان واسمها وخبرها. (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) وجعلنا فعل وفاعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 399 والليل مفعول به والنهار عطف على الليل وآيتين مفعول به ثان فمحونا الفاء عاطفة ومحونا عطف على جعلنا وآية الليل مفعول به. (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) وجعلنا فعل وفاعل وآية النهار مفعول به أول ومبصرة مفعول به ثان ولتبتغوا اللام للتعليل وتبتغوا مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والواو فاعل والجار والمجرور متعلقان بقوله وجعلنا، وفضلا مفعول به ومن ربكم متعلقان بتبتغوا وصفة لقوله فضلا. (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا) ولتعلموا عطف على ولتبتغوا وعدد السنين مفعول به والحساب عطف على عدد ولا تكرار فيهما وكل شيء نصب على الاشتغال ورجح نصبه لتقدم جملة فعلية كما سيأتي في باب الفوائد وفصلناه فعل وفاعل ومفعول به وتفصيلا مفعول مطلق. (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) وكل انسان نصب على الاشتغال أيضا وألزمناه فعل وفاعل ومفعول به وطائره مفعول به ثان وفي عنقه حال أي كائنا وسيأتي تفصيل ذلك في باب البلاغة. (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) الواو عاطفة ونخرج فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن وله جار ومجرور متعلقان بنخرج وكتابا مفعول به وجملة يلقاه صفة لكتابا ومنشورا اما صفة ثانية لكتابا وإما حال. (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) جملة اقرأ كتابك في موضع نصب مقول قول محذوف أي يقال له واقرأ فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وكتابك مفعول به وكفى فعل ماض وبنفسك الباء حرف جر زائد ونفسك فاعل مرفوع محلا مجرور بالباء لفظا واليوم ظرف متعلق بمحذوف حال وعليك متعلقان بحسيبا، وحسيبا تمييز وهو بمعنى حاسب كما ذكر سيبويه، قال سيبويه: «ضريب القداح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 400 بمعنى ضاربها وصريم بمعنى صارم» وأجاز بعضهم إعرابه حالا لأنه مشتق وليس ببعيد. (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) من شرطية مبتدأ واهتدى فعل ماض في محل جزم فعل الشرط فإنما الفاء رابطة وإنما كافة ومكفوفة ويهتدي فعل مضارع مرفوع والفاعل هو ولنفسه متعلقان بيهتدي والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط. (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) عطف على الجملة السابقة وعليها في موضع نصب على الحال أي واقعا ضلاله عليها. (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) الواو عاطفة ولا نافية وتزر فعل مضارع وفاعل ووزر مفعول لتزر أي تحمل وأخرى مضاف اليه. (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) الواو عاطفة وما نافية وكنا كان واسمها ومعذبين خبرها، حتى حرف غاية وجر ونبعث فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ورسولا مفعول به. البلاغة: 1- المجاز العقلي في قوله تعالى «وجعلنا آية النهار مبصرة» لأن النهار لا يبصر بل يبصر فيه فهو من إسناد الفعل إلى زمانه وقد تقدم ذكره كثيرا. 2- «وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه» تعبير مسوق على عادة العرب كانوا لا يباشرون عملا من الأعمال الهامة إلا إذا اعتبروا أحوال الطير ليتبينوا إذا كانت مغبة العمل خيرا أم شرا فإذا طارت الطير بنفسها أو بإزعاج من أحد متيامنة تفاءلوا وأقدموا على عملهم وإذا طارت متياسرة تشاءموا وأحجموا عن عملهم ولما كثر منهم ذلك سموا نفس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 401 الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه على طريق المجاز المرسل وقد تقدم ذكره كثيرا. وإنما خص العنق بالذكر لأنه محل القلادة التي تزين الجيد وتبدو لأول وهلة وتسم المتقلد بها بالوسامة فكان ذلك كناية عن اتصافه بالخير والشر المقدرين له في لوح الأزل وإيثاره باختياره جانب واحد منهما كالذي يتبع السوانح وهي الطير الذاهبة متيامنة والذي يتبع البوارح وهي الطير الذاهبة متياسرة وأجاز بعضهم أن يكون الكلام من باب الاستعارة التصريحية أي استعير الطائر لما هو سبب الخير والشر من قدر الله وعمل العبد أي لما جعلوا الطائر سببا للخير والشر وأسندوهما اليه باعتبار سنوحه وبروحه استعير الطائر لما كان سببا لهما وهما قدرة الله الكائنة وعمل العبد المختار وكما أن الطائر الحقيقي يأتي الى كل مكان بعد مزايلة وكناته وأعشاشه فكذلك الحوادث تنتهي إلى الإنسان. 3- الطباق بين الهدى والضلال وقد تقدم. 4- في قوله «وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة» فن الجمع مع التفريق وهو أن يجمع المتكلم بين شيئين في حكم واحد ثم يفرق بينهما في ذلك الحكم، ومما ورد منه في الشعر قول البحتري البديع: ولما التقينا والنقا موعد لنا ... تعجب رائي الدرّ منّا ولا قطه فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 402 الفوائد: الاشتغال: الاشتغال عرفه النحاة بأنه اسم تقدم على عامل من حقه أن ينصبه لولا اشتغاله عنه بالعمل في ضميره نحو: خالد أكرمته، والأفضل في الاسم المتقدم الرفع على الابتداء والجملة بعده خبره ويجوز نصبه بفعل محذوف يفسره المذكور بعده وجملة رأيته مفسرة للجملة المقدرة ولا محل لها من الإعراب ولا يجوز إظهار الفعل المقدر ويقدر بلفظ الفعل المذكر إلا إذا كان لازما فيقدر بمعناه نحو حمص مررت بها فيقدر بجاوزت مثلا وله أحوال: 1- وجوب النصب: وذلك إذا وقع بعد أدوات التحضيض والشرط والاستفهام غير الهمزة نحو هلّا الخير فعلته، وإن عليا لقيته فسلم عليه، وهل خالدا أكرمته؟ غير أن الاشتغال بعد أدوات الاستفهام والشرط لا يكون إلا في الشعر. 2- ترجيح النصب: ويترجح النصب في خمسة أمور: آ- أن يقع بعد الاسم أمر نحو خالدا أكرمه وقد استثنيت من ذلك مسألة «والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما» وقد تقدم الكلام عليها مستوفى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 403 ب- أن يقع بعد الاسم نهي نحو: الكريم لا تهنه. ج- أن يقع بعد الاسم دعاء نحو: اللهم أمري يسره. د- أن يقع الاسم بعد همزة الاستفهام كقوله تعالى «أبشرا منا واحدا نتبعه» . هـ- أن يقع الاسم جوابا لمستفهم عنه كقولك: عليا أكرمته، في جواب من قال: من أكرمت؟ 3- وجوب الرفع: ويجب الرفع في موضعين: 1- أن يقع بعد إذا الفجائية نحو: خرجت فإذا الجو يملؤه الضباب، لأن إذا الفجائية لا تدخل على الأفعال. 2- أن يقع قبل أدوات الاستفهام أو الشرط أو التحضيض أو ما النافية أو لام الابتداء أو ما التعجبية أو كم الخبرية أو إن وأخواتها نحو: علي هل أكرمته، وسعيد إن لقيته فسلم عليه، وخالد هلّا دعوته، والشر ما فعلته، والخير لأنا أفعله، والخلق الحسن ما أطيبه، وزهير كم أكرمته، وخالد إني أحبه، فالاسم في ذلك كله مبتدأ والجملة بعده خبر وإنما لم يجز نصبه لأن هذه الأدوات لها الصدارة وما بعدها لا يعمل فيما قبلها. 4- ترجيح الرفع: ويترجح الرفع إذا لم يكن هناك ما يوجب نصبه أو يرجحه أو يوجب رفعه نحو الكتاب قرأته لأن عدم التقدير أولى من التقدير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 404 وهناك مسائل تتعلق بالاشتغال يرجع إليها في المطولات وستأتي نكت طريفة منه في هذا الكتاب. [سورة الإسراء (17) : الآيات 16 الى 21] وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) اللغة: (مُتْرَفِيها) : منعميها بمعنى رؤسائها وفي القاموس «الترفه بالضم النعمة والطعام الطيب والشيء الظريف تخصّ به صاحبك، وترف كفرح تنعّم، وأترفته النعمة أطغته أو نعمته كترفته تتريفا والمترّف كمكرم المتروك يصنع ما يشاء ولا يمنع والمتنعم لا يمنع من تنعمه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 405 وتترف تنعم» وفي أساس البلاغة: «أترفته النعمة: أبطرته وأترف فلان وهو مترف وأعوذ بالله من الإتراف والإسراف واستترفوا: تعفرتوا وطغوا ولم أزل معهم في ترفة أي في نعمة» . (مَدْحُوراً) : مطرودا وفي القاموس: «الدحر: الطرد والإبعاد والدفع كالدحور فعلهن كجعل وهو داحر ودحور» . الإعراب: (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) الواو استئنافية مسوقة لبيان الأسباب التي تهلك بها القرى، وتدول الشعوب، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة أردنا مضاف إليها الظرف وان وما في حيزها مصدر مؤول في محل نصب مفعول به لأردنا وقرية مفعول به وجملة أمرنا لا محل لها لأنها جواب إذا ومترفيها مفعول، ففسقوا الفاء عاطفة وفسقوا فعل وفاعل وفيها متعلقان بفسقوا (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) الفاء عاطفة وحق فعل ماض وعليها متعلقان بحق والقول فاعل، فدمرناها فعل وفاعل ومفعول به وتدميرا مفعول مطلق وسيأتي تفصيل لهذه الآية البليغة في باب البلاغة. (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) كم خبرية في محل نصب مفعول أهلكنا ومن القرون في محل نصب تمييز ل «كم» ومن بعد نوح متعلقان بمحذوف حال أو بأهلكنا فمن للابتداء. (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) الباء زائدة في الفاعل وقد تقدم ذلك قريبا وبذنوب عباده متعلقان بخبيرا بصيرا. (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) من شرطية مبتدأ وكان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 406 الشرط وجملة يريد العاجلة خبر كان وعجلنا فعل وفاعل وهو في محل جزم جواب الشرط وله متعلقان بعجلنا وفيها متعلقان بمحذوف حال وما موصول مفعول به وجملة نشاء صلة ولمن الجار والمجرور بدل من له بإعادة العامل وجملة نريد صلة ومفعول نريد محذوف أي لمن نريد تعجيله وفعل الشرط وجوابه خبر من. (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) ثم حرف عطف لتراخي المدة وجعلنا فعل وفاعل وله في محل نصب مفعول جعلنا الثاني وجهنم مفعول جعلنا الأول وجملة يصلاها حال من الضمير في له ومذموما حال من الضمير في يصلاها وكذلك مدحورا. (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ) الواو عاطفة والجملة معطوفة على سابقتها وهي مماثلة لها في الإعراب وسعى لها عطف على أراد وسعيها مفعول مطلق أي حق سعيها ومن سقطات معظم المفسرين كأبي البقاء والكرخي وغيرهما انهم أجازوا إعراب سعيها مفعولا به ونسوا أن سعى فعل لازم، هذا بالاضافة الى أن المصدرية واضحة تماما. والواو حالية وهو مبتدأ ومؤمن خبر والجملة نصب على الحال من الضمير في سعى. (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) الفاء رابطة لجواب من وأولئك اسم إشارة مبتدأ وكان واسمها وخبرها والجملة خبر أولئك وجملة أولئك كان إلخ في محل جزم جواب الشرط. (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) كلّا مفعول به مقدم لنمد والتنوين عوض عن الإضافة أي كل واحد، وفاعل نمد مستتر تقديره نحن وهؤلاء بدل من كلّا وهؤلاء عطف على هؤلاء الأولى ومن عطاء ربك جار ومجرور متعلقان بنمد. (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) الواو عاطفة أو حالية وما نافية وكان واسمها وخبرها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 407 (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) انظر فعل أمر والفاعل مستتر وكيف اسم استفهام في محل نصب على الحال وفضلنا فعل وفاعل وبعضهم مفعول به وعلى بعض جار ومجرور متعلقان بفضلنا. (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) الواو للحال واللام للابتداء والآخرة مبتدأ وأكبر خبر ودرجات تمييز نصب بالكسرة لأنه جمع مؤنث سالم وأكبر عطف على أكبر الأولى وتفضيلا تمييز. البلاغة: في هذه الآية «وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا» فنون شتى: أولها: الالتزام، أو لزوم ما لا يلزم، وقد تقدم البحث عنه مستفيضا وهو التزام حرف أو حرفين فصاعدا قبل الروي على قدر طاقة الشاعر أو الكاتب من غير كلفة وإنما قيدناه بعدم الكلفة لأنه يستحيل صنعة باهتة لا أثر فيها لجمال ويسف عن درجة البلاغة ولا ينتظم في سلكها، فقد التزم في قوله «مترفيها» و «فيها» الفاء قبل ياء الردف ولزمت الياء وسيأتي الكثير منه في القرآن وهو من أرشق الاستعمالات ومما ورد فيه التزام سين قبل ألف الردف قول أبي العلاء صاحب اللزوميات: رويدك قد غررت وأنت حر ... بصاحب حيلة يعظ النساء يحرم فيكم الصهباء صبحا ... ويشربها على عمد مساء يقول لقد غدوت بلا كساء ... وفي لذاتها رهن الكساء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 408 وثانيها: المجاز المرسل في قوله «أمرنا مترفيها» لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا وهذا باطل فبقي أن يكون مجازا وإنما جعل الترف وهو الاتساع في العيش والبلهنية التي لا حدود لها ذريعة الى المعاصي والانجرار وراء الشهوات فكأنهم مأمورون بذلك لا مناص لهم عنه ولا انفكاك لهم منه وليس ثمة أمر ولا آمر وإنما هو المال رائد الشهوة، وبريد الغفلة، يزين للنفوس الموبقات فتسترسل فيها وتتعامى عن رؤية واقعها، وقد يكون واقعها عاليا وفوق المستويات بيد أنه لا يعتم أن يهوي بعد أن غفل عنه حارسوه وكالئوه كما حدث للعرب بعد استبحار مجدهم واتساع سلطانهم فهووا من حالق وأضاعوا ملكا لم يحافظوا عليه مثل الرجال على حد قول أم أبي عبد الله آخر ملوك بني الأحمر في الأندلس: ابك مثل النساء ملكا مضاعا ... لم تحافظ عليه مثل الرجال وثالثها: الحذف: فقد حذف المأمور به ولم يقل بماذا أمرهم إيجازا في القول واعتمادا على بديهة السامع لأن قوله ففسقوا فيها يدل عليه وهو كلام مستقيض. تقول أمرته فقام وأمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام وقراءة ولو أردت تقدير غيره لتكلفت شططا وحذفت ما لا دليل عليه هذا في حين توفر الدلائل على نقيضه كما بيّنا لك. هذا وقد تورط بعضهم فزعم في مجازفة لا حدود لها أن أمرنا معناها كثّرنا وفي مقدمة هؤلاء المتورطين أبو علي القالي في كتابه الممتع «الأمالي» فقد قال: «وقال الله تعالى: «وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها» أي كثرنا ولا أدري كيف ساغ له هذا التفسير لأن أمر من باب فرح بكسر الميم والقراءة أمر بفتحها وهو أيضا لازم ولا يجوز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 409 أن تفسر بمعنى كثر المشددة الثاء إلا إذا ضعفت الميم وقد قرىء بها فكان الأولى به أن يشير إلى ذلك قال أبو البقاء: «أمرنا» يقرأ بالقصر والتخفيف أي أمرناهم بالطاعة وقيل كثرنا نعمهم وهو في معنى القراءة بالمد ويقرأ بالتشديد والقصر أي جعلناهم أمراء وقيل هي بمعنى الممدودة لأنه تارة يعدى بالهمزة وتارة بالتضعيف. وفي قوله «كلّا نمد هؤلاء وهؤلاء» لف ونشر مرتب فهؤلاء الأولى للفريق الأول أي مريد الدنيا وهؤلاء الثانية للفريق الثاني أي مريد الآخرة. الفوائد: تساءل بعضهم عن معنى قوله تعالى: «كيف فضلنا بعضهم على بعض» وكيف يصح التفاوت بين أبناء البشر وهم سواسية والجواب هو أن التفاوت منوط بالفضل ومبلغ ما يؤديه المرء لأبناء جلدته وللمجتمع عامة، روى التاريخ أن قوما من الأشراف فمن دونهم اجتمعوا بباب عمر بن الخطاب فخرج الاذن لبلال وصهيب فشق على أبي سفيان فقال سهيل بن عمرو: إنما أتينا من قبلنا انهم دعوا ودعينا يعني الى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا. وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد الله لهم في الجنة أكثر. [سورة الإسراء (17) : الآيات 22 الى 25] لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 410 الإعراب: (لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا) لا ناهية وتجعل فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت ومع الله ظرف متعلق بمحذوف مفعول تجعل الثاني وإلها مفعول تجعل الأول وآخر صفة، فتقعد: الفاء فاء السببية وتقعد فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية والفاعل مستتر تقديره أنت ومذموما حال ومخذولا حال ثانية وسيأتي ما في تقعد من أقوال. (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان منزلة الوالدين ووجوب معاملتهما من قبل الأبناء معاملة لائقة وقضى ربك فعل وفاعل ومعنى قضى أمر أمرا قاطعا وقيل أوصى و «أن» يحتمل أن تكون مصدرية فلا نافية وتعبدوا منصوب بها والمصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بقضى وقيل مفسرة لأن قضى فيه معنى القول دون حروفه أو مخففة من الثقيلة فلا على الحالين ناهية وتعبدوا مجزوم بها وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل وإلا أداة حصر وإياه مفعول وبالوالدين جار ومجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره وأحسنوا، وإحسانا مفعول مطلق ناصبه الفعل المحذوف، وإنما علقناهما بالفعل المحذوف لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته (إِمَّا يَبْلُغَنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 411 عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) إن شرطية زيدت عليها ما تأكيدا لها ويبلغن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وهو في محل جزم فعل الشرط وعندك ظرف متعلق بمحذوف حال وأحدهما فاعل يبلغن والميم والألف حرفان دالان على التثنية وأو حرف عطف وكلاهما عطف على أحدهما وعلامة رفعه الألف لأنه ملحق بالمثنى ومعنى عندك أي حالة كونهما في كفالتك يتولى منهما ما كانا يتوليان منه إبان الطفولة وفي ذلك منتهى التوصية باستعمال لين الجانب ودماثة الخلق معهما في هذه الحال. (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً) الفاء رابطة للجواب ولا ناهية وتقل فعل مضارع مجزوم بلا ولهما متعلقان بتقل وأف اسم فعل مضارع بمعنى التضجر وفاعله مستتر تقديره أنا والجملة مقول القول وسيأتي تحقيق واسع في هذه الكلمة وفي أسماء الأفعال في باب الفوائد، ولا تنهرهما عطف على لا تقل لهما والنهر الزجر، وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولهما متعلقان بقل وقولا مفعول مطلق وكريما صفة. (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) واخفض لهما عطف على وقل لهما وجناح الذل مفعول به ومن الرحمة متعلقان بأخفض فمن للتعليل أي من أجل الرحمة أو الابتداء أي أن هذا الخفض ناشىء من الرحمة المركوزة في الطبع ولك أن تعلقها بمحذوف حال. (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) وقل عطف على ما تقدم ورب منادى مضاف لياء المتكلم محذوف منه حرف النداء وارحمهما فعل دعاء وكما نعت لمصدر محذوف أي ارحمهما رحمة مثل تربيتهما لي أو رحمة مثل رحمتهما لي فتكون التربية بمعنى الرحمة وربياني فعل ماض والألف ضمير الاثنين فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به وصغيرا حال من الياء. (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) ربكم مبتدأ وأعلم خبر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 412 وبما متعلقان بأعلم وفي نفوسكم صلة ما. (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) الجملة حالية وإن شرطية وتكونوا فعل الشرط والواو اسمها وصالحين خبرها والفاء رابطة للجواب وإن اسمها وجملة كان خبرها وللأوابين أي التوابين متعلقان بغفورا، وغفورا خبر كان. البلاغة: 1- في قوله تعالى «واخفض لهما جناح الذل من الرحمة» استعارة شغلت علماء البيان وقد وعدناك أن تتحدث عن هذه الاستعارة مطولا فلنبحث هذا الموضوع ولنورد ما قاله البيانيون في صددها: فهي استعارة مكنية لأن إثبات الجناح للذل يخيل للسامع أن ثمة جناحا يخفض والمراد ألن لهما جانبك، وتواضع لهما تواضعا يلصقك بالتراب، والجامع بين هذه الاستعارة والحقيقة أن الجناح الحقيقي في أحد جانبي الطائر وان الطائر إذا خفض جناحه وهو الذي به يتقوى وينهض، انحط إلى الأرض وأسف الى الحضيض ولصق بالتراب فالاستعارة مكنية إذ شبهت إلانة الجانب بخفض الجناح بجامع العطف والرقة وهذه أجمل استعارة وأحسنها وكلام العرب جاء عليها. وذكر الصولي في كتابه أخبار أبي تمام: وعابوا عليه- أي على أبي تمام- قوله: لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي فقالوا ما معنى ماء الملام؟ وهم يقولون: كلام كثير الماء وما أكثر ماء شعر الأخطل، قاله يونس بن حبيب ويقولون: ماء الصبابة وماء الهوى يريدون الدمع. قال ذو الرمة: أأن ترسمت من خرقاء منزلة ... ماء الصبابة من عينيك مسجوم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 413 وقال أيضا: أدارا بحزوى هجت للعين عبرة ... فماء الهوى يرفضّ أو يترقرق وقال عبد الصمد- وهو محسن عند من يطعن على أبي تمام: أي ماء لماء وجهك يبقى ... بعد ذل الهوى وذل السؤال فصير لماء الوجه ماء، وقالوا ماء الشباب يجول في وجناته، فما يكون أن استعار أبو تمام من هذا كله حرفا فجاء به في صدر بيته لما قال في آخر بيته: «فانني صب قد استعذبت ماء بكائي» قال في أوله: لا تسقني ماء الملام، وقد تحمل العرب اللفظ على اللفظ فيما لا يستوي معناه قال الله عز وجل: «وجزاء سيئة سيئة مثلها» والسيئة الثانية ليست بسيئة لأنها مجازاة ولكنه لما قال: وجزاء سيئة قال: سيئة فحمل على اللفظ وكذلك «ومكروا ومكر الله» وكذلك: «فبشرهم بعذاب أليم» لما قال بشر هؤلاء بالجنة قال: بشر هؤلاء بالعذاب، والبشارة انما تكون في الخير لا في الشر فحمل اللفظ على اللفظ ويقال: إنما قيل لها البشارة لأنها تبسط الوجه فأما الشر والكراهة فانهما يقبضانه، وقال الأعشى: يزيد بغضّ الطرف دوني كأنما ... زوى بين عينيه عليّ المحاجم وقال الله عز وجل: «واخفض لهما جناح الذل من الرحمة» فهذه أجمل استعارة وأحسنها وكلام العرب جاء عليها فما يكون أن قال أبو تمام: لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 414 أما ابن الأثير فيقول في كتابه «المثل السائر» : «وقد عيب عليه قوله: لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي وقيل: انه جعل للملام ماء وذلك تشبيه بعيد وما بهذا التشبيه عندي من بأس بل هو من التشبيهات المتوسطة التي لا تحمد ولا تذم وهو قريب من وجه، بعيد من وجه، أما سبب قربه فهو ان الملام هو القول الذي يعنف به الملوم لأمر جناه وذاك مختص بالسمع فنقله أبو تمام إلى السقيا التي هي مختصة بالحلق كأنه قال لا تذقني الملام ولو تهيأ له ذلك مع وزن الشعر لكان تنبيها حسنا ولكنه جاء بذكر الماء فحط من درجته شيئا ولما كان السمع يتجرع الماء أولا كتجرع الحلق الماء صار كأنه شبيه به وهو تشبيه معنى بصورة. وأما سبب بعد هذا التشبيه فهو أن الماء مستلذّ والملام مستكره فحصل بينهما مخالفة من هذا الوجه فهذا التشبيه إن بعد من وجه فقد قرب من وجه فيغفر هذا لهذا ولذلك جعلته من التشبيهات المتوسطة التي لا تحمد ولا تذم، وقد روي أن بعض أهل المجانة أرسل إلى أبي تمام قارورة وقال: ابعث في هذه شيئا من ماء الملام فأرسل اليه أبو تمام وقال: إذا بعثت إليّ ريشة من جناح الذل بعثت إليك شيئا من ماء الملام، وما كان أبو تمام ليذهب عليه الفرق بين هذين التشبيهين فانه ليس جعل الجناح للذل كجعله الماء للملام، فإن الجناح للذل مناسب وذاك أن الطائر إذا وهن أو تعب بسط جناحه وخفضه وألقى نفسه على الأرض وللانسان أيضا جناح فإن يديه جناحاه وإذا خضع واستكان طأطأ من رأسه وخفض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 415 من يديه فحسن عند ذلك جعل الجناح للذل وصار تشبيها مناسبا وأما الماء للملام فليس كذلك في مناسبة التشبيه» . هذا ما أورده الصولي وابن الأثير وقد عقب عليهما كثير من نقاد القرن الرابع الهجري ووفقوا منهما بين مؤيد ومعاكس فأخذ الآمدي برأي الصولي في كتابه الموازنة ولكن على أساس آخر من الفهم وعاب على أبي تمام استعماله استعارات شبيهة بماء الملام قال: «فمن مرذول ألفاظه وقبيح استعاراته قوله: يا دهر قوّمّ أخدعيك فقد ... أضججت هذا الأنام من خرقك وقال: سأشكر فرجة الليت الرخي ... ولين أخادع الدهر الأبي وقال: أنزلته الأيام عن ظهرها ... من بعد إثبات رجله في الركاب وقال: كأنني حين جردت الرجاء له ... غضّا صببت به ماء على الزمن ثم قال: «وأشباه هذا مما إذا تتبعته في شعره وجدته فجعل كما ترى مع غثاثة هذه الألفاظ للدهر أخدعا ويدا تقطع من الزند وكأنه يصرع ويحل ويشرق بالكرام ويبتسم وان الأيام تنزلع والزمان أبلق وجعل للممدوح يدا وجعل للأيام ظهرا يركب والزمان كأنه صب عليه ماء» ولننظر الآن في ماء الملام- عند أبي تمام- أهو تعبير طبيعي؟ أهو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 416 تعبير سائغ مستحسن؟ إن إطلاق الماء وإضافته الى البكاء يثب بالذهن أولا الى الصورة المباشرة المعروفة للماء الذي يشرب والماء في البحار والمحيطات والأنهار ثم ماء المطر ومجرد أن تنطلق كلمة بكاء يتضاءل المعنى الأول فجأة وينكمش الى صورة جزئية هي بضع قطرات من الدمع ولكن على أية حال هناك صلة تجعل الصورة محتملة، أما ماء الملام فلا صلة البتة بين الماء والملام وإذا انطلقت كلمة ماء بمعانيها الاصلية والربطية ومعها كلمة الملام ومعانيها الربطية فلا يجمع بينهما صلة أو رابط مشترك من الصور الجزئية لذلك كان التعبير باردا مختلا لا يدل في الذهن على شيء لأنه لا صلة بين الملام والماء، أما ما احتج به الصولي من القرآن فلا يبرر ما اعتمده فإن كلمة السيئة اقترنت بكلمة الجزاء فأثارت معنى آخر مقابلا هو القصاص وقد سماه القرآن سيئة ولكن أصحاب البديع يحاولون الاستشهاد بالشاهد القرآني ليبرروا صناعة أبي تمام ومن نحا نحوه. ووجدت للسكاكي رأيا يستهجن فيه قول أبي تمام قال فيه: «إن الاستعارة التخييلية فيه منفكة عن الاستعارة بالكناية وصاحب الإيضاح يمنع الانفكاك فيه مستندا بأنه يجوز أن يكون قد شبه الملام بظرف شراب مكروه فيكون استعارة بالكناية واضافة الماء تخييلية أو انه تشبيه من قبيل لجين الماء لا استعارة قال: ووجه الشبه ان اللوم يسكن حرارة الغرام كما أن الماء يسكن غليل الأوام، وقال الفاضل الجلبي في حاشية المطول: فيه نظر لأن المناسب للعاشق أن يدعي أن حرارة غرامه لا تسكن بالملام ولا بشيء آخر فكيف يجعل ذلك وجه شبهه» اهـ كلامه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 417 ورأيت في كتاب الكشكول للعاملي رأيا مطولا فيه ننقل خلاصته تتمة للبحث قال: إن للبيت محملا آخر كنت أظن اني لم أسبق اليه حتى رأيته في التبيان وهو أن يكون ماء الملام من قبيل المشاكلة لذكر ماء البكاء ولا تظن أن تأخر ذكر ماء البكاء يمنع المشاكلة فانهم حرصوا في قوله تعالى: «فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين» وان تسميته الزحف على البطن مشيا لمشاكلة ما بعده، وهذا الحمل إنما يتمشى على تقدير عدم صحة الحكاية المنقولة ثم أقول: هذا الحمل أولى مما ذكره صاحب الإيضاح فإن الوجهين اللذين ذكرهما في غاية البعد إذ لا دلالة في البيت على أن الماء مكروه كما قاله المحقق التفتازاني في المطول، والتشبيه لا يتم بدونه، وأما ما ذكره صاحب المثل السائر من أن وجه الشبه ان الملام قول يعنف به الملوم وهو مختص بالسمع فنقله أبو تمام الى ما يختص بالحلق كأنه قال: لا تذقني الملام، ولما كان السمع يتجرع الملام أولا كتجرع الحلق الماء صار كأنه شبيه به فهو وجه في غاية البعد أيضا كما لا يخفى، والعجب منه أن جعله قريبا وغاب عنه عدم الملاءمة بين الماء والملام، هذا وقد أجاب بعضهم عن نظر الفاضل الجلبي في كلام صاحب الإيضاح بأن تشبيه الشاعر الملام بالماء في تسكين نار الغرام إنما هو على وفق معتقد اللوام بأن حرارة غرام العشاق تسكن بورود الملام وليس ذلك على وفق معتقده فلعل معتقده أن نار الغرام تزيد بالملام قال أبو الشيص: أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوّم أو أن تلك النار لا يؤثر فيها الملام أصلا كما قال الآخر: جاءوا يرومون سلواني بلومهم ... عن الحبيب فراحوا مثلما جاءوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 418 فقول الجلبي: لأن المناسب للعاشق الى آخره غير جيد فان صاحب الإيضاح لم يقل إن التشبيه معتقد العاشق وعقب العاملي صاحب الكشكول على ذلك: إن ذكر صاحب الإيضاح الكراهة في الشراب صريح بأنه غير راض بهذا الجواب. 2- صورة مجسدّة لطاعة الوالدين: هذا ولا بد من التنويه بالصورة المجسدة التي رسمتها الآية لطاعة الوالدين وبرهما، ليتدبرها البنون ويكتنهوا سرها الخفي وقد أفصح عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بجلاء حين شكا إليه رجل أباه وانه يأخذ ماله فدعا به فاذا شيخ يتوكأ عصا فسأله فقال انه كان ضعيفا وأنا قوي وفقيرا وأنا غني فكنت لا أمنعه شيئا من مالي واليوم أنا ضعيف وهو قوي وأنا فقير وهو غني ويبخل علي بماله ثم التفت الى ابنه منشدا: غذوتك مولودا وعلتك يافعا ... تعل بما أدني إليك وتنهل إذا ليلة نابتك بالشكو لم أبت ... لأجلك إلا ساهرا أتململ كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني فعيني تهمل فلما بلغت السنّ والغاية التي ... إليها مدى ما كنت فيك أؤمل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 419 جعلت جزائي غلظة وفظاظة ... كأنك أنت المنعم الم تفضل فليتك إذ لم ترع حقّ أبوتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلا بكى ثم قال للولد: أنت ومالك لأبيك. وعن ابن عمر أنه رأى رجلا في الطواف يحمل أمه ويقول: إني لها مطية لا تذعر ... إذا الركاب نفرت لا تنفر ما حملت وأرضعتني أكثر ... الله ربي ذو الجلال أكبر تظنني جازيتها يا ابن عمر؟ قال: لا ولو زفرة واحدة. الفوائد: 1- القول في «أف» : اختلف النحاة في أسماء الأفعال هل هي ألفاظ نائبة عن الأفعال أو لمعانيها من الأحداث والأزمنة أو أسماء للمصادر النائبة عن الافعال أو هي أفعال والصحيح أنها أسماء أفعال وانها لا موضع لها من الاعراب وقد قدمنا أقسامها ونقول إن «أف» اسم فعل مضارع ومعناه أتضجر وفيه أربعون لغة وحاصلها أن الهمزة إما أن تكون مضمومة أو مكسورة أو مفتوحة فإن كانت مضمومة فاثنتان وعشرون لغة وحاصل ضبطها انها إما مجردة عن اللواحق أو ملحقة بزائد والمجردة إما أن يكون آخرها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 420 ساكنا أو متحركا والمتحركة إما أن تكون مشددة أو مخففة وكل منهما مثلث الآخر مع التنوين وعدمه فهذه اثنتا عشرة والساكنة إما مشددة أو مخففة فهذه أربع عشرة واللواحق لها من الزوائد إما هاء السكت أو حرف المد فإن كان هاء السكت فالفاء مثلثة مشددة فهذه سبع عشرة وإن كان حرف مد فهو إما واو أو ياء أو ألف والفاء فيهن مشددة والألف إما مفخمة أو بالإمالة المحضة أو بين بين فهذه خمس أخرى مع السبع عشرة وإن كانت مكسورة فإحدى عشرة مثلثة الفاء مخففة مع التنوين وعدمه فهذه ست، وفتح الفاء وكسرها بالتشديد فيهما مع التنوين وعدمه، فهذه أربع لغات والحادية عشرة أفي بالإمالة وإن كانت مفتوحة فالفاء مشددة مع الفتح والكسر والتنوين وعدمه والخامسة أف بالسكون والسادسة أفي بالامالة والسابعة أفاه بهاء السكت فهذه السبع مكملة للأربعين وقد قرىء من هذه اللغات بسبع: ثلاث في المتواتر وأربع في الشواذ وقراءة حفص وهي قراءتنا أف بالكسر والتنوين مع التشديد. 2- لمحة في العقوق: ومما جاء في العقوق ما يروى عن جرير فقد كان أعق الناس بأبيه وكان بلال ابنه كذلك فراجع جرير بلالا في الكلام فقال له: الكاذب بيني وبينك .... أمه، فأقبلت أمه عليه وقالت: يا عدو الله تقول هذا لأبيك فقال جرير: دعيه فكأنه سمعها مني وأنا أقولها لأبي. وممن شهر عنه العقوق بوالديه الحطيئة الشاعر المخضرم قال يهجو أباه: فنعم الشيخ أنت لدى المخازي ... وبئس الشيخ أنت لدى الفعال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 421 جمعت اللؤم لا حيّاك ربي ... وأبواب السفاهة والضلال وقال يهجو أمه: لحاك الله ثم لحاك أما ... ولقاك العقوق من البنينا أغربالا إذا استودعت سرا ... وكانونا على المتحدثينا وممن هجا أباه علي بن بسام، قال في أبيه: هيك عمرت عمر عشرين نسرا ... أترى أنني أموت وتبقى؟ فلئن عشت بعد موتك يوما ... لأشقّنّ جيب مالك شقّا وقال فيه أيضا: بنى أبو جعفر دارا فشيدها ... ومثله لخيار الدور بنّاء فالجوع داخلها والذل خارجها ... وفي جوانبها بؤس وضراء ما ينفع الدار من تشييد حائطها ... وليس داخلها خبز ولا ماء ولقد كذب، كان أبو جعفر محمد بن منصور بن بسام في نهاية السؤدد والمروءة والنظافة، كان رجلا مترفا نبيل المركب مليح الملبس له همة في تشييد البنيان وما رثاه به ابن الرومي يدل على كذب ابنه، قال ابن الرومي فيه: أودى محمد بن نصر بعد ما ... ضربت به في جوده الأمثال ملك تنافست العلا في عمره ... وتنافست في موته الآجال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 422 من لم يعاين سير نعش محمد ... لم يدر كيف تسير الأ جيال وذخرته للدهر أعلم أنه ... كالحصن فيه لمن يئول مآل وتستعت نفسي بروح رجائه ... زمنا طويلا والتمتع مال ورأيته كالشمس إن هي لم تنل ... فالرفق منها والضياء ينال بالله أقسم ان عمرك ما انقضى ... حتى انقضى الإحسان والإجمال [سورة الإسراء (17) : الآيات 26 الى 31] وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) اللغة: (فَتَقْعُدَ) : فتصير وهو من المجاز قال في الأساس: «ومن المجاز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 423 فعد عن الأمر تركه وقعد له اهتم به وقعد يشتمني أقبل، وأرهف شفرته حتى قعدت كأنها حربة: صارت، وقال الدّيان الحارثي: لأصبحن ظالما حربا رباعية ... فاقعد لها ودعن عنك الأظانينا وتقاعد عن الأمر وتقعّد وما قعد به عن نيل المساعي وما تقعده وما أقعده إلا لؤم عنصره وقال: بنو المجد لم تقعد بهم أمهاتهم ... وآباؤهم آباء صدق فأنجبوا (مَحْسُوراً) : منقطعا لا شيء عندك من حسره السفر إذا بلغ منه وفي المختار: والحسرة شدة التلهف على الشيء الفائت تقول حسر على الشيء من باب طرب وحسرة أيضا فهو حسير وحسّره غيره تحسيرا. (وَيَقْدِرُ) : يقال قدر عليه رزقه وقدّر قتر وضيق. (إِمْلاقٍ) : فقر وفاقة يقال أملق الرجل: أنفق ماله حتى افتقر ورجل مملق وقال أعرابي: قاتل الله النساء كم يتملقن العلل لكأنها تخرج من تحت أقدامهن أي يستخرجنها. (خِطْأً) : مصدر خطىء من باب علم. الإعراب: (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) وآت ذا القربى حقه: آت فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت وذا القربى مفعول به وحقه مفعول به ثان والمسكين وابن السبيل عطف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 424 على ذا القربى ولا ناهية وتبذر مضارع مجزوم بلا وتبذيرا مفعول مطلق. (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) إن واسمها وجملة كانوا خبرها وإخوان الشياطين خبر كان أي أمثالهم والعرب تقول لكل ملازم سنة قوم هو أخوهم والملازم للشيء هو أخ له فيقولون: فلان أخو الجود وأخو الكرم وأخو الشعر. (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) الواو عاطفة أو حالية وكان واسمها ولربه متعلقان بكفورا، وكفورا خبر كان ولا بد من تقدير مضاف أي لنعم ربه وآلائه. (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً) وإما: إن شرطية وما زائدة وتعرضن فعل الشرط وهو في محل جزم والفاعل مستتر تقديره أنت وعنهم متعلقان بتعرضن وابتغاء رحمة مفعول من أجله ولك في ناصبه وجهان فإما أن تجعله فعل الشرط من وضع المسبب مكان السبب أي وان أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح لك فسمى الرزق رحمة فردهم ردا جميلا وإما أن تجعله جواب الشرط وقد تقدم عليه أي فقل لهم قولا كريما لينا وعدهم وعدا جميلا تطييبا لقلوبهم ابتغاء رحمة من ربك. ومن ربك صفة لرحمة وجملة ترجوها حال من رحمة أو صفة ثانية، فقل الفاء رابطة وقل فعل أمر ولهم متعلقان بقل وقولا مفعول مطلق وميسورا صفة. (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتجعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت ويدك مفعول تجعل الأول ومغلولة مفعول تجعل الثاني والى عنقك جار ومجرور متعلقان بمغلولة. (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) ولا تبسطها عطف على لا تجعل وكل البسط مفعول مطلق فتقعد الفاء فاء السببية وتقعد مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء المسبوقة بالنهي وستأتي الشروط التي يجب أن تسبق هذه الفاء في باب الفوائد وفاعل تقعد مستتر تقديره أنت وملوما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 425 محسورا حالين أو تجعلهما خبرين لتقعد إذا ضمنتها معنى تصير. (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) ان واسمها وجملة يبسط خبرها والرزق مفعول به ولمن متعلقان بيبسط وجملة يشاء صلة ويقدر عطف على يبسط وان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وبعباده متعلقان بخبيرا بصيرا وهما خبر ان لكان. (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) لا ناهية وتقتلوا مجزوم بها وأولادكم مفعول به وخشية مفعول لأجله وإملاق مضاف إليه. (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) نحن مبتدأ وجملة نرزقهم خبر وإياكم عطف على الهاء وإن واسمها وجملة كان خبر إن وخطئا خبر كان واسمها مستتر تقديره هو وكبيرا صفة لخطئا. البلاغة: اشتملت هذه الآيات على طائفة من الحكم والأمثال وعلى أنواع من البلاغة نوجزها فيما يلي: 1- الاستعارة التمثيلية: في قوله تعالى «ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك ولا تبسطها كل البسط» استعارة تمثيلية لمنع الشحيح وإعطاء المسرف فقد شبه حال البخيل في امتناعه من الانفاق بحال من يده مغلولة إلى عنقه فهو لا يقدر على التصرف في شيء وشبه حال المسرف المبذر المتلاف بحال من يبسط يده كل البسط فلا يبقي على شيء في كفه ولا يدخر شيئا ينفعه في حال الحاجة ليخلص الى نتيجة مجدية وهي التوسط بين الأمرين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 426 والاقتصاد الذي هو وسط بين الإسراف والتقتير، وقد طابق في الاستعارة بين بسط اليد وقبضها من حيث المعنى لأن جعل اليد مغلولة هو قبضها وغلّها أبلغ في القبض وقد رمق أبو تمام سماء هذا المعنى فقال في المعتصم: تعود بسط الكف حتى لو أنه ... ثناها لقبض لم تطعه أنامله 2- التغاير: في قوله تعالى «ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم» وقد تقدم بحثه في سورة الانعام وفيه سر خفي بين ما جاء في سورة الاسراء وما جاء في سورة الانعام وهو قوله «ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم» فجدد به عهدا ونضيف اليه الآن ان قتل الأولاد إن كان مبعثه خوف الفقر فهو من سوء الظن بالله واليأس من رحمته وإن كان مبعثه الغيرة على البنات فهو تدبير أرعن لا ينجم عنه إلا هدم المجتمع وتعطيل معالم الحياة. الفوائد: شروط النصب بأن بعد فاء السببية وواو المعية: لا تضمر أن بعد فاء السببية وواو المعية أيضا إلا بشرطين أساسيين وهما أن يسبقهما نفي أو طلب محضين ولا فرق في النفي بين أن يكون حرفا أو فعلا أو اسما أو تقليلا مرادا به النفي ومثال التقليل: قلما تأتينا فتحدثنا وأما الطلب فيشمل سبعة أمور وهي الأمر والنهي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 427 والدعاء والعرض والتحضيض والاستفهام والتمني فهذه سبعة مع النفي تصير ثمانية وزاد بعضهم الترجي وقد جمع هذه التسعة بقوله: مروانه وادع وسل عرض لحضّهم ... تمن وارج كذاك النفي قد كملا واحترزنا بقولنا «نفي أو طلب محضين» من النفي التالي تقريرا بالهمزة لأن التقرير اثبات ومن النفي المتلو بالنفي لأن نفي النفي اثبات ومن النفي المنتقض بإلا ومما يجب مراعاته قول جميل بن معمر العذري: ألم تسأل الربع القواء فينطق ... وهل يخبرنك اليوم بيداء سملق فينطق مرفوع وهو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف أي فهو ينطق والفاء استئنافية وليست للسببية كما أنها ليست للعطف إذ العطف يقتضي الجزم، ورجح ابن هشام في المغني أن تكون الفاء للعطف وان المعتمد بالعطف الجملة لا الفعل وحده وانما يقدر النحويون كلمة هو ليبينوا أن الفعل ليس المعتمد بالعطف قال «ومثله فإنما يقول له كن فيكون» أي فهو يكون حينئذ وقوله: الشعر صعب وطويل سلمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه زلت به الى الحضيض قدمه ... يريد أن يعربه فيعجمه أي فهو يعجمه» . ونعود الى بيت جميل فنقول: أورده سيبويه في كتابه وقال ما نصه: «لم يجعل الأول سبب الآخر ولكنه جعله ينطق على كل حال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 428 كأنه قال وهو مما ينطق كما يقال ائتني وأحدثك فجعل نفسه ممن يحدثه على كل حال وزعم يونس أنه سمع هذا البيت وانما كتبت ذلك لئلا يقول انسان فلعل الشاعر قال: إلا اهـ» وقال ابن النحاس: «تقرير معناه انك سألته فيقبح النصب لأن المعنى يكون انك ان تسأله ينطق» وقال الأعلم: الشاهد فيه رفع ينطق على الاستئناف والقطع على معنى فهو ينطق وإيجاب ذلك ولو أمكنه النصب على الجواب لكان أحسن. وقال الفراء: أي قد سألته فنطق ولو جعلته استفهاما وجعلت الفاء شرطا لنصبت كما قال آخر: ألم تسأل فتخبرك الديارا ... عن الحي المضلّل حيث سارا والجزم في هذا البيت جائز كما قال: فقلت له صوب ولا تجهدنه ... فيدرك من أخرى القطاة فتزلق فجعل الجواب بالفاء كالمنسوق على ما قبله. هذا ولأهمية هذا البيت وعناية العلماء به نقول انه مطلع قصيدة لجميل بن معمر العذري صاحب بثينة المشهور وبعده وهو من جيد الشعر: بمختلف الأرواح بين سويقة ... وأحدب كادت بعد عهدك تخلق أضرت بها النكباء كل عشية ... ونفح الصبا والوابل المتعبق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 429 وقفت بها حتى تجلت عمايتي ... ومل الوقوف الأرحبيّ الم نوّق وقال صديقي: إن ذا لصبابة ... ألا تزجر القلب اللجوج في لحق؟ تعزّ وإن كانت عليك كريمة ... لعلك من أسباب بثنة تعتق فقلت له: إن البعاد يشوقني ... وبعض بعاد البين والنأي أشوق والربع: المنزل، والقواء: القفر وجعله ناطقا للاعتبار بدروسه وتغيره ثم حقق وأخبر أنه لا يجيب ولا يخبر سائله لعدم وجود القاطنين به، البيداء القفر، والسملق: الأرض التي لا شيء فيها. ومما اختلف فيه وكان موضع الدقة قول عروة العذري صاحب عفراء: وما هو إلا أن أراها فجاءة ... فأبهت حتى ما أكاد أجيب قال سيبويه: «وسألت الخليل عن قول الشاعر: وما هو إلا أن أراها إلخ فقال: أنت في «فأبهت» بالخيار إن شئت حملتها على أن وإن شئت لم تحملها عليها فرفعت كأنك قلت ما هو إلا الرؤي فابهت» ومعنى ما أراده سيبويه أن النصب بالعطف على أن المراد المصدر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 430 والتقدير فما هو إلا الرؤية فأبهت والرفع على القطع والاستئناف والمعنى فاذا أنا مبهوت. وإنما أطلنا في هذا لأنه من الدقة بمكان فاعرفه وقس عليه. [سورة الإسراء (17) : الآيات 32 الى 39] وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 431 اللغة: (الزِّنى) : يكتب بالياء لأنه مصدر زنى يزني ويكتب بالألف على أنه مقصور من الزناء بالمد، ويقولون: هو زان بين الزنى والزناء بالمد والقصر قال الفرزدق: أبا خالد من يزن يعلم زناؤه ... ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكّرا وقال الفراء: المقصور من زنى والممدود من زانى يقال زاناها مزاناة وزناء وخرجت فلانة تزاني وتباغي وقد زّني بها وهو ولد زنية وانه لزنية بالفتح والكسر. (القسطاس) هو رومي عرّب كما تقدم وقد ذكرنا من قبل أن ذلك لا يقدح في عربية القرآن لأن العجمي إذا استعملته العرب وأجرته مجرى كلامهم في الاعراب والتعريف والتنكير ونحوها صار عربيا وسيأتي المزيد من هذا البحث المفيد، والقسطاس بالضم والكسر وهو القرسطون أي القبان وقيل كل ميزان صغر أو كبر. (وَلا تَقْفُ) ولا تتبع يقال فقا أثره وقافه قيل هو مأخوذ من القفا كأنه يقفو الأمور يتبعها ويتعرفها وقيل القفو شبيه بالعضيهة ومنه الحديث: «من قفا مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتي المخرج» وأنشدوا لبعضهم: ومثل الدمى شم العرانين ساكن ... بهن الحياء لا يشعن التقافيا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 432 يصف نساء بأنهن جميلات مثل الدمى ويشبههن بالبيوت ويشبه الحياء بقوم يسكنونها على طريق الاستعارة المكنية والسكنى تخييل لذلك ويقول انهن لا يشعن أي لا يظهرن التقافي أي المتابعة بالقذف من قفوته إذا اتبعته بالغيبة. وقال الكميت: ولا أرمي البريء بغير ذنب ... ولا أقفو الحواصن إن قفينا يقول لا أتهم البريء بشيء زور بل بذنب محقق ولا أتبع العفائف وأتكلم فيهن بفحش ما دمن عفائف إن قفاهنّ الناس فتكلموا فيهن فكيف إذا لم يتكلم فيهنّ أحد. الإعراب: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا) الواو عاطفة ولا ناهية وتقربوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والزنا مفعول به وجملة إنه تعليلية لا محل لها وان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وفاحشة خبرها وساء فعل ماض للذم والفاعل مستتر وسبيلا تمييز والمخصوص بالذم محذوف أي هو. (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) ولا تقتلوا عطف على ما تقدم والنفس مفعول به والتي صفة وجملة حرم الله صلة وإلا أداة حصر وبالحق متعلقان بتقتلوا والباء للسببية أو بمحذوف حال من فاعل تقتلوا فهي للملابسة أي ملتبسين بالحق (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ وقتل فعل ماض مبني للمجهول في محل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 433 جزم فعل الشرط ونائب الفاعل مستتر تقديره هو ومظلوما حال، فقد الفاء رابطة وقد حرف تحقيق وجعلنا فعل وفاعل ولوليه مفعول جعلنا الثاني وسلطانا مفعول جعلنا الأول أي حجة يثب بها عليه. (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) الفاء عاطفة ولا ناهية ويسرف مضارع مجزوم بلا وفاعله مستتر يعود على الولي أي فلا يقتل غير القاتل ولا اثنين والقاتل واحد كديدن الجاهلية على حد قول مهلهل ابن ربيعة: كل قتيل في كليب غره ... حتى ينال القتل آل مرة وفي القتل متعلقان بيسرف وجملة إنه تعليلية وان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر ومنصورا خبرها. (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ولا تقربوا عطف أيضا ومال اليتيم مفعول به وإلا أداة حصر وبالتي استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تقربوه بحال من الأحوال إلا بالخصلة أو الطريقة التي هي أحسن وهي حفظه وصيانته واستغلاله لمصلحة اليتيم وهي مبتدأ وأحسن خبر والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول. (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) حتى حرف غاية وجر ويبلغ منصوب بأن مضمرة بعد حتى والمراد بالأشد بلوغه مرتبة يحسن فيها التصرف وقد تقدم معنى الأشد وانه مفرد بمعنى القوة أو جمع لا واحد له من لفظه. وقيل جمع شدة أو شد. وفي كتاب معاني القرآن للفراء ان الأربعين أشبه بالصواب. (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا) أوفوا فعل أمر والواو فاعل وبالعهد متعلقان بأوفوا وان واسمها وجملة كان خبرها ومسئولا خبر كان ومعنى مسئولا مطلوبا كأنه يطلب من المعاهد أن يفي به وحذف الجار والمجرور تخفيفا أي عنه وقد ذكر في بقية الآي كما سيأتي ويجوز وجه آخر سيأتي في باب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 434 البلاغة. (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) وأوفوا فعل أمر والواو فاعل والكيل مفعول أوفوا وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة كلتم مضافة إلى الظرف وجوابه محذوف دل عليه قوله أوفوا الكيل. وزنوا بالقسطاس المستقيم عطف على أوفوا بالكيل. (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) ذلك مبتدأ وخير خبر وأحسن عطف على خير وتأويلا تمييز أي أحسن عاقبة فالتأويل تفصيل من آل إذا رجع وهو ما يئول اليه في الآخرة. (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) لا ناهية وتقف مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف حرف العلة وهو الواو وفاعله مستتر تقديره أنت وما مفعول به وجملة ليس صلة ولك خبر ليس المقدم وبه متعلقان بمحذوف حال ولا يجوز تعلقها بعلم لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه وقال بعضهم متعلقان بما تعلق به لك وهو الاستقرار وفيه بعد، ومعنى الآية النهي عن أن يقول الإنسان مالا يعلم أو يعمل بما لا علم له به وقد جعلها جماعة من المفسرين خاصة بأمور إلا أن الشيوع أولى، وعلم اسم ليس المؤخر. (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا) ان واسمها والبصر والفؤاد عطف على السمع وكل مبتدأ وأولئك مضاف وجملة كان خبر وعنه متعلقان بمسئولا، ومسئولا خبر كان وسيأتي مزيد من التفصيل حول هذه الآية في بابي البلاغة والفوائد. (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) لا ناهية وتمش مجزوم بها وفاعله مستتر تقديره أنت وفي الأرض متعلقان بتمش ومرحا حال على تقدير مضاف أي ذا مرح أي ولا تمش في الأرض حال كونك ذا مرح أي مارحا ملتبسا بالكبر والخيلاء وقد أحسن الأخفش إذ فضل المصدر على اسم الفاعل كأنه نفس المرح ويجوز أن يعرب مفعولا لأجله كما قال أبو البقاء. (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا) جملة تعليلية لا محل لها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 435 كأنها تعليل للنهي أي لن تجعل فيها صدوعا وخروقا بدوسك لها وإن واسمها وجملة لن تخرق الأرض خبرها ولن تبلغ الجبال عطف على لن تخرق وطولا تمييز محول عن الفاعل أي ولن يبلغ طولك الجبال وقيل مصدر في موقع الحال أو مفعول له، وسيأتي مزيد من البحث في باب البلاغة. (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) كل مبتدأ وذلك مضاف اليه والاشارة الى ما تقدم من الخصال الخمس والعشرين الآنفة من قوله تعالى لا تجعل مع الله إلها آخر وسيأتي تفصيل عدها في باب الفوائد وكان فعل ماض ناقص وسيئه اسمها وعند ربك ظرف متعلق بمكروها، ومكروها خبر كان. (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) ذلك مبتدأ أي ما تقدم من خصال ومما خبر وجملة أوحى صلة وإليك متعلقان بأوحى وربك فاعل ومن الحكمة حال من عائد الموصول المحذوف أي من الذي أوحاه إليك حال كونه من الحكمة التي هي معرفة الحق لذاته والخير للعمل به أو حال من نفس الموصول وقد استهلت هذه الخصال وختمت بالنهي عن الشرك. (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) ولا تجعل عطف على ما تقدم ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني لتجعل وإلها هو المفعول الأول وآخر صفة فتلقى الفاء فاء السببية ونائب الفاعل مستتر تقديره أنت وفي جهنم متعلقان بتلقى وملوما ومدحورا حالان. البلاغة: انطوت هذه الآية على فنون كثيرة من البلاغة نثبتها فيما يلي: 1- الاطناب: في قوله تعالى: «ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 436 سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا» فإن معنى هذه الآية جاء موجزا في قوله تعالى «ولكم في القصاص حياة» لكن الأول إطناب والثاني إيجاز وكلاهما موصوف بالمساواة وقد تحدثنا عن الإيجاز فلنتحدث الآن عن الاطناب والمساواة فالاطناب مأخوذ في الأصل من أطنب في الشيء إذا بالغ فيه يقال أطنبت الريح إذا اشتدت في هبوبها وأطنب في السير إذا اشتد فيه وفي اصطلاح البيانيين هو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة فإذا لم تكن في الزيادة فائدة سمي تطويلا إن كانت الزيادة غير متعينة وحشوا إن كانت متعينة فالتطويل كقول عنترة بن شداد: حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم والحشو كقول زهير بن أبي سلمى: وأعلم علم اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم والإطناب يكون بأمور عدة نوجزها فيما يلي: آ- التأكيد والتقرير وهو يكون حقيقة ومجازا فالحقيقة كقولهم رأيته بعيني وقبضته بيدي ووطئته بقدمي وذقته بفمي وكل هذا يظن الظان أنه لا حاجة إليه فالرؤية لا تكون إلا بالعين والقبض لا يكون إلا باليد والوطء لا يكون إلا بالقدم والذوق لا يكون إلا بالفم وليس الأمر كما توهم بل يطرد في كل ما يعزّ مناله ويعظم الوصول إليه ومن أمثلته البديعة في الشعر قول البحتري: تأمل من خلال السجف وانظر ... بعينك ما شربت ومن سقاني تجد شمس الضحى تدنو بشمس ... إليّ من الرحيق الخسرواني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 437 ولما كان الحضور في هذا المجلس مما يعز وجوده ومناله وكان الساقي بهذه المثابة من الحسن قال انظر بعينك. وعلى هذا ورد الكثير منه في القرآن الكريم فقال تعالى: «ذلك قولكم بأفواهكم» والمجاز كقوله تعالى: «فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور» ففائدة ذكر الصدور هنا انه قد تعورف وعلم أن العمى على الحقيقة مكانه البصر وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها واستعماله في القلب تشبيه وتمثيل فلما أريد إثبات ما هو خلاف ما تعورف وعلم من نسبة العمى الى القلوب احتاج الأمر إلى زيادة تصوير وتعريف ليقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الصدور. ب- ذكر الخاص بعد العام: كقوله تعالى «تنزل الملائكة والروح فيها» فقد خص الله سبحانه الروح بالذكر وهو جبريل مع انه داخل في عموم الملائكة تكريما له وتعظيما لشأنه وكأنه من جنس آخر ففائدة الزيادة هنا التنويه الخاص. ج- ذكر العام بعد الخاص: كقوله تعالى: «ربي اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات» فقد ذكر الله سبحانه المؤمنين والمؤمنات وهما لفظان عامان يدخل في عمومهما من ذكر قبل ذلك والغرض من هذه الزيادة إفادة الشمول مع العناية بالخاص ذكره مرة وحده ومرة مندرجا تحت العام. د- الإيضاح بعد الإبهام: كقوله تعالى: «وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين» فقوله ذلك الأمر إبهام وقوله أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين إيضاح للإبهام الذي تضمنه لفظ الأمر لزيادة تقرير المعنى في ذهن السامع مرة على طريق الإجمال والإبهام، ومرة على طريق التفصيل والإيضاح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 438 هـ- التكرار لتقرير المعنى: وهذا موضوع جم الشعاب متعدد المسالك نحتاج إلى مجلدات لإحصائه ولكننا نذكر ما هو بمثابة الدليل والرائد لغيره كقول عنترة بن شداد في بعض روايات معلقته: يدعون عنتر والسيوف كأنها ... لمع البوارق في سحاب مظلم يدعون عنتر والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم فالتكرار في بيتي عنترة تقرير المعنى في نفس السامع وترسيخه في ذهنه وهو هنا لداعي الفخر ويطرد في الخطابة وفي مواطن الفخر والمدح والإرشاد والانذار وقد يكون للتحسر كقول الحسين بن مطير يرثي معن بن زائدة: فيا قبر معن أنت أول حفرة ... من الأرض خطّت للسماحة موضعا ويا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مرتعا ومنها طول الفصل كقول الشاعر: لقد علم الحيّ اليمانون أنني ... إذا قلت أما بعد اني خطيبها والاعتراض: وهو أن يؤتى في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين في المعنى بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب لغرض يقصد إليه البليغ وقد تقدم ذكره ومنه قول النابغة الجعدي: ألا زعمت بنو سعد بأني- ألا كذبوا- كبير السن فان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 439 فقد جاءت جملة «ألا كذبوا» معترضة بين اسم ان وخبرها للاسراع الى التنبيه على كذب من رماه بالكبر. ز- التذييل: وهو تعقيب الجمل بجملة أخرى تشتمل على معناها توكيدا لها كقول الحطيئة: تزور فتى يعطي على الحمد ماله ... ومن يعط أثمان المحامد يحمد فإن المعنى تم في الشطر الأول ثم ذيل بالشطر الثاني للتوكيد. ح- الاحتراس: وقد تقدم بحثه ومنه قول ابن المعتز: صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل فلو أسقطنا كلمة «ظالمين» لتوهم السامع أن فرس ابن المعتز كانت بليدة تستحق الضرب وهذا خلاف المقصود. هذا وستأتي أمثلة من الاطناب في مواضعها من هذا الكتاب. أما المساواة فهي أن تكون المعاني بقدر الألفاظ والألفاظ بقدر المعاني لا يزيد بعضها على بعض ولا ينقص عنه وقد تقدم التمثيل لها بقوله تعالى: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان» إلخ ومن أمثلتها في الشعر قول النابغة الذبياني: فانك كالليل الذي هو مدركي ... وان خلت أن المنتأى عنك واسع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 440 وقول طرفة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود والقرآن حافل بأمثلة المساواة وستأتي في مواضعها إن شاء الله. 2- الاستعارة: في قوله تعالى: «إن العهد كان مسئولا» وقد قدمنا انه جار على الحقيقة بحذف الجار والمجرور ويجوز أن يكون الكلام جاريا على طريق الاستعارة المكنية بأن يشبه العهد بمن نكث عهده ونسبته السؤال إليه تخييل. 3- التهكم: وقد سبق ذكره لأن مشية المرح مشتملة على شدة الوطء والتباهي على الأرض بمشيه عليها والتطاول على الآخر ولو كان المتكبر خفيف الوطأة قميء النظرة، شخت الخلقة، على حد قول المتنبي: أفي كل يوم تحت ضبني شويعر ... ضعيف يقاويني قصير يطاول الفوائد: في هذه الآيات الجامعة فوائد كثيرة تتناول المهم منها جريا على أسلوبنا في هذا الكتاب فمنها تعليق الجار والمجرور في قوله تعالى: «كل أولئك كان عنه مسئولا» فقد علقناه في باب الإعراب بمسئولا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 441 وجعلنا نائب الفاعل ضميرا يعود على كل أي كان كل واحد منها مسئولا عن نفسه يعني عما فعل به صاحبه وقد أسند الزمخشري مسئولا الى الجار والمجرور وجعله بمثابة نائب الفاعل وهذا سهو من الزمخشري يجل عنه لأن الجار والمجرور يقام مقام الفاعل أو نائبه إذا تقدم الفعل أو ما يقوم مقامه وأما إذا تأخر فلا يصح ذلك لأن الاسم إذا تقدم على الفعل صار مبتدأ وحرف الجر إذا كان لازما لا يكون مبتدأ ف «عنه» ليس هو النائب عن الفاعل خلافا لصاحب الكشاف ولا ضمير المصدر كما قال بعضهم وإنما النائب في هذه الآية ضمير راجع إلى ما رجع اليه اسم كان وهو المكلف المدلول عليه بالمعنى والتقدير مسئولا هو أي المكلف وإنما لم يقدر ضمير كان راجعا لكل لئلا يخلو مسئولا عن ضمير فيكون مسندا الى عنه وذلك لا يجوز. وعبارة ابن هشام «وقول بعضهم في قوله تعالى: «إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا» إن عنه مرفوع المحل بمسئولا والصواب ان اسم كان ضمير المكلف وإن لم يجد له ذكر وان المرفوع بمسئولا مستقر فيه راجع اليه أيضا وان عنه في موضع نصب» . أي على انه مفعول ثان لمسئولا لأنه يعتدى لمفعولين ثانيهما بعن. الخصال الخمس والعشرون: وعدناك بإحصاء الخصال الخمس والعشرين التي وردت الاشارة إليها بقوله تعالى: «كل ذلك» وهذا احصاؤها بالترتيب: 1- لا تجعل مع الله إلها آخر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 442 2 و3- قوله تعالى وقضى ربك الى آخر الآية لاشتماله على تكليفين وهما عبادة الله والنهي عن عبادة غيره. 4- وبالوالدين إحسانا. 5- فلا تقل لهما أف. 6- ولا تنهرهما. 7- وقل لهما قولا كريما. 8- واخفض لهما جناح الذل. 9- وقل رب ارحمهما. 10- وآت ذا القربى حقه. 11- والمسكين. 12- وابن السبيل. 13- ولا تبذر تبذيرا. 14- فقل لهم قولا ميسورا. 15- ولا تجعل يدك مغلولة. 16- ولا تبسطها كل البسط. 17- ولا تقتلوا أولادكم. 18- ولا تقربوا الزنا. 19- ولا تقتلوا النفس. 20- فلا يسرف في القتل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 443 21- وأوفوا بالعهد. 22- وأوفوا الكيل. 23- وزنوا بالقسطاس. 24- ولا تقف ما ليس لك به علم. 25- ولا تمش في الأرض مرحا. الاشارة بأولئك: الاشارة في قوله تعالى «كل أولئك كان عنه مسئولا» الى السمع والبصر والفؤاد وقد أشير إليها بأولئك وهي في الأكثر لمن يعقل لأنه جمع ذا، وذا لمن يعقل ولما لا يعقل وأولاء ممدود عند الحجازيين مقصور عند أهل نجد وتميم والأكثر مجيئه للعقلاء ويقل مجيئه لغير العقلاء كقول جرير بن عطية: ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام وهو من قصيدة مستجادة له مطلعها: سرت الهموم فبتن غير نيام ... وأخو الهموم يروم كل مرام وفيها يقول بعد البيت المتقدم: وإذا وقفت على المنازل باللوى ... فاضت دموعي غير ذات نظام طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 444 تجري السواك على أغر كأنه ... برد تحدّر من متون غمام لو كان عهدك كالذي حدثتنا ... لوصلت ذاك فكان غير رمام إني أواصل من أردت وصاله ... بحبال لا صلف ولا لوام ومنها في هجاء الفرزدق: خلق الفرزدق سوءة في مالك ... ولخلف ضبة كان شر غلام مهلا فرزدق إن قومك فيهم ... خور القلوب وخفّة الأحلام الظاعنون على العمي بجميعهم ... والنّازلون بشرّ دار مقام واللوى بكسر اللام وفتح الواو مقصورا في الأصل منقطع الرمل وقد ورد في مطلع معلقة امرئ القيس وهو: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللّوى بين الدخول فحومل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 445 وهو أيضا موضع بعينه قال ياقوت: «وقد أكثرت الشعراء من ذكره وخلطت بين ذلك اللوى والرمل فعز الفصل بينهما وهو واد من أودية بني سليم» . [سورة الإسراء (17) : الآيات 40 الى 44] أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) اللغة: (أَفَأَصْفاكُمْ) : أخلصكم وخصكم والتصفية في الأصل معناها التخليص ولكنه هنا ضمن معنى خصكم لأجل تعلق البنين به وفي الأساس: «ومن المجاز أصفيته المودة وأصفيته بالبر آثرته واختصصته «أفأصفاكم ربكم بالبنين» وأصفى عياله بشيء يسير: أرضاهم به، وصادف الصياد خفقا فأصفى أولاده بالغبيراء قال الطرماح: أو يصادف خفقا يصفهم ... بعتيق الخشل دون الطعام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 446 وهو صفيي من بين إخواني وهم أصفيائي وصافيته وهما خليلان متصافيان.» (صَرَّفْنا) : بينا وأوضحنا ولها معان كثيرة بالتشديد يقال صرفه بمعنى صرفه مع مبالغة وصرّف الشيء باعه وصرف الدراهم بدلها وصرف الخمر شربها صرفا أي غير ممزوجة وصرف الكلام اشتق بعضه من بعض وصرفه في الأمر فوض الأمر اليه وصرف الماء أجراه وصرف الله الرياح أجراها من وجه إلى وجه. الإعراب: (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) الهمزة للاسفهام والحقيقة ان هذا الاستفهام معناه الإنكار الابطالي وهذا يقتضي أن ما بعده غير واقع وان مدعيه كاذب، ومعناه التقريع والتوبيخ والنفي أيضا أي لم يفعل ذلك. وأصفاكم فعل ماض والكاف مفعوله وهو معطوف على محذوف يقدر بحسب المقام وربكم فاعل وبالبنين متعلقان بأصفاكم واتخذ من الملائكة إناثا عطف على أصفاكم وهو فعل وفاعل مستتر ومن الملائكة مفعول اتخذ الثاني وإناثا هو المفعول الاول ويجوز أن تكون جملة اتخذ من الملائكة إناثا حالية والواو واو الحال وقد مقدرة. (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً) إن واسمها واللام المزحلقة وجملة تقولون خبرها وقولا مفعول مطلق وعظيما صفة. (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وصرفنا فعل وفاعل ومفعوله محذوف أي أمثالا ومواعظ وحكما وقصصا وأخبارا وأوامر ونواهي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 447 وقد حذف الضمير للعلم به وفي هذا متعلقان بصرفنا والقرآن بدل واللام للتعليل ويذكروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والواو للحال وما نافية ويزيدهم فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره هو وإلا أداة حصر ونفورا مفعول يزيدهم الثاني (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولو شرطية ومعه ظرف متعلق بمحذوف خبر كان المقدم وآلهة اسمها المؤخر وكما يقولون نعت لمصدر محذوف أي كونا مشابها لما يقولون. (إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا) اذن حرف جواب وجزاء مهملة دالة على أن ما بعدها وهو لابتغوا جواب عن مقالة المشركين واللام واقعة في جواب لو وجملة ابتغوا لا محل لها والواو فاعل والى ذي العرش متعلقان بابتغوا أو بمحذوف حال من سبيلا، وسبيلا مفعول ابتغوا (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) سبحانه مفعول مطلق وقد تقدم مرارا وتعالى عطف على ما تضمنه المصدر والتقدير تنزه وتعالى فهو فعل ماض وعما متعلقان به وجملة يقولون صلة وعلوا مفعول مطلق لأنه مصدر واقع موقع التعالي وكبيرا صفة. (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) تسبح فعل مضارع وله متعلقان به والسموات فاعل والسبع صفة والأرض عطف على السموات ومن عطف على السموات والأرض وفيهن متعلقان بمحذوف صلة من. (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) الواو عاطفة وإن نافية ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا مرفوع محلا وساغ الابتداء به لتقدم النفي وإلا أداة حصر ويسبح فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره هو والجملة خبر شيء وبحمده حال أي متلبسا بحمده، ولكن: الواو حالية ولكن حرف استدراك مهمل ولا نافية وتفقهون فعل مضارع وفاعل وتسبيحهم مفعول به. (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) إن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 448 واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر وحليما خبر أول لكان وغفورا خبر ثان لها. البلاغة: في قوله تعالى «وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم» فن التنكيت وقد تقدمت الاشارة اليه وانه قصد المتكلم الى شيء بالذكر دون غيره مما يسدّ مسدّه لنكتة في المذكور ترجح مجيئه على سواه فقد خصّ سبحانه تفقهون دون تعلمون لما في الفقه من الزيادة على العلم لأنه التصرف في المعلوم بعد علمه واستنباط الأحكام منه والمراد الذي يقتضيه معنى الكلام التفقه في معرفة التسبيح من الحيوان البهيم والبنات والجماد وكل ما يدخل تحت لفظة شيء مما لا يعقل ولا ينطق إذ تسبيح ذلك بمجرد وجوده الدال على قدرة موجده وحكمته. [سورة الإسراء (17) : الآيات 45 الى 47] وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 449 الإعراب: (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) الواو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وقرأت القرآن فعل وفاعل ومفعول به والجملة مضافة الى إذا وجعلنا فعل وفاعل وبينك الظرف متعلق بمحذوف مفعول به ثان وبين الذين لا يؤمنون عطف على الظرف الاول وجملة لا يؤمنون صلة وبالآخرة متعلقان بيؤمنون وحجابا مفعول جعلنا الأول ومستورا نعت لحجابا ويجوز أن يكون مستورا على بابه أي لا يرى فهو مستور ويجوز أن يكون مفعولا بمعنى فاعل أي ساترا لك عنهم فلا يرونك يريد الذين حاولوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم. (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) جعلنا فعل وفاعل وعلى قلوبهم مفعول جعلنا الثاني وأكنة مفعول جعلنا الأول وأن يفقهوه في موضع النصب مفعول من أجله أي كراهة أن يفقهوه ويجوز أن يكون منصوبا بنزع الخافض أي من أن يفقهوه والجار والمجرور متعلقان بأكنة لأن فيها معنى المنع من الفقه فكأنه قيل ومنعناهم أن يفقهوه، وفي آذانهم وقرا عطف على قوله على قلوبهم أكنة. (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل وجملة ذكرت مضافة وذكرت فعل وفاعل وربك مفعول به وفي القرآن متعلقان بذكرت ووحده حال لأنه في قوة النكرة أي منفردا وجملة ولوا لا محل لها وعلى أدبارهم متعلقان بمحذوف حال ونفورا مفعول مطلق لأنه في معنى ولوا أي فهو مصدر ويجوز إعرابه مفعولا من أجله وأعربه أبو البقاء حالا أي نافرين فيكون جمع نافر. (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) نحن مبتدأ وأعلم خبر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 450 وبما متعلقان بأعلم وجملة يستمعون صلة وبه جار ومجرور متعلقان بيستمعون والباء سببية والمعنى ما يستمعون بسببه وهو الهزء بك وبالقرآن وقال الزمخشري «به في موضع الحال كما نقول يستمعون بالهزء أي هازئين» وفيه بعد وقال أبو البقاء الباء بمعنى اللام وإذ ظرف لما مضى متعلق بأعلم وجملة يستمعون إليك مضافة للظرف. (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) عطف على إذ داخلة في حكمها فهي ظرف لأعلم أي وبما يتناجون به إذ هم ذو ونجوى فهم مبتدأ ونجوى خبر على حذف مضاف ويحتمل أن يكون نجوى جمع نجي فلا حاجة لتقدير مضاف قبل الخبر. (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً) إذ يقول بدل من إذ هم نجوى أو من إذ يستمعون إليك ويقول الظالمون فعل مضارع وفاعل وإن نافية وتتبعون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وإلا أداة حصر ورجلا مفعول به ومسحورا نعت لرجلا. الفوائد: بحث طريف عن وحده: اعلم ان «وحده» لم يستعمل إلا منصوبا إلا ما ورد شاذا قالوا: هو نسيج وحده وعيير وحده وجحيش وحده فأما نسيج وحده فهو مدح وأصله ان الثوب إذا كان رفيعا فلا ينسج على منواله غيره فكأنه قال نسيج أفراده يقال هذا للرجل إذا أفرد بالفضل وأما عيير وحده وجحيش وحده فهو تصغير عير وهو الحمار يقال للوحشي والأهلي وجحيش وحده وهو ولد الحمار فهو ذم يقال للرجل المعجب برأيه لا يخالط أحدا في رأي ولا يدخل في معونة أحد ومعناه انه ينفرد بخدمة نفسه، وأما قولك جاء وحده فوحده حال من فاعل جاء المستتر فيه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 451 وهو معرفة بالاضافة الى الضمير فيؤول بنكرة من لفظه أو من معناه أي متوحدا أو منفردا وتقول مررت به وحده ومررت بهم وحدهم فوحده مصدر في موضع الحال كأنه في معنى إيحاد جاء على حذف الزوائد كأنك قلت أوحدته بمروري ايحادا أو ايحاد في معنى موحد أي منفرد فإذا قلت مررت به وحده فكأنك قلت مررت به منفردا ويحتمل عند سيبويه أن يكون للفاعل والمفعول. وكان الزجاج يذهب الى أن وحده مصدر وهو للفاعل دون المفعول فإذا قلت مررت به منفردا فكأنك قلت أفردته بمروري إفرادا. وقال يونس: إذا قلت مررت به وحده فهو بمنزلة موحدا ومنفردا وتجعله للممرور به، وليونس فيه قول آخر: أن وحده معناه على حياله وعلى حياله في موضع الظرف وإذا كان الظرف صفة أو حالا قدر فيه مستقر ناصب للظرف ومستقر هو الاول. [سورة الإسراء (17) : الآيات 48 الى 52] انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 452 اللغة: (رُفاتاً) : الرفات ما بولغ في دقه وتفتيته وهو اسم مفرد لأجزاء ذلك الشيء المفتت، وقال الفراء: هو التراب يؤيده أنه تكرر في القرآن ترابا وعظاما. ويقال رفت الشيء يرفته بالكسر أي كسره والفعال يغلب في التفريق كالحطام والرقاق والفتات. وفي القاموس وتاج العروس: «رفته يرفته ويرفته كسره ودقه وانكسر واندق لازم ومتعد وانقطع كارفتّ ارفتاتا في الكل وكغراب الحطام وكصرد: التبن والذي يرفت كل شيء أي يكسره» وفي الأساس: «وفي ملاعبهن رفات المسك أي فتاته ويقال لمن عمل ما يتعذر عليه التفصي منه: الضبع ترفت العظام ولا تعرف قدر استها تأكلها ثم يتعسر عليها خروجها ومن المجاز هو الذي أعاد المكارم وأحيا رفاتها وأنشر أمواتها» . (فَسَيُنْغِضُونَ) : أي يحركون رءوسهم وفي المختار: نغض رأسه من باب نصر وجلس أي تحرك وأنغض رأسه حرّكه كالمتعجب من الشيء ومنه قوله تعالى: «فسينغضون إليك رؤوسهم» ونغض فلان رأسه أي حرّكه يتعدى ويلزم. وفي اللسان: يقال أنغض رأسه ينغضها أي حركها الى فوق وإلى أسفل انغاضا فهو منغض وأما نغض ثلاثيا ينغض، وينغض بالفتح والضم فمعنى تحرك لا يتعدى» . الإعراب: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) انظر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وكيف اسم استفهام في محل نصب حال وضربوا فعل وفاعل ولك متعلقان بضربوا والأمثال مفعول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 453 به فضلوا عطف على ضربوا والفاء حرف عطف ولا نافية ويستطيعون سبيلا فعل وفاعل ومفعول به. (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل والهمزة للاستفهام الانكاري واستبعاد ما يتساءلون عنه وإذا ظرف مستقبل متعلق بمحذوف تقديره أنبعث أو نحشر إذا كنا عظاما ورفاتا وقد دل عليه مبعوثون ولا يجوز أن يتعلق به لأن ما بعد ان لا يعمل فيما قبلها وكذا ما بعد الاستفهام لا يعمل فيما قبله وقد اجتمعا هنا والجواب هو الفعل الذي تعلقت به وكنا كان واسمها وعظاما خبرها ورفاتا عطف على عظاما. (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) الهمزة للاستفهام الانكاري والاستبعاد كما تقدم وان واسمها واللام المزحلقة ومبعوثون خبر ان وخلقا حال أي مخلوقين أو مفعول مطلق من معنى الفعل لا من لفظه أي نبعث بعثا جديدا، وجديدا صفة. (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) جملة كونوا حجارة مقول القول وكان واسمها وحجارة خبرها وأو حرف عطف وحديدا عطف على حجارة والأمر هنا معناه التعجيز مع الاهانة. (أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) أو حرف عطف وخلقا عطف على حجارة ومما صفة لخلقا وجملة يكبر صلة وفي صدوركم متعلقان بيكبر. (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الفاء عاطفة والسين حرف استقبال ويقولون فعل مضارع وفاعل ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة يعيدنا خبر وقل فعل أمر والذي فطركم مبتدأ خبره محذوف تقديره يعيدكم أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو الذي فطركم وجملة فطركم صلة وأول مرة ظرف متعلق بفطركم. (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ) الفاء عاطفة والسين للاستقبال وينغضون فعل مضارع وفاعل وإليك متعلقان بينغضون أي يحركون رءوسهم الى فوق والى أسفل، هزءا وسخرية ورؤوسهم مفعول به ويقولون عطف على ينغضون ومتى اسم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 454 استفهام متعلق بمحذوف خبر مقدم وهو مبتدأ مؤخر أي البعث. (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) عسى من أفعال الرجاء واسمها ضمير مستتر تقديره هو وأن وما بعدها في محل نصب خبر عسى واسم يكون مستتر تقديره هو وقريبا خبرها. (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) في متعلّق هذا الظرف أقوال لا تطمئن إليها النفس لأن أقربها الى الفهم أن يكون متعلقا باسم كان أي البعث ولكنه ممتنع من الناحية النحوية لأن الضمير لا يعمل فالأولى أن يعرب بدلا من قريبا أو يتعلق بيكون على رأي من يرى التعلق بالأفعال الناقصة، واختار أبو السعود تبعا لأبي البقاء أن يكون ظرفا لا ذكر وهو بعيد عن سياق الموضوع، وجملة يدعوكم مضاف إليها الظرف، فتستجيبون عطف على يدعوكم وبحمده متعلقان بمحذوف حال أي حامدين قال الزمخشري وأحسن: «وهي مبالغة في انقيادهم البعث كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيتأبى ويتمنع: ستركبه وأنت حامد شاكر» . (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا) الواو حالية وتظنون فعل مضارع مرفوع وفاعل أي يخيل إليكم لفرط ما تكابدون من الهول والرّوع وإن نافية ولبثتم فعل وفاعل وإلا أداة حصر وقليلا ظرف متعلق بلبثتم أي في الدنيا أي تستقصرون مدة لبثكم في الدنيا وتحسبونها يوما أو بعض يوم فهو نعت لزمان محذوف ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف أي لبثا قليلا. البلاغة: في قوله تعالى «قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم» إلى آخر الآية فنان من فنون البلاغة: 1- أولهما فن يسمى التمكين وبعضهم يسميه الارصاد وحقيقته أن يمهد المتكلم لقافيته أو سجعة فقرته تمهيدا تأتي القافية فيه متمكنة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 455 في مكانها مستقرة في قرارها غير نافرة ولا قلقة فإن السامع يعلم انه أراد حجارة أو حديدا بجاذب من قلبه ووحي من هاجسه دون أن يسمع بقية الآية ومثل ذلك في الشعر قول أبي الطيب: يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم وللبحتري في علوة الحلبية: فليس الذي حللته بمحلل ... وليس الذي حرمته بحرام وقال النابغة الذبياني في القديم: كالاقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه وأسفله ندي زعم الهمام ولم أذقه بأنه ... يشفى بريّا ريقها العطش الصدي ومن طريف هذا الفن ما يحكى انه اجتمع السراج الوراق وأبو الحسين الجزار وابن نفيس الشاعر فمر بهم غلام مليح الصورة فقال السراج: شمائله تدل على اللطافة ... وريقته تنوب عن السّلافة فقال أبو الحسين الجزار: وفي وجناته ورد ولكن ... عقارب صدغه منعت قطافه فقال ابن نفيس: فلو ولي الخلافة ذو جمال ... لحق له بأن يعطى الخلافة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 456 فالقوا في الثلاث متمكنة كما ترى. 2- والفن الثاني في هاتين الآيتين هو التخيير وهو أن يؤتى بقطعة من الكلام أو بيت من الشعر جملة وقد عطف بعضها على بعض بأداة التخيير وان يتضمن صحة التقسيم فيستوعب كلامه أقسام المعنى الذي أخذ المتكلم فيه فانظر إلى التخيير في هاتين الآيتين وصحة التقسيم وحسن الترتيب في الانتقال، على طريق البلاغة، من الأدنى إلى الأعلى حتى بلغ سبحانه النهاية في أوجز إشارة وأعذب عبارة حيث قال بعد الانتقال من الحجارة: «أو حديدا» فانتقل من الحجارة إلى ما هو أصلب منها وأقوى ثم قال بعد ذلك: «أو خلقا مما يكبر في صدوركم» غير حاصر لهم في صنف من الأصناف، وتصوّر أيها القارئ بعد ذلك المعنى كيف يتكامل ويشرق في النفس إشراقا تغرق النفس فيه أي انكم تستعبدون أن يجدد الله خلقكم، ويرده إلى حال الحياة والى رطوبتها وغضاضتها بعد ما كنتم عظاما يابسة وذلك ديدنكم في الإنكار، ودأبكم في العناد، فهبكم لم تكونوا عظاما بل كنتم أقسى منها وأصلب وأبعد عن رطوبة الحياة، هبكم حجارة طبيعتها القساوة والصلابة بل هبكم حديدا وهو أشد أنواع المادة بعدا من الحياة ومنافاة لها بل أترك الأمر لكم لتتصوروا ما هو أقسى وأصلب وأنأى عن قبول الحياة، مما لا يخطر إلا لذوي العناد من أمثالكم فإنه لقادر على أن يردكم إلى الحياة لأن القادر على البدء قادر على الإعادة بل هي أهون عليه بالنسبة لأفهامنا لا إليه تعالى وهذا من بديع الكلام ومعجزه بل هو من النمط الذي استحق أن لا يكون من كلام البشر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 457 [سورة الإسراء (17) : الآيات 53 الى 57] وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) الإعراب: (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الواو عاطفة والجملة منسوقة على ما سبق ليستكمل التعاليم التي بها قوام أمورهم. وقل فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت ولعبادي متعلقان بقل ويقولوا جواب الطلب أو مجزوم بلام الأمر المحذوفة وقد تقدم في سورة ابراهيم تفصيل لهذا التعبير فجدد به عهدا والتي مفعول به ليقولوا أو على الأصح صفة لمفعول محذوف أي الكلمة التي هي أحسن وهي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 458 مبتدأ وأحسن خبر والجملة صلة. (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) الجملة تعليلية لقوله يقولوا التي هي أحسن وان واسمها وجملة ينزغ بينهم أي يفسد بينهم خبر وجملة إن الشيطان الثانية بدل من الأولى وكان فعل ماض ناقص وللانسان جار ومجرور متعلقان بعدوا، وعدوا خبر كان ومبينا صفة لعدوا وجملة كان إلخ خبر إن. (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) ربكم مبتدأ وأعلم خبر وبكم متعلقان بأعلم، وإن شرطية ويشأ فعل الشرط مجزوم ويرحمكم جواب الشرط مجزوم أيضا. (أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا) عطف على ما تقدم والواو عاطفة وما نافية وأرسلناك فعل وفاعل وعليهم متعلقان بوكيلا، ووكيلا حال من الكاف أي موكولا إليك أمرهم فتحاول هدايتهم. (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وربك مبتدأ وأعلم خبر وبمن متعلقان بأعلم وفي السموات والأرض صلة. (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وفضلنا فعل وفاعل وبعض النبيين مفعول به وعلى بعض متعلقان بفضلنا وآتينا عطف على فضلنا وهو فعل وفاعل وداود مفعول به أول وزبورا مفعول به ثان وسيأتي في باب الفوائد سر تخصيص داود بإيتاء الزبور. (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ) جملة ادعوا الذين مقول القول وادعوا فعل أمر وفاعل والذين مفعول به وجملة زعمتم صلة ومفعولا زعمتم محذوفان للعلم بهما وهما زعمتموهم آلهة، ومن دونه الجار والمجرور متعلقان بمحذوف نصب على الحال. (فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا) الفاء استئنافية ولا نافية ويملكون كشف الضر فعل مضارع وفاعل ومفعول به وعنكم متعلقان بكشف والواو حرف عطف ولا نافية وتحويلا معطوف على كشف الضر. (أُولئِكَ الَّذِينَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 459 يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) أولئك مبتدأ والذين يدعون بدل منه وجملة يبتغون خبر والواو فاعل والى ربهم متعلقان بالوسيلة، والوسيلة مفعول به ويجوز لك أن تعرب الذين هي الخبر وجملة يبتغون حال من فاعل يدعون. (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) أيهم بدل من فاعل يبتغون وأي موصولة ويجوز أن تكون استفهامية فهي مبتدأ وأقرب خبر وعبارة أبي حياة: «واختلفوا في اعراب أيهم أقرب وتقديرة، فقال الحوفي أيهم أقرب ابتداء وخبر والمعنى ينظرون أيهم أقرب فيتوسلون به ويجوز أن يكون أيهم أقرب بدلا من الواو في يبتغون» ففي الوجه الأول أضمر فعل التعليق وأيهم أقرب في موضع نصب على إسقاط حرف الجر لأن نظر إن كان بمعنى الفكر تعدى بفي وان كانت بصرية تعدت بإلى فالجملة المعلق عنها الفعل على كلا التقديرين تكون في موضع نصب على إسقاط حرف الجر كقوله فلينظر أيها أزكى طعاما، وفي إضمار الفعل المعلق نظر والوجه الثاني قاله الزمخشري قال: «وتكون أي موصولة أي يبتغي من هو أقرب منهم وأزلف الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب» فعلى هذا الوجه يكون أقرب خبر مبتدأ محذوف واحتمل أن يكون أيهم معربا وهو الوجه واحتمل أن يكون مبنيا لوجود مسوغ البناء، وسيأتي حكم «أي» في باب الفوائد. وأقرب خبر لمبتدأ محذوف والمعنى يبتغون من هو أقرب منهم وأمت إليهم بزلفى الوسيلة الى الله فما بالك بغير الأقرب فكيف يزعمون انهم آلهة، ويرجون رحمته عطف على يبتغون ويرجون فعل مضارع وفاعل وحذفت لام الفعل وهي الواو لالتقاء الساكنين ورحمته مفعول به ويخافون عذابه عطف على يرجون رحمته. (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) تعليل للخوف وان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو ومحذورا خبر كان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 460 الفوائد: 1- معنى تفضيل بعض الأنبياء على بعض: تفضيل بعض الأنبياء على بعض يكون بتفاوت الفضائل النفسانية ولهذا اشتهر منهم أولو العزم المستهدفون للبلاء فما وهنوا وما استكانوا وكان محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة الأنبياء الذين اتسموا بكامل الصفات وتخصيص داود بالزبور فيه رد على اليهود الذين زعموا انه لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة وقد استعمل الزبور بلام التعريف ومجردا عنها لمحا للأصل لأنه فعول بمعنى المفعول كالحلوب بمعنى المحلوبة أو لأنه أراد بعضا من الزبور. 2- أي: تأتي على ستة أوجه: 1- شرطية: «أيّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى» بدليل جزم تدعوا وإدخال الفاء رابطة على الجملة الاسمية وأيّا ما مفعول تدعوا. 2- استفهامية: «أيكم زادته هذه إيمانا» «فبأي حديث بعده يؤمنون» . 3- موصولية: «لننزعنّ من كل شيعة أيهم أشد» التقدير لننزعن الذي هو أشد. 4- أن تكون دالة على الكمال فتقع صفة للنكرة نحو: زيد رجل أيّ رجل، وحالا للمعرفة نحو مررت بعبد الله أيّ رجل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 461 5- أن تكون وصلة إلى نداء ما فيه أل نحو يا أيها الرجل، وإنما التزم بناؤها على الضم لتكون على صورة المنادى المفرد المقصود بالنداء لأنه مضموم الآخر. 6- أن تكون للتعجب نحو: سبحان الله أيّ رجل هذا. وأيّ تعرب في جميع أحوالها إلا إذا كانت موصولة مضافة ومحذوفا صدر صلتها كما تقدم فتبنى على الضم، ولأيّ تفاصيل يرجع إليها في المطولات وسيأتي المزيد من بحثها. [سورة الإسراء (17) : الآيات 58 الى 60] وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60) الإعراب: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً) الواو استئنافية وإن نافية ومن حرف جر زائد وقرية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 462 مجرور لفظا مرفوع محلا مبتدأ وإلا أداة حصر ونحن مبتدأ ومهلكوها خبر والجملة الاسمية خبر قرية وقبل يوم القيامة الظرف متعلق بمهلكوها وأو حرف عطف ومعذبوها عطف على مهلكوها وعذابا مفعول مطلق وشديدا صلة. (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) كان واسمها وفي الكتاب متعلقان بمسطورا، ومسطورا خبر كان. (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) الواو عاطفة وما نافية ومنعنا فعل ماض ومفعول به مقدم وأن نرسل المصدر المؤول مفعول ثان لمنع وبالآيات الباء حرف جر زائد على حد زيادتها في قول عمرو بن كلثوم: وقد علم القبائل من معد ... إذا قبب بأبطحها بنينا بأنا المطعمون إذا أردنا ... وأنا النازلون بحيث شينا ولك أن تجعلها أصلية فتكون للملابسة والمفعول محذوف أي في محل نصب حال والمعنى وما منعنا أن نرسل نبيا حالة كونه ملتبسا بالآيات، وإلا أداة حصر وأن الثانية وما في حيزها في محل رفع فاعل منع وبها متعلقان بكذب والأولون فاعل. (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها) هذه آية من الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها وآتينا فعل وفاعل وثمود مفعول به أول والناقة مفعول به ثان ومبصرة حال فظلموا الفاء عاطفة وظلموا فعل وفاعل وهو متضمن معنى كفروا وبها متعلقان به. (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) الواو للحال وما نافية ونرسل فعل مضارع وفاعل مستتر وبالآيات تقدم القول في هذه الباء وإلا أداة حصر وتخويفا مفعول لأجله ولك أن تجعله مصدرا في موضع نصب على الحال إما من الفاعل أي مخوفين بها أو من المفعول أي مخوّفا بها. (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) الظرف متعلق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 463 بمحذوف أي اذكر ولك متعلقان بقلنا وان واسمها وجملة أحاط بالناس خبرها. (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) الواو عاطفة وما نافية وجعلنا الرؤيا فعل وفاعل ومفعول به وأراد بها ما رآه بعد الوحي في منامه أو ليلة الاسراء على خلاف وإذا كانت ليلة الاسراء فتسميتها رؤيا على أنها كانت في الليل ولأنها وشيكة سريعة الانقضاء لأن الرؤيا للحكم أما الرؤية البصرية فلا يطلق عليها رؤيا ولذلك أخذوا على المتنبي قوله: «ورؤياك أحلى في الجفون من الغمض» ويبرر المتنبي أنه استعملها في الجفون لأن الرؤيا لا تكون إلا فيها. والتي صفة وأريناك صلة الموصول وإلا أداة حصر وفتنة مفعول به ثان لجعلنا وللناس صفة لفتنة. (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) عطف على الرؤيا والملعونة نعت لها وفي القرآن جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال والمراد بها شجرة الزقوم وسيأتي الحديث عنها في موضعها من هذا الكتاب، فقد سخروا من محمد صلى الله عليه وسلم عند ما سمعوا بشجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم وقالوا: انه يزعم أن الجحيم تحرق الحجارة ثم يقول ان الشجر ينبت فيها. (وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) الواو استئنافية ونخوفهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، فما الفاء عاطفة وما نافية ويزيدهم فعل ومفعول به والفاعل مستتر تقديره تخويفنا وإلا أداة حصر وطغيانا مفعول به ثان وكبيرا نعت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 464 [سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 65] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) اللغة: (لَأَحْتَنِكَنَّ) لأستأصلن ذريته بالإغواء من احتنك الجراد الأرض إذا جرّد ما عليها أكلا مأخوذ من الحنك ومنه ما ذكر سيبويه من قولهم أحنك الشاتين أي آكلهما، وقيل معنى لأحتنكن لأسوقنهم وأقودنهم حيث شئت من حنك الدابة إذا جعل الرسن في حنكها، وفي المختار: «حنك الفرس جعل في فيه الرسن وبابه نصر وضرب وكذا احتنكه واحتنك الجراد الأرض أكل ما عليها وأتى على نبتها وقوله تعالى: حاكيا عن إبليس: «لأحتنكن ذريته» قال الفراء: لأستولين عليهم، والحنك المنقار يقال أسود مثل حنك الغراب وأسود حانك مثل حالك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 465 والحنك ما تحت الذقن من الإنسان وغيره» ولهذه المادة شعاب يضيق عن استيعابها الحصر ففي القاموس وتاج العروس واللسان ما خلاصته: حنك يحنك ويحنك بالضم والكسر حنكا الشيء فهمه وأحكمه، واحتنك الفرس جعل في فيه الرسن وحنك وحنّك: مضغ فدلك بحنكة وحنك يحنك ويحنك بالضم والكسر أيضا حنكا وحنكا وحنّك وأحنك واحتنك الدهر الرجل: جعلته التجارب والأمور وتقلبات الدهر حكيما فهو حنيك وتحنّك أدار العمامة من تحت حنكه واحتنك أيضا الجراد الأرض أكل ما عليها واحتنكه استولى عليه، واستحنك اشتد أكله بعد قلته والحنك والحنك والحنكة: الاسم من حنّكه الدهر والحنك: أعلى باطن الفم والأسفل من طرف مقدّم اللحيين. (وَاسْتَفْزِزْ) : استفزه: استخفه والفزّ الخفيف وفي القاموس والتاج: «فزّ يفزّ فزّا انفرد وفز عنه تنحى وعدل وفزّ الظبي فزع وفزه عزه وغلبه وطير فؤاده وأفزعه وأزعجه وأزاله عن مكانه وفز يفزّ فزيزا الجرح سال بما فيه وفز فزازة وفزوزة: اضطرب وتوقد وافتزّ عليه غلب وتفازّ الرجلان: تبارزا واستفزه: استخفّه واستدعاه وجعله يضطرب وأزعجه وأخرجه من داره وقتله والفزّ الرجل الخفيف وولد البقرة الوحشية والفزة الوثبة بانزعاج. (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ) صح عليهم وتصرف فيهم بكل ما تقدر وفي المختار: «وجلب على فرسه يجلب جلبا بوزن طلب يطلب طلبا صاح به من خلفه واستحثه للسبق وكذا أجلب عليه» وفي القاموس والتاج: جلبه يجلبه بالضم والكسر جلبا وجلبا بالسكون والفتح ساقه وجاء به وجلب الرجل انساق وجلب الجرح برىء وأجلب القوم: جمعهم وجلبه وأجلبه توعده بالسر وجلب واجلب لأهله كسب وجلب وأجلب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 466 على الفرس: صاح به واستحثه للسبق وجلب وأجلب القوم: ضجوا واختلطت أصواتهم والجلبة: اختلاط الأصوات والصياح والجلب بفتحتين ما يجلبه من بلد الى بلد وجمعه أجلاب فما يقوله العامة عن المتاع هو جلب بفتحتين صحيح لا غبار عليه. (وَرَجِلِكَ) بفتح فكسر الركاب والمشاة وفي القاموس: الرجل: الراجل ومن يمشي على رجليه والراجل: من يمشي على رجليه لا راكبا وجمعه رجل ورجّالة ورجّال ورجال ورجالى ورجالى ورجلان ويقال: جاءت الخيالة والرجالة وأغار عليهم بخيله ورجله والخيل الخيالة ومنه الحديث: يا خيل الله اركبي. الإعراب: (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) الواو استئنافية والظرف متعلق بمحذوف أي اذكر وقد تقدم اعراب هذه الآية المكررة كثيرا. (قالَ: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) الهمزة للاستفهام الانكاري الصادر عن تعنت وسوء تقدير وجهل وغباء ولمن متعلقان بأسجد وجملة خلقت صلة وطينا حال من الموصول والعامل فيه أأسجد، أو من عائد هذا الموصول أي خلقته طينا فالعامل فيها خلقته، وجاز وقوع طينا حال وإن كان جامدا لدلالته على الأصالة كأنه قال متأصلا من طين وأعربه بعضهم منصوبا بنزع الخافض أي من طين بدلالة آية أخرى صرح فيها بالجار. قال «وخلقته من طين» وقال الزجاج وغيره هو تمييز وفيه بعد (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ) تقدم القول مفصلا في أرأيتك وانها بمعنى أخبرني والكاف لتأكيد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 467 الخطاب لا محل لها من الإعراب وهذا مفعول أول والموصول صفة أو بدل عنه والثاني محذوف لدلالة الصلة عليه أي أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ بأن أمرتني بالسجود له لم كرمته علي، ولم يجبه الله تعالى عن هذا السؤال استصغار لأمره واحتقارا لشأنه فاختصر الكلام بحذف ذلك ثم ابتدأ بالقسم فقال: (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) اللام موطئة للقسم وان شرطية وأخرتني فعل وفاعل ومفعول به والنون للوقاية وهو فعل الشرط والى يوم القيامة متعلقان بأخرتني ولأحتنكن اللام واقعة في جواب القسم وأحتنكن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره أنا وذريته مفعول به وإلا أداة استثناء وقليلا مستثنى من ذريته منصوب وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه وسيأتي مزيد بحث عنه في باب البلاغة. (قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) اذهب فعل أمر وفاعل مستتر والجملة مقول القول وليس المراد بالذهاب نقيض المجيء وانما معناه امض لشأنك الذي اخترته بمحض مشيئتك وسيأتي أنه أمره بأمور أربعة أخرى فيكون المجموع خمسة وكلها تهدف الى التنديد به وتهديده واستدراجه، فمن الفاء استئنافية ومن شرطية مبتدأ وتبعك فعل ماض والفاعل مستتر والكاف مفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط ومنهم حال، فإن الفاء رابطة لجواب الشرط وان واسمها وخبرها وجزاء مفعول مطلق لفعل دل عليه جزاؤكم أي تجزون جزاء، ولا مانع عندي من أن يكون مصدرا انتصب بمثله وسيأتي مزيد بحث عنه في باب الفوائد، وقيل هو حال موطئة وقيل تمييز وليس ذلك ببعيد وسيأتي القول في هذا الالتفات في باب البلاغة وموفورا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 468 صفة (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) واستفزز أمر ثان للشيطان، من استطعت: من اسم موصول مفعول استفزز وجملة استطعت صلة ومفعول استطعت محذوف تقديره من استطعت أن تستفزه، ومنهم متعلقان بمحذوف حال وبصوتك متعلقان باستفزز وأجلب أمر ثالث وعليهم متعلقان بمحذوف حال وبخيلك متعلقان بأجلب ورجلك عطف على بخيلك أي استخف منهم من استطعت بصوتك وصح عليهم وسقهم حال كونك مصحوبا بخيلك ورجلك. (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) وشاركهم أمر رابع والهاء مفعول به وفي الأموال متعلقان بشاركهم والمشاركة في الأموال أي حملهم على جمعها بالطرق الحرام غير المشروعة كالربا والميسر وإنفاقها في الأمور المحرمة والفسوق والعصيان وعدهم هذا هو الأمر الخامس والهاء مفعول به ولم يذكر الموعود اختصارا والمراد المواعيد الكاذبة الباطلة، وما الواو للحال أو اعتراضية وما نافية ويعدهم الشيطان فعل مضارع ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وفي الكلام التفات سيأتي الكلام عنه وإلا أداة حصر وغرورا يجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي إلا وعدا غرورا ونسبة الغرور للمصدر سيأتي في باب البلاغة ولك أن تعربه مفعولا من أجله أي ما يعدهم ويمنيهم من الوعود الكاذبة والأماني المعسولة إلا لأجل الغرور والجملة حالية أو معترضة. (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا) جملة تعليلية للأمر بالوعد أي إنما نأمرك بذلك لأننا نعلم أنه ليس لك سلطان على عبادنا الصالحين، وان واسمها وجملة ليس خبرها ولك خبر مقدم لليس وعليهم حال لأنه كان في الأصل صفة لسلطان وسلطان اسم ليس مؤخر وكفى فعل ماض والباء زائدة في الفاعل ووكيلا تمييز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 469 البلاغة: اشتملت هذه الآيات على فنون شتى منها: 1- المجاز المرسل في استعمال الرؤية بمعنى الأخبار في قوله «أرأيتك» لأنها سببه فالعلاقة فيها السببية وقد تقدم بحث ذلك. 2- الالتفات عن الخطاب الى الغيبة وكان مقتضى الظاهر أن يقال: وما تعدهم إلا غرورا ولكنه عدل عن ذلك تهوينا لأمره واستصغارا لأمر الغرور الذي يعدهم به من جهة وليتولى الكلام على طريق الغيبة متحدثا الى الناس جميعا ليعلم الجاهل، ويخلد المبطل الى الصواب. 3- المجاز العقلي في نسبة الغرور الى الوعد على حد قوله: نهاره صائم وليله قائم وقد تقدم تفصيل ذلك في مواضعه. الفوائد: 1- عامل المفعول المطلق: عامل المفعول المطلق إما مصدر مثله لفظا ومعنى مثل «فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا» فجزاء مفعول مطلق وعامله جزاؤكم وهو مصدر مثله أو معنى لا لفظا نحو أعجبني إيمانك تصديقا، أو ما اشتق منه من فعل نحو «وكلم الله موسى تكليما» أو من وصف أي اسم فاعل أو اسم مفعول أو للمبالغة دون التفضيل والصفة المشبهة فاسم الفاعل نحو «والصافات صفا» واسم المفعول نحو: الخبز مأكول أكلا، وأمثلة المبالغة نحو: زيد ضرّاب ضربا ولا يجوز زيد حسن وجهه حسنا ولا أقوم منك قياما، وأما قول الشاعر: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 470 أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم ... لؤما وأبيضهم سربال طباخ فلؤما منصوب بمحذوف. ونعود الى الآية فقد اعترض بعضهم على انتصاب جزاء بالمصدر وهو جزاؤكم قال: إنه وإن كان لفظه مصدرا معناه المجزي به لحمله على جهنم فمعنى الآية ان جهنم هي الشيء الذي أنتم مجزيون به. ولو جاهة هذا الاعتراض قلنا انه يجوز أن ينتصب بفعل محذوف دل عليه جزاؤكم والمعنى تجازون، أو على الحال الموطئة. 2- الحال الموطئة: والحال الموطئة بكسر الطاء أو بفتحها هي الجامدة الموصوفة لأنها ذكرت توطئة للنعت بالمشتق أو شبهه نحو «فتمثل لها بشرا سويا» فإنما ذكر بشرا توطئة لذكر سويا ومعنى هذا الكلام ان الاسم الجامد لما وصف بما يجوز أن يكون حالا صح أن يكون حالا والموطئة لغة [سورة الإسراء (17) : الآيات 66 الى 69] رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 471 هي المهيئة وسيأتي المزيد منها أثناء الكلام على هذه الآية في سورة مريم. اللغة: (يُزْجِي) : يجري ويسير وفي القاموس: «زجاه ساقه ودفعه كزجّاه وأزجاه ومنه قول الشاعر: يا أيها الراكب المزجي مطيته ... سائل بني أسد ما هذه الصوت (حاصِباً) الحاصب: الريح التي تحصب أي ترمي بالحصباء، والحصباء الحجارة الصغيرة واحدتها حصبة كقصبة وفي المصباح: «وحصبته حصبا من باب ضرب وفي لغة من باب قتل رميته بالحصاء» . قال أبو عبيدة والقيتبي: الحصب الرمي: أي ريحا شديدة حاصبة وهي التي ترمي بالحصى الصغار، وقال الزجاج: الحاصب التراب الذي فيه حصباء فالحاصب ذو الحصباء والحصباء كاللابن والتامر ويقال للسحابة التي ترمي بالبرد حاصب ومنه قول الفرزدق: مستقبلين جبال الشام تضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور (قاصِفاً) القاصف: الريح التي لها قصيف وهو الصوت الشديد كأنها تتقصف أي تتكسر وقيل: التي لا تمر بشيء إلا قصفته. (تَبِيعاً) التبيع المطالب. قال الشماخ يصف عقابا: تلوذ ثعالب الشرقين منها ... كما لاذ الغريم من التبيع أي تهرب منها ثعالب الشرقين بمعنى المشرقين كما هرب والتجأ الغريم أي المدين من التبيع أي الدائن المطالب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 472 الإعراب: (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) الجملة تعليل لبيان قدرته تعالى وربكم مبتدأ والذي خبره وجملة يزجي صلة ولكم متعلقان بيزجي والفلك مفعول به وفي البحر متعلقان بمحذوف حال ولتبتغوا اللام للتعليل وتبتغوا مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بتبتغوا أي تبتغوا الربح من فضله (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) ان واسمها وجملة كان خبرها وبكم متعلقان برحيما، ورحيما خبر كان. (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة مسكم مضافة للظرف والكاف مفعول به والضر فاعل وفي البحر متعلقان بمحذوف حال أي حالة كونكم في البحر وجملة ضل لا محل لأنها جواب شرط غير جازم ومن فاعل ضل وجملة تدعون صلة وإلا إياه استثناء أي ذهب عن خواطركم كل من تدعونه إلا إياه فانكم عندئذ وفي ذلك الوقت بالذات تذكرونه فهو استثناء متصل لأنه اندرج مع من ذكروه ويجوز أن يكون منقطعا أي ضل من تدعونه من الآلهة عن إغاثتكم ولكن الله وحده وهو الذي ترجونه وحده. (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) لما أداة شرط غير جازمة ونجاكم فعل ماض ومفعول به وهو فعل الشرط وفاعله هو، والى البر متعلقان بنجاكم وأعرضتم جواب الشرط وكان واسمها وخبرها. (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف تقديره أنجوتم فأمنتم فحملتكم نجاتكم على الإعراض. وأمنتم فعل وفاعل وأن يخسف مصدر مؤول في محل نصب بنزع الخافض أن من أن يخسف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 473 والجار والمجرور متعلقان بأمنتم وبكم حال أي مصحوبا بكم فالباء للمصاحبة، ويجوز أن يتعلق بيخسف وتكون الباء للسببية. وجانب البر مفعول يخسف وأو حرف عطف ويرسل عطف على يخسف وعليكم متعلقان بيرسل وحاصبا مفعول به. (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا) ثم حرف عطف للتراخي ولا نافية وتجدوا عطف على يرسل أيضا ولكم متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لوكيلا وتقدمت عليه ووكيلا مفعول به. (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى) أم حرف عطف وهي متصلة أي أي الأمرين كائن وأمنتم فعل وفاعل وأن يعيدكم مصدر مؤول في محل نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بأمنتم وفيه متعلقان بيعيدكم وتارة ظرف متعلق بيعيدكم أيضا وأخرى صفة. (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ) الفاء عاطفة ويرسل عطف على أن يعيدكم وعليكم متعلقان بيرسل وقاصفا مفعول به ومن الريح صفة والفاء حرف عطف ويغرقكم عطف على يرسل وبما متعلقان بيغرقكم وما مصدرية أي بسبب كفركم. (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) ثم حرف عطف ولا تجدوا عطف على يغرقكم ولكم متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لتبيعا وتقدمت عليه فهو على حد قول أبي الطيب المتنبي: لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا الى أرواحنا سبلا فقوله لها متعلق بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لسبلا ولا يجوز تعليقه بوجدت لأن وجد لا يتعدى باللام وانما يتعدى بنفسه. وعلينا متعلقان بمحذوف حال أيضا وبه متعلق بتبيعا ويجوز أن يتضمن تبيعا معنى ناصرا لأن المطالب بحق الملازم للطلب فيكون علينا متعلقا به أي ناصرا علينا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 474 [سورة الإسراء (17) : الآيات 70 الى 72] وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) اللغة: (فَتِيلًا) : تقدم القول في النقير والقطمير فالفتيل هو الخيط الذي في نقرة النواة طولا وأما القشرة فهي القطمير وأما الخيط الذي في ظهرها فهو النقير ففي النواة أمور ثلاثة: فتيل وقطمير ونقير وفي القاموس: الفتيل: السحاة في شق النواة والقطمير والقطمار بكسر القاف فيهما: القشرة الرقيقة بين النواة والثمرة، والنقير: النكتة في ظهر النواة. الإعراب: (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وكرمنا فعل وفاعل وبني آدم مفعول به وحملناهم عطف على كرمنا وهو فعل وفاعل ومفعول به وفي البر والبحر متعلقان بحملناهم. (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 475 وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا) ورزقناهم فعل وفاعل ومفعول به أيضا ومن الطيبات متعلقان برزقناهم وفضلناهم عطف أيضا وعلى كثير متعلقان بفضلناهم وممن خلقنا صفة لكثير وجملة خلقنا صلة وتفضيلا مفعول مطلق. (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) الظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر وندعو فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره نحن وكل أناس مفعول به وجملة ندعو مضافة للظرف وبإمامهم يجوز أن يتعلق بندعو وأن يتعلق بمحذوف حال أي موسومين ومعروفين والمراد بالإمام من ائتموا به في دنياهم وفوضوا اليه أمورهم وأحكام معايشهم، وقلدوه في شؤون دنياهم وأخراهم. (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) الفاء عاطفة ومن شرطية أو موصولة وهي في محل رفع مبتدأ وأوتي فعل ماض مبنى للمجهول ونائب الفاعل مستتر وكتابه مفعول به ثان وبيمينه متعلقان بأوتي والفاء رابطة وجملة أولئك جواب الشرط أو خبر الموصول وأولئك مبتدأ وجملة يقرءون خبر وكتابهم مفعول به، ولا: الواو حرف عطف ولا نافية ويظلمون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وفتيلا نائب مفعول مطلق أي ظلما قدر الفتيل وقد تقدمت له نظائر. (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) الواو عاطفة ومن شرطية أو موصولة وكان فعل ماض ناقض وفي هذا خبر مقدم والاشارة للدنيا وأعمى اسم كان مؤخر وهي بمعنى فاعل. (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) الفاء رابطة وهو مبتدأ وفي الآخرة حال وأعمى خبر وهي إما بمعنى فاعل كالأولى أي من كان في هذه الدنيا عميا عن حجته فهو في الآخرة كذلك وإما بمعنى أفعل التفضيل التي تقتضي من، والمعنى: من كان في هذه الدنيا أعمى فهو في الآخرة أعمى أيضا والمراد العمى القلبي الذي لا يبصر الهداية. وأضل عطف على أعمى وسبيلا تمييز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 476 [سورة الإسراء (17) : الآيات 73 الى 77] وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77) الإعراب: (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) الواو استئنافية وإن مخففة من الثقيلة مهملة ويجوز إعمالها قليلا كما تقدم وكادوا فعل ماض ناقص من أفعال المقاربة والواو اسمها واللام الفارقة وجملة يفتنونك خبر كادوا وعن الذي متعلقان بيفتنونك وقد ضمّن يفتنونك معنى يصرفونك فلذلك عدي بعن وجملة أوحينا صلة وإليك متعلقان بأوحينا، لتفتري: اللام لام التعليل وتفتري مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وعلينا متعلقان بتفتري والفاعل مستتر تقديره أنت وغيره مفعول به (وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا) الواو عاطفة وإذن حرف جزاء وجواب يقدر بلو الشرطية أي ولو اتبعت مرادهم وحققت مقترحاتهم التي حاولوا أن يستنزلوك لتحقيقها، واللام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 477 موطئة للقسم والتقدير والله لا تخذوك والكاف مفعول به أول وخليلا مفعول به ثان. (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا) لولا حرف امتناع لوجود وان وما في حيزها مبتدأ محذوف الخبر أي ولولا تثبيتا لك وعصمتنا إياك واللام جواب لولا وقد حرف تحقيق وكاد واسمها وجملة تركن خبرها وإليهم متعلقان بتركن وشيئا مفعول مطلق فهو بمعنى الركون أي وشيئا قليلا من الركون. (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) إذن حرف جواب وجزاء يقدر بلو الشرطية أيضا أي ولو اتبعت مرادهم وحققت مقترحاتهم التي حاولوا أن يستنزلوك لتحقيقها، اللام موطئة للقسم وأذقناك فعل وفاعل ومفعول به وضعف مفعول ثان والحياة مضاف ولا بد من تقدير محذوف أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات وثم حرف عطف وتراخ ولا نافية وتجد فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنت، ولك متعلقان بتجد وعلينا متعلقان بنصيرا، ونصيرا مفعول به. (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) الواو عاطفة وان مخففة يجوز إهمالها وإعمالها وكادوا من أفعال المقاربة والواو اسمها واللام الفارقة وجملة يستفزونك خبر كادوا، ومن الأرض متعلقان بيستفزونك وليخرجوك متعلقان بيستفزونك ومنها متعلقان بيخرجوك والضمير يعود الى الأرض وهي أرض المدينة. (وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا) الواو عاطفة واذن حرف جواب وجزاء مهمل ولا نافية ويلبثون فعل مضارع مرفوع وخلافك أي خلفك ظرف متعلق بيلبثون وعليه قول الشاعر: عفت الديار خلافهم فكأنما ... بسط الشواطب بينهن حصيرا يصف الشاعر ديارهم بعدهم بدروسها وكثرة قمامتها لعدم كنسها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 478 ووجود من يتعهدها والشواطب النساء يشققن شطب النخل أي سعفه الأخضر يعملنه حصيرا. وإلا أداة حصر وقليلا صفة لظرف محذوف أي زمانا قليلا أو صفة لمصدر محذوف أي لبثا قليلا فهي ظرف أو مفعول مطلق. (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا) نصبت سنة نصب المصدر المؤكد أي سن الله ذلك سنة واختيار الفراء نصبها على نزع الخافض أي كسنة الله وإذن ينبغي على هذا الإعراب أن لا يوقف على قليلا واختار آخرون أن تنصب بفعل محذوف أي اتبع سنة ولا مانع من ذلك فالاوجه كلها متساوية. البلاغة: - قصة ثقيف واقتراحاتها: في هذه الآيات ضروب من البلاغة ولا بد لتقريرها من إيراد قصة تنزيلها فقد روي أن ثقيفا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب: لا نعشر ولا نحشر ولا نجبّي في صلاتنا وكل ربا لنا فهو لنا وكل ربا علينا فهو موضوع عنا وأن تمتعنا باللات سنة حتى نأخذ ما يهدى لها فإذا أخذناه كسرناها وأسلمنا وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة فإن قالت العرب لم فعلت ذلك؟ فقل إن الله أمرني به، وجاءوا بكتابهم فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله لثقيف: لا يعشرون ولا يحشرون فقالوا: ولا يجبون فسكت رسول الله ثم قالوا للكاتب اكتب ولا يجبون والكاتب ينظر الى رسول الله فقام عمر بن الخطاب فسلّ سيفه فقال: أسعرتم قلب نبينا يا معشر ثقيف أسعر الله قلوبكم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 479 نارا فقالوا لسنا نكلم إياك وإنما نكلم محمدا فنزلت، ولا بد من شرح بعض المفردات فقولهم لا نعشر بالبناء للمجهول أي لا يؤخذ منا عشر أموالنا ولا نحشر بالبناء للمجهول أيضا أي لا نساق للجهاد ولا نجبي في صلاتنا بالبناء للمجهول أيضا من التجبية وهي- كما في الصحاح- أن يقوم الإنسان قيام الراكع وقال أبو عبيدة تكون في حالين أحدهما أن يضع يديه على ركبتيه والآخر أن ينكب على وجهه باركا وهو السجود والمراد لا نركع ولا نسجد والقصة طريفة تمثل أمورا هامة. أ- إصرار القوم وعتوهم وتماديهم في الكبرياء والعنفوان. ب- حلم النبي صلى الله عليه وسلم وأخذه القوم باللين والاستمالة وفي ذلك منتهى الكياسة والسياسة. ح- صلابة عمر وجرأته ولأمر ما سمي الفاروق أما أوجه البلاغة في الآية فهي: 1- الاطناب في ذكر هذا الموقف الذي يثبت لك دهاء السياسي وأحوذيته، يأخذ قومه بالملاينة والصبر ولا تذهب نفسه شعاعا وهو يرى التمادي في الغي والإصرار على الخطل. 2- المبالغة في تقليل الكيدودة لأن مجرد الملاينة التي تقتضيها السياسة واستمالة القوم أخذت على النبي لأن الذنب يعظم بحسب فاعله على ما ورد من أن حسنات الأبرار سيئات المقربين. 3- الاستعارة المكنية في أذقناك ضعف الحياة وقد تقدمت أمثالها كثيرا. 4- الحذف فقد حذف العذاب تكريما لمقام النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الأصل موصوف أي عذابا ضعفا في الحياة وعذابا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 480 ضعفا في الممات ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وهو الضعف ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف فقيل ضعف الحياة وضعف الممات كما لو قيل أذقناك أليم الحياة وأليم الممات. - ولابن هشام فصل ممتع عن كاد أورده في الباب السادس من كتابه المغني في التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين والصواب خلافها: «الثامن عشر قولهم إن كاد إثباتها نفي ونفيها إثبات فإذا قيل «كاد يفعل» فمعناه أنه لم يفعل وإذا قيل «لم يكد يفعل» فمعناه أنه فعله، دليل الأول «وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك» وقوله: «كادت النفس أن تفيض عليه» ودليل الثاني «وما كادوا يفعلون» . وقد اشتهر ذلك بينهم حتى جعله المعري لغزا فقال: أنحويّ هذا العصر ما هي لفظة ... جرت في لسائي جرهم وثمود إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت ... وإن أثبتت قامت مقام جحود والصواب أن حكمها حكم سائر الأفعال في أن نفيها نفي وإثباتها إثبات، وبيانه: أن معناها المقاربة ولا شك أن معنى «كاد يفعل» قارب الفعل وأن معنى «ما كاد يفعل» ما قارب الفعل فخبرها منفي دائما أما إذا كانت منفية فواضح لأنه إذا انتفت مقاربة الفعل انتفى عقلا حصول ذلك الفعل ودليله «إذا أخرج يده لم يكد يراها» ولهذا كان أبلغ من أن يقال «لم يرها» لأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 481 من لم ير قد يقارب الرؤية وأما إذا كانت المقاربة المثبتة فلأن الإخبار بقرب الشيء يقتضي عرفا عدم حصوله وإلا لكان الإخبار حينئذ بحصوله لا بمقاربة حصوله إذ لا يحسن في العرف أن يقال لمن صلى قارب الصلاة، وإن كان ما صلى حتى قارب الصلاة ولا فرق فيما ذكرنا بين كاد ويكاد فإن أورد على ذلك «وما كادوا يفعلون» مع أنهم قد فعلوا إذ المراد بالفعل الذبح وقد قال تعالى «فذبحوها» فالجواب أنه إخبار عن حالهم في أول الأمر فانهم كانوا أولا بعداء من ذبحها بدليل ما يتلى علينا من تعنتهم وتكرر سؤالهم ولما كثر استعمال مثل هذا فيمن انتفت عنه مقاربة الفعل أولا ثم فعله بعد ذلك توهم من توهم ان هذا الفعل بعينه هو الدال على حصول ذلك الفعل بعينه وليس كذلك وانما فهم حصول الفعل من دليل آخر كما فهم في الآية من قوله تعالى فذبحوها» . [سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 81] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 482 اللغة: (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) أي من وقت زوالها يقال دلكت الشمس أي غربت وقيل زالت واشتقاقه من الدلك لأن الإنسان يدلك عينيه عند النظر إليها فإن كان الدلوك الزوال فالآية جامعة للصلوات الخمس المفروضة وإن كان الغروب فقد خرجت منها الظهر والعصر، وأصل هذه المادة أي ما كانت فاؤه وعينه دالا ولاما يدل على التحول والانتقال فالدلبة واحدة الدّلب وهو شجر عظيم الورق لا زهر له ولا ثمر وهي تتسامى صعدا في الجو كأنها انتقلت من الأسفل الى الأعلى ومنه قولهم: «هو من أهل الدّربة، بمعالجة الدّلبة» ومنه تتخذ النواقيس أي هو نصراني. وسقى أرضه بالدّولاب بفتح الدال وهم يسقون بالدواليب وهي تستعمل لنقل المياه من مكان الى مكان لسقاية الأرض ودلج من الدلجة وهي سير الليل والانتقال فيه من مكان الى آخر ودلج ومنه وكفت عيناه وكيف غربي دالج وهو الذي يختلف بالدلو من البئر الى الحوض وبات لبلته يدلج دلوجا قال: كأنها وقد براها الإخماس ... ودلج الليل وهاد قياس شرائح النبع براها القوّاس ودلح بالحاء المهملة إذا مشى مشيا متثاقلا ودلدل أعضاءه دلدلة أي حركها في المشي وتدلدل في مشيه اهتز واضطرب، ودلس الظلام معروف وخرج في الدّلس والغلس ودلّس المحدّث في حديثه أتى فيه بغير الراهن كأنما انتقل من واقعة الى واقع آخر ومنه تدليس البائع يكتم المساويء فيما يبيعه ويظهر المحاسن وأرض دلصتها السيول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 483 انتقلت بها من حال الى حال فجعلتها ملساء ومنه درع دلاص قال أبو الطيب: لأمة فاضة أضاة دلاص ... أحكمت نسجها يدا داوود ودلع وأدلع لسانه أخرجه من فمه ودلع بنفسه واندلع خرج واسترخى من كرب أو عطش كما يدلع الكلب ومن المجاز: اندلع السيف من غمده واندلق، واندلعت ألسنة النيران والمدلّع المتربي في العز والنعمة والاسم الدلاعة وهو من كلام العامة فهو عامي فصيح، ودلف إذا مشى مشي المقيد يقال دلف الشيخ والمقيّد دليفا ودلوفا وهو فوق الدبيب وشيخ دالف وعجائز دوالف قال طرفة: لا كبير دالف من هرم ... أرهب الناس ولا كلّ الظفر وجاء يدلف بحمله لثقله. ودلق عليهم السيل ودلقت عليهم الخيل واندلقت، ودلقوا عليهم الغارة شنوها ودلق البعير شقشقته أخرجها، وضربه فاندلقت أقتاب بطنه، ودلك الشيء مرسه بيده وقد تقدم ودله على الطريق وهو دليل المفازة، ودلت تدلّ وهي حسنة الدل والدلال، أي أخرجت كل ما لديها من مفاتن جسمية لتستهوي بها الآخرين ودله فلان دلها تحير وذهب عقله من هم أو عشق ففيه انتقال معنوي وأدليت دلوي في البئر أرسلتها فيها ودلى رجليه من السرير وتدلت الثمرة من الشجرة همت بالانتقال منها وأدلى بحقه وبحجته أحضرها فكأنه نقلها الى مكان النقاش ويطول بنا القول إن رحنا تنقصى ما في هذه المادة العجيبة. (غَسَقِ اللَّيْلِ) : الغسق الظلمة وقيل دخول أول الليل قاله النضر بن شميل وقيل هو سواد الليل وظلمته وأصله من السيلان يقال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 484 عسقت العين أي سال دمعها فكأن الظلمة تنصب على العالم وتسيل عليهم وفي الأساس: «يقولون من الغسق الى الفلق وهو دخول أول الليل حين يختلط الظلام وقد غسق الليل يغسق غسقا، وبنو تميم على أغسق، قال ابن قيس: إن هذا الليل قد غسقا ... واشتكيت الهمّ والأزقا وقال جساس: أزور إذا ما أغسق الليل خلّتي ... حذار العدى أو أن يرجّم قائل (فَتَهَجَّدْ) : الهجود ترك النوم للصلاة وفيه خلاف بين أهل اللغة فقيل هو النوم وقيل الهجود مشترك بين النائم والمصلّي وقال ابن الأعرابي تهجد صلى من الليل وتهجد نام وهو قول أبي عبيد والليث ووزن تفعّل يأتي للسلب نحو تحرّج وتأثم وتحوّب وفي الأساس: وهجد الرجل هجودا وتهجّد: ترك الهجود للصلاة (فَتَهَجَّدْ بِهِ) وبات فلان متهجدا: متوحدا، وهجّدنا مكّنا من الهجود قال لبيد: قال هجّدنا فقد طال السّرى ... وقدرنا إن خنى الدهر غفل وفي القاموس والتاج: «الهجود النوم بالنهار والهجوع النوم بالليل والتهجد صلاة الليل» . (نافِلَةً) : زائدة. الإعراب: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) أقم الصلاة فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت ومفعول به ولدلوك في هذه اللام وجهان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 485 أحدهما أن تكون بمعنى بعد أي بعد دلوك الشمس كقولهم كتبت كتابي لثلاث خلون وستأتي معاني اللام في باب الفوائد والثاني أن تكون على بابها أي لأجل دلوكها وقد انتفى اتحاد الوقت واتحاد الفاعل في أقم الصلاة لدلوك الشمس، ففاعل القيام المخاطب وفاعل لدلوك هو الشمس، وزمنهما مختلف فزمن الاقامة متأخر عن زمن الدلوك فلذلك جر بلام التعليل، وقيل هي لابتداء الغاية وان في الكلام حذف مضاف، والجار والمجرور متعلقان بأقم على كل حال. والى غسق الليل فيه وجهان أحدهما أن تعلقه بأقم أيضا لانتهاء غاية إقامة الصلاة والثاني انه متعلق بمحذوف حال من الصلاة أي أقمها ممتدة إلى غسق الليل. (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) الواو عاطفة وقرآن عطف على الصلاة أو نصب على الإغراء فالأول معناه وأقم صلاة الصبح عبّر عن الصلاة بالقراءة وهي أحد أركانها والثاني معناه وعليك قرآن الفجر أي الزمه والأول أقل تكلفا كما انه لم يسمع إضمار أسماء الأفعال وهي عاملة وجملة إن قرآن إلخ تعليل للأمر وإن واسمها وجملة كان مشهودا خبرها، ومشهودا خبر كان واسمها مستتر تقديره هو. (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) الواو عاطفة ومن الليل متعلقان بتهجد أي تهجد بالقرآن بعض الليل ولك أن تعلقهما بمحذوف أي قم قومة من الليل وقال الحوفي من متعلقة بفعل دل عليه معنى الكلام تقديره واسهر من الليل بالقرآن، والفاء عاطفة وتهجد فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وبه متعلقان بتهجد ونافلة حال ولك صفة لنافلة أي صل حال كون الصلاة نافلة لك ويجوز أن تكون نافلة مصدرا كالعافية والعاقبة فتكون مفعولا مطلقا والمعنى فتنفل نافلة ولا أدري كيف أعربها بعضهم مفعولا لتهجد وهو فعل لازم إلا أن يقال انه ضمنه معنى أعبد وما أغنانا عن ذلك. (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) عسى من أفعال الرجاء والرجاء من الله قطعي الوقوع واسم عسى مستتر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 486 وأن يبعثك خبرها وربك فاعل يبعثك أو المسألة من باب التنازع ومقاما نصب على الظرف أي يبعثك في مقام أو مفعول مطلق لأن يبعثك هنا معناها يقيمك أو حال أي يبعثك ذا مقام ومحمودا صفة مقاما. (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) رب منادى محذوف منه حرف النداء وأدخلني فعل دعاء وفاعل مستتر والياء مفعول به ومدخل صدق مفعول مطلق لأنه مصدر ميمي وإضافته لصدق من إضافة الموصوف الى صفته أو للبيان وأخرجني مخرج صدق عطف على الجملة المماثلة. (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) واجعل عطف على ادخلني وأخرجني ولي مفعول ثان لاجعل وسلطانا مفعول أول لاجعل ونصيرا صفة ومن لدنك حال لأنه كان صفة لسلطانا أو متعلق بما تعلق به الأول. (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) أي قل عند دخولك مكة فاتحا وجملة جاء الحق مقول القول وزهق الباطل عطف عليه. (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) ان واسمها وجملة كان خبرها وزهوقا خبر كان. البلاغة: في قوله «وقل جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا» . فن التذييل وهو أن يذيل الناظم والناثر كلامه بعد تمامه وحسن السكوت عليه بجملة تحقق ما قبلها من الكلام وتزيده توكيدا وتجري منه مجرى المثل لزيادة التحقيق والفرق بينه وبين التكميل أن التكميل يرد على معنى يحتاج الى الكمال والتذييل لم يفد غير تحقيق الكلام الأول وتوكيده وهذه الآية من أعظم الشواهد عليه فالجملة الأخيرة هي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 487 التذييل الذي خرج مخرج المثل السائر ومن شواهده في النظم قول النابغة الذبياني: ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث أيّ الرجال المهذّب أي المنفي الفعال المرضي الخصال فصدر البيت دل بمفهومه على نفي الكامل من الرجال وعجزه تأكيد لذلك وتقرير لأن الاستفهام فيه للانكار أي لا مهذب في الرجال وقد اتفق علماء البديع على ان قوله: أي الرجال المهذب، من أحسن تذييل وقع في شعر لأنه خرج مخرج المثل ومن ثم قالوا ان النابغة كان أشعر الناس بربع بيت. الفوائد: 1- تحققت البشارة، وأتى أمر الله ودخل محمد مكة فاتحا، كما هو معروف في تاريخ السيرة، وقال جبريل لمحمد- صلى الله عليه وسلم- عند ما نزل بهذه الآية يوم الفتح: خذ مخصرتك ثم ألقها فجعل يأتي صنما صنما وهو ينكث بالمخصرة في عينه ويقول: جاء الحق وزهق الباطل فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعا وبقي منها صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من قوارير صفر فقال: يا علي ارم به فصعد فرمى به فكسره إلى آخر هذه القصة الفريدة. 2- معاني اللام الجارة: أورد ابن هشام في مغني اللبيب أن لّلام الجارة اثنين وعشرين معنى واكتفى غيره بذكر اثني عشر معنى فقط وأنكر أن يكون لها هذه المعاني الأخرى وفيما يلي تلخيص مفيد لذلك: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 488 1- الملك نحو «الله ما في السموات» . 2- شبه الملك. وجعل ابن هشام هذا القسم قسمين وهما الاختصاص نحو: السرج للدابة والاستحقاق وهي الواقعة بين معنى وذات نحو «العزة لله» والأمر لله. 3- التعدية الى المفعول به نحو «فهب لي من لدنك وليا» ورجح ابن هشام وغيره أن يمثل لها بنحو: ما أضرب زيدا لعمرو لأن ضرب متعد في الأصل ولكنه لما بني منه فعل التعجب نقل الى فعل بضم العين فصار لازما فعدي بالهمزة إلى زيد وباللام الى عمرو. 4- التعليل كقول أبي صخر الهذلي: وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بلّله القطر أي لأجل ذكري إياك. 5- التوكيد وهي الزائدة وهي أنواع منها: آ- اللام المعترضة بين الفعل المتعدي ومفعوله كقول ابن ميادة الرماح يمدح عبد الملك بن مروان: وملكت ما بين العراق ويثرب ... ملكا أجار لمسلم ومعاهد أي أجار مسلما ومعاهدا. ب- ومنها اللام المقحمة بين المتضايفين كقول زهير بن أبي سلمى: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبا لك يسأم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 489 والأصل لا أباك موجود وهو تعبير يحتمل المدح والذم وانجرار ما بعدها بالاضافة. ح- ومنها لام المستغاث، فإنها زائدة عند المحققين بدليل صحة إسقاطها. 6- تقوية العامل الذي ضعف إما بكونه فرعا في العمل كالمصدر واسمي الفاعل والمفعول وأمثلة المبالغة نحو «مصدقا لما معهم» ونحو «فعّال لما يريد» واما بتأخره عن المعمول نحو «إن كنتم للرؤيا تعبرون» والأصل إن كنتم تعبرون الرؤيا فلما أخر الفعل وقدم معموله عليه ضعف عمله فقوي باللام وجعلها ابن هشام في المغني زائدة والأصح أنها ليست كذلك. 7- موافقة «الى» أي لانتهاء الغاية نحو «كل يجري لأجل مسمى» أي الى أجل مسمى. 8- القسم وتختص بالجلالة لأنها خلف عن التاء نحو: لله لا يؤخر الأجل. 9- التعجب نحو: لله درك أي ما أكثر درك وأكثر ما تستعمل في النداء كقول امرئ القيس: فيا لك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل 10- الصيرورة أو العاقبة أو المآل نحو «فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا» وقول أبي العتاهية: لدوا للموت وابنوا للخراب فإن الموت ليس علة للولد والخراب ليس علة للبناء ولكن صار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 490 عاقبتهما ومآلهما الى ذلك وأنكرها الزمخشري وقال: والتحقيق انها لام العلة وان التعليل فيها وارد على المجاز دون الحقيقة» . 11- البعدية نحو «أقم الصلاة لدلوك الشمس» وقد تقدم ذكرها لأن الوقت إنما يدخل ونعلمه بالدلوك فلا تقام الصلاة إلا بعد الدلوك وهو ميل الشمس عن الاستواء ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» وقول متمم بن نويرة: فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا 12- الاستعلاء أي موافقة على حقيقة نحو «يخرون للأذقان» جمع ذقن أي عليها ومجازا نحو «وإن أسأتم فلها» أي عليها. 13- موافقة في نحو «قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو» أي لا يجليها في وقتها إلا هو. 14- موافقة «عند» كقراءة الحجوري «بل كذبوا بالحق لما جاءهم» بكسر اللام وتخفيف اللام أي عند مجيئه إياهم. 15- موافقة «مع» كقول متمم بن نويرة الآنف الذكر: فلما تفرقنا إلخ. 16- موافقة «من» نحو سمعت له صراخا وقول جرير: لنا الفضل في الدنيا وأنفك راغم ... ونحن لكم يوم القيامة أفضل أي ونحن منكم أفضل. 17- التبليغ نحو «قل لعبادي» وضابطها أن تجر اسم السامع لقول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 491 18- موافقة «عن» إذا استعملت مع القول نحو «وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه» . 19- التمليك نحو: وهبت لزيد دينارا. 20- التعليل نحو قول امرئ القيس: ويوم عقرت للعذارى مطيتي ... فيا عجبا من كورها المتحمل ومنها اللام الداخلة لفظا على المضارع نحو «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس» وانتصاب الفعل بعدها بأن مضمرة. 21- توكيد النفي وهي الداخلة في اللفظ على الفعل مسبوقا بما كان أو بلم يكن نحو «وما كان الله ليطلعكم على الغيب» ويسميها أكثر النحاة لام الجحود. 22- التبيين وقد تقدم ذكرها ونعيدهاهنا مفصلة فنقول هي ثلاثة أقسام: آ- ما تبين المفعول من الفاعل وضابطها أن تقع بعد فعل تعجب أو اسم تفضيل مفهمين حبا أو بغضا تقول ما أحبني وما أبغضني فإن قلت لفلان: أنت فاعل الحب والبغض وهو مفعولهما وإن قلت: الى فلان فالأمر بالعكس. ب وج- ما يبين فاعلية غير ملتبسة بمفعولية وما يبين مفعولية غير ملتبسة بفاعلية ومصحوب كل منهما إما غير معلوم مما قبلها أو معلوم لكن استؤنف بيانه تقوية للبيان وتوكيدا له واللام في ذلك كله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 492 متعلقة بمحذوف، مثال المبينة للمفعولية: سقيا لزيد وجدعا له، فهذه اللام ليست متعلقة بالمصدرية ولا بفعليهما المقدرين لانهما متعديان ولا هي مقوية للعامل لضعفه بالفرعية وإنما هي لام مبينة للمدعو له أو عليه. واختلف في قوله تعالى «هيهات هيهات لما توعدون» فقيل اللام زائدة وما فاعل وقيل الفاعل ضمير مستتر راجع الى البعث والإخراج فاللام للتبيين والبحث في اللام طويل ومرجعه للمطولات. [سورة الإسراء (17) : الآيات 82 الى 84] وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) اللغة: (نَأى) : النأي بالجانب أن يوليه عطفه ويوليه ظهره وأراد الاستكبار لأن ذلك ديدن المستكبرين وفي المصباح: «ونأى نأيا من باب نفع بعد» ويتعدى بنفسه وبالحرف وهو الأكثر فيقال نأيته ونأيت عنه ويتعدى بالهمزة فيقال أنأيته. (شاكِلَتِهِ) : مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة من قولهم طريق ذو شواكل وهي الطريق التي تتشعب منه والمعنى كل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 493 إنسان يعمل حسب جوهر نفسه فإن كانت نفسه شريفة طاهرة صدرت عنه أفعال جميلة وإن كانت نفسه كدرة خبيثة صدرت عنه أفعال خبيثة فاسدة. الإعراب: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة وننزل فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره نحن ومن القرآن حال على أن من للتبيين ويجوز أن تكون لابتداء الغاية أو تبعيضية فهي متعلقة بننزل كما اختار أبو حيان وما مفعول به وهو مبتدأ وشفاء خبر والجملة صلة الموصول ورحمة عطف على شفاء وللمؤمنين متعلقان بشفاء. (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) الواو حالية ولا نافية ويزيد الظالمين فعل وفاعل مستتر ومفعول به وإلا أداة حصر وخسارا مفعول به ثان. (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) الواو حرف عطف وإذا ظرف مستقبل وجملة أنعمنا مضافة للظرف وهو فعل وفاعل وعلى الإنسان متعلقان به وجملة أعرض لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ونأى عطف على أعرض وبجانبه متعلقان بنأى. (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً) عطف على ما تقدم وجملة مسه الشر مضافة للظرف وجملة كان لا محل لها واسم كان مستتر تقديره هو ويئوسا خبر كان. (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) كل مبتدأ أي كل أحد وجملة يعمل خبر وعلى شاكلته متعلقان بيعمل. (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا) الفاء استئنافية وربكم مبتدأ وأعلم خبره وبمن متعلقان بأعلم وهو مبتدأ وأهدى خبر والجملة صلة وسبيلا تمييز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 494 [سورة الإسراء (17) : الآيات 85 الى 87] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) الإعراب: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) الواو استئنافية ويسألونك فعل مضارع وفاعل ومفعول به وعن الروح متعلقان بيسألونك والضمير يعود على اليهود المتعنتين الذين سألوه تجنيا منهم عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة. (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) الروح مبتدأ ومن أمر ربي خبر أي انه مما استأثر الله بعلمه والواو عاطفة أو حالية وما نافية وأوتيتم فعل ماض مبني للمجهول ومن العلم متعلقان بأوتيتم وإلا أداة حصر وقليلا مفعول به ثان لأوتيتم أي شيئا قليلا بالنسبة الى علمه تعالى وان كان كثيرا في حد ذاته. (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وان شرطية وشئنا فعل ماض وفاعل في محل جزم فعل الشرط واللام جواب القسم وجواب الشرط محذوف أي ذهبنا به على القاعدة في اجتماع الشرط والقسم من حذف جواب المتأخر استغناء عنه بجواب المتقدم وبالذي متعلقان بنذهبن وجملة أوحينا صلة وإليك متعلقان بأوحينا. (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا) ثم حرف عطف ولا نافية وتجد فعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 495 مضارع مرفوع وفاعله أنت ولك متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لوكيلا وبه متعلقان بتجد وعلينا متعلقان بوكيلا ووكيلا مفعول به أي لا تجد من يتوكل علينا باسترداده بعد رفعه. (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) يجوز في هذا الاستثناء أن يكون متصلا لأن الروح يندرج في قوله وكيلا أي إلا رحمة فيكون مستثنى أو بدلا من وكيلا ويجوز أن يكون منقطعا. وإلا بمعنى لكن فتعرب رحمة مفعولا من أجله والتقدير حفظناه عليك للرحمة أو مفعولا مطلقا والتقدير لكن رحمناك رحمة ومن ربك صفة لرحمة وان واسمها وجملة كان خبرها وعليك حال لأنه كان صفة لكبيرا وكبيرا خبر كان. [سورة الإسراء (17) : الآيات 88 الى 89] قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) الإعراب: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) لئن اللام موطئة للقسم وإن شرطية واجتمعت فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والانس فاعل والجن عطف على الانس وعلى أن يأتوا: أن وما في حيزها في محل جر بعلى والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 496 أي متظاهرين ومتعاونين وبمثل متعلقان بيأتوا وهذا مضاف لمثل والقرآن بدل. (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) لا يأتون لا نافية ويأتون فعل مضارع مرفوع لأنه جواب القسم المحذوف لتقدمة لا جواب الشرط والواو فاعل وبمثله متعلقان بيأتون ولو: الواو حالية ولو وصلية وكان فعل ماض ناقص وبعضهم اسم كان ولبعض متعلقان بظهيرا وظهيرا خبر كان وجملة لو كان إلخ حالية ولهذا التركيب قاعدة نوردها في باب الفوائد. (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وصرفنا فعل وفاعل وفي هذا متعلقان بصرفنا والقرآن بدل ومن كل مثل صفة للمفعول به المحذوف أي من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه. (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) فأبى عطف على صرفنا وأكثر الناس فاعل وإلا أداة حصر لأن أبى متأول بالنفي كأنه قيل فلم يرضوا إلا كفورا، وكفورا مفعول به. الفوائد: إذا أتى حرف العطف قبل لو الوصلية كان عاطفا على مقدر ويكون حذف المعطوف عليه مطردا لدلالة المعطوف دلالة واضحة عليه ففي قوله تعالى «ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا» فالعطف هنا على مقدر أي لا يأتون بمثله لو لم يكن بعضهم ظهيرا لبعض ولو كان بعضهم ظهيرا لبعض فإن الإتيان بمثله حيث انتفى عند التظاهر فلأن ينتفي عند عدمه أولى وعلى هذه النكتة يدور ما في إن ولو الوصليتين من التأكيد ومحله النصب على الحال حسبما عطف عليه أي لا يأتون بمثله على كل حال مفروض ولو في هذه الحال المنافية لعدم الإتيان به فضلا عن غيرها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 497 [سورة الإسراء (17) : الآيات 90 الى 93] وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) اللغة: (يَنْبُوعاً) : الينبوع بفتح الياء عين غزيرة لا ينصب ماؤها وهو يفعول من نبع الماء كيعبوب من عب الماء إذا زخر وكثرت أمواجه وللنون مع الباء فاء وعينا للكلمة سرّ عجيب مطرد وهو أنها تدل على الظهور والبروز وقد أحصيناها في جميع تراكيبها فرأيناها لا تنفك عن أداء هذا المعنى: فنبأ معناها ارتفع والنبأ الخبر والنبوءة، والنبوة الاخبار عن الغيب أو المستقبل، والنابئ المكان المرتفع المحدودب وسيل نابىء طارئ من حيث لا يدرى وكل شيء يظهر، قال: ألا فاسقياني وانفيا عنكما القذى ... وليس القذى بالعود يسقط في الخمر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 498 ولكن قذاها كل أشعث نابىء ... أتتنا به الأقدار من حيث لا ندري ونبّ التيس نبا: صاح عند الهياج وليس أظهر من ذلك ورمح مطرد الأنابيب وشرب من أنبوب الكوز وله أنبوب من نخل وغيره، قال: أو من مشعشعة ورهاء نشوتها ... أو من أنابيب رمّان وتفّاح ونبت المكان صار ذا نبت ظاهر وظهر النبت والنبات في الأرض والنابتة مؤنث النابت والناشئة من الأولاد والأنعام ونبث التراب من الحفرة استخرجه، ونبثوا عن الأمر: بحثوا عنه ولا يزالون يتنابثون عن الأسرار ويتباحثون عن الأخبار والانبوثة بضم الهمزة: لعبة للصبيان يدفنون شيئا في حفيرة فمن استخرجه غلب، وانه لنفّاج نبّاج ليس معه إلا الكلام، ونبحته الكلاب معروفة واستنبح الضيف الكلاب عند ظهوره، قال الأخطل وهو أهجى بيت: قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم: بولي على النار ونبذ الشيء من يده طرحه ورمى به وصبي منبوذ والتقط فلان منبوذا ونبذ أمري وراء ظهره ونبذ النبيذ وهو أن يلقي الثمر في الجرّ وغيره، والنبيذ التمر المنبوذ والخمر المعتصر من العنب وغيره وجمعه أنبذة والنبّاذ بائع النبيذ، ونبر الغلام ترعرع ونبر المغنّي رفع صوته بعد خفض ونبر الحرف همزه والمنبر محل مرتفع يرتقيه الخطيب أو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 499 الواعظ يكلم منه الجمع سمي بذلك لارتفاعه وكسرت الميم على التشبيه بالآلة والجمع منابر، والنبز اللقب ونبزه بكذا لقبه ليعرف به وهو شائع في الألقاب القبيحة، ونبس بالمجلس ونبّس تكلم وأكثر استعماله بعد النفي يقال: ما نبس بكلمة وتقول كلّمته فعبس وما نبس، ونبش الشيء المستور أبرزه وأظهره ونبش الكنز من الأرض كشفه واستخرجه وهو ينبش الأسرار، قال: مهلا بني عمنا مهلا موالينا ... لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا وهو ينبش لعياله ويحترش إذا استخرج رزقهم من هنا وهنا واحتال، وانتبش العروق من الأرض استخرجها قال الكميت: موتهنّ انتباشهن من الأر ... ض ويحيين ما سكنّ القبورا أي ما دامت العروق تحت الأرض كانت حية فإذا انتبشت ماتت، والنبّاش فعال للمبالغة الذي ينبش القبور، ونبص الغلام بالطائر والكلب وهو أن يضمّ شفتيه ويدعوه، ونبض عرقه نبضا ونبضانا وتقول: رأيت ومضة برق كنبضة عرق، ونبط الماء نبع، واستنبط البئر أخرج ماءها واستنبط العرب صاروا نبطا، قال خالد بن الوليد لعبد المسيح بن بقيلة: أعرب أنتم أم نبيط؟ فقال: عرب استنبطنا ونبيط استعربنا، وقال أبو العلاء المعري: أين امرؤ القيس والعذارى ... إذ مال من تحته الغبيط استنبط العرب في الموامي ... بعدك واستعرب النبيط الجزء: 5 ¦ الصفحة: 500 وتقدم القول في النبع والينوع ونبغ الشيء خرج وظهر ونبغ الرجل: قال الشعر وأجاده ويقال إن النابغة قال الشعر على كبر سنه فاجاد فسمي النابغة وقيل بل لقوله: وحلت في بني القين بن جسر ... فقد نبغت لنا منهم شئون وهو نابغة من النوابغ ونبغ في العلم وفي كل صناعة. ونبق الشيء ينبق ظهر والنّبق والنّبق والنّبق والنّبق: حمل شجر السدر الواحدة نبقة وعن بعض العرب: ان النبق ليعجبني وان النّبق لي لمؤذ وفي الحديث «ونبقها كقلال هجر» ، ووقعنا في نبك من الأرض ونباك جمع نبكة وهي الأكمة المحددة الرأس ونبك المكان ارتفع وهضاب نوابك، قال ذو الرمة: طواهن تغويري إذا الآل أرفلت ... به الشمس أزر الحزورات النوابك ونبل الرجل كان ذا نبالة وفضل ظاهرتين ورجل نابل ونبّال معه نبل قال امرؤ القيس: أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال وليس بذي رمح فيطعنني به ... وليس بذي سيف وليس بنبّال ورجل تنبال: قصير، ونبه ينتبه للأمر فطن له وكان ذا نباهة وشرف، ونبا السيف عن الضريبة نبوّا ونبوة وسيف ناب ولكل صارم نبوة، قال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 501 أنا السيف إلا أن للسيف نبوة ... ومثلي لا تنبو عليك مضاربه وقد رمق سماء هذا المعنى حافظ ابراهيم فقال: لا تلم كفي إذا السيف نبا ... صّح مني العزم والدهر أبى (كِسَفاً) : قطعا يقال: كسفت الثوب قطعته وقال الزجاج كسف الشيء بمعنى غطاه قيل ولا يعرف هذا لغيره وفي الأساس: «وهذه كسفة وكسف وكسف من السحب وأعطني كسفة من الثوب: قطعة» . (قَبِيلًا) : كفيلا بما تقول شاهدا بصحته وقيل مقابلة وعيانا وقيل هو جمع قبيلة أي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة يشهدون بصحة ما تقول واللغة تحتمل الجميع. (زُخْرُفٍ) ذهب وهو المراد هنا ولها معان شتى منها حسن الشيء وزخرف الكلام أباطيله المموهة وزخرف الأرض ألوان نباتها والجمع زخارف وزخرف الشيء حسنه وزينه، والكلام موّهه بالكذب. الإعراب: (وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل ولن حرف نفي ونصب واستقبال ونؤمن نصب بها وفاعل نؤمن مستتر تقديره نحن ولك متعلقان بنؤمن وحتى حرف غاية وجر وتفجر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ولنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ومن الأرض متعلقان بتفجر وينبوعا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 502 مفعول به. (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً) أو حرف عطف وتكون عطف على تفجر وهو المطلب الثاني من مطالبهم الستة. ولك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر تكون المقدم، وجنة اسمها المؤخر، فتفجر: الفاء عطف وتفجر عطف على تكون وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والأنهار مفعول به وخلالها ظرف متعلق بمحذوف حال أي كائنة خلالها وتفجيرا مفعول مطلق. (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) أو حرف عطف وتسقط عطف على ما تقدم وهو المطلب الثالث والسماء مفعول به والكاف حرف جر أو اسم بمعنى مثل وهي مع ما المصدرية المؤولة بمصدر نعت لمصدر محذوف أو نصب على الحال وعلينا متعلقان بتسقط وكسفا حال من السماء والاشارة الى قوله تعالى «إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء» . (أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا) وهذا هو المطلب الرابع من مطالبهم المتعنتة وبالله متعلقان بتأتي والملائكة عطف على الله وقبيلا حال من الله والملائكة وقد تقدم معناها في باب اللغة. (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) وهذان هما المطلبان الخامس والسادس. ولك خبر يكون المقدم وبيت اسم يكون المؤخر ومن زخرف متعلقان بمحذوف صفة لبيت أو حرف عطف وترقى عطف على ما تقدم وبه تكتمل المطالب الستة المتعنتة وفي السماء جار ومجرور متعلقان بترقى ومعنى الرقي الصعود في السماء. (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) الواو عاطفة ولن حرف نفي ونصب واستقبال ونؤمن منصوب بها وفاعله ضمير مستتر تقديره نحن ولرقيك متعلقان بنؤمن وحتى حرف غاية وجر وتنزل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت وعلينا متعلقان بتنزل وكتابا مفعول به وجملة نقرؤه نعت لكتابا أو حال مقدرة من نا في علينا. (قُلْ سُبْحانَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 503 رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت أي قل في الرد على العناد واللجاج وسبحان ربي مفعول مطلق والجملة مقول القول ومعناها التعجب من هذا اللجاج وتنزيه الله سبحانه عن أن يشاركه أحد في قدرته وهل حرف استفهام معناه النفي والإنكار وكنت فعل ماض ناقص والتاء اسمها وإلا أداة حصر وبشرا خبر كنت أو حال ورسولا نعت أو خبر كنت. [سورة الإسراء (17) : الآيات 94 الى 96] وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) الإعراب: (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) الواو عاطفة أو استئنافية وما نافية ومنع فعل ماض والناس مفعول به مقدم وأن وما في حيزها في محل نصب مفعول به ثان لمنع وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بمنع أي وما منع الناس الايمان وقت مجيء الهدى وجملة جاءهم الهدى مضاف إليها الظرف. (إِلَّا أَنْ قالُوا: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا) إلا أداة حصر وأن وما في حيزها في محل رفع فاعل منع والهمزة للاستفهام الانكاري وما أنكروه هو المنكر، وبعث الله فعل وفاعل وبشرا حال من رسولا لأنه كان نعتا له وتقدم عليه كما هي القاعدة ورسولا مفعول به. (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 504 مُطْمَئِنِّينَ) قل فعل أمر ولو شرطية وكان فعل ماض ناقص وفي الأرض متعلقان بمحذوف خبر كان المقدم وملائكة اسمها المؤخر وجملة يمشون صفة لملائكة ومطمئنين حال ويجوز في كان التمام وملائكة هي الفاعل (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا) اللام واقعة في جواب لو ونزّلنا فعل وفاعل وعليهم متعلقان بنزلنا ومن السماء متعلقان بنزلنا أيضا وملكا حال من رسولا، ورسولا مفعول نزلنا. (قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) كفى فعل ماض والباء حرف جر زائد والله مجرور بالباء لفظا وهو فاعل كفى محلا وشهيدا تمييز وبيني الظرف متعلق بشهيدا وبينكم عطف على الظرف الأول. (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) إن واسمها وجملة كان خبرها وخبيرا بصيرا خبران لكان. [سورة الإسراء (17) : الآيات 97 الى 100] وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 505 الإعراب: (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل نصب مفعول مقدم ليهد، ويهد فعل الشرط والله فاعل فهو الفاء رابطة لجواب الشرط لأنه جملة اسمية وهو مبتدأ والمهتدي خبره وتحذف الياء في رسم المصحف وجملة هو المهتدي في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من على الأصح. (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) الواو عاطفة والجملة معطوفة على سابقتها ولهم متعلقان بأولياء ومن دونه حال. (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) ونحشرهم الواو استئنافية ونحشرهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به ويوم القيامة متعلق بنحشرهم وعلى وجوههم حال من الهاء في نحشرهم وعميا وما عطف عليه أحوال أيضا. (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) مأواهم جهنم جملة مستأنفة مؤلفة من مبتدأ وخبر وكلما ظرف متضمن معنى الشرط وقد تقدم وهو متعلق بالجواب وهو زدناهم وسعيرا مفعول به ثان وجملة كلما خبت حال من جهنم. (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا) ذلك اسم اشارة مبتدأ وجزاؤهم خبره وبأنهم أن وما في حيزها في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان بجزاؤهم ويجوز أن يكون جزاؤهم بدلا من ذلك وبأنهم هو الخبر وجملة كفروا خبر أن وبآياتنا متعلقان بكفروا (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) الهمزة للاستفهام الانكاري وإذا ظرف مستقبل وكنا عظاما كان واسمها وخبرها ورفاتا عطف على عظاما والهمزة للاستفهام الإنكاري أيضا وان واسمها واللام المزحلقة ومبعوثون خبر إنا وخلقا حال وجديدا نعت ولك أن تجعل خلقا مفعولا مطلقا من معنى الفعل أي نبعث بعثا جديدا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 506 (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) الهمزة للاستفهام الانكاري للرد على إنكارهم، والواو عاطفة على محذوف وقد تقدم تحقيقه كثيرا وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يروا والذي صفة لله وجملة خلق السموات والأرض صلة وقادر خبر أن وعلى أن متعلقان بقادر ومثلهم صفة للمفعول المحذوف أي خلقا مثلهم وتقرير ذلك أن مثل الشيء مساويا له في حال فجاز أن يعبر به عن الشيء نفسه. (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ) الواو عاطفة وجعل معطوف على أو لم يروا لأنه في تقدير قد رأوا والمعنى قد علموا بالدلائل العقلية أن من قدر على خلق السموات والأرض هو قادر على خلق أمثالهم وجعل أجل لهم، ولهم متعلقان بمحذوف مفعول جعل الثاني وأجلا مفعول جعل لأول ولا ريب فيه الجملة صفة لأجلا ولا نافية للجنس وريب اسمها المبني على الفتح وفيه خبرها. (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) تقدم تقريره قريبا فجدد به عهدا. (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) لو شرطية وحقها أن تدخل على الأفعال دون الأسماء فلا بد من تقدير فعل يفسره ما بعده أي لو تملكون فلما أضمر على شريطة التفسير انفصل الضمير فأنتم تأكيد للفاعل المستتر في الفعل المحذوف الذي يفسره ما بعده وسيأتي بحث ذلك مفصلا في باب الفوائد. وغلط من أعرب أنتم فاعلا لأن ضمير المخاطب لا يجوز إظهاره وجملة تملكون مفسرة لا محل لها وخزائن رحمة ربي مفعول به. (إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) اذن حرف جواب وجزاء مهمل، ولأمسكتم اللام واقعة في جواب لو والجملة لا محل لها وخشية الانفاق مفعول لأجله والواو حالية وكان الإنسان قتورا كان واسمها وخبرها والجملة نصب على الحال وسيرد تقرير هذا المعنى في باب الفوائد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 507 الفوائد: 1- «لو» والاسم بعدها: تقدم القول في غير موضع من هذا الكتاب أن الشرط لا يكون إلا بالأفعال لأنك تعلق وجود غيرها على وجودها والأسماء ثابتة موجودة لا يصح تعليق وجود شيء على وجودها ولذلك لا يلي حرف الشرط إلا الفعل ويقبح أن يتقدم الاسم فيه على الفعل، ولو داخلة في هذا التحديد وإذا وقع بعدها الاسم وبعده الفعل فالاسم محمول على فعل قبله مضمر يفسره الظاهر وذلك لاقتضائها الفعل دون الاسم ومن كلام حاتم «لو ذات سوار لطمتني» على تقدير لو لطمتني ذات سوار. 2- معنى «وكان الإنسان قتورا» : أورد بعض المتعنتين سؤالا اعترض فيه على قوله تعالى «وكان الإنسان قتورا» وقال على طريق التعنت والجدل اللفظي: كيف يصح هذا السلب الكلّيّ؟ وكيف يكون عموم الجنس الانساني ممسكا بخيلا ونحن نرى من بني الإنسان الجواد الكريم؟ والجواب في غاية البساطة وهو أن بناء أمر الإنسان في الأصل قائم على الحاجة والبخل بما يحتاج إليه للحفاظ على ما فيه قوام معيشته وملاك أمره وكسب الذكر الجميل والثناء العطر غاية لما يبذله حتى أن من بينهم- كما قال المعترض- لا الجواد الكريم فحسب بل الذي يرى بذل النفس والنفيس على حد قوله: يجود بالنفس إن ضن الجواد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود الجزء: 5 ¦ الصفحة: 508 3- ذهب بعض المتأخرين من النحاة الى قياس إذا الظرفية على إذ في إلحاق التنوين بها و «إذا» ذا حذفت الجملة التي تضاف هي إليها عوض عنها التنوين كقوله تعالى «وإذا لآتيناهم» و «إذا لأمسكتم» و «إذا لأذقناك» و «إذا لا يلبثون» و «إنكم إذا لمن المقربين» قالوا وليست إذا في هذه الأمثلة الناصبة للمضارع لأن تلك تختص به ولذا عملت فيه ولا يعمل إلا ما يختص وهذه لا تختص به بل تدخل على الماضي وعلى الاسم وممن ذكر هذا الكافجي وأبو حيان في تذكرته والزركشي في البرهان وما نحسبه بعيدا قالوا «وتقول لمن قال أنا آتيك إذا أكرمك» بالرفع على معنى إذا أتيتني أكرمتك فحذف أتيتني وعوض التنوين من الجملة فسقطت الألف لالتقاء الساكنين. [سورة الإسراء (17) : الآيات 101 الى 104] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 509 اللغة: (بَصائِرَ) : عبر وبينات جمع بصيرة قال قس بن ساعدة الإيادي: في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر وله فراسة ذات بصيرة وذات بصائر وهي الصادقة ورأيت عليك ذات البصائر قال الكميت: ورأوا عليك ومنك في المهد النهى ذات البصائر (مَثْبُوراً) هالكا أو مصروفا عن الخير وفي المصباح: «وثبر الله الكافر ثبورا من باب قعد أهلكه وثبر هو يتعدى ويلزم» . (لَفِيفاً) : قيل هو مصدر لف يلف لفيفا نحو النذير والنكير من لف الشيء يلفه لفا والألف المتداني الفخذين أو عظيم البطن وقيل هو اسم جمع لا واحد له من لفظه والمعنى جئنا بكم جميعا. الإعراب: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل وموسى مفعول به أول وتسع آيات مفعول به ثان وبينات صفة للعدد فهي منصوبة أو صفة للمعدود فهي مجرورة وقد تقدم ذكر هذه الآيات وما فيها من خلاف ونوجزها هنا في رواية ابن عباس قال: هي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والحجر والبحر والطور الذي نتقه على بني إسرائيل وعن الحسن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 510 هي الطوفان والسنون ونقص الثمرات مكان الحجر والبحر والطور وقيل غير ذلك ممالا علاقه له بكتابنا هذا. (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) الفاء الفصيحة إذا كان الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل الخطاب لموسى فتكون عاطفة على قول محذوف أي فقلنا له اسأل بني إسرائيل أي اسأل فرعون، وبني إسرائيل مفعول ثان وإذ ظرف لما مضى متعلق بآتينا على الأول وبالقول المقدر على الثاني وجملة جاءهم مضافة إليها الظرف فقال له عطف على مقدر أي إذ جاءهم وبلغهم الرسالة، فقال له فرعون فعل وفاعل وله متعلقان بقال، وإني ان واسمها واللام المزحلقة وأظنك فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا ومفعول به ويا موسى يا حرف نداء وموسى منادى مفرد علم ومسحورا مفعول به ثان أي سحرت فخولط عقلك واختل كلامك. (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) قال فعل ماض وفاعله مستتر أي موسى واللام جواب للقسم المحذوف وعلمت فعل وفاعل وما نافية وأنزل فعل ماض وهؤلاء مفعول به أي الآيات التي جئت بها وإلا أداة حصر ورب السموات والأرض فاعل وبصائر حال أي أنزلها بصائر وإنما احتجنا الى هذا التقدير لأن ما بعد إلا لا يكون معمولا لما قبلها وأجازه بعضهم فهي حال من هؤلاء. (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وجملة أظنك خبر إن ويا فرعون نداء ومثبورا مفعول ثان لأظنك. (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ) الفاء عاطفة وأراد فعل وفاعل مستتر أي فرعون وأن وما في حيزها مصدر مؤول مفعول أراد ومن الأرض متعلقان بيستفزهم. (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) الفاء عاطفة وأغرقناه فعل وفاعل ومفعول به ومن الواو واو المعية ومن مفعول معه ويجوز عطفه على الهاء وسيأتي تفصيل ذلك في باب الفوائد ومعه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 511 ظرف مكان صلة من وجميعا حال. (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ) وقلنا عطف على ما تقدم ومن بعده حال ولبني إسرائيل متعلقان بقلنا. (اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) جملة اسكنوا مقول القول والأرض مفعول به على السعة وقد تقدم تفصيل ذلك فإذا الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل وجاء وعد الآخرة فعل وفاعل وجملة جئنا لا محل لها وبكم متعلقان بجئنا ولفيفا حال. الفوائد: حالات المفعول معه: للمفعول معه خمس حالات: 1- وجوب العطف نحو: كل رجل وعمله ونحو اشترك زيد وعمرو لأن الاشتراك لا يتأتى الا من اثنين. 2- ترجيح العطف نحو: جاء زيد وعمرو، لأنه الأصل. 3- وجوب المفعول معه نحو: مالك وزيدا، لامتناع العطف، ونحو: مات زيد وطلوع الشمس لأن العطف يقتضي التشريك وهو باطل هنا. 4- ترجيح المفعول معه نحو قوله: فكونوا أنتم وبني أبيكم ... مكان الكليتين من الطحال ونحو قمت وزيدا، ففي المثال الأول يكون المعنى مع العطف كونوا لهم وليكونوا لكم وذلك خلاف المقصود وفي المثال الثاني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 512 لا يحسن العطف على الضمير المتصل المرفوع إلا بعد توكيده بضمير منفصل. 5- امتناع كليهما نحو: علفتها تبنا وماء باردا ... حتى غدت همالة عيناها وقول الآخر: إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزججن الحواجب والعيونا أما امتناع العطف فلانتفاء المشاركة لأن الماء لا يشاركه التبن في العلف والعيون لا تشارك الحواجب في التزجيج لأن تزجيج الحواجب تدقيقها وتطويلها يقال رجل أزج وامرأة زجاء إذا كانت حاجباهما دقيقين طويلين وأما امتناع المفعول معه فلانتفاء المعية في البيت الأول لأن الماء لا يصاحب التبن في العلف وانتفاء فائدة الاعلام بمصاحبة العيون للحواجب في البيت الثاني إذ أن المعلوم أن العيون مصاحبة للحواجب فلا فائدة في الاعلام بذلك ويجب في ذلك إضمار فعل ناصب للاسم الواقع بعد الواو على أنه مفعول به أي علفتها تبنا وسقيتها ماء باردا، وزججن الحواجب وكحلن العيون. [سورة الإسراء (17) : الآيات 105 الى 111] وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 513 اللغة: (مُكْثٍ) بتثليث الميم أي تطاول في المدة وعلى مهل وتؤدة ولم ترد قراءة بالكسر. (الْأَذْقانِ) : جمع ذقن وهو مجتمع اللحيتين وسيأتي تفصيل واسع في باب البلاغة. (تُخافِتْ) : تسر، يقال خفت الصوت من بابي ضرب وجلس إذا سكن ويعدى بالباء فيقال خفت الرجل بصوته إذا لم يرفعه وخافت بقراءته مخافته إذا لم يرفع صوته بها وخفت الزرع ونحوه مات فهو خافت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 514 الإعراب: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) الكلام هنا مرتبط بما تقدم من كلامه تعالى عن القرآن وقوله: «قل لئن اجتمعت الانس والجن» إلخ على طريق الاستطراد المتبع في أساليب العرب حيث ينتقلون من الصدد الذي هم فيه إلى غيره ثم يعودون إليه، وعلى كل فالواو استئنافية وبالحق متعلقان بأنزلناه وأنزلناه فعل وفاعل ومفعول به وبالحق متعلقان بنزل فالباء سببية فيهما ولك أن تجعلها للملابسة فيتعلق الجار والمجرور بمحذوف حال أي ملتبسا والحال من المفعول به أو ملتبسين بالحق فالحال من الفاعل وسيأتي المزيد من هذا البحث في باب البلاغة. (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) الواو عاطفة وما نافية وأرسلناك فعل وفاعل ومفعول به وإلا أداة حصر ومبشرا حال ونذيرا معطوف عليه وسيأتي الحديث عن هذا القصر في باب البلاغة. (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا) وقرآنا منصوب على الاشتغال بفعل محذوف يفسره ما بعده فتكون جملة فرقناه مفسرة أي جعلنا نزوله مفرقا منجما حسب الحوادث والوقائع ومقتضيات الأحوال، ولتقرأه اللام للتعليل وتقرأه مضارع منصوب بأن مضمرة والجار والمجرور متعلقان بفرقناه وفرقناه فعل وفاعل ومفعول به وعلى الناس متعلقان بتقرأه وعلى مكث في موضع الحال من الفاعل أي متريثا متمهلا وشيئا بعد شيئا رعاية لمصالح العباد ومعايشهم، ونزلناه فعل وفاعل ومفعول به وتنزيلا مفعول مطلق. (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) جملة آمنوا مقول القول والأمر للاحتقار أي سواء علينا إيمانكم أو عدمه فما أنتم بمن يؤبه لهم أو لا تؤمنوا وأو حرف عطف ولا ناهية وتؤمنوا مجزوم بلا. (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 515 لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) ان واسمها وجملة أوتوا العلم صلة والعلم مفعول ثان لأوتوا والأول نائب الفاعل وهو الواو ومن قبله حال والجملة تعليلية للقول على سبيل التسلية له صلى الله عليه وسلم وإذا ظرف مستقبل متعلق بيخرون وجملة يتلى مضاف إليها الظرف وعليهم متعلقان بيتلى وجملة يخرون لا محل لها لأنها جواب إذا وللأذقان متعلقان بيخرون وسجدا حال. (وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا) ويقولون عطف على يخرون وسبحان ربنا مفعول مطلق وإن مخففة مهملة واسمها ضمير الشأن وجملة كان خبرها ووعد ربنا اسم كان واللام الفارقة ومفعولا خبرها. (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) الجملة معطوفة على سابقتها وسيأتي سر هذا التكرير في باب البلاغة وجملة يبكون حالية والواو للحال ويزيدهم فعل وفاعل مستتر والهاء مفعول به أول وخشوعا مفعول به ثان وسيأتي سر هذين الحالين المتتابعين في باب البلاغة. (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) سمعوا محمدا يدعو مرة في سجوده ويقول يا الله يا رحمن فقال أبو جهل إن محمدا ينهانا عن آلهتنا وهو يدعو إلهين اثنين فنزلت، وجملة ادعوا الله مقول القول والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء وهي تنصب مفعولين حذف أحدهما استغناء عنه للعلم به ولفظ الجلالة مفعول به وأو للتخيير فهي عاطفة وادعوا معطوف على ادعوا الأولى والرحمن مفعول به أي سموه بهذا الاسم أو بذاك (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أيا شرطية وهي منصوبة بتدعوا على أنها مفعول مقدم وما زائدة للابهام المؤكد وتدعوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والفاء رابطة للجواب لأنه جملة اسمية وله خبر مقدم والأسماء مبتدأ مؤخر والحسنى صفة وقيل ما شرطية وجمع بين أداتي الشرط للتأكيد ولاختلاف اللفظين ولا داعي لهذا وستأتي الأسماء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 516 الحسنى في باب الفوائد. (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا) الواو عاطفة ولا ناهية وتجهر مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت نهي عن المجاهرة تفاديا لشتائمهم وهذا من محاسن الأخلاق ولا تخافت عطف على ولا تجهر أي لا تجعلها غير مسموعة لمن خلفك من المصلين وابتغ فعل أمر بني على حذف حرف العلة وبين ظرف متعلق بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لسبيلا وذلك مضاف للظرف والاشارة إلى اثنين وهما المجاهرة والمخافتة ولذلك صح دخول بين، وسبيلا مفعول ابتغ. (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) جملة الحمد لله مقول القول والحمد مبتدأ ولله خبر والذي صفة وجملة لم يتخذ ولدا صلة وترتيب الحمد على عدم اتخاذ الولد لأن من كان هذا وصفه فهو القادر ولا شك على إسباغ النعم وايلائها أما صاحب الولد فهو مستهدف للتلهي بولده عن غيرهم والاشتغال بهم عمن سواهم. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) عطف على لم يتخذ ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم وله خبرها المقدم وشريك اسمها المؤخر وفي الملك متعلقان بشريك ونفي الشريك أدعى الى الحمد لعدم وجود المزاحم الذي تتعارض إرادته معه. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) عطف على ما تقدم ونفي النصير يدل على الاستغناء وإنما يستغني القوي القادر على زيادة الإنعام ومن الذل متعلقان بولي أي ناصر وكبّره عطف على قل وهو فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وتكبيرا مفعول مطلق للتأكيد. البلاغة: حفلت خواتم سورة الاسراء بطائفة من فنون البلاغة نوجزها فيما يلي فأولها: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 517 1- الذكر أو التصريح: بقوله تعالى «وبالحق أنزلناه وبالحق نزل» فإنه لو ترك الإظهار وعدل عنه الى الإضمار كما يقتضي السياق فقال: وبالحق أنزلناه وبه نزل، لم يكن فيه من الفخمية ما فيه الآن ويسميه بعضهم بالتصريح ويورد عليه شاهدا قول البحتري: قد طلبنا فلم نجد لك في السوء ... دد والمجد والمكارم مثلا والمعنى قد طلبنا مثلا فلم نجده وحذف لأن هذا المدح إنما يتم في المثل وأما الطلب فكالشيء الذي يذكر ليبنى عليه الغرض المطلوب وإذا كان ذلك كذلك فقد قال قد طلبنا مثلا في السؤدد والمجد فلم نجده ومنه قوله تعالى «قل هو الله أحد الله الصمد» فلو ترك الإظهار إلى الإضمار فقال: قل هو الله وهو الصمد، لم يكن له الوقع الملائم. 2- فن الاستطراد: الاستطراد: ذكر الحاتمي في قواعد الشعر: انه نقل هذه التسمية عن البحتري الشاعر وسماه ابن المعتز الخروج من معنى إلى معنى وعرفه غيره بأنه أن يكون المتكلم في غرض من الأغراض يوهم أنه مستمر فيه لم يخرج منه إلى غيره لمناسبة بينهما ثم يرجع إلى الأول ويقطع الكلام فقد انتقل سبحانه من كلامه عن القرآن وان الانس والجن عاجزون عن الإتيان بمثله في فصاحته وبلاغته ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، انتقل إلى ما في منطوياته من مثل وعبر وبصائر وانساق الكلام إلى تعنت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 518 الكافرين وتماديهم في اللجاج وسدورهم في الغي والمكابرة وطمس الحقائق وإنكار الوقائع ثم أورد شاهدا على ذلك ما لاقاه موسى من مكابرة فرعون وملئه وضرب مثلا في المغبة التي نالها فرعون ومن معه ثم عاد الى الموضوع الذي شرع فيه وهو كون القرآن نازلا بالحق واليه هادفا ومن طريف الاستطراد قول عبد المطلب المشهور: لنا نفوس لنيل المجد عاشقة ... فإن تسلّت أسلناها على الأسل لا ينزل المجد إلا في منازلنا ... كالنوم ليس له مأوى سوى المقل فقد استطرد من ذكر المجد إلى النوم وقد استغله الشعراء للهجاء قال بعضهم يهجو شعر خالد الكاتب: وشادن بالدلال عاتبني ... ومنيتي في تدلل العاتب فكان ردي عليه من خجلي ... أبرد من شعر خالد الكاتب فما أجمل هذا الاستطراد، لقد كان يتغزل بالشادن، وليس ثمة أبرد ممن يعاتب الحلو الجميل، ويرد عليه إذا تدلل أو عتب، وان من يتكلف مثل هذا الرد لن يأتي إلا بالبارد من الكلام الذي يشبه شعر خالد الكاتب، وجميل قول بعضهم يهجو قاضي القضاة منتقلا من وصف البستان إلى ما هو بصدده قال: لله بستان حللنا دوحه ... في جنة قد فتحت أبوابها والبان تحسبه سنانيرا رأت ... قاضي القضاة فنفشت أ. ذنابها وأورد الباخرزي في دمية القصر للظاهر الحرمي هذه الأبيات بهجو فيها مغنيا اسمه البرقعيدي وهي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 519 وليل كوجه البرقعيدي ظلمة ... وبرد أغانيه وطول قرونه قطعت دياجيه بنوم مشرّد ... كعقل سليمان بن فهد ودينه على أولق فيه التفات كأنه ... أبو جابر في خبطه وجنونه إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... سنا وجه قرواش وضوء جبينه 3- القصر وطرقه: وفي قوله: «وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا» قصر إضافي، والقصر هو تخصيص شيء بشيء بطريق مخصوص وينقسم إلى حقيقي وإضافي فالحقيقي ما كان الاختصاص فيه بحسب الواقع والحقيقة لا بحسب الإضافة الى شيء آخر نحو لا كاتب في المدينة إلا علي إذا لم يكن فيها غيره من الكتاب، والإضافي ما كان الاختصاص فيه بحسب الإضافة الى شيء معين نحو ما علي إلا قائم أي أن له صفة القيام لا صفة القعود وكل منهما ينقسم الى قصر صفة على موصوف نحو لا فارس إلا علي وقصر موصوف على صفة نحو وما محمد إلا رسول. والقصر الإضافي ينقسم باعتبار حال المخاطب الى ثلاثة أقسام قصر إفراد إذا اعتقد المخاطب الشركة وقصر قلب إذا اعتقد العكس وقصر تعيين إذا اعتقد واحدا غير معين. وللقصر طرق أربع مشهورة وطرق كثيرة غير مشهورة أما الأربع المشهورة فهي: آ- النفي والاستثناء وهنا يكون المقصور عليه ما بعد أداة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 520 الاستثناء مثل: لا يفوز إلا المجد فالفوز مقصور والمجد مقصور عليه وهو قصر صفة على موصوف. ب- «انما» ويكون المقصور عليه مؤخرا وجوبا وقد تقدم كلام عبد القاهر على انما نحو: انما الحياة تعب فالحياة مقصورة والتعب مقصور عليه وهو قصر موصوف على صفة. ج- العطف بلا أو بل أو لكن فإن كان العطف بلا كان المقصور عليه مقابلا لما بعدها نحو: الأرض متحركة لا ثابتة وإن كان العطف ببل أو لكن كان المقصور عليه ما بعدهما نحو ما الأرض ثابتة بل متحركة وما الأرض ثابتة لكن متحركة. هـ- تقديم ما حقه التأخير وهنا يكون المقصور عليه هو المقدم نحو على الرجال العاملين نثني. وهناك طرق أخرى للقصر غير هذه الأربع منها ضمير الفصل نحو علي هو الشجاع ومنها التصريح بلفظ «وحده» الحالية أو ليس غير نحو أكرمت عليا وحده ولكنها لا تعدّ من طرقه الاصطلاحية. 4- التكرير المعنوي: وقد تقدم بحث التكرير في اللفظ وهذا التكرير الذي نحن بصدده يتعلق بالمعنى فقد كرر الخرور للذقن وهو السقوط على الوجه لاختلاف الحالين فالأول خرورهم في حال كونهم ساجدين والثاني خرورهم في حال كونهم باكين أو الأول في حالة سماع القرآن أو قراءته والثاني في سائر الحالات ثم عقب الحالين بحال ثالثة وهي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 521 زيادتهم خشوعا كلما قرءوا وكلما سجدوا فاستوفى بذلك سائر أحوالهم وهم الكملة الذين أوتوا العلم ومما لا بد من التنويه انه أتى بالحال الأولى اسما وهي قوله سجدا للدلالة على الاستمرار وأتى بالحال الثانية فعلا للدلالة على التجدد والحدوث فكأنما بكاؤهم يتجدد بتجدد الأحوال الطارئة والعظات المتتالية وهذا موضع من التكرير مشكل وتدق معرفته على الأغمار ومما ورد منه حديث حاطب بن بلتعة في غزوة الفتح وذاك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علي بن أبي طالب والزبير والمقداد رضي الله عنهم فقال: اذهبوا الى روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فأتوني به، قال علي رضي الله عنه: فخرجنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة وإذا فيها الظعينة فأخذنا الكتاب من عقاصها وأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا هو من حاطب بن بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ما هذا يا حاطب؟ فقال: يا رسول الله لا تعجل عليّ إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابة يحمون بها أموالهم وأهليهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب أن أتخذ عندهم بدا يحمون قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انه قد صدقكم» . فقوله: ما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام من التكرير الحسن يظنه بعض الجهال تكريرا لا فائدة فبه، فإن الكفر والارتداد عن الدين سواء وكذلك الرضا بالكفر بعد الإسلام وليس كذلك والذي يدل عليه اللفظ هو اني لم أفعل ذلك وأنا كافر: أي باق على الكفر ولا مرتدا: أي اني كفرت بعد إسلامي، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام: أي ولا إيثارا لجانب الكفار على جانب المسلمين وهذا حسن حسن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 522 واقع في مكانه ولكن هي مقتضيات الأحوال ومتشعبات لا يرود ثناياها إلا الطلعة المتذوق. ومما ورد شعرا من هذا التكرير المعنوي قول المقنع الكندي ونوردها كاملة لأهميتها: يعاتبني في الدّين قومي وإنما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدا أسدّ به ما قد أخلوا وضيعوا ... ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدا وإن الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمي لمختلف جدا فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم ... وإن هم هووا عني هويت لهم رشدا وان زجروا طيرا بنحس تمر بي ... زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 523 وليسوا الى نصري سراعا وان هم ... دعوني إلى نصر أتيتهم شدا وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا ... وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا فإن كل لحم يؤكل للانسان هو تضييع لغيبه وليس كل تضييع لغيبه أكلا للحمه ألا ترى أن أكل اللحم هو الاغتياب وأما تضييع الغيب فمنه الاغتياب ومنه التخلي عن النصرة والاعانة ومنه إهمال السعي في كل ما يعود بالنفع كائنا ما كان وهو موضع يرد في الكلام البليغ ويظن الجاهل انه لا فائدة فيه. الفوائد: 1- الأسماء الحسنى: «إن لله عز وجل تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا إنه وتر يحب الوتر من أحصاها دخل الجنة وهي: هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت (أي المقتدر) الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 524 المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الاول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور. 2- الجهر والمخافتة وبيان السبب في ذلك: بعد أن وجدت قريش أن دخولها في محاورات مع النبي لن يجديها شيئا بعد أن تكررت هزيمتها أمام الحجج الرائعة والمعاجز الإلهية التي كان يبدها بها، وبعد أن شعرت أنه لا قبل لها بتحدي القرآن وسلطانه المقدس على النفوس قرّ رأيها على أن تلجأ الى ضرب آخر من المقاومة السلبية وذلك أن تمتنع تماما عن سماع القرآن، روى ابن اسحق: جعلوا إذا جهر الرسول بالقرآن وهو يصلي يتفرقون عنه ويأبون أن يستمعوا له وكان الرجل منهم إذا أراد أن يستمع من رسول الله بعض ما يتلو من القرآن وهو يصلي استرق السمع دونهم فرقا منهم فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع منه ذهب خشية أذاهم فلم يستمع، وإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فظن الذي يستمع انهم لا يستمعون شيئا من قراءته وسمع هو شيئا دونهم أصاخ له يستمع منه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 525 وروى ابن عباس انما أنزلت هذه الآية «ولا تجهر بصلاتك» إلخ من أجل هؤلاء النفر. وإذا كان سادة قريش قد دعوا أهل مكة الى الانصراف عن سماع القرآن فما كانت بهم طاقة على تنفيذ هذا الأمر لما يحسون في أنفسهم من رقة ومن شغف لسماع هذا التنزيل الذي لا عهد لهم به. وروى ابن اسحق أيضا: أن أبا سفيان وأبا جهل والأخنس خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله وهو يصلي من الليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم الى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا. فلما أصبح الأخنس أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال له: - أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد فقال: - يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 526 وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها، فقال له الأخنس: - وأنا والذي حلفت به كذلك. ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته وقال له: - يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: - ماذا سمعت تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا هنا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه، فقام عنه الأخنس وتركه. وهكذا كانت قريش في حيرة من أمرها: ترق قلوبها وتخشع أفئدتها للقرآن لإدراكها أسراره ونفاذها إلى بيانه وسبرها غوره بيد أن نزاع العصبية وشارات الرياسة وأوضاع الجاهلية كل ذلك كان يحجبها عن الإسلام. وسيأتي المزيد من هذا البحث الطريف الجليل ... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 527 (18) سورة الكهف مكية وآياتها عشر ومائة [سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 528 اللغة: (عِوَجاً) : جاء في القاموس وغيره من معاجم اللغة: عوج بكسر الواو يعوج بفتحها عوجا العود ونحوه انحنى، والإنسان ساء خلقه فهو أعوج والعوج بكسر ففتح الاسم من عوج والالتواء وعدم الاستقامة ولم تفرق هذه المعاجم بينهما وفي الأساس: «يقال في العود عوج وفي الرأي عوج» ففرق بينهما وهذا هو الحق بدليل الآية. فالعوج بكسر ففتح في المعاني كالعوج بفتحتين في الأعيان، وقال الشهاب في حاشيته على البيضاوي: «يعني أن المكسور يكون فيما لا يدرك بالبصر بل بالبصيرة والمفتوح فيما يدرك به» وقال في الكشاف: والعوج بكسر ففتح في المعاني كالعوج بفتحتين في الأعيان. وسيأتي المزيد عنه في باب البلاغة. (قَيِّماً) : مستقيما معتدلا لا إفراط فيه ولا تفريط أو قيما بمصالح العباد فيكون وصفا للكتاب بالتكميل بعد وصفه بالكمال أو قيما على الكتب السابقة مصدقا لها شاهدا بصحتها وفي القاموس والتاج واللسان: القيم على الأمر متوليه كقيم الوقف وغيره وقيم المرأة زوجها وأمر قيم مستقيم والديانة القيمة: المستقيمة وفي التنزيل «ذلك دين القيمة» أي دين الأمة القيمة ويتعدى بالباء وبعلى. (باخِعٌ نَفْسَكَ) : مهلكها وقاتلها يقال: بخع الرجل نفسه يبخعها من باب نفع بخعا وبخوعا أهلكها وجدا وسيأتي مزيد بيان لها في باب البلاغة. (صَعِيداً) : ترابا أو فتاتا يضمحل بالريح لا اليابس الذي يرسب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 529 (جُرُزاً) بضمتين والجرز الذي لا نبات فيه فهو حائل البهجة باطل الزينة يقال سنة جرز وسنون أجراز وجرز الجراد الأرض: أكل ما فيها والجروز المرأة الأكول قال الراجز: إن العجوز حية جروزا ... تأكل كل ليلة فقيزا وجرزه الزمان اجتاحه. قال تبع: لا تسقني بيديك إن لم ألقها ... جرزا كأن أشاءها مجروز وفي أمثال العرب: «لن ترضى شانئة إلا بجرزة» وهو يضرب في العداوة وان المبغض لا يرضى إلا باستئصال من يبغضه. الإعراب: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) الحمد مبتدأ ولله متعلقان بمحذوف تقديره ثابت لله فهو الخبر والذي نعت وجملة أنزل صلة وعلى عبده متعلقان بأنزل والكتاب مفعول به والواو يجوز أن تكون عاطفة فالجملة معطوفة على أنزل داخلة في حيز الصلة ويجوز أن تكون اعتراضية فالجملة معترضة بين الحال وهي قيما وصاحبها وهو الكتاب ويجوز أن تكون حالية فالجملة حال من الكتاب فتكون قيما حالا متداخلة كما سيأتي. (قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) اضطربت أقوال النحاة والمفسرين في اعراب قيما اضطرابا شديدا وقد وقع اختيارنا على أن تكون حالا من الكتاب وجملة ولم يجعل معترضة واختار أبو البقاء أن تكون حالا من الهاء في له والحال مؤكدة واختار الزمخشري أن تكون منصوبة بفعل مقدر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 530 تقديره جعله قيما وننقل عبارته لأهميتها: «فإن قلت بم انتصب قيما؟ قلت: الأحسن أن ينتصب بمضمر ولا يجعل حالا من الكتاب لأن قوله ولم يجعل معطوف على أنزل فهو داخل في حيز الصلة فجاعله حالا من الكتاب فاصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة، وتقديره ولم يجعل له عوجا جعله قيما لأنه إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة» وقد فطن حفص الى هذا الاضطراب في إعراب قيما فوقف على تنوين عوجا مبدلا له ألفا سكتة لطيفة من غير قطع نفس إشعارا بأن قيما ليس متصلا بعوجا وإنما هو من صفة الكتاب. وصرح أبو حيان في البحر بأن المفرد يبدل من الجملة كقوله تعالى «ولم يجعل له عوجا قيما» فقيما بدل من جملة ولم يجعل له عوجا لأنها في معنى المفرد أي جعله مستقيما. وهناك أعاريب أخرى ضربنا عنها صفحا لأنها لا تخرج عن هذا النطاق. ولينذر اللام للتعليل وينذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بأنزل وينذر ينصب مفعولين وحذف أولهما وتقديره الكافرين وبأسا مفعول به ثان وشديدا صفة ومن لدنه صفة ثانية أو متعلقان بقوله لينذر. (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) ويبشر عطف على لينذر والفاعل مستتر تقديره هو والمؤمنين مفعول به وجملة يعملون الصالحات صلة وأن وما في حيزها قيل هو مصدر مؤول مفعول به ثان ليبشر على رأي من يرى أن يبشر تتعدى لمفعولين وقيل هو مصدر مؤول منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بيبشر ولهم خبر ان المقدم وأجرا اسمها المؤخر وماكثين حال من الهاء في لهم أي مقيمين فيه وفيه متعلقان بماكثين وأبدا ظرف متعلق بماكثين أيضا. (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 531 قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) وينذر عطف على لينذر الأولى والذين مفعول ينذر الأول وحذف الثاني وهو الغرض المنذر به لأنه سبق ذكره وهو البأس فيكون في الكلام احتباك وجملة قالوا صلة وجملة اتخذ مقول القول والله فاعل وولدا مفعول به. (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير جهالتهم وانهم يقولون مالا يعرفون وما نافية ولهم خبر مقدم وبه متعلقان بعلم ومن حرف جر زائد وعلم مبتدأ مؤخر ولا الواو عاطفة ولا نافية ولآبائهم عطف على لهم. (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) كبرت فعل ماض لانشاء الذم والتاء علامة التأنيث والفاعل ضمير مستتر يعود على مقالتهم المختلقة وهي قولهم اتخذ الله ولدا أي كبرت مقالتهم وكلمة تمييز والكلام مبني على أسلوب التعجب كأنه قيل: ما أكبرها كلمة وجملة تخرج نعت لكلمة ومن أفواههم متعلقان بتخرج ويجوز أن يكون الفاعل ضميرا مفسرا بنكرة وهي كلمة المنصوبة على التمييز فيكون الكلام للذم المحض ويكون المخصوص بالذم مخذوفا تقديره هي أي الكلمة وكلا الوجهين مستقيم سائغ، وإن نافية ويقولون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل وإلا أداة حصر وكذبا فيه وجهان أظهرهما أنه نعت لمصدر محذوف أي إلا قولا كذبا، ويجوز أن يكون مفعولا به لأنه يتضمن جملة وعليه يتمشى قول دعبل: ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم ... الله يعلم اني لم أقل فندا إني لأغمض عيني ثم أفتحها ... على كثير ولكن لا أرى أحدا (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) الفاء استئنافية ولعل حرف ترج ونصب وهي من أخوات ان والكاف اسمها وباخع خبرها ونفسك مفعول به وعلى آثارهم متعلقان بباخع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 532 وسيأتي مزيد بيان عنه في باب البلاغة وإن شرطية ولم يؤمنوا فعل الشرط وبهذا متعلقان بيؤمنوا والحديث بدل من اسم الاشارة وأسفا مفعول لأجله أو على انه مصدر في موقع الحال وجواب الشرط محذوف دل عليه الترجي والتقدير فلا تحزن ولا تذهب نفسك عليهم حسرات. (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) ان واسمها والجملة تعليل للنهي المقصود من الترجي وجملة جعلنا خبر إنا وما موصول مفعول به أول لجعلنا إن كانت بمعنى التصيير وعلى الأرض صلة ما وزينة مفعول به ثان لجعلنا وان كانت بمعنى خلقنا فتكون زينة حالا ومن العجيب أن يعربها بعضهم مفعولا لأجله مع أن الزينة ليست من المصادر القلبية مهما أسرفنا في التأويل، ولها صفة لزينة ولنبلوهم اللام للتعليل ونبلوهم منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بجعلنا وأيهم اسم استفهام مبتدأ والهاء مضاف إليه وأحسن خبر وعملا تمييز والجملة في محل نصب سادة مسد مفعولي نبلو لأنه في معنى نعلم وقد علق عن العمل بأي الاستفهامية ويجوز أن تكون أي موصولة بمعنى الذي وتعرب بدلا من الهاء في نبلوهم، والتقدير: لنبلو الذي هو أحسن، وأحسن خبر لمبتدأ محذوف أي هو أحسن والجملة صلة للموصول وتكون الضمة في أي للبناء لأن شرطه موجود وهو أن تضاف ويحذف صدر صلتها أو تكون ضمتها ضمة إعراب على رأي بعض النحاة والضمير في نبلوهم يعود على سكان الأرض كما يفهم من سياق الكلام أو على ما ولكنه بعيد لأنه يحتاج إلى تأويل ما بأنها خاصة بالعقلاء. (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وجاعلون خبرها وما مفعول به ثان لجاعلون وعليها صلة وصعيدا مفعول به ثان لجاعلون وجرزا نعت لصعيدا ويجوز اعتبار الكلمتين بمعنى واحد نحو الرمان حلو حامض أي مز، فهما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 533 بمثابة المفعول الثاني ولعله أولى وسيأتي تحقيقه في موضعه من هذا الكتاب. البلاغة: اشتملت هذه الآيات على أفانين متعددة من فنون البلاغة نذكرها فيما يلي: 1- التكرير: 1- التكرير وقد تقدم ذكره في قوله تعالى «ولم يجعل له عوجا قيما» فإن نفي العوج معناه إثبات الاستقامة وإنما جنح الى التكرير لفائدة منقطعة النظير وهي التأكيد والبيان، فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة، مجمع على استقامته ومع ذلك فإن الفاحص المدقق قد يجد له أدنى عوج فلما أثبت له الاستقامة أزال شبهة بقاء ذلك الأدنى الذي يدق على النظرة السطحية الاولى. 2- المطابقة: فقد طابق سبحانه بين العوج والاستقامة فجاء الكلام حسنا لا مجال فيه لمنتقد كما حدث لأبي الطيب الذي أهمل المطابقة في قصيدة من أبدع قصائده وذلك انه أنشد في مجلس سيف الدولة قوله: نظرت الى الذين أرى ملوكا ... كأنك مستقيم في محال فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 534 فقيل له: إن المحال لا يطابق الاستقامة ولكن القافية ألجأتك الى ذلك ولكن لو فرض أنك قلت: كأنك مستقيم في اعوجاج كيف كنت تصنع في البيت الثاني؟ فقال ولم يتوقف: «فإن البيض بعض دم الدجاج» فاستحسن هذا من بديهته. نقول: إنما يستحسن هذا في سرعة البديهة وإلا أين قوله: فإن المسك بعض دم الغزال من قوله: فإن المسك بعض دم الدجاج. ولما كنا نريد أن ننصف النقد نورد ما أخذه أحد خصوم المتنبي عليه من أنه كان لا يقيم للمطابقة وزنا وان ديدنه عدمها وذلك رغم إعجابنا الشديد بشاعر الخلود وتفضيلنا إياه على جميع شعراء العربية في القديم والحديث، قال الناقد القديم: وأما عدم المطابقة في شعر أبي الطيب المتنبي فكثير جدا من ذلك قوله: ولكل عين قرة في قربه ... حتى كأن مغيبه الأقذاء القرة ضدها السخنة والاقذاء ليست ضدها وقوله أيضا: ولم يعظم لنقص كان فيه ... ولم يزل الأمير ولن يزالا العظم ضد الحقارة والنقص ضد الكمال فلو قال: ولم يكمل لنقص كان فيه، لكان أمنع. وكذلك قوله رغم سموه وابداعه: لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور محب أو اساءة مجرم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 535 وليس المجرم ضد المحب ولا السرور ضد الإساءة وإنما المجرم ضد المحسن والمحب ضد المبغض والاساءة ضد الإحسان. وكذا قوله: وانه المشير عليك فيّ بضدّه ... فالحر ممتحن بأولاد الزنا والحرّ ضد اللئيم. 3- نفي الشيء بايجابه: وذلك في قوله تعالى «وقالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم» وقد تقدم ذكر هذا الفن وله تسمية أخرى وهي عكس الظاهر وهو من مستطرفات علم البيان وذلك أن تذكر كلاما يدل ظاهره على أنه نفي لصفة موصوف وهو نفي للموصوف أصلا فإن لقائل أن يقول: ان اتخاذ الله ولدا هو في حد ذاته محال فكيف ساغ قوله «مالهم به من علم» ؟ وهو يشبه الاعتراض في قوله تعالى «وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا» فإن ذلك كله وارد على سبيل التهكم وإلا فلا سلطان على الشرك حتى ينزل، والولد في حد ذاته محال لا يستقيم تعلق العلم ولكنه ورد على سبيل التهكم والاستهزاء بهم، ونظيره كما تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تثنى فلتاته» أي لا تذاع سقطاته وليس ثمة فلتات فتثنى وقول الشاعر يصف فلاة: لا تفزع الأرنب أهوالها ... ولا ترى الضبّ بها ينجحر فإن ظاهر هذا المعنى أنه كان هناك ضب ولكنه غير منجمر وليس ذلك كذلك بل المعنى انه لم يكن ثمة ضب أصلا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 536 4- التشبيه التمثيلي البليغ المصون عن الابتذال: وذلك في قوله تعالى «فلعلك باخع نفسك على آثارهم ان لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا» فقد شبهه تعالى وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وأصروا على المكابرة والعناد واللجاج بالسفسطة الباطلة ثم ما تداخله من جراء ذلك من وجد وأسف على توليهم وإشفاق عليهم لسوء المغاب التي تؤول إليها أمورهم. شبه ذلك سبحانه برجل فارقه أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم وتلهفا على فراقهم وأتى بهذه الصورة الفريدة صيانة لتشبيهه من الابتذال فإن التلهف على فراق الأحبة، واستشعار الوجد أمر شائع تناوله الشعراء في أشعارهم، وتحدثوا في قصائدهم عن لواعجهم، وهذا مقياس يقاس به البليغ يترفع في تشبيهه المألوف عن العادي من التشبيه بتزاويقه وتحاسينه ويفيض عليه من روائه وكان المتنبي، بنوع خاص، يتفطن لذلك ويصون تشبيهه الذي لا مندوحة له عنه من الابتذال وسنورد لك نماذج من شعره لتعلم الى أي مدى بلغ هذا الشاعر الخالد. فقد صور أبو الطيب موقفا من مواقف الغزل اضطر فيه إلى تشبيه نفسه بالميت المتكلم ومحبوبته بالبدر المبتسم وكلا هذين التشبيهين وارد تناولته الشعراء فابتذل وذهبت جدته وإذن فليجعل من الحوار وسيلة إلى تصوير موقف رائع يحلو فيه التشبيه ويبدو معه جديدا كل الجدة قال: نرى عظما بالبين والصد أعظم ... ونتهم الواشين والدمع منهم ومن لبّه مع غيره كيف حاله ... ومن سره في جفنه كيف يكتم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 537 ولما التقينا والنوى ورقيبنا ... غفولان عنا ظلت أبكي وتبسم فلم أر بدرا ضاحكا قبل وجهها ... ولم تر قبلي ميتا يتكلم فهو بعد أن قرر أثر الصدّ وأن مسافته لا تقرب ولا تقطع لأن البين قد يقرب وقد تقطع مسافته اعترف بأنه غير قادر على كتمان رسيس هواه لأنه إذا كان عقلك مع غيرك فكيف يكون حالك؟ وإذا كان سرك في جفنك فكيف تقدر على كتمانه؟ يريد أن الدمع يظهره ثم صور الموقف فجعل حسناءه عابثة ازدهاها الدّل، واستخف بها النعيم، فهي عابثة لاهية تبتسم وهو يحرق الأرم، ويتكوى بنار الهجران على حد قولهم «ويل للشجي من الخلي» وهذا من أروع الشعر وأعذبه. ونعود الى الآية فنقول ان الله تعالى أراد أن يسلي نبيه وأن يهدهد عنه ما ألم به من جوى وارتماض فعرض الموقف بصيغة الترجي وان كان المراد به النهي أي لا تبخع نفسك ولا تهلكها من أجل غمك على عدم إيمانهم وأتى بهذا التشبيه التمثيلي البديع والأسف المبالغة في الحزن. الفوائد: 1- نصب المفعول لأجله: اشترط النحاة لنصب المفعول لأجله خمسة أمور وهي: 1- كونه مصدرا. 2- كونه قلبيا من أفعال النفس الباطنة كالتعظيم والاحترام والإجلال والتحقير والخشية والخوف والجرأة والرغبة والرهبة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 538 والحياء والوقاحة والشفقة والعلم والجهل ونحوها ويقابل أفعال الجوارح أي الحواس الظاهرة وما يتصل به كالقراءة والكتابة والقيام والقعود والوقوف والجلوس والمشي والنوم واليقظة وغيرها وذلك لأن العلة هي الحاملة على إيجاد الفعل والحامل على الشيء متقدم عليه وأفعال الجوارح ليست كذلك. 3- كونه علة لأنه الباعث على الفعل. 4- اتحاده مع الفعل المعلل به في الزمان فلا يجوز: تأهبت اليوم السفر غدا لأن زمن التأهب غير زمن السفر. 5- اتحاده مع الفعل المعلل به في الفاعل فلا يجوز: جئتك محبتك إياي لأن فاعل المجيء المتكلم وفاعل المحبة المخاطب. ومتى فقد شرطا من هذه الشروط وجب جره بحرف تعليل كاللام ومن والباء وفي، وفيما يلي أمثلة لكل شرط مفقود: 1- «والأرض وضعها للأنام» فالأنام علة للوضع ولكنه ليس مصدرا فلذلك جر باللام. 2- «ولا تقتلوا أولادكم من إملاق» فإملاق هو علة القتل ولكنه ليس مصدرا قلبيا فلذلك جر بمن. 3- قتلته صبرا، فصبرا مصدرا ولكنه ليس علة فامتنع نصبه مفعولا لأجله وامتنع جره باللام لأن اللام تفيد العلية. 4- قول امرئ القيس: فجئت وقد نضت لنوم ثيابها ... لدى الستر إلا لبسة المتفضل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 539 فالنوم وإن كان علة لخلع الثياب لكن وقت الخلع سابق على وفت النوم فلذلك جر باللام، هذا والنوم ليس مصدرا قلبيا أيضا ففي الاستشهاد به على عدم اتحاد الزمن فقط تسامح. 5- قول أبي صخر الهذلي: وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بلّله القطر فالذكرى علة عن الهزة ففاعل العرو الهزة وفاعل الذكرى هو المتكلم فلذلك جر باللام. ونعود الى الآية فقوله «زينة لها» علة للجعل ولكنه ليس قلبيا لأنها من اعمال اليد، فلذلك استغربنا اعراب بعضهم لها مفعولا لأجله إلا بتقدير فعل الإرادة أي إرادة الزينة ولكن هذا التكلف لا يجوز وفيه مندوحة باعرابها مفعولا ثانيا لجعلنا كما تقدم أو حالا. ابدال المفرد من الجملة: قلنا في الاعراب ان أبا حيان اختار اعراب قيما بدلا من جملة لم يجعل لها عوجا لأنها في معنى المفرد. وأقول ان النحاة صرحوا بابدال الجملة من المفرد بدل كل كقول الفرزدق: إلى الله أشكو بالمدينة حاجة ... وبالشام أخرى كيف يلتقيان أبدل جملة كيف يلتقيان من حاجة وأخرى وهما مفردان وانما صح ذلك لرجوع الضمير الى مفرد فهل يجوز العكس؟ ومعنى البيت الى الله أشكو هاتين الحالين تعذر التقائهما فتعذر مصدر مضاف الى فاعله وهو بدل من هاتين قال الدماميني ويحتمل أن يكون كيف يلتقيان جملة مستأنفة نبه بها على سبب الشكوى وهو استبعاد اجتماع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 540 هاتين الحاجتين والشام بلاد سميت بشام بن نوح فإنه بالشين المعجمة بالسريانية أو لأن أرضها شامات بيض وحمر وسود وعلى هذا لا يهمز وقد يذكر، كذا في القاموس. [سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 12] أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) اللغة: (الْكَهْفِ) الغار في الجبل قيل: مطلق الغار وقيل: هو ما اتسع في الجبل فإن لم يتسع فهو غار والجمع كهوف وفي القاموس: «الكهف هو كالبيت المنقور في الجبل فاذا صغر فهو الغار، الملجأ والجمع كهوف» وفي الأساس: «لجئوا الى كهف والى كهوف وهي الغيران وتكهّف الجبل: صارت فيه كهوف ومن المجاز فلان كهف قومه: ملجؤهم وتقول: أولئك معاقلهم وكهوفهم» . (الرَّقِيمِ) في القاموس: الرقيم: الكتاب، المرقوم ورقم يرقم من باب نصر الكتاب بينه وأعجمه بوضع النقط والحركات وغير ذلك ورقم الثوب خططه والبعير: كواه، والخبز: نقشه ويقولون: فلان يرقم على الماء لمن يكون ذا حذق في الأمور» قيل هو لوح كتب فيه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 541 أسماء أهل الكهف وقصتهم ثم وضعوه على باب الكهف وكان اللوح من رصاص وقيل من حجارة. وعن ابن عباس ان الرقيم اسم الوادي الذي فيه أصحاب الكهف وقيل اسم للقرية التي خرجوا منها وقيل اسم للجبل الذي فيه أصحاب الكهف وقيل هو اسم كلبهم، قال أمية بن أبي الصلت: وليس بها إلا الرقيم مجاورا ... وصيدهم والقوم في الكهف همد والوصيد فناء البيت وبابه وعتبته والبيت يحتملها والهمد جمع هامد أي راقد يقول: ليس في تلك الصحراء إلا الكلب حالة كونه مجاورا لفناء غارهم وإلا القوم حال كونهم رقودا في الكهف. وقال الزجاج: إن الفتية لما هربوا من أهلهم خوفا على دينهم ففقدوهم فخبروا الملك خبرهم فأمر بلوح من رصاص فكتبت فيه أسماءهم وألقاه في خزانته وقال: انه سيكون له شأن فذلك اللوح هو الرقيم. وقال في أماليه: اعلم أن في الرقيم خمسة أقوال أحدها هذا الذي روي عن ابن عباس رحمه الله أنه لوح كتب فيه أسماؤهم والآخر ان الرقيم هو الدواة يروى ذلك عن مجاهد وقال هو بلغة الروم وحكى ذلك ابن دريد قال ولا أدري ما صحته والثالث ان الرقيم القرية وهو يروى عن كعب والرابع أن الرقيم الوادي والخامس ما روي عن الضحاك وقتادة انهما قالا الرقيم الكتاب والى هذا يذهب أهل اللغة ويقولون: هو فعيل بمعنى مفعول يقال رقمت الكتاب أي كتبته فهو مرقوم ورقيم كما قال عز وجل «كتاب مرقوم» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 542 الإعراب: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) أم منقطعة وقد تقدم ذكرها والغالب أن تفسر ببل والهمزة وتفسر ببل وحدها وبالهمزة وحدها أي أظننت أن قصة أهل الكهف عجب في بابها أو لا تظن أنها أعجب الآيات بل من الآيات ما هو أعجب منها. وحسبت فعل وفاعل وان وما في حيزها سدت مسد مفعولي حسبت وأن واسمها والرقيم عطف على الكهف وجملة كانوا خبر أن ومن آياتنا حال وعجبا خبر كانوا والاستفهام هنا للانكار والنفي وليس المراد نفي العجب عن قصة أهل الكهف فهي عجب كما ذكرنا ولكن القصد نفي كونها أعجب الآيات ثم شرع في سرد قصتهم فقال: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) الظرف الماضي يتعلق باذكر محذوفا وجملة أوى في محل جر باضافة الظرف إليها والفتية فاعل أوى والى الكهف متعلقان بأوى خائفين على أنفسهم من الكفار لأنهم كانوا مؤمنين وقصتهم مستفيضة في جميع المطولات وقد صنف الكاتب القصصي المعاصر توفيق الحكيم مسرحية أهل الكهف فارجع إليها لأنها من أمتع القصص. (فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) فقالوا عطف على أوى وربنا منادى وآتنا فعل دعاء مبني على حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت ونا مفعول به ومن لدنك حال لأنه كان صفة لرحمة وتقدم عليها ورحمة مفعول به وهيء عطف على آتنا ولنا متعلقان بهيئ ومن أمرنا حال ورشدا مفعول به. (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) الفاء عاطفة وضربنا فعل وفاعل وعلى آذانهم متعلقان بضربنا ومفعول ضربنا محذوف تقديره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 543 حجابا مانعا لهم من السماع وفي الكهف حال وسنين ظرف لضربنا وعددا نعت لسنين أو مفعول مطلق لفعل محذوف فهو إما مصدر فيجوز فيه الوجهان واما فعل بمعنى مفعول فلا يجوز فيه إلا النعت. (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) ثم حرف عطف للتراخي وبعثناهم فعل وفاعل ومفعول به ولنعلم يجوز أن تكون اللام للتعليل أو للعاقبة وعلى كل حال نعلم مضارع منصوب بأن مضمرة بعدها وسيأتي في باب البلاغة معنى العلم بإحصائهم والله عالم بذلك وأيّ اسم استفهام مبتدأ ولهذا علق نعلم عن العمل والحزبين مضاف اليه وأحصى فعل ماض وفاعله يعود على أي الحزبين ولما لبثوا اللام حرف جر وما مصدرية ولبثوا فعل وفاعل وما وما بعدها مصدر مؤول مجرور باللام والجار والمجرور متعلقان بأحصى وأمدا مفعول به واختلف النحاة هل يجوز أن يكون أحصى اسم تفضيل أم لا، أما القائلون بالجواز فأعربوا أحصى خبر أي، وأمدا تمييز، أو مفعول لفعل محذوف أي أحصى أمدا وستأتي مناقشة هذه الآراء في باب الفوائد. البلاغة: في هذه الآيات أفانين من البلاغة تذهل العقول وتكشف النقاب عن بيان القرآن البديع وهذا هو التفصيل: 1- الاستعارة التصريحية: في قوله تعالى «فضربنا على آذانهم» فقد استعار الحجاب المانع على آذانهم للزوم النوم وخص الآذان لأنه بالضرب عليها يحصل عليها، فالصور البيانية لا تتجسد إلا باعتمادها على أسس جمالية ونفسية قريبة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 544 من البحوث الحديثة وقد ذكر الجماليون الإحساسات التي يصح نعتها بالجمال على أتم وجه هي الإحساسات البصرية حتى لقد عرف ديكارت الجمال بقوله: «هو ما يروق في العين فالعين حاسة النور وحاجة الإنسان الى النور راجع إلى حاجته الى الحياة إذ تتعلق به بعض العناصر التي تمد الجسم بالحياة والنشاط والحركة والمتعة والسرور «وسيأتي ما اعتمده القرآن من الصور البصرية ولا يقف الأمر عند حاسة البصر بل حاسة السمع هي التي أوجدت أرفع الفنون: الشعر والموسيقى والبلاغة قال الرماني في كتابه «النكت في إعجاز القرآن» : «واحساس السمع في قوله تعالى «فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا» وحقيقته منعناهم الاحساس بآذانهم من غير صمم» فكأن الاستعارة قصدت الى هذا التصوير السمعي وإبراز فقدان حاسة السمع دون سائر الحواس ودون الدلالة على الصمم النهائي وستأتي تتمة هذه الصورة المهولة صورة الضرب على الآذان في قوله تعالى في سورة يس «يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا» . 2- التعليق: وذلك في قوله: «ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا» ليس المراد أن يعلم الله شيئا هو داخل في نطاق علمه ولكنه أراد ما تعلق العلم به من ظهور الأمر لهم ليزدادوا إيمانا واعتبارا وليكون ذلك من الألطاف الخفية على المؤمنين في زمانهم أو ليحدث تعلق علمنا نعلقا حاليا أي نعلم أن الأمر واقع في الحال بعد أن علمنا قبل أنه سيقع في مستقبل الزمان أما المراد بالحزبين اللذين اختلفا فقال الفراء: إن طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدة لبثهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 545 وقيل المراد بالحزبين نفس أصحاب الكهف لأنهم اختلفوا فيما بينهم في المدة التي لبثوها نائمين وروي عن ابن عباس: أن المراد بالحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة ملكا بعد ملك، وأصحاب الكهف الى غير ذلك من أقوال لا يتسع المجال لإيرادها. الفوائد: 1- رجحنا أن تكون «أحصى» في قوله تعالى «لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا» فعلا ماضيا لأن بناء اسم التفضيل من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس اما نحو أعدى من الجرب وأفلس من ابن المذاق فشاذ والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع فكيف به كما أن اعراب أمدا لا يصح إلا بكون «أحصى» فعلا ماضيا وإذا جعلناه اسم تفضيل احتجنا الى تقدير فعل لأن اسم التفضيل لا يعمل على أن بعض النحاة جعل بناء اسم التفضيل من المزيد في الهمزة قياسا فتقول في أكرم فعلا فلان أكرم من فلان على رأيهم وزعم هؤلاء النحاة أن سيبويه قال به وعلله بأن بناءه منه لا يغير نظم الكلمة وانما هو تعويض همزة بهمزة، هذا وقد اختار كون أحصى للتفضيل الزجاج والتبريزي واختار أبو علي الفارسي والزمخشري كونه فعلا ماضيا وعليه درجنا. 2- ما يقوله المبرد عن أي: قال المبرد في حديثه عن أيّ «ألا ترى أن معناها أذا أم ذا، وقال عز وجل «لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا» لأن معناها أهذا أم هذا وقال تعالى: «فلينظر أيها أزكى طعاما» على ما فسرت لك وتقول: أعلم أيهم ضرب زيدا، وأعلم أيهم ضرب زيد تنصب أيا بضرب لأن زيدا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 546 فاعل فانما هذا لما بعده وكذلك ما أضيف الى اسم من هذه الأسماء المستفهم بها نحو قد علمت غلام أيهم في الدار وقد عرفت غلام من في في الدار وقد علمت غلام من ضربت فتنصبه بضربت فعلى هذا مجرى الباب» وخلاصة ما أراد المبرد أن يقوله في هذه اللمحة المفيدة أن أدوات الاستفهام إذا كانت أسماء امتنعت مما قبلها. وقال ابن هشام في المغني انه وهم أي كونه اسم تفضيل لأن شرط التمييز المنصوب بعد أفعل أن يكون كونه فاعلا في المعنى كزيد أكثر مالا بخلاف مال زيد أكثر مال ففي المثال الأول فاعل الكثرة في المعنى المال لا زيد وقال في الخلاصة: والفاعل المعنى انصبن بأفعلا ... مفضلا كأنت أعلى منزلا [سورة الكهف (18) : الآيات 13 الى 15] نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 547 الإعراب: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ) نحن مبتدأ وجملة نقص خبر وعليك متعلقان بنقص ونبأهم مفعول به وبالحق حال من فاعل نقص أو من مفعوله وهو النبأ فالباء للملابسة. (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) الجملة مستأنفة مسوقة لسرد قصتهم وان واسمها وخبرها وجملة آمنوا بربهم خبر وزدناهم فعل وفاعل ومفعول به أول وهدى مفعول به ثان أو تمييز. (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وربطنا عطف على زدناهم وعلى قلوبهم متعلقان بربطنا وإذ ظرف ماض متعلق بربطنا وجملة قاموا مضاف إليها الظرف فقالوا عطف على قاموا وربنا مبتدأ ورب السموات والأرض خبره. (لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) لن حرف نفي ونصب واستقبال وندعو منصوب بلن ومن دونه حال لأنه كان صفة لإلها وتقدم عليه ولقد اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وقلنا فعل وفاعل وإذن حرف جواب وجزاء مهمل وشططا مفعول مطلق أي قولا ذا شطط فهو نعت للمصدر المحذوف بتقدير المضاف ويجوز أن يكون مفعولا به لأن الشطط فيه معنى الجملة وقال سيبويه ما نصه بالحرف «نصبه على الحال من ضمير مصدر قلنا» والشطط هو الافراط في الظلم والإبعاد فيه من شط إذا بعد فقول سيبويه له وجه كبير من الصحة، قالوا ذلك وهم قيام بين يدي الملك الجبار دقيانوس. (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) هؤلاء مبتدأ وقومنا بدل من اسم الاشارة أو عطف بيان وجملة اتخذوا خبر ومن دونه حال وآلهة مفعول به ومعنى الخبر هنا الإنكار ويجوز أن تعرب هؤلاء مبتدأ وقومنا هو الخبر وجملة اتخذوا في موضع نصب على الحال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 548 (لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) لولا حرف تحضيض ويأتون فعل مضارع وفاعل والجملة مستأنفة وعليهم أي على عبادتهم متعلقان بمحذوف حال وبسلطان متعلقان بيأتون وبيّن صفة فمن أظلم الفاء استئنافية ومن اسم استفهام معناه النفي والإنكار مبتدأ وأظلم خبره وممن متعلقان بأظلم وجملة افترى صلة وعلى الله متعلقان بافترى وكذبا مفعول به. البلاغة: في قوله تعالى «وربطنا على قلوبهم» استعارة تصريحية تبعية تشبه «فضربنا على آذانهم» لأن الربط هو الشد بالحبل والمراد قوينا قلوبهم بالصبر على هجر الأوطان والفرار بالدين الى الكهوف والغيران وافتراش صعيدها وجسرناهم على قول الحق والجهر به أمام دقيانوس الجبار. [سورة الكهف (18) : الآيات 16 الى 18] وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 549 اللغة: (مِرفَقاً) : بكسر الميم وفتح الفاء وبالعكس وقد قرىء بهما ما ترتفقون به من غداء وعشاء أي تنتفعون قال في أساس البلاغة: «وارتفقت به: انتفعت ومالي فيه مرفق ومرفق وما فيها مرفق من مرافق الدار نحو المتوضأ والمطبخ» وقيل بالكسر في الميم هو لليد وبالفتح للأمر وقد يستعمل كل منهما موضع الآخر حكاه الأزهري عن ثعلب وقال بعضهم: هما لغتان فيما يرتفق به فأما الجارحة فبكسر الميم فقط وفي القاموس والتاج وغيرهما: «المرفق بكسر الميم وفتح الفاء والمرفق بفتح الميم وكسر الفاء الموصل بين الساعد والعضد وما ارتفقت به فهما لغتان» . (تزاور) : أي تمايل أصله تتزاور فخفف بإدغام التاء في الزاي أو حذفها وقد قرىء بهما وقرىء تزورّ وتزوارّ وكلها من الزور وهو الميل ومنه زاره إذا مال اليه والزور الميل عن الصدق. (تَقْرِضُهُمْ) : تقطعهم وتتجاوز عنهم فلا تصيبهم البتة مأخوذ من معنى القطيعة والصرم قال ذو الرمة: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 550 إلى ظعن يقرضن أجواز مشرف ... شمالا وعن أيمانهن الفوارس وقبله: نظرت بجرعاء السبية نظرة ... ضحى وسواد العين في الماء شامس وجرعاء السبية اسم موضع وسواد العين إلخ جملة حالية أي الدمع كثير الحركة والاضطراب من شمس الفرس إذا جمح وساء خلقه والظعن جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج ويقرضن أي يقطعن وأجواز جمع جوز وهو المجاز والطريق أي يفصلنه عنهن والفوارس اسم موضع لا جمع فارس. وقال الفارسي: ومعنى تقرضهم تعطيهم من ضوئها شيئا كالقرض ثم يسترد بعد حين وهي تزول بسرعة أيضا. (فَجْوَةٍ) : متسع من الفجاء وهو تباعد ما بين الفخذين يقال رجل أفجى وامرأة فجواء والجمع فجاء كقصعة وقصاع وفي القاموس: «الفجوة: الفرجة بين الشيئين وساحة الدار وما اتسع من الأرض والجمع فجوات وفجاء» . (الوصيد) تقدم شرحه ونضيف اليه ما قاله صاحب القاموس: الوصيد العتبة فناء الدار، الكهف وقال غيره والباب أيضا وأنشد: بأرض فضاء لا يسد وصيدها ... علي ومعروفي بها غير منكر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 551 والبيت لزهير يقول: نزلت في أرض خالية من البناء ليس فيها بناء له وصيد أي باب يسد علي ويحجب عني الضيفان كأهل الحضر فنفي السد كناية عن نفي الوصيد من أصله فهو من باب نفي الشيء بإيجابه واحساني بها معروف لا ينكره أحد من الناس. الإعراب: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) خطاب من بعضهم لبعض حين صمموا على الفرار بدينهم فإذ منصوب بمضمر تقديره قال بعضهم لبعض وجملة اعتزلتموهم في محل جر بإضافة الظرف إليها وهي فعل وفاعل ومفعول به وما يعبدون: الواو حرف عطف وما معطوف على الهاء أي اعتزلتموهم واعتزلتم معبوديهم فما موصولية أو مصدرية فيقدر وعبادتهم وإلا أداة استثناء والله مستثنى متصل على تقدير كونهم مشركين ومنقطع على تقدير تمحضهم في عبادة الأوثان وقيل الواو اعتراضية وما نافية والجملة معترضة وهي إخبار من الله عن الفتية انهم لم يعبدوا غير الله ولا مانع من ذلك. قال الفراء هو جواب إذ كما تقول إذ فعلت فافعل كذا وهو قول ضعيف لأنه يعني أن إذ تفيد الشرطية والمعروف انها لا تفيدها إلا مقترنة مع ما. (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) الفاء هي الفصيحة أي ان شئتم النجاة بدينكم فأووا وأووا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والى الكهف متعلقان به. (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً) ينشر فعل مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للطلب ولكم متعلقان بينشر وربكم فاعل ينشر ومن رحمته صفة لمفعول ينشر المحذوف أي ينشر لكم نجاحا من رحمته ويهيىء عطف على ينشر ولكم متعلقان بيهيىء ومن أمركم حال لأنه كان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 552 صفة لمرفقا ومرفقا مفعول به. (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ) في الكلام إيجاز بحذف عدة جمل وتقدير الكلام فأووا الى الكهف كما قرروا بينهم وشعروا بالتعب فناموا واسترسلوا في النوم، وأجاب الله دعاءهم إذ قالوا: «ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشدا» فالواو استئنافية وترى فعل مضارع وفاعله أنت والشمس مفعول به وإذا ظرف مستقبل متعلق بتزاور وهو الجواب وتزاور فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هي والجملة لا محل لها وعن كهفهم متعلقان بتزاور وذات اليمين ظرف متعلق بتزاور (وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ) عطف على الجملة السابقة وهي مماثلة لها في اعرابها. (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ) الواو للحال وهم مبتدأ، وفي فجوة خبر ومنه صفة لفجوة وذلك مبتدأ ومن آيات الله خبر. (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) من شرطية في محل نصب مفعول مقدم ويهد فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاء رابطة للجواب لأنه جملة اسمية وهو مبتدأ والمهتدي خبره وحذفت الياء بخط المصحف ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا عطف على ما تقدم والجملة مماثلة لسابقتها. (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) الواو استئنافية وتحسبهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول وأيقاظا مفعول به ثان وهم الواو حالية وهم مبتدأ ورقود خبر والجملة في محل نصب حال. (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) ونقلبهم الواو عاطفة ونقلبهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وذات اليمين ظرف متعلق بنقلبهم وذات الشمال عطف على ذات اليمين وكلبهم الواو للحال وكلبهم مبتدأ وباسط خبر وذراعيه مفعول به وبالوصيد متعلقان بباسط. (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) لو شرطية واطلعت فعل وفاعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 553 وعليهم متعلقان باطلعت ولوليت اللام واقعة في جواب لو ووليت فعل وفاعل ومنهم متعلقان بفرارا وفرارا مفعول مطلق مطلق من معنى الفعل قبله لأنه مرادفه ويجوز أن يعرب مصدر في موضع الحال أي فارا، ولملئت عطف على لوليت ومنهم متعلقان برعبا ورعبا تمييز ورجح أبو حيان أن يكون مفعولا ثانيا لملئت. البلاغة: في قوله تعالى «وتحسبهم أيقاظا وهم رقود تشبيه وطباق أما الطباق فهو ظاهر بين أيقاظ ورقود وأما التشبيه فهو قسم من أقسام التشبيه جاءت فيه الأداة فعلا من أفعال الشك واليقين تقول حسبت زيدا في جرأته الأسد وعمرا في جوده الغمام فحاصل ذلك تشبيه زيد بالأسد وعمرو بالغمام وفي الآية حاصلة تشبيه أهل الكهف في حال نومهم بالايقاظ في بعض صفاتهم لأنه قيل انهم كانوا مفتحي العيون في حال نومهم. الفوائد: استدل الكسائي بقوله «وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد» على أن اسم الفاعل يعمل عمل الفعل ولو كان بمعنى الماضي ومنع البصريون ذلك وقالوا لا حجة للكسائي ومن تبعه في أن اسم الفاعل هنا بمعنى الماضي وعمل في ذراعيه النصب وانه على ارادة حكاية الحال الماضية أي انه يقدر الهيئة الواقعة في الزمن الماضي واقعة في حال التكلم والمعنى يبسط ذراعيه فيصح وقوع المضارع موقعه بدليل أن الواو في وكلبهم واو الحال ولذا قال سبحانه ونقلبهم بالمضارع الدال على الحال ولم يقل وقلبناهم بالماضي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 554 [سورة الكهف (18) : الآيات 19 الى 20] وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) اللغة: (بِوَرِقِكُمْ) الورق بفتح الواو وكسر الراء الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة ومنه الحديث أن عرفجة أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا من ورق فأنتن فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفا من ذهب» والكلاب بالضم اسم ماء كانت عنده الوقعة كما في الصحاح قال: أعطيتني ورقا لم تعطني ورقا ... قل لي بلا ورق ما ينفع الورق؟ (أَزْكى) : أطيب وفي القاموس: زكا يزكو زكاء وزكوّا الزرع فما والأرض طابت والزكي ما كان ناميا طيبا صالحا. الإعراب: (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ) الكاف نعت لمصدر محذوف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 555 أي كما أنمناهم هذه النومة الطويلة كذلك بعثناهم، وبعثناهم فعل وفاعل ومفعول به، ليتساءلوا اللام للتعليل ويتساءلوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والظرف متعلق بمحذوف حال. (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) قال قائل فعل وفاعل وكم اسم استفهام في محل نصب على الظرفية والمميز المنصوب محذوف تقديره كم يوما بدليل الجواب عليه ومنهم صفة لقائل، قالوا فعل وفاعل وجملة لبثنا مقول القول ويوما ظرف متعلق بلبثنا أو حرف عطف، بعض يوم عطف على يوما وأو هنا للشك منهم. (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) قالوا فعل وفاعل وربكم مبتدأ وأعلم خبره، بما جار ومجرور متعلقان بأعلم ولبثتم صلة ما وما أجمل تفويضهم أمر العلم بمدة اللبث الى الله، وما ينطوي عليه هذا التفويض من حسن الأدب فقد استرابوا في أمرهم بعد أن راعوا الى أنفسهم ونظروا الى طول شعورهم وأظفارهم. (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) الفاء عاطفة على محذوف أي فدعوا التساؤل وخذوا فيما هو أهم وأجدى لنا في موفقنا هذا فابعثوا، وأحدكم مفعول به وبورقكم متعلقان بابعثوا أو بمحذوف حال من أحدكم والباء للملابسة أي ملتبسا بها ومصاحبا لها وهذه نعت لورقكم وإلى المدينة متعلقان بابعثوا، فلينظر الفاء عاطفة واللام لام الأمر وينظر مضارع مجزوم بلام الأمر وأيها يجوز أن تكون استفهامية ويجوز أن تكون موصولة وقد تقدم ذلك في قوله «أيهم أحسن عملا» فجدد به عهدا وهي مبتدأ خبره أزكى وطعاما تمييز محول عن المضاف اليه أي أيّ أطعمة المدينة أزكى وأحلّ وأرخص وأطيب. (فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) الفاء عاطفة واللام لام الأمر ويأت مجزوم بلام الأمر والفاعل مستتر تقديره هو والكاف مفعول به وبرزق متعلقان بيأتكم ومنه صفة لرزق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 556 وليتلطف عطف على فليأتكم ولا الواو عاطفة ولا ناهية ويشعرن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وهو في محل جزم بلا الناهية والفاعل مستتر تقديره هو وبكم متعلقان بيشعرن واحدا مفعول به. (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) إن واسمها وإن شرطية ويظهروا فعل الشرط والواو فاعل وعليكم متعلقان بيظهروا ويرجموكم جواب الشرط أو يعيدوكم عطف على يرجموكم وفي ملتهم متعلقان بيعيدوكم أي يردوكم إلى ملتهم التي كنتم عليها قبل أن يهديكم الله أو المراد بالعود هنا الصيرورة على تقدير انهم لم يكونوا على ملتهم وإيثار كلمة «في» على كلمة «الى» للدلالة على الاستقرار. (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) الواو عاطفة ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتفلحوا فعل مضارع منصوب بلن والواو فاعل وإذن حرف جواب وجزاء مهمل وأبدا ظرف متعلق بتفلحوا. [سورة الكهف (18) : الآيات 21 الى 26] وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 557 اللغة: (أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) : أطلعنا عليهم قومهم والمؤمنين وفي الأساس: «وعثر على كذا اطلع عليه وأعثره على كذا أطلعه وأعثره على أصحابه: دله عليهم ويقال للمتورط «وقع في عاثور» وفلان يبغي صاحبه العواثين وأصله: حفرة تحفر للأسد وغيره يعثر بها فيطيح فيها» . (رَجْماً بِالْغَيْبِ) رميا بالخبر الخفي وإتيانا به وفي المصباح: الرجم بفتحتين الحجارة ورجمته رجما من باب قتل ضربته بالرجم وهي الحجارة الصغار ورجمته بالقول رمبته بالفحش قال تعالى: «رجما بالغيب» أي ظنا من غير دليل ولا برهان كقول زهير بن أبي سلمى يصف الحرب: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 558 أي المظنون وسيرد في باب البلاغة مزيد من البحث حول هذا التعبير. (تُمارِ) : تجادل وفي القاموس: «مارى مراء ومماراة: جادل ونازع ولاجّ وتماريا تجادلا وامترى في الشيء: شك والمرية بكسر الميم والمرية بضمها: الجدل يقال ما في ذلك مرية أي جدل وشك» . الإعراب: (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) الكاف نعت لمصدر محذوف أي وكما أنمناهم وبعثناهم أطلعنا عليهم قومهم والمؤمنين، وأعثرنا فعل وفاعل والمفعول به محذوف كما قدرناه في باب اللغة وعليهم متعلقان بأعثرنا وليعلموا اللام للتعليل ويعلموا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي ليعلموا وأن واسمها وحق خبرها وأن الساعة عطف وان واسمها ولا نافية للجنس وريب اسمها وفيها خبرها وجملة لا واسمها وخبرها في محل رفع خبر أن والمراد بوعد الله البعث لأن من قدر على إنامتهم هذه النومة الطويلة وبعثهم بعدها قادر على أن يحييهم بعد الموت. (إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) الظرف متعلق بأعثرنا أي أعثرنا عليهم قومهم حين يتنازعون ويختلفون في حقيقة البعث فكان بعضهم يقول: تبعث الأرواح دون الأجساد وبعضهم يقول: تبعث الأجساد مع الأرواح وجملة يتنازعون في محل جر باضافة الظرف إليها وبينهم ظرف مكان متعلق بيتنازعون وأمرهم نصب بنزع الخافض أي في أمرهم وقيل تنازعوا تنصب مفعولا إذا كانت بمعنى التجاذب فيكون في الكلام استعارة. (فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) الفاء عاطفة وقالوا فعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 559 وفاعل وجملة ابنوا مقول القول وهو فعل أمر وفاعل وعليهم متعلقان بابنوا وبنيانا مفعول به أي قالوا ذلك حين توفى الله أصحاب الكهف وأكثر الروايات على أنهم ماتوا حين حدث تمليخا حامل الورق حديثهم موتا حقيقيا ورجع من كان يساوره الشك في بعث الأجساد الى اليقين أي ابنوا عليهم بنيانا ضنا بتربتهم ومحافظة عليها وجملة ابنوا عليهم بنيانا مقول قولهم. (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) الجملة إما تتمة لمقولهم قالوا ذلك تفويضا للعلم الى الله سبحانه وقيل هو مقول كلام لله سبحانه ردا لقول المتنازعين فيهم أي دعوا ما أنتم فيه من التنازع فإني أعلم بهم منكم والكلام مبتدأ وخبر وبهم متعلقان بأعلم. (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) قال الذين فعل وفاعل وجملة غلبوا صلة الموصول وعلى أمرهم متعلقان بغلبوا وهم المؤمنون وكانت الكلمة لهم آنذاك ولنتخذن اللام موطئة للقسم ونتخذن فعل مضارع مبني على الفتح وفاعله مستر تقديره نحن وعليهم حال ومسجدا مفعول به. (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ) السين للاستقبال اشارة الى أن النزاع في أمرهم حصل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أي في المستقبل البعيد بالنسبة لقصتهم ويقولون فعل مضارع وفاعل والضمير يعود الى الخائضين في قصتهم زمن النبي من أهل الكتاب والمؤمنين. قال أبو حيان: «وجاء بسين الاستقبال لأنه كأنه في الكلام طي وإدماج، والتقدير فإذا أجبتهم عن سؤالهم وقصصت عليهم قصة أهل الكهف فسلهم عن عددهم فإنهم إذا سألتهم سيقولون ولم يأت بالسين فيما بعده لأنه معطوف على المستقبل فدخل في الاستقبال أو لأنه أريد به معنى الاستقبال الذي هو صالح له. وثلاثة خبر لمبتدأ محذوف أي هم ثلاثة أشخاص وانما قدرنا أشخاصا لأن رابعهم اسم فاعل أضيف الى الضمير والمعنى أنه ربعهم أي جعلهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 560 أربعة وصيرهم إلى هذا العدد فلو قدر ثلاثة رجال استحال أن يصير ثلاثة رجال أربعة لاختلاف الجنسين، ورابعهم مبتدأ وكلبهم خبر وجملة ثلاثة مقول القول وجملة رابعهم كلبهم في محل نصب على الحال أي حال كون كلبهم جاعلهم أربعة بانضامه إليهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم عطف على الجملة السابقة وهي مماثلة في اعرابها ورجما منصوب على المصدرية بفعل محذوف أي يرجمون رجما والمعنى يرمون رميا بالخبر الخفي المظنون أو على الحال بمعنى راجمين وبالغيب متعلقان برجما. (وَيَقُولُونَ: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) الواو عاطفة ويقولون فعل وفاعل وسبعة خبر لمبتدأ محذوف والواو فيها أقوال تربو على الحصر وقد شغلت العلماء والأدباء فصنّفوا فيها المطولات وسنأتي على ذكرها وخلاصة ما قيل فيها في باب الفوائد وأولى ما يقره المنطق أن تكون هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة تشبيها لها بالجملة الواقعة حالا بعد المعرفة نحو جاء زيد ومعه رجل آخر وذلك لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف بمعنى أن اتصافه بها أمر مستقر راسخ في الأذهان وهذا ما اختاره الزمخشري وابن هشام وانتظر التفاصيل وجملة ثامنهم كلبهم صفة لسبعة وقد ردّ أبو حيان هذا القول وعبارته: «وكون الواو تدخل على الجملة الواقعة صفة دالة على لصوق الصفة بالموصوف وعلى ثبوت اتصاله بها شيء لا يعرفه النحويون بل قرروا انه لا تعطف الصفة التي ليست بجملة على صفة أخرى إلا إذا اختلفت المعاني حتى يكون العطف دالا على المغايرة وأما إذا لم يختلف فلا يجوز العطف في هذه الأسماء المفردة وأما الجمل التي تقع صفة فهي أبعد من أن يجوز ذلك فيها وقد ردوا على من ذهب الى أن قول سيبويه: وأما ما جاء لمعنى وليس باسم ولا فعل هو على ان وليس باسم ولا فعل صفة لقوله لمعنى وان الواو دخلت في الجملة بأن ذلك ليس من كلام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 561 العرب مررت برجل ويأكل على تقدير الصفة واما قوله تعالى: «إلا ولها كتاب معلوم» فالجملة حالية» . (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) ربي مبتدأ وأعلم خبره والجملة مقول القول وبعدتهم متعلقان بأعلم وجملة ما يعلمهم حالية وما نافية ويعلمهم فعل مضارع ومفعول به وإلا أداة حصر وقليل فاعل يعلمهم والتفضيل بالنسبة للكيفية لأن مراتب اليقين متفاوتة في القوة وليس التفضيل بالنسبة إلى الطائفتين الأولين الذين جنحا الى الرجم بالغيب والحدس والتخمين دون الحقيقة والاطلاع على الواقع. (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) الفاء الفصيحة أي إن عرفت هذا وحق لك أن تعرفه فلا تجادل، ولا ناهية وتمار مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف حرف العلة وإلا أداة حصر ومراء مفعول مطلق وظاهرا صفة. (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) الواو عاطفة ولا ناهية وتستفت مجزوم بها وعلامة جزمه حذف حرف العلة أيضا والفاعل مستتر تقديره أنت وفيهم متعلقان بتستفت ومنهم حال لأنه كان في الأصل صفة لأحدا وأحدا مفعول به لأن فيما أوحي إليك مندوحة لك عن السؤال. (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) الواو حرف عطف ولا ناهية وتقولن فعل مضارع مبني للفتح لاتصاله بنون التوكيد في محل جزم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت ولشيء متعلقان بتقولن أي لأجل شيء تقدم عليه وتهتم به وقيل اللام بمعنى في وقد تقدم ذكر ذلك وكسرت همزة إن لسبقها بالقول وان واسمها مقول القول وفاعل خبر إن وذلك مفعول لفاعل وغدا ظرف متعلق بفاعل وإلا أن يشاء الله استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تقل لشيء في حال من الأحوال إلا في حال تلبسك بالمشيئة والتعليق عليها فأن وما بعدها حال والتقدير لا تقولن أفعل غدا إلا قائلا إن شاء الله وقيل التقدير إلا بأن يشاء الله فالمصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور في موضع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 562 النصب على الحال أي إلا متلبسا بقول إن شاء الله وقيل إن الاستثناء منقطع وموضع أن يشاء الله نصب على الاستثناء. وقد أجاد في إعراب هذه الآية أبو البقاء العكبري ونصه: «في المستثنى منه ثلاثة أوجه أحدها هو من النهي والمعنى لا تقولن افعل غدا إلا أن يؤذن لك في القول والثاني هو من فاعل تقولن أي لا تقولن اني فاعل غدا حتى تقرن به قول إن شاء الله والثالث انه منقطع وموضع أن يشاء الله نصب على وجهين أحدهما على الاستثناء والتقدير لا تقولن ذلك في وقت إلا وقت أن يشاء الله أي يأذن فحذف الوقت وهو مراد والثاني هو حال والتقدير لا تقولن افعل غدا إلا قائلا إن شاء الله فحذف القول وهو كثير وجعل قوله أن يشاء في معنى إن شاء وهو مما حمل على المعنى وقيل: التقدير إلا بأن يشاء الله أي متلبسا بقول إن شاء الله» والخلاصة ان الغرض من هذا النهي عن هذا القول هو عدم اقترانه بقول المشيئة وهذا نهي تأديب حين قالت اليهود لقريش سلوا محمدا عن الروح وعن أصحاب الكهف وذي القرنين فسألوه فقال ائتوني غدا أخبركم ولم يستثن فأبطأ عليه الوحي حتى شق عليه وكذبته قريش، وسيأتي في باب الفوائد ذكر انقطاع الوحي. (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) واذكر عطف على ما تقدم وربك مفعول به ولا بد من حذف مضاف أي مشيئة ربك وإذا ظرف متعلق باذكر أي إذا فرط منك نسيان وجملة نسيت في محل جر بإضافة الظرف إليها وجوابها محذوف دل عليه ما قبله أي فاذكر وقل عطف على اذكر وعسى من أفعال الرجاء واسمها مستتر تقديره هو وأن يهديني أن وما في حيزها هي الخبر وربي فاعل يهديني ولأقرب متعلق بيهديني ومن هذا متعلقان بأقرب ورشدا تمييز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 563 أو مفعول مطلق أي يهديني هداية فيكون ملاقيا لعامله بهذا المعنى والأول أقرب أي لشيء أقرب إرشادا للناس ودلالة على ذلك والاشارة في قوله هذا لما تقدم من نبأ أصحاب الكهف وقصتهم العجيبة التي اختتمت الآن. (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) ولبثوا عطف على ما تقدم حسما للخلاف وإماطة للشبهة الناجمة عن الاختلاف في أمرهم ومدة لبثهم وفي كهفهم متعلقان بلبثوا وثلاث ظرف ومائة مضاف اليه وسنين عطف بيان لثلاثمائة أو بدل ولا يصح أن يكون تمييزا لأن تمييز المائة مجرور وجره بالاضافة والتنوين مانع منها وسيأتي بحث العدد مفصلا في باب الفوائد وازدادوا فعل وفاعل وتسعا مفعول به أي تسع سنين. (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) الله مبتدأ وأعلم خبر والجملة مقول القول وبما متعلقان بأعلم وجملة لبثوا صلة الموصول أي بالزمن الذي لبثوه. (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) له خبر مقدم وغيب السموات والأرض مبتدأ مؤخر وأبصر صيغة تعجب وهو فعل ماض أتى على صيغة الأمر ومعناه الخبر والباء مزيدة في الفاعل إصلاحا للفظ وسيأتي البحث في صيغتي التعجب في باب البلاغة واسمع عطف على ابصر. (ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) ما نافية ولهم خبر مقدم ومن دونه حال ومن حرف جر زائد وولي مبتدأ مؤخر محلا ولا الواو عاطفة ولا نافية ويشرك فعل مضارع وفاعل مستتر وفي حكمه متعلقان بيشرك وأحدا مفعول به. البلاغة: الكلام يطول جدا على هذه الآيات وما اشتملت عليه من فنون بلاغية وسنجنح الى الاختصار ما أمكن فنقول: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 564 1- الاستعارة المكنية: في قوله تعالى «يتنازعون بينهم أمرهم» استعارة مكنية فقد شبه أمرهم بشيء كثر النزاع حوله ثم حذف ذلك الشيء واستعير النزاع القائم حوله. وفي قوله تعالى «رجما بالغيب» استعارة مكنية أيضا فقد شبه الغيب والخفاء بشيء يرمى بالحجارة واستعير الرجم له. 2- واو الثمانية والخلاف المشتجر حولها: وعدناك بأن نأتي بالأقوال حول الواو الداخلة على ثامنهم في قوله تعالى «ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم» وقد قدمنا في الاعراب ما اخترناه من هذه الأقوال فقال عدد من كبار الأدباء انها واو الثمانية قال ابن هشام: «واو الثمانية ذكرها جماعة من الأدباء كالحريري ومن النحويين الضعفاء كابن خالويه ومن المفسرين كالثعلبي وزعموا أن العرب إذا عدوا قالوا ستة سبعة وثمانية إيذانا بأن السبعة عدد تام وان ما بعده عدد مستأنف واستدلوا على ذلك بآيات احداها «سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم» الى قوله سبحانه «وثامنهم كلبهم» وقيل هي في ذلك لعطف جملة على جملة إذ التقدير هم سبعة ثم قيل الجميع كلامهم وقيل العطف من كلام الله تعالى والمعنى نعم هم سبعة وثامنهم كلبهم وان هذا تصديق لهذه المقالة كما ان رجما بالغيب تكذيب لتلك المقالة» وبعد كلام طويل قال: «وأقول لو كان لواو الثمانية حقيقة لم تكن الآية منها إذ ليس فيها ذكر عدد البتة وانما فيها ذكر الأبواب وهي جمع لا يدل على عدد خاص ثم الواو ليست داخلة عليه بل على جملة هو فيها» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 565 وقال آخرون في الرد على من زعم وجود واو الثمانية: وهو أن في اللغة واوا تصحب الثمانية وتختص بها فأين ذكر العدد في أبواب الجنة حتى ينتهي الى الثامن فتصحبه الواو وربما عدوا من ذلك «والناهون عن المنكر» وهو الثامن من قوله تعالى «التائبون» وهذا مردود أيضا بأن الواو إنما اقترنت بهذه الصفة لتربط بينها وبين الأولى التي هي الآمرون بالمعروف لما بينهما من التناسب والربط ألا ترى اقترانهما في جميع مصادرهما ومواردهما كقوله: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وكقوله: وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، وربما عد بعضهم من ذلك الواو في ثيبات وأبكارا لأنه وجدها مع الثامن وهذا غلط فاحش فإن هذه واو التقسيم ولو ذهبت تحذفها فتقول ثيبات أبكارا لم يستدل الكلام فقد وضح أن المراد في جميع هذه المواضع المعدودة ورادة لغير ما زعمه هؤلاء. قلت: لو سقطت الواو من أبكار لاختل المعنى لأنهن لا يكنّ ثيبات أبكارا في وقت معا فاضطر الى الواو لتدل على المغايرة. هذا وقد كان القاضي الفاضل صاحب الطريقة المصنوعة في الإنشاء يعتقد زيادة الواو في هذه الآية ويتبجح باستخراجها ويقول هي واو الثمانية الى أن ذكر ذلك بحضرة الشيخ أبو الجود المقري فبين له أنه وأهم وان الضرورة تدعو الى دخولها وإلا فسد المعنى بخلاف واو الثمانية فانه يؤتى بها لا لحاجة فقال أرشدتنا يا أبا الجود. هذا وممن أيد وجود واو الثمانية الإمام فخر الدين الرازي وقال العلامة الكافيجي قولا طريفا منصفا في هذا الصدد نورده بنصّه: «هي في التحقيق واو العطف لكن لما اختص استعمالها بمحل مخصوص وتضمنت أمرا غريبا واعتبارا لطيفا ناسب أن تسمى باسم غير جنسها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 566 فسميت واو الثمانية لمناسبة بينها وبين سبعة وذلك لأن السبعة عندهم عقد تام كعقود العشرات لاشتمالها على أكثر مراتب أصول الأعداد فان الثمانية عقد مستأنف فكان بينهما اتصال من وجه وانفصال من وجه وهذا هو المقتضي للعطف وهذا المعنى ليس موجودا بين السبعة والستة. وأقول: ان توجيه تمام السبعة هو أن العدد إما فرد وإما مركب من فردين وهو الزوج أو من زوج وفرد أو من زوجين والثلاثة الأول من الثلاثة فان في ضمنها الواحد والاثنين والآخر من الأربعة. ومجموع الثلاثة والأربعة سبعة فتمت بها الأصول وما يأتي تكرار فالثمانية زوج وزوج قد مضى والتسعة زوج وفرد وهكذا. هذا وسيأتي المزيد من هذا البحث عند الكلام على «وفتحت أبوابها» وعلى «ثيبات وأبكارا» فقد طال البحث جدا. الفوائد: 1- أحكام العدد وتمييزه: مميز العدد على ضربين منصوب ومجرور فالمجرور على ضربين مفرد ومجموع فالمفرد مميز المائة والألف والمجموع مميز الثلاثة الى العشرة والمنصوب مميز أحد عشر الى تسعة وتسعين ولا يكون إلا مفردا ومما شذ عن ذلك قولهم ثلاثمائة الى تسعمائة اجتزءوا بلفظ الواحد عن الجمع وقد رجع الى القياس من قال: ثلاث مئين للملوك وفي بها ... ردائي وجلت عن وجوه الاهاتم فجاء بتمييز الثلاث جمعا من لفظ المائة على ما يقتضيه القياس وإن كان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 567 شاذا في الاستعمال ويجوز في التمييز حينئذ وجهان أحدهما الاتباع على البدل نحو ثلاثة أثواب والنصب على التمييز نحو ثلاثة أثوابا وقوله تعالى ثلاثمائة سنين نصب على البدل أو عطف البيان لثلاثمائة. هذا رأي أبي اسحق الزجاج قال: ولا يجوز أن يكون تمييزا لأنه لو كان تمييزا لوجب أن يكون أقل ما لبثوا تسعمائة سنة لأن المفسر يكون لكل واحد من العدد وكل واحد سنون وهو جمع والجمع أقل ما يكون ثلاثة فيكونون قد لبثوا تسعمائة سنة وأجاز الفراء أن يكون سنين تمييزا على حد قوله: فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سودا كخافية الغراب الأعصم قال وذلك انه جاء في التمييز سودا وهو جمع لأن الصفة والموصوف شيء واحد والمذهب الأول لأن الثواني يجوز فيها مالا يجوز في الأوائل ألا ترى أنك تقول يا زيد الطويل ولو قلت يا الطويل لم يجز. هذا والبيت لعنترة من معلقته التي مطلعها: هل غادر الشعراء من متردّم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم وقبل البيت المستشهد به: ما راعني إلا حمولة أهلها ... وسط الديار تسف حب الخمخم وراعني أفزعني والحمولة: الإبل التي يحمل عليها ووسط ظرفه وإذا لم يكن ظرفا حركت السين فقلت وسط الدار واسع، وتسف: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 568 تأكل يقال: سففت الدواء أسفه، والحلوبة المحلوبة تستعمل في الواحد والجمع على لفظ واحد، والخوافي أواخر ريش الجناح مما يلي الظهر، والأسحم الأسود، واثنتان مرفوع بالابتداء وأربعون معطوف عليه وقوله سودا نعت لحلوبة لأنها في معنى الجمع والمعنى من الحلائب والكاف في قوله كخافية في موضع نصب والمعنى سودا مثل خافية الغراب الأسحم ومما ذكرناه في تفسير الحلوبة وصلاحيتها للاطلاق على الواحد والجمع تعلم ما في قولهم ان الشاهد في هذا البيت جواز وصف المميز المفرد بالجمع وادعائهم ان حلوبة مفرد مميز للعدد وانه وصف بالجمع وهو سود الذي هو جمع سوداء وزعم الأعلم ان قوله سودا ليس بوصف وانما هو حال من قوله اثنتان وأربعون قال: «وهو حال من نكرة ويجوز رفعه على النعت ولا يكون نعتا لحلوبة لأنها مفردة إذا كانت تمييزا للعدد وسودا جمع ولا ينعت الواحد بالجمع» وليس بشيء لأنهم غفلوا عن السر وهو إطلاق حلوبة على الواحد والجمع. هذا ونلخص فيما يلي أحكام العدد عامة: ألفاظ العدد من ثلاثة إلى تسعة تكون على عكس المعدود في التذكير والتأنيث سواء كانت مفردة كقوله تعالى «سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما» أو مركبة كخمسة عشر قلما وست عشرة ورقة أو معطوفا كثلاثة وعشرين يوما وأربع عشرين ساعة، وأما واحد واثنان منهما على وفق المعدود في الأحوال الثلاثة، وأما مائة وألف فلا يتغير لفظهما في التذكير والتأنيث، وكذلك ألفاظ العقود كعشرين وثلاثين إلا عشرة فهي على عكس معدودها إذا كانت مفردة، وعلى وفقه إذا كانت مركبة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 569 هذا ويصاغ من اسم العدد وصف على وزن فاعل مطابق لموصوفه، أما تعريف العدد، فالمضاف تدخل ال على المضاف إليه، والمركب تدخل ال على جزئه الأول، والمعطوف تدخل ال على الجزأين. واما اعراب الاعداد فعلى ثلاثة أشكال: 1- بالحركات من واحد الى عشرة على أن تكون هذه مفردة غير مركبة ويستثنى منها العدد اثنان للمذكر واثنتان للمؤنث فانهما لفظان ملحقان بالمثنى. وكذلك العددان مائة وألف. 2- بالحروف وهو العدد اثنان للمذكر واثنتان للمؤنث والعقود. 3- بالبناء على الفتح وهي الأعداد المركبة أي من أحد عشر الى تسعة عشر ومن الحادي عشر الى التاسع عشر ما عدا الجزء الاول من اثني عشر لأنه يلحق بالمثنى كما تقدم. اسم الفاعل المشتق من العدد: يستعمل اسم الفاعل المشتق من العدد على معنيين: أحدهما: أن يكون المراد به واحدا من جماعة. وثانيهما: أن يكون فاعلا كسائر أسماء الفاعلين. فالأول نحو ثاني اثنين وثالث ثلاثة قال الله تعالى: «لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة» وقال عز وجل: «إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين» فما كان من هذا الضرب فإضافة محضة لأن معناه أحد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 570 ثلاثة وبعض ثلاثة فكما أن إضافة هذا صحيحة فكذلك ما هو في معناه ولا يجوز فيه أن ينون وينصب في قول أكثر النحويين لأنه ليس مأخوذا من فعل عامل وأما الثاني وهو ما يكون فاعلا كسائر أسماء الفاعلين نحو ثالث اثنين ورابع ثلاثة وخامس أربعة فهذا غير الوجه الأول إنما معناه هو الذي جعل الاثنين ثلاثة بنفسه فمعناه الفعل كأنه قال الذي ثلثهم وربعهم وخمسهم وعلى هذا قوله تعالى: «ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم» ومثله: «سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم .... رجما بالغيب» ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم وعلى هذا الوجه يجوز أن ينون وينصب ما بعده فتقول: هذا ثالث اثنين ورابع ثلاثة لأنه مأخوذ ثلثهم وربعهم فهو بمنزلة هذا ضارب زيدا والأول أكثر قال سيبويه: قلما تريد العرب هذا يعني خامس أربعة فإن أضفته فهو بمنزلة ضارب زيد فتكون الاضافة غير محضة هذا إذا أريد به الحال أو الاستقبال فان أريد به الماضي لم يجز فيه إلا حذف التنوين والإضافة كما كان كذلك في قولك هذا ضارب زيد أمس. 2- التعجب وصيغة في العربية: التعجب انفعال يحدث في النفس عند الشعور بأمر خفي سببه ولهذا يقال: إذا ظهر السبب بطل العجب ولا يطلق على الله انه متعجب إذ لا شيء يخفى عليه وما وقع مما ظاهره ذلك في القرآن فمحمول على انه مصروف الى المخاطب نحو قوله تعالى فما أصبرهم على النار أي أن حالهم في ذلك اليوم ينبغي لك أيها المخاطب أن تتعجب وقيل التعجب هو استعظام فعل فاعل ظاهر المزية فيه، وقوله تعالى هنا «أبصر به وأسمع» ذهب العلماء فيه ثلاثة مذاهب: 1- انه بلفظ الأمر ومعناه الخبر والباء مزيدة في الفاعل إصلاحا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 571 للفظ فإن قلت كيف تكون الهاء فاعلا وهي ضمير نصب أو جر قلت إنما هو اصطلاح وساغ ذلك لوجود الباء لفظا قبلها ولأن الباء إنما زيدت ليصير على صورة المفعول. 2- ان الفاعل ضمير المصدر. 3- ان الفاعل ضمير المخاطب واحتج القائلون بذلك على انه لا يعهد استعمال الأمر في الماضي وانما التزم إفراده وتذكيره فلم يثن ولم يجمع ولم يؤنث لأنه كلام جرى مجرى المثل وهذه إحدى صيغ التعجب القياسية. والثانية ما أفعله وهاتان الصيغتان هما المبوب لهما في كتب النحو وهما القياسيتان ومعنى ما كما قال سيبويه انها نكرة تامة بمعنى شيء وابتدئ بها لتضمنها معنى التعجب وما بعدها من الجملة الفعلية في موضع رفع خبرها وهذا هو المذهب الصحيح لأن قصد المتعجب الإعلام بأن المتعجب منه ذو مزية إدراكها جلي وسبب الاختصاص بها خفي فاستحقت الجملة المعبر بها عن ذلك أن تفتح بنكرة غير مختصة ليحصل بذلك إبهام متلو بافهام. وهنالك صيغ أخرى للتعجب واردة في الكتاب والحديث ولسان العرب فمن الكتاب «كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم» ومن الحديث قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة «سبحان الله ان المؤمن لا ينجس» ومن كلام العرب «لله دره فارسا» ولكن النحاة لم يبوبوا لهذه الصيغ لأنها لم تدل على التعجب بالوضع بل بالقرينة. مسائل هامة: 1- لا يتعجب الا من معرفة أو نكرة مختصة فلا يقال ما أسعد رجلا لأنه لا فائدة من ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 572 2- يجوز حذف المتعجب منه إذا كان ضميرا كقول علي بن أبي طالب كما قيل: جزى الله عني والجزاء بفضله ... ربيعة خيرا ما أعف وأكرما أي ما أعفها وأكرمها وإنما قلنا كما قيل لأن هذا البيت لم يثبت لعلي وفي القاموس في مادة «ودق» نقلا عن المازني وصوبه الزمخشري انه لم يصح انه تكلم بشيء من الشعر غير بيتين وهما قوله: تلكم قريش تمناني لتقتلني ... فلا وربك لا برّوا ولا ظفروا وإن هلكت فرهن ذمتي لهم ... بذات ودقين لا يعفو لها أثر وفي باب أفعل به إن كان معطوفا على آخر مذكور معه كما في الآية: «أبصر به وأسمع» وانما حذف مع كونه فاعلا لأن لزومه للجر كساه صورة الفضلة وشذ حذفه دون أن يعطف على مثله كقول عروة ابن الورد: فذلك إن يلق المنية يلقها ... حميدا وإن يستغن يوما فأجدر فحذف المتعجب منه ولم يكن معطوفا على مثله. هذا ولا يبنى هذان الفعلان إلا مما اجتمعت فيه ثمانية شروط: 1- أن يكون فعلا وشذ قولهم ما أذرع المرأة بنوه من قولهم امرأة ذراع والذراع كسحاب: الخفيفة اليدين بالغزل وروى ابن القطاع في الأفعال ذرعت المرأة خفت يدها في العمل فهي ذراع وعلى هذا لا شذوذ في قولهم ما أذرع المرأة ومن ذلك قولهم ما أجدره بكذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 573 وما أقمنه بكذا فالأول بنوه من قولهم هو قمين بكذا والثاني من قولهم هو جدير بكذا والمعنى فيهما ما أحقه بكذا ولا فعل لهما ولكن قال في القاموس «وقد جدر ككرم جدارة وإنه لمجدرة أن يفعل ومجدور أي مخلقة وجدره جعله جديرا» وطاح كلام النحاة من أساسه. 2- أن يكون الفعل ثلاثيا فلا يبنيان من رباعي مجرد ولا مزيد فيه ولا ثلاثي مزيد بحرف أو حرفين أو ثلاثة إلا وزن أفعل فقيل يجوز بناؤهما منه سواء كانت الهمزة فيه للنقل أم لا نحو ما أظلم الليل وما أفقر هذا المكان وقيل هو شاذ يحفظ ما سمع منه كما تقدم ولا يقاس عليه وقالوا: ما أعطاه للدرهم وما أولاه للمعروف وما أتقاه الله وشذا كذلك ما أخصره لأنه من اختصر. 3- أن يكون الفعل متصرفا لأن التصرف فيما لا يتصرف نقض لوضعه وشذ ما أعساه وأعسى به. 4- أن يكون معناه قابلا للتفاضل أو التفاوت فلا يبنيان من نحو فني ومات وغرق لأنه لا مزية فيه لبعض فاعليه على بعض حتى يتعجب منه. 5- أن يكون مبنيا للمعلوم فلا يبنيان من المبني للمجهول وبعضهم استثنى ما كان ملازما للبناء على المجهول نحو عنيت بحاجتك وزهي علينا فيجيز التعجب لعدم اللبس فتقول ما أعناه بحاجتك وما أزهاه علينا. 6- أن يكون تاما فلا يبنيان من نحو كان وكاد وصار لأنهن نواقص وحكى ابن السراج والزجاج: ما أكون زيدا قائما. 7- أن يكون مثبتا فلا يبنيان من منفي سواء كان ملازما للنفي نحو ما عاج بالدواء أي ما انتفع به ومضارعه يعيج ملازم للنفي أيضا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 574 كذا قال النحاة وطاح كلامهم بوروده غير منفي، روى أبو علي القالي في نوادره: أنشدنا ثعلب عن ابن الاعرابي: ولم أر شيئا بعد ليلى ألذه ... ولا مشربا أروى به فأعيج أي أنتفع به أم غير ملازم للنفي لئلا يلتبس المنفي بالمثبت. 8- أن لا يكون اسم فاعله على وزن أفعل فعلاء فلا يبنيان من نحو عرج فهو أعرج من العيوب وشهل فهو أشهل من المحاسن وخضر الزرع فهو أخضر من الألوان ولمي فهو ألمى من الحلي لأن الألوان والعيوب والمحاسن الظاهرة جرت مجرى الخلق الثابتة التي لا تزيد ولا تنقص كاليد والرجل وسائر الأعضاء في عدم التعجب منها. شرط تاسع: وهناك شرط تاسع أغفله الكثير من النحاة مع أنه مهم جدا وهو أن لا يستغنى عنه بالمصوغ من غيره نحو قال من القائلة فانهم لا يقولون ما أقيله استغناء بقولهم ما أكثر قائلته، ذكره سيبويه ونحو سكر وقعد وجلس فانهم لا يقولون ما أسكره وأقعده وأجلسه استغناء بقولهم ما أشد سكره وأكثر قعوده وجلوسه وزادّ ابن عصفور قام وغضب ونام، وحكى سيبويه ما أنومه وقالوا أنوم من فهد. كيف يتم التوصل الى التعجب مما فقد بعض الشروط: ويتوصل الى التعجب من الزائد على الثلاثي ومما وصفه على أفعل فعلاء بما أشد ونحوه وبنصب مصدرهما بعده وبأشدد ونحوه وبجر مصدرهما بعده فتقول ما أشد انطلاقه أو حمرته وأشدد بانطلاقه وحمرته والمنفي والمبني للمجهول يكون مصدرهما مؤولا لا صريحا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 575 نحو ما أكثر أن لا يقوم وما أشد ما ضرب واشدد بهما وأما الناقص فيؤتى بمصدره إن كان له مصدر على نحو ما تقدم نحو ما أشد صيرورته جميلا وأما الجامدة وغير القابل للتفاوت فلا يتعجب منهما البتة. 3- القول في أحد، والفرق بين الأحد والواحد: أحد أكمل من الواحد ألا ترى أنك إذا قلت: فلان لا يقوم له واحد جاز في المعنى أن يقوم له اثنان فأكثر بخلاف قولك لا يقوم له أحد وفي الأحد خصوصية ليست في الواحد تقول ليس في الدار أحد فيجوز أن يكون من الدواب والطير والوحش والإنس فيعم الناس وغيرهم بخلاف ليس في الدار واحد فإنه مخصوص بالآدميين. ويأتي الأحد في كلام العرب بمعنى الواحد فيستعمل في النفي والإثبات نحو «قل هو الله أحد» أي واحد، وأول «فابعثوا أحدكم بورقكم» وبخلافهما فلا يستعمل إلا في النفي تقول ما جاءني من أحد ومنه قوله تعالى: «أيحسب أن لن يقدر عليه أحد» وواحد يستعمل فيهما مطلقا وأحد يستعمل في المذكر والمؤنث قال تعالى «لستنّ كأحد من النساء» بخلاف الواحد فلا يقال كواحد من النساء بل كواحدة، وأحد يصلح للأفراد والجمع ولهذا وصف به في قوله «من أحد عنه حاجزين» بخلاف الواحد والأحد له جمع من لفظه وهو الأحدون والآحاد وليس للواحد جمع من لفظه فلا يقال واحدون بل اثنان وثلاثة، والأحد ممتنع من الدخول في شيء من الحساب بخلاف الواحد فتلخص من ذلك سبعة فروق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 576 4- قصة انقطاع الوحي لفترة محدودة: ولا بد هنا من تفصيل قصة انقطاع الوحي فقد ذكر الرواة أن قريشا لجأت الى وسيلة رهيبة لتكافح بها تأثير القرآن فأوفدت الى يهود يثرب فدا يسألها عن الوسائل التي تستطيع أن تقاوم بها هذا الذي جاء به محمد فطلب منهم اليهود أن يسألوا النبي عن أمور فلما عادوا الى مكة ذهبوا اليه وقالوا يا محمد أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول قد كانت لهم قصة عجب وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي؟ فقال لهم النبي: - أخبركم عما سألتم غدا. وكان رسول الله ينتظر أن ينزل عليه وحي فيه جواب ما سألت عنه قريش ولكن الوحي أبطأ على النبي خمسة عشر يوما وطارت قريش فرحا بعجزه عن الجواب وقالت وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه وقد أحزن النبي انقطاع الوحي عنه حزنا شديدا وزاد في قلقه ما كان يتكلم به أهل مكة وفي ختام هذا اليوم نزل جبريل فابتدره بقوله: - لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنا فرد عليه جبريل بالآية الكريمة: «وما نتنزل إلا بأمر ربك، له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا» ثم أخذ جبريل يلقن النبي سورة «الكهف» وفيها- كما سيأتي- رد على ما سألت قريش وتفصيل رائع لكثير من الأمور التي تشغل الأذهان إذ ذاك وقد أخذت عليهم إجابات سورة الكهف السبيل فلم يحيروا ردا ولا جوابا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 577 [سورة الكهف (18) : الآيات 27 الى 28] وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) اللغة: (مُلْتَحَداً) : ملتجأ تجنح اليه لائذا إن هممت بالتبديل للقرآن وفي المصباح: «قال أبو عبيدة: ألحد إلحادا جادل ومارى ولحد جار وظلم وألحد في الحرم استحل حرمته وانتهكها والملتحد بالفتح اسم الموضع وهو الملجأ» وفي القاموس: «التحد عن الدين بمعنى ألحد والتحد إلى كذا مال والتحد إلى فلان التجأ» . (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ) لا تنصرف يقال عداه إذا جاوزه ومنه قولهم عدا طوره وجاءني القوم عدا زيد فحق الكلام أن يقال بالنصب أي لا تعد عينيك وانما عدل الى الرفع لأنه أراد صاحب العينين فهو من المجاز وسيأتي مزيد شرح له في باب البلاغة. (فُرُطاً) : بضمتين أي مجاوزا الحد وقد تقدم شرح هذه المادة مفصلا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 578 الإعراب: (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) الواو عاطفة واتل فعل أمر مني على حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت وما مفعول به وجملة أوحي صلة وإليك متعلقان بأوحي ومن كتاب ربك حال من ما. (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) لا نافية للجنس ومبدل اسمها مبني على الفتح ولكلماته خبر والجملة حالية ولن تجد عطف ومن دونه حال وملتحدا مفعول به. (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) واصبر عطف وهو فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت ونفسك مفعول به ومعنى الصبر هنا حبس النفس وتثبيتها وفي المختار: الصبر حبس النفس عن الجزع وبابه ضرب وصبره حبسه قال تعالى: «واصبر نفسك» وقال أبو ذؤيب يرثي ابنه: فصبرت عارفة لذلك جسرة ... ترسو إذا نفس الجبان تطلع أي حبست نفسا عارفة لذلك البلاء وضمّن عارفة معنى صابرة فعداه باللام وجسرة أي قوية صلبة ويروى حرة تسكن إذا طلعت نفس الجبان من مستقرها وطارت شعاعا. ومع الذين ظرف مكان متعلق باصبر وجملة يدعون ربهم صلة وربهم مفعول به وبالغداة والعشي متعلقان بيدعون وجملة يريدون وجهه حال. (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) عطف على واصبر ولا ناهية وتعد مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف حرف العلة وعيناك فاعل وعنهم متعلقان بتعد وجملة تريد زينة الحياة الدنيا حال والدنيا صفة وسيأتي القول مفصلا عنها في باب الفوائد. (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) الواو عاطفة على ما تقدم ولا ناهية وتطع مجزوم بها والفاعل مستتر ومن مفعول به وجملة أغفلنا صلة وقلبه مفعول به وعن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 579 ذكرنا متعلقان بأغفلنا واتبع هواه فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به والواو عاطفة وكان واسمها وخبرها. البلاغة: المجاز العقلي: في قوله «ولا تعد عيناك» مجاز عقلي لأنه أسند فعل عدا أي تجاوز الى العينين ومن حقه أن يسندهما إليه لأن عدا متعد بنفسه كما تقدم وانما جنح الى المجاز لأنه أبلغ من الحقيقة فكأن عينيه ثابتتان في الرنو إليهم وكأنما أدركتا ما لا تدركان وأحستا بوجوب النظر الى هؤلاء وصبر النفس ورياضتها على ملازمتهم. وقيل هو من باب التضمين فقد ضمن عدا معنى نبا وعلا من قولهم نبت عينه عنه إذا اقتحمته ولم تعلق به والغرض من هذا التضمين إعطاء مجموع معنيين وذلك أقوى من إعطاء معنى مفرد أي لا تقتحمهم عيناك مجاوزتين الى غيرهم وهو جميل أيضا. الفوائد: القاعدة في اسم التفضيل انه إذا كان مقترنا بأل امتنع وصله بمن الجارة فلا يقال فلان الأفضل من فلان ووجبت مطابقته لما قبله إفرادا وتثنية وجمعا وتذكيرا وتأنيثا وقد شذ وصله بمن في قول الشاعر: ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر وإذا تجرد من أل والاضافة فلا بد من إفراده وتذكيره في جميع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 580 أحواله وأن تتصل به من المجارة ولو تقديرا نحو قوله تعالى «وللآخرة خير وأبقى» . وإذا أضيف الى نكرة وجب إفراده وتذكيره وامتنع وصله بمن الجارة. وإذا أضيف الى معرفة امتنع وصله بمن الجارة وجاز فيه وجهان: الإفراد والتذكير كالمضاف الى نكرة ومطابقته لما قبله وقد ورد الاستعمالان في القرآن فمن الأول «ولتجدنهم أحرص الناس على حياة» ولم يقل أحرصي الناس ومن الثاني «وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها» . حكم الدنيا: هذا والقياس أن تأتي الدنيا بالألف واللام لأنها صفة في الأصل على وزن فعلى والمذكر الأدنى له فمن حقها المطابقة كما أتت في الآية التي نحن بصددها على أنهم استعملوها استعمال الأسماء فهم لا يكادون يذكرون معها الموصوف فاستعملوها بغير ألف ولام كسائر الأسماء قال العجاج: يوم ترى النفوس ما أعدت ... من نزل إذا الأمور غبت في سعي دنيا طالما قد مدت ... حتى انقضى قضاؤها فأدت وقال بشامة بن حزن النهشلي وقيل للمرقش الأكبر: وإن دعوت الى جلى ومكرمة ... يوما سراة كرام الناس فادعينا فقيل جلى مؤنث أجل على حد الأكبر والكبرى وبذلك يجري مجرى دنيا في سيرورة الاستعمال استعمال الأسماء وقيل هو مصدر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 581 كالرجعى والبشرى بمعنى الرجوع والبشارة فأما قول أبي نواس الحسن ابن هانىء يصف الخمر: كأن صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب فقد عابه بعضهم لكونه استعملها نكرة وهذا الضرب من الصفات لا يستعمل إلا معرفة والاعتذار عنه انه استعملها استعمال الأسماء لكثرة ما يجيء منه بغير تقدم موصوف ويجوز أن يكون لم يرد فيه التفضيل بل معنى الفاعل كأنه قال كأن صغيرة وكبيرة من فواقعها على حد قوله تعالى «وهو أهون عليه» وقيل ان «من» المذكورة زائدة وكبرى مضافة الى فواقعها لكن يرد على هذا أن زيادة من في الموجب لا تجوز. وقال ابن الأثير في المثل السائر: «ألا ترى أن أبا نواس كان معدودا في طبقات العلماء مع تقدمه في طبقات الشعراء وقد غلط فيما لا يغلط مثله فيه فقال في صفة الخمر: كأن صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب وهذا لا يخفى على أبي نواس فإنه من ظواهر علم العربية وليس من غوامضه في شيء لأنه أمر نقلي يحمله ناقله فيه على النقل من غير تصرف وقول أبي نواس «صغرى وكبرى» غير جائز فإن فعلى أفعل لا يجوز حذف الألف واللام منها وانما يجوز حذفها من فعلي التي لا أفعل لها نحو حبلى إلا أن تكون فعلى أفعل مضافة وهاهنا قد عريت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 582 عن الاضافة وعن الألف واللام فانظر كيف وقع أبو نواس في مثل هذا الموضع مع قربه وسهولته» . ورد ابن أبي حديد في كتاب «الفلك الدائر» على هذا القول بأن قال: «لا ينكر أن كثيرا من أئمة العربية طعن في هذا البيت ولكن انتصر لأبي نواس كثير منهم فقالوا: وجدنا فعلى أفعل في غير موضع واردة بغير لام ولا إضافة ولا من مثل دنيا في قول الراجز: في سعي دنيا طالما قد مدت، وقول الآخر: وإن دعوت الى جلى ومكرمة، وقول الآخر لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة، وقالوا: طوبى لك. وفي البيت وجه آخر وهو أن تكون من في قوله من فواقعها زائدة على مذهب أبي الحسن الأخفش في زيادة من في الواجب فإنه يذهب الى ذلك ويحتج بقوله تعالى: «فيها من برد» أي فيها برد وهذا يرجح أن يكون صغرى وكبرى في البيت مضافتين» . وقال الشيخ بهاء الدين بن النحاس: هذا عجيب من مثل هذا الرجل الفاضل أما إيراده دنيا وأخواتها فكل وجوهها مذكورة في كتب النحاة بما يغني عن الإطالة بذكره بخلاف صغرى وكبرى، وأما قوله بزيادة من فكأنه يظن أن من إذا كانت زائدة كان الجر بالإضافة أو كانت الإضافة باقية وهذا لا وجه له وإنما الجر بحرف الجر لأن حروف الجر لا تعلق وأما زيادة حرف الجر بين المتضايفين فلم بقل به إلا في مثل لا أبا لك على شذوذ وليس هذا منه ولا يريد الأخفش بقوله ان من تزاد في الواجب ما أراد ابن أبي الحديد» ومثله قول العروضيين فاصلة صغرى وفاصلة كبرى أي صغيرة وكبيرة لا يريدون التفضيل وانما يريدون الاسم وقول أبي تمام يصف الربيع: دنيا معاش للورى حتى إذا ... حل الربيع فإنما هي منظر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 583 غلبت الاسمية عليها حتى لم يعد يلمح لأصل التفضيل فيها. وننتهز الفرصة لنورد أبياتا من القصيدة التي منها هذا البيت لأبي نواس لحسنها، ومطلعها: ساع بكأس إلى ناس على طرب ... كلاهما عجب في منظر عجب قامت تريني وستر الليل منسدل ... صبحا تولد بين الماء والعنب كأن صغرى وكبرى .... البيت وبعده كأن تركا صفوفا في جوانبها ... تواتر الرمي بالنشاب من كثب في كف ساقية ناهيك ساقية ... في حسن قدّ وفي ظرف وفي أدب [سورة الكهف (18) : الآيات 29 الى 31] وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 584 اللغة: (أَعْتَدْنا) : أعددنا وهيأنا وفي القاموس «عتّد وأعتد الشيء: هيأه وأعده وعتد الشيء يعتد من باب ظرف وجمل عتادا تهيأ، وتعتد في صنعته تأنّق فيها والعتاد: ما أعد لأمر ما، وكل ما هيء من سلاح وآلة حرب والجمع أعتد وعتد وأعتدة» . (سُرادِقُها) : السرادق بضم السين وكسر الدال: الفسطاط الذي يمد فوق صحن البيت والخيمة والغبار والدخان المرتفع المحيط بالشيء والجمع سرادقات وفي الكشاف: «شبه ما يحيط بهم من النار بالسرادق وهو الحجرة التي تكون حول الفسطاط وبيت مسردق ذو سرادق وقيل هو دخان يحيط بالكفار قبل دخول النار وقيل حائط من نار يطيف بهم» وقال الراغب: «السرادق: فارسي معرب وليس في كلامهم اسم مفرد ثالث حروفه ألف بعدها حرفان إلا هذا وفي المختار: السرادق مفرد والجمع سرادقات الذي يمد فوق صحن الدار وكل بيت من كرسف أي قطن فهو سرادق ويقال بيت مسردق. قال الجوهري: والسرادق واحد السرادقات وهي التي تمد فوق صحن الدار وكل بيت من كرسف فهو سرادق ومنه قول رؤبة: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 585 يا حكم بن المنذر بن جارود ... سرادق المجد عليك ممدود وقال الشاعر: هو المدخل النعمان بيتا سماؤه ... صدور الفيول بعد بيت مسردق يقوله سلام بن جندل لما قتل ملك الفرس ملك العرب النعمان ابن المنذر تحت أرجل الفيلة. (المهل) : بضم الميم اسم يجمع معدنيات الجواهر كالفضة والحديد والصفر، ما كان منها ذائبا، القطران الرقيق، الزيت الرقيق، السم، القيح أو صديد الميت خاصة، ما يتحات عن الخبز من الرماد وقيل هو كعكر الزيت أي ما بقي في الإناء منه والخلاصة هو اسم جامع لكل المستقذرات التي تغثى منها النفس وتتألم وتنفر. (مُرْتَفَقاً) : تقدم ذكر هذه المادة في هذه السورة وهي هنا متكأ من المرفق وهذا لمشاكلة قوله وحسنت مرتفقا الآتي وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء وقد يكون من وادي قوله: إني أرقت فبت الليل مرتفقا ... كأن عيني فيها الصاب مذبوح والارتفاق الاتكاء على المرفق مع نصب الساعد وهي هيئة المتحزن المتحسّر، والصاب نبت مرّ كالحنظل، والمذبوح المشقوق وهو كناية عن البكاء وانصباب الدموع والبيت لأبي ذؤيب الهذلي. (السندس) : ما رقّ من الديباج. (الاستبرق) : ما غلظ من الديباج والإستبرق يونانية والسندس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 586 فارسية وقيل هندية وقد تقدم ذكرهما في جدول أحصينا فيه الألفاظ الأعجمية. الإعراب: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) الحق خبر لمبتدأ محذوف ومن ربكم حال ويجوز أن يكون الحق مبتدأ ومن ربكم خبره، فمن شاء الفاء استئنافية ومن شرطية مبتدأ وشاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاعل مستتر تقديره هو والفاء رابطة للجواب لأن الجملة طلبية واللام لام الأمر ويؤمن مضارع مجزوم بلام الأمر ومن شاء فليكفر عطف على سابقتها. (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) إن واسمها وجملة أعتدنا خبرها وللظالمين متعلقان بأعتدنا ونارا مفعول به وأحاط بهم سرادقها الجملة صفة لنار، وأحاط فعل ماض وبهم متعلقان بأحاط وسرادقها فاعل أحاط.. (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) الواو عاطفة وإن شرطية ويستغيثوا فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل ويغاثوا جواب الشرط وبماء متعلقان بيغاثوا وكالمهل صفة لماء وجملة يشوي الوجود صفة ثانية أو حال والوجوه مفعول به. (بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) بئس فعل ماض جامد من أفعال الذم، والشراب فاعل والمخصوص بالذم محذوف أي هي وساءت عطف على بئس ومرتفا تمييز محول عن الفاعل أي مرتفقها ولا تلتفت لمن أعربها مصدرا. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) إن واسمها وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا، إنا لا نضيع يجوز أن تكون هذه الجملة خبر إن أو يجوز أن تجعلها معترضة وان واسمها وجملة لا نضيع خبرها وفاعل نضيع مستتر تقديره نحن وأجر مفعول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 587 به ومن موصول مضاف اليه وجملة أحسن صلة وعملا تمييز ويجوز أن يكون مفعولا به وفاعل أحسن ضمير هو الرابط إذا جعلت إنا لا نضيع خبر إن الذين أو الرابط هو تكرر الظاهر بمعناه. (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) الجملة خبر ثان لإن الذين أو خبر إذا جعلت جملة إنا لا نضيع معترضة وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم وجنات عدن مبتدأ مؤخر والمبتدأ الثاني وخبره خبر أولئك وجملة تجري من تحتهم الأنهار حال من جنات أو صفة لها فصار لهم بذلك نوعان من الثواب من خمسة أنواع والثلاثة الباقية هي: (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) يحلون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وفيها حال أي حال كونهم في الجنة أو متعلقان بيحلون ومن أساور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول محذوف أي حليا من ذهب، ومن ذهب صفة لأساور ويلبسون عطف على يحلون والواو فاعل وثيابا مفعول به وخضرا صفة ومن سندس صفة أو حال من ثيابا وإستبرق عطف على سندس ومتكئين حال من أولئك وفيها حال أيضا فهي متداخلة وعلى الأرائك متعلقان بمتكئين فتمت بذلك النعم السوابغ الخمس. (نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) تقدم اعراب نظيرتها فجدد به عهدا. البلاغة: في هذه الآيات فنون كثيرة من البلاغة تقدم ذكر معظمها فنكتفي بالاشارة إليها: 1- التهكم: في قوله تعالى «يغاثوا بماء كالمهل» فقد سمى أعلى أنواع العذاب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 588 إغاثة والإغاثة هي الإنقاذ من العذاب تهكما بهم وتشفيا منهم والتهكم فن طريف من فنونهم من تهكمت البئر إذا تهدمت أو من التهكم بمعنى الغضب الشديد أو الندم على أمر فائت فالبشارة فيه إنذار والوعد معه وعيد والإجلال للمخاطب المتهكم به تحقير وهذه الآية من أحسن شواهده إذ جعل الإغاثة ضد الإغاثة نفسها ففيه الى جانب التهكم مشاكلة أيضا وقد افتتن الشعراء بهذا المعنى وأخذه بعضهم بلفظه فأجاد من جهة وأسف من جهة التركيب وذلك بقوله يهجو بخيلا: أبات الضيوف على سطحه ... فبات يريهم نجوم السماء وقد فتت الجوع أكبادهم ... وان يستغيثوا يغاثوا بماء وقد برع فيه من شعرائنا ابن الرومي وأوردنا نماذج من تهكمه ونورد الآن أبياتا له يتهكم فيها بصاحب لحية طويلة: ارع فيها الموسى فإنك منها ... يشهد الله في اثام كبير أيما كوسج يراها فيلقى ... ربه بعدها صحيح الضمير هو أحرى بأن يشك ويغرى ... باتهام الحكم في التقدير لحية أهملت فسالت وفاضت ... فإليها تشير كف المشير ما رأتها عين امرئ ما رآها ... قط إلا أهلّ بالتكبير روعة تستخفه لم يرعها ... من رأى وجه منكر ونكير فاتق الله ذا الجلال وغيّر ... منكرا فيك ممكن التغيير أو فقصّر منها فحسبك منها ... نصف شبر علامة التذكير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 589 ومغالطته بادية من دخيلة إحساسه بهيبة اللحية حتى البحتري لم تسلم لحيته من هجوه إذ يقول: البحتري ذنوب الوجه تعرفه ... وما رأينا ذنوب الوجه ذا أدب 2- التشبيه المؤكد: في قوله تعالى «إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها» فقد شبه النار المحيطة بهم بالسرادق المضروب على من يحتويهم وأضيف السرادق الى النار فذلك هو التشبيه المؤكد وهو أن يضاف المشبه الى المشبه به كقول بعضهم: والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء فقد أضاف الأصيل وهو المشبه الى الذهب وهو المشبه به كما أضاف الماء الذي هو المشبه الى اللجين الذي هو المشبه به وقد رمقه شوقي فقال في وصف دمشق: دخلتها وحواشيها زمردة ... والشمس فوق لجين الماء عقيان والمراد بالتشبيه المؤكد قوله لجين الماء أما حواشيها زمردة والشمس عقيان فهو من التشبيه البليغ المضمر الأداة. 3- المشاكلة: وذلك في قوله «وساءت مرتفقا» فقد ذكر الارتفاق مشاكلة لقوله فيما بعد في وصف أهل الجنة «وحسنت مرتفقا» لأن ارتفاق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 590 اليد في النار لا يصح بل فيها العذاب والضرر وقد ذكرنا في باب اللغة انه يجوز أن يكون الارتفاق ناشئا عن الهم والعذاب كقول الهذلي المتقدم فلا مشاكلة ومن طريف المشاكلة قول بعضهم وقد دعاه إخوانه الى صبوح وليس لديه ثياب يلبسها فكتب إليهم: إخواننا قصدوا الصبوح بسحرة ... وأتى رسولهم إليّ خصيصا قالوا التمس شيئا نجد لك طبخة ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصا ومن المفيد أن نشير الى تأنيث حسنت وساءت وذلك على المعنى أي ساءت النار مرتفقا وحسنت الجنة مرتفقا. 4- الاستتباع: وهو فن جميل يتقصى الشيء الذي تتصدى للكتابة عنها باستقصاء الأوصاف المحيطة به والملائمة له فلا يكاد المتكلم يذكر معنى من المعاني أو يتناول غرضا من الأغراض حتى يستتبع معنى آخر من جنسه يقتضي زيادة في وصفه فقد ذكر تعالى الجنة جزاء للذين آمنوا وعملوا الصالحات فوصفها بأن الأنهار تجري خلالها من تحتهم ثم ذكر الأساور حلية لهم ونكرها لإبهام أمرها في الحسن وجمع بين السندس والإستبرق وهما ما رقّ وغلظ من ألبسة الحرير على عادة المترفين الذين يعدون ثيابا للصيف تصلح له وللشتاء لباسا أخرى تلائم حالات البرد الشديد وخص الاتكاء بالذكر لأنه هيئة المنعّمين المترفين المسترخين على المقاعد والسرر في الابهاء الممتعة والقصور المنيفة فسبحان قائل هذا الكلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 591 ومن الاستتباع في الشعر قول المتنبي: نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنئت الدنيا بأنك خالد فقد استتبع مدحه بالشجاعة مدحه بأنه سبب لصلاح الدنيا حيث جعلها مهنأة بخلوده لأنه سبب عمرانها ومثله قوله أيضا: الى كم ترد الرسل عما أتوا به ... كأنهم فيما وهبت ملام فقد مدح سيف الدولة بالشجاعة أيضا واستتبع في باقي البيت مدحه بالكرم لعصيان الملام في الهبات والمعنى انك تردهم عما يطلبون من الهدنة ردك لوم اللائمين لك في العطاء أي كما انك لا تصغي الى ملامة لائم في سخائك فكذلك لا تقبل الهدنة وهذا من أروع ما تبتكره الأذهان ومن الفائدة أن نورد أبياتا مختارة من هذه القصيدة التي قالها في مديح سيف الدولة وقد وردت عليه رسل الروم يطلبون الهدنة في سنة أربع وأربعين وثلاثمائة وأولها: أراع كذا؟ كل الملوك همام ... وسح له رسل الملوك غمام؟ يقول هل راع ملك جميع الملوك كما أرى من روعك إياهم وهل تقاطرت الرسل على ملك كما تقاطرت عليك جعل توالي الرسل عليه كسح الغمام وفي البيت براعة استهلال لأنه أشار فيه وهو مطلع القصيدة الى موضوع الرسل، ثم قال: ودانت له الدنيا فأصبح جالسا ... وأيامها فيما يريد قيام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 592 إذا زار سيف الدولة الروم غازيا ... كفاها لمام لو كفاه لمام فتى يتبع الأزمان في الناس خطوه ... لكل زمان في يديه زمام تنام لديك الرسل أمنا وغبطة ... وأجفان رب الرسل ليس تنام حذارا لمعرورى الجياد فجاءة ... إلى الطعن قبلا ما لهن لجام تعطف فيه والأعنة شعرها ... وتضرب فيه والسياط كلام الى كم ترد الرسل عما أتوا به ... كأنهم فيما وهبت ملام وإن كنت لا تعطي الذمام طواعة ... فعوذ الأعادي بالكريم ذمام وإن نفوسا أممتك منيعة ... وإن دماء أملتك حرام وفيها يقول: وشر الحمامين الزؤامين عيشة ... يذل الذي يختارها ويضام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 593 فلو كان صلحا لم يكن بشفاعة ... ولكنه ذل لهم وغرام [سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 594 اللغة: (أَعْنابٍ) : جمع عنب والعنبة الحبة وفي القاموس وغيره: عنّب الكرم: صار ذا عنب والعنب ثمر الكرم وجمعه أعناب والحبة منه عنبة. (وَحَفَفْناهُما) : جعلنا النخل محيطا بكل منهما. يقال: حفه القوم إذا طافوا به وحففته بهم إذا جعلتهم حافين حوله فتزيده الباء مفعولا ثانيا كقولك غشيه وغشيته به وفي الأساس: «حفّوا به واحتفّوا أطافوا وهم حافون به وحففته بالناس: جعلتهم حافّين به و «حفّت الجنة بالمكاره» «وحففناهما بنخل» ودخلت عليه وهو محفوف بخدمه، وهودج محفف بالديباج، قال امرؤ القيس: رفعن حوايا واقتعدن قعائدا ... وحفّفن من حوك العراق المنمّق وجلسوا حفافيه وحفافي سريره وهما جانباه وركبت في محفتها، وهو رجل محفوف بثوب، وما بقي في شعر رأسه إلا حفاف وهو طرّة حول رأسه وحفّت المرأة وجهها واحتفّته: أخذت شعره، وحفّ الفرس والريح والطائر والسهم حفيفا وهو صوت مروره والأغصان الشجرة حفيف» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 595 (ثَمَرٌ) : أنواع من المال من ثمر ماله إذا كثره بالتشديد وفي المصباح: الثمر بفتحتين والثمرة مثله فالأول مذكر ويجمع على ثمار مثل جبل وجبال ثم يجمع على ثمر ككتاب وكتب ثم يجمع على أثمار مثل عنق وأعناق والثاني مؤنث والجمع ثمرات مثل قصبة وقصبات والثمر هو الحمل الذي تخرجه الشجرة سواء أكل أو لا فيقال ثمر الأراك وثمر العوسج وثمر الدوم وهو المقل كما يقال ثمر النخل وثمر العنب، قال الأزهري: وأثمر الشجر أطلع ثمره أول ما يخرجه فهو مثمر ومن هنا قيل لما لا نفع فيه: ليس له ثمرة وفي الأساس: «وكان له ثمر» أي مال وانظر ثمر مالك ونماءه ومال ثمر: مبارك فيه وأثمر القوم وثمروا ثمورا: كثر مالهم وثمر ماله يثمر كثر وفلان مجدود ما يثمر له مال» والمراد في الآية انه كان الى جانب الجنتين الموصوفتين الأموال الداثرة من الذهب والفضة وغيرهما وكان وافر اليسار من كل وجه. (حُسْباناً) : إما أن تكون مصدرا كالغفران والبطلان فإن لحسب مصادر عديدة تقول حسبه بفتح السين يحسبه بضمها حسبا وحسابا وحسبانا وحسبانا وحسبة وحسابة: عده، وتقول: حسبه بكسر السين يحسبه بكسرها وفتحها حسبانا ومحسبة ومحسبة: ظنه، وتقول حسب بضم السين يحسب بضمها أيضا حسبا وحسابة: كان ذا حسب وذا كرم فهو حسيب، فإلى أي الفروع ينتمي هذا المصدر؟ واضح مما تقدم أنه ينتمي إما الى حسب يحسب بمعنى العد والمعنى عندئذ يرسل عليها مقدارا من العذاب قدره الله وحسبه وهو تخريبها والإطاحة بها وذلك الحسبان حساب ما كسبت يداه واما إن تكون حسبانا جمع حسبانة بضم الحاء وهي السهم أو الصاعقة وقال الزجاج عذاب حسبان وذلك الحسبان حساب ما كسبت يداك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 596 (زَلَقاً) : صفة لصعيدا أي ملساء لا تثبت عليه القدم وفي القاموس: الزلق بفتحتين والزلق بفتح فسكون أرض ملساء ليس بها شيء وصيرورتها كذلك لاستئصال نباتها. (غَوْراً) : مصدر غار في الأرض أي ذهب فلا سبيل اليه فهو بمعنى الفاعل أي غائرا في الأرض لا يدرك وزاد أبو نصر غئورا وغارت عينه تغور غئورا وغارت الشمس تغور غئورا أيضا والغور الاسم يقال: سقطت في الغور يعني الشمس وغار الرجل يغور غورا إذا أتى الغور وزاد اللحياني: وأغار أيضا وأنشد بيت الأعشى: نبيّ يرى مالا ترون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا فهذا على ما قال اللحياني وكان الكسائي يقول: هو من الاغارة وهي السرعة وكان الأصمعي يقول: أغار ليس هو من الغور إنما هو بمعنى عدا وقال اللحياني: يقال للفرس إنه لمغوار أي شديد العدو والجمع مغاوير والتفسير الأول الوجه لأنه قال وأنجدا فانه أراد أن الغور وأتى نجدا والغور تهامة وغار فلان على أهله يغار غيره ورجل عيور من قوم غير وامرأة غيرى من نساء غيارى وقال الأصمعي: فلان شديد الغار على أهله أي شديد الغيرة وزاد اللحياني والغير، وقال أبو نصر: أغار فلان على بني فلان يغير إغارة وقال اللحياني يقال للرجل: إنه لمغوار أي شديد الإغارة والجمع مغاوير وقال أبو نصر: يقال غارهم يغيرهم إذا مارهم والغيار المصدر قال عبد مناف بن ربعي الهذلي: ماذا يضير ابنتي ربع عويلهما ... لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 597 يريد انه لا يغني بكاؤهما على أبيهما من طلب ثأره شيئا. وقال أبو نصر: الغاران البطن والفرج يقال المرء يسعى لغاريه أي لبطنه وفرجه وقال أبو عبيدة: يقال لفم الإنسان وفرجه الغاران، وقال أبو نصر: الغار كالكهف في الجبل ويقال في أمثالهم «عسى الغوير أبؤسا» وأصله انه كان غار فيه ناس فانهار عليهم أو أتاهم فيه عدو فقتلوهم فيه فصار مثلا لكل ما يخاف منه الشر وقيل ان الغوير اسم ماء بناحية السماوة قالته الزباء لما رأت قصيرا الذي جاء يأخذ بثأر جذيمة الأبرش عن طريق الغوير والغوير تصغير غار وخلاصة معنى المثل عسى أن يكون جاء البأس من الغار وحسبنا ما تقدم فهذه المادة لا يدرك غورها. (خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) : العروش في المصباح: «العرش شبه بيت من جريد يجعل فوقه الثمام والجمع عروش» فهو في الأصل صنع ليوضع عليه الكرم فإذا سقط سقط ما عليه وقد تقدم تقريره. (الْوَلايَةُ) : بفتح الواو وبكسرها الملك والقهر والسلطة. الإعراب: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ) تقدم في سورة البقرة أن ضرب مع المثل يجوز أن يتعدى لاثنين لأنه بمعنى الجعل فاضرب فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولهم متعلقان باضرب ومثلا مفعول به ورجلين لك أن تجعلها بدلا من مثلا فيكون لهم بمثابة المفعول الثاني ومثلا هو المفعول الأول ولك أن تجعل رجلين هي المفعول الثاني وسيأتي حديث الرجلين. (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 598 بَيْنَهُما زَرْعاً) جملة جعلنا صفة لرجلين ولأحدهما مفعول ثان لجعلنا وجنتين مفعول أول ومن أعناب صفة لجنتين وحففناهما عطف على جعلنا وهو فعل وفاعل ومفعول به وبنخل متعلقان بحففناهما وجعلنا بينهما زرعا عطف على ما تقدم وقد تقدم إعراب نظيرتها. (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) كلتا مبتدأ وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف لأنه اسم مقصور وسيأتي حكم كلا وكلتا في باب الفوائد وجملة آتت أكلها خبر كلتا وقد روعي لفظها فأتى الخبر مفردا ولم تظلم عطف على آتت ومنه حال لأنه كان صفة لشيئا وشيئا إما مفعول به على أن تظلم بمعنى تنقص أو مفعول مطلق وقد تقدم تحقيق ذلك. ومن نوادر كلام العرب: قيل لأعرابي: أتأكل العنب؟ قال: ما ظلمني أن آكله أي ما منعني قال أبو عثمان سعيد بن هارون الاشنانداني: ومنه قول الله عز وجل: «ولم تظلم منه شيئا» أي لم تمنع. (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) فجرنا فعل وفاعل وخلالهما ظرف متعلق بفجرنا ونهرا مفعول به. (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ) الواو عاطفة وكان فعل ماض ناقص وله خبر كان المقدم وثمر اسمها المؤخر فقال عطف على وكان ولصاحبه متعلقان بقال والواو للحال وهو مبتدأ وجملة يحاوره خبر والجملة حالية والمراد به أحدهما. (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً) الجملة مقول القول وسيأتي أنه قال ثلاث قولات منافية للحق في باب البلاغة وأنا مبتدأ وأكثر خبر ومنك متعلقان بأكثر ومالا تمييز وأعز نفرا عطف على أكثر مالا. (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً) ودخل جنته فعل وفاعل ومفعول به على السعة وهو الواو للحال وهو مبتدأ وظالم خبر والجملة حالية ولنفسه متعلقان بظالم، وقال فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو وجملة ما أظن مقول القول وان وما بعدها سدت مسد مفعولي أظن وهذه فاعل تبيد وأبدا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 599 طرف زمان متعلق بتبيد. (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) وما أظن عطف على ما أظن الأولى والساعة مفعول به أول وقائمة مفعول به ثان وأراد وهو منكر للبعث: ما أحسب الساعة قائمة كما تزعم، كما أن شكه في بيدودة جنته وأمواله ناشىء عن طول اغتراره وهيمنة الحرص عليه، ولئن الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وان شرطية ورددت فعل ماضي مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط والتاء نائب فاعل ولأجدن اللام واقعة في جواب القسم وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم كما هي القاعدة على حد قول صاحب الخلاصة: واحذف لدى اجتماع شرط وقسم ... جواب ما أخرت فهو ملتزم وخيرا مفعول به لأجدن ومنها متعلقان بخيرا ومنقلبا تمييز أي مرجعا فهو مصدر ويجوز أن نعرب خيرا حال ومنقلبا مفعول أي منقلبا خيرا من منقلب هذه الدنيا. (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا) قال فعل ماض وله متعلقان به وصاحبه فاعل والواو للحال وهو مبتدأ وجملة يحاوره خبر والهمزة للاستفهام التوبيخي والتقريعي وكفرت فعل وفاعل وبالذي متعلقان بكفرت وجملة خلقك صلة ومن تراب جار ومجرور متعلقان بخلقك وثم من نطفة عطف، وثم حرف عطف وسواك فعل ماض وفاعل مستتر والكاف مفعول به ورجلا حال وإنما ساغ مجيئه حالا وهو غير مشتق لأنه بعد سواك إذ كان من الجائز أن يسويه غير رجل وسيأتي بحث ذلك مفصلا في باب الفوائد ويجوز أن يعرب مفعولا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 600 ثانيا لسواك، وأعربه بعضهم تمييز. (لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) لكنا الأصل لكن أنا فألقيت حركة الهمزة المحذوفة على النون وأدغمت النون في النون والجيد حذف الألف في الوصل وإثباتها في الوقف لأن أنا كذلك والألف فيه زائدة لبيان الحركة وانا مبتدأ وهو أي ضمير الشأن مبتدأ ثان والله مبتدأ ثالث وربي الخبر والياء عائدة على المبتدأ الأول ولا يجوز أن تكون لكن المشددة لعاملة نصبا إذ لو كان كذلك لم يقع بعدها هو لأنه ضمير مرفوع ويجوز أن يكون اسم الله بدلا من هو ومثل هذا التركيب قول القائل: وترمينني بالطرف أي أنت مذنب ... وتقلينني لكن إياك لا أقلى ولكن أصله لكن أنا فنقلت حركة الهمزة الى النون ثم حذفت ثم أدغمت النون في النون بعدها وحذفت الألف الأخيرة في الرسم كاللفظ ولو أجرى الوصل مجرى الوقف لثبتت وقدم المفعول وهو إياك للاهتمام ببراءتها من قلاه وتخصيصها بذلك دون غيرها من النساء وواضح ان قوله ترمينني بالطرف استعارة تصريحية لأنه شبه اطلاق البصر بإطلاق الحجر. والواو استئنافية ولا نافية وأشرك فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا وبربي متعلقان بأشرك وأحدا مفعول به. (وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) ولولا الواو عاطفة ولولا حرف تحضيض أي هلا وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بقلت وما شاء الله ما موصولة في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف أي هذا الذي شاءه الله من بدائع الجمال وتهاويل النعم وتعاجيب المنن والآلاء أو نعرب ما مبتدأ والخبر محذوف تقديره كان والجملة مقول القول وجملة شاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 601 الله صلة والعائد محذوف كما قدرناه ويجوز أن تكون شرطية منصوبة الموضع بفعل الشرط والجواب محذوف أي كان والمعنى أي شيء شاءه الله كان والجملة كلها مقول القول ولا نافية للجنس وقوة اسمها المبني على الفتح وإلا أداة حصر وبالله خبر لا. (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً) إن شرطية وترني فعل الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة والنون للوقاية والياء مفعول به وحذفت في رسم المصحف وأنا ضمير فصل وأقل مفعول به ثان لترني ويجوز أن تعرب أنا توكيدا للياء ومنك متعلقان بأقل ومالا تمييز وولدا عطف عليه. (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) الفاء رابطة لجواب الشرط لأنه اقترن بفعل الرجاء وهو جامد وقد تقدمت مواضع وجوب ربط الجواب بالفاء المجموعة في قول بعضهم: اسمية طلبية وبجامد ... وبما ولن وبقد وبالتنفيس وربي اسم عسى وان وما في حيزها في محل نصب خبرها وخيرا مفعول ثان ليؤتيني ومن جنتك متعلقان بخير. (وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) ويرسل عطف على يؤتيني والفاعل مستتر تقديره هو وعليها متعلقان بيرسل وحسبانا مفعول به فتصبح الفاء عاطفة على ما تقدم وتصبح فعل مضارع منصوب لأنه عطف على ما تقدم واسم تصبح مستتر تقديره هي وصعيدا خبر تصبح وزلقا نعت لصعيد من باب الوصف بالمصدر. (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) أو حرف عطف ويصبح معطوف على ما قبله وماؤها اسم يصبح وغورا خبرها والفاء عاطفة ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويستطيع منصوب بلن والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت وله متعلقان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 602 بطلبا وطلبا مفعول به. (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) الواو عاطفة على محذوف يقدر بحسب مدلول الكلام أي فانقضت الصواعق على جنته وغارت الأمواه فيها وأحيط بثمره بالهلاك أيضا وأحيط فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر وبثمره متعلقان بأحيط فأصبح عطف واسمها مستتر تقديره هو وجملة يقلب كفيه خبرها وعلى ما متعلقان بيقلب لأنه ضمن معنى يندم وسيأتي سر هذا التعبير في باب البلاغة ويجوز أن يتعلق الجار والمجرور بمحذوف على أنه حال من فاعل كفيه أي نادما. (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) الواو للحال وهي مبتدأ وخاوية خبر وعلى عروشها خبر ثان وقد تقدم إعرابه ويقول عطف على يقلب أو الواو للحال وجملة يقول حال من فاعل يقلب وجملة يا ليتني لم أشرك مقول القول ولم حرف نفي وقلب وجزم وبربي متعلقان بأشرك وأحدا مفعول به وقوله يا ليتني تقدم بحثه مرارا وهو أن تكون يا للتنبيه أو للنداء والمنادى محذوف. (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً) الواو للعطف ولم حرف نفي وقلب وجزم وتكن فعل مضارع ناقص مجزوم وله خبرها المقدم وفئة اسمها المؤخر وجملة ينصرونه صفة لفئة وذكّرت الصفة وجمعت لأن الفئة تتضمن الجمع وهو يتضمن الذكور والإناث ومن دون الله حال والواو حرف عطف وما نافية وكان واسمها المستتر ومنتصرا خبرها. (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) هنالك اسم اشارة في محل نصب على الظرفية المكانية وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم والولاية مبتدأ مؤخر ولله متعلقان بما في معنى اسم الاشارة أو بمتعلقه والحق صفة لله ويجوز أن يتعلق اسم الاشارة بمعنى الاستقرار في لله والولاية مبتدأ ولله خبره أي مستقرة لله ويجوز أن يتعلق بالولاية نفسها لأنها مصدر بمعنى النصرة وهو مبتدأ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 603 وخير خبر وثوابا تمييز وخير عقبا عطف على خير ثوابا وعقبا بمعنى عاقبة. البلاغة: حفلت هذه الآية بأفانين متعددة من فنون البلاغة وهذا هو التفصيل: 1- التتميم والاحتراس والكناية: التتميم أو التمام وقد تقدم بحثه مستوفى في سورة البقرة عند قوله تعالى: «أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب» الآية وهو هنا في وصف الجنتين فإن قوله تعالى «واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين» يحتمل أن تكون الجنتان مجرد اجتماع شجر متكانف يستر بظل غصونه الأرض كما تقتضيه الدلالة اللغوية على معنى الجنة أو يكون النفع منها ضئيلا كشجر الأثل والخمط ونحوهما فيكون أسفه عليها أقل من أن تكون الجنتان من نخيل وأعناب ينتفع بما تثمرانه عليه ثم تمم ذلك أيضا بقوله «وجعلنا بينهما زرعا» لئلا يتوهم أن الانتفاع قاصر على النخيل والأعناب ولتكون كل من الجنتين جامعة للأقوات والفواكه متواصلة العمار على الشكل الحسن والترتيب الأنيق ثم تمم ذلك بقوله «وفجرنا خلالهما نهرا» للدلالة على ديمومة الانتفاع بهما فإن الماء هو سر الحياة وعامل النمو الاول في النباتات وإذن فقد استكمل هذا الرجل كل الملاذّ واستوفى ضروب النعم، ثم تمم ذلك بقوله «كلتا الجنتين آتت آكلها» لاستحضار الصورة التامة للانتفاع بالموارد واحترس بقوله «ولم تظلم منه شيئا» من أن يكون ... ... اب القرآن وبيانه، ج 5، ص: 605 ثمة نقص في الأكل الذي آتته وليكون كناية عن تمام الجنتين ونموهما دائما وأبدا وانهما ليستا على عادة الأشجار حيث يتم ثمرها فتؤتيه ببعض السنين دون بعض أو تأتي بالثمر ناقصا عاما بعد عام فهي فيّاضة المورد في كل حين فقد استوفى وصف الجنتين هذه الفنون الثلاثة جميعا. 2- اللف والنشر المشوش: وذلك في قوله تعالى: «فقال لصاحبه وهو يحاوره» الآية وحاصل ما قاله هذا الكافر ثلاث مقالات شنيعة وهي: 1- أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا، 2- عند ما دخل جنته متكبرا مزهوا ظالما لنفسه قال وقد رنحه الغرور «ما أظن أن تبيد هذه أبدا» ، 3- والثالثة: بادئا بالآخرة لأنها الأهم قائلا «أكفرت بالذي خلقك» وثنى بالثانية ناصحا لأنها تأتي في المرتبة بعدها فقال: «ولولا إذا دخلت جنتك» إلخ وثلث بالأولى مقرعا فقال «فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك» فهو لف ونشر مشوش وقد تقدم ذكره. 3- عودة الى التتميم والكناية: ثم عاد الى التتميم فصور الاطاحة بالجنتين وبالثمر معا فقال «وأحيط بثمره» ثم وصف حالته فقال «فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها» وتقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر لأن النادم يقلب كفيه ظهرا لبطن كما كنى عن ذلك بعض الأنامل والسقوط في اليد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 604 ثمة نقص في الأكل الذي آتته وليكون كناية عن تمام الجنتين ونموهما دائما وأبدا وانهما ليستا على عادة الأشجار حيث يتم ثمرها فتؤتيه ببعض السنين دون بعض أو تأتي بالثمر ناقصا عاما بعد عام فهي فيّاضة المورد في كل حين فقد استوفى وصف الجنتين هذه الفنون الثلاثة جميعا. 2- اللف والنشر المشوش: وذلك في قوله تعالى: «فقال لصاحبه وهو يحاوره» الآية وحاصل ما قاله هذا الكافر ثلاث مقالات شنيعة وهي: 1- أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا، 2- عند ما دخل جنته متكبرا مزهوا ظالما لنفسه قال وقد رنحه الغرور «ما أظن أن تبيد هذه أبدا» ، 3- والثالثة: بادئا بالآخرة لأنها الأهم قائلا «أكفرت بالذي خلقك» وثنى بالثانية ناصحا لأنها تأتي في المرتبة بعدها فقال: «ولولا إذا دخلت جنتك» إلخ وثلث بالأولى مقرعا فقال «فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك» فهو لف ونشر مشوش وقد تقدم ذكره. 3- عودة الى التتميم والكناية: ثم عاد الى التتميم فصور الاطاحة بالجنتين وبالثمر معا فقال «وأحيط بثمره» ثم وصف حالته فقال «فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها» وتقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر لأن النادم يقلب كفيه ظهرا لبطن كما كنى عن ذلك بعض الأنامل والسقوط في اليد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 605 قصة الرجلين الأخوين: وهو أن أحد الرجلين اللذين ضرب بهما المثل وقد رويت قصتهما على طرق شتى وخلاصتها أن رجلين أخوين من بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه قطروس والآخر مؤمن اسمه يهوذا ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطراها فاشترى الكافر أرضا بألف فقال المؤمن: اللهم إن أخي اشترى أرضا بألف دينار وأنا أشتري منك أرضا في الجنة بألف فتصدق به ثم بنى أخوه دارا بألف دينار، فقال المؤمن: اللهم اني أشتري منك دارا في الجنة فتصدق به ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال: اللهم إني جعلت ألفا صداقا للحور ثم اشترى أخوه خدما ومتاعا بألف فقال: اللهم إني اشتريت الولدان المخلدين بألف فتصدق به ثم أصابته حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله وقيل غير ذلك وإنما أوردنا القصة على خلاف شرطنا في هذا الكتاب لطرافتها ولتكون نبراسا للمبدعين من الكتاب. 4- المبالغة: وفي قوله تعالى «أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا» فن يقال له المبالغة والإفراط في الصفة كما سماها ابن المعتز والتسمية الأولى لقدامة وهو أن يذكر المتكلم حالا لو وقف عندها لأجزأت فلا يقف عندها حتى يزيد في معنى كلامه ما يكون أبلغ في معنى قصده وقد جاءت المبالغة في الكتاب العزيز على ضروب نذكر ما ورد منها فيه: أولا- فمنها المبالغة في الصفة المعدولة وقد جاءت على ستة أمثلة: آ- فعلان كرحمن، عدل عن راحم للمبالغة ولا يوصف به إلا الله ولم تنعت العرب به أحدا في جاهلية ولا إسلام إلا مسيلمة الكذاب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 606 نعتوه به مضافا فقالوا رحمان اليمامة وأنشد شاعر من بني حنيفة يمدح به مسيلمة: سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا ... وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا ب- فعّال معدول عن فاعل للمبالغة كقوله تعالى «وإني لغفار لمن تاب» . ج- وفعول عدل عن فاعل للمبالغة كغفور وشكور. د- فعيل عدل عن فاعل للمبالغة كعليم وحكيم. وهذه الصيغ الأربع وردت في القرآن وهناك صيغتان: مفعل كمطعن ومفعال كمطعام ومبطار. ثانيا- إخراج الكلام مخرج الاخبار عن الأعظم الأكبر للمبالغة والاخبار عنه مجاز وقد جاء منه في القرآن قوله تعالى «وجاء ربك والملك صفا صفا» فجعل مجيء جلائل آياته مجيئا له للمبالغة. ثالثا- إخراج الممكن من الشرط إلى الممتنع ليمتنع وقوع المشروط وقد تقدم ذكر هذا النوع في قوله تعالى «ولا يدخلون الجنة حتى بلج الجمل في سم الخياط» . رابعا- ما كان مجازا فصار بالقرينة حقيقة كقوله تعالى «يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار» فإن قتران هذه الجملة بيكاد يصرفها الى الحقيقة فانقلبت من الامتناع الى الحقيقة والإمكان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 607 خامسا- وقسم أتى بصيغة اسم التفضيل وهو محض الحقيقة من غير قرينة كقوله تعالى «أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا» وهو الذي نحن في صدده. سادسا- ما بولغ بصفته على طريق التشبيه كقوله تعالى «إنها نرمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر» . المبالغة في الشعر: هذا ما ورد من المبالغة وضروبها في الكتاب العزيز. أما هي في الشعر ففنون تتشعب وأنواع اختلفت مقاييسها ومعاييرها كما اختلفت آراء الناس فيها فمنهم من يستجيدها ويراها الغاية القصوى في الجودة ومنهم نابغة بني ذبيان وهو القائل: «أشعر الناس من استجيد كذبه، وضحك من رديئه» وقد أورد صاحب العمدة مثالا على ذلك ما جرى بين النابغة وحسان بن ثابت ومطالبته حسان بن ثابت بالمبالغة واتهامه بالتقصير في قوله: لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما وهي مشهورة مستفيضة في كتب الأدب وأورد صاحب العمدة من أبيات المبالغة التي اختلفت الآراء فيها قول امرئ القيس: كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى ونشر القطر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 608 يعملّ به برد أنيابها ... إذا غرد الطائر المستحرّ فوصف فاها بهذه الصفة سحرا عند تغير الأفواه بعد النوم فكيف تظنها أول النوم؟ وفي أول الليل، وقال امرؤ القيس: تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال وبين المكانين بعد أيام. وقال أيضا يصف نارها: نظرت إليها والنجوم كأنها ... مصابيح رهبان تشبّ لقفّال يقول: نظرت إلى نار هذه المرأة تشب لقفال والنجوم كأنها مصابيح رهبان وانما يرجع القفال من الغزو والغارات وجه الصباح فإذا رأوها من مسافة أيام وجه الصباح وقد خمد سناها وكل موقدها فكيف كانت أول الليل؟ وشبه النجوم بمصابيح الرهبان لأنها في السحر يضعف نورها كما يضعف نور المصابيح الموقدة ليلها أجمع فربما نعسوا في ذلك الوقت. تعريف آخر للمبالغة: وذهب قوم الى أن المبالغة افراط في وصف الشيء الممكن عادة القريب وقوعه وسنورد من بديع المبالغة ما يستهوي الألباب فمن ذلك ما رواه أحمد بن حمدون قال: كان الفتح بن خاقان يأنس بي ويطلعني على الخاص من أموره فقال لي مرة: يا أبا عبد الله لما دخلت البارحة الى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 609 منزلي استقبلتني جارية من جواريّ فلم أتمالك دون أن قبلتها فوجدت بين شفتيها هواء لو رقد فيه المخمور صحا فكان ذلك مما يستظرف ويستملح من الفتح بن خاقان وقد اقتبسه بعضهم فقال: سقى الله ليلا طاب إذ زار طيفه ... فأنحلته حتى الصباح عناقا بطيب نسيم منه يستجلب الكرى ... ولو رقد المخمور فيه أفاقا وذهب أبو تمام في المبالغة مذهبا عجيبا فقال وأبدع متغزلا: تلقّاه طيفي في الكرى فتجنّبا ... وقبلت يوما ظله فتغضّبا وخبر أني قد مررت ببابه ... لأخلس منه نظرة فتحجّبا ولو مرت الريح الصبا عند أذنه ... بذكري لسب الريح أو لتعتّبا ولم تجرمني خطرة بضميره ... فتظهر إلا كنت فيه مسببا وما زاده عندي قبيح فعاله ... ولا الصدّ والإعراض إلا تحببا وله أيضا: قد قصرنا دونك الأبصار خوفا أن تذوبا كلما زدناك لحظا ... زدتنا حسنا وطيبا مرضت ألحاظ عينيك فأمرضت القلوبا الفوائد: 1- كلا وكلتا: كلا وكلتا لفظان يعربان إعراب المثنى إن أضيفا الى الضمير فإن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 610 أضيفا إلى الاسم الظاهر أعربا إعراب الاسم المقصور أي بحركات مقدرة على الألف على كل حال وهما اسمان ملازمان للاضافة ولفظهما مفرد ومعناهما مثنى ولذلك يجوز الإخبار عنهما بما يحمل ضمير المفرد باعتبار لفظهما وضمير المثنى باعتبار معناهما وقد اجتمعا في قول الشاعر: كلاهما حين جدّ الجري بينهما ... قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي إلا أن اعتبار اللفظ أكثر وبه جاء القرآن الكريم قال تعالى: «كلتا الجنتين آتت أكلها» قال ابن هشام في مغني اللبيب: «وقد سئلت قديما عن قول القائل: زيد وعمر كلاهما قائم أو كلاهما قائمان فكتبت إن قدر كلاهما توكيد قيل قائمان لأنه خبر عن زيد وعمرو وإن قدر مبتدأ فالوجهان، والمختار الافراد ويتعين مراعاة اللفظ في نحو: كلاهما محب لصاحبه لأن معناه كل واحد منهما وقوله: كلانا غني عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشدّ تغانيا ومن الأبيات التي أتى فيها ذكر «كلتا» قول حسان بن ثابت: إن التي ناولتني فرددتها ... قتلت، قتلت، فهاتها لم تقتل كلتاهما حلب العصير فعاطني ... بزجاجة أرخاهما للمفصل أخبر عن التي بالمفرد فوحد ثم قال كلتاهما فثنى، وما معنى كلتاهما حلب العصير ولم يذكر إلا خمرة واحدة وأخبر عن كلتاهما بأرخاهما والصحيح الإخبار عنهما بمفرد لأنهم لحنوا من قال: كلا الرجلين قاما وكلتا المرأتين حضرتا على اللغة الفصيحة ويدل على ذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 611 قوله تعالى «كلتا الجنتين آتت أكلها» وأيضا فالرواية صحت في المفصل انه بكسر الميم وفتح الصاد وانما يقال مفصل بفتح الميم وكسر الصاد. وأجاب الحريري وغيره عن هذه الاعتراضات بأن قال: أما قوله: ان التي ناولتني فرددتها قتلت فانه خاطب به الساقي الذي كان ناوله كأسا ممزوجة لأنه يقال: قتلت الخمرة إذا مزجتها فكأنه أراد أن يعلمه أنه فطن لما فعله ثم انه دعا عليه بقوله: قتلت وقوله أرخاهما للمفصل يعني به اللسان وسمي مفصلا لأنه يفصل به بين الحق والباطل. وقال أبو بكر محمد بن القاسم الانباري: اجتمع قوم على شراب فغناهم المغني البيتين المتقدمين فقال بعضهم امرأتي طالق إن لم أسأل الليلة القاضي عبيد الله بن الحسن عن علة هذا الشعر لم قال إن التي فوحّد ثم قال كلتاهما فثنّى فأشفقوا على صاحبهم وتركوا ما كانوا عليه ومضوا يتخطون القبائل حتى انتهوا الى بني شقرة وعبيد الله يصلي فلما أتم صلاته شرحوا له وسألوه الجواب عن ذلك فقال لهم: إن التي عنى بها الخمر الممزوجة بالماء ثم قال من بعد: كلتاهما حلب العصير يريد الخمر المتحلبة من العنب، والماء المتحلب من السحاب المكنى عنه بالمعصرات في قوله تعالى: «وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا» . 2- الحال الثابتة: الأصل في الحال أن تكون منتقلة لأنها مأخوذة من التحول وهو التنقل وتقع ثابتة في مواضع يرجع إليها في المطولات ومنها أن يدل عاملها على تجدد ذات صاحبها وحدوثه أو تجدد صفة له: نحو «ثم سوّاك رجلا» إذ كان من الجائز أن يسويه غير رجل وقولهم خلق الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 612 الزرافة يديها أطول من رجليها فيديها بدل من الزرافة بدل بعض من كل وأطول حال ملازمة من يديها ومن رجليها متعلقان بأطول لأنه اسم تفضيل وعامل الحال خلق وهو يدل على تجدد المخلوق. [سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 51] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 613 اللغة: (هَشِيماً) : يابسا متفرق الأجزاء وقال الزمخشري الهشيم: ما تهشم وتحطم الواحدة هشيمة، وقال ابن قتيبة: كل ما كان رطبا ويبس فهو هشيم، ويقال صارت الأرض هشيما أي صار ما عليها من النبات والشجر قد يبس وتكسّر وللهاء مع الشين فاء وعينا خاصة التكسر والتحطيم والرخاوة وكل ما هو غير مقاوم فالهش الرخو اللين من كل شيء وخبزة هشة: رخوة المكسر ويقال فلان هشّ المكسر أي سهل الجانب فيما يطلب عنده من الحوائج يكون ذلك مدحا وذما والهشيش كالهشيم وهشر الناقة حلب ما في ضرعها أجمع وشجرة هشرة وهشور: يسقط ورقها سريعا والهيشر من الرجال الرخو الضعيف الطويل والهشم من الجبال الرخوة وتهشمت الأرض أجدبت لانقطاع المطر عنها. (تَذْرُوهُ) : تفرقه وتنثره وذرت الريح التراب وأذرت العين دمعها وعيناه تذريان الدموع وطعنته فأذريته عن فرسه وأذراه الفرس عن ظهره رمى به وذرا حدّ نابه: انسحقت أسنانه وسقطت أعاليها، وبلغني عنه ذرو من قول أي طرف منه وأخذ في ذرو من الحديث إذا عرّض ولم يصرح قال صخر بن حبناء: أتاني عن مغيرة ذرو قول ... وعن عيسى فقلت له كذاك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 614 (نُغادِرْ) : نترك يقال غادر وأغدره إذا تركه ومنه الغدر ترك الوفاء والغدير ما غادره السيل والغديرة الشعر الذي نزل حتى طال والجمع غدائر. الإعراب: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) الواو استئنافية واضرب فعل أمر ولهم متعلقان باضرب ومثل الحياة الدنيا مفعول به أول والكاف مفعول به ثاني وجملة أنزلناه من السماء صفة لماء ويجوز أن تكون اضرب بمعنى اذكر فينصب مفعولا واحدا فتكون الكاف خبرا لمبتدأ محذوف أو متعلقة بمعنى المصدر أي ضربا كماء. (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) الفاء حرف عطف واختلط فعل ماض وبه متعلقان باختلط ونبات الأرض فاعل وسيأتي سر هذا التشبيه في في باب البلاغة. (فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) فأصبح عطف على اختلط واسم أصبح مستتر يعود على نبات الأرض وهشيما خبر أصبح وجملة تذروه الرياح صفة لقوله هشيما وكان الواو استئنافية أو حالية وكان واسمها ومقتدرا خبرها وعلى كل شيء متعلقان بمقتدرا. (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) المال مبتدأ والبنون عطف على المال وزينة الحياة مضاف اليه والدنيا صفة. (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا) الواو استئنافية والباقيات مبتدأ والصالحات صفة وخير خبر الباقيات والتفضيل ليس على بابه لأن زينة الدنيا ليس فيها خير أو هو على بابه في زعم الجاهلين والمغرورين وعند ربك متعلقان بمحذوف حال وثوابا تمييز وخير أملا عطف على خير ثوابا. (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 615 بارِزَةً) الظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر وجملة نسير مضاف إليها الظرف والفاعل مستتر تقديره نحن والجبال مفعول به وترى الأرض عطف على ما تقدم وفاعل ترى مستتر تقديره أنت والأرض مفعول به وبارزة حال لأن الرؤية بصرية. (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) الواو هنا للحال وحشرناهم فعل وفاعل ومفعول به والجملة في محل نصب حال أي نفعل التسيير في حال حشرهم ليشاهدوا بأعينهم تلك الأهوال أو الواو عاطفة وأريد بالماضي المستقبل أي ونحشرهم ومن المفيد أن نورد هنا ما قاله الزمخشري بهذا الصدد وهو: «فإن قلت لم جيء بحشرناهم ماضيا بعد نسير وترى قلت للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال العظام» فلم الفاء حرف عطف ولم حرف نفي وقلب وجزم ونغادر فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره نحن ومنهم حال لأنه كان صفة لأحدا وأحدا مفعول بهَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) الواو عاطفة على وحشرناهم داخلة في حيزها وعرضوا فعل ماضي مبني للمجهول والواو نائب فاعل وعلى ربك متعلقان بعرضوا وصفا حال من الواو في وعرضوا. َقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وجئتمونا فعل وفاعل ومفعول به، وكما نعت لمصدر محذوف أو حال، وخلقناكم فعل وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها وأول مرة نصب على الظرف متعلق بخلقناكم وجملة لقد جئتمونا حالية أو مقول لقول محذوف. َلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) بل حرف إضراب وزعمتم فعل وفاعل وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولن حرف نفي ونصب واستقبال ونجعل مضارع منصوب بلن وفاعله مستتر تقديره نحن والجملة خبر أن ولكم مفعول به ثان وموعدا مفعول به أول لنجعل وموعدا يحتمل الزمان والمكان وإذا كان الجعل مجرد الإيجاد كانت لكم متعلقة به وموعدا هي المفعول به. (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 616 مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) الواو عاطفة ووضع فعل ماض مبني للمجهول والكتاب نائب فاعل فترى الفاء عاطفة وترى فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره أنت والمجرمين مفعول به أول ومشفقين مفعول به ثان والرؤية هنا علمية ولك أن تجعلها بصرية فتكون مشفقين حالا ومما متعلقان بمشفقين وفيه متعلقان بمحذوف صلة الموصول. (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) ويقولون عطف ويا حرف نداء وويلتنا منادى ينادون هلكتهم التي هلكوها وسيأتي مزيد بيان لهذا النداء في باب البلاغة وما اسم استفهام مبتدأ ولهذا خبره والكتاب بدل وجملة لا يغادر حالية وصغيرة مفعول به ولا كبيرة عطف على صغيرة وإلا أداة حصر وجملة أحصاها صفة لصغيرة ويجوز أن تكون مفعولا ثانية ليغادر لأنها بمعنى ترك وهي تنصب مفعولين والمراد بالاستفهام هنا مجرد التعجب من الكتاب في هذا الإحصاء الدقيق. (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) الواو عاطفة ووجدوا فعل وفاعل وما مفعول به وجملة عملوا صلة أو ما مصدرية والمصدر المؤول مفعول به أي وجدوا عملهم وحاضرا مفعول به ثان ولا يظلم الواو حالية ولا نافية ويظلم ربك أحدا فعل وفاعل ومفعول به والجملة في محل نصب على الحال. (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) الظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر وجملة قلنا مضافة للظرف وللملائكة متعلقان بقلنا واسجدوا فعل أمر وفاعل ولآدم متعلقان باسجدوا فسجدوا فعل وفاعل وإلا أداة استثناء وإبليس مستثنى والاستثناء منقطع وقيل متصل وقد تقدم تقرير ذلك. (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين كأنه جواب سؤال مقدر وهو لم لم يسجد فقيل: كان، واسم كان مستتر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 617 تقديره هو يعود على إبليس ومن الجن خبر ففسق عطف على كان وعن أمر ربه متعلقان بفسق (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) الهمزة للاستفهام الانكاري التعجبي وتتخذونه فعل مضارع وفاعل ومفعول به وذريته يجوز أن تكون الواو عاطفة وذريته عطف على الهاء ويجوز أن تكون بمعنى مع وذريته مفعول معه وأولياء مفعول به ثان ومن دوني متعلقان بمحذوف صفة لأولياء أو بتتخذونه وهم الواو للحال وهم مبتدأ ولكم متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لعدو وعدو خبرهم والجملة حال من مفعول تتخذونه أو فاعله وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم وفاعله مضمر مفسر بنكرة وللظالمين متعلقان ببدلا وبدلا تمييز ويجوز أن يتعلق للظالمين بمحذوف حال والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس البدل إبليس وذريته. (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) ما نافية وأشهدتهم فعل وفاعل ومفعول به وخلق السموات والأرض مفعول به ثان ولا خلق أنفسهم عطف على خلق السموات والأرض. (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) الواو عاطفة وما نافية وكنت كان واسمها ومتخذ خبرها والمضلين مضاف اليه وفيه وضع الظاهر موضع المضمر وعضدا مفعول به ثان لمتخذ وسيأتي الكلام عن هذا التشبيه في باب البلاغة. البلاغة: 1- في قوله تعالى «واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض» الى آخر الآية تشبيه تمثيلي مقلوب أما التشبيه التمثيلي فهو تشبيه الحياة الدنيا وما فيها من زخارف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 618 تعجب المتلهي برؤيتها والمستمتع بزينتها حتى إذا أفاق من عمايته وجد أن ما كان يتلهى ويستمتع به باطل لا حقيقة، بالنبات الذي اختلط به الماء الهاطل من السماء فربا والتف، وزهاورف، وأنبت من كل زوج بهيج ولم تكد العين تستمتع به والنفس تنشرح بمنظره حتى يبس وتصوّح ثم جف وذبل ثم أصبح هشيما تذروه الرياح فكأنه ما كان، وأما التشبيه المقلوب فقد كان من حق الكلام أن يقول فاختلط بنبات الأرض ووجهه أنه لما كان كل من المختلطين موصوفا بصفة صاحبه عكس للمبالغة في كثرته وبعبارة أوضح لما كان الاختلاط عبارة عن شيئين متداخلين صدق على كل منهما أنه مختلط ومختلط به لكن في عرف اللغة والاستعمال تدخل الباء على الكثير غير الطارئ فلذا جعل هذا من القلب، ولما كان القلب مقبولا إذا كان فيه نكتة وهي أن كلا منهما مختلط ومختلط به وهي المبالغة في كثرة حتى كأنه الأصل الكثير فالمراد بالعكس مما قدمناه آنفا هو القلب وهذا من الممتع الرائع فاعرفه. 2- الاستعارة المكنية في قوله «يا ويلتنا» نداء الويلة قائم على تشبيهها بشخص يطلب إقباله كأنه قيل: يا هلاكنا أقبل فهذا أوانك. 3- التشبيه البليغ في قوله «وما كنتت متخذ المضلين عضدا» فقد شبه المضلين بالعضد الذي يتقوى به الإنسان وأصله العضو الذي هو المرفق الى الكتف ولم يذكر الأداة وقد جعله بعضهم استعارة وهو خطأ لوجود ركني التشبيه وهما المشبه والمشبه به. 4- استعمال العام في النفي والخاص في الإثبات: وذلك في قوله تعالى: «ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها» فإن وجود المؤاخذة على الصغيرة يلزم منه وجود المؤاخذة على الكبيرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 619 فينبغي أن يكون لا يغادر كبيرة ولا صغيرة لأنه إذا لم يغادر صغيرة فمن الأولى أن لا يغادر كبيرة وأما إذا لم يغادر كبيرة فإنه يجوز أن يغادر صغيرة لأنه إذا لم يعف عن الصغيرة فينبغي القياس أنه لا يعفو عن الكبيرة وإذا لم يعف عن الكبيرة فيجوز أن يعفو عن الصغيرة. 5- وفي قوله تعالى «المال والبنون زينة الحياة الدنيا» فن الجمع وهو أن يجمع المتكلم بين شيئين أو أكثر في حكم واحد وهو واضح في الآية ومنه في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها. فجمع الأمن ومعافاة البدن وقوت اليوم في حوز الدنيا بحذافيرها وهي النواحي والواحد حذفار ومنه في الشعر قول أبي العتاهية: إن الشباب والفراغ والجدة ... مفسدة للمرء أيّ مفسده وقول ابن خفاجة الأندلسي: تعلقته ريان من خمر ريقه ... له رشفها دوني ولي دونه السكر وطبنا معا ثغرا وشعرا كأنما ... له منطقي ثغر له ولي ثغره شعر [سورة الكهف (18) : الآيات 52 الى 59] وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 620 اللغة: (مَوْبِقاً) : اسم مكان أو مصدر ميمي من وبق يبق وبوقا كوثب يثب وثوبا أو وبق يوبق وبقا كفرح يفرح فرحا إذا هلك أي مهلكا يشتركون فيه وهو النار، وفي القاموس وغيره: وبق يبق من باب ضرب يضرب ووبق يبق من باب علم يعلم ووبق يوبق وبقا ووبوقا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 621 وموبقا واستوبق هلك فهو وبق والموبق المهلك والموعد والمحبس وكل شيء حال بين شيئين وعن الحسن: موبقا عداوة والمعنى عداوة هي في شدتها هلاك وقال الفراء: البين الوصل أي وجعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة. (مَصْرِفاً) : اسم مكان أو زمان وقال أبو البقاء أي انصرافا فهي مصدر ميمي وفي الكشاف مصرفا: معدلا قال: أزهير هل عن شيبة من مصرف (جَدَلًا) : خصومة في الباطل قال الفرزدق: ما أنت بالحكم الترضي حكومته ... ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل (قُبُلًا) : عيانا ومقابلة وفي القاموس: «رأيته قبلا وقبلا وقبلا وقبلا وقبلا وقبيلا وقبليا أي عيانا ومقابلة. قال الفراء: إن قبلا جمع قبيل أي متفرقا يتلو بعضه بعضا وقيل: عيانا وقيل فجأة. (لِيُدْحِضُوا) : ليبطلوا ويزيلوا من ادحاض القدم وهو إزلاقها وإزالتها عن موطئها وفي المختار: دحضت حجته بطلت وبابه خضع وأدحضها الله ودحضت رجله زلقت وبابه قطع والإدحاض الإزلاق» . (مَوْئِلًا) : منجى وملجأ والأصل المرجع من وأل يئل وألا وءولا إذا لجأ اليه وهو هنا مصدر ميمي وفي المصباح: وأل الى الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 622 يئل من باب وعد التجأ وباسم الفاعل سمي ومنه وائل بن حجر وهو صحابي وسحبان بن وائل ووأل رجع والى الله الموئل أي المرجع. الإعراب: (وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) الظرف متعلق بمحذوف تقديره أذكر وجملة يقول مضاف إليها الظرف ونادوا فعل أمر وفاعل وشركائي مفعول به والذين نعت وجملة زعمتم صلة والعائد محذوف أي زعمتموهم شركاء كما حذف المفعول الثاني لزعمتم أيضا. (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) إما أن تعطف الجملة على محذوف مقدر أي فبادروا الى آلهتهم فدعوهم وإما أن تقدر الماضي بمعنى المستقبل ودعوهم فعل وفاعل ومفعول به فلم الفاء عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم ويستجيبوا مضارع مجزوم بلم والواو فاعل ولهم متعلقان بيستجيبوا وجعلنا فعل وفاعل وبينهم الظرف متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني وموبقا هو المفعول الأول والمعنى صيرنا بين الأوثان وعابديها مكانا يجتمعون فيه ليهلكوا معا. (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) ورأى المجرمون النار فعل وفاعل ومفعول به فظنوا الفاء عاطفة وظنوا فعل وفاعل وإن واسمها وخبرها وسدت مسد مفعولي ظنوا أي تراءت لهم من مكان بعيد فأيقنوا أنهم واقعون فيها والظن هنا معناه اليقين لأن ذلك الحين ليس حين شك. (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) الواو عاطفة ولم يجدوا عطف على ظنوا وعنها متعلقان بمصرفا لأنه اسم مكان أو زمان مشتق أو مصدر ميمي بمعنى انصرافا ومصرفا مفعول به. (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 623 وصرفنا فعل وفاعل وفي هذا متعلقان بصرفنا والقرآن بدل من هذا وللناس متعلقان بصرفنا أيضا ومن كل صفة لموصوف محذوف هو مفعول صرفنا أي معنى غريبا بديعا يشبه المثل بغرابته وطرافته ومثل مضاف اليه. (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) الواو عاطفة أو حالية وكان الإنسان كان واسمها وأكثر شيء خبرها وجدلا تمييز يعني الإنسان أكثر المخلوقات الحية مجادلة ولجاجا باطلا (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) الواو عاطفة وما نافية ومنع فعل ماض والناس مفعول به مقدم وأن يؤمنوا مصدر مؤول في موضع المفعول الثاني لمنع وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بيؤمنوا وجملة جاءهم الهدى مضاف إليها الظرف. (وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا) ويستغفروا عطف على يؤمنوا والواو فاعل وربهم مفعول به وإلا أداة حضر وأن وما في حيزها فاعل منع وتأتيهم فعل مضارع ومفعول به مقدم وسنة الأولين فاعل مؤخر وأو حرف عطف ويأتيهم العذاب عطف على تأتيهم سنة الأولين وقبلا حال من الضمير أو العذاب ولا بد من تقدير مضاف محذوف قبل أن تأتيهم سنة الأولين تقديره انتظار الإتيان قالوا: «إنما احتيج الى تقدير المضاف إذ لا يمكن جعل إتيان سنة الأولين مانعا من إيمانهم فإن المانع يقارن الممنوع وإتيان العذاب متأخر عن إيمانهم بمدة طويلة» . (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) الواو عاطفة وما نافية ونرسل المرسلين فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وإلا أداة حصر ومبشرين حال ومنذرين عطف. (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) يجادل فعل مضارع والذين فاعل وكفروا صلة وبالباطل متعلقان بيجادل وليدحضوا اللام للتعليل ويدحضوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وبه متعلقان بيدحضوا والحق مفعول به. (وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 624 هُزُواً) الواو حالية أو استئنافية واتخذوا فعل وفاعل وآياتي مفعول به والواو حرف عطف وما اسم موصول معطوف على آياتي وجملة أنذروا صلة، ويجوز جعل ما مصدرية والمصدر معطوف على آياتي، وهزوا مفعول به ثان. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) الواو استئنافية ومن اسم استفهام معناه النفي في محل رفع مبتدأ وأظلم خبر وممن متعلقان بأظلم وجملة ذكر صلة وبآيات ربه متعلقان بذكر فأعرض عطف على ذكر وفاعله مستتر تقديره هو وعنها متعلقان بأعرض ونسي عطف على ما تقدم وما مفعول به وجملة قدمت صلة ويداه فاعل. (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) ان واسمها وجملة جعلنا خبرها وعلى قلوبهم في محل نصب مفعول به ثان لجعلنا وأكنة مفعول به أول وأن يفقهوه المصدر في محل نصب مفعول لأجله وفي آذانهم وقرا عطف على معمولي جعلنا. (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) الواو حرف عطف وأن شرطية وتدعهم فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به والى الهدى متعلقان بتدعهم فلن الفاء رابطة ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويهتدوا نصب بلن والواو فاعل واذن حرف جواب وجزاء وأبدا ظرف متعلق بيهتدوا. (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) وربك الواو استئنافية وربك مبتدأ والغفور خبر وذو الرحمة خبر ثان ولو شرطية ويؤاخذهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وبما متعلقان بيؤاخذهم وجملة كسبوا صلة واللام رابطة وعجل فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ولهم متعلقان بعجل والعذاب مفعول به. (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا) بل حرف إضراب ولهم خبر مقدم وموعد مبتدأ مؤخر ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويجدوا فعل مضارع منصوب بلن ومن دونه متعلقان بمحذوف حال وموئلا مفعول به. (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 625 تلك مبتدأ أو منصوب على الاشتغال والقرى بدل وجملة أهلكناهم خبر والمراد أهل القرى ويجوز إعراب القرى خبرا وجملة أهلكناهم إما حال وإما خبر ثان، ولما ظرف بمعنى حين متعلق بأهلكناهم وجملة ظلموا مضافة للما. (وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) وجعلنا فعل وفاعل ولمهلكهم حال أو متعلقان بموعدا وموعدا مفعول به. ومهلكهم مصدر ميمي مضاف إلى الفاعل إن كان لازما أو مضاف الى المفعول إن كان متعديا. البلاغة: في قوله تعالى «أو يأتيهم العذاب قبلا» اتفاق اللفظ واختلاف المعنى وقد أوردنا في باب اللغة معاني القبل وقد صنّف فيه أبو العباس محمد بن يزيد المبرد وأبو العمثيل الاعرابي الذي صنف كتابا مأثورا عنه وهو مجرد حصر للألفاظ التي قد يتعدد مدلولها دون التزام منه لترتيب ما في سوق الكلمات وبدون تعليل أو محاولة لإيجاد أية صلة بين المعاني المختلفة إذ يقول: «القبل على سبعة أوجه: القبل في العين والقبل النشز من الأرض يستقبلك تقول رأيت شخصا بذلك القبل والقبل أن ترى الهلال قبلا فكان صغيرا والقبل أن يتكلم الرجل بكلام لم يكن استعدّ له يقال تكلم فلان قبلا والقبل أن يورد الرجل إبله الماء ثم يستقي ويصب عليها فيقال سقاها قبلا والقبل شيء شبيه بالصوف يعلق في أعناق الصبيان والقبل طي البئر في أعلاها» . [سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 63] وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 626 اللغة: (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) : ملتقى البحرين وهو المكان الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر وقد اختلفت أقوال المفسرين فيه، فقيل ملتقى بحر الروم وبحر فارس، وقيل غير ذلك مما يرجع اليه في المطولات. (حُقُباً) : زمنا طويلا والحقب ثمانون سنة وفي القاموس الحقب بضم الحاء والقاف ثمانون سنة أو أكثر، والدهر والسنون ويجمع على أحقاب وحقاب وقيل الحقب بضم الحاء وسكون القاف، ويجمع على حقاب وفي المصباح: الحقب الدهر والجمع أحقاب مثل فقل وأقفال وضم القاف للاتباع لغة ويقال الحقب ثمانون عاما والحقبة بمعنى المدة والجمع حقب مثل سدرة وقيل الحقبة مثل الحقب» . (سَرَباً) أي مثل السرب وهو الشق الطويل لا نفاذ له وفي معاجم اللغة السّرب بفتحتين الحفير تحت الأرض والقناة يدخل منها الماء ويقال طريق سرب أي يتتابع فيه الناس. (غَداءَنا) : هو ما يؤكل أول النهار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 627 الإعراب: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في قصة التقاء موسى والخضر وما تخلل ذلك من أعاجيب وسنأتي على تفاصيلها في باب الفوائد والظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر وقال موسى الجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها ولفتاه متعلقان بقال ولا نافية وأبرح فعل مضارع ناقص واسمها مستتر تقديره أنا والخبر محذوف تقديره أسير ويحتمل أنها تامة فلا تستدعي خبرا بمعنى لا أزول عما أنا عليه من السير والطلب ولا أفارقه وحتى حرف غاية وجر وأبلغ منصوب بأن مضمرة بعد حتى ومجمع البحرين مفعول به وأو حرف عطف وأمضي معطوف على أبلغ وحقبا ظرف زمان متعلق بأمضي واختار أبو البقاء وغيره أن تكون بمعنى الى وأبلغ منصوب بأن مضمرة بعدها وما أحسبه صحيحا. (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) الفاء عاطفة ولما ظرف بمعنى حين وجملة بلغا في محل جر بإضافة الظرف إليها والألف فاعل ومجمع مفعول به وبينهما ظرف أضيف الى مجمع أي بين البحرين وجملة نسيا لا محل لها لأنها جواب لما وحوتهما مفعول به فاتخذوا الفاء عاطفة واتخذ فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو أي الحوت وسبيله مفعول به وسربا مفعول به ثان وفي البحر متعلقان بمحذوف حال، وفي الكلام تقديم وتأخير لأن اتخاذ الحوت سبيله في البحر قبل النسيان. (فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا) الفاء عاطفة ولما ظرفية حينية وجملة جاوزا مضاف إليها الظرف والمفعول محذوف أي الموعد وهو الصخرة وجملة قال لفتاه لا محل لها وجملة آتنا غداءنا مقول القول وغداءنا مفعول به ثان لآتنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 628 (لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ولقينا فعل وفاعل ومن سفرنا متعلقان بلقينا وهذا صفة لسفرنا أو بدل منه ونصبا مفعول به للقينا. (قالَ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) أرأيت تقدم الكلام عليها مطولا وانها بمعنى أخبرني ومفعولا أرأيت محذوفان اختصارا أي رأيت أمرنا ما عاقبته وهذا أسلوب معهود في الكلام المتداول بين الناس يقول أحدهم لصاحبه إذا ألمّ به خطب أرأيت ما نابني فالظرف متعلق بهذا المحذوف أي بنابني وسيأتي مزيد من بحث هذه الرؤية في باب البلاغة وجملة أوينا مضاف إليها الظرف والى الصخرة متعلقان بأوينا. (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) الفاء لتعليل الدهشة التي اعترتهما مما نابهما وان واسمها وجملة نسيت الحوت خبرها والواو اعتراضية والجملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وما نافية وأنسانيه فعل ماض والنون للوقاية والياء مفعول به أول والهاء مفعول به ثان وإلا أداة حصر والشيطان فاعل أنسانيه وأن وما في حيزها بدل اشتمال من الهاء أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان. (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) الواو عاطفة واتخذ فعل ماض معطوف على نسيت وفاعله مستتر تقديره هو أي الحوت وسبيله مفعول به أول وفي البحر حال وعجبا مفعول به ثان لاتخذ أو مفعول مطلق لفعل محذوف وفي البحر هو المفعول الثاني أي قال موسى عجبت عجبا: حوت يؤكل دهرا ثم يصير حيا بعد ما أكل بعضا. البلاغة: في قوله «أرأيت» الرؤية هنا مستعارة للمعرفة التامة والمشاهدة الكاملة وهي استعارة تصريحية تبعية لأنها أجريت في فعل وقد حذف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 629 المشبه وأقيم المشبه به مقامه والاستفهام في أرأيت للتعجب كأنه يحاول إثارة العجب في نفس موسى مما رأى من المعاجز التي لا تدور في الخلد، ويكاد لا يصدقها العقل مما يمكن الرجوع اليه في التفاسير المطولة والروايات المنقولة مما يخرج بنا عن نطاق الكتاب وسنكتفي بسرد قصة لقاء موسى والخضر معتمدين على نص الحديث والتحليل المنطقي المعقول تاركين المجال لأصحاب المواهب القصصية عسى أن ينسجوا على منوال الكاتب القاص توفيق الحكيم. [سورة الكهف (18) : الآيات 64 الى 70] قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) الإعراب: (قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) ذلك مبتدأ وما خبر وجملة كنا صلة وكان واسمها وجملة نبغي خبرها وجملة ذلك إلخ مقول القول وفي المصحف تحذف ياء نبغي لأنها من ياءات الزوائد. (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 630 قَصَصاً) الفاء عاطفة وارتدا فعل وفاعل وعلى آثارهما متعلقان بمحذوف حال أي رجعا أدراجهما، وقصصا مفعول مطلق لفعل محذوف أي يقصان قصصا ويتبعان آثارهما اتباعا، ولك أن تجعلها حالا أي فارتدا على آثارهما مقتصّين. (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) الفاء عاطفة ووجدا عبدا فعل وفاعل ومفعول به ومن عبادنا صفة لعبد وجملة آتيناه صفة ثانية ورحمة مفعول به ثان ومن عندنا صفة لرحمة وعلمناه فعل وفاعل ومفعول به ومن لدنا حال لأنه كان صفة لعلما وتقدم عليه وعلما مفعول به ثان لعلمناه ولو كان مفعولا مطلقا لكان تعليما لأن فعله على فعّل بالتشديد وقياس مصدره التفعيل. (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) قال فعل ماض وله متعلقان به وموسى فاعل وهل حرف استفهام واتبعك فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، على أن تعلمني أن وما في حيزها في محل جر بعلى والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من الكاف في هل اتبعك أي هل اتبعك حال كونك معلما لي ومما متعلقان بتعلمني وجملة علمت صلة ورشدا مفعول ثان لتعلمني لأن الياء هي المفعول الأول ويجوز أن تعرب رشدا مفعولا لأجله أي لأجل الرشاد أو مصدر في موضع نصب على الحال. (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) جملة إنك مقول القول وان واسمها ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتستطيع منصوب بلن ومعي ظرف مكان متعلق بمحذوف أي حال كونك معي وصبرا مفعول به. (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) وكيف الواو عاطفة وكيف اسم استفهام في محل نصب حال وتصبر فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت وعلى ما متعلقان بتصبر وجملة لم تحط صلة وبه متعلقان بتحط وخبرا مفعول مطلق لتحط في المعنى لأن لم تحط بمعنى لم تخبر وأعربها الزمخشري تمييزا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 631 محولا عن الفاعل أي لم يحط به خبرك وليس ببعيد. (قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) ستجدني السين حرف استقبال وتجدني فعل مضارع مرفوع والنون للوقاية وفاعله مستتر تقديره أنت والياء ضمير متصل في محل نصب مفعول به أول وإن شاء الله جملة معترضة وصابرا مفعول به ثان لتجدني وقد ذكر الرحمة احتراسا لما يأتي من قوله «حتى إذا لقيا غلاما فقتله» ، وقتله للغلام يوهم اتصافه بالغلظة والجفاء، وجملة ولا أعصي لك أمرا معطوفة على صابرا فهي في محل نصب أو معطوفة على ستجدني فلا محل لها من الإعراب ولك متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لأمرا وإنما قيد موسى بالمشيئة لعلمه بشدة الأمر وصعوبته وان الحمية قد تعترضه عند ما يرى أمرا مغايرا وسيأتي تفصيل ذلك في حينه. (قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) الفاء عاطفة وإن شرطية واتبعتني فعل ماض وفاعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة ولا ناهية وتسألني مضارع مجزوم بلا والنون للوقاية والياء مفعول به وعن شيء متعلقان بتسألني وحتى حرف غاية وجر وأحدث فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ولك متعلقان بأحدث ومنه حال وذكرا مفعول به ولا بد من تقدير صفة محذوفة بعد شيء أي شيء خفي عليك سره وغبي أمره. الفوائد: 1- عند ولدن: لدن وهي بمعنى عند فتكون اسما لزمان الحضور ومكانه كما أن عند كذلك إلا أن لدن تختص بستة أمور: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 632 1- انها ملازمة لمبدأ الغايات الزمانية والمكانية وعند غير ملازمة فمن ثم يتعاقبان في نحو جئت من عنده من لدنه وفي الآية الكريمة وقد لا يتعاقبان في نحو جلست عنده لعدم معنى الابتداء هنا وانما ترك التعاقب في الآية تفاديا لتكرار النظم. 2- ان الغالب في لدن استعمالها مجرورة بمن ونصبها قليل وجر عند بمن دون جر لدن في الكثرة. 3- انها مبنية على السكون بخلاف عند فانها معربة دائما. 4- جواز إضافتها الى الجمل كقول القطامي: صريع غوان راقهن ورقنه ... لدن شبّ حتى شاب سود الذوائب 5- جواز إفرادها قبل غدوة كقوله: وما زال مهري مزجر الكلب فيهم ... لدن غدوة حتى دنت لغروب بنصب غدوة على التمييز أو على التشبيه بالمفعول به. وبجرها على القياس. 6- انها لا تقع إلا فضلة بخلاف عند فانها قد تقع عمدة. وقال بعضهم: إن عند في لسان العرب لما ظهر ولدن لما بطن فيكون المراد بالرحمة ما ظهر من كراماته وبالعلم الباطن الخفي المعلوم قطعا بأنه خاص. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 633 2- حديث النبي عن الخضر: وقد آن أن نورد لك الحديث البليغ الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بشأن الخضر والحديث الآخر الذي تحدث به عن لقاء موسى والخضر: الحديث الأول: روي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أحدثكم عن الخضر؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: بينما هو ذات يوم يمشي في سوق بني إسرائيل أبصره رجل مكاتب فقال: تصدق عليّ بارك الله فيك، فقال الخضر: آمنت بالله ما شاء من أمر يكون ما عندي شيء أعطيكه فقال المسكين: أسألك بوجه الله لما تصدقت عليّ، فإني نظرت السماحة في وجهك، ورجوت البركة عندك فقال الخضر: آمنت بالله ما عندي شيء أعطيكه إلا أن تأخذني فتبيعني فقال المسكين: وهل يستقيم هذا؟ قال: نعم، أقول: لقد سألتني بأمر عظيم أما إني لا أخيبك بوجه ربي بعني قال: فقدمه إلى السوق فباعه بأربعمائة درهم فمكث عند المشتري زمانا لا يستعمله في شيء، فقال: إنما اشتريتني التماس خير عندي فأوصني بعمل، قال: أكره أن أشق عليك إنك شيخ كبير ضعيف، قال: ليس يشقّ عليّ، قال: قم فانقل هذه الحجارة وكان لا ينقلها دون ستة نفر في اليوم فخرج الرجل لبعض حاجته ثم انصرف وقد نقل الحجارة في ساعة، قال: أحسنت وأجملت وأطقت ما لم أرك تطيقه قال: ثم عرض للرجل سفر فقال: إني أحبك أمينا فاخلفني في أهلي خلافة حسنة، قال: وأوصني بعمل، قال: إني أكره أن أشق عليك، قال: ليس يشقّ علي، قال: فاضرب من اللّبن بيتي حتى أقدم عليك، قال: فمر الرجل لسفره، قال فرجع الرجل وقد شيّد بناءه، قال: أسألك بوجه الله ما سببك؟ وما أمرك؟ قال: سألتني بوجه الله ووجه الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 634 أوقعني في هذه العبودية، فقال الخضر سأخبرك من أنا، أنا الخضر الذي سمعت به سألني مسكين صدقة فلم يكن عندي شيء أعطيه فسألني بوجه الله فأمكنته من رقبتي فباعني وأخبرك أنه من سئل بوجه الله فردّ سائله وهو يقدر وقف يوم القيامة جلدة ولا لحم له يتقعقع، فقال له الرجل: آمنت بالله، شققت عليك يا نبي الله ولم أعلم، قال: لا بأس أحسنت وأتقنت، فقال الرجل: بأبي أنت وأمي يا نبي الله احكم في أهلي ومالي بما شئت أو اختر فأخلّي سبيلك، قال: أحبّ أن تخلّي سبيلي فأعبد ربي، فخلّى سبيله، فقال الخضر الحمد لله الذي أوثقني في العبودية ثم نجاني منها» . لمحة تحليلية: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، في هذا الحديث، عن نبذة طريفة عن الخضر، ومدى إيمانه العميق بالله ورغبته في ثوابه ورهبته من عقابه لتكون بمثابة معالم الصبح لكل مؤمن بما يعتقده حقا وصوابا، لا يبالي ما يتكبده في سبيل ترسيخ ما يعتقده في النفوس كما انطوت النبذة على ميله إلى إجابة السائل الفقير المحتاج ولو ببيع نفسه قال أحدهم: يجود بالنفس إذ ضنّ الجواد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود بثّ النوال ولا تمنعك قلته ... فكلّ ما سدّ فقرا فهو محمود ثم أعطى الخضر نصيحة غالية تصلح للاحتذاء في مختلف ظروف الزمان والمكان، فحذر المسئولين من البخل خشية الوقوف يوم الحساب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 635 حفاة عراة وهيئة أجسامهم رثة بالية تضطرب لرداءتها وقذارتها فكأن جسمه جلدة مثل الهيكل فقط يضطرب ويتحرك ولا تستدل عليه إلا بقعقعة خفيفة وأحسب أبا الطيب رمق سماء هذا المعنى حين قال واصفا نحو له: كفى بجسمي نحولا أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني وانظر بعد ذلك الى أسمى مطلب يجنح اليه العقلاء: «تخلي سبيلي فأعبد ربي» وهذا بمثابة مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لكل انسان ليجود بماله في مشروعات الخير وليثق بالله الرزاق المنفق المخلف، وليتحلى بشيم السخاء والعطاء، وما أجمل قول أبي فراس الحمداني وقد تضمن هذه المعاني السامية كلها كما صور الفتوة أجمل تصوير: غيري يغيره الفعال الجافي ... ويحول عن شيم الكريم الوافي إن الغنيّ هو الغنيّ بنفسه ... ولو انه عاري المناكب حاف ما كل ما فوق البسيطة كافيا ... وإذا قنعت فكل شيء كاف وتعاف لي طمع الحريص فتوتي ... ومروءتي وقناعتي وعفافي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 636 ومكارمي عدد النجوم ومنزلي ... مأوى الكرام ومنزل الأ ضياف لا أرتضي ودا إذا هو لم يدم ... عند الجفاء وقلة الانصاف الحديث الثاني في لقاء موسى والخضر: ورد في صحيح مسلم: «عن أبي بن كعب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قام موسى عليه السلام خطيبا في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، قال: فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: أي رب كيف لي به؟ فقيل له: احمل حوتا في مكتل فحيث تفقد الحوت فهو ثم فانطلق وانطلق معه فتاه وهو يوشع بن نون فحمل موسى عليه السلام حوتا في مكتل وانطلق هو وفتاه يمشيان حتى أتيا الصخرة فرأى رجلا مسجى عليه ثوب فسلم عليه موسى فقال له الخضر أنّى بأرضك السلام؟ قال أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: إنك على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه» . وسيأتي في الآيات الآتية إيضاح أعمالها، هذا ولم يذكر يوشع ابن نون لأنه كان تابعا لموسى فأدرج في مطاوي الحديث عنه، أما أعمالهما فهي: 1- خرق السفينة. 2- قتل الغلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 637 3- إخراج كنز من جدار. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله موسى لوددت أنه كان صبر حتى يقصّ علينا من أخبارهما. لماذا سمي الخضر؟ وقال النووي: «وقد صح في البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة فإذا هي تهتز من خلفه خضراء، وجمهور العلماء على أنه حي موجود بين أظهرنا وكان الحوت سمكة مالحة والمكتل: القفة والزنبيل والطاقة وقوله «مسجى مغطى» و «أنى بأرضك السلام» بمعنى كيف أي السلام عجيب بدار الكفر هذه. التأدب في طلب العلم: وقال البيضاوي: «ولا ينافي نبوته وكونه صاحب شريعة (سيدنا موسى) أن يتعلم من غيره ما لم يكن شرطا في أبواب الدين فإن الرسول ينبغي أن يكون أعلم ممن أرسل إليهم فيما بعث به من أصول الدين وفروعه لا مطلقا وقد راعى في ذلك غاية التواضع والأدب فاستجهل نفسه واستأذن أن يكون تابعا له وسأل منه أن يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله به عليه» . هل الخضر حيّ؟ هذا وقد زعم كثيرون أن الخضر حي وهذا غير صحيح إذ لا دليل عليه من كتاب منزل أو سنة ثابتة فيجب المصير اليه ولم ينقل عن أحد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 638 ممن يوثق به ويعتمد على نقله انه رآه وأخبره انه الخضر صاحب موسى ومثل هذا لا يمكن الركون اليه والتعويل عليه والتصديق به إلا بأحد هذين الطريقين إما الخبر الصادق أو المشاهدة بالبصر وبدون ذلك فالتصديق بوجوده ضرب من الخلط، والعادة المستمرة أن الإنسان لا يعيش مثل هذا العمر الطويل فمن ادعى خلاف العادة في فرد من أفراد هذا النوع طولب بالدليل على ذلك وكل ما استند اليه القائلون بحياة الخضر الى الآن وانه يبقى حيا الى آخر الدنيا أحاديث لم يصح منها شيء عند أهل العلم وحكايات لفقها القصاصون ترويجا لحالهم عند العامة ولذلك أنكر الامام المجتهد أبو محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري وشيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني الحنبلي صحة ذلك وكفى بقولهما على سعة علمهما بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة صحيحه وضعيفه حجة لنا فيما ذكرناه على أن القرآن يخالف ما ذهب اليه القائلون بحياته فإن الله جل شأنه قال في محكم كتابه «وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد» وقال لشرّ خلقه إبليس «انك من المنظرين» في جواب قوله «انظرني إلى يوم يبعثون» فجعل ذلك خصوصية لعدوه إبليس لامتحان خلقه به ولتتم لعنته عليه ولم يجعل ذلك لأحد غيره لا نعمة ولا نقمة فالقائل بغير ذلك غير مصيب فيما قاله والله أعلم. أما لفظ الخضر فقد ضبطوه بكسر الخاء مع سكون الضاد وبفتح الخاء مع سكون الضاد وكسرها ففيه ثلاث لغات وهذا لقبه وكنيته أبو العباس واسمه بليا، وهو من نسل نوح وكان أبوه من الملوك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 639 [المجلد السادس] [تتمة سورة الكهف] [سورة الكهف (18) : الآيات 71 الى 82] فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 اللغة: (إِمْراً) : الإمر العظيم المنكر، قال أبو عبيدة: الإمر الداهية العظيمة وأنشد: قد لقي الأقران مني نكرا ... داهية دهيا وأمرا إمرا ويقال: أمر الإمر أي عظم وتفاقم وهذه المادة اللغوية غريبة تقول الأمر بالفتح: طلب إحداث الشيء وجمعه أوامر والأمر الشأن وجمعه أمور وأولو الأمر أهل الرياسة والعلماء، والإمّر والإمّر الضعيف الرأي، والأمير الآمر، فتتغير معانيها بتغير شكلها. (تُرْهِقْنِي) : تكلفني وفي المختار: رهقه غشيه وبابه طرب وأرهقا عسرا كلفه إياه. (زَكِيَّةً) : طاهرة من الذنوب لأنها صغيرة لم تبلغ الحنث، وفي القاموس: زكا يزكو زكاء وزكّوا، وزكي يزكى زكى الزرع نما والرجل صلح وتنعم وزكاه الله بالتشديد أنماه وطهّره وأصلحه، وأخا زكاته وزكّى ماله أدّى عنه الزكاة، وزكّى نفسه مدحها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 (نُكْراً) : بضم فسكون وبضمتين: المنكر وهو أبلغ من الإمر لأن معه القتل بخلاف خرق السفينة فإنه يمكن تداركه وتلافيه وقيل: الإمر أبلغ لأن قتل النفس بسبب الخرق أعظم من قتل نفس واحدة. (يُضَيِّفُوهُما) : يقال ضافه إذا كان له ضيفا وحقيقته من الميل، يقال ضاف السهم عن الغرض وأضافه وضيفه جعله ضيفا وهم ضيوف وأضياف وضيفان، ومن المجاز: أضاف إليه أمرا إذا أسنده إليه واستكفأه وفلان أضيفت اليه الأمور وما هو إلا مضاف أي دعي، ونزلت به مضوفة. قال: وكنت إذا جاري دعا لمضوفة ... أشمر حتى يبلغ الساق مئزري الإعراب: (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) الفاء استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في الأمور الثلاثة التي ألمعنا إليها والتي خفيت بواطنها عن موسى وبدت له ظواهرها مستنكرة، ولا بد من تقدير محذوف أي فانطلقا يمشيان ومعهما تابعهما يوشع بن نون وقد اكتفى بذكر المتبوع عن التابع أي على ساحل البحر يطلبان سفينة تقلهما فوجدا سفينة فركباها فأخذ الخضر الفأس فخرق السفينة بأن قلع لوحين من ألواحها مما يلي فجعل موسى يعارضه ويقول إلخ. وحتى حرف غاية وجر وإذا ظرف مستقبل وجملة ركبا في السفينة في محل جر بإضافة الظرف إليها، وجملة خرقها جواب إذا وهو فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به. (قالَ: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) قال- أي موسى- أخرقتها والهمزة للاستفهام الإنكاري، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 لتغرق اللام للتعليل وتغرق فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وأهلها مفعول به، وسيأتي سر نسيان نفسه في باب البلاغة، واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وجئت فعل وفاعل وشيئا مفعول به وإمرا صفة. (قالَ: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وإن واسمها وجملة لن تستطيع معي صبرا خبرها. (قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) لا ناهية وتؤاخذني فعل مضارع مجزوم بلا والنون للوقاية والفاعل مستتر تقديره أنت والياء مفعول به. ومن أمري حال لأنه كان في الأصل صفة لعسرا وعبرا مفعول به ثان لترهقني. (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) فانطلقا الفاء للعطف وانطلقا فعل وفاعل وحتى حرف غاية وجر وإذا ظرف مستقبل وجملة لقيا مضافة للظرف وهي شرط إذا وغلاما مفعول به، والفاء حرف عطف وقتله عطف على لقيا فهو داخل في حيز فعل الشرط بخلاف قوله «حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها» بغير فاء فقد جعله هنا جوابا والعلة في هذه المخالفة، ان خرق السفينة لم يأت عقب الركوب مباشرة أما القتل فقد أتى عقب لقاء الغلام مباشرة، وقال هو جواب إذا، أقتلت: الهمزة للاستفهام الانكاري ونفسا مفعول به وزكية صفة، وبغير نفس: الجار والمجرور في موضع نصب على الحال من الفاعل أو المفعول أي قتلته ظالما أو مظلوما أو متعلق بقتلت، واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وجئت فعل وفاعل وشيئا مفعول به ونكرا صفة. (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وان واسمها وجملة لن تستطيع معي صبرا خبرها، وقد زاد هنا لفظ لك لأن سبب العتاب أكثر وموجبه أقوى وقيل زاد لفظ لك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 لقصد التأكيد كما تقول لمن توبخه: لك أقول وإياك أعني. (قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي) إن شرطية وسألتك فعل ماض وفاعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط وعن شيء جار ومجرور متعلقان بسألتك وبعدها ظرف متعلق بمحذوف صفة لشيء، والفاء رابطة لجواب الشرط ولا ناهية وتصاحبني مجزوم بلا والياء مفعول به. (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) قد حرف تحقيق وبلغت فعل وفاعل ومن حرف جر ولدن ظرف مبني على السكون في محل جر والجار والمجرور متعلقان ببلغت أو بمحذوف حال وعذرا مفعول به. (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها) الفاء عاطفة وانطلقا فعل وفاعل وحتى حرف غاية وجر وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وأتيا فعل وفاعل وأهل مفعول به وقرية مضاف إليه، قيل القرية هي انطاكية ومعنى استطعما أهلها طلبا منهم الطعام على سبيل الضيافة، وجملة استطعما أهلها لا محل لها لأنها جواب إذا، واختار ابن هشام أن تكون صفة لقرية، وكرر الأهل للتأكيد من باب إقامة الظاهر مقام المضمر وقد تقدمت شواهده أو للتقصي ليشمل الاستطعام والامتناع من الإكرام جميع أهلها. (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) الفاء عاطفة وأبوا فعل وفاعل وأن وما في حيزها مفعول أبوا. (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ) الفاء عاطفة ووجدا فعل وفاعل وفيها جار ومجرور متعلقان بوجدا وجدارا مفعول به وجملة يريد صفة لجدارا وفي معنى إسناد الإرادة للجدار بحث ممتع يطالعه القارئ في باب البلاغة وأن وما في حيزها مفعول يريد فأقامه الفاء عاطفة وأقامه فعل وفاعل مستتر ومفعول به أي رفعه ورممه وأصلحه. (قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) لو حرف شرط غير جازم وشئت فعل وفاعل واللام واقعة في جواب لو واتخذت فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب لو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 وعليه متعلقان بمحذوف حال وأجرا مفعول به. (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) هذا مبتدأ والاشارة الى الفراق المترتب على تكرار السؤال وفراق خبر وبيني مضاف إليه وساغت اضافة بين الى غير متعدد لتكرير بين بالعطف بالواو وبينك عطف على بيني. (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) السين حرف استقبال وأنبئك فعل وفاعل مستتر ومفعول به وبتأويل الباء حرف جر دخل على مضمون المفعولين الثاني والثالث وسيأتي تفصيل ذلك في باب الفوائد وما اسم موصول مضاف الى تأويل ولم حرف نفي وقلب وجزم وتستطع مضارع مجزوم بلم وصبرا مفعول به وعليه متعلقان بصبرا أي سأنبئك سر ما فعلت في الأمور الثلاثة. (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) أما حرف شرط وتفصيل والسفينة مبتدأ والفاء رابطة وكانت كان واسمها المستتر والتاء تاء التأنيث الساكنة ولمساكين خبر كانت والجملة خبر السفينة وجملة يعملون في البحر صفة لمساكين وفي البحر متعلقان بيعلمون. (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) الفاء عاطفة وأردت فعل وفاعل وأن أعيبها المصدر المؤول مفعول أردت والواو للحال وكان فعل ماض ناقص ووراءهم ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وهو بمعنى أمام ويجوز أن يكون بمعنى خلف وملك اسم كان المؤخر وجملة يؤخذ صفة وكل سفينة مفعول به وغصبا مفعول مطلق مبين لنوع الأخذ ويجوز أن يكون المصدر في موضع نصب على الحال وفي كلام تقديم وتأخير سيأتي سره العجيب في باب البلاغة. (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) الواو عاطفة وأما حرف شرط وتفصيل والغلام مبتدأ فكان الفاء رابطة وكان واسمها وخبرها فخشينا الفاء عاطفة وخشينا فعل وفاعل وأن وما في حيزها مفعول خشينا وطغيانا مفعول به ثان وكفرا عطف على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 طغيانا وجملة الجواب خبر الغلام وأسند الخشية الى نفسه لأن الله أطلعه على مآل الغلام لو تناهت به المدة وانفسح الأجل، أو لأنه حكى قول الله. (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) فأردنا عطف على خشينا وأردنا فعل وفاعل وأن يبدلهما أن وما في حيزها مفعول يبدلهما وخيرا منه مفعول ثان وزكاة تمييز أي صلاحا وتقى وأقرب رحما عطف على خيرا منه زكاة ورحما تمييز أيضا أي رحمة بوالديه. قال أبو حيان: وانتصب رحما على المفعول له وأجاز الزمخشري أن ينصب على المصدر بأراد قال لأنه في معنى رحمهما وأجاز أبو البقاء أن ينتصب على الحال وكلاهما متكلف. فتأمل. (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) الجملة معطوفة على ما تقدم والاعراب مماثل وفي المدينة صفة ثانية أو حال. (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) الواو عاطفة وكان فعل ماض ناقص وتحته ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وكنز اسمها المؤخر ولهما صفة وكان أبوهما صالحا كان واسمها وخبرها. (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) فأراد عطف على ما تقدم وربك فاعل وأن يبلغا مفعول أراد وأشدهما مفعول به وقد تقدم تفسير الأشد ويستخرجا عطف على يبلغا والألف فاعل وكنزهما مفعول به ورحمة من ربك مفعول لأجله أي لولا أني أقمته لانقض وهوى وخرج الكنز من تحته قبل أن يصبحا قادرين على حفظ المال وتنميته واستثماره ولضاع بددا. (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) الواو عاطفة وما نافية وفعلته فعل وفاعل ومفعول به والضمير يعود على مجموع ما ذكر وعن أمري جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي صادرا عن أمري وإنما هو بأمر الله وإلهامه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 إياي وذلك مبتدأ وتأويل خبر وما مضاف اليه ولم حرف نفي وقلب وجزم وتسطع أي تستطع فحذفت منه تاء الافتعال مجزوم بلم وعليه متعلقان بصبرا وصبرا مفعول به. البلاغة: الفنون التي انطوت عليها الآيات الآنفة لا يتسع لها صدر هذا الكتاب إذا نحن حاولنا استجلاء غوامضها واكتناه خوافيها فلنمض في استقصائها جانحين إلى لغة النظر فأولها: 1- نسيان نفسه عند ما قال: «أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها» وهو بين الراكبين وهو جدير بأن ينهمك بأمر نفسه وما هو مقدم عليه من سوء المصير وإنما حمله على المبادرة بالإنكار الالتهاب والحمية للحق فنسي نفسه واشتغل بغيره في الحالة التي يقول فيها كل واحد: نفسي نفسي، ولا يلوي على مال ولا ولد وتلك حالة الغرق تذهل فيها العقول وتغرب الأحلام ويضيع الرشد من الألباب. 2- التورية في قوله «قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ» أخرج الكلام في معرض النهي عن المؤاخذة بالنسيان لإيهامه بأنه قد نسي ليبسط عذره في الإنكار وبعضهم يسمي هذا النوع من معاريض الكلام، والمعاريض جمع معراض وهو هنا إيهام خلاف المراد لئلا يلزم الكذب وهو فن ظريف من فنونهم ولعله أجمل أنواع التورية التي سبق ذكرها وقد كان المتنبي يجنح إليه في قصائده وخاصة الكافوريات قال: برغم شبيب فارق السيف كفه ... وكانا على العلات يصطحبان كأن رقاب الناس قالت لسيفه ... رفيقك قيسي وأنت يمان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 فشبيب هذا خارجي خرج على كافور الإخشيدي وقصد دمشق وحاصرها فيقال أن امرأة ألقت عليه رحى فصرعته فانهزم الذين كانوا معه لما مات، ويقال إنه أكثر من شرب الخمر فحدث به صرع ففي ساعة القتال أتته نوبة الصرع فتركه أصحابه ومضوا فأخذه أهل دمشق وقتلوه وقد كان شبيب هذا من قيس ولم تزل بين قيس واليمن عداوات وحروب وأخبار ذلك مشهورة والسيف يقال له «يماني» في نسبته الى اليمن ومراد المتنبي من هذا البيت أن شبيبا لما قتل وفارق السيف كفه فكأن الناس قالوا لسيفه أنت يماني وصاحبك قيسي ولهذا جانبه السيف وفارقه وهذه مغالطة حسنة. ومن معاريض الكلام الحسنة قول أبي العلاء المعري في وصف الإبل: صلب العصا بضرب قد دمّاها ... تود أن الله قد أفناها إذا أرادت رشدا أغواها ... محاله من رقه إياها فالضرب لفظ مشترك يطلق على الضرب بالعصا وعلى الضرب في الأرض وهو المسير فيها وكذلك دماها يطلق على شيئين أحدهما يقال: دمّاه إذا أسال دمه ودماه إذا جعله كالدمية وهي الصورة وكذلك لفظ الفناء فإنه يطلق على عنب الثعلب وعلى إذهاب الشيء إذا لم يبق منه بقية يقال أفناه إذا أذهبه وأفناه إذا أطعمه حب الفناء وهو عنب الثعلب، والرشد والغوى نبتان يقال أغواه إذا أضله وأغواه إذا أطعمه النوى ويقال طلب رشدا إذا طلب ذلك النبت وطلب رشدا إذا طلب الهداية. ويروى في الأخبار الواردة في غزاة بدر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان سائرا بأصحابه يقصد بدرا فلقيهم رجل من العرب فقال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 ممن القوم؟ فقال النبي: من ماء، فأخذ ذلك الرجل يفكر ويقول: من ماء من ماء لينظر من أي بطون العرب يقال لها ماء فسار النبي لوجهته وكان قصده أن يكتم أمره وهذا من المغالطة المثلية لأنه يجوز أن يكون بعض بطون العرب يسمى ماء ويجوز أن يكون المراد أن خلقتهم من ماء وحاشى النبي أن يكذب. 3- توكيد الضميرين: وذلك في قوله تعالى «قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» في قصة قتل الغلام وهذا بخلاف قصة السفينة فإنه قال فيها «أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» والفرق بين الصورتين أنه أكد الضمير في الثانية دون الأولى «أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ» وقال في الثانية «أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ» وإنما جيء بذلك للزيادة في مكافحة العتاب على رفض الوصية مرة بعد مرة والوسم بعدم الصبر وهذا كما لو أتى الإنسان ما نهيته عنه فلمته وعنفته ثم أتى ذلك مرة ثانية أليس أنك تزيد في لومه وتعنيفه؟ وكذلك فعل هاهنا فإنه قيل في الملامة أولا: «أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ» ثم قيل ثانيا: «أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ» وهذا موضع يدق عن العثور عليه بالنظرة العجيلة ولا يمكن اكتناه حسنه إلا بعد التأمل العميق وهذا فن جليل القدر، بعيد الغور، فللضمائر أسرار لا يدركها إلا الملهمون والمبدعون وهي ليست مجرد ضمائر تذكر كما ترد في كتب النحو وستأتي في كتابنا هذا صور رائعة عنه تبين مدى قدر المبين وتساميه عن الانداد. التوكيد بالضمائر في الشعر: وسنورد لك هنا الآن نماذج من التوكيد بالضمائر الوارد في الشعر تذهل العقول فمن بديع ما استظرفناه قول أبي تمام: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 لا أنت أنت ولا الديار ديار ... خف الهوى وتولت الأوطار فقوله «لا أنت أنت ولا الديار ديار» من المليح النادر لأنه هو هو والديار الديار وإنما مراده أن البواعث التي كانت تبعث على قبيل أنت منهم وأنت أنت ولو تأتى له ذلك الرأب صدع البيت، ومع ولا الديار في عينه من الحسن تلك الديار. وقد حاول أبو الطيب أن ينسج على منوال أبي تمام فأسف ولم يلحق به إذ قال: قبيل أنت أنت وأنت منهم ... وجدك بشر الملك الهمام فقوله «أنت أنت» من توكيد الضميرين المشار إليهما وفائدته المبالغة في مدحه ولكنه أفسد على نفسه ما أراده لأن سبك البيت عار من الحسن وفيه تقديم وتأخير أفسداه أيضا لأنه كان من حقه أن يقول: قبيل أنت منهم وأنت أنت ولو تأتّى له ذلك الرأب صدع البيت، ومع ذلك يبقى دون بيت أبي تمام العذب الرشيق وهذا مرده الى الذوق وهو الحكم في هذا الباب. وروى صاحب الأغاني: أن عمرو بن ربيعة قال لزياد بن الهبولة: يا خير الفتيان أردد علي ما أخذته من إبلي فردها عليه وفيها فحلها فنازعه الفحل إلى الإبل فصرعه عمرو فقال له زياد: لو صرعتم يا بني شيبان الرجال كما تصرعون الإبل لكنتم أنتم أنتم فقال عمرو له: لقد أعطيت قليلا وسمت جليلا، وجررت على نفسك ويلا طويلا» فقوله: لكنتم أنتم أنتم، أي أنتم الأشداء أو الشجعان أو ذوو النجدة والبأس إلا أن «أنتم» الثانية تخصيصا لهم بهذه الصفة دون غيرهم كأنه قال لكنتم أنتم الشجعان دون غيرهم ولو مدحهم بأي شيء مدحهم به من وصف البأس والشدة والشجاعة لما بلغ هذه الكلمة أعني «أنتم» الثانية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 4- الاستعارة المكنية: في قوله تعالى: «فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ» فقد استعيرت الارادة للمشارفة والمداناة ويجوز أن يكون مجازا عقليا وهذا الخلاف مطرد في كل نسبة الى مالا يعقل كقول عمرو بن أبي ربيعة: أبت الروادف والثدي لقمصها ... مس البطون وأن تمس ظهورا وسنبسط لك القول في هذا البيت بسطا شافيا لتتأكد من حقيقة هذا الكلام فالإباء المنع الاختياري وقد شبه الروادف والثدي لكبرها بمن يصح منه ذلك والكلام يحتمل إرادة التشبيه فهو مجاز علاقته المشابهة فيكون استعارة مكنية تبعية وقد لا يحتمل إرادة التشبيه ويكون عبارة عن مجرد إسناد الإباء إليها للدلالة على كبرها فيكون مجازا عقليا وفي الكلام أيضا لف ونشر مشوش لأن مس البطون يرجع للثدي ومس الظهور يرجع للروادف ولا بد لإظهار معنى البيت تماما من إيراد البيت الثاني وهو: وإذا الرياح مع العشي تناوحت ... نبّهن حاسدة وهجن غيورا يقال تناوح الجبلان أي تقابلا فالمراد بالتناوح التقابل بحيث يجيء بعض الرياح من أمامها وبعضها من خلفها فتظهر روادفها ونهودها وتلتصق الثياب بخصرها فيظهر ضموره فتنبه الحاسدة لها وتهيج الغيور لكراهية ذلك من الرياح. ومن هذا الضرب قول الحسن بن هانىء أبي نواس: فاستنطق العود قد طال السكوت به ... لا ينطق اللهو حتى ينطق العود الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 شبه العود بانسان على طريق الاستعارة المكنية ويصح أن يكون مجازا عقليا على نحو ما قدمنا لك. وقول حسان بن ثابت: ان دهرا يلف شملي بجمل ... لزمان يهمّ بالإحسان وجمل اسم محبوبته ويروى بعدي يقول: إن الدهر الذي يجمع شملي بمحبوبتي لدهر يهمّ بالإحسان على طريق المكنية ولفظ الهم تخييل ويحتمل أن إسناد الهم له مجاز عقلي كإسناد اللف. 5- التقديم والتأخير: ظاهر الكلام يقتضي تأخير قوله «فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها» عن قوله: «وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً» لأن إرادة العيب مسببة عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب والجواب على ذلك أنه سبحانه قدم المسبب على السبب للعناية به ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده ولكن مع كونها للمساكين. وفي الآية والتي بعدها أيضا أسرار عجيبة أخرى وذلك بمخالفة الضمائر فيهما فقد أسند في الأولى الفعل الى ضميره خاصة بقوله «فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها» وأسنده في الثانية الى ضمير الجماعة والمعظم نفسه في قوله «فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما» و «فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما» ولعل إسناد الأول الى نفسه خاصة من باب الأدب مع الله تعالى لأن المراد أن ثمة عيبا فتأدب بأن نسب الإعابة الى نفسه وأما إسناد الثاني الى الضمير المذكور فالظاهر أنه من باب قول خواص الملك أمرنا بكذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 أو دبرنا كذا وإنما يعنون بأمر الملك أو دبر ويؤيد ذلك قوله في الثالثة «فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما» فلم تأت الضمائر على نمط واحد وهذا من أرقى الأساليب وأحفلها بالمعاني الخصبة التي لا يمجها السمع وتحتويها الآذان. الفوائد: 1- الأفعال التي تنصب مفاعيل ثلاثة هي أعلم وأرى وأنبأ ونبأ وأخبر وخبر وحدث والأصل في هذه الأفعال أعلم وأرى اللذان كان أصلهما قبل دخول همزة النقل عليهما علم ورأى المتعديان لاثنين وأما الخمسة الباقية فليس لها ثلاثي يستعمل في العلم إلا خبر ولكنها ألحقت في بعض استعمالاتها بأعلم المتعدي الى ثلاثة لأن الإنباء والتنبيء والإخبار والتخبير والتحديث بمعنى الإعلام، هذا وتستعمل الخمسة متعدية الى واحد بأنفسها والى مضمون الثاني والثالث أو مضمون الثالث وحده بالباء نحو حدثتك بخروج زيد وعليه يحمل قوله تعالى «سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» وسيأتي مزيد بحث عن هذه الأفعال في موضعه إن شاء الله. 2- وراء: هو لفظ يطلق على الخلف وعلى الأمام ومعناها هنا أمامهم وكون وراءهم بمعنى أمامهم قول قتادة وأبي عبيدة وابن السكيت والزجاج ولا خلاف عند أهل اللغة أن وراء يجوز بمعنى قدام وجاء في التنزيل والشعر، قال الله تعالى: «مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ» وقال «وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ» وقال «وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ» وقال لبيد: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزوم العصا يحنى عليها الأصابع وقال سوار بن المضرب السعدي: أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي ... وقومي تميم والفلاة ورائيا وقال آخر: أليس ورائي أن أدب على العصا ... فتأمن أعداء وتسأمني أهلي وقال الفراء: «لا يجوز أن يقال للرجل بين يديك هو وراءك وإنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي والأيام والدهر تقول وراءك برد شديد وبين يديك برد شديد جاز الوجهان لأن البرد إذا لحقك صار من ورائك وكأنك إذا بلغته صار بين يديك» قال: «إنما جاز هذا في اللغة لأن ما بين يديك وما قدامك إذا توارى عنك فقد صار وراءك» وأكثر أهل اللغة على أن وراء من الأضداد. [سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 88] وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 اللغة: (ذِي الْقَرْنَيْنِ) : اضطربت الأقوال فيه كثيرا فبينما يزعم مفسرو القرآن أنه غير الإسكندر المقدوني الكبير يقولون انه هو الذي بنى الاسكندرية مع أن الإسكندر الكبير هو بانيها ومعنى ذي القرنين انه لقب لقب به لأنه طاف قرني الدنيا يعني جانبيها شرقيها وغربيها أو لأنه كان له قرنان أي ضفيرتان، والعرب تسمي الذؤابة قرنا وجمعها قرون. قال مجنون ليلى لزوجها صبيحة عرسه: بعيشك هل ضممت إليك ليلى ... قبيل الفجر أو قبلت فاها وهل رفّت عليك قرون ليلى ... رفيف الأقحوانة في شذاها وقيل كان على رأسه ما يشبه القرنين ويجوز أن يلقب بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشا لأنه ينطح أقرانه واختلف في زمنه ومكانه اختلافا يمكن الرجوع اليه في المطولات لأن هذا البحث غير داخل في نطاق كتابنا. (حَمِئَةٍ) : أي كثيرة السواد من الحمأة أي الطين وفي المصباح والحمأة بسكون الميم طين أسود وقد حمئت البئر حمأ من باب تعب صار فيها الحمأة والعين الحمئة ماء يجري على الطين الأسود، وقد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 فرىء عين حامية أي حارة ويروى أن ابن عباس قرأ حمئة وكان عند معاوية فقرأ معاوية حامية فقال ابن عباس حمئة فقال معاوية لعبد الله ابن عمر كيف تقرأ؟ قال: كما يقرأ أمير المؤمنين ثم وجه الى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب فقال: في ماء وطين فوافق قول ابن عباس، وكان ثمة رجل فأنشد قول تبع: قد كان ذو القرنين جدي مسلما ... ملكا تدين له الملوك وتسجد بلغ المغارب والمشارق يبتغي ... أسباب أمر من حكيم مرشد فرأى مغار الشمس عند مآبها ... في عين ذي خلب وثأط حرمد والخلب بضمتين الحمأة وهي الطين والثأط الحمأة المختلطة بالماء فتزيد رطوبة وتفسد والحرمد الطين الأسود. مدح تبع ذا القرنين ثم قال انه بلغ مواضع غروب الشمس ومواضع شروقها يبتغي من الله أسبابا توصله لمقصده فرأى محل غبار الشمس عند مآبها أي رجوعها وفي عين متعلق بمغار وحال منه وقد أوّل أبو علي الجبائي ذلك تأويلا طريفا بأن ذلك على سبيل التخييل كما أن من ير الشاطئ الغربي من البحر المتسع ير الشمس تغرب فيه وفي الحقيقة تغرب في ظلمة وراء الأرض لدورانها كما يقرر ذلك بدائه العلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 الإعراب: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) الواو استئنافية ويسألونك فعل مضارع وفاعل ومفعول به وعن ذي القرنين متعلقان بيسألونك. (قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) جملة سأتلو مقول القول وعليكم متعلقان بأتلو ومنه متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لذكر أو تقدم عليه وذكرا مفعول به. (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) إن واسمها وجملة مكنا خبرها وله متعلقان بمكنا وفي الأرض متعلقان بمكنا أيضا وآتيناه عطف على مكنا وهو فعل وفاعل ومفعول به ومن كل شيء متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لسببا وسببا مفعول به ثان لآتيناه. (فَأَتْبَعَ سَبَباً) الفاء عاطفة وأتبع فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وسببا مفعول به وقيل هو يتعدى لاثنين حذف أحدهما وتقديره فأتبع سببا سببا آخر أو فأتبع أمره سببا قال يونس وأبو زيد: أتبع بالقطع عبارة عن المجد المسرع الحثيث الطلب وبالوصل إنما يتضمن الاقتفاء دون هذه الصفات. (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) حتى حرف غاية وجر وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة بلغ مضافة الى الظرف ومغرب الشمس مفعول به وجملة وجدها لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وفي عين متعلقان بتغرب وحمئة صفة لعين. (وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) ووجد عطف على وجدها وعندها ظرف متعلق بوجد وقوما مفعول به وقلنا فعل وفاعل وذا القرنين منادى مضاف وإما حرف شرط وتفصيل وأن تعذب مصدر مؤول في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف أي هو تعذيبك أو الرفع على انه مبتدأ والخبر محذوف أي إما تعذيبك واقع، ومن شواهد الرفع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 قول الشاعر: فسيروا فإما حاجة تقضيانها منها ... وإما مقيل صالح وصديق أو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف أي إما أن تفعل التعذيب وإما أن تتخذ عطف على إما أن تعذب وفيهم متعلقان بتتخذ أو مفعول به ثان لتتخذ وحسنا مفعول به أول أي أمرا ذا حسن. (قالَ: أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) أما حرف شرط وتفصيل ومن ظلم مبتدأ وجملة ظلم صلة فسوف الفاء رابطة وسوف حرف استقبال ونعذبه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول والجملة خبر من. (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) ثم حرف عطف وتراخ ويرد فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو والى ربه متعلقان بيرد فيعذبه الفاء عاطفة ويعذبه فعل وفاعل ومفعول به وعذابا مفعول مطلق ونكرا صفة. (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) وأما عطف على أما السابقة ومن مبتدأ وآمن صلة وعمل صالحا فعل وفاعل مستتر ومفعول به أو صالحا صفة لمفعول مطلق محذوف أي عملا صالحا فله الفاء رابطة وله خبر مقدم وجزاء تمييز وأعربها أبو حيان مصدرا في موضع الحال أي مجازى كقولك في الدار قائما زيد وقيل انتصب على المصدر أي يجزى جزاء، والحسنى مبتدأ مؤخر أي فله الفعلة الحسنى جزاء. قال الفراء ونصب جزاء على التفسير أي لجهة النسبة أي نسبة الخبر المقدم وهو الجار والمجرور إلى المبتدأ المؤخر وهو الحسنى والتقدير فالفعلة الحسنى كائنة له من جزاء الجزاء (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) وسنقول فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر تقديره نحن وله متعلقان بنقول ومن أمرنا متعلقان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 بمحذوف حال لأنه كان صفة ليسرا وتقدم عليه ويسرا مفعول به أو مفعول مطلق أي لا نأمره بالصعب الشاق ولكن بالسهل المتيسر. الفوائد: بحث طريف يتعلق ب «في» : ذهب ابن قتيبة إلى أن «في» بمعنى «عند» لأنها قد ترد بمعنى «في» وبمعنى «مع» قال الشاعر: حتى إذا ألقت يدا في كافر معناه عند كافر، وقال الشاعر: وفي الشر نجاة حين لا ينجيك إحسان معناه ومع الشر، وتكون في الآية بمعنى على كقوله تعالى: «وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ» أي على جذوع النخل وقال عنترة: بطل كأن ثبابه في سرحة أي على سرحة، وكما أن في تقع موقع على كذلك تعكس القضية كقول الشاعر: ولقد سريت على الزمان بمعشر أي في الظلام. هذا ونقول إن الخطاب على حكم الحس في رأي العين لأن من وقف على شاطىء البحر المحيط أو قريبا من جبل عال رأى الشمس عند الغروب كأنها تدلت في نفس البحر أو خلف الجبل، قال الله تعالى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 «حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» أي وراء الجبل ولولا أن اللفظ جاء على حكم الحسّ في الظاهر لما قال الله تعالى: «وَجَدَ عِنْدَها قَوْماً» ومن المعلوم عقلا أن القوم لا يجلسون في قرن الشمس ولا هم عندها ولكن لما كان ذو القرنين قد توغل في جوب الأرض حتى انتهى الى البحر المحيط من جهة الغرب كان الناظر يخيل اليه أن الشمس تغرب هناك وإذن فالخطاب ورد على حكم الحسّ في الظاهر وما أكثر ما تكذب الحواس وله مباحث تؤخذ من مظانها وليس من شرطنا البحث في هذه الموضوعات على جلالتها ويروي التاريخ أن لابن الهيثم كتابا جليل القدر يقع في سبعة مجلدات في هذا العلم ولكنه فقد مع ما فقد من تراثنا العربي. هذا وقد تظرف الشعراء فأشاروا الى خداع الحس، قال أبو العلاء المعري: والنجم تستصغر الأبصار رؤيته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر وقال الخفاجي: ولا ينال كسوف الشمس طلعتها ... وإنما هو فيما يزعم البصر [سورة الكهف (18) : الآيات 89 الى 98] ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 اللغة: (بَيْنَ السَّدَّيْنِ) : بين الجبلين يروى أن ذا القرنين سدّ ما بينهما، وإطلاق السد على الجبل لأنه سد في الجملة، وفي القاموس: السدّ الجبل والحاجز، أو لكونه ملاصقا للسد فهو مجاز بعلاقة المجاورة والقول الثاني هو المناسب لما قبله والتفاصيل في المطولات. (يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) : اسمان أعجميان بدليل منع الصرف فيهما للعلمية والعجمة وقيل بل هما عربيان واختلف في اشتقاقهما فقيل من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 أجيج النار وهو التهابها وشدة توقدها وقيل من الأوجة وهي الاختلاط أو شدة الحر وقيل من الأوج وهو سرعة العدو، وإنما منعا من الصرف للعلمية والتأنيث وكلاهما من أج الظليم إذا أسرع أو من أجت النار إذا التهبت والأقوال في حقيقتهما كثيرة يمكن الرجوع إليها في المطولات. (خَرْجاً) : جعلا من المال أو الخراج بتثليث الخاء وقد قرىء بها ومنه «الخراج بالضمان» ثم سمي ما يأخذه السلطان خراجا ويقال للجزية الخراج فيقال أدى خراج أرضه، ومن المجاز خرج فلان في العلم والصناعة خروجا إذا نبغ وخرّجه فلان فتخرج وهو خريج المدرسة، قال زهير يصف الخيل: وخرّجها صوارخ كل يوم ... فقد جعلت عرائكها تلين أي وأدبها كما يخرّج المتعلم. (رَدْماً) : حاجزا حصينا موثقا، والردم أكبر من السدّ من قولهم ثوب مردم. ومنه قول عنترة: هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم المتردم الموضع الذي يسترقع ويستصلح لما اعتراه من الوهن والوهي والتردم أيضا مثل الترنم وهو ترجيح الصوت مع تحزين ومعنى قول عنترة: لم يترك الأول للآخر شيئا أي سبقني من الشعراء قوم لم يتركوا لي مسترقعا أرقعه ومستصلحا أستصلحه. (زُبَرَ الْحَدِيدِ) : جمع زبرة كغرفة أي قطعة. (الصَّدَفَيْنِ) بفتحتين، وضمتين أيضا، وضم الأول وسكون الثاني، وقد قرىء بالثلاث جميعا مثنى صدف بفتحتين وصدف بضمتين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 وصدف بضم الأول وفتح الثاني وبالعكس: منقطع الجبل أو ناصيته وقد سميا بذلك لأنهما يتقابلان. (قِطْراً) بكسر فسكون النحاس المذاب على الحديد المحمى. (يَظْهَرُوهُ) يعلوا ظهره لارتفاعه وانملاسه. (نَقْباً) خرقا لصلابته وثخانته. (دَكَّاءَ) بالمد أرض مستوية من قولهم ناقة دكاء أي لا سنام لها، ذللت بالدك وقرىء دكا مصدر دك. الإعراب: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) عطف على نظائرها وقد تقدم إعرابها. (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) حتى حرف غاية وجر وإذا ظرف مستقبل وجملة بلغ مضافة الى الظرف ومطلع بكسر اللام مكان الطلوع وسيأتي القول فيه في باب الفوائد وجملة وجدها لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة تطلع مفعول ثان لوجدها وعلى قوم متعلقان بتطلع وجملة لم نجعل صفة لقوم ولهم في موضع نصب مفعول ثان لنجعل ومن دونها حال وسترا مفعول نجعل الأول لأن أرضهم لا أبنية فيها بل فيها أسراب فإذا طلعت الشمس دخلوها وإذا ارتفع النهار خرجوا الى معايشهم وقيل المراد بالستر اللباس فهم عراة أبدا. (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) كذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وقد الواو عاطفة أو حالية وقد حرف تحقيق وأحطنا فعل وفاعل وبما متعلقان بأحطنا ولديه صلة الموصول وخبرا تمييز أو مفعول به وقد تقدم. (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) تقدم إعرابه. (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا) بين السدين: انتصب بين على أنه مفعول به مبلوغ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 كما انجر على الاضافة في قوله تعالى «هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ» وكما ارتفع في قوله «لقد تقطع بينكم» لأنه من الظروف التي تستعمل أسماء وظروفا وسيأتي تفصيل ذلك في باب الفوائد وجملة وجد لا محل لها لأنها جواب إذا ومن دونهما مفعول وجد الثاني وقوما مفعول وجد الأول وجملة لا يكادون صفة لقوما والواو اسم يكاد وجملة يفقهون خبرها وقولا مفعول به. (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) يا أداة نداء وذا القرنين منادى مضاف وإن واسمها ومأجوج عطف على يأجوج ومفسدون خبر إن وفي الأرض متعلقان بمفسدون. (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) الفاء عاطفة وهل خرف استفهام ونجعل فعل مضارع وفاعل مستتر ولك مفعول نجعل الثاني وخرجا مفعول نجعل الأول وعلى ومدخولها متعلقان بمحذوف صفة لخرجا أي قائما على هذا الشرط فعلى هنا على بابها أي للاستعلاء وبيننا الظرف متعلق بمحذوف مفعول تجعل الثاني وبينهم عطف على بيننا وسدا مفعول تجعل الأول. (قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) ما اسم موصول في محل رفع مبتدأ وجملة مكني صلة وفيه متعلقان بمكني وربي فاعل مكني وخير خبر المبتدأ. (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) الفاء الفصيحة وأعينوني فعل أمر وفاعل ومفعول به وبقوة متعلقان بأعينوني واجعل فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب وبينكم الظرف مفعول اجعل الثاني وبينهم عطف عليه وردما مفعول أجعل الاول ومعنى أعينوني بقوة أي بفعلة وصنّاع يحسنون البناء وبآلة وسيأتي تفسيرها. (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) آتوني فعل أمر وفاعل ومفعول به أول وزبر الحديد مفعول به ثان وحتى حرف غاية وجر وإذا ظرف مستقبل وساوى فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 ولا بد من تقدير محذوف للغاية أي فجاءوه بما طلب فبنى، وجعل بين الصدفين الفحم والحطب حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما والظرف متعلق بساوى (قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) جملة انفخوا مقول القول وجملة قال لا محل لها لأنها جواب إذا وحتى غاية للنفخ وجملة جعله نارا مضافة الى الظرف ونارا مفعول جعل الثاني وجملة آتوني مقول القول وأفرغ مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب وفاعله أنا وعليه متعلقان بأفرغ وقطرا مفعول به لأفرغ والتقدير وآتوني قطرا أفرغ عليه قطرا فحذف الأول لدلالة الثاني عليه والمسألة من باب التنازع، فقد أعمل الثاني ولو أعمل الأول لقالوا آتوني أفرغه عليه قطرا إذ التقدير آتوني قطرا أفرغه عليه ومثله قوله تعالى: «هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ» أعمل الثاني ولو أعمل الأول لقال «هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ» وسيأتي القول فيه في حينه. (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) الفاء عاطفة على محذوف أي فجاء قوم يأجوج بعد أن أنهى بناءه وتسويته يحاولون أن يعلوه أو يثقبوه فما اسطاعوا، واسطاعوا فعل وفاعل وأن وما بعدها مصدر مؤول في محل نصب مفعول اسطاعوا، وما استطاعوا عطف على فما اسطاعوا وله متعلقان بنقبا ونقبا مفعول به. (قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) جملة هذا مقول القول وهذا مبتدأ ورحمة خبر والاشارة الى السد لأنه مانع من خروجهم ومن ربي صفة لرحمة، فاذا الفاء استئنافية وإذا ظرف مستقبل وجملة جاء وعد ربي مضافة للظرف وجملة جعله لا محل لها ودكاء مفعول به ثان لجعل وكان الواو عاطفة أو حالية وكان وعد ربي كان واسمها وحقا خبرها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 الفوائد: 1- أسماء الزمان والمكان تفيد زمان الفعل ومكانه وتصاغ من الثلاثي المجرد على وزن مفعل بفتح العين وعلى وزن مفعل بكسرها فوزن مفعل بفتح العين للثلاثي المجرد المأخوذ من يفعل المضموم العين أو يفعل المفتوح العين في المضارع أو من الفعل المعتل الآخر مطلقا فالأول مثل مكتب ومحضر ومحل من حل بالمكان والثاني مثل ملعب ومزرع والثالث مثل ملهى ومثوى وموقى وشذت ألفاظ جاءت بالكسر مع أنها مبنية من مضموم العين في المضارع وهي أحد عشر وهي المطلع والمنسك لمكان النسك أي العبادة والمجزر لمكان جزر الإبل وهو نحرها يقال جزرت الجزور أجزرها بالضم إذا نحرتها وجلدتها والمنبت لموضع النبات والمشرق والمغرب لمكان الشروق والغروب والمفرق لوسط الرأس لأنه موضع فرق الشعر وكذلك مفرق الطريق للموضع الذي يتشعب منه طريق آخر والمسكن موضع السكنى والمسقط موضع السقوط يقال هذا مسقط رأسي أي حيث ولدت وسقط رأسي والمرفق موضع الرفق والمسجد وهو اسم للبيت وليس المراد موضع السجود فقد كسروا هذه الألفاظ والقياس فيها الفتح. ووزن مفعل بكسر العين للثلاثي المجرد المأخوذ من يفعل الصحيح المكسور العين أو من المثال الواوي فالأول مثل مجلس ومحبس ومضرب ومبيت ومضيف والثاني مثل مورد وموعد. وقد تدخل تاء التأنيث على أسماء المكان كالمزلة بفتح الزاي وكسرها فالمفتوح من باب فرح والمكسور من باب ضرب وهي اسم مكان من زل إذا سقط والمظنة لموضع الظن ومألفه وهو بفتح الظاء لأنه من ظن يظن بالضم والمقبرة لموضع القبر والمعبرة لموضع الشط الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 المهيأ للعبور والمشرقة مثلثة الراء والمدرجة الطريق من درج يدرج دروجا إذا مشى والموقعة بفتح القاف وكسرها الموضع الذي يقع عليه والمشربة بفتح الراء وضمها أي موضع الشرب وتطلق أيضا على الغرفة لأنهم كانوا يشربون فيها وهي أيضا الأرض اللينة الدائمة النبات وإذا كثر الشيء بالمكان قيل فيه مفعلة بالفتح فيبنى اسم المكان من الأسماء مثل أرض مسبعة أي كثيرة السباع ومذأبة أي كثيرة الذئاب ومأسدة أي كثيرة الأسود ومبطخة أي كثيرة البطيخ ومقثأة أي كثيرة القثاء ومحياة أي كثيرة الحيات ومفعاة أي كثيرة الأفاعي ومدرجة أي كثيرة الدراج بضم الدال وتشديد الراء وهو طائر جميل ملون الريش ويطلق على الذكر والأنثى. أما وزنهما مما فوق الثلاثي فبكون على وزن المضارع بضم الميم المبدلة من حرف المضارعة وفتح ما قبل الآخر نحو مجتمع ومنتدى ومنتظر ومستشفى فهما يشبهان اسم المفعول والمصدر الميمي والتفرقة بينها بالذوق والقرينة. 2- الظرف: الظرف قسمان: متصرف وغير متصرف: فالمتصرف ما يستعمل ظرفا وغير ظرف فهو يفارق الظرفية الى حال لا تشبهها كأن يستعمل مبتدأ أو خبرا أو فاعلا أو مفعولا به أو نحو ذلك مثل شهر ويوم وسنة وليل. والظرف غير المتصرف ما يلازم النصب على الظرفية فلا يستعمل إلا ظرفا منصوبا مثل قط وعوض وبينا وبينما وإذا وأيان وأنى وذا صباح وذات ليلة ومنه ما ركب من الظروف مثل صباح مساء وليل ليل ومنه ما يلزم النصب على الظرفية أو الجر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 بمن نحو قبل وبعد والجهات الست ولدي ولدن وعند ومتى وأين وهنا وثم وحيث والآن وتفصيل ذلك في المطولات. 3- استطاع واسطاع: قالوا: الأصل في اسطاع استطاع وان التاء حذفت تخفيفا وفتحت همزة الوصل وقطعت وهو قول الفراء وفي استطاع لغات: اسطاع يسطيع بفتح الهمزة في الماضي وضم حرف المضارعة فهو من أطاع يطيع وأصله يطوع بقلب الفتحة من الواو الى الطاء في أطوع إعلالا له حملا على الماضي فصار أطاع ثم دخلت السين كالعوض من عين الفعل هذا مذهب سيبويه و اللغة الثانية استطاع يستطيع بكسر الهمزة في الماضي ووصلها وفتح حرف المضارعة وهو استفعل نحو استقام واستعان. [سورة الكهف (18) : الآيات 99 الى 106] وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 اللغة: (يَمُوجُ) : يختلط. (الصُّورِ) : القرن ينفخ فيه والبوق. الإعراب: (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) وتركنا فعل وفاعل وبعضهم مفعول به ويومئذ ظرف مضاف الى مثله متعلق بيموج وجملة يموج في بعض مفعول به ثان والتنوين في إذ عوض عن جملة كما تقدم، وقد جعل بعضهم ترك متعديا الى واحد فتكون جملة يموج في محل نصب على الحال. (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) ونفخ فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر وفي الصور متعلقان بنفخ فجمعناهم الفاء عاطفة وجمعناهم فعل وفاعل ومفعول به وجمعا مفعول مطلق. (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) وعرضنا عطف على ما تقدم وجهنم مفعول به ويومئذ ظرف مضاف الى مثله متعلق بعرضنا وللكافرين متعلقان بعرضنا أيضا وعرضا مفعول مطلق. (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) الذين صفة للكافرين أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 بدل منهم وجملة كانت صلة وأعينهم اسم كانت وفي غطاء خبر كانت وعن ذكري صفة لغطاء وكانوا كان واسمها وجملة لا يستطيعون سمعا خبرها. (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والذين فاعل وجملة كفروا صلة وان وما في حيزها سدت مسد مفعولي حسب ومن دوني مفعول ثان ليتخذوا وأولياء مفعول به أول. (إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا) إنا إن واسمها وجملة أعتدنا خبر وجهنم مفعول به وللكافرين حال لأنه كان صفة لنزلا ونزلا حال أي مغدة لهم كالنزل يعد للضيف. (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا) جملة هل ننبئكم مقول القول وبالأخسرين دخلت الباء على مضمون المفعولين الثاني والثالث وأعمالا تمييز وجمع التمييز وهو أصيل في الافراد لمشاكلة المميز وللايذان بأن خسرانهم إنما كان من جهات شتى لا من جهة واحدة. (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) الذين صفة للأخسرين أو بدل ويرجح أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف كأنه جواب لسؤال سائل ومن هم الأخسرون أعمالا وجملة ضل صلة وسعيهم فاعل وفي الحياة متعلقان بضل والواو حالية وهم مبتدأ وجملة يحسبون خبر وان وما في حيزها سدت مسد مفعولي يحسبون وجملة يحسنون خبر أنهم وصنعا مفعول ويجوز أن يعرب تمييزا وجملة وهم يحسبون حال من فاعل ضل. (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أولئك اسم اشارة مبتدأ والذين خبره وجملة كفروا صلة وبآيات ربهم جار ومجرور متعلقان بكفروا ولقائه عطف على آيات فحبطت عطف على كفروا وأعمالهم فاعل حبطت. (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) فلا نقيم عطف على ما تقدم والفاعل مستتر تقديره نحن ولهم متعلقان بنقيم ويوم القيامة متعلق بنقيم أيضا ووزنا مفعول به أي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 فلا يكون لهم عندنا وزن أو مقدار. (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً) ذلك مبتدأ وجزاؤهم خبر وجهنم بدل أو عطف بيان لقوله جزاؤهم ويجوز أن يعرب ذلك خبرا لمبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وجزاؤهم جهنم مبتدأ وخبر فتكون كل من الجملتين جملة برأسها ويجوز أن يعرب ذلك مبتدأ وجزاؤهم مبتدأ ثان وجهنم خبر جزاؤهم والجملة خبر المبتدأ الأول وهو ذلك وهذه الاوجه متساوية الرجحان، وبما كفروا يجوز أن يتعلق بمحذوف خبر ذلك في أحد وجوهه أو بمحذوف حال أي بسبب كفرهم وما مصدرية واتخذوا عطف على كفروا وآياتي مفعول به أول ورسلي عطف على آياتي وهزوا مفعول به ثان. البلاغة: 1- الاستعارة المكنية: في قوله تعالى «وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ» استعارة محسوس لمحسوس كما قسمنا أنواع الاستعارة فإن أصل الموج تحريك المياه فاستعير لحركة يأجوج ومأجوج لاشتراك المستعار والمستعار له في الحركة وهي استعارة مكنية تبعية أوهم الخلق يموجون. 2- جناس التصحيف: وفي قوله تعالى «وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» جناس التصحيف وهو أن يكون النقط فيه فارقا بين الكلمتين على حد قول البحتري: ولم يكن المغتر بالله إذ سرى ... ليعجز والمعتز بالله طالبه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 الجناس وأقسامه: الجناس ويقال له التجنيس والمجانسة والتجانس وكلها ألفاظ مشتقة من الجنس، وحدّه في الاصطلاح تشابه الكلمتين في اللفظ واختلافهما في المعنى وفائدته أن يميل بالسامع الى الإصغاء فإن مناسبة الألفاظ تحدث ميلا وإصغاء إليها ولأن اللفظ المذكور إذا حمل على معنى ثم جاء والمراد به معنى آخر كان للنفس تشوق إليه. وفيما يلي أقسام الجناس باختصار: 1- الجناس المركب: وهو أن يتألف من ركنين وهو قسمان: آ- أن يتشابه ركناه لفظا لا خطأ كقول العماد الاصفهاني وكان يسير مع القاضي الفاضل في موكب السلطان وقد ثار الغبار: أما الغبار فإنه ... مما أثارته السنابك والجوّ منه مظلم ... لكن أنار به السنابك يا دهر لي عبد الرحي ... م فلست أخشى مسّ نابك ويحكى أنه لما كان المعتمد بن عباد في سجن أغمات وطال عليه الحال قالت له جاريته لقد هنّا هنا فأنشد على قولها: قالت لقد هنّا هنا ... مولاي أين جاهنا قلت لها: إلهنا ... صيرنا إلى هنا ب- أن يتشابه ركناه لفظا وخطا ومن أمثلته: عضنا الدهر بنابه ... ليت ما حل بنابه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 ولأبي الفتح البستي: إذا لم يكن ملك ذا هبه ... فدعه فدولته ذاهبه 2- الجناس الملفق: وحدّه أن يكون كل من الركنين مركبا من كلمتين كقول بعضهم: رعى الله دهرا بكم قد مضى ... بلغت الأماني به في أمان وأيام أنس تولت لنا ... بأحلام عان بأحلى معان 3- الجناس المعنوي: وهو مجرد صناعة مضنية وقد يأتي حسنا، وهو أن يضمر المتكلم ركني التجنيس ويذكر ألفاظا مرادفة لأحدهما فيدل المظهر على المضمر وأحسن ما سمعناه منه قول أبي بكر بن عبدون وقد اصطبح بخمرة وترك بعضها الى الليل فصارت خلا: ألا في سبيل الله كأس مدامة ... أتتنا بطعم عهده غير ثابت حكت بنت بسطام بن قيس صبيحة ... وأضحت كجسم الشنفري بعد ثابت فصح معه جناسان مضمران في صدر البيت وعجزه لأن بنت بسطام بن قيس كان اسمها الصهباء والشنفري اسمه ثابت وجعل جسمه خلا في مرثية خاله تأبط شرا حيث قال: فاسقنيها يا سواد بن عمرو ... إن جسمي بعد خالي لخل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 والخل المهزول، وأما الجناس المضمر فهو بنت بسطام التي هي الصهباء وأما الذي في العجز فهو جسم ثابت الشنفري الذي هو الخل والمعنى أن الخمر التي حكت سميتها بنت بسطام صباحا وحكت جسم الشنفري مساء أي كانت صهباء فصارت خلا فظهر من كناية اللفظ جناسان مضمران الصهباء وهي الخمرة والصهباء وهي بنت بسطام وخل وهو المهزول وخل وهو ما يؤتدم به. 4- الجناس المطرف: وهو ما زاد أحد ركنيه على الآخر حرفا في طرفه الأول كقول عبد الله بن المعتز: زارني والدجى أحمّ الحواشي ... والثريا في الغرب كالعقود وكأن الهلال طوق عروس ... بات يجلى على غلائل سود ليلة الوصل ساعدينا بطول ... طول الله فيك غيظ الحسود فإن قوله الحسود زاد حرفا على سود. 5- الجناس المحرف: وهو ما اتفق ركناه في أعداد الحروف وترتيبها واختلفا في هيئة الحروف فقط، سمي بذلك لانحراف هيئة عن هيئة الآخر قال أبو العلاء: والحسن يظهر في شيئين رونقه ... بيت من الشعر أو بيت من الشعر 6- الجناس اللفظي: وهو ما تماثل ركناه لفظا واختلف أحد ركنيه عن الآخر خطا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 قال أبو تمام: يمدون من أيد عواص عواصم ... تصول بأسياف قواض قواضب وقال البحتري: من كل ساجي الطرف أغيد أجيد ... ومهفهف الكشحين أحوى أحور 7- الجناس المطلق: وهو ما اختلف ركناه في الحركات والحروف فاشتبه بالمشتق الراجع معناه الى أصل واحد وليس كذلك وهو جميل غير متكلف، ومنه قول أبي فراس: سكرت من لحظه لا من مدامته ... ومال بالنوم عن عيني تمايله فما السلاف دهتني بل سوالفه ... ولا الشمول ازدهتني بل شمايله ألوى بعزمي أصداغا لوين له ... وغال صبري بما تحوي غلايله وقد ولع أبو فراس بهذا اللون من الجناس فقال: عذيري من طوالع في عذاري ... ومن برد الشباب المستعار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 وثوب كنت ألبسه أنيق ... أجرّر ذيله بين الج واري وما زادت على العشرين سني ... فما عذر المشيب إلى عذاري ومنه الحديث النبوي وهو «الظلم ظلمات يوم القيامة» . 8- الجناس المذيل: وهو ما زاد أحد ركنيه على الآخر بحرف أو أكثر في طرفه الأخير فكان له بمثابة الذيل اللاحق بالثوب، ومنه قول أبي تمام: يمدون من أيد عواص عواصم ... تصول بأسياف قواض قواضب ولحسان بن ثابت منه: وكنا متى يغز النبي قبيلة ... نصل جانبيها بالقنا والقنابل 9- الجناس اللاحق: وهو ما أبدل من أحد ركنيه حرف واحد بغيره من غير مخرجه سواء كان الابدال في الأول أو الوسط أو الآخر، قال البحتري: عجب الناس لاغترابي وفي الأط ... ... ... راف تلقى منازل الأشراف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 وقعودي عن التقلب والأر ... ض لمثلي رحيبة الأ كناف ليس عن ثروة بلغت مداها ... غير أني امرؤ كفاني كفافي ولأبي فراس الحمداني: تعس الحريص وقلّ ما يأتي به ... عوضا عن الإلحاح والإلحاف إن الغني هو الغني بنفسه ... ولو انه عاري المناكب حافي ما كلّ ما فوق البسيطة كافيا ... فإذا قنعت فكل شيء كافي 10- الجناس المصحف: وقد تقدم عند الكلام على الآية، ولأبي فراس فيه روائع، استمع الى هذه المقطوعة: ما كنت مذ كنت إلا طوع خلاني ... ليست مؤاخذة الاخوان من شاني يجني الخليل فأستحلي جنايته ... حتى أدل على عفوي واحساني الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 إذا خليلي لم تكثر إساءته ... فأين موقع إحساني وغف راني يجني عليّ وأحنو صافحا أبدا ... لا شيء أحسن من حان على جاني 11- الجناس التام: وهو أن يتفق اللفظان في أنواع الحروف وأعدادها وهيئاتها وترتيبها وهو قسمان: آ- الجناس التام المتماثل: وهو أن يكون اللفظان من نوع واحد كاسمين أو فعلين أو حرفين كقوله تعالى «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ» . وقول أبي تمام: السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حدّه الحد بين الجد واللعب فجانس بين حد السيف والحد الفاصل بين الشيئين وهما اسمان، وقد تفنن الشعراء فيه ولا سيما في عصور الانحطاط كقول الملك الصالح داود: عيون من السحر المبين تبين ... لها عند تحريك الجفون سكون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 تصول ببيض وهي سود فرندها ... ذبول فتور والجفون جفون إذا أبصرت قلبا خليا من الهوى ... تقول له: كن مغرما فيكون ب- وان كانا من نوعين كاسم وفعل أو اسم وحرف أو فعل وحرف سمي الجناس المستوفى كقول أبي الفضل الميكالي: يا من يضيع عمره في اللهو أمسك ... واعلم بأنك ذاهب كذهاب أمسك فجانس بين أمسك وهو فعل أمر وأمسك وهو اليوم الذي قبل يومك. أبو تمام والتجنيس: وقد بالغ أبو تمام في استعمال التجنيس وفيما يلي طائفة منها: قال: فأصبحت غرر الأيام مشرقة ... بالنصر تضحك عن أيامك الغرر فالغرر الأولى استعارة من غرر الوجه والغرر الثانية مأخوذة من غرة الشيء أكرمه. وقال في قصيدته فتح عمورية: عداك حر الثغور المستضامة عن ... برد الثغور وعن سلسالها الخصب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 فالثغور جمع ثغر وهو واحد الأسنان، وهو أيضا البلد الذي على تخوم العدو، ثم قال فيها: كم أحرزت قضب الهندي مصلتة ... تهتز من قضب تهتز في كثب بيض إذا انتفيت من حجبها رجعت ... أحق بالبيض أبدانا من الحجب فالقضب السيوف، والقضب القدود على حكم الاستعارة وكذلك البيض السيوف والبيض النساء وهذا من نادر أبي تمام الذي لا يتعلق به أحد. وقد أكثر أبو تمام من التجنيس في شعره فمنه ما أغرب فيه وأحسن ومنه ما أتى مستثقلا نابيا كقوله: قرّت بقرّان عين الدين واشتترت ... بالأشترين عيون الشرك فاصطلما فجانس بين قرت من قرت العين أي بردت سرورا وقران اسم مكان واشتترت: انشقت والأشترين اسم مكان أيضا واصطلم: قطع من أصله. وأقبح من ذلك قوله: فاسلم سلمت من الآفات ما سلمت ... سلام سلمى ومهما أورق السلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 جناس البحتري: أما البحتري فلم يسف الى الحضيض الذي أسف إليه أبو تمام ولم يأت بالتجنيس إلا جميلا مطبوعا غير متكلف كقوله: إذا العين راحت وهي عين على الهوى ... فليس بسرّ ما تسر الأضالع فالعين الجاسوس والعين معروفة. وما أجمل قول أبي العلاء المعري: لم يبق غيرك إنسانا يلاذ به ... فلا برحت لعين الدهر إنسانا ولأبي تمام تجنيس متكرر في البيت الواحد قال: ليالينا بالرقمتين وأهلنا ... سقى العهد منك العهد والعهد والعهد فالعهد الأول المسقى هو الوقت والعهد الثاني هو الحفاظ من قولهم فلان ما له عهد، والعهد الثالث الوصية من قولهم عهد فلان الى فلان وعهدت اليه أي وصاني وصيته، والعهد الرابع: المطر وجمعه عهاد، قال ابن رشيق: «استثقل قوم هذا التجنيس وحق لهم» . الفوائد: 1- أفعال التصيير هي التي تدل على التحويل والانتقال من حالة الى أخرى وهي تنصب مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر هكذا قال النحاة واعترض بعضهم ذلك بقوله ان معمولي هذه الأفعال متغايران الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 مفهوما وخارجا فلا يصح أن يدعى كونهما مبتدأ وخبرا لوجود اتحادهما خارجا يبين لك ذلك انك تقول صيرت الفقير غنيا والمعدوم موجودا ولا يخفى أن صدق أحدهما على الآخر ممتنع ويجاب بأن نحو الفقير غني صحيح أي الفقير فيما مضى تجدد له الغنى وكذا المعدوم موجود إذ الوصف العنواني لا يشترط وجوده دائما بل يكفي وجوده في بعض الأوقات. وقال الشهابي القاسمي: ويمكن أن يجاب عن البحث بأن أريد أن أفعال التصيير لا يكون معمولاها متغايرين مفهوما وخارجا فهو ممنوع نحو قوله تعالى «وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ» فإن ترك هنا من أفعال التصيير مع صدق أحد مفعوليها على الآخر وإيجاده معه خارجا فإن المائج يصدق على بعضهم ويتحد معه خارجا وان أريد انه قد يكون معمولاها كذلك فمسلم ولا يضير لأن أفعال الباب لا يجب أن تدخل على المبتدأ والخبر بل قد تدخل على غيرهما. 2- اعلم أن المميز يكون واحدا ويكون جمعا فإذا وقع بعد عدد نحو عشرين وثلاثين ونحوهما لم يكن المميز إلا واحدا نحو قولك: عندي عشرون ثوبا وثلاثون عمامة لأن العدد قد دل على الكمية ولم يبق بنا حاجة إلا الى بيان نوع ذلك المبلغ وكان ذلك مما يحصل بالواحد وهو أخف وأما إذا وقع مفسرا لغير عدد نحو: هذا أفره منك عبدا وخير منك عملا جاز الافراد والجمع لاحتمال أن يكون له عبد واحد وعبيد فاذا قلت: هو أفره منك عبيدا أو خير منك أعمالا دللت بلفظ الجمع على معنيين: النوع وانهم جماعة. قال الله تعالى: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا» ، فهم من ذلك النوع وانه كان من جهات شتى لا من جهة واحدة وإذا أفردت فهم منه النوع لا غير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 [سورة الكهف (18) : الآيات 107 الى 110] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) اللغة: (الْفِرْدَوْسِ) : الجنة من الكرم خاصة، وقيل: بل ما كان غالبها كرما. وقيل: كل ما حوط فهو فردوس والجمع فراديس، وقال المبرد: والفردوس فيما سمعت من العرب الشجر الملتف والأغلب عليه من العنب، وحكى الزجاج انها الأودية التي تنبت ضروبا من النبت، واختلف فيه فقيل هو عربي وقيل أعجمي، وقيل هو رومي، وقيل فارسي، وقيل سرياني، وفي القاموس والتاج: الفردوس: بالكسر الأودية التي تنبت ضروبا من النبت والبستان يجمع كل ما يكون في البساتين تكون فيه الكروم وقد يؤنث، عربية أو رومية نقلت أو سريانية، وروضة دون اليمامة لبني يربوع، وماء لبني تميم قرب الكوفة، وقلعة فردوس بقزوين. الى أن يقول والفردسة السعة وصدر مفردس واسع أو ومنه الفردوس قال شارحه قوله: أو ومنه الفردوس أي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 اشتقاقه كما نقله ابن القطاع وهذا يؤيد كونه عربيا ويدل له أيضا قول حسان: وان ثواب الله كل موحد ... جنان من الفردوس فيها يخلد (حِوَلًا) : الحول التحول يفال حال من مكانه حولا كقولك عادني حبها عودا يعني لا مزيد عليه والحول بكسر الحاء وفتح الواو مصدر بمعنى التحول يقال حال عن مكانه حولا فهو مصدر كالعوج والصغر. (المداد) : اسم ما تمد به الدواة من الحبر وما يمد به السراج من السليط، ويقال السماد مداد الأرض. الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) ان واسمها وجملة آمنوا صلة وجملة وعملوا الصالحات عطف على الصلة وجملة كانت خبر إن ولهم حال من نزلا لأنه كان صفة وتقدم عليه وجنات الفردوس اسم كانت ونزلا خبرها ويجوز أن يكون لهم الخبر ونزلا حال. (خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا) خالدين حال من الضمير في لهم وفيها متعلقان بخالدين وجملة لا يبغون حالية وعنها متعلقان بحولا وحولا مفعول يبغون. (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) لو شرطية وكان البحر كان واسمها ومدادا خبرها ولكلمات صفة لمداد واللام واقعة في جواب لو وجملة نفد البحر جواب شرط غير جازم لا محل لها وقيل ظرف متعلق بنفد وأن تنفد المصدر مضاف لقبل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 وكلمات ربي فاعل والواو لعطف ما بعده على جملة مقدرة مدلول عليها بما قبلها أي لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته لو لم يجيء بمثله مددا، ولو شرطية وجئنا فعل الشرط وجواب لو محذوف تقديره لنفد ولم تفرع، وبمثله متعلقان بجئنا ومددا تمييز كقولك لي مثله رجلا وسيأتي مزيد بحث في الفوائد عن جواب لو. (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) إنما كافة ومكفوفة وأنا مبتدأ وبشر خبر ومثلكم صفة. (يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) جملة يوحى صفة لبشر وإليّ متعلقان بيوحى وانما كافة ومكفوفة ولكنها لم تخرج عن المصدرية فهي وما بعدها في محل رفع نائب فاعل وإلهكم مبتدأ وإله خبر وواحد صفة. (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) الفاء استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وكان فعل ماض ناقص واسمها يعود على من وجملة يرجو خبرها ولقاء ربه مفعول به، فليعمل الفاء رابطة لجواب الشرط واللام لام الأمر ويعمل فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وعملا مفعول مطلق أو مفعول به وصالحا صفة ولا يشرك لا ناهية ويشرك فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وبعبادة ربه متعلقان بيشرك وأحدا مفعول يشرك. الفوائد: جواب لو: سيأتي المزيد من أبحاث لو في هذا الكتاب فهي من الأدوات التي يكثر فيها القول ولذلك جعلناه موزعا على الآيات ونتكلم الآن عن جواب لو فنقول: إن جوابها إما ماض معنى نحو نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه أو ماض وضعا وهذا إما مثبت فاقترانه باللام نحو «لو نشاء لجعلناه حطاما» أكثر من تركها نحو «لو نشاء جعلناه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 أجاجا» وهذه اللام تسمى لام التسويف لأنها تدل على تأخير الجواب عن الشرط وتراخيه عنه كما أن إسقاطها يدل على التعجيل أي أن الجواب يقع عقيب الشرط من غير مهلة ولهذا دخلت في «لو نشاء لجعلناه حطاما» وحذفت في نحو «لو نشاء جعلناه أجاجا» أي لوقته في المزن من غير تأخير والفائدة في تأخير جعله حطاما وتقديم جعله أجاجا تشديد العقوبة أي إذا استوى الزرع على سوقه وقويت به الاطماع جعلناه حطاما، أو لأن الزرع ونباته وجفافه بعد النضارة حتى يعود حطاما مما يحتمل انه من فعل الزراع ولهذا قال تعالى: «أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ» أو أنه من سقي الماء وجفافه من عدم السقي وحرارة الشمس أو مرور الأعصار فأخبر سبحانه أنه الفاعل لذلك على الحقيقة وانه قادر على جعله حطاما في حال نموه لو شاء وإنزال الماء من السماء مما لا يتوهم أن لأحد قدرة عليه غير الله تعالى وهذا من عيون النكت فاعرفه وتدبره. وإما أن يكون جواب لو منفيا بما فالأكثر تجرده من اللام ويقل اقترانه بها فالاول نحو «ولو شاء ربك ما فعلوه» والثاني نحو قوله: ولو نعطى الخيار لما افترقنا ... ولكن لا خيار مع الليالي فأدخل اللام على ما النافية ولا تدخل اللام على ناف غيرها وقيل قد تجاب لو بجملة اسمية مقترنة باللام نحو «ولو انهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير» فاللام في لمثوبة جواب لو وان بين الماضي والاسم تشابها من هذه الجهة وقال الزمخشري وانما جعل جوابها جملة اسمية دلالة على استمرار مضمون الجزاء ورد أبو حيان هذا في البحر فقال اللام في لمثوبة لام الابتداء لا الواقعة في جواب لو وهو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 أحد احتمالي الزمخشري وقد تقدم ذلك في البقرة أي فتكون الجملة مستأنفة أو جواب لقسم مقدم وقال ابن هشام في المغني: «والأولى أن تكون لام لمثوبة لام جواب قسم مقدر بدليل كون الجملة اسمية وأما القول بأنها لام جواب لو وأن الاسمية استعيرت مكان الفعلية تعسف» وأقول التعسف في تقديرها للقسم أكثر من جعل الجواب جملة اسمية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 (19) سورة مريم مكيّة وآياتها ثمان وتسعون [سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) اللغة: (وَهَنَ) : في المصباح: «وهن يهن من باب وعد ضعف فهو واهن في الأمر والعمل والبدن، ووهنته أضعفته يتعدى ولا يتعدّى في لغة فهو موهون البدن والعظم والأجود أن يتعدى بالهمزة فيقال: أوهنته والوهن بفتحتين لغة في المصدر ووهن يهن بكسرتين لغة قال أبو زيد: سمعت من الأعراب من يقرأ فما وهنوا» وفي القاموس وغيره: وهنه يهنه وهنا وأوهنه أضعفه ووهن وأوهن الرجل دخل في الوهن من الليل ووهن ووهن يهن ووهن يوهن وهنا ووهنا ووهن يوهن وهنا ضعف في الأمر أو العمل أو البدن وتوهّن البعير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 اضطجع والطائر أثقل من أكل الجيف فلم يقدر على النهوض والوهن مصدر ومن الرجال أو الإبل: الغليظ القصير والوهن من الليل نحو منتصفه أو بعد ساعة منه والموهن من الليل كالوهن، والوهنانة من النساء الكسلى عن العمل تنعما. (الْمَوالِيَ) : الذين يلونني في النسب كبني العم والموالي جمع مولى وهو العاصب. (عاقِراً) : لا تلد، قال في القاموس: عقرت تعقر عقرا وعقرا وعقارا وعقرت تعقر عقرا وعقارة وعقارة وعقرت المرأة أو الناقة صارت عاقرا أي حبس رحمها فلم تلد وعقر عقرا الأمر لم ينتج عاقبة وعقر عقرا الرجل دهش» . (وَلِيًّا) : ابنا وهو أحد معانيه الكثيرة. الإعراب: (كهيعص،) (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) كهيعص تقدم القول في فواتح السور واعرابها ومعانيها فارجع اليه وذكر خبر لمبتدأ محذوف أي هذا المتلو عليك من القرآن أو مبتدأ محذوف الخبر أي فيما يتلى عليك ذكر، ورحمة ربك مضافة لذكر من اضافة المصدر لمفعوله والفاعل مستتر أي ذكر الله رحمة عبده زكريا وعبده مفعول به لرحمة وزكريا بدل من عبده أو عطف بيان له. (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) إذ ظرف لما مضى من الزمن وهو متعلق برحمة ربك أي رحمة الله إياه وقت أن ناداه وقيل العامل فيه ذكر وقيل هو بدل اشتمال من زكريا، وجملة نادى مضاف إليها الظرف والفاعل مستتر تقديره هو ونداء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 مفعول مطلق وخفيا صفة. (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) ربي منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وان واسمها وجملة وهن العظم خبرها ومني حال واشتعل عطف على وهن والرأس فاعل وشيبا تمييز محول عن الفاعل أي انتشر الشيب في رأسي وسيأتي سر هذه الاستعارة في باب البلاغة. (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) الواو عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم وأكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم واسمها مستتر تقديره أنا وشقيا خبرها وبدعائك متعلقان بشقيا ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة. (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) وإني عطف على إني وهن والياء اسم ان وجملة خفت خبرها والموالي مفعول به ومن ورائي متعلقان بمحذوف أو بمعنى الولاية في الموالي ولا يجوز أن يتعلق بخفت لفساد المعنى ووجه فساده أن الخوف واقع في الحال لا فيما يستقبل فلو جعل من ورائي متعلقا بخفت لزم أن يكون الخوف واقعا في المستقبل أي بعد موته وهو كما ترى، ظاهر الفساد وعبارة الزمخشري: «من ورائي بعد موتي وقرأ ابن كثير من وراي بالقصر وهذا الظرف لا يتعلق بخفت لفساد المعنى ولكن بمحذوف أو بمعنى الولاية في الموالي أي خفت فعل الموالي وهو تبديلهم وسوء خلافتهم من ورائي أو خفت الذين يلون الأمر من ورائي، وقرأ عثمان ومحمد بن علي وعلي بن الحسين رضي الله عنهم خفت الموالي من ورائي وهذا على معنيين أحدهما أن يكون ورائي بمعنى خلفي وبعدي فيتعلق الظرف بالموالي أي قلوا وعجزوا عن إقامة أمر الدين. فسأل ربه تقويتهم ومظاهرتهم بولي يرزقه، والثاني أن يكون بمعنى قدّامي فيتعلق بخفت ويريد أنهم خفّوا قدامه ودرجوا ولم يبق منهم من به تقوّ واعتضاد. وقال ابن هشام في المغني «الثاني قوله تعالى: وإني خفت الموالي من ورائي، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 فإن المتبادر تعلق من بخفت وهو فاسد في المعنى والصواب تعلقه بالموالي لما فيه من معنى الولاية أي وخفت ولايتهم من بعدي وسوء خلافتهم أو بمحذوف هو حال من الموالي أو مضاف إليهم أي كائنين من ورائي أو فعل الموالي من ورائي وأما من قرأ خفت بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء فمن متعلقة بالفعل المذكور. وكانت امرأتي عاقرا الواو عاطفة وكان واسمها وخبرها. (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) الفاء الفصيحة أي وإلا فهب لي، وهب فعل أمر ولي متعلقان بهب ومن لدنك حال ووليا مفعول به لهب. (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) جملة يرثني صفة لوليا ولذلك رفعت وقرئ بالجزم على أنه جواب الطلب ويرث عطف على يرثني ومن آل يعقوب متعلقان بيرث ومفعول يرث محذوف تقديره الشرع والحكمة والعلم لأن الأنبياء لا تورث المال وقيل يرثني الحبورة وكان حبرأ ويرث من آل يعقوب الملك فعلى هذا تكون الياء في يرثني منصوبة بنزع الخافض أي يرث مني الحبورة، واجعله فعل دعاء وفاعل مستتر ورب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة ورضيا مفعول به ثان لا جعله. وقد استشكل بعضهم جملة يرثني صفة بناء على أن نبي الله يحيى مات قبل والده بأن دعاء النبي قد يتخلف وذلك لأنه بموته قبله لم يرثه ومعلوم ما يورث من الأنبياء ورأى هذا المستشكل أن الجملة مستأنفة لا صفة وأجيب بأن دعاء الأنبياء قد يتخلف وقد وقع لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه سأل في ثلاثة أمور فاستجيب له في اثنين وتأخرت الاجابة في الثالث وقد اعترض القول بالاستئناف بأن مفاد الجملة حينئذ الإخبار واخبار الأنبياء لا يتخلف قطعا وأجيب بأن هذا الاخبار باعتبار غلبة الظن لأن نبي الله زكريا لما كان مسنا غلب على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 ظنه أنه متى وهب له ولد يرثه. هذا وقد ذكر الجلال السيوطي الإشكال في كتاب شرح عقود الجمان وذكر مثل الجواب الذي أوردناه آنفا ثم قال: «وأجاب الشيخ بهاء الدين بأن المراد إرث النبوة والعلم وقد حصل في حياته» . قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث» ورواه البزاز بلفظ نحن معاشر إلخ وتمام الحديث: «ما تركناه صدقة» ونصب معاشر على الاختصاص بفعل محذوف وجوبا تقديره أخص وما تركناه ما موصولة في محل رفع بالابتداء وتركنا صلته والعائد محذوف أي تركناه وصدقة خبر ما، والحكمة في أن الأنبياء لا يورثون انه وقد وقع في قلب الإنسان شهوة موت مورثه ليأخذ ماله فنزّه الله أنبياءه وأهاليهم عن ذلك ولئلا يظن بهم مبطل انهم يجمعون المال لورثتهم ولأنهم كالآباء لأمتهم فيكون مالهم لجميع الأمة وهو معنى الصدقة العامة وأما قوله تعالى «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» وقوله «وورث سليمان» فالمراد الوراثة في العلم والنبوة وبهذا يندفع أن عدم الإرث مختص بنبينا صلى الله عليه وسلم، فإن قيل إن الله أخبر عن بعضهم بقوله: «واني خفت الموالي» إذ لا تخاف الموالي على النبوة أجيب بأنه خاف من الموالي الاختلاف من بعده الرجوع عن الحق فتمنى ولدا نبيا يقوم فيهم. بقي هنا شيء لا بد من التنويه به وهو أن الأنبياء هل يرثون؟ قال صاحب التتمة: إن النبوة مانعة من الإرث وذكر البزاز الواعظ أنه روي: نحن معاشر الأنبياء لا نرث ولا نورث ويعارضه ما ذكر الماوردي في الاحكام السلطانية أنه صلى الله عليه وسلم ورث من أبيه أم أيمن الحبشية واسمها بركة وخمسة جمال وقطعة من غنم ومولاه شقران واسمه صالح وقد شهد بدرا وورث من أمه دارها ومن خديجة دارها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 البلاغة: في هذه الآيات فنون عديدة نوجز القول فيها: 1- الاختراس في قوله «نِداءً خَفِيًّا» وقد تقدم القول فيه وانه عبارة عن أن يأتي المتكلم بمعنى يتوجه عليه فيه دخل أو لبس أو إيهام فيفطن لذلك حال العمل فيأتي في صلب الكلام بما يخلصه من ذلك كله وقد تقدمت أمثلة عديدة منه كما ستأتي له نظائر مشبهة وهو هنا في كلمة خفيا فقد أتى بها مراعاة لسنة الله في إخفاء دعوته لأن الجهر والإخفاء عند الله سيان فكان الأولى به أن يحترس مما يوهم الرياء أمام الناس الذين يحكمون على الظاهر ويجهلون حقيقة الدخائل أو لئلا يلام على طلب الولد في إبان الكبرة والشيخوخة ودفعا للفضول الذي يطلق الألسنة بمختلف أنواع الملام وقيل احترس من مواليه الذين خافهم وقيل ليس في الأمر احتراس وانما الكلام جار على حقيقته لأن خفوت صوته ناتج عن ضعفه وهرمه حيث يخفت الصوت ويكل اللسان وتعشى العينان وتثقل الآذان على حدّ قول عوف بن محلم الخزاعي: إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي الى ترجمان وقد قيل في صفات الشيخ «صوته خفات، وسمعه تارات» . 2- الاستعارة المكنية: في قوله تعالى «وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً» شبّه الشيب بشواظ النار في بياضه وإثارته وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه منه كل مأخذ ثم أخرجه مخرج الاستعارة المكنية وأسند الاشتعال الى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 مكان الشعر ومنبته وهو الرأس وأخرج الشيب مميزا ولم يضف الرأس أي أم يقل رأسي اكتفاء بعلم المخاطب انه رأس زكريا فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة ونزيد على ذلك وجوه الشبه الأربعة الكامنة في هذا الخيال البعيد، وهي: آ- السرعة: وذلك أن النار حين تشتعل وتندلع أسنتها فإنها تسرع في التهام ما تمتد اليه وهكذا الشيب لا يكاد يخط الرأس حتى بمتد بسرعة عجيبة. ب- تعذر التلافي: وذلك أن النار إذا شبت وتدافع شؤبوبها وتطاير لهيبها اجتاحت كل ما تصادفه وذل لها الصخر والخشب على حد قول أبي تمام: لقد تركت أمير المؤمنين بها ... للنار يوما ذليل الصخر والخشب فيعنو لها الصخر ويذل الخشب ويستلسم لشؤبوبها كل ما يناله دون أن تجدي في ذلك حيلة وقد يتعذر على رجل الإطفاء إخماد لهيبها وكثيرا ما يصبح الماء بمثابة الحطب الذي يذكيها وكذلك الشيب ينتشر بسرعة غريبة في أجزاء الرأس ويتمادى في سرعته بحيث يتعذر بل يستحيل تلافيه، وكثيرا ما يجنح الذين أصيبوا بالشيب الى تغطية شيبهم بالأصابيغ الكاذبة ليخفوا حقيقتهم وليستهووا قلوب الغانيات فلن يبدل ذلك شيئا من الواقع الراهن. ج- الألم: وكما أن النار لذاعة كواءة تؤلم من تلامسه فكذلك الشيب يؤلم الأشيب وقد صدت عنه الغواني واقتحمته العيون على حد قول ابن الرومي: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 وكنت جلاء للعيون من القذى ... فقد أصبحت تقذي بشيبي وترمد هي الأعين النجل التي كنت تشتكي ... مواقعها في القلب والرأس أسود وقول أبي تمام: يا نسيب الثغام ذنبك أبقى ... حسناتي عند الحسان ذنوبا لو رأى الله أن في الشيب خيرا ... جاورته الأبرار في الخلد شيبا وجميع ذلك منقول عن عمر بن أبي ربيعة: رأين الغواني الشيب لاح بعوارضي ... فأعرضن عني بالخدود النواضر ويرحم الله شوقيا عند ما جلس على ضفاف البردوني في زحلة واستمع الى وشوشات الحلي ووسوسات الأساور وألفى نفسه يرتقي الى السبعين فصرخ: شيعت أحلامي بقلب باك ... ولمت من طرق الملاح شباكي ورجعت أدراج الشباب وورده ... أمشي مكانهما على الأشواك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 وبجانبي واه كأن خفوقه ... لمّا تلفت جهشة المتباكي د- المصير: وكما أن مصير النار بعد أن تفعل أفاعيلها وتبلغ غايتها الخمود والانطفاء فالرماد كذلك مصير الإنسان وناهيك بهذا المصير إيلاما للنفس وارتماضا للقلب فهذه أوصاف أربعة جامعة بين المشبه والمشبه به فتأمل هذا الفصل، فله على سائر الفصول الفضل. هذا وقد أوجزنا القول في عدم إضافة الرأس بالاكتفاء بعلم المخاطب ولا بد من إيضاحه الآن فنقول أن للاستعارة مطلوبات ثلاثة: المبالغة في التشبيه والظهور والإيجاز وكل استعارة تتناول واحدا من هذه المطلوبات أما هذه الاستعارة فقد تناولت المطلوبات الثلاثة بكاملها فإن الكلام أن يقال: شيب الرأس ولو جاء الكلام كذلك لأفاد الظهور فقط دون المبالغة واللفظ الأول يعطى عموم الشيب جميع نواحي الرأس كما انك إذا قلت: اشتعلت نار البيت صدق ذلك على اشتعال النار في بعض نواحيه دون بقيته بخلاف ما إذا قلت اشتعل البيت نارا فإن مفهوم ذلك اشتمال النار على كل البيت بجميع أجزائه فتنبه لهذا الفصل وإن طال بعض الطول فإنه كالحسن غير مملول. هذا وقد اقتبس ابن دريد اشتعال الرأس شيبا فقال في مقصورته: واشتعل المبيض في مسودّه ... مثل اشتعال النار في جزل الغضا هذا ولما كان الشيب عندهم عيبا قالوا: هو أشيب أي وصفا على غير قياس لأن الوصف على أفعل انما يكون من فعل كفرح وشرطه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 الدلالة على العيوب أو الألوان وقال الشهاب الخفاجي انه على وزن الوصف من المصائب الخلقية فعدوه من العيوب، ولأبي الحسن الزوزني: كفى الشيب عيبا ان صاحبه إذا ... أردت به وصفا له قلت أشيب وكان قياس الأصل لو قلت شائبا ... ولكنه في جملة العيب يحسب فشائب خطأ لم يستعمل. هذا وفي قوله واشتعل الرأس شيبا فن الإطناب فقد انتقل أولا من شخت الدال على ضعف البدن وشيب الرأس إجمالا الى هذا التفصيل لمزيد التقرير، وثانيا من هذه المرتبة إلى ثالثة أبلغ منها وهي الكناية التي هي أبلغ من التصريح، وثالثا من هذه المرتبة الى رابعة أبلغ في التقرير وهي بناء الكناية على المبتدأ أي قولك: أنا وهنت عظام بدني، ورابعا من هذه المرتبة الى خامسة أبلغ وهي إدخال إن على المبتدأ أعني قولك إني وهنت عظام بدني، وخامسا الى مرتبة سادسة وهي سلوك طريق الإجمال ثم التفصيل أعني إني وهنت العظام من بدني، وسادسا الى مرتبة سابعة وهي ترك توسيط البدن لا دعاء اختصاصها بالبدن بحيث لا يحتاج الى التصريح بالبدن، وسابعا الى مرتبة ثامنة وهي ترك جمع العظم إلى الإفراد لشمول الوهن العظام فردا فردا. 3- التجريد: وذلك في قوله تعالى «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 آلِ يَعْقُوبَ» وقد قدمنا القول فيه مختصرا وسنورده الآن مستوفى: فنقول ان التجريد هو أن ينتزع المتكلم من أمر ذي صفة أمرا آخر بمثاله له فيها مبالغة لكمالها فيه كأنه بلغ من الاتصاف بتلك الصفة الى حيث يصح أن ينتزع منه موصوف آخر بتلك الصفة وهو أقسام: أ- أن يكون بمن التجريدية كقولهم لي من فلان صديق حميم ومنه الآية الكريمة ومثله للقاضي الفاضل في وصف السيوف: تمدا إلى الأعداء منها معاصسا ... فترجع من ماء الكلي بأساور ب- أن يكون بالباء التجريدية الداخلة على المنتزع منه نحو قول ابن هانىء: وضربتم هام الكماة ورعتم ... بيض الخدور بكل ليث مخدر وقال أبو تمام: هتك الظلام أبو الوليد بغرة ... فتحت لنا باب الرجاء المقفل بأتم من قمر السماء وإن بدا ... بدرا وأحسن في العيون وأجمل وأجل من قس إذا استنطقته ... رأيا وألطف في الأمور وأجزل والمراد بأتم من قمر السماء نفس أبي الوليد. ح- أن يكون بدخول في على المنتزع منه أو مدخول ضميره كقوله تعالى «لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ» أي في جهنم وهي دار الخلد ولكنه انتزع منها دارا أخرى للمبالغة وقال المتنبي: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 تمضي المواكب والأبصار شاخصة ... منها الى الملك الميمون طائر قد حرن في بشر في تاجه قمر ... في درعه أسد تدمى أظافره فإن الأسد هو نفس الممدوح ولكنه انتزع منه أسدا آخر تهويلا لأمره ومبالغة في اتصافه بالشجاعة والصولة. د- أن يكون بدخول بين كقول ابن النبيه: يهتز بين وشاحيها قضيب نقا ... حمائم الحلي في أفنانه صدحت هـ- ومنها أن يكون بدون توسط شيء كقول قتادة بن سلمة الحنفي: فلئن بقيت لأرحلن بعزة ... تحوي الغنائم أو يموت كريم عني بالكريم نفسه فكأنه انتزع من نفسه كريما مبالغة في كرمه ولذا لم يقل أو أموت، ولأبي تمام: ولو تراهم وإيانا وموقفنا ... في موقف البين لاستهلالنا زجل من حرقة أطلقتها فرقة أسرت ... قلبا ومن غزل في نحره عذل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 وقد طوى الشوق في أحشائنا بقرا ... عينا طوتهن في أحشائها الكلل ومراده بالبقر العين الذين أخبر عنهم أولا بقوله ولو تراهم فكأنه انتزع منهم موصوفين بهذه الصفة مبالغة فيها. ز- ومنها أن ينتزع الإنسان من نفسه شخصا آخر مثله في الصفة التي سيق الكلام لها ثم يخاطبه كقول أبي الطيب: لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم يسعد الحال فكأنه انتزع من نفسه شخصا آخر مثله في فقد الخيل والمال ومنه قول الأعشى: ودّع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل وقال أبو نواس وأبدع متغزلا: يا كثير النوح في الدمن ... لا عليها بل على السكن سنة العشّاق واحدة ... فإذا أحببت فاستنن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 ومراده الخطاب مع نفسه ولذلك قال بعده: ظن بي من قد كلفت به ... فهو يجفوني على الظنن بات لا يعنيه ما لقيت ... عين ممنوع من الوسن رشأ لولا ملاحته ... خلت الدنيا من الفتن هذا والتجريد كثير في الشعر وستأتي أمثلة منه في مواضع أخرى من هذا الكتاب. [سورة مريم (19) : الآيات 7 الى 15] يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 اللغة: (سَمِيًّا) : السمي: المسمّى وهو فعيل بمعنى مفعول وأصله سميو اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء أي مسمى بيحيى قال الزمخشري: «وهذا شاهد على أن الاسامي السنع جديرة بالاثرة وإياها كانت العرب تنتحي في التسمية لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النبز حتى قال القائل في مدح قوم: سنع الأسامي مسبلي أزر ... حمر تمس الأرض بالهدب انتهى كلام الزمخشري وسنع الاسامي أي أسماؤهم حسنة يقال سنع الرجل كظرف فهو سنيع أي جميل وأسنع والمرأة سنعاء وسنع جمع أسنع كحمر في جمع أحمر من السناعة وهي الجمال كما أفاده في الصحاح أي أسماؤهم حسنة فهي أنبه وأنوه وأنزه عن النبز والحمر صفة الأزر وتمس صفة أخرى لها وهدب الشيء طرفه والمناسب للمعنى أن المراد به الجمع ويمكن أن تكون ضمته مفردا كقفل وجمعا كفلك ويجوز أنه اسم جمع ولذلك جاء في واحده هدبه، ومس الأرض بالأطراف كناية عن طولها بل عن غناهم وقيل معنى السمي المثل والشبيه والشكل والنظير كما في القاموس وغيره فكل واحد منهما سمي لصاحبه ونحو يحيى في أسمائهم يعمر ويعيش إن كانت التسمية عربية وقد سموا بيموت أيضا وهو يموت بن المزرع وقيل هو ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. (عِتِيًّا) : في المختار: «عتا من باب سما وعتيا أيضا بضم العين وكسرها وهو عات فالعاتي المجاوز للحد في الاستكبار وعتا الشيخ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 يعتو عتوا بضم العين وكسرها كبر وولى» وقال الزمخشري: «أي بلغت عتيا وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام كالعود القاحل يقال عتا العود وعسا من أجل الكبر والطعن في السن العالية أو بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى عتيا» (آيَةً) : علامة على حمل امرأتي. (الْمِحْرابِ) : في القاموس: «المحراب: الغرفة، وصدر البيت وأكرم مواضعه ومقام الامام من المسجد والموضع ينفرد به الملك فيتباعد عن الناس» وأما المحراب المعروف الآن وهو طاق مجوف في حائط المسجد يصلي فيه الامام فهو محدث لا تعرفه العرب فتسميته محرابا اصطلاح للفقهاء، هذا ما قاله الشهاب في حاشيته على البيضاوي ولكن المغني اللغوي الذي ذكره الفيروز بادي ينطبق عليه وهو «مقام الإمام في المسجد» . (الْحُكْمَ) : الحكمة ومنه قول النابغة: واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... الى حمام شراع وارد الثمد قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا أو نصفه فقد فحسّبوه فألفوه كما ذكرت ... ستا وستين لم تنقص ولم تزد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 والفتاة التي حكمت هي زرقاء اليمامة التي يضرب بها المثل في حدة البصر نظرت الى حمام مسرع الى الماء فقالت: ليت الحمام ليه ... إلى حمامتيه ونصفه قديه ... تم الحمام ميه فوقع في شبكة صياد فحسبوه فوجدوه ستا وستين حمامة ونصفه ثلاث وثلاثون فإذا ضم الجميع إلى حمامتها صار مائة وشراع بكسر الشين ما يرفع وبه سمي الشراع وهو مثل الملاءة الواسعة يشرع وينصب على السفينة فتهب فيه الرياح فتمضي بالسفينة، ويروى سراع جمع سريع وصفه به لأنه جمع في المعنى كما وصفه بوارد وهو مفرد لأنه مفرد في اللفظ وروى الحمام أو نصفه بالرفع على إهمال ليتما وبالنصب على أعمالها لأن ما الزائدة تكف ان وأخواتها ما عدا ليت فيجوز أعمالها وإلغاؤها وأو بمعنى الواو وقد بمعنى حسب فهي اسم أضيفت الى ياء المتكلم بغير نون الوقاية كما يقال حسبي والفاء زائدة لتحسين اللفظ كفاء فقط وكلاهما بمعنى انته، وحسبوه بتشديد السين ليسلم البيت من الخبن وهو نوع من الزحاف معيب وقيل الحكم العقل وقيل النبوة لأن الله أحكم عقله في صباه وأوحى اليه. (وَحَناناً) : أي رحمة لأبويه وغيرهما وتعطفا وشفقة وأنشد: وقالت حنان ما أتى بك هاهنا ... أذو نسب أم أنت بالحي عارف وهذا البيت لمنذر الكلبي وقبله ليتسق معناه: وأحدث عهد من أمينة نظرة ... على جانب العلياء إذ أنا واقف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 يقول: وأقرب عهد أي لقاء ورؤية لأمينة محبوبتي تصغير آمنة هو نظرة مني لها بجانب تلك البقعة إذ أنا واقف هناك أي حين وقوفي بها وفيه إشعار بأنه كان وافقا يترقب رؤيتها فلما رأته قالت له: حنان أي أمري حنان ورحمة لك وهو من المواضع التي يجب فيها حذف المبتدأ لأنه مصدر محول عن النصب وقولها: ما أتى بك هاهنا؟ استفهام تعجبي أذو نسب أي أأنت ذو نسب أم أنت عارف بهذا الحي ويجوز أن يكون أذو نسب بدلا من ما الاستفهامية أي ما الذي حملك على المجيء هنا أو الذي دلّك عليه صاحب قرابة من الحي أي معرفتك به ويجوز أن الاستفهام حقيقي حكته على لسان غيرها لتلقنه الجواب بقولها: أذو نسب مع معرفتها سبب مجيئه وهو حبها فربما سأله أحد من أهلها فيجيبه بأحد هذين الجوابين وقيل حنانا من الله عليه، وحنّ بمعنى ارتاح واشتاق ثم استعمل في الرأفة والعطف وقيل لله حنان كما قيل رحيم على سبيل الاستعارة. (عَصِيًّا) : صيغة مبالغة وأصل عصيا عصييا بوزن فعيل أدغمت الياء فيه وأتى بصيغة المبالغة لمراعاة الفواصل لأن المنفي أصل العصيان لا المبالغة فيه. الإعراب: (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) يا حرف نداء وزكريا منادى مفرد علم مبني على الضم وقرىء زكرياء بالهمز على الأصل وإنا ان واسمها وجملة نبشرك خبرها والكاف مفعول به وبغلام جار ومجرور متعلقان بنبشرك واسمه مبتدأ ويحيى خبره والجملة الاسمية صفة لغلام. (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) الجملة صفة ثانية لغلام وله مفعول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 نجعل الثاني ومن قبل حال وسميا مفعول نجعل الأول. (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) رب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وأنى اسم استفهام في محل نصب على الظرفية المكانية وهو متعلق بالاستقرار في خبر يكون ولي جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر يكون المقدم وغلام اسمها المؤخر وكانت الواو للحال وكانت امرأتي عاقرا كان واسمها وخبرها والجملة حالية وقد بلغت من الكبر جملة حالية أيضا ومن الكبر متعلقان ببلغت أو بمحذوف حال من عتيا لأنه كان صفة له وتقدم عليه وعتيا مفعول بلغت ولا تلتفت الى الأعاريب التي تكلفها المعربون كاعرابها حالا وتمييزا ومن زائدة وهذا لا يليق بكتاب الله. (قالَ: كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) قال فعل ماض وفاعله مستتر قيل يعود على الله تعالى وقيل على جبريل وكذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك أو نصب بقال أو بفعل محذوف تقديره أفعل كذلك والاشارة الى مبهم يفسره هو على هين، وقال ربك فعل وفاعل وهو مبتدأ وعلي متعلقان بهين وهين خبر هو ولقد الواو حالية وقد حرف تحقيق وخلقتك فعل وفاعل ومفعول به ومن قبل متعلقان بخلقتك والواو حالية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتك فعل مضارع ناقص مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون المقدر على النون المحذوفة للتخفيف واسم تك مستتر وشيئا خبر تك وجملة ولم تك شيئا حال متداخلة وسوف يأتي بحث الشيء بين أهل السنة والمعتزلة وبراعة المتنبي في هذا الباب. (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) رب منادى وقد تقدم إعرابه واجعل فعل أمر ولي مفعول به ثان وآية مفعول به أول. (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) آيتك مبتدأ وأن وما في حيزها خبر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 والناس مفعول به وثلاث ليال نصب على الظرف والظرف متعلق بتكلم وسويا حال من فاعل تكلم أي حالة كونك بلا علة وسليم الأعضاء وقيل سويا نسب على الصفة لثلاث بمعنى أنها كاملات. (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) الفاء استئنافية وخرج فعل وفاعل مستتر وعلى قومه متعلقان بمحذوف حال ومن المحراب متعلقان بخرج فأوحى عطف على خرج وأن تفسيرية لأنها وقعت بعد جملة فيها معنى القول وسبحوه فعل أمر وفاعل ومفعول به وبكرة ظرف زمان متعلق بسبحوه وعشيا عطف على بكرة ويجوز أن تكون أن مصدرية مفعولة بالإيحاء. (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) يا يحيى منادى مفرد علم وخذ الكتاب فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وبقوة حال من فاعل خذ والباء للملابسة أي حال كونك ملتبسا بقوة واجتهاد وآتيناه الواو استئنافية وآتيناه فعل وفاعل ومفعول به أول والحكم مفعول به ثان وصبيا حال من الهاء. (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا) وحنانا عطف على الحكم أي وآتيناه حنانا أي رحمة ورقة في قلبه وعطفا على الآخرين وقيل مفعول مطلق لفعل محذوف وهو بعيد ومن لدنا متعلقان بمحذوف صفة لحنان وزكاة عطف على حنانا وكان تقيا عطف على آتيناه وكان واسمها المستتر وتقيا خبرها. (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) وبرا عطف على تقيا وبوالديه متعلقان ببرا ولم يكن عطف على وكان تقيا واسم يكن مستتر تقديره هو وجبارا خبرها وعصيا نعت. (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) الواو استئنافية وسلام مبتدأ وساغ الابتداء به مع أنه نكرة لتضمنه معنى الدعاء وعليه خبر ويوم ظرف متعلق بسلام وجملة ولد مضافة للظرف وما بعده عطف عليه وحيا حال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 البلاغة: الإيجاز في قوله تعالى «أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ» فظاهر الكلام يوهم أنه استبعد ما وعده الله عز وجل بوقوعه ولا يجوز لأحد بله النبي النطق بما لا يسوغ أو بما في ظاهره الإيهام فجاء الكلام موجزا وتقديره هل تعاد لنا قوتنا وشبابنا فنرزق بغلام؟ أو هل يكون الولد لغير الزوجة العاقر؟ وإذن فالمستبعد هو مجيء الولد منهما بحالهما ولكن الجواب أزال الاشكال إذ قيل له سيكون لكما الولد وأنتما بحالكما. الفوائد: اختلف أهل السنة والمعتزلة في الشيء فالمعتزلة يعتقدون أن الشيء يتناول الموجود والمعدوم الذي يصح وجوده فلا يتناول المستحيل إذن أما أهل السنة فلا يتناول الشيء عندهم إلا الموجود، والآية تشهد لأهل السنة لأن قوله «وَلَمْ تَكُ شَيْئاً» صريحة في ذلك، وقد رمق المتنبي من طرف خفي بعيد هذا الخلاف، فاستعمله في وصف الجبان وذلك في قصيدة مستجادة له في مديح سعيد بن عبد الله بن سعيد الكلابي المنبجي وهي مما قاله في صباه قال: وضاقت الأرض حتى كادها ربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا وقد غفل شراحه عن حقيقة الخلاف المشتجر بين أهل السنة والاعتزال فذهبوا في تفسير هذا البيت كل مذهب قال ابن القطاع: «قد أوخذ في هذا البيت فقيل: كيف يرى غير شيء، وغير شيء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 معدوم والمعدوم لا يرى؟ وفيه تناقض. وليس الأمر كما قالوا بل أراد غير شيء يعبأ به» وقال أبو بكر الخوارزمي: «رأى في هذا البيت ليست من رؤية العين وإنما هو من رؤية القلب يريد به التوهم وغير الشيء يجوز أن يتوهم ومثله كثير» وقال الواحدي: «إذا رأى غير شيء يعبأ به أو يفكر في مثله ظنه إنسانا يطلبه وكذلك عادة الخائف الهارب كقول جرير: ما زال يحسب كل شيء بعدهم ... خيلا تكر عليهم ورجالا قال أبو عبيد: لما أنشد الأخطل قول جرير هذا قال: سرقه والله من كتابهم «يحسبون كل صيحة عليهم» ويجوز حذف الصفة وترك الموصوف دالا عليها كقوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» أجمعوا على أن المعنى لا صلاة كاملة فاضلة، ويقولون: هذا ليس بشيء يريدون شيئا جيدا. وقال بعض المتكلمين: إن الله خلق الأشياء من لا شيء فقيل هذا خطأ لأن لا شيء لا يخلق منه شيء ومن قال إن الله يخلق من لا شيء جعل لا شيء يخلق منه والصحيح أن يقال يخلق لا من شيء لأنه إذا قال لا من شيء نفى أن يكون قبل خلقه شيء يخلق منه الأشياء» والصحيح ما قاله: أي إذا رأى غير شيء يخاف منه، ومن هذا الوادي «حتى إذا جاءه أم يجده شيئا» معناه يريده أو يطلبه أو يغنيه عن الماء أي شيئا نافعا مغنيا. [سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 21] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 اللغة: (انْتَبَذَتْ) : الانتباذ الاعتزال والانفراد فقد تخلت مريم للعبادة في مكان مما يلي شرقي بيت المقدس أو من دارها معتزلة عن الناس الناس وقيل غير ذلك والتفاصيل في المطولات وفي المصباح: «وانتبذت مكانا اتخذته بمعزل يكون بعيدا عن القوم» . (بَغِيًّا) : البغي: الفاجرة التي تبغي الرجال وهي فعول عند المبرد أي بغوي فأدغمت الواو في الياء وقال ابن جني في كتاب التمام «هي فعيل ولو كانت فعولا لقيل بغوّ كما قيل فلان نهوّ عن المنكر» وبغت فلانة بغاء بكسر الباء ومنه قيل للإماء البغايا لأنهن كنّ يباغين في الجاهلية بقال: قامت البغايا على رؤوسهم قال الأعشى: والبغايا يركضن أكسية الاضر ... يج والشرعبيّ ذا الأذيال وفي القاموس وشرحه: «بغى يبغي من باب ضرب الشيء بغاء بضم الباء وبغيا بفتحها وبغى وبغية طلبه وبغى الرجل عدل عن الحق وعصى وبغى عليه استطال عليه وظلمه فهو باغ» فلعل إطلاقهم كلمة البغاء على العهر والزنا مأخوذ من هذا المعنى لأنه من دواعي ما يطلبه أهل الخنا والفجور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 الإعراب: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) واذكر الواو استئنافية واذكر فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت وفي الكتاب جار ومجرور متعلقان باذكر ومريم مفعول به وإذ: قال أبو البقاء ما نصه: في إذ أربعة أوجه أحدها أنها ظرف والعامل فيه محذوف تقديره واذكر خبر مريم إذ انتبذت والثاني أن تكون حالا من المضاف المحذوف والثالث أن يكون منصوبا بفعل محذوف أي وبيّن إذ انتبذت فهو على كلام آخر كما قال سيبويه في قوله تعالى «انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ» وهو في الظرف أقوى وان كان مفعولا به والرابع أن يكون بدلا من مريم بدل اشتمال لأن الأحيان تشتمل على الجثث ذكره الزمخشري وهو بعيد لأن الزمان إذا لم يكن حالا من الجثة ولا خبرا عنها ولا وصفا لها لم يكن بدلا منها وقيل إذ بمعنى أن المصدرية كقولك لا أكرمك إذ لم تكرمني أي لأنك لم تكرمني فعلى هذا يصح بدل الاشتمال أي واذكر مريم انتباذها. واضطرب قول ابن هشام فيها فبينما يقول في صدد بحثه عن إذ «الوجه الثالث أن تكون بدلا من المفعول نحو «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ» فإذ بدل اشتمال من مريم على حد البدل في: «يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه» يعود فيقول: «وزعم الجمهور أن إذ لا تقع إلا ظرفا أو مضافا إليها وأنها في نحو «واذكروا إذ كنتم قليلا» ظرف لمفعول محذوف أي واذكروا نعمة الله إذ كنتم قليلا، وفي نحو إذ انتبذت ظرف لمضاف الى مفعول محذوف أي واذكر قصة مريم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 وقال شهاب الدين الحلبي المعروف بالسمين: «في إذ أوجه أحدها أنها منصوبة باذكر على أنها خرجت عن الظرفية إذ يستحيل أن تكون باقية على مضيها والعامل فيها ما هو نصّ في الاستقبال والثاني أنها منصوبة بمحذوف مضاف لمريم تقديره واذكر خبر مريم أو نبأها إذ انتبذت فإذ منصوبة بذلك الخبر أو النبأ، الثالث أنها بدل من مريم بدل اشتمال قال الزمخشري: لأن الأحيان مشتملة على ما فيها لأن المقصود بذكر مريم ذكر وقتها لوقوع هذه القصة العجيبة فيه» وجملة انتبذت مضافة إلى إذ ومن أهلها حال ومكانا ظرف متعلق بانتبذت أي في مكان وشرقيا نعت ويجوز أن يعرب مكانا مفعولا به على أن معنى انتبذت أتت، ونص المصباح يؤيد كونه مفعولا به فتأمله في باب اللغة. (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) الفاء عاطفة واتخذت فعل ماض وفاعل مستتر ومن دونهم مفعول به ثان وحجابا مفعول به أول فأرسلنا عطف على فاتخذت وإليها متعلقان بأرسلنا وروحنا مفعول به، فتمثل عطف أيضا ولها متعلقان بتمثل وبشرا حال وسويا نعت وسوغ وقوع الحال جامدة وصفها وسيأتي مزيد بحث عنها في باب الفوائد. (قالَتْ: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) ان واسمها وجملة أعوذ خبرها والجملة مقول القول وبالرحمن متعلقان بأعوذ ومنك متعلقان بأعوذ أيضا وإن حرف شرط جازم وكنت فعل ماض ناقص والتاء اسمها وتقيا خبرها وجواب الشرط محذوف والمعنى إن كان يرجى منك أن تتقي الله وتخشاه وتحفل بالاستعاذة به فإني عائذة به منك. (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) إنما كافة ومكفوفة وأنا مبتدأ ورسول ربك خبر واللام للتعليل وأهب فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام ولك متعلقان بأهب وغلاما مفعول به وزكيا صفة. (قالَتْ: أَنَّى يَكُونُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) أنى اسم استفهام بمعنى كيف وقد تقدم إعرابه في قصة زكريا ولم يمسسني الواو حالية ولم حرف نفي وقلب وجزم ويمسسني مضارع مجزوم بلم والياء مفعول به وبشر فاعل، ولم أك بغيا: لم حرف نفي وقلب وجزم وأك مضارع مجزوم وعلامة جزمه السكون على النون المحذوفة للتخفيف واسم أك مستتر وبغيا خبرها. (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) كذلك خبر لمبتدأ محذوف وقد تقدم إعراب نظيرها. (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) لنجعله تعليل معلله محذوف أي فعلنا ذلك أو هو معطوف على مضمر أي لنبين به قدرتنا ولنجعله آية وآية مفعول به ثان لنجعله وللناس صفة لآية ورحمة منا عطف على آية وكان أمرا مقضيا كان واسمها المستتر وخبرها ومقضيا صفة. الفوائد: معنى بشرا سويا: تقدم بحث الحال الموطئة وانها ان تكون جامدة موصوفة وهذا أحد شروطها التي تبرر كونها جامدة وهو في الآية بشرا فهو حال من فاعل تمثل وهو الملك والاعتماد فيها على الصفة وهي سويا وهو اسم مشتق لأنه صفة مشبهة، وعبارة ابن هشام: «الثاني انقسامها بحسب قصدها لذاتها وللتوطئة بها الى قسمين مقصودة وهو الغالب وموطئة وهي الجامدة الموصوفة نحو فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا » واعترض بعضهم على هذا الإعراب فقال: ان دعوى الحال تقتضي أن المعنى متمثل لها في حال كونها بشرا ولا يخفى انه وقت التمثيل ملك لا بشر فالأقرب انه منصوب بنزع الخافض أي فتمثل لها ببشر أي تشبه به وتصور بصورته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 واعلم أنه وقع هنا للبيضاوي ما لا يليق حيث قال: «أتاها جبريل عليه السلام بصورة شاب أمرد سوي الخلق لتستأنس بكلامه ولعله ليهيج شهوتها فتنحدر نطفتها إلى رحمها» فقوله ليهيج إلخ عبارة غير لائقة بمريم مع التحقيق أن عيسى عليه السلام كان من عالم الأمر أي أمر التكوين الممثل بقوله تعالى: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» إذ ليس ثم قول ولا كان ولا يكون وهذا وجه المماثلة بين عيسى وآدم في قوله تعالى: «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ» أي في التكوين بالأمر من غير واسطة ولا نطفة والنفخ المدلول عليه بقوله تعالى «فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا» من قبيل التمثيل استعير لإفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها. لا حقيقة النفخ التي هي إجراء الريح الى جوف صالح لإمساكها والامتلاء بها. ولا يصح الاعتذار للقاضي البيضاوي بأنه نظر الى العادة الإلهية الجارية بخلق المسببات عقب الأسباب لأن السبب لا بد أن يكون تاما ونطفة المرأة وحدها ليست بسبب تام لحصول الولد وإنما تمثل لها بصورة حسنة لتأنس به ولا تنفر منه وتصغي اليه وترهف السمع لسماع البشرى وكان بصورة أمرد لإلف النساء الى الأطفال ومن قرب منهن وعدم الاحتشام منهن. أما رواية الزمخشري فهي: «وقيل قعدت في مشرفة للاغتسال من الحيض محتجبة بحائط أو بشيء يسترها وكان موضعها المسجد فإذا حاضت تحولت الى بيت خالتها فإذا طهرت عادت الى المسجد فبينما هي في مغتسلها أتاها الملك في صورة آدمي شاب وضيء الوجه، جعد الشعر، سوي الخلق، لم ينتقص من الصورة الآدمية شيئا أو حسن الصورة مستوي الخلق وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر منه ولو بدا لها في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 الصورة الملكية لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه» واستأنف الزمخشري كلامه فقال: «ودل على عفافها وورعها أنها تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة، الفائقة الحسن، وكان تمثيله على تلك الصفة ابتلاء لها، وسبرا لعفتها، وقيل: كانت في منزل زوج أختها زكريا ولها محراب على حدة تسكنه وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها الباب فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها فانفجر السقف لها فخرجت فجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك» . ونختم هذا الفصل الذي خالفنا فيه شرط كتابنا لأهميته بتذييل للشيخ عبد الرزاق الكاشي وهذا هو نصه: «إنما تمثل لها بشرا سوي الخلق حسن الصورة، لتتأثر نفسها به فتتحرك على مقتضى الجبلة أو يسري الأثر من الخيال في الطبيعة فتتحرك شهوتها فتنزل كما يقع في المنام من الاحتلام، وانما أمكن تولد الولد من نطفة واحدة لأنه ثبت في العلوم الطبيعية: أن مني الذكر في تولد الجنين بمنزلة الإنفحة من الجبن، ومني الأنثى بمنزلة اللبن: أي العقد من مني الذكر والانعقاد من مني الأنثى، لا على معنى أن مني الذكر ينفرد بالقوة العاقدة ومني الأنثى ينفرد بالقوة المنعقدة بل على معنى أن القوة العاقدة في مني الذكر أقوى، وإلا لم يمكن أن يتحدا شيئا واحدا ولم ينعقد مني الذكر حتى يصير جزءا من الولد فعلى هذا إذا كان مزاج الأنثى قويا ذكوريا كما تكون أمزجة النساء الشريفة النفس القوية القوى وكان مزاج كبدها حارا كان المني الذي ينفصل عن كليتها اليمنى أحر كثيرا من المني الذي ينفصل عن كليتها اليسرى فإذا اجتمعا في الرحم كان مزاج الرحم قويا في الإمساك والجذب قام المنفصل من الكلية اليمنى مقام مني الرجل في شدة قوة العقد والمنفصل من الكلية اليسرى مقام مني الأنثى في قوة الانعقاد فيخلق الولد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 هذا وخصوصا إذا كانت النفس متأيدة بروح القدس متقوية به يسري أثر اتصالها به الى الطبيعة والبدن ويغير المزاج ويمد جميع القوى في أفعالها بالمدد الروحاني فتصير أقدر على أفعالها بما لا يضبط في القياس» . [سورة مريم (19) : الآيات 22 الى 33] فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 اللغة: (قَصِيًّا) : بعيدا من أهلها. (فَأَجاءَهَا) : يقال: جاء وأجاء لغتان بمعنى واحد والأصل في جاء أن يتعدى لواحد بنفسه فإذا دخلت عليه الهمزة كان القياس يقتضي تعديته لاثنين إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل فصار بمعنى ألجأه الى كذا ألا تراك لا تقول: جئت المكان وأجاءنيه زيد كما تقول بلغته وأبلغنيه ونظيره آتى حيث لم يستعمل إلا في الإعطاء ولم تقل أتيت المكان وآتانيه فلان. (الْمَخاضُ) : وجع الولادة، وفي القاموس: مخض يمخض بتثليث الخاء في المضارع مخضا اللبن استخرج زبده فهو لبن مخيض وممخوض ومخض الشيء حركه شديدا ومخض الرأي قلبه وتدبر عواقبه حتى ظهر له الصواب ومخضت بكسر الخاء تمخض بفتحها الحامل مخاضا بكسر الميم ومخاضا بفتحها ومخضت بالبناء للمجهول، ومخضت بتشديد الخاء وتمخضت الحامل دنا ولادها وأخذ الطلق فهي ماخض والجمع مخض بضم الميم وتشديد الخاء ومواخض. وللميم والخاء مجتمعتين معنى يكاد يكون متقاربا فهي تشير الى الانزلاق ومنه مخر البحر والماء أي شقه مع صوت ومخط وامتخط معروفة. (مِتُّ) : بكسر الميم وضمها يقال مات يمات ومات يموت. (نَسْياً) : النسي بفتح النون وكسرها بمعنى المنسي كالذبح بمعنى المذبوح وكل ما من حقه أن يطرح ويرمى وينسى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 (سَرِيًّا) : السري فيه قولان: أحدهما أنه الرجل المرتفع القدر من سرو يسرو كشرف يشرف فهو سري فأعل إعلال سيد فلامه واو يقال هو سري من السراة والسروات، قال بشامة بن حزن النهشلي: وإن دعوت إلى جلّى ومكرمة ... يوما سراة كرام الناس فادعينا والثاني أنه النهر الصغير ويناسبه فكلي واشربي، واشتقاقه من سرى يسري لأن الماء يسري فيه فلامه على هذا ياء، قال لبيد يصف حمارا وحشيا: فمضى وقدّمها وكانت عادة ... منه إذا هي عردت أقدامها فتوسّطا عرض السري فصدعا ... مسجورة متجاورا أقلامها يقول إنه مضى خلف أتانه نحو الماء وقدمها أمامه وأقدامها اسم كان وألحقها التاء لأنها بمعنى التقدمة وعادة خبر كانت والتعريد التأخر والجبن فتوسطا أي الحمار والأتان عرض السري أي ناحية النهر الصغير فصدعا أي شقا عينا مسجورة أي مملوءة. (رُطَباً جَنِيًّا) : الرطب بضم ففتح ما نضج من البسر قبل أن يصير تمرا والجني فعيل بمعنى فاعل أي صار طريا صالحا للاجتناء. (وَقَرِّي عَيْناً) : أي طيبي نفسا ولا تغتمي وارفضي ما أحزنك يقال قرت عينه تقر بفتح العين وكسرها في المضارع وفي وصف العين بذلك تأويلان أولهما أنه مأخوذ من القر وهو البرد وذلك أن العين إذا فرح صاحبها كان دمعها باردا وإذا حزن كان دمعها حارا ولذلك قالوا في الدعاء عليه أسخن الله عينك والثاني انه من الاستقرار والمعنى أعطاه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 الله ما يسكن عينه فلا تطمح الى غيره وفي المصباح: وقرت العين من باب ضرب قرة بالضم وقرورا بردت سرورا وفي لغة أخرى من باب تعب. (صَوْماً) : صمتا وخيل صائمة وصيام قال: خيل صيام وخيل غير صامتة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما وقيل المراد بصائمة وغير صائمة واقفة وغير واقفة. وصامت الريح ركدت وصام النهار وصامت الشمس كبّدت وجئته والشمس في مصامها وشاخ فصامت عنه النساء. (فَرِيًّا) : الفري البديع من فرى الجلد، والفري العظيم من الأمر يقال في الخير والشر وقيل الفري العجيب وقيل المفتعل ومن الأول الحديث في وصف عمر بن الخطاب: فلم أرى عبقريا يفرى فريه، والفري قطع الجلد للخرز والإصلاح، وفي المختار: «فرى الشيء قطعه لاصلاحه وبابه رمى وفرى كذبا خلقه وافتراه واختلقه والاسم الفرية وقوله تعالى: «شَيْئاً فَرِيًّا» أي مصنوعا مختلقا وقيل عظيما وأفرى الأوداج قطعها وأفرى الشيء شقه فانفرى وتفرى أي انشق، وقال الكسائي: أفرى الأديم قطعه على جهة الإفساد وفراه قطعه على جهة الإصلاح» . الإعراب: (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) الفاء عاطفة على محذوف، تقديره فنفخ جبريل في جيب درعها فحملته وسيأتي سر هذا التعقيب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 في باب الفوائد فانتبذت عطف على فحملته وبه جار ومجرور في موضع نصب على الحال وقد رمق سماءه أبو الطيب المتنبي في قصيدة يمدح بها علي بن مكرم بن سيار التميمي ويصف الخيل: كأن خيولنا كانت قديما ... تسقّى في قحوفهم الحليبا فمرّت غير نافرة عليهم ... تدوس بنا الجماجم والتريبا يريد أن خيولهم لم تنفر منهم كأنها كانت في صغرها تسقى في قحوف رءوسهم اللبن يعنى قحوف رءوس الأعداء والعرب كان من عادتها أن تسقي كرام خيولها اللبن وقحف الرأس ما انضم على أم الدماغ، والجمجمة العظم الذي فيه الدماغ فوطئت رءوسهم وصدورهم ولم تنفر عنهم فكأنها ألفتهم والتريب والتريبة واحدة الترائب وهو موضع القلادة ومن طريف الأخطاء أن بعضهم تصدى لشرح هذا البيت ولما لم يعرف معنى التريب قال بالحرف: والتريب والتراب لغة في التراب. زاده الله فهما!!. ومكانا مفعول فيه أو مفعول به وقد تقدم وقصيا صفة. (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) الفاء عاطفة للتعقيب وأجاءها فعل ماض ومفعول به مقدم والمخاض فاعل مؤخر والى جذع النخلة متعلقان بمحذوف حال وسيأتي السر في تعريف النخلة في باب البلاغة. (قالَتْ: يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) يا حرف نداء والمنادى محذوف أو يا لمجرد التنبيه وليت واسمها وجملة مت خبرها وهي فعل وفاعل والظرف منصوب لأنه أضيف وهو متعلق بمت وهذا مضاف اليه وكنت الواو عاطفة وكان واسمها ونسيا خبرها ومنسيا تأكيد لنسيا لأنه بمعناه ولك أن تعربه نعتا. (فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) الفاء عاطفة وناداها فعل ومفعول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 به وفاعل مستتر يعود على الملك أو عيسى ومن تحتها متعلقان بناداها أي في مكان أسفل من مكانها أو بمحذوف حال من فاعل أي ناداها وهو تحتها وأن مفسرة لأن النداء فيه معنى القول دون حروفه ولا ناهية وتحزني مجزوم بلا ويجوز أن تكون مصدرية، ولا نافية وتحزني منصوب بها وأن وما بعدها نصب بنزع الخافض المتعلق بالنداء والأول أسهل وقد حرف تحقيق وجعل ربك فعل وفاعل وتحتك ظرف متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني لجعل وسريا هو المفعول الأول وسيأتي السرّ في علة انتزاع الحزن عنها بسبب وجود الطعام والشراب. (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) : الواو عاطفة وهزي فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والياء هي الفاعل وإليك متعلقان بهزي وبجذع النخلة أورده بن هشام في مغني اللبيب شاهدا على زيادة الباء في المفعول به وأكثر المعربين على ذلك ولكن الزمخشري قال بعد ذكر وجه الزيادة ما معناه: يحتمل انه نزل هزي منزلة اللازم وإن كان متعديا ثم عداه بالباء كما يعدى اللازم والمعنى افعلي به الهز وتساقط مجزوم لأنه جواب الطلب وعليك متعلقان بتساقط ورطبا مفعول به وجنيا صفة، وتساقط يتعدى بنفسه ومن أمثلته لا من شواهده لأن البحتري غير محتج بكلامه. فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه وعن المبرد أن رطبا مفعول هزي وباء بجذع النخلة للاستعانة ولا يخفى ما فيه من التكلف بتأخير ما في حيز الأمر عن جوابه وستأتي أوجه زيادة الباء في باب الفوائد. (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) الفاء الفصيحة أي إذا تم لك هذا كله فكلي، وكلي فعل أمر والياء فاعل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 وما بعده عطف عليه وعينا تمييز من الفاعل لأنه منقول عنه إذ الأصل لتقر عينك. (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) الفاء عاطفة وإن شرطية أدغمت نونها بما الزائدة وترين فعل الشرط وأصله ترأيين بهمزة هي عين الفعل وياء مكسورة هي لامه وأخرى ساكنة هي ياء الضمير والنون علامة الرفع وقد حذفت لام الفعل لتحركها وانفتاح ما قبلها فقلبت ألفا فالتقت ساكنة مع ياء الضمير فحذفت لالتقاء الساكنين، ومن البشر حال لأنه كان في الأصل صفة لأحدا وأحدا مفعول به. (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) الفاء رابطة لجواب الشرط وقولي فعل أمر مبني على حذف النون والياء فاعل وإن واسمها وجملة نذرت خبرها والجملة مقول القول وسيرد إشكال أجبنا عنه في باب الفوائد، وللرحمن متعلقان بنذرت وصوما مفعول به، فلن الفاء استئنافية ولن حرف نفي ونصب واستقبال وأكلم منصوب بلن واليوم ظرف متعلق بأكلم وإنسيا مفعول به. (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) الفاء استئنافية وأتت فعل وفاعل مستتر والتاء للتأنيث وبه علقه أبو البقاء بمحذوف حال أي مصحوبة به وهو جميل ولا نرى مانعا بتعلقه بأتت وقومها مفعول به وجملة تحمله حال ثانية إما من ضمير مريم وإما من ضمير عيسى في به، قالوا فعل وفاعل ويا حرف نداء ومريم منادى واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وجئت فعل وفاعل وشيئا مفعول به أي فعلت شيئا وفريا نعت ويجوز إعراب شيئا على المصدرية أي نوعا من المجيء غريبا. (يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) يا حرف نداء وأخت هارون منادى مضاف أي يا شبيهته، وهارون رجل صالح شبهوها به في عفتها وصلاحها وليس المراد منه أخوة النسب وقيل إنما عنوا هارون أخا موسى لأنها كانت من نسله والعرب تقول للتميمي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 يا أخا تميم وقيل غير ذلك مما تراه في المطولات وما نافية وكان أبوك امرأ سوء كان واسمها وخبرها وما كانت أمك بغيا عطف على الجملة التي سبقتها أي ما دمت بهذه المثابة من مظنة العفة والصلاح فمن أين لك هذا الولد؟ (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) الفاء عاطفة وأشارت فعل وفاعل مستتر وإليه متعلقان بأشارت، قالوا فعل وفاعل وكيف اسم استفهام في محل نصب حال ونكلم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره نحن ومن اسم موصول مفعول به وجملة كان صلة واسم كان مستتر تقديره هو وفي المهد جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وصبيا خبر كان وقد اعتبرنا كان على بابها من النقصان ودلالتها على اقتران مضمون الجملة في الزمن الماضي من غير تعرض للانقطاع كقوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» وقد نشب بين علماء العربية خلاف حول «كان» هنا نذكره مبسوطا في باب الفوائد لما تضمنه من فوائد. (قالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) جملة إني عبد الله مقول القول ولذلك كسرت همزة إن لوقوعها بعد القول وان واسمها وعبد الله خبرها وقد وصف نفسه بثماني صفات أولها العبودية وجملة آتاني الكتاب حالية وهذه هي الصفة الثانية والكتاب مفعول به ثان وجعلني نبيا فعل ماض وفاعل مستتر ومفعولاه وهذه هي الصفة الثالثة. (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) وجعلني مباركا عطف على وجعلني نبيا وهذه هي الصفة الرابعة وأينما اسم شرط جازم في محل نصب على الظرفية المكانية والجواب محذوف مدلول عليه بما تقدم أي أينما كنت جعلني مباركا وهو متعلق بالجواب المحذوف وكان تامة والتاء فاعلها ويجوز أن تكون الناقصة وأينما متعلق بمحذوف خبرها المقدم. (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) ما دمت ما مصدرية ظرفية ودمت فعل ماض ناقص والتاء اسمها وحيا خبرها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 والمصدر المؤول نصب على الظرفية والظرف متعلق بأوصاني وهذه هي الصفة الخامسة. (وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) وبرا بفتح الباء معطوف نسقا على مباركا أي وجعلني برا. جعل ذاته برا لفرط بره ولك أن تنصبه بفعل مقدر بمعنى أوصاني تفاديا للفصل الطويل وهذه هي الصفة السادسة وبوالدتي متعلقان ببرا ولم يجعلني عطف على وجعلني وجبارا مفعول به ثان وشقيا صفة وهذه هي الصفة السابعة. (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) السلام مبتدأ وعلي خبره واختلف في معنى إلى الداخلة على السلام فقيل هي للعهد لأنه تقدم ذكر السلام الموجه الى يحيى فهو موجه إليه أيضا، وقال الزمخشري: «والصحيح أن يكون هذا التعريف تعريضا باللغة على متهمي مريم عليها السلام وأعدائها من اليهود وتحقيقه أن اللام للجنس وإذا قال وجنس السلام عليّ خاصة فقد عرض بأن ضده عليكم ونظيره قوله تعالى: والسلام على من اتبع الهدى يعني أن العذاب على من كذب وتولى وكان المقام مقام مناكرة وعناد فهو مئنته لنحو هذا من التعريض» ويوم متعلق بمعنى الاستقرار المتعلق به عليّ ولا يجوز نصبه للسلام للفصل بين المصدر ومعموله وجملة ولدت مضافا إليها الظرف ويوم أبعث عطف على يوم ولدت وكذلك يوم أبعث وحيا حال وهذه هي الصفة الثامنة والأخيرة. البلاغة: التعريف: وذلك في تعريف النخلة التي جاءها المخاض عندها وهذا التعريف لا يخلو إما أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة كتعريف النجم والصعق كأن تلك الصحراء كان فيها جذع نخلة متعالم عند الناس فإذا قيل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 جذع النخلة فهم منه ذلك دون غيره من جذوع النخيل وإما أن يكون من تعريف الجنس أي جذع هذه الشجرة خاصة كأن الله تعالى إنما أرشدها الى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو خرسة النفساء الموافقة لها ولأن النخلة أقل شيء صبرا على البرد وثمارها إنما هي من جمارها فلموافقتها لها مع جميع الآيات فيها اختارها لها وألجأها إليها. الفوائد: 1- خلاصة قصة ميلاد عيسى في القرآن الكريم: هذا ولم يعن كتاب من الكتب الدينية بميلاد المسيح والدفاع عن طهارة والدته العذراء والإشادة بفضلها وتفضيلها على سائر النساء كما عني القرآن الكريم فقد وردت فيه عن ميلاد المسيح عليه السلام، وحياته وجهاده في سبيل الدعوة الى الله وإصلاح البشر عدة آيات في عدد من السور وقد أتى في براءة العذراء وقنوتها بما لم تأت به كتب أخرى بل كانت السورة الثانية الكبرى من القرآن الكريم وهي سورة آل عمران، وعمران هو والد العذراء وكان عالما من علماء الدين ولم تأت سورة من السور باسم سيدة من سيدات التاريخ غير اسم مريم وهي تحتوي على عدة آيات في ميلاد المسيح كما وردت آيات أخرى في هذا الحادث الجليل. ولقد اصطفى الله آل عمران كما اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم على العالمين، وكان عمران أبو مريم رجلا تقيا ورعا، كما كانت زوجته صالحة تقية فلما حملت نذرت الى الله أن يكون حملها خادما للهيكل فلما وضعت وتبين لها أنها أنثى، وليس الذكر كالأنثى، سمتها أمها مريم ولكن الله تقبلها في الهيكل بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 90 ولم يعش عمران حتى تشب مريم وتكبر فتوفي وهي صغيرة فكفلها زوج خالتها النبي زكريا وكانت مريم صادقة مباركة يفيض الله عليها من رزقه من حيث تعلم ولا تعلم فكان زكريا كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا كثيرا فيسألها قائلا: يا مريم أنّى لك هذا فتجيبه: هو من عند الله. وكانت مريم تتعبد في الهيكل بعيدا عن أهلها وعن الناس، قد انتبذت مكانا شرقيا في الناصرة من مدينة الجليل، وكانت مخطوبة لرجل من أبناء عمومتها اسمه يوسف النجار ولكن لم يتم زواجهما لأنها وهبت نفسها الى الله ولكن الله تعالى شاء أن يهب الى البشر من هذه الفتاة الطاهرة الكريمة التقية نبيا كريما، ورسولا عظيما، ويجعل منها ومن ابنها آية للناس كما قال تعالى «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ» لم يتم زواج يوسف بمريم وبعث الله جبريل فبشرها بحملها بالسيد المسيح وهي في عزلتها تعبد الله وتخلص له العبادة والتقوى فعجبت لذلك وأجفلت وقالت: كيف يكون لي ولد ولم يمسسني بشر، فكان الجواب عليها كما جاء في القرآن، كما صور القرآن فزع مريم في سورة «مريم» حين جاءها الملك بهذه البشارة متمثلا لها في صورة إنسان ظهر لها في عزلتها، على حين غرة من أمرها فاستعاذت بالله منه فهدأ من روعها وأنبأها أنه مرسل من السماء ليهب لها غلاما زكيا فجاء في هذه السورة «واذكر في الكتاب مريم إلخ الآيات» وقد اتفق إنجيل لوقا وإنجيل برنابا والقرآن الكريم في حادث ولادة المسيح على أنه آية للناس ولم يكن نتيجة اتصال مريم بخطيبها يوسف النجار، كما جاء في بعض الأناجيل الاخرى كإنجيل متى الذي نصّ على أن «يسوع بن يوسف النجار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 ابن يعقوب بن متان بن اليعازر، ابن اليهود بن أخيم» الى آخر هذا النسب الذي يصل الى يعقوب بن اسحق بن ابراهيم عليهم السلام. فالقرآن الكريم نزل بأن مريم عذراء وانه بعد بشارة الملك لها بهذا الغلام الزكي حملت به وانتبذت مكانا بعيدا عن الناس، وعانت وحدها آلام وضعه حتى تمنت الموت قبل هذا كما جاء في القرآن الكريم «فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ» إلخ الآيات. خاطبها هذا الوليد الكريم في مهده وهدأ من روعها، وطلب إليها أن تستعين على ضعفها بالرطب الجني، والماء الهني أو خاطبها الملك. وكان أن وقع ما خشيته مريم من اتهامها بالسوء، فلما جاءت به الى قومها أنكروا عليها، واتهموها بما هي براء منه، فصامت عن الكلام وتولى الطفل الصغير في مهده الدفاع عن أمه الطاهرة النقية كما جاء في القرآن الكريم. 2- أسرار الفاءات: وعدناك أن نتحدث عن أسرار الفاءات في قوله تعالى «فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ» في هذه الفاءات دليل على أن حملها به ووضعها إياه لأنه عطف الحمل والانتباذ الى المكان الذي مضت اليه والمخاض الذي هو الطلق بالفاء وهي للفور ولو كانت كغيرها من النساء لعطف بثم التي هي للتراخي والمهلة ألا ترى أنه قد جاء في الأخرى: «قتل الإنسان ما أكفره، من أي شيء خلقه، من نطفة خلقه فقدره، ثم السبيل يسره» فلما كان بين تقديره في البطن وإخراجه مدة متراخية عطف ذلك بثم وهذا بخلاف قصة مريم عليها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 السلام، فانها عطفت بالفاء وقد اختلف الناس في مدة حملها فقيل: انه كحمل غيرها من النساء وقيل: لا بل كان مدة ثلاثة أيام، وقيل: أقل، وقيل: أكثر، وهذه الآية مزيلة للخلاف لأنها دلت صريحا على أن الحمل والوضع كانا متقاربين على الفور من غير مهلة وربما كان ذلك في يوم واحد أو أقل أخذا بما دلت عليه الآية. هذا ما ورد في المثل السائر لابن الأثير، وقد رد ابن أبي الحديد في الفلك الدائر على ذلك بما أوردناه في سورة النحل من أن التعقيب على حسب ما يصح إما عقلا وإما عادة الى أن يقول: وليست الفاء للفور الحقيقي الذي معناه حصول هذا بعد هذا بغير فصل ولا زمان كما توهمه هذا الرجل ألا ترى الى قوله تعالى: «لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ» فإن العذاب متراخ عن الافتراء فلا يدل قوله تعالى في قصة مريم على أن الحمل والمخاض كانا في يوم واحد. قلت: قلت: بحث ابن أبي الحديد متجه والذي قاله ابن الأثير لا يخلو من ضعف وقد اختلف المفسرون في مدة حملها فقال ابن عباس تسعة أشهر كما في سائر النساء وقال عطاء وأبو العالية والضحاك سبعة أشهر وقال ابن عباس أيضا في ساعة واحدة وقال آخر لثمانية أشهر وقال آخرون ستة أشهر وقال آخرون ثلاث ساعات ورجح الامام الرازي انه في ساعة وقال: «ويمكن الاستدلال له بوجهين» وذكر في الوجه الاول ما قاله ابن الأثير وذكر في الوجه الثاني: «ان الله تعالى قال في وصفه: ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون فثبت أن عيسى عليه السلام لما قال الله له كن فكان وهذا مما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 لا يتصور فيه مدة الحمل انما تعقل تلك المدة في حق من يتولد من النطفة» . ومذهب الشافعية أن أكثر مدة الحمل أربع سنين وأقله ستة أشهر وقد ولد الضحاك بن مزاحم لستة عشر شهرا وشعبة ولد لسنتين وهرم بن سنان ولد لأربع سنين ولذلك سمي هرما ومالك بن أنس حمل به أكثر من ثلاث سنين، والحجاج بن يوسف ولد لثلاثين شهرا، ويقال انه كان يقول: اذكروا ليلة ميلادي، ويقال: إن عبد الملك بن مروان حمل به ستة أشهر والشافعي حمل به أربع سنين أو أقل، والحنفية يقولون للشافعية: ما جسر إمامكم أن يظهر الى الوجود حتى توفي إمامنا، ويجيبهم الشافعية بقولهم: بل إمامكم ما ثبت لظهور إمامنا. القول الفصل في الفاء العاطفة: والفاء في أصل وضعها للترتيب المتصل، والترتيب على ضربين: 1- الترتيب في المعنى: هو أن يكون المعطوف بها لاحقا متصلا بلا مهلة كقوله تعالى «خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ» والأكثر كون المعطوف بها متسببا عما قبله كقولك: أملته فمال وأقمته فقام. 2- الترتيب في الذكر: وهو نوعان: أحدهما عطف مفصل على مجمل هو هو في المعنى كقولك توضأ فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه ورجليه ومنه قوله تعالى: «وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ... » الآية. وتكون عطفا لمجرد المشاركة في الحكم بحيث يحسن بالواو كقول امرئ القيس: «بين الدخول فحومل» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 وتخنص الفاء بعطف ما لا يصلح كونه صلة على ما هو صلة كقولك الذي يطير فيغضب زيد الذباب فلو جعلت موضع الفاء واوا أو غيرها فقلت الذي يطير ويغضب زيد، أو ثم يغضب زيد الذباب لم تجز المسألة لأن يغضب زيد جملة لا عائد فيها على الذي فلا يصلح أن يعطف على الصلة لأن شرط ما يعطف على الصلة أن يصلح وقوعه صلة فإن كان العطف بالفاء لم يشترط دلك لأنها تجعل ما بعدها مع ما قبلها في حكم جملة واحدة لإشعارها بالسببية كأنك قلت: الذي ان يطر يغضب زيد الذباب وقد يعطف بالفاء متراخيا كقوله تعالى: «وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى» إما لتقدير متصل قبله وإما لحمل الفاء على ثم. الفاء الفصيحة: وقد تحذف الفاء مع المعطوف بها إذا أمن اللبس وكذلك الواو فمن حذف الفاء قوله تعالى: «فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ» التقدير فامتثلتم فتاب عليكم وقوله تعالى: «فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» معناه فأفطر فعليه عدة وهذه العاطفة على الجواب المحذوف يسميها أرباب المعاني «الفاء الفصيحة» قال صاحب الكشاف في قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ» تقديره فعملا به وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة وقالا الحمد لله. وقال صاحب المفتاح: «هو إخبار عما صنع بهما وعما قالاه كأنه قيل: نحن فعلنا الإيتاء وهما فعلا الحمد وهذا الباب كثير في القرآن وهو من جملة فصاحته ولهذا أسماها أرباب المعاني الفاء الفصيحة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 أما ابن الحاجب فقد قال: ان المعتبر ما يعد في العادة مرتبا من غير مهلة فقد يطول الزمان والعادة تقضي في مثله بانتفاء المهلة وقد تقصر والعادة تقضي بالعكس فإن الزمن الطويل قد بستغرب بالنسبة الى عظم الأمر فتستعمل الفاء وقد يستبعد الزمن القريب بالنسبة الى طول أمر يقضي العرف بحصوله في زمان أقل منه، والذي يظهر من كلام الجماعة أن استعمال الفاء فيما تراخى زمانه ووقوعه من الأول سواء قصر في أولا وإنما هو بطريق المجاز» . وقال الجرمي: لا تفيد الترتيب في البقاع ولا في الأمطار بدليل «بين الدخول فحومل» مطرنا مكان كذا فمكان كذا إذا كان وقوع المطر فيهما في وقت واحد واعترض على معنى التعقيب بقوله تعالى: «الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى» فإن إخراج المرعى لا يعقبه جعله غثاء أحوى أي يابسا أسود والجواب من وجهين: آ- ان جملة فجعله غثاء أحوى معطوفة على جملة محذوفة وان التقدير فمضت مدة فجعله غثاء. ب- ان الفاء نابت عن ثم والمعنى جعله غثاء وسيأتي تفصيل ذلك في حينه. 3- لماذا انقشع الحزن عنها بسبب وجود الطعام والشراب؟ ولا بد هنا من الاجابة على سؤال قد يرد فإن ظاهر الكلام يدل على أن حزنها سينقشع بسبب وجود الطعام والشراب وذلك في قوله تعالى: «فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً» ومعلوم بأن حزنها لم يكن بسبب ذلك، ولا هو ناجم عن فقدان الطعام والشراب ولكن السر في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 ذلك أن التسلية ونسيان الحزن لم يقعا بها من حيث أنهما طعام وشراب ولكن من حيث أنهما معجزة باهرة ترهص لها، وتدحض باطل القوم وتثبت كذبهم وإرجافهم، كما تثبت أنها من أهل العصمة والبعد من الريبة وأنها بمعزل عما قرفوها به ثم ان الأمور الخارجة عن العادات لا يمكن إلا أن تكون إلهية ولحكمة نجهلها ومن ذلك ولادتها عيسى من غير فحل وهذا من عجائب الاساليب. لماذا منعت من الكلام؟ وهناك سؤال آخر قد يثب الى الذهن بعد هذا كله وهو: ان الله أمرها بأن تمتنع من الكلام لأمرين: آ- أن يكون عيسى عليه السلام هو المتكلم عنها ليكون أقوى لحجتها وأرهص للمعجزة وبالتالي لإزالة عوامل الريبة المؤدية الى اتهامها بما يشين. ب- تشريع الكراهية لأية مجادلة مع السفهاء وقد رمق الشاعر سماء هذا المعنى فقال: يخاطبني السفيه بكل قبح ... وأكره أن أكون له مجيبا 4- مواضع زيادة الباء: آ- في الفاعل وزيادتها تكون واجبة في فعل التعجب الوارد على صيغة الأمر نحو أحسن بزيد وعلة الزيادة إصلاح اللفظ وإعرابه أحسن فعل ماض مبني على فتح مقدر على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بالسكون العارض لأجل الصيغة وبزيد الباء حرف جر زائد وزيد فاعل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد وتكون غالبة وذلك في فاعل كفى التي بمعنى حسب والتي هي فعل لازم نحو كفى بالله شهيدا ولا تزاد الباء في فاعل كفى التي بمعنى أجزأ أو أغنى ولا التي بمعنى وقى والأولى متعدية لواحد نحو: قليل منك يكفيني ولكن ... قليلك لا يقال له قليل والثانية متعدية لاثنين كقوله تعالى «وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ» . قال ابن هشام: «ووقع في شعر المتنبي زيادة الباء في فاعل كفى المتعدية لواحد قال: كفى ثعلا فخرا بأنك منهم ... ودهر لأن أمسيت من أهله أهل ولم أر من انتقد عليه» وقد استعجل ابن هشام بهذا الحكم فقد انتقد عليه ذلك أبو البقاء في شرحه الممتع للديوان وأفاض في إعراب البيت كما انتقد المعري أيضا ولسنا بصدد التحقيق في ذلك فلعلك ترجع الى شرح أبي البقاء والى مغني اللبيب. ب- في المفعول به نحو قوله تعالى: «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» «وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ» وقول أبي الطيب: كفى بجسمي نحولا انني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 ج- في المبتدأ نحو بحسبك درهم وخرجت فإذا بزيد وكيف بك فكيف اسم استفهام خبر مقدم وبك الباء حرف جر زائد والكاف في محل جر بالباء وفي محل رفع بالابتداء وقد نابت الكاف عن أنت لدخول حرف الجر والمعنى كيف أنت إذا كان الأمر حاصلا. د- في الخبر وهو ينقاس في غير الموجب نحو ليس زيد بقائم وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون وفي غير الموجب متوقف على الساع. هـ- في الحال المنفي عاملها كقوله: فما رجعت بخائبة ركاب ... حكيم بن المسيّب منتهاها وفي التوكيد بالنفس والعين نحو جاء زيد بنفسه وبعينه. 5- مبحث هام حول كان: قوله تعالى «كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا» جرينا في اعرابها على أنها ناقصة واسمها مستتر تقديره هو وصبيا خبرها وممن أعربها كذلك الزمخشري ووعدنا أن ننقل الخلاف الذي ثار حولها لطرافته ولما فيه من رياضة ذهنية: أما أبو البقاء فقد أعربها زائدة أي من هو في المهد وصبيا حال من الضمير في الجار والضمير المنفصل المقدر كان متصلا بكان وقيل كان الزائدة لا يستتر فيها ضمير فعلى هذا لا تحتاج الى تقدير هو بل يكون الظرف صلة من وقيل ليست زائدة بل هي كقوله «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» وقيل هي بمعنى صار وقيل هي التامة ومن بمعنى الذي وقيل شرطية وجوابها كيف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 وقال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين: في كان هذه أقوال: آ- انها زائدة وهو قول أبي عبيد أي كيف نكلم من في المهد، وصبيا على هذا نصب على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور والواقع صلة. ب- انها تامة بمعنى حدث ووجد والتقدير كيف نكلم من وجد صبيا وصبيا حال من الضمير في كان. ح- انها بمعنى صار أي كيف نكلم من صار في المهد صبيا، وصبيا على هذا خبرها. د- انها الناقصة على بابها من دلالتها على اقتران مضمون الجملة بالزمان الماضي من غير تعرض للانقطاع كقوله تعالى «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» ولذلك يعبر عنها بأنها ترادف لم يزل. وقال ابن الأنباري في «أسرار العربية» كان هنا تامة وصبيا منصوب على الحال ولا يجوز أن تكون ناقصة لأنه لا اختصاص لعيسى عليه السلام في ذلك لأن كلا كان في المهد صبيا ولا عجب في تكليم من كان فيما مضى في حال الصبا. وبعد كتابة ما تقدم وقعت على ما قاله أبو طاهر حمزة في رسالة له سماها «المنيرة المعربة عن شرف الاعراب» وأنقل لك خلاصته ففيه وجاهة وطرافة وهي تؤيد ما ذهبنا اليه من بقاء كان على وجهها قال: «لكن الوجه ان كان من قصد الخبر الآن عن حالهم لأنهم أكبروا ذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 في وقت كونه في المهد فكأنه قال: أكبروا تكليم صبي كائن في المهد طفلا فيكون الكون من لفظ المخبر لا من لفظهم كقول الحطيئة يصف الرياض: يظل بها الشيخ الذي كان فانيا ... يدب على عوج له نخرات فلم يك فانيا قبل دبيبه بل وقت دبيبه فذكر الكون من لفظ المخبر» . قلت: قلت: وهذا كله دندنة في غير طائل والأجود ما اخترناه واختاره الزمخشري ويأتي في المرتبة بعده أن تكون زائدة أما تقديرها تامة فبعيد جدا لأن عيسى لم يخلق ابتداء في المهد. 6- بغيا: أصله بغويا اجتمعت فيه الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ثم أدغم الياء في الياء وإلا لو كان فعيلا بمعنى فاعل لحقته التاء وقال البيضاوي: «وهو فعول من البغي قلبت واوه وأدغمت ثم كسرت العين اتباعا ولذلك لم تلحقه التاء أو فعيل بمعنى فاعل لم تلحقه التاء لأنه للمبالغة أو للنسب كطالق» وقال بعضهم: البغي خاص بالمؤنث فلا يقال رجل بغي انما يقال امرأة بغي لكن نقل بعضهم عن المصباح انه يقال رجل بغي كما يقال امرأة بغي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 [سورة مريم (19) : الآيات 34 الى 40] ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) الإعراب: (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) ذلك اسم اشارة مبتدأ وعيسى خبره وابن مريم بدل وقول الحق مفعول مطلق لفعل محذوف أي قلت، أو مصدر مؤكد لمضمون الجملة كقولك هو عبد الله حقا واختار الزمخشري أن يكون منصوبا على المدح بفعل محذوف تقديره امدح، هذا وقد فرق أبو حيان بين الاعرابين فقال: «وانتصاب قول على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة أي هذه الأخبار عن عيسى بن مريم ثابت صدق ليس منسوبا لغيرها أي انها ولدته من غير مس بشر كما تقول هذا عبد الله الحق لا الباطل أي أقول الحق وأقول قول الحق فيكون الحق هو الصدق وهو من إضافة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 الموصوف الى الصفة» ، والذي نعت للقول إن أريد به عيسى وسمي قولا كما سمي كلمة لأنه عنها نشأ أو صفة للحق نفسه وفيه متعلقان بيمترون وجملة يمترون صلة الموصول. (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ) ما نافية وكان فعل ماض ناقص ولله خبرها المقدم وأن يتخذ مصدر مؤول اسم كان ومن زائدة وولد مجرور بمن لفظا مفعول به منصوب محلا وسبحانه مفعول مطلق لفعل محذوف. (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) تقدم اعراب أمثالها كثيرا ونعيد اعراب فيكون الفاء استئنافية ويكون مرفوع أي فهو يكون وكان هنا تامة وقرئ بنصب فيكون بأن مضمرة بعد فاء السببية الواقعة بعد الطلب. (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة ولذلك كسرت همزة إن وقرئ بفتحها بحذف حرف الجر وان واسمها وربي خبرها وربكم عطف على ربي فاعبدوه الفاء الفصيحة وقد تقدم بحثها واعبدوه فعل أمر وفاعل ومفعول به وهذا مبتدأ وصراط خبر ومستقيم صفة لصراط والجملة حالية وسمي القول صراطا مستقيما تشبيها له بالطريق الآيل للنجاة. (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) الفاء استئنافية واختلف الأحزاب فعل وفاعل ومن بينهم حال من الأحزاب والمعنى حال كون الأحزاب بعضهم وتفصيل اختلافهم وأنواع فرقهم يرجع إليها في الملل والنحل للشهرستاني وفي الفصل بين الملل والنحل لابن حزم الاندلسي وفي المطولات. (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) الفاء عاطفة وويل مبتدأ وساغ الابتداء بالنكرة لتضمنها معنى الدعاء وللذين خبر ويل وجملة كفروا صلة ومن مشهد متعلقان بويل ومشهد مصدر ميمي أي من شهودهم بمعنى حضورهم ويجوز أن يكون اسم زمان أو مكان. (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أسمع فعل ماض أتى على صيغة الأمر أو مبني على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 الفتح المقدر على الآخر الساكن والباء حرف جر زيدت في الفاعل الذي أتى ضمير نصب أو جر لمناسبة الباء وقد تقدم بحث التعجب مفصلا والتعجب هنا مصروف الى المخاطبين، لكن مخففة مهملة والظالمون مبتدأ وفي ضلال خبر ومبين صفة وأوقع الظاهر موقع المضمر اشعارا بأن ظلمهم بلغ الغاية وأربى على النهاية ويوم يأتوننا متعلق بأسمع وأبصر. (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أنذرهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول ويوم الحسرة ظرف متعلق بأنذرهم والأحسن أن يكون مفعولا به أي خوّفهم نفس اليوم وإذ متعلق بالحسرة والمصدر المعرف بأل يعمل في المفعول الصريح فكيف بالظرف ويجوز أن يكون بدلا من يوم الحسرة فيكون معمولا لأنذر وبذلك يتأكد أن يوم الحسرة مفعول به لا ظرف، وهم الواو حالية وهم مبتدأ وفي غفلة خبر وهم لا يؤمنون جملة حالية منتظمة مع سابقتها والحالان إما من الضمير المستتر في قوله في ضلال مبين أي استقروا في ضلال مبين على هاتين الحالين السيئتين فتكون جملة وأنذرهم اعتراضا واما من المفعول في أنذرهم على هاتين الحالين السيئتين، (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) إن واسمها ونحن تأكيد لاسم نا الذي هو بمعنى نحن لأنه بمعناه وجملة نرث الأرض خبر إنا ومن عطف على الأرض وعليها متعلقان بمحذوف صلة من وإلينا متعلقان بيرجعون ويرجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل ولك في الواو بقوله وإلينا أن تجعلها حالية أو عاطفة. البلاغة: المجاز المرسل في قوله «لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» والعلاقة الحالية والمراد جهنم فأطلق الحال وأريد المحل لأن الضلال لا يحل فيه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 وإنما يحل في مكانه وكذلك قوله: وهم في غفلة والغفلة لا يحل فيها أيضا وإنما يحل بالمتالف التي توقع الغفلة أصحابها فيها. [سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 50] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 اللغة: (الصِّدِّيقُ) : من أبنية المبالغة ونظيره الضحيّك والنّطّيق والمراد أنه بليغ الصدق في أقواله وأفعاله وفي تصديق غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله. (مَلِيًّا) : دهرا طويلا. (حَفِيًّا) : في المختار: «وحفي به بالكسر حفاوة بفتح الحاء فهو حفي أي بالغ في إكرامه وإلطافه والعناية بأمره، والحفي أيضا المستقصي في السؤال ومن الأول قوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا» ومن الثاني قوله تعالى: «كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها» . الإعراب: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) الواو استئنافية واذكر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وفي الكتاب متعلقان باذكر وابراهيم مفعول به وان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وصديقا خبر كان الأول ونبيا خبرها الثاني. (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) إذ اختلف المعربون فيها فعلقها الزمخشري وأبو البقاء وغيرهما بكان أو بصديقا نبيا أي كان جامعا لخصائص النبيين والصديقين حين خاطب أباه تلك المخاطبات وهذا مبني على عمل كان الناقصة وأخواتها في الظرف غير خبرها واسمها وفيه خلاف وأعربها الزمخشري وأبو البقاء وغيرهما أيضا بدلا من ابراهيم بناء على حذف مضاف أي نبأ ابراهيم فتكون جملة إنه كان صديقا نبيا معترضة وفيه أيضا انه مبني على تصرف إذ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 وقد تقدم بحثها والقول بأنها لا تتصرف وجملة قال مضافة إليها الظرف ولأبيه متعلقان بقال ويا حرف نداء وأبت منادى مضاف لياء المتكلم المعوض عنها بالتاء وقد تقدمت الاشارة الى ذلك ولا يجوز الجمع بين المعوض والمعوض عنه فلا يقال يا أبتي ويقال يا أبتا لكون الألف بدلا من الياء وشبه ذلك سيبويه بأينق وتعويض الياء فيه عن الواو الساقطة وسيرد المزيد من هذا البحث في باب الفوائد مع ترجمة مستفيضة لسيبويه. ولم أصلها اللام الجارة وما الاستفهامية وقد تقدم أن ألفها تحذف إذا سبقها حرف جر وتنزل اللام معها منزلة الكلمة الواحدة فتكتب الألف ياء فتقول إلام وعلام وحتام وهي متعلقة مع مجرورها بتعبد وفاعل تعبد ضمير مستتر تقديره أنت وما اسم موصول مفعول به وجملة لا يسمع صلة وما بعدها معطوفة عليها وشيئا مفعول به أو مفعول مطلق وقد تقدم تقريره. (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) يا أبت تقدم اعرابها وان واسمها وجملة قد جاءني خبرها ومن العلم متعلقان بجاءني ومن للتبعيض وما اسم موصول فاعل وجملة لم يأتك صلة فاتبعني الفاء الفصيحة أي ان شئت الهداية والنجاة واتبعني فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به واهدك جواب الطلب ولذلك جزم والكاف مفعول به وصراطا مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض وسويا صفة لصراطا. (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) لا ناهية وتعبد فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والفاعل مستتر تقديره أنت والشيطان مفعول به وإن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر وللرحمن متعلقان بعصيا وعصيا خبر كان. (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) إن واسمها وجملة أخاف خبرها وأن يمسك ظرف مؤول مفعول به لأخاف وعذاب فاعل يمسك ومن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 الرحمن صفة لعذاب فتكون عطف على أن يمسك واسم تكون مستتر تقديره أنت وللشيطان متعلقان بوليا، ووليا خبر تكون ومعنى الولي هنا القرين. (قالَ: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) الهمزة للاستفهام الانكاري وراغب مبتدأ وسوغ الابتداء اعتماده على أداة الاستفهام وأنت فاعل سد مسدّ الخبر وأعربه الزمخشري خبرا مقدما وأنت مبتدأ مؤخرا ولا موجب لذلك بعد وجود القاعدة وسيأتي تقريرها في باب الفوائد وما تخللها من أبحاث تذهل الألباب، ويا حرف نداء وابراهيم منادى مفرد علم مبني على الضم. (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) اللام موطئة للقسم وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتنته فعل مضارع مجزوم بلم ولأرجمنك اللام واقعة في جواب القسم كما هي القاعدة في اجتماع القسم والشرط وأرجمنك فعل مضارع مبني على الفتح والفاعل مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به واهجرني الواو عاطفة واهجرني معطوف على محذوف عند من يمنع عطف الانشائية على الخبرية والتقدير فاحذرني واهجرني، على أن سيبويه يجيز عطف الجملة الخبرية على الجملة الانشائية فليس هذا التقدير بلازم ومليا ظرف زمان متعلق باهجرني وقيل هو حال من فاعل اهجرني ومعناه سالما سويا لا يصيبك من معرة. (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) سلام مبتدأ وسوغ الابتداء به ما فيه من معنى الدعاء والمراد بالدعاء هنا التوديع والازماع على الفراق وعليك خبر وسأستغفر السين للاستقبال وأستغفر فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا وإنما جاز له الاستغفار للكافر الرجاء بأن يوفق الى الايمان الموجب لغفران الذنوب ولك متعلقان بأستغفر وربي مفعول به وجملة إنه تعليلية لا محل لها وإن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وحفيا خبرها وبي متعلقان بحفيا. (وَأَعْتَزِلُكُمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) الواو عاطفة وأعتزلكم أي أترككم مرتحلا من بلادكم والفاعل مستتر والكاف مفعول به وما الواو حرف عطف وما يجوز أن تكون موصولة أو مصدرية. وعلى كل حال موضعها نصب عطف على الكاف أو مفعول معه وجملة تدعون صلة ومن دون الله حال. (وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) وأدعو عطف على أعتزلكم وفاعله مستتر تقديره أنا وربي مفعول به وعسى فعل ماض من أفعال الرجاء واسمها مستتر وأن وما في حيزها هي الخبر واسم أكون مستتر تقديره أنا وبدعاء متعلقان بشقيا وربي مضاف لدعاء وشقيا خبر أكون. (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) لما ظرفية حينية أو رابطة واعتزلهم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وما يعبدون من دون الله تقدم اعرابها أي تركهم فعلا من بابل الى الأرض المقدسة وجملة وهبنا لا محل لها لأنها جواب لما وله متعلقان بوهبنا واسحق مفعول وهبنا ويعقوب عطف على اسحق وكلا مفعول به أول لجعلنا ونبيا هو المفعول الثاني. (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) ووهبنا عطف على وهبنا الأولى ولهم متعلقان بوهبنا أي لابراهيم وولديه ومن رحمتنا متعلقان بوهبنا أيضا وجعلنا عطف على وهبنا ولهم في موضع المفعول الثاني لجعلنا ولسان صدق هو المفعول الاول وعليا صفة للسان وهو الثناء الحسن كما سيأتي في باب البلاغة. البلاغة: 1- فن الاستدراج: بلغت هذه الآيات ذروة البلاغة، وانطوت على معاجز تذهل العقول فأول ما يطالعنا منها فن يعرف بالاستدراج وهو يقوم على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 مخادعة المخاطب تقوم فيه الأقوال مقام الأفعال فلا يزال يترفق بالمخاطب ويداوره ويلاينه حتى يسقط في يده ويستلين ويعلن استسلامه وهو يشبه أصحاب الجدل في الكلام والمنطق والفلسفة ولكن أولئك يتصرفون في المغالطات القياسية أما الشاعر أو الكاتب فهو في استدراجه يتصرف في المغالطات الخطابية. وقد أحسن الامام الزمخشري في تحليل هذا الفن وان لم يسمه فحلل هذا الفصل تحليلا عجيبا وقد شاء ضياء الدين بن الأثير الذي استخرج هذا الفن أن يغير على فصل الزمخشري فنسفه برمته ونسبه اليه وسننصف الزمخشري من سالبيه فننقل فصله برمته وعلى طوله فهو كالحسن غير مملول. «انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع الذي عصى فيه أمر العقلاء وانسلخ عن قضية التمييز، ومن الغباوة التي ليس بعدها غباوة كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق، وساقه أرشق مساق مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن منتصحا في ذلك بنصيحة ربه عز وعلا ... وذلك أنه طلب منه أولا العلة في خطئه طلب منبه على تماديه، موقظ لإفراطه وتناهيه لأن المعبود لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا مقتدرا على الثواب والعقاب، نافعا ضارا، إلا أنه بعض الخلق لاستخفّ عقل من أهلّه للعبادة ووصفه بالربوبية، ولسجل عليه بالغي المبين والظلم العظيم وان كان أشرف الخلق وأعلاهم منزلة ... فما ظنك بمن وجه عبادته إلى جماد ليس به حس ولا شعور فلا يسمع يا عابده ذكرك له، وثناءك عليه، ولا يرى هيئات خضوعك وخشوعك له فضلا أن يغني عنك بأن تستدفعه بلاء فيدفعه أو تسنح لك حاجة فيكفيكها، ثم ثنّى بدعوته الى الحق مترفقا به متلطفا فلم يسم إياه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ولكنه قال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 إن معي طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك وذلك علم الدلالة على الطريق السوي فلا تستنكف، وهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك فاتبعني أنجك من أن تضلّ وتتيه، ثم ثلث بتثبيطه ونهيه عما كان عليه بأن الشيطان الذي استعصى على ربك الرحمن، الذي جميع ما عندك من النعم من عنده، وهو عدوك الذي لا يريد بك إلا كل هلاك وخزي ونكال، وعدو أبيك آدم وأبناء جنسك كلهم هو الذي ورطك في هذه الضلالة وأمرك بها وزينها لك فأنت إن حققت النظر عابد الشيطان إلا أن ابراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص ولارتقاء همته في الربانية لم يذكر من جنايتي الشيطان إلا التي تختص منهما برب العزة من عصيانه واستكباره ولم يلتفت الى ذكر معاداته لآدم وذريته، كأن النظر في عظم ما ارتكب من ذلك غمر فكره وأطبق على ذهنه، ثم ربع بتخويفه سوء العاقبة وبما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال ولم يخل ذلك من حسن الأدب حيث لم يصرح بأن العقاب لا حق له، وأن العذاب لاصق به ولكنه قال: أخاف أن يمسك عذاب، فذكر الخوف والمس ونكر العذاب وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب وذلك أن رضوان الله أكبر من الثواب نفسه وسماه الله تعالى المشهود له بالفوز العظيم ... فكذلك ولاية الشيطان التي هي معارضة رضوان الله أكبر من العذاب نفسه وأعظم، وصدر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله «يا أبت» توسلا إليه واستعطافا ... أقبل عليه الشيخ بفظاظة الكفر وغلظ العناد فناداه باسمه ولم يقابل قوله با أبت بقوله يا بني وقدم الخبر على المبتدأ في قوله «أراغب أنت» لأنه كان أهم عنده وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبة ابراهيم عن آلهته» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 2- المجاز المرسل: وفي قوله تعالى «وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا» مجاز مرسل من إطلاق اسم الآلة وهي اللسان لأنها آلة الكلام وإرادة ما ينشأ عنها فعبر باللسان عما يوجد باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهو العطاء فهو مجاز علاقته السببية. الفوائد: 1- المبتدأ الصفة: قد يرفع الوصف بالابتداء إن لم يطابق موصوفه تثنية أو جمعا فلا يحتاج الى خبر بل يكتفي بالفاعل أو نائبه فيكون مرفوعا به سادا مسدّ الخبر بشرط أن يتقدم الوصف نفي أو استفهام وتكون الصفة حينئذ بمنزلة الفعل فلا تثنى ولا تجمع ولا توصف ولا تصغر ولا تعرف ويتناول الوصف اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة واسم التفضيل والمنسوب ولا فرق بين أن يكون الوصف مشتقا نحو: ما ناجح الكسولان وهل محبوب المجتهدون أو اسما جامدا فيه معنى الصفة نحو هل صخر هذان المعاندان فصخر مبتدأ وهو اسم جامد بمعنى الوصف لأنه بمعنى صلب قاس وهذان فاعل لصخر أغنى عن الخبر، وما وحشي أخلاقك فوحشي مبتدأ وهو اسم جامد فيه معنى الصفة لأنه اسم منسوب فهو بمعنى اسم المفعول وأخلاقك نائب فاعل له أغنى عن الخبر ولا فرق بين أن يكون النفي والاستفهام بالحرف أو بغيره نحو: ليس كسول ولداك وغير كسول أبناؤك وكيف سائر أخواك غير انه مع ليس يكون الوصف اسما لها والمرفوع بعده مرفوعا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 به سادا مسد الخبر ومع غير ينتقل الابتداء إليها ويجر الوصف بالاضافة إليها ويكون ما بعد الوصف مرفوعا به سادا مسد الخبر وبذلك ينحل الإشكال الوارد في بيت أبي نواس: غير مأسوف على زمن ... ينقضي بالهم والحزن فغير مبتدأ لا خبر له بل لما أضيف اليه مرفوع يغني عن الخبر وذلك لأنه في معنى النفي والوصف بعده مجرور لفظا وهو في قوة المرفوع بالابتداء أي فحركة الرفع التي على غير هي التي يستحقها هذا الاسم بالاصالة لكنه لما كان مشغولا بحركة الجر لأجل الاضافة جعلت حركته التي كانت له بطريق الأصالة من حيث هو مبتدأ على بطريق العارية وعلى زمن في محل رفع نائب فاعل لمأسوف سد مسد الخبر وجملة ينقضي بالهم والحزن صفة لزمن وقد أورد بن هشام هذا البيت في مغني اللبيب وأورد وجهين آخرين تراهما بعيدين كل البعد وخاصة الثالث الذي اعترف ابن هشام بتصفه فليرجع إليهما. فإن لم يقع الوصف بعد نفي أو استفهام فلا يجوز هذا الاستعمال فلا يقال مجتهد غلاماك بل تجب المطابقة نحو مجتهدان غلاماك وحينئذ يكون خبرا مقدما وما بعده مبتدأ مؤخرا وأجازه الكوفيون لأنهم لم يشترطوا اعتماد الصفة على النفي والاستفهام واستشهدوا بقوله: خبير بنو لهب فلا تك ملغيا ... مقالة لهبي إذا الطير مرت فأعربوا قوله بنو لهب فاعلا لخبير دون أن يعتمد على نفي أو استفهام واعتذر البصريون عن البيت بأن خبيرا على وزن فعيل وفعيل على وزن المصدر كصهيل وزئير والمصدر يخبر به عن المفرد أو المثنى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 والجمع فأعطي حكم ما هو على زنته فهو على حد قوله تعالى «وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ» ، وقد شايع أبو الطيب الكوفيين لأنه من الكوفة ولأن له كلفا بمراغمة النحاة كما أشرنا الى ذلك غير مرة فقال بيته الممتع: دع النفس تأخذ وسعها قبل بينها ... فمفترق جاران دارهما العمر فمفترق مبتدأ وجاران فاعل سد مسد الخبر ولا يجوز أن تقول إن مفترقا خبر مقدم لأنه كان يجب أن يطابق قوله جاران والحاصل: انه إذا رفع الوصف ما بعده فله ثلاثة أحوال: 1- وجوب الابتداء إذا لم يطابق ما بعده في التثنية والجمع نحو أقائم أخواك. 2- وجوب الخبرية إذا طابق ما بعده في التثنية والجمع نحو أقائمان أخواك. 3- جواز الوجهين إذا طابق ما بعده في التذكير والتأنيث نحو: أقائم أخوك وأ قائمة أختك. ومحل جواز الوجهين ما لم يوجد مانع وجعل بعض العلماء من الموانع في قوله تعالى «أراغب أنت عن آلهتي» فتتعين الابتدائية للزوم الفصل إذا جعلته خبرا بينه وبين معموله وهو الجار والمجرور وردّ ذلك آخرون مدافعين عن الزمخشري بأن قوله عن آلهتي متعلق آخر أما الزمخشري وابن الحاجب فقد اشترطا في الأصل أن يكون المرفوع اسما ظاهرا ولكن الزمخشري نفسه أجاز إعراب أنت فاعلا لراغب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 2- عود إلى «يا أبت» : تحدثنا عن اللغات في المنادى المضاف الى ياء المتكلم فأما التاء في يا أبت ويا أمت فتاء التأنيث بمنزلة التاء في قائمة وامرأة، قال سيبويه: سألت الخليل عن التاء في يا أبت لا تفعل ويا أمت فقال هذه التاء بمنزلة الهاء في خالة وعمة يعني أنها للتأنيث والذي يدل على أنها للتأنيث أنك تقول في الوقف يا أبه ويا أمه فتبدلها هاء في الوقف كقاعد وقاعده على حد خال وخاله وعم وعمه ودخلت هذه التاء كالعوض من ياء الاضافة والأصل يا أبي ويا أمي فحذفت الياء اجتزاء بالكسرة قبلها ثم دخلت التاء عوضا عنها ولذلك لا تجتمعان فلا تقول يا أبتي ولا يا أمتي لئلا يجمع بين المعوض والمعوض عنه ولا تدخل هذه التاء فيما له مؤنث من لفظه فلو قلت في يا خالي ويا عمي يا خالت ويا عمت لم يجز لأنه كان يلتبس بالمؤنث فأما دخول التاء على الأم فلا إشكال فيها لأنها مؤنثة. وأما دخولها على الأب فلمعنى المبالغة كما في راوية وعلامة. 3- من هو سيبويه: وقد تردد اسم سيبويه كثيرا ولا بد لنا من إلقاء نظرة عاجلة على قصة حياته لأن فيها فائدة ولأنه ترك لنا في نحو البصريين الكتاب الذي خلد الى يومنا هذا، وكان كتاب النحو الجامع حتى قيل فيه قرآن النحو. فهو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي وهي نسبة الى الحارث بن كعب قبيلة يمنية وهذه النسبة بالولاء فقد كان سيبويه فارسيا فأما لقبه فسيبويه وقد غلب عليه وهو فارسي مركب مزجي من سيب أي التفاح وبوى أي الرائحة فمعناه رائحة التفاح على قاعدة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 الأوصاف باللغة الفارسية سمي بذلك لطيب رائحته أو لجماله وحسن خلقه وقيل مركب من سيب وويه اسم صوت ويذكر بعض العارفين باللسان الفارسي ان ويه في هذا اللسان معناها مثل وشبه، فمعنى التركيب مثل التفاح وهكذا نفطويه: مثل النفط وعمرويه: مثل عمرو. حكم سيبويه: والجاري على الألسنة سيبويه بفتح الباء والواو والهاء مكسورة وهذا حكم شائع في الاعلام المختومة بويه جاء في الكتاب قول سيبويه: «وعمرويه عندهم بمنزلة حضر موت في انه ضم الآخر الى الأول وعمرويه في المعرفة مكسور في حال الجر والرفع والنصب غير منون وفي النكرة تقول هذا عمرويه آخر ورأيت عمرويه آخر» وتراه في الكتاب اقتصر على المشهور عند الناس وقد ينطق سيبويه بضم الباء وفتح الياء وسكون الهاء ويعزى هذا الى العجم تجنبوا الصورة الأولى لأن ويه صوت ندبة. مولده ونشأته: ولد سيبويه في البيضاء من كورة إصطخر بفارس من أبوين فارسيين ولا يعرف على وجه اليقين تاريخ ولادته وقد انتقل الى البصرة فتلقى العلم فيها وكانت هي والكوفة المصرين المبرزين في علوم العربية والدين ولا يعرف شيئا عن أسرته إلا ما ذكر أنه مات بين يدي أخيه ولا ندري هل انتقلت معه الى البصرة أسرته ونحن لا نرى لأبيه ذكرا ونرى بشارا يهجوه حين اشتهر أمره فيقول: ظللت تغني سادرا في مساءتي ... وأمك بالمصرين تعطي وتأخذ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 ويظهر من هذا أن أمه كانت معه في العراق ولا ندري هل تزوج وفي حديث للفراء أن سيبويه كانت له جارية تخدمه وفي طبقات النحاة أن جاريته مزقت جزازات كتابه فطلقها فهل يريد بجاريته زوجته أو يريد بتطليقها إخراجها من بيته؟ والظاهر انه لم يكن له زوج ولا ولد وآية ذلك انه بعد أن أخفق في بغداد في قصته مع الكسائي- على ما يأتي- أم يعد الى منزله بالبصرة. كيف طلب النحو؟ اختلف سيبويه الى حماد بن سلمة شيخ الحديث والرواية في البصرة في عصره فألقى عليه حماد الحديث: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من أحد من أصحابي إلا أخذت عليه ليس أبا الدرداء» فقال سيبويه، وكان قد شدا شيئا من النحو: ليس أبو الدرداء فقال حماد لحنت يا سيبويه، فقال سيبويه: لا جرم لأطلبن علما لا تلتحنني فيه أبدا، واتجه لدرس النحو فلزم الخليل وقد ظن سيبويه أن الواجب رفع ما بعد ليس ليكون اسما لها ولم يكن عرف أسلوب ليس في الاستثناء وقد عرض سيبويه لذلك في الكتاب وأشبعه بيانا وتعليلا. بوادر نبوغه وحرية فكره: وكان أكثر تلقيه عن الخليل حتى انه إذا قال: قال أو سألته فإنه يعني الخليل، وكان الخليل قد عرف له قدره وثقابة ذهنه وقوة فطنته فأبثه علمه ونصح له في التعليم، وأخذ عن غير الخليل: أخذ عن عيسى ابن عمر ويونس بن حبيب والأخفش الكبير أبي الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد ويذكر أبو زيد الأنصاري انه إذا قال سيبويه: أخبرني الثقة فإنما يعنيه وأول ما ظهر من بوادر نبوغه ما حدث به الأخفش قال: كنت عند يونس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 فقيل له: قد جاء سيبويه فقال أعوذ بالله منه فجاء فسأله فقال: كيف تقول: مررت به المسكين؟ فقال جائز أن أجره على البدل من الهاء فقال له: فمررت به المسكين بالرفع على معنى المسكين مررت به فقال هذا خطأ لأن المضمر قبل الظاهر فقال له: إن الخليل أجاز ذلك وأنشد فيه أبياتا فقال: هو خطأ، قال فمررت به المسكين بالنصب؟ فقال جائز، فقال على أي شيء؟ فقال على الحال، فقال أليس أنت أخبرتني أن الحال لا تكون بالألف واللام، فقال: صدقت ثم قال لسيبويه: فما قال صاحبك فيه؟ يعني الخليل، فقال سيبويه: قال انه ينصب على الترحم، فقال: ما أحسن هذا، ورأيته مغموما بقوله نصبته على الحال. وكان سيبويه مع إجلاله للخليل يزيف قوله ففي الكتاب: «وزعم الخليل انه يجوز أن يقول الرجل: هذا رجل أخو زيد إذا أردت أن تشبهه بأخي زيد وهذا قبيح لا يجوز إلا في موضع الاضطرار ولو جاز هذا لقلت هذا قصير الطويل تريد مثل الطويل فلم يجز هذا كما قبح أن تكون المعرفة حالا كالنكرة إلا في الشعر» . بين سيبويه والكسائي: وأتى الحظ والسعادة الكسائي وأصحابه فحلوا في بغداد محلا رفيعا وكان منهم مؤدبو أولاد الخلفاء وكانوا عند البصريين في النحو والأدب أقل منهم معرفة وأضعف أسبابا وقد رأى سيبويه- وهو إمام البصريين- أن يزاحمهم في مركزهم فقصد بغداد وعرض على البرامكة أن يجمعوا بينه وبين الكسائي ويناظره وكان واثقا انه سيكون له الفلح والظفر وبلغ الكسائي مقدم سيبويه وخشي مغبة المناظرة أن يزول سلطانه في بغداد فأتى جعفر بن يحيى بن برمك والفضل أخاه وقال: أنا وليكما وصاحبكما وهذا الرجل إنما قدم ليذهب محلي قالا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 118 فاحتل لنفسك فإنا سنجمع بينكما ويبدو أن فارسية سيبويه يقابلها فارسية الكسائي فهو أيضا فارسي من ولد بهمن بن فيروز وكان أسديا بالولاء فلم يكن لسيبويه ما يجعله أقرب الى قلوب البرامكة من الكسائي فدبر هو وأصحابه خطة كان لها ما توقعوه وهي: أن يتقدمه في مجلس المناظرة أصحابه فيسألوا سيبويه أسئلة ويتألبوا فيها عليه حتى إذا فترت همته وبان كلاله جاء الكسائي فوجد قرنا ذهب حده وعزب نشاطه فكان له ما أراد من صرعه وقد تقدمت قصة المسألة الزنبورية في موضع آخر من هذا الكتاب. [سورة مريم (19) : الآيات 51 الى 58] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 الإعراب: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا) اذكر فعل أمر وفي الكتاب جار ومجرور متعلقان باذكر وموسى مفعول به وان واسمها وجملة كان خبرها ومخلصا خبر كان وكان رسولا نبيا عطف على كان الأولى. (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) وناديناه عطف على ما سبق وهو فعل وفاعل ومفعول به ومن جانب متعلقان بناديناه والطور مضاف اليه والأيمن صفة لجانب قالوا لأنه كان يلي يمين موسى حين أقبل من مدين وقربناه عطف على ناديناه ونجيا حال من أحد الضميرين في ناديناه أو قربناه وهو فعيل بمعنى فاعل أي مناجيا. (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) ووهبنا عطف أيضا وله متعلقان بوهبنا ومن رحمتنا متعلقان بوهبنا أيضا ومعنى من هنا التبعيض أي بعض رحمتنا أو للتعليل أي من أجل رحمتنا وأخاه مفعول به لوهبنا وهارون بدل ونبيا حال. (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا) اعرابها ظاهر وقد تقدم وجملة انه كان تعليلية. (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) جملة يأمر خبر كان وأهله مفعول به وبالصلاة متعلقان بيأمر وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هو وعند ربه متعلقان بمرضيا ومرضيا خبر كان اجتمعت الياء والواو فقلبت الواو ياء وأدغمت في الأخرى. (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) تقدم اعراب مثيلاتها ولا بأس بذكر ما قاله الزمخشري بصدد إدريس وهذا نصه: «قيل سمي إدريس لكثرة دراسته كتاب الله عز وجل وكان اسمه أخنوخ وهو غير صحيح لأنه لو كان إفعيلا من الدرس لم يكن فيه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 إلا سبب واحد وهو العلمية فكان منصرفا فامتناعه من الصرف دليل العجمة وكذلك إبليس أعجمي وليس من الإبلاس كما يزعمون ولا يعقوب من العقب ولا إسرائيل باسرال كما زعم ابن السكيت ومن لم يحقق ولم يتدرب بالصناعة كثرت منه أمثال هذه الهنات ويجوز أن يكون معنى إدريس في تلك اللغة قريبا من ذلك فحسبه الراوي مشتقا من الدرس» وما أجمل حرية الرأي. (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) رفعناه فعل وفاعل ومفعول به ومكانا ظرف متعلق برفعناه وعليا صفة وقد رويت أساطير كثيرة حول هذا الرفع ومرجعها المطولات. (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) أولئك مبتدأ أي الأنبياء العشرة المذكورون في السورة والذين خبر أو بدل من اسم الاشارة وجملة أنعم الله عليهم صلة ومن النبيين حال ومن ذرية آدم بدل بإعادة الجار. (وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) عطف على ما تقدم. (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) جملة إذا تتلى عليهم وجوابها استئنافية لا محل لها إذا أعربنا الذين خبرا وإذا أعربنا الذين بدلا فتكون هي الخبر وجملة خرّوا لا محل لها لأنها جواب إذا والواو في خروا فاعل وسجدا حال من الفاعل وبكيا عطف على سجدا جمع ساجد وباك والثاني شاذ لأن قياس فاعل من المنقوص أن يجمع على فعله كقاض وجمعه قضاة وباك وجمعه بكاة. [سورة مريم (19) : الآيات 59 الى 63] فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 اللغة: (خلف) : أي عقب وبعض اللغويين يستعملون الخلف بسكون اللام كما هنا في الشر فيقال خلف سوء وبفتحها في الخير فيقال خلف صالح، قال في الكشاف: «خلفه إذا عقبه ثم قيل في عقب الخير خلف بالفتح وفي عقب السوء خلف بالسكون كما قالوا وعد في ضمان الخير ووعيد في ضمان الشر» وقال اللحياني: الخلف بفتحتين الولد الصالح والخلف بفتح فسكون الرديء. (غَيًّا) : كل شر عند العرب غي وكل خير رشاد، قال المرقش الأصغر: أمن حلم أصبحت تنكت واجما ... وقد تعتري الأحلام من كان نائما فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما يقال غوي يغوى من باب ضرب انهمك في الجهل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 الإعراب: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) الفاء عاطفة وخلف فعل ماض ومن بعدهم حال وخلف فاعل وجملة أضاعوا الصلاة صفة لخلف واتبعوا الشهوات عطف على أضاعوا الصلاة والفاء الفصيحة أي إن شئت أن تعلم عاقبتهم، وسوف حرف استقبال ويلقون فعل مضارع وفاعل وغيا مفعول به. (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) إلا أداة استثناء و «من» إن جعلنا الاستثناء منقطعا كانت إلا بمعنى لكن ومن مستثنى واجب النصب ووجه الانقطاع أن المستثنى منه كفار والمستثنى مؤمنون وهذا اختيار الزجاج واختار أبو حيان الاتصال وربما كان أظهر لأنه خطاب صالح لكل أمة وفيها من آمن ومن كفر وعلى كل حال هو واجب النصب لأن الكلام تام موجب، وجملة تاب صلة وآمن عطف على تاب وعمل عطف أيضا وصالحا يجوز أن يكون مفعولا به وأن يكون مفعولا مطلقا أي عملا صالحا، فأولئك الفاء الفصيحة وأولئك مبتدأ وجملة يدخلون خبر والجنة مفعول به على السعة ولا يظلمون عطف على يدخلون وشيئا مفعول مطلق ولك أن تجعله مفعولا ثانيا بتضمين يظلمون معنى ينقصون. (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) جنات بدل من الجنة وعدن مضاف إليه من عدن بالمكان أي أقام وقد جرى مجرى العلم ولذلك ساغ وصفها بالتي والتي صفة لجنات عدن وجملة وعد صلة والرحمن فاعل وعد وعباده مفعول وبالغيب حال من عباده أي من المفعول والمعنى غائبة عنهم لا يشاهدونها ويحتمل أن يكون حالا من ضمير الجنة وهو الضمير العائد على الموصول أي وعدها وهم غائبون عنها لا يرونها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) إن واسمها والضمير يعود على الله تعالى أي الرحمن والمعنى أن الرحمن كان وعده مأتيا أو انه ضمير الشأن لأنه مقام تعظيم وتفخيم والجملة تعليلية مستأنفة وجملة كان خبر إن واسم كان يعود على الله تعالى أيضا ووعده بدلا من ذلك الضمير بدل اشتمال ومأتيا خبرها ويجوز أن لا يكون فيها ضمير، ووعده اسمها ومأتيا خبرها واختار الجلال وشراحه أن يكون مآتيا مفعول بمعنى فاعل أي آتيا ولم يرتضه الزمخشري فإنه قال: «قيل في مأتيا مفعول بمعنى فاعل والوجه أن الوعد هو الجنة وهم يأتونها» والحقّ مع الزمخشري لأن ما تأتيه فهو يأتيك فلا موجب للتأويل. (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) الجملة حال من جنات عدن ولا نافية ويسمعون فعل مضارع والواو فاعل وفيها متعلقان بمحذوف حال أي حالة كونهم في الجنة ولغوا مفعول به أي مالا طائل تحته من الكلام وهو ما يشقشق به أكثر الناس في مجالسهم من ثلب للآخرين وتدخل في شؤون الناس أو من حديث تافه أشبه بالفضول، وإلا أداة حصر وسلاما بدل من لغوا أو يحمل على الاستثناء المنقطع وسيأتي تفصيل ذلك في باب البلاغة ولهم خبر مقدم ورزقهم مبتدأ مؤخر وفيها حال وبكرة ظرف متعلق بمعنى الاستقرار المستكن في الخبر المقدم وعشيا عطف على بكرة. (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) اسم الاشارة مبتدأ والجنة خبر والتي صفة للجنة وجملة نورث صلة ومن اسم موصول مفعول نورث وجملة كان صلة واسم كان مستتر تقديره هو وجملة تقيا خبر كان. البلاغة: 1- توكيد المديح بما يشبه الذم وعكسه: في قوله تعالى «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً» فن رفيع من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 فنون البلاغة وهو توكيد المدح بما يشبه الذم وقد سبقت الاشارة اليه في المائدة ولم نقسمه آنذاك فنقول انه ينقسم الى نوعين: آ- أن يستثنى من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح لذلك الشيء بتقدير دخولها في صفة الذم المنفية ومنه قول النابغة الذبياني: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب فقد جعل الفلول عيبا على سبيل التجوز بتا لنفي العيب بالكلية كأنه يقول: إن كان فلول السيف من القراع عيبا فانهم ذوو عيب معناه إن لم يكن عيبا فليس فيهم عيب البتة لأنه لا شيء سوى هذا فهو بعد هذا التجوز والفرض استثناء متصل. ب- ان تثبت لشيء صفة مدح وتعقب ذلك بأداة استثناء يليها صفة مدح أخرى لذلك الشيء نحو: أنا أفصح العرب بيد أني من قريش وقال النابغة أيضا: فتى كملت أوصافه غير أنه ... جواد فما يبقي على المال باقيا وأصل الاستثناء في هذا الضرب أن يكون منقطعا لكنه لم يقدّر متصلا بل بقي على حاله من الانقطاع لأنه ليس في هذا الضرب صفة ذم منفية عامة يمكن تقدير دخول صفة المدح فيها فحينئذ لا يستفاد التوكيد فيه إلا من الوجه الثاني من الوجهين المذكورين في الضرب الاول ولهذا كان الضرب الاول أبلغ لإفادته التأكيد من الوجهين. إذا عرفت هذا فاعلم أن في الآية الكريمة: «لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما» ثلاثة أوجه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 آ- أن يكون معناه إن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة لغوا فلا يسمعون لغوا إلا ذلك وهو بهذا من وادي قول النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب ب- انهم لا يسمعون فيها إلا قولا يسلمون فيه من العيب والنقيصة وهذا يتعين فيه الاستثناء المنقطع. ج- ان معنى السلام هو الدعاء بالسلامة وهي دار السلامة وأهلها أغنياء عن الدعاء بالسلامة فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام، ففي الوجه الاول والثالث يتعين الاتصال في الاستثناء أما الأول فلجعل ذلك لغوا على سبيل التجوز والفرض وأما الثاني فواضح لأنه فيه اطلاق اللغو على السلام وأما الثالث فلحمل الكلام على ظاهره من دون تجوز أو فرض. 2- التشبيه التمثيلي البليغ: وذلك في قوله تعالى «تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا» فقد شبه عطاء الجنة لهم بالعطاء الذي لا يرد وهو الميراث الذي يرثه الوارث فلا يرجع فيه المورث أي نبقيها عليهم من ثمرة تقواهم كما يبقى على الوارث مال مورثه والوارثة أقوى لفظ يستعمل في التمليك والاستحقاق من حيث أنها لا تعقب بفسخ ولا استرجاع ولا تبطل برد ولا إسقاط والإرث في اللغة البقاء، قال عليه الصلاة والسلام: «إنكم على إرث من إرث أبيكم ابراهيم» أي على بقية من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 بقايا شريعته والوارث الباقي من أسماء الله تعالى أي الباقي بعد فناء خلقه وهو في الشرع انتقال مال الغير الى الغير على سبيل الخلافة. [سورة مريم (19) : الآيات 64 الى 65] وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) الإعراب: (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) الجملة مستأنفة مسوقة لحكاية قول جبريل حيث استبطأه الرسول عليه السلام لما سئل عن قصة أهل الكهف وذي القرنين والروح ولم يدر ما يجيب، كما تقدم، فأبطأ عليه خمسة عشر يوما وقيل أربعين حتى قال المشركون: ودعه ربه وقلاه، فالواو استئنافية وما نافية وتتنزل فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره نحن وإلا بأمر ربك استثناء من أعم الأحوال فإلا أداة حصر وبأمر متعلقان بمحذوف حال فالتنزل نزول فيه إبطاء أو بمعنى النزول على الإطلاق، قال الشاعر: فلست لإنسيّ ولكن لملأك ... تنزل من جو السماء يصوب وهذا البيت لرجل من عبد القيس يمدح الملك النعمان بن المنذر وقيل لأبي وجرة يمدح عبد الله بن الزبير وقبله: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 تعاليت ان تعزى الى الانس جلة ... وللإنس من يعزوك فهو كذوب أي لست منسوبا لإنسي ولكن لملك وبالغ في ذلك حتى جعله نازلا من جهة السماء يصوب أي يقصد الى جهة معينة والملأك معفل بتقديم العين من الألوكة بالفتح وهي الرسالة وقال أبو عبيدة هو مفعل على اسم المكان من لأك إذا أرسل ولعله جاء على مفعل لتصوير أن الرسول مكان الرسالة وقال ابن كيسان: هو فعأل من الملك فالهمزة زائدة وعلى كل يخفف بالنقل فيقال ملك. (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) له خبر مقدم وما موصول مبتدأ مؤخر والجملة حال من ربك والظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول وأيدينا مضافة للظرف وما خلفنا عطف على ما بين أيدينا وما بين ذلك عطف أيضا. (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) الواو حرف عطف وما نافية وكان واسمها وخبرها. (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) رب السموات والأرض خبر لمبتدأ محذوف أي هو رب السموات والأرض ويجوز أن يعرب بدلا من ربك. (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) الفاء هي الفصيحة ولا حاجة لتأويل الكلام بجعلها عاطفة من باب عطف الإنشاء على الخبر أي إذا عرفت ربوبيته الكاملة فاعبده واصطبر عطف على اعبده ولعبادته متعلقان باصطبر وقد أحسن الزمخشري في الفهم حيث جعل العبادة بمنزلة القرن تقول للمحارب اصطبر لقرنك أي اثبت له فيما يورد عليك من شداته وصولاته والمراد لا تضق ذرعا ولا تهن قوة إذا تأخر عنك الوحي ولا تبتئس لشماتة الكافرين فما هي إلا غمرة ثم تنجلي، وظلمة ثم تنحسر وهل حرف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 استفهام معناه النفي وتعلم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنت وسميا مفعول به والسمي هو الشريك في الاسم. الفوائد: عطف الإنشاء على الخبر وبالعكس: منعه البيانيون وبعض النحاة وأجازه بعض النحاة قال أبو حيان: وأجاز سيبويه ذلك واستدل بقول امرئ القيس: وإن شفائي عبرة مهراقة ... وهل عند رسم دارس من معول فجملة إن شفائي إلخ خبرية وجملة وهل عند رسم إلخ جملة انشائية عطفا على الخبرية وقول الآخر: تناغي غزالا عند باب ابن عامر ... وكحّل مآقيك الحسان بإثمد وقول الآخر: وقائلة خولان فانكح فتاتهم ... وأكرومة الحيين خلوكما هيا ورد ابن هشام هذه الأقوال فقال ردا على أبي حيان: «وأما ما نقله أبو حيان عن سيبويه فغلط عليه وأما بيت امرئ القيس فالاستفهام خرج معناه الى النفي كما ذكرنا، وأما قوله فانكح فتاتهم فهو معطوف على فعل أمر محذوف مفهوم من المبتدأ أي تنبه لخولان وأما وكحل مآقيك إلخ فيتوقف على النظر فيما قبله من الأبيات وقد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 يكون معطوفا على أمر مقدر يدل على المعنى أي فافعل كذا وكحل كما قيل في لأرجمنك واهجرني ان التقدير فاحذرني واهجرني مليا لدلالة لأرجمنك. [سورة مريم (19) : الآيات 66 الى 72] وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) اللغة: (جِثِيًّا) : بضم الجيم وكسرها وبهما قرئ جمع جاث من جثا يجثو أجثى ويجثي لغتان: أي جلس على ركبتيه أو قام على أطراف أصابعه فهو جاث. (صِلِيًّا) : بكسر الصاد وضمها وبهما قرئ مصدر صلي بكسر اللام وفتحها النار أي دخلها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 الإعراب: (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) الواو استئنافية ويقول الإنسان فعل مضارع وفاعل وأل فيه للجنس والهمزة للاستفهام بمعنى النفي وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متعلق بفعل محذوف دل عليه قوله لسوف أخرج لأن اللام تمنع من تعليقه بأخرج المذكورة لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها وما زائدة وجملة مت صلة واللام لام الابتداء وسوف حرف استقبال واخرج فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره أنا وحيا حال وساغ اجتماع اللام وهي نمحض الفعل للحال وسوف وهي تمحضه للاستقبال ان اللام هنا لمجرد التوكيد وإنما جردت اللام من معناها لتلائم سوف دون أن تجرد سوف من معناها لتلائم اللام لأنه لو عكس هذا للغت سوف إذ لا معنى لها سوى الاستقبال وأما اللام فانها إذا جردت من الحال بقي لها التوكيد فلم تلغ. (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) أولا: الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة ولا نافية ويذكر فعل مضارع معطوف على يقول ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف والإنسان فاعل وأنّا: ان واسمها وجملة خلقناه خبر أنا وان وما بعدها في تأويل مصدر مفعول يذكر ومن قبل الجار والمجرور متعلقان بيذكر ولم الواو حالية ولم حرف نفي وقلب وجزم ويك فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون المقدر على النون المحذوفة للتخفيف واسمها ضمير مستتر تقديره هو، وشيئا خبر يك والمضاف الى قبل محذوف تقديره قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه وقدره بعضهم قبل بعثه. (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) الفاء عاطفة والواو للقسم وربك مجرور بواو القسم وهما متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وفائدة هذا القسم سترد في باب البلاغة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 واللام واقعة في جواب القسم ونحشرنهم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به والشياطين عطف على الهاء أو الواو بمعنى مع والشياطين مفعول معه. (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) ثم حرف عطف للتراخي ولنحضرنهم عطف على لنحشرنهم وحول ظرف مكان متعلق بنحضرنهم وجهنم مضاف اليه وجثيا حال. (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) ثم لننزعن عطف على لنحضرنهم ومن كل شيعة متعلقان بننزعن وأيهم اسم موصول بمعنى الذي وحركتها عند سيبويه حركة بناء لخروجها عن النظائر أي لأنها أضيفت وحذف صدر صلتها وهي في محل نصب مفعول به لننزعن وأشد خبر لمبتدأ محذوف والجملة صلة أي وعتيا تمييز وعلى الرحمن متعلقان بأشد أو بمحذف حال وسيأتي مزيد بحث في هذه الآية في باب الفوائد. (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) ثم حرف عطف للترتيب والتراخي واللام للابتداء ونحن مبتدأ وأعلم خبر وبالذين متعلقان بأعلم وهم مبتدأ وأولى خبر والجملة صلة وبها متعلقان بأولى وصليا تمييز وقيل صليا جمع صال فانتصب على الحال وفي التمييز فائدة وهي التخصيص بشدة العذاب لا التخصيص بأصل العذاب لاشتراكهم فيه. (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) الواو عاطفة وإن نافية ومنكم صفة لمبتدأ محذوف تقديره أحد أي ما منكم أحد وإلا أداة حصر وواردها خبر وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره هو أي الورود وحتما خبرها ومقضيا صفة لحتما. (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) ثم ننجي عطف على ما تقدم وفاعل ننجي مستتر تقديره نحن والذين موصول مفعول واتقوا صلة ونذر عطف على ننجي والفاعل مستتر تقديره نحن والظالمين مفعول به وفيها متعلقان بنذر أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 132 بجثيا ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من جثيا لأنه في الأصل صفة لنكرة قدم عليها فنصب على الحال، وجثيا حال أو تجعلها مفعولا ثانيا لنذر أي نتركهم فيها جثيا. البلاغة: 1- فن القسم: في قوله تعالى «فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ» فن القسم وهو أن يريد المتكلم الحلف على شيء فيحلف بما يكون فيه فخر له وتعظيم لشأنه أو تنويه لقدره أو ما يكون ذما لغيره أو جاريا مجرى الغزل والترقق أو خارجا مخرج الموعظة والزهد فقد أفاد القسم هنا أمران أحدهما أن العادة جرت بتأكيد الخبر باليمين والثاني أن في إقسام الله تعالى باسمه مضافا الى رسوله صلى الله عليه وسلم رفعا منه لقدره وتنويها بشأنه كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله «فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ» وسيأتي تحقيق ذلك في مواضعه. وقد توسّع الشعراء في القسم لأن فيه حلاوة ورفعا لشأن المتغزل به، وما ألطف قول عبد المحسن الصوري وهو من أبرع ما سمغنا: يا غزالا قد رمى باللحظ ... قلبي فأصابا بالذي ألهم تعذيبي ... ثناياك العذابا والذي ألبس خديك ... من الورد نقابا والذي أودع في فيك من الشهد شرابا والذي صيّر حظي ... منك هجرا واجتنابا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 ما الذي قالته عينا ... ك لقلبي فأجابا ولابن خفاجة الاندلسي: لا وسحر بين أجفانكم ... فتن الحب به من فتنا وحديث من مواعيدكم ... تحسد العين عليه الأذنا ما رحلت العيس عن أرضكم ... فرأت عيناي شيئا حسنا وبلغ العباس بن الأحنف الغاية بقوله: واني ليرضيني قليل نوالكم ... وإن كان لا أرضى لكم بقليل بحرمة ما قد كان بيني وبينكم ... من الود إلا عدتم بجميل وأبدع أبو الطيب بقوله: أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا ... والبين جار على ضعفي وما عدلا والوجد يقوى كما تقوى النوى أبدا ... والصبر ينحل في جسمي كما نحلا لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا بما بجفنيك من سحر صلي دنفا ... يهوى الحياة وأما إن صددت فلا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 134 2- الافتنان: وذلك في قوله تعالى «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» والافتنان هو أن يفتن المتكلم فيأتي في كلامه بفنين إما متضادين أو مختلفين أو متفقين والآية التي نحن بصددها جمعت بين المتضادين: جمعت بين الوعد والوعيد، بين التبشير والتحذير وما يلزم من هذين الفنين من المدح للمختصين بالبشارة والذم لأهل النذارة وستأتي منه أمثلة عديدة في القرآن الكريم. ومن الجمع بين المتضادين في الشعر قول عبد الله بن طاهر بن الحسين ونسبهما في الكامل لأبي دلف: أحبك يا ظلوم وأنت مني ... مكان الروح من جسد الجبان ولو أني أقول مكان روحي ... خشيت عليك بادرة الطعان فانظر كيف جمع في هذا الشعر بين الغزل والحماسة والغزل لين والحماسة شدة وقال عنترة وأبدع: إن تغد في دوني القناع فانني ... طب بأخذ الفارس المستلئم وهذا من أحسن ما قيل في هذا الباب فإنه جمع فيه بين الغزل والحماسة والجد والهزل فأتى فيه بنادرة طريفة وطرفة غريبة حيث قال بعد وصفها بستر وجهها دونه بالقناع حتى صار ما بين بصره وبين وجهها كالليل المغدف الذي يحول بين الأبصار والمبصرات: انني طب بأخذ الفارس المستلئم يقول: إن تتبرقعي دوني فانني خبير لدربتي بالحرب بأخذ الفارس الذي سترته لأمته، وحالت دوني ودون مقاتلته فأبرز الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 الجد في صورة الهزل فجاء في بيته مع الافتنان التندير الطريف وعبر عن معناه اللطيف بهذا اللفظ الشريف. وجمع الحطيئة بين المدح والهجاء في بيت واحد من قصيدة يمدح بها بغيضا ويهجو الزبرقان وقد شكاه الزبرقان بسببها الى عمر بن الخطاب: قد ناضلونا وسلوا من كنانتهم ... مجدا تليدا ونبلا غير أنكاس ومعنى هذا البيت لا يعرفه إلا من عرف أن عادة العرب إذا منوا على أسير أعطوه نبلا من نبلهم عليها اشارة تدلّ على أنها لأولئك القوم لا تزال في كنانته، فقال الحطيئة لهذا الممدوح الذي عناه بهذا المدح: إن عداك لما فاخروك سلوا من كنانتهم تلك التي أعطيتها لهم حتى مننت عليهم تشهد لك بأنهم عتقاؤك فكان هذا مجدا تليدا لك لا يقدرون على جحده تثبته لك هذه النبل التي ليست بأنكاس يعني الصائبات التي لا تنكب إذا ناضلت بها عن الغرض وهذا غاية المدح للمدوح ونهاية الهجاء لعداه إذ أخبر بأنهم مع معرفتهم بفضله عليهم يفاخرونه بما إذا أظهروه أثبت له الفضل عليهم وهذا غاية الجهل منهم والغباوة. ومن الجمع بين الهجاء والمدح أو الفخر قول أبي العلاء المعري: بأي لسان ذامني متجاهل ... عليّ وخفق الريح فيّ ثناء تكلم بالقول المضلّل حاسد ... وكل كلام الحاسدين هراء أتمشي القوافي تحت غير لوائنا ... ونحن على قوالها أمراء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 136 ولا سار في عرض السماوة بارق ... وليس له من قومنا خفراء فهو إذ يفخر بنفسه يهجو أبناء جنسه الذين يتطاولون وهم قصار ويدعون المعرفة والجهل يكتنفهم أولم يقل لهم مخاطبا: غدوت مريض العقل والدين فالقني ... لتخبر أبناء العقول الصحائح والروح العلائية معروفة فلا لزوم للشرح والتبسط. أما الجمع بين التهنئة والتعزية فهو غريب حقا وهو يحتاج الى الكثير من شفوف الطبع ورهافة الحس للاجادة فيه ومن أجمل ما سمعنا منه مثل قول المعزّي ليزيد بن معاوية عند ما جلس في دست الخلافة وأتت الوفود مهنئة معزية بأبيه فلما اجتمعوا لم يفتح على أحد بما فتح به لهم باب القول حتى تقدم هذا المتقدم ذكره فاستأذن في الكلام فلما أذن له قال: آجرك الله يا أمير المؤمنين على الرزية وبارك الله لك في العطية فلقد رزئت عظيما وأعطيت جسيما، رزئت خليفة الله، وأعطيت خلافة الله، فاصبر على ما رزئت، واشكر على ما أعطيت وأنشد: اصبر يزيد فقد فارفت ذا ثقة ... واشكر حباء الذي بالملك أصفاكا لا رزء أصبح في الأقوام تعلمه ... كما رزئت ولا عقبى كعقباكا أصبحت راعي أمور الناس كلهم ... فأنت ترعاهم والله يرعاكا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 137 وفي معاوية الباقي لنا خلف ... إذا نعيت ولا نسمع بمنعاكا ففتح للناس باب القول: فقالوا وكان له فضل السبق. وقال أبو نواس للعباس بن الفضل يعزيه بالرشيد ويهنئه بخلافة الأمين: تعزّ أبا العباس عن خير هالك ... بأكرم حي كان أو هو كائن حوادث أيام تدور صروفها ... لهنّ مساو مرة ومحاسن وفي الحيّ بالميت الذي غيّب الثرى ... فلا أنت مغبون ولا الموت غابن 3- فن الالتفات: في قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ... الخ» التفات على أحد القولين وهو مفرع على إرادة العموم من الأول فيكون المخاطبون أولا هم المخاطبين ثانيا إلا أن الخطاب الاول بلفظ الغيبة والثاني بلفظ الحضور واما إذا بنينا على أن الأول إنما أريد منه خصوص على التقديرين جميعا فالثاني ليس التفاتا وإنما هو عدول عن خطاب خاص لقوم معينين الى خطاب العامة والقول في الورود على جهنم طويل يرجع فيه الى المطولات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 138 الفوائد: نقاش طويل حول أيهم: وعدناك بمزيد من البحث حول أيهم في قوله تعالى «ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا» قال أبو حيان في شرح التسهيل: «وسأل الكسائي في حلقة يونس لم لا يجوز أعجبني أيهم قام فقال: أي كذا خلقت» أي كذا وضعت وقال ابن السراج موجها قول الكسائي بالمنع ما معناه إن أيا وضعت على العموم والإبهام فإذا قلت يعجبني أيهم يقوم فكأنك قلت يعجبني الشخص الذي يقع منه القيام كائنا من كان ولو قلت أعجبني أيهم قام لم يقع إلا على الشخص الذي قام فأخرجها ذلك عما وضعت له من العموم ولذلك يشترط في عاملها أن يكون مستقبلا متقدما عليها نحو «لننزعن من كل شيعة أيهم أشد» وذلك لأجل الفرق بين الشرطية والاستفهامية وبين الموصولة لأن الشرطية والاستفهامية لا يعمل فيهما إلا متأخر والمشهور عند الجمهور افرادها وتذكيرها وقد تؤنث وتثنى وتجمع عند بعضهم فتقول أية وأيان وأيتان وأيون وأيات وهي معربة فقيل مطلقا وهو قول الخليل ويونس والأخفش والزجاج والكوفيين وقال سيبويه تبنى على الضم إذا أضيفت لفظا وكان صدر صلتها ضميرا محذوفا وقال الزجاج مستنكرا: ما تبين لي أن سيبويه غلط إلا في موضعين هذا أحدهما فإنه يسلم انها تعرب إذا أفردت فكيف يقول ببنائها إذا أضيفت. وزعم المانعون أن أيا في الآية استفهامية وانها مبتدأ وأشد خبره ثم اختلفوا في مفعول ننزع فقال الخليل محذوف والتقدير لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد وقال يونس المفعول الجملة وعلقت ننزع عن العمل فيها وقال الكسائي والأخفش المفعول كل شيعة ومن زائدة وقد رد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 139 ابن هشام هذه الأقوال كلها حيث قال ويرد أقوالهم أن التعليق مختص بأفعال القلوب وانه لا يجوز أن يقال لأضربن الفاسق بالرفع بتقدير الذي يقال فيه هو الفاسق وانه لم يثبت زيادة من في الإيجاب. ونورد هنا ما قاله أبو البقاء لوجازته وشموله قال «قوله أيهم أشد يقرأ بالنصب شاذا والعامل فيه لننزعن وهي بمعنى الذي ويقرأ بالضم وفيه قولان: أحدهما انها ضمة بناء وهو مذهب سيبويه وهي بمعنى الذي وانما بنيت هاهنا لأن أصلها البناء لأنها بمعنى الذي ومن الموصولات إلا أنها أعربت حملا على كل أو بعض فإذا وصلت بجملة تامة بقيت على الاعراب وإذا حذف العائد عليها بنيت لمخالفتها بقية الموصولات فرجعت الى حقها من البناء بخروجها عن نظائرها وموضعها نصب بنزع الخافض، والقول الثاني هي ضمة الاعراب وفيه خمسة أقوال أحدها انها مبتدأ وأشد خبره وهو على الحكاية والتقدير لننزعن من كل شيعة الفريق الذي يقال أيهم فهو على هذا استفهام وهو قول الخليل والثاني كذلك في كونه مبتدأ وخبرا واستفهاما إلا أن موضع الجملة نصب بننزعن وهو فعل معلق عن العمل ومعناه التمييز وهو قريب من معنى العلم الذي يجوز تعليقه كقولك علمت أيهم في الدار وهو قول يونس والثالث أن الجملة مستأنفة وأي استفهام ومن زائدة أي لننزعن كل شيعة وهو قول الأخفش والكسائي وهما يجيزان زيادة من في الواجب، والرابع أن أيهم مرفوع بشيعة لأن معناه تشيع والتقدير: لننزعن من كل فريق يشيع أيهم وهو على هذا بمعنى الذي وهو قول المبرد والخامس أن ننزع علقت عن العمل لأن معنى الكلام معنى الشرط والشرط لا يعمل فيما قبله والتقدير لننزعنهم تشيعوا أم لم يتشيعوا أو ان تشيعوا ومثله لأضربن أيهم غضب أي ان غضبوا أو لم يغضبوا وهو قول يحيى عن الفراء وهو أبعدها عن الصواب» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 140 [سورة مريم (19) : الآيات 73 الى 76] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) اللغة: (مَقاماً) : بفتح الميم اسم مكان من قام أو مصدر ميمي وقرئ مقاما بالضم فيكون أيضا اسم مكان أو مصدرا ميميا من أقام الرباعي المزيد والمراد هنا موضع القوم. (نَدِيًّا) : الندي المجلس ومجتمع القوم وحيث ينتدون ويقال النادي. (أَثاثاً) : الأثاث: متاع البيت والمال ويقال أثّ يئث ويأث ويؤث أثاثا وأثوثا وأثاثة النبات أو الشعر: التفّ وكثر فهو أث وأثيث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 141 (رِءْياً) : فعل بمعنى مفعول ومعناه المنظر فهو كالطحن والذبح بمعنى المطحون والمذبوح من رأيت على القلب كقولهم راء في رأى أو من الري الذي هو النعمة والترف من قولهم ريان النعيم. الإعراب: (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الواو استئنافية وإذا شرط مستقبل وجملة تتلى مضافة للظرف وعليهم متعلقان بتتلى وآياتنا نائب فاعل وبينات حال من آياتنا أي واضحات مبينات المقاصد والمعاني وجملة قال الذين كفروا لا محل لها لأنها جواب. (لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) للذين آمنوا متعلقان بقال وجملة آمنوا صلة وأي استفهامية مبتدأ وخير خبر ومقاما تمييز وأحسن عطف على خير ونديا تمييز. (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) كم خبرية في محل نصب مفعول أهلكنا وأهلكنا فعل وفاعل ومن قرن تمييز غير صريح لكم لأن تمييز كم الخبرية كثير ما يكون مجرورا بمن وسيأتي تفصيل لذلك وهم مبتدأ وأحسن خبر والجملة في محل نصب صفة لكم الخبرية ألا ترى أنك لو تركت هم لم يكن لك بد من نصب أحسن على الوصفية هذا ما ذكره الزمخشري وتابعه أبو البقاء على أن هم أحسن صفة لكم ونص أصحابنا على أن كم الاستفهامية والخبرية لا توصف ولا يوصف بها، وأثاثا تمييز ورئيا عطف عليه ويجوز أن يكون صفة لقرن. (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) من اسم شرط جازم مبتدأ وكان فعل الشرط وهو فعل ماض ناقص واسمها مستتر يعود على من وفي الضلالة خبر كان والفاء رابطة للجواب واللام لام الأمر ويمدد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 142 فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وله متعلقان بيمدد والرحمن فاعل ومدا مفعول مطلق. (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ) حتى حرف غاية وجر متعلق بالجواب وهو فسيعلمون وقيل مستأنفة أي تبدأ بعدها الجمل قال الشهاب في حاشية البيضاوي: وحتى هنا حرف ابتداء أي تبدأ بعدها الجمل أي تستأنف فليست جارة ولا عاطفة، وهكذا حيث دخلت على إذ الشرطية، وجملة رأوا مضافة للظرف وما مفعول به وجملة يوعدون صلة وإما حرف شرط وتفصيل والعذاب والساعة بدل من ما والمعنى: يستمرون في الطغيان إلى أن يعلموا إذا رأوا العذاب أو الساعة من هو شر مكانا وأضعف جندا. (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) الفاء واقعة في جواب إذا وهذا ما يرجح جعل إذا للغاية وسيعلمون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل ومن موصولة مفعول به وهو مبتدأ وشر خبر والجملة صلة ويجوز أن تكون من استفهامية في محل رفع بالابتداء وهو مبتدأ ثان وشر خبر المبتدأ الثاني وهو وخبره خبر من وعندئذ تكون الجملة معلقة لفعل الرؤية فالجملة في محل نصب مفعول يعلمون. (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) لك أن تجعل الواو استئنافية فتكون الجملة مستأنفة ولك أن تجعلها عاطفة فتعطف الجملة على جملة الشرط المحكية بالقول أي وقل يزيد الله ويزيد الله الذين اهتدوا فعل مضارع وفاعل ومفعول به وجملة اهتدوا صلة وهدى تمييز أو مفعول به ثان ليزيد. (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا) والباقيات مبتدأ والصالحات صفة وخير خبر الباقيات وعند ربك الظرف متعلق بخير وثوابا تمييز وخير مردا عطف على خير ثوابا أي مرجعا وعاقبة ومغبة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 143 الفوائد: 1- من الداخلة على التمييز: اختلف في معنى من التي يصرح بها مع التمييز فقيل للتبعيض ولذلك لم تدخل في نحو طاب نفسا لأن نفسا ليست أعم من المبهم الذي انطوت عليه الجملة وقال الشلوبين: زائدة عند سيبويه لمعنى التبعيض ويدل على صحته انه عطف على موضعها نصبا قال الحطيئة: طافت أمامة بالركبان آونة ... يا حسنه من قوام ما ومنتقبا وأمامة بضم الهمزة اسم امرأة وآونة بالمد نصب على الظرفية والشاهد في قوله من قوام فإنه تمييز جر بمن الزائدة في الكلام الموجب ولهذا عطف منتقبا على محلها بالنصب وما زائدة لتوكيد الكلام وقال ابن هشام: انها لبيان الجنس وقد سبقه الزمخشري الى ذلك لأن المشهور من مذاهب النحويين ما عدا الأخفش أن من لا تزاد إلا في غير الإيجاب. 2- معنى التفضيل: قيل: ما معنى التفضيل في قوله «وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا» وهل ثمة من شك وهل للمفاخر شرك في الثواب والمرد وأجيب بجوابين أو لهما انه من وجيز كلامهم يقولون الصيف أحر من الشتاء أي أبلغ في حره من الشتاء في برده وثانيهما أن اسم التفضيل ذكر على سبيل المشاكلة لكلامهم السابق وقال الشهاب في حاشيته على البيضاوي: «وهذا جواب عما تخيل كيف فضلوا عليهم في خيرية الثواب والعاقبة والتفضيل يقتضي المشاركة وهم لا ثواب لهم وعاقبتهم لا خير فيها» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 144 [سورة مريم (19) : الآيات 77 الى 84] أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) اللغة: (أَطَّلَعَ) أصله أاطلع حذفت همزة الوصل وبقيت همزة الاستفهام المفتوحة واطلع يتعدى بنفسه وبحرف الجر يقال اطلع الأمر وعليه: علمه ويقال أيضا: اطّلع طلمع العدو بكسر الطاء وسكون اللام عرف باطن أمرهم وقد توهم بعضهم انه لا يتعدى إلا بعلى فأعرب الغيب بنزع الخافض وإنما هو من قولهم اطلع الجبل إذا ارتقى الى أعلاه وطلع الثنية قال جرير: إني إذا مضر عليّ تحدثت ... لاقيت مطلع الجبال وعورا فمطلع اسم مكان من اطّلع المشدّد أصله اطتلع على بناء الافتعال فقلبت التاء طاء وأدغمت فيما قبلها وهو في البيت نصب على الظرفية والوعور جمع وعر أي صعب مفعول لاقيت أو مطلع هو المفعول به الجزء: 6 ¦ الصفحة: 145 ووعورا حال يقول: إذا تقولت على مضر مالا أرتضيه أو حدثتها نفسها بقتلي تمرست بالصعاب ولا أبالي بها وسيأتي مزيد بحث عن استعمالها في الآية في باب البلاغة. (وَنَمُدُّ) : مضارع مد الشيء يمده من باب نصر أطاله وبسطه وجذبه ومدّ الحبل فامتدّ وهذا ممدّ الحبل قال ابن مقبل: وللشمس أسباب كأن شعاعها ... ممدّ حبال في خباء مطنّب وتمدّد الأديم وطراف ممدّد وأمد الجيش وضم إليه ألف رجل مددا وللميم مع الدال خاصة التمدد كأن أصل المادة يشمل غيرها من الفروع وهذه من ميزات لغتنا العربية الخالدة ويقال مدحه وامتدحه أطال الثناء عليه، ومدخ فلانا بالخاء المعجمة أمده بالعون خيرا كان أم شرا عمله، وتمدخ تكبر وتطاول ولا يخفى ما في الكبرياء والتطاول من تمدد وانتفاخ، ومدر المكان طاله وامتد اليه ومدر الحوض شد خصاص حجارته بالمدر وهو الطين العلك الذي لا يخالطه رمل وهو سريع الامتداد إذا طينت به الحائط أو سيعته، ومدس الجلد ونحوه دلكه ليمتد، ومدشت عينه: امتد عليها الظلام وارتخى عصبها ومدشت يده نحلت وضؤلت فظهرت للرائي ممتدة لقلة اللحم عليها. والمدش بفتحتين ظلمة تمتد على العين من جوع ورخاوة عصب اليد وتمدل بالمنديل شده على رأسه أو اعتم به وهو قريب من معنى الامتداد، ومدّن المدائن بناها ومصرها وجدد بناءها فامتدت عرضا وطولا والمدينة مجتمع بيوت زادت وامتدت فسميت مدينة ومنها سميت مدينة بيثرب ومدينة السلام أي بغداد والمدائن مدينة قرب بغداد كان فيها إيوان كسرى وسميت بالجمع لكبرها وامتدادها وفيها يقول البحتري سينيته ويشير إليها بقوله: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 146 حضرت رحلي الهموم فوجهت الى أبيض المدائن عنسي أتسلى عن الهموم وآسى ... لمحلّ من آل ساسان درس ومدهه أي مدحه وقد تقدم والمدى الغاية الطويلة الممتدة وأمدى فلانا وماداه أمهله وأمدى الرجل تقدمت به السن وامتدت وتمادى في عيه دام على فعله وامتد في فجوره والمدية بضم الميم الشفرة الكبيرة الممتدة وهذا من غريب أمر لغتنا الشريفة. (وَنَرِثُهُ) : أي نسلبه منه ونأخذه بأن نخرجه من الدنيا خاليا من ذلك والمراد نزوي عنه ما يقوله من أنه سيناله في الآخرة. (تَؤُزُّهُمْ) : الأز: الاستفزاز والتهيج وشدة الإزعاج وهذه من أغراب مواد اللغة العربية كلها تدل على هذا المعنى والأز أيضا شدة الصوت ومنه أز المرجل أزا وأزيزا أي غلا واشتد غليانه حتى سمع له صوت وفي الحديث «فكان له أزيز» وفي القاموس: وأزّت القدر تؤز بالضم وتئز بالكسر أزا وأزيزا وأزازا بالفتح اشتد غليانها وأز النار أوقدها وأز الشيء حركه شديدا» وفي اللسان والأساس وغيرهما: هالني أزيز الرعد وصدّعني أزيز الرحى وهزيزها وأزه على كذا: أغراه به وحمله عليه بإزعاج وهو يأتز من كذا: يمتعض منه وينزعج وتأزر المجلس هاج بمن فيه جميع ذلك يدل على الحركة والانزعاج، وأزب الماء يأزب بالضم والكسر جرى مسرعا والميزاب مجرى الماء والجمع مآزيب، وأزج البيت بناه طولا وعرضا، وأزحت قدمه زلت، وأزر يأزر بالكسر بالشيء أحاط به والنبات التف وآزره مؤازرة عاونه وبادر الى إغاثته والأزر القوة والظهر يقال شد به أزره أي ظهره والمئزر معروف ويقال شد للأمر مئزره إذا تشمر له وسارع اليه. وأزف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 147 يأزف بالفتح أزفا وأزوفا اقترب وأزف الرجل عجل وآزفه إنزافا أعجله وأزفت الآزفة اقتربت القيامة وفلان يمشي الأزفى بثلاث حركات أي يمشي سريعا، والمأزق المضيق وموضع الحرب، وأزل يأزل وقع في ضيق وشدة، وأزمه أزما وأزوما عضه والحبل أحكم فتله وتأزم القوم أصابتهم أزمة والأزمة بفتح الهمزة وسكون الزاي والآزمة الشدة والضيقة وأزمى الرجل حاذاه وداناه وجلس ازاءه أي أمامه وفي كل ذلك ما يدل على الحركة وحرف الزاي اجمالا يدل على ذلك وما هو قريب منه وسيأتيك ما هو معجب من غريب أمره. (وَوَلَداً) : الولد اسم مفرد قائم مقام الجمع والولد بضم الواو وسكون وقد قرئ بها بمعنى الولد فهما لغتان وقيل بل هي جمع لولد نحو أسد وأسد وعرب وعرب. الإعراب: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً) الهمزة للاستفهام التعجبي والفاء على حالها من التعقيب كأنه قال أخبرك أيضا بقصة هذا الكافر عقب حديث أولئك ورأيت هنا بمعنى أخبرني وقد تقدم بحثها مفصلا والذي هو مفعولها الأول وجملة كفر بآياتنا صلة وقال عطف على كفر، لأوتين اللام جواب لقسم مقدر ونائب الفاعل مضمر تقديره أنا وما لا مفعول به ثان لأوتين وولدا عطف على ما لا. (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) الهمزة للاستفهام واطلع فعل ماض وفاعله هو يعود على الكافر قيل هو العاصي بن وائل وستأتي قصته في باب الفوائد وأم حرف عطف معادل للهمزة واتخذ فعل ماض وفاعله مستتر يعود عليه وعند الرحمن مفعول به ثان لاتخذ وعهدا مفعول به أول. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 148 (كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) كلا حرف ردع وزجر وفيها أقوال كثيرة سنوردها في باب الفوائد وسنكتب فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره نحن وصدره بالسين من باب ما يقوله المتوعد لخصمه سوف أنتقم منك يعني لا تغتر بطول الزمان فإن الانتقام آتيك أو سنظهر له ونعلمه أنا كتبنا، وما مفعول به وجملة يقول صلة ونمد عطف على نكتب وله متعلقان بنمد ومن العذاب حال لأنه كان صفة لمدا ومدا مفعول مطلق أو مفعول به ان كان بمعنى المدد. (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً) ونرثه عطف على نمد والفاعل نحن والهاء منصوب بنزع الخافض وما مفعول به والتقدير ونرث منه ما يقوله ويجوز أن تكون الهاء هي المفعول به وما بدل اشتمال من الهاء والمعنى نرث ما عنده من المال والأهل والولد وجملة يقول صلة ويأتينا عطف على ما تقدم والفاعل مستتر تقديره هو ونا ضمير فصل فاعل وفردا حال (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) واتخذوا فعل وفاعل وحذف المفعول الأول وهي الأوثان المفهومة من سياق الحديث ومن دون الله حال وآلهة هي المفعول الثاني، ليكونوا اللام لام التعليل ويكونوا فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد اللام والواو اسمها ولهم حال وعزا خبر يكونوا. (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) كلا تقدم أنها حرف ردع وزجر لتعززهم بها سيكفرون فعل مضارع مرفوع وبعبادتهم متعلقان بيكفرون أي سيجحدون عبادتها وينكرونها، فالمصدر أضيف الى مفعوله ويكونون عطف على يكفرون والواو اسمها وعليهم حال وضدا خبر يكونون ووحّده وهم جمع لمحا لأصله لأنه في الأصل مصدر والمصادر لا تثنى ولا تجمع أو لأنه مفرد في معنى الجمع وللزمخشري في توحيد الضد كلام حسن سننقله في باب البلاغة. (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 149 الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) ألم الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله أنت وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تر وأن واسمها وجملة أرسلنا خبرها والشياطين مفعول به وجملة تؤزهم حالية وأزا مفعول مطلق. (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) الفاء الفصيحة أي إن عرفت هذا كله فلا تعجل وعليهم متعلقان بتعجل وإنما كافة ومكفوفة وجملة نعد لهم حالية وعدا مفعول مطلق. البلاغة: 1- الاستعارة المكنية: 1- الاستعارة المكنية في قوله «اطلع الغيب» فقد شبه الغيب المجهول الملثم بالاسرار بجبل شامخ الذرا لا يرقى الطير الى مداه فهو مجهول تتحطم عليه آمال الذين يريدون استشفاف آفاقه وادراك تهاويله ثم حذف الجبل أي المشبه به وأخذ شيئا من خصائصه ولوازمه وهو الاطلاع والارتقاء واستشراف مغيباته والغرض من هذه الاستعارة السخرية البالغة كأنه يقول أو بلغ هذا مع حقارته وتفاهة أمره وصغار شأنه أن ارتقى الى الغيب المحجب بالاسرار المطلسم بالخفاء؟ 2- توحيد الضد: قال الزمخشري: «فإن قلت: لم وحّد؟ قلت وحّد توحيد قوله عليه الصلاة والسلام «وهم يد على من سواهم» لاتفاق كلمتهم وانهم كشيء واحد لفرط تضامنهم وتوافقهم» والواو في يكفرون يجوز أن تعود على الآلهة أي يجحدون عبادتهم لها أو للمشركين أي ينكرونها لسوء المغبة والمصير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 150 الفوائد: أوجه كلّا: للنحاة في هذه اللفظة مذاهب ستة: 1- مذهب جمهور البصريين كالخليل وسيبويه وأبي الحسن الأخفش وأبي العباس المبرد أنها حرف ردع وزجر وهذا معنى لائق بها حيث وقعت في القرآن الكريم وقد زجر بها العشاق لائميهم فقال أحدهم وهو عروة بن أذينة على الأرجح: يقلن لقد بكيت فقلت: كلّا ... وهل يبكي من الطرب الجليد؟ ولكن أصاب سواد عيني ... عويد قذى له طرف حديد فقلن فما لدمعهما سواء ... أكلتا مقلتيك أصاب عود؟ 2- مذهب النضر بن شميل أنها حرف تصديق بمعنى نعم فتكون جوابا ولا بد حينئذ من شيء يتقدمها لفظا أو تقديرا. 3- مذهب الكسائي وأبي بكر بن الأنباري ونصر بن يوسف وابن واصل انها بمعنى حقا. 4- مذهب أبي عبد الله الباهلي أنها رد لما قبلها وهذا قريب من الأول. 5- انها صلة في الكلام بمعنى إي كذا قيل وفيه نظر فإن إي حرف جواب مختص بالقسم. 6- انها حرف استفتاح وهو قول أبي حاتم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 151 هذا وقد ذكرت كلا في خمس عشرة سورة مكية وجملة ما ذكرت ثلاث وثلاثون مرة. [سورة مريم (19) : الآيات 85 الى 98] يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) اللغة: (وَفْداً) : الوفد مصدر وفد يفد وفدا ووفودا ووفادة وإفادة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 152 إلى أو على الأمير قدم وورد رسولا فهو وافد، وجمع وافد وهم القوم يجتمعون فيردون البلاد ويفدون على الأمير ونحوه. (وِرْداً) : القوم الواردون الى الماء عطاشا قد تقطعت أعناقهم من العطش. (إِدًّا) : بالكسر والفتح العجب وقيل العظيم المنكر ولادة الشدة وآدني الأمر أثقلني وعظم علي إدا وفي القاموس «الإد والإدة بكسرهما العجب والأمر الفظيع والداهية والمنكر كالأد بالفتح وأدته الداهية تؤده بالضم وتئده بالكسر وتأده بالفتح دهته» . (وُدًّا) : مودة ومحبة وفي المصباح «وودته أوده من باب تعب ودّا بفتح الواو وضمها أجببته والاسم المودة وودت لو كان كذا أيضا ودا وودادة تمنيته» وفي المختار: «الود بضم الواو وفتحها وكسرها المحبة فهي مثلثة الواو والأرجح الضم وبها قرأ السبعة وقرئ في غير السبعة بفتحها وكسرها ويحتمل أن يكون المفتوح مصدرا والمضموم والمكسور اسمين» . (لُدًّا) : جمع ألد أي شديد الخصومة وجميل قول الزمخشري: «اللد الشداد والخصومة بالباطل الآخذون في كل لديد أي في كل شق من المراء والجدال لفرط لجاجهم» وفي الأساس: «رجل ألد وألندد ويلندد وفيه لدد وقوم لدّ ولادّه ملادة ولدادا وهو شديد اللداد وتركت فلانا يتردد ويتلدد يتلفت وضربه على لديدي عنقه وهما صفحتاها وضربه على متلدّده على عنقه قال: ولو شئت نجتني من القوم جسرة ... بعيدة بين العجب والمتلدّد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 153 (رِكْزاً) : الركز الصوت الخفي ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض والركاز المال المدفون. و (تُحِسُّ) : بضم التاء مضارع أحسّ وفي المصباح: «الحس والحسيس الصوت الخفي وحسه حسا فهو حسيس مثله قتله قتلا فهو قتيل وأحس الرجل الشيء إحساسا علم به يتعدى بنفسه مع الألف قال تعالى: «فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ» ، وربما زيدت فيه الباء فقيل أحس به على معنى شعر به وحسست به من باب قتل لغة فيه والمصدر الحس بالكسر يتعدى بالباء على معنى شعرت أيضا» . الإعراب: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) الظرف منتصب بفعل محذوف قدره بعضهم باذكر وقدره الزمخشري بقوله «نصب يوم بمضمر أي يوم نحشر ونسوق نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف» وقال غيره العامل فيه قوله فيما بعد «لا يملكون» وجملة نحشر مضافة الى الظرف وفاعل نحشر ضمير مستتر تقديره نحن والمتقين مفعول به والى الرحمن متعلقان بنحشر ووفدا حال وقد تكرر ذكر الرحمن في هذه السورة ست عشرة مرة. (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) عطف على الجملة السابقة ووردا حال أيضا أي واردين كما يرد العطاش إليهم مشاة عطاشا يكاد يقتلهم الظمأ. (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير حال الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم ولا علاقة لها بالفريقين المتقدمين فلا نافية ويملكون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل تعود على الناس كلهم والشفاعة مفعول به وإلا أداة حصر ومن اسم موصول محله الرفع على البدل من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 154 الواو أو النصب على الاستثناء المتصل وجملة اتخذ صلة وعند الرحمن ظرف متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني لاتخذ وعهدا هو المفعول الأول واختار أبو البقاء والزمخشري أن يكون الاستثناء منقطعا هذا وقد اضطربت الأقوال في هذه الآية ولهذا سنفرد بها بحثا خاصا في باب الفوائد. (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) جملة اتخذ الرحمن ولدا مقول القول واتخذ الرحمن ولدا فعل وفاعل ومفعول به. (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) اللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وجئتم فعل وفاعل وشيئا مفعول به وإدا صفة. (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) تكاد من أفعال المقاربة العاملة عمل كان والسموات اسمها وجملة يتفطرن خبرها والنون فاعل ومنه جار ومجرور متعلقان بيتفطرن وتنشق الأرض فعل مضارع وفاعل وتخر الجبال فعل مضارع وفاعل وهدا مصدر في موضع الحال أي مهدودة أو مفعول مطلق لأنه مصدر على غير لفظ الفعل وانما هو مرادفه لأن الخرور هو السقوط والهدم واختار الزمخشري أيضا أن يكون مفعولا لأجله أي لأن تهد وهدّ يستعمل متعديا ولازما فعلى الوجه الاول هو متعد لأنه صيغ منه معنى اسم المفعول وعلى الثاني هو لازم لأن خر لازم ومرادفه يجب أن يكون مثله فتأمل هذا فانه دقيق. (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) أن وما في حيزها مصدر فيه ثلاثة أوجه البدلية من الهاء في منه فهو كقوله: على حالة لو أن في القوم حاتما ... على جوده لضنّ بالماء حاتم فقد روي حاتم مجرورا لأنه بدل من ضمير جوده وسنتحدث في باب الفوائد عن هذا البيت والنصب بنزع الخافض والجار والمجرور في محل نصب مفعول لأجله علل الهدّ بدعاء الولد للرحمن والرفع بأنه فاعل هدا أي هدها دعاء الولد للرحمن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 155 ودعوا فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين وللرحمن متعلقان بدعوا وولدا مفعول دعوا الثاني والأول محذوف تقديره معبودهم لأن معنى دعوا سموا وهي تتعدى لاثنين ويجوز دخول الباء على الثاني تقول دعوت ولدي بزيد ودعوت ولدي زيدا، وقال الشاعر: دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن ... أخاها ولم أرضع لها بلبان وقال آخر: ألا رب من يدعى نصيحا وإن يغب تجده بغيب منك غير نصيح وقال الزمخشري: «اقتصر على أحدهما الذي هو الثاني طلبا للعموم والإحاطة بكل ما دعا له ولدا، أو من دعا بمعنى الذي مطاوعه ما في قوله عليه السلام: من ادعى إلى غير مواليه وقول الشاعر: إنا بني نهشل لا ندعي لأب ... عنه ولا هو لا بالأبناء يشرينا أي لا تنسب إليه» . (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) الواو حالية أو عاطفة وما نافية وينبغي فعل مضارع وللرحمن متعلقان به وأن يتخذ مصدر مؤول في محل رفع فاعل وولدا مفعول به. (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) إن نافية وكل مبتدأ ومن مضاف اليه وفي السموات والأرض متعلقان بمحذوف صلة من ويجوز أن تكون من نكرة موصوفة بالجار والمجرور لأنها وقعت بعد كل نكرة ولعله أولى وإلا أداة حصر وآتي الرحمن خبر وعبدا حال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 من الضمير المستتر في آتي. (لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) اللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وأحصاهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وعدهم عطف على أحصاهم وعدا مفعول مطلق. (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) الواو عاطفة وكلهم مبتدأ وآتيه خبر، وكل إذا أضيف الى معرفة ملفوظ بها نحو كلهم وكل الناس فالمنقول أنه يجوز أن يعود الضمير مفردا على لفظ كل فتقول كلكم ذاهب ويجوز أن يعود جمعا مراعاة للمعنى فتقول كلكم ذاهبون أما إن حذف المضاف المعرفة فالمسموع من العرب الوجهان لأن الأول أنكره بعضهم، ويوم القيامة ظرف متعلق بآتيه وفردا حال. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) ان واسمها وجملة آمنوا صلة وجملة عملوا الصالحات عطف على آمنوا وجملة سيجعل خبر ان ولهم مفعول يجعل الثاني والرحمن فاعل وودا مفعول يجعل الاول وهذا الجعل بالنسبة للدنيا طبعا أي يزرع في قلوبهم مودة من غير تودد منهم. (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) الفاء الفصيحة لأنها عطفت على مقدر كأنه قيل بلغ هذا المنزل عليك وبشر به وأنذر فإنما يسرناه وانما كافة ومكفوفة وقد أفادت التعليل لهذا المقدر ويسرناه فعل ماض وفاعل ومفعول به وبلسانك متعلقان بمحذوف حال أي جاريا، لتبشر اللام للتعليل وتبشر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وبه متعلقان بتبشر والمتقين مفعول به وتنذر معطوف وبه متعلقان بتنذر وقوما مفعول به ولدا صفة. (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) كم خبرية مفعول مقدم لأهلكنا وقبلهم ظرف متعلق بأهلكنا ومن قرن تمييز وقد تقدم تقريره والمراد أمة. (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) هل حرف للاستفهام الانكاري وتحس فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنت ومنهم حال لأنه كان صفة لأحد ومن حرف جر زائد وأحد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 157 مجرور بمن لفظا مفعول به منصوب محلا أو حرف عطف وتسمع عطف على تحس ولهم حال وركزا مفعول به. البلاغة: انطوت خواتيم سورة مريم على فنون عديدة: أولها: التكرار فقد تكرر ذكر الرحمن كما قلنا ست عشرة مرة في السورة معظمها في خواتيمها والفائدة فيه انه هو الرحمن وحده لا يستحق هذا الاسم غيره وخلق لهم جميع متطلباتهم التي بها قوام معايشهم فهل اعتبر الإنسان؟ أم لا يزال الغطاء مسدولا على عينيه والوقر يغشى أذنيه؟ فمن أضاف اليه ولدا جعله كالاناسي المخلوقة وأخرجه بذلك عن استحقاق هذا الاسم الجدير به وحده. وثانيها: الالتفات في قوله «لقد جئتم» التفت من الغيبة الى الخطاب لمشافهتهم بالأمر المنكر الذي اجترحوه، والبدع العجيب الذي ارتكبوه. الفوائد: 1- قلنا ان أقوال المعربين اضطربت في قوله تعالى لا يملكون الشفاعة الى آخر الآية وقد اخترنا ما رأيناه- في نظرنا- أمثل الأوجه وننقل فيما يلي لمعا من أقوالهم مع التعليق عليها بما يناسب المقام فقد تورط الزمخشري، وجلّ المعصوم، بقوله «ويجوز أن تكون- أي الواو في يملكون- علامة للجمع كالتي في أكلوني البراغيث» من جهتين الأولى إنه نسب الى القرآن وهو أبلغ الكلام أردأ اللغات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 158 وأشدها نكرا حتى لقد ضرب المثل بقبحها والثانية انه إذا جعله علامة لمن فقد كشف معناه وأفصح بأنها متناولة جمعا ثم أعاد على لفظها بالإفراد ضمير اتخذ ففيه الاعادة على لفظها بعد الاعادة على معناها بما يخالف ذلك وهو مستنكر عندهم لأنه إجمال بعد إيضاح وذلك تعكيس على طريق البلاغة وانما محجتها الواضحة الإيضاح بعد الإجمال. وقال البيضاوي: «إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا» إلا من تحلى بما يستعد به ويستأهل أن يشفع للعصاة من الايمان والعمل الصالح على ما وعد الله تعالى أو إلا من اتخذ من الله إذنا فيها كقوله تعالى: «لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ» من قولهم عهد الأمير الى فلان بكذا إذا أمره به ومحل الرفع على البدل من الضمير أو النصب على تقدير مضاف أي إلا شفاعة من اتخذ» وهو شبيه بالرأي الذي جنحنا اليه إلا أنه جنح الى القول بأن الاستثناء منقطع. وعبارة أبي حيان: «والضمير في لا يملكون عائد على الخلق الدال عليهم ذكر المتقين والمجرمين إذ هم قسماه والاستثناء متصل ومن بدل من ذلك الضمير أو نصب على الاستثناء ولا يملكون استئناف اخبار» ثم أورد أقوالا عديدة نضرب عنها صفحا. وقال أبو البقاء «لا يملكون حال إلا من اتخذ في موضع نصب على الاستثناء المنقطع وقيل هو متصل على أن يكون الضمير في يملكون للمتقين والمجرمين وقيل هو في موضع رفع بدلا من الضمير في يملكون» . وفي الكرخي شارح الجلالين «قوله أي الناس قدره تمهيدا لجعل الاستثناء في قوله إلا من اتخذ منصلا لدلالة ذكر الفريقين المتقين والمجرمين إذ هما قسماه وقيل ضمير يملكون عائد على المجرمين المراد بهم الكفار، قال بعضهم لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم كما يملك المؤمنون» وحسبنا ما تقدم فقد طال مجال القول. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 159 2- عودة الى بيت الفرزدق: ونعود الى بيت الفرزدق وهو من أبيات له يعتذر عما وقع منه في السفر مع دليله عاصم العنبري حين ضل عن الطريق والأبيات هي: فلما تصافنا الأداوة أجهشت ... الى غضون العنبري الجراضم فجاء بجلمود له مثل رأسه ... ليشرب ماء القوم بين الصرائم على حالة لو أن في القوم حاتما ... على جوده لضنّ بالماء حاتم والتصافن اقتسام الماء القليل بالصفن وهو وعاء صغير لنحو الوضوء والأداوة ظرف الماء وجمعها أداوى وإيقاع التصافن عليها مجاز لأنها محل الماء والمراد تقاسمنا الماء فهو مجاز مرسل علاقته المحلية والجهش والإجهاش تضرع الإنسان الى غيره وتهيئته للبكاء اليه كالصبي الى أمه، وغضون الجلد مكاسره، وإسناد الإجهاش إليها مجاز عقلي أو مجاز مرسل علاقته المحلية أيضا لأنها محل ظهور أثره والجراضم واسع البطن كثير الأكل والمراد بالجلمود إناء صلب كبير مثل رأسه أي رأس العنبري وفيه إشارة بارعة إلى حمقه لأن افراط الرأس في العظم أمارة البلادة وفي الصلابة أيضا اشارة الى ذلك وقوله بين الصرائم جمع صريمة وهي منقطع الرمل إشارة الى أنهم كانوا في مفازة عمياء لا ماء بها على حالة ضنكة بحيث لو ثبت في تلك الحالة أن حاتما في القوم مع جوده المشهور لبخل بالماء وعلى بمعنى في ورواية المبرد في كامله على ساعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 160 (20) سورة طه مكيّة وآياتها خمس وثلاثون ومائة [سورة طه (20) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) اللغة: (الْعُلى) : ويجوز كتابتها بالياء والألف لأن الفعل علا يعلو وعلي يعلى وهي المرتبة والرفعة وقال السيوطي وأبو البقاء: هي جمع عليا ككبرى وكبر فكتبت بالياء. (اسْتَوى) : لها في اللغة معان كثيرة قال في القاموس: «استوى الشيء اعتدل واستقام يقال: سويت الشيء فاستوى واستوى الرجل: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 161 استقام أمره وانتهى شبابه وبلغ أشده، واستوى عليه: ظهر واستولى واستوى على ظهر الدابة استقر، يقال: استوى على سرير الملك كناية عن التملك واستوى الى الشيء قصده واستوت به الأرض هلك ودفن فيها واستوى الطعام نضج. وأصل الفعل الثلاثي سوي يسوى سوى الرجل: استقام أمره. وقال في الأساس: «استوى الشيئان وتساويا وساوى أحدهما صاحبه وفلان يساويك في العلم وساوى بين الشيئين وسوّى بينهما وساويت هذا بهذا وسويته قال الراعي: بجرد عليهنّ الأجلّة سوّيت ... بضيف الشتاء والبنين الأصاغر أي يصونها صيانة الضيوف والأطفال وسويت المعوج فاستوى ورزقك الله تعالى ولدا سويا لا داء به ولا عيب وهما على سوية من الأمر وسواء وفيه النصفة والسوية وهما سواء وهم سواسية في الشر وأنتما سيان وما هو بسيّ لك وفعل القوم كذا ولا سيما زيد ومكان سوى: وسط بين الحدين وجاءوا سوى فلان وسواءه «فرآه في سواء الجحيم» في وسطها وضرب سواءه وسطه وضربه على مستوى مفرقه قال بعض بني أزنم: نحن من خير معدّ نسبا ... ولنا قدما على الناس المهل إذ ضربنا الصّمة الخير على ... مستوى مفرقه حتى انجدل ورجل سواء القدم: مستويها ليس لها أخمص، ومن المجاز: إذا صليت الفجر استويت إليك قصدتك قصدا لا ألوي على شيء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 162 «ثم استوى الى السماء» واستوى على الدابة والفراش والسرير وانتهى شبابه واستوى واستوى على البلد» وسيأتي المراد به في الآية في باب البلاغة. (الثَّرى) : في المصباح: «الثرى وزان الحصى ندى الأرض، وأثرت الأرض بالألف كثر ثراها والثرى أيضا: التراب الندي فإن لم يكن نديا فهو تراب ولا يقال له حينئذ ثرى» وفيه أيضا: «نديت الأرض ندى من باب تعب فهي ندية مثل تعبة ويعدّى بالهمز والتضعيف وأصابها نداوة وندوة بالضم والتثقيل» وفي الأساس واللسان وغيرهما: «شهر ثرى، وشهر ترى، وشهر مرعى أي تكون الأرض ندية أولا ثم ترى الخضرة ثم يطول النبات حتى يصلح للراعية وثرى المطر التراب يثريه وهو مثري وثري التراب فهو ثرّ وثرّيت التراب نديته وثرّيت السويق» . (وَأَخْفى) سيأتي الكلام فيها في باب الإعراب. الإعراب: (طه) تقدم القول في فواتح السور واعرابها. (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) ما نافية وأنزلنا فعل وفاعل وعليك متعلقان بأنزلنا والقرآن مفعول به ولتشقى اللام للتعليل وتشقى فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وسيأتي المراد بالشقاء في باب الفوائد. (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) إلا أداة حصر وتذكرة مفعول لأجله والاستثناء منقطع، قال أبو البقاء ولا يجوز أن يكون مفعولا من أجله لأنزلنا المذكورة لأنها قد تعدت الى مفعول له وهو لتشقى فلا تتعدى الى آخر من جنسه ولا يصح أن يعمل فيها لتشقى لفساد المعنى، وقيل تذكرة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 163 مصدر في موضع الحال واختار الزمخشري أن تكون تذكرة مفعولا لأجله قال: «وكل واحد من لتشقى وتذكرة علة للفعل إلا أن الأول وجب مجيئه مع اللام لأنه ليس لفاعل الفعل المعلل ففاتته شريطة الانتصاب على المفعولية والثاني جاز قطع اللام عنه ونصبه لاستجماع الشرائط» وعلى هذا جرى معظم المعربين والمفسرين، قال الكرخي في تعليقه على عبارة الجلال السيوطي: «أشار الى أن الاستثناء منقطع وأن تذكرة مفعول من أجله والعامل أنزلناه المقدر لا المذكور وكل واحد من لتشقى وتذكرة علة لقوله ما أنزلنا وتعدى في لتشقى باللام لاختلاف العامل لأن ضمير أنزلنا لله وضمير لتشقى للنبي فلم يتحد الفاعل واتحد في تذكرة لأن المذكر هو الله تعالى وهو المنزل فنصب بغير لام» وأنكر أبو علي الفارسي أن يكون مفعولا لأجله أو بدلا من لتشقى قال وانما هو منصوب على المصدرية أي أنزلناه لتذكر به تذكرة، وإنما أوردنا هذه الأقوال على تباينها وتدافعها لأننا لم نستطع الترجيح بينها. (تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) مفعول مطلق لفعل محذوف وتقديره نزلناه تنزيلا فحذف وجوبا على حد قول ابن مالك: والحذف حتم مع آت بدلا ... من فعله كندلا اللذ كاندلا وأجاز الزمخشري فيه وجوها كلها واردة فقال «في نصب تنزيلا وجوه: أن يكون بدلا من تذكرة إذا جعل حالا لا إذا كان مفعولا له لأن الشيء لا يعلل بنفسه وأن ينصب بنزل مضمرا وأن ينصب بأنزلنا لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرة أنزلناه تذكرة، وأن ينصب على المدح والاختصاص، وأن ينصب بيخشى مفعولا به أي أنزله الله تذكرة لمن يخشى تنزيل الله وهو معنى حسن واعراب بين» وممن متعلقان بتنزيلا وجملة خلق الأرض والسموات صلة والعلى صفة. (الرَّحْمنُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 164 عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) الرحمن خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو أو مبتدأ وعلى العرش متعلقان باستوى وجملة استوى خبر ثان ل «هو» المقدرة أو خبر الرحمن وسيأتي معنى الاستواء على العرش في باب الفوائد. (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) له خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي السموات صلة وما في الأرض عطف على ما في السموات وما بينهما كذلك وما عطف على ما وتحت الثرى ظرف متعلق بمحذوف صلة ما. (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) الواو استئنافية مسوقة لبيان شرع الله تعالى في دعائه وان شرطية وتجهر فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره أنت وبالقول جار ومجرور متعلقان بتجهر فإنه الفاء رابطة لأن الجواب جملة اسمية وان واسمها وجملة يعلم السر خبرها وأخفى عطف على السر أي أخفى منه فهو اسم تفضيل من خفي بمعنى استتر وغاب وأجاز بعضهم أن يكون فعلا ماضيا أي وأخفى الله عن عباده غيبه وعندنا أن ذلك غير جائز لأنه من جهة اللفظ يلزم منه عطف الفعلية على الاسمية إن كان المعطوف عليه هو الجملة الكبرى أو عطف الماضي على المضارع إن كان المعطوف عليه الجملة الصغرى وكلاهما دون الأحسن ومن جهة المعنى واضح أن المقصود الحض على ترك الجهر بإسقاط فائدته من حيث إن الله يعلم السر وما هو أخفى منه فكيف يبقى للجهر فائدة وكلاهما على هذا التأويل مناسب لترك الجهر وأما إذا جعل فعلا فيخرج عن مقصود السياق، واعلم أنهم قد يحذفون من من افعل إذا أريد به التفضيل ومعنى الفعل وهم يريدونها فتكون كالمنطوق بها نحو زيد أكرم وأفضل فلم تأت بألف ولام كما لم تأت بها مع من لأن الموجود حكما كالموجود لفظا أي: يعلم السرّ وأخفى منه والذي يدل على ارادة من أن أخفى لا ينصرف كما لا ينصرف آخر من قولك مررت برجل آخر إذا أردت من معه وإن لم تذكره وانما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 165 نكره للمبالغة في الخفاء. (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) الله مبتدأ وجملة لا إله إلا هو الاسمية خبر وقد تقدم اعراب لا إله إلا هو مفصلا وله خبر مقدم والأسماء مبتدأ مؤخر والحسنى صفة للأسماء والجملة خبر ثان. ومعلوم أن جمع التكسير في غير العقلاء يعامل معاملة المؤنثة الواحدة. الفوائد: 1- روى التاريخ: ان أبا جهل والنضر بن الحارث قالا له: إنك شقي لأنك تركت دين آبائك فأريد رد ذلك بأن دين الإسلام وهذا القرآن هو السلّم الى نيل كل فوز والسبب في ادراك كل سعادة وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها وروي انه عليه الصلاة والسلام صلى بالليل حتى اسمغدّت قدماه أي تورمت كما في الصحاح فقال له جبريل عليه السلام أبق على نفسك فإن لها عليك حقا ويحتمل أن يراد لا تتعب نفسك بفرط أسفك على كفر قريش إذ ما عليك إلا البلاغ، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا بعد ان لم تفرط في أداء الرسالة وإسداء الموعظة الحسنة. والشقاء يجيء في معنى التعب قال ابن كيسان: «وأصل الشقاء في اللغة العناء والتعب ومنه قول المتنبي: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم 2- الاستثناء المنقطع: استثناء الشيء من غير جنسه لا معنى له ولا مورد من ذلك فليست فيه «إلا» للاستثناء على سبيل الأصل وانما هي بمعنى «لكن» وهو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 166 ما يسونه «الاستثناء المنقطع» ومع ذلك فلا بد من الارتباط بين المستثنى منه والمستثنى ومن ذلك قوله تعالى «ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى» أي لكن أنزلناه تذكرة فتذكرة مستثنى من المصدر المؤول من تشقى بأن المضمرة بعد لام التعليل لأن المعنى ما أنزلنا القرآن لشقائك. [سورة طه (20) : الآيات 9 الى 16] وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16) اللغة: (آنَسْتُ) : أبصرت والإيناس الإبصار البين الذي لا شبهة فيه ومنه إنسان العين لأنه يبصر به الأشياء وقال جرير: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 167 إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا وفي قوله إنسانا تورية بديعة. (بِقَبَسٍ) : القبس: الجذوة من النار. (طُوىً) : اسم علم للوادي ويقرأ بغير تنوين على أنه معرفة مؤنث علم للبقعة وقيل هو معدول وإن لم يعرف لفظ المعدول عنه فكأن أصله طاوي فهو في ذلك كجمع وكتع وقال في القاموس: «وطوى بالضم والكسر وينون واد بالشام» وقال علماء النحو: وأما طوى فمن منع صرفه فالمعتبر فيه التأنيث باعتبار البقعة لا العدل عن طاو ولأنه أي العدل قد أمكن غيره وهو التأنيث فلا وجه لتكلف العدل. (أُخْفِيها) : سيأتي الكلام عنها في الاعراب. (فَتَرْدى) : في المختار: ردى من باب صدى أي هلك وأرداه غيره وردى في البئر تردى يردي إذا سقط فيها أو تهور من جبل. الإعراب: (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) الواو للاستئناف والجملة استئنافية مسوقة لسرد قصة موسى ليتأسى به النبي صلى الله عليه وسلم في تحمل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 168 أعباء النبوة وتكاليف الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد ومعاناة الأهوال، وأتاك فعل ومفعول به وحديث موسى فاعل والاستفهام للتقرير ومعناه أليس قد أتاك حديث موسى؟ وقيل معناه: قد أتاك حديث موسى. (إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ: امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً) الظرف متعلق بالحديث لأنه حدث أو بمضمر تقديره اذكر وجملة رأى مضاف إليها الظرف ونارا مفعول به فقال عطف على رأى ولأهله متعلقان بقال وجملة امكثوا مقول القول وجملة إني تعليل للأمر بالمكوث وان واسمها وجملة آنست خبرها ونارا مفعول به. (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) لعل واسمها وجملة آتيكم خبرها ومنها متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لقبس أو حرف عطف وأجد معطوف على آتيكم وفاعل أجد مستتر تقديره أنا وعلى النار جار ومجرور متعلقان بأجد وهي على مكانها للاستعلاء على حد قول الأعشى: لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع تحرق تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق أي أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها كما قال سيبويه في مررت بزيد انه لصوق بمكان يقرب من زيد. وهدى مفعول به أي يهديني الطريق ويدلني عليها قال الفراء: أراد هاديا فذكره بلفظ المصدر أو عبر بالمصدر لقصد المبالغة على حذف المضاف أي ذا هدى. (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى) الفاء عاطفة على محذوف والتقدير فيمم شطر النار ولما ظرفية حينية أو رابطة وأتاها فعل وفاعل مستتر ومفعول به وجملة نودي لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ويا موسى حرف نداء ومنادى. (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) إن واسمها وأنا تأكيد للضمير أو مبتدأ وربك خبر إني أو خبر أنا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 169 والجملة خبر إن والأول أولى، فاخلع الفاء الفصيحة واخلع فعل أمر وفاعل مستتر ونعليك مفعول به وجملة إنك تعليل للخلع وان واسمها وبالوادي خبرها والمقدس صفة وطوى بدل أو عطف بيان وقد تقدم القول في منعه من الصرف أو عدم منعه في باب اللغة. (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) الواو عاطفة وأنا مبتدأ وجملة اخترتك من الفعل والفاعل والمفعول به خبر، فاستمع الفاء عاطفة واستمع فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت ولما متعلقان باستمع وجملة يوحى صلة ويوحى بالبناء للمجهول. (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) الجملة بدل من «ما» في لما يوحى وان واسمها وأنا تأكيد للضمير أو مبتدأ والله خبر إنني أو خبر أنا والجملة خبر إن وجملة لا إله إلا أنا خبر ثان فاعبدني الفاء الفصيحة واعبدني فعل أمر وفاعل مستتر والنون للوقاية والياء مفعول وأقم الصلاة عطف على اعبدني ولذكري متعلقان بأقم وهو مصدر مضاف لمفعول أي لتذكرني فيها وقيل المصدر مضاف للفاعل أي لذكري إياك. (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) إن واسمها وخبرها وأكاد فعل مضارع ناقص من أفعال المقاربة واسمها مستتر تقديره أنا وجملة أخفيها خبر أي أريد إخفاء وقتها أو أقرب أن أخفيها فلا أقول إنها آتية ويجوز أن يراد أكاد أظهرها وفعل أخفى من الأضداد وسيرد له مزيد بحث في باب البلاغة، ولتجزى اللام للتعليل وتجزى فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وهو متعلق بأخفيها أو بآتية وجملة أكاد أخفيها اعتراضية بينهما وكل نفس نائب فاعل وبما متعلقان بتجزى وجملة تسعى صلة ويجوز أن تكون ما مصدرية أي بجزاء سعيها على حذف مضاف. (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى) الفاء الفصيحة ولا ناهية ويصدنك فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 وهو في محل جزم بلا الناهية والكاف مفعول به وعنها متعلقان بيصدنك ومن فاعل وجملة لا يؤمن صلة وبها متعلقان بيؤمن واتبع هواه فعل وفاعل مستتر ومفعول به فتردى الفاء فاء السببية وتردى فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء بفتحة مقدرة على الألف. البلاغة: فن الإبهام: في قوله تعالى «لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً» وهو فن رفيع ينطوي على الكثير من جلائل المعاني ودقائقها وهو ضد الإيجاز وضد الاطناب وحدّه أن يأتي المتكلم الى المعنى الواحد الذي يمكنه الدلالة عليه باللفظ القليل فيدل عليه باللفظ الكثير لا لقصد إفهام البليد وسماع البعيد ولا للتقرير والتوكيد، بل للاتيان بمعنى يتشعب إلى عدة أمور كل واحد منها مستقل المفهومية فقد قال لعلي آتيكم منها بقبس ولم يبت في الأمر لئلا يعد ما ليس بمستيقن من الوفاء به وما أجملها حكمة تكون درسا للذين يكيلون الوعود جزافا ولا يفكرون في الوفاء بها ثم قال لعلي أجد على النار هدى وهذا يحتوي على معنى آخر ثم يتشعب فالهداية هي المعنى الرئيسي ثم ان الهداية قد تكون بالنار نفسها بخاصة الاضاءة الكامنة فيها وإما بواسطة القوم الذين يقومون بإيقادها ويفهم من هذا ضمنا أنه ضل مع أهله الذين يرافقونه وهم امرأته بنت شعيب وقد ولدت في الطريق ابنا في ليلة شاتية مظلمة باردة وقيل مثلجة فلما أسقط في يده آنس النار فقال ما قال ثم قد يقصد بالهداية معناها المجازي الآخر أي لعلي أهتدي بنور العلم لأن أفكار الأبرار مغمورة بالهمم فتبارك قائل هذا الكلام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 171 وفي قوله تعالى: «إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى» إبهام وهو فن عجيب يقول فيه المتكلم كلاما يحتمل معنيين متغايرين لا يتميز أحدهما عن الآخر فكلمة أخفيها أولا تعني أمورا منها: آ- أي أكاد أخفيها فلا أقول هي آتية لفرط إرادتي إخفاءها ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به. ب- أكاد أخفيها عن نفسي. ثم انه جاء في بعض اللغات أخفاه بمعنى خفاه فهي من الأضداد أي أكاد أظهرها لقرب وقتها وبه فسر قول امرئ القيس: فإن تدفنوا الداء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد أي إن تكتموا الضغائن التي بيننا نكتمها نحن أيضا ولا نظهرها. على أن أحسن محامل الآية الكريمة هو أن يكون المراد أكاد أزيل خفاءها أي أظهرها إذ الخفاء الغطاء وهو أيضا ما تجعله المرأة فوق نيابها يسترها ثم تقول العرب أخفيته إذا أزلت خفاءه كما تقول أشكيته وأعتبته إذا أزلت شكايته وعتبه. قال أبو علي القالي: «وقال اللحياني: خفيت الشيء أخفيه خفيا وخفيا إذا استخرجته وأظهرته وأنشد لامرئ القيس: خفاهنّ من أنفاقهنّ كأنما ... خفاهن ورق من سحاب مركب قال أبو علي: وغيره يروي: من عشني مجلّب أي مصوت ويقال: اختفيت الشيء أي أظهرته وأهل الحجاز يسمون النباش الجزء: 6 ¦ الصفحة: 172 المختفي لأنه يستخرج أكفان الموتى وأخفيت الشيء أخفيه إخفاء إذا سترته قال الله عز وجل: «أَكادُ أُخْفِيها» وهي قراءة العامة أي أظهرها وقال أبو عبيدة: أخفيت الشيء كتمته وأظهرته ويقال دعوت الله خفية وخفية أي في خفض. مجموعة من الاضداد في اللغة: هذا ومن الاضداد الجلل للعظيم وللهين فمن الأول قول الشاعر: ولئن عفوت لا عفون جللا ... ولئن سطوت لأوهننّ عظمي ومن الثاني قول امرئ القيس لما قتل أبوه: بقتل بني أسد ربهم ... ألا كل شيء سواه جلل ومنها: غابر للذاهب والآتي، والجون للأبيض والأسود والبين للبعد والقرب، والصريم: الليل والنهار، والناصع الأبيض والأسود، والأمم للعظيم واليسير، والناهل للريان والظمآن، ووراء بمعنى قدام وخلف، وبعت الشيء إذا بعته من غيرك وبعته اشتريته، وشعبت الشيء: أصلحته وشققته، والصارخ للمستغيث والمغيث، والهاجد للمصلي بالليل والنائم، والوهدة: الارتفاع والانحدار، والتعزير للاكرام والاهانة، والتقريظ للمدح والذم، وترب للغني والفقير، والاهماد للسرعة في السير والاقامة، وعسعس: إذا أقبل وإذا أدبر، والقرء للحيض والطهر. [سورة طه (20) : الآيات 17 الى 23] وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 173 اللغة: (أَهُشُّ) : في المصباح: هشّ الرجل هشّا من باب رد: صال بعصاه وفي التنزيل «وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي» وهش الشجرة هشا ضربها ليتساقط ورقها وهش الشيء يهش من باب تعب هشاشة لان واسترخى فهو هش وهش العود يهشّ أيضا هشوشا صار هشا سريع الكسر وهش الرجل هشاشة إذا ابتسم من بابي تعب وضرب. (جَناحِكَ) : سيأتي تفسيرها في باب البلاغة. الإعراب: (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) الواو عاطفة وما اسم استفهام للتقرير مبتدأ وتلك خبره وبيمينك متعلق بمحذوف حال وهي تشبه قوله تعالى «وَهذا بَعْلِي شَيْخاً» والعامل في الحال المقدرة اسم الاشارة ويا موسى نداء فما اسم نكرة في موضع رفع بالابتداء والتقدير أي شيء تلك بيمينك وهي مبنية لتضمنها همزة الاستفهام وإنما جيء بها لضرب من الاختصار وذلك أنك إذا قلت ما بيدك فكأنك قلت: أعصا بيدك أم سيف أم خنجر ونحو ذلك مما يكون بيده وليس عليه إجابتك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 174 عما بيده إذا لم تأت على المقصود فجاءوا بما وهو اسم واقع على جميع مالا يعقل مبهم فيه وضمنوه همزة الاستفهام فاقتضى الجواب من أول وهلة فكان فيه من الإيجاز ما ترى. (قالَ: هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) هي مبتدأ وعصاي خبره وجملة أتوكأ عليها حالية وقيل مستأنفة وأهش بها على غنمي عطف على أتوكأ عليها وبها متعلقان بأهش وكذلك على غنمي وتعدية أهش بعلى يفيد معنى التهويل والتخويف للغنم. (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) هذا هو الجواب الرابع الذي أجاب به موسى عن سؤال واحد وسيأتي سر ذلك في باب البلاغة ولي خبر مقدم وفيها حال ومآرب جمع مأربة بتثليث الراء مبتدأ مؤخر وأخرى صفة لمآرب، وهذه المآرب الأخرى سيرد قسم كبير منها في باب البلاغة كما يرد تلخيص مفيد لكتاب العصا للجاحظ. (قالَ: أَلْقِها يا مُوسى) جملة ألقها مقول القول ويا موسى نداء. (فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) ألقاها فعل وفاعل ومفعول به والفاء عاطفة وإذا للمفاجأة وهل هي ظرف أم حرف؟ تقدم بحث ذلك مفصلا، وهي مبتدأ وحية خبر وجملة تسعى حال أو خبر ثان وقد تقدم ذكر المسألة الزنبورية بين سيبويه والكسائي. (قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) جملة خذها مقول القول والواو حرف عطف ولا ناهية وتخف فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والسين حرف استقبال ونعيدها فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره نحن وسيرتها منصوب بنزع الخافض أي الى سيرتها وهذا أسهل الأعاريب وقيل هي ظرف قالوا «السيرة من السير كالركبة من الركوب يقال سار فلان سيرة حسنة ثم اتسع فيها فنقلت الى معنى المذهب والطريقة وقيل سير الأولين فنصبت على الظرف أي سنعيدها في طريقتها الأولى» وأجاز آخرون كأبي البقاء وبه بدأ أن تكون بدل اشتمال من ضمير المفعول لأن معنى سيرتها صفتها وطريقتها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 175 وأتي الزمخشري بإعراب آخر مهد له وحسنه قال «ووجه ثالث حسن وهو أن يكون سنعيدها مستقلا بنفسه غير متعلق بسيرتها بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصا ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية فسنعيدها بعد ذهابها كما أنشأناها أولا ونصب سيرتها بفعل مضمر أي تسير سيرتها الأولى» والأولى صفة لسيرتها على كل حال. (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى) واضمم عطف على ألقها ويدك مفعول به والفاعل مستتر تقديره أنت والى جناحك جار ومجرور متعقان باضمم وتخرج جزم لأنه جواب الطلب وبيضاء حال ومن غير سوء متعلقان ببيضاء لما فيها من معنى الفعل نحو ابيضت من غير سوء وليكون الاحتراس كاملا كما سيأتي في باب البلاغة أو متعلقان بتخرج وآية حال ثانية من فاعل تخرج أيضا وأخرى صفة لآية واختار الزمخشري وجها آخر لنصب آية وهو «بإضمار نحو خذأ ودونك وما أشبه ذلك» ولا نرى داعيا لذلك. (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) اللام للتعليل ونريك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وهو تعليل لمحذوف متعلق به أي أمرناك بما ذكرنا لنريك بها أي بيدك ومن آياتنا متعلقان بمحذوف على أنه حال من الكبرى وتكون الكبرى على هذا مفعولا ثانيا لنريك أو صفة للمفعول الثاني على الأصح والتقدير لنريك الآية الكبرى من آياتنا أي حال كونها من آياتنا وقيل غير ذلك وما ذكرناه أولى فلا داعي لذكره. البلاغة: قد تستوعب هذه الآية أجلادا ضخمة لما انطوت عليه من ضروب البلاغة وذلك ما نهدف اليه من كتابنا، ولكننا سنجتزئ بقدر الإمكان فنقول: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 176 1- فن التلفيف: في قوله تعالى «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى» الى آخر ما أجاب به موسى صلوات الله عليه من الاجوبة الاربعة فن طريف لم يرد ذكره حتى الآن وهو فن التلفيف، وحدّه إخراج الكلم مخرج التعليم بحكم أو أدب لم يرد المتكلم ذكره وانما قصد ذكر حكم خاص داخل في عموم الحكم المذكور الذي صرح بتعليمه. وهذا التعريف المطول نعتقد أنه يحتاج الى بيان وهو أن يسأل السائل عن حكم هو نوع من أنواع جنس تدعو الحاجة الى بيانها كلها أو أكثرها فيعدل المسئول عن الجواب الخاص عما سئل عنه من تبيين ذلك النوع ويجيب بجواب عام يتضمن الإبانة على الحكم المسئول عنه وعن غيره بدعاء الحاجة الى بيانه فقول موسى جوابا عن سؤال الله تعالى له «هِيَ عَصايَ» هو الجواب الحقيقي للسؤال ثم قال: «أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى» فأجاب عن سؤال مقدر كأنه توهم أن يقال له: وما تفعل بها؟ فقال معددا منافعها ولم يقع ذلك من موسى عليه السلام إلا لأمور ثلاثة: آ- بغية الشكر لله تعالى الذي رزقه تلك العصا التي وجد فيها من المآرب ما لا يوجد في مثلها. ب- ان المقام مقام خطاب الحبيب وهو يقتضي البسط والإسهاب. ح- تعظيم مساءلة ربه له عن منافعها فابتدأه بالجواب عن السؤال المقدر قبل وقوعه أدبا مع ربه. والواقع أن السؤال إذا كان واردا على شيء ظاهر فذلك السؤال إنما يتوجه الى أمر يتعلق به بحسب مقتضى الحال وإلا كان عبثا لظهوره الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 كما إذا سألت شخصا عن لبس ثياب السفر بقولك: ما هذا الثوب؟ فإنك لا تسأل عن نفس الثوب وما هيته بل إنما سألت عن سبب لبسه فكأنك قلت: ما سبب عزيمتك؟ فجواب اللابس حينئذ أن يقول: أريد سفر كذا ولو أجاب بأنه كتان مثلا عدّ لاغيا فكذلك هاهنا لما كان السؤال عن أمر ظاهر فيكون متوجها الى ما يتعلق بالعصا من منافعها فكأنه قال: ما تفعل بما في يمينك با موسى؟ فلذلك قال: هي عصاي أتوكأ عليها ... الآية فإن قلت: لو كان قوله تعالى: وما تلك بيمينك سؤالا عما لا يتعلق بالعصا فكان حقّ الجواب أن بقول: أريد أن أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولكان قوله: هي عصاي ضائعا غير مطابق للسؤال كما في السؤال عن نبس السفر. قلت: هذا السؤال وإن كان عما يتعلق بالعصا لكنه تعالى لما علم أنه سيرد عليها الصورة الثعبانية عند سحر السحرة وكان ذلك مقام أن يخاف موسى بمشاهدة الصورة المنكرة التي ليس يعهدها فأراد تثبيت ماهيتها وعوارضها في نفسه لئلا يدهش عند ورودها عليه فلذلك قال: ما تلك ليجيب عن ماهيتها أيضا كما يجيب عن منافعها لزيادة التثبيت فحاصل معنى الجواب حينئذ هي عصاي أعرفها بالذات والعوارض وإن صورتها مقررة في نفسي لا تنفع إلا منافع أمثالها فإني قديما أتوكأ عليها وأهش بها على عنمي ولي فيها مآرب أخرى. واختار «تلك» مع قرب المشار اليه إما لتحقيره بالنسبة الى جناب كبريائه أو للتعظيم لاشتمالها على الأمور العجيبة والمنافع الكثيرة. 2- التقرير: وفيها أيضا التقرير وهو بالاستفهام فإنه سبحانه عالم بما بيمينه وإنما أراد أن يقر موسى ويعترف بكونها عصا ويزداد علمه بما يمنحه الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 178 في عصاه فلا يعتريه شك إذا قلبها الله ثعبانا بل يعرف أن ذلك كائن بقدرة الله وانه هين عليه يسير. عصا موسى وما فيها من أقوال: هذا وقد صنف الجاحظ كتابا سماه كتاب العصا وهو جزيل الفائدة ونورد فيما يلي أضاميم منه، فقد جمع الله لموسى بن عمران في عصاه من البرهانات العظام والعلامات الجسام ما عسى أن يفي ذلك بعلامات عدة من المرسلين قال الله تبارك وتعالى فيما يذكر في عصاه: «إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما» الى قوله «ولا يفلح الساحر حيث أتى» فلذلك قال الحسن بن هانئ- أبو نواس- في شأن خصيب وأهل مصر حين اضطربوا عليه: منحتكم يا أهل مصر نصيحتي ... ألا فخذوا من ناصح بنصيب ولا تثبوا وثب السفاه فتركبوا ... على حد حامي الظهر غير ركوب فإن يك باق إفك فرعون فيكم ... فإن عصا موسى بكف خصيب رماكم أمير المؤمنين بحية ... أكول لحيات البلاد شروب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 ألم تر أن السحرة لم يتكلفوا تغليط الناس والتمويه عليهم إلا بالعصا ولا عارضهم موسى إلا بعصاه، ألا ترى أنهم لما سحروا أعين الناس واسترهبوهم بالعصي والحبال لم يجعل الله للحبال من الفضيلة في إعطاء البرهان ما جعل للعصا؟ وقدرة الله على تصريف الحبال في الوجوه كقدرته على تصريف العصا. ثم تحدث الجاحظ بأسلوبه العذب السمح عن الشجر ومنافعها مما تأتي الاشارة إليه في حينه، وأورد قصصا مأثورة عن الانتفاع بالعصا، وما كان لها عند العرب من شأن فأورد قصة عامر بن الظرب العدواني- حكم العرب في الجاهلية- لما أسنّ واعتراه النسيان أمر بنته «عمرة» أن تقرع بالعصا إذا هو فهّ عن الحكم وجار عن القصد وكانت من حكيمات بنات العرب، حتى جاوزت في ذلك مقدار صحر بنت لقمان، وهند بنت الخس وخمعة بنت حابس وكان يقال لعامر ذو الحلم ولذلك قال الحارث بن وعلة: وزعمتم أن لا حلوم لنا ... إن العصا قرعت لذي الحلم وقال الفرزدق: فإن كنت أنساني حلوم مجاشع ... فإن العصا كانت لذي الحلم تقرع قلت: قلت: هذا ما رواه الجاحظ بصدد قرع العصا، وليس هذا القول حاسما ففي أول من قرعت له العصا خلاف طويل فقيل هو عامر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 180 ابن الظرب كما ذكر الجاحظ وقيل هو قيس بن خالد ذو الجدين وقيل هو عمرو بن حممة الدوسي ولكن الأشهر ما رواه الجاحظ. وذكر العصا عندهم يجري في معان كثيرة تقول العرب: «العصا من العصية، والأفعى بنت حية» تريد أن الأمر الكبير يحدث عن الأمر الصغير، ويقال: طارت عصا فلان شققا ويقال: فلان شق عصا المسلمين ولا يقال شق ثوبا ولا غير ذلك مما يقع عليه اسم الشق وقال المضرّس الأسدي: وألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر ويقال لبني أسد «عبيد العصا» يعنى أنهم ينقادون لكل من حالفوا من الرؤساء وتسمي العرب كل صغير الرأس «العصا» وكان عمرو بن هبيرة صغير الرأس قال سويد بن كراع العكلي: فمن مبلغ رأس العصا أن بيننا ... ضغائن لا تنسى وإن قدم الدهر وكان والبة بن الحباب الأسدي أحد من أخذ عنهم أبو نواس وكان شاعرا ماجنا صغير الرأس فقال أبو العتاهية في رأس والبة ورؤوس قومه: رؤوس عصي كنّ من عود أثلة ... لها قادح يفري وآخر مخرب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 181 قلت: قلت: هذا وكان والبة قد هاجى بشارا وأبا العتاهية فغلباه وفر الى الكوفة منهما ومما قاله في أبي العتاهية: كان فينا يكنى أبا اسحق ... وبها الركب سار في الآفاق فتكنى معتها بعتاه ... يا لها كنية أتت باتفاق حلق الله لحية لك لا تنفك معقودة بداء الحلاق ودخل عمرو بن سعد بن أبي وقاص على عمر بن الخطاب حين رجع اليه من عمل حمص وليس معه إلا جراب وإداوة وقصعة وعصا فقال له عمر: ما الذي أرى بك من سوء الحال، أم ما تصنع؟ فقال: وما الذي تراني؟ ألست تراني صحيح البدن، معي الدنيا بحذافيرها؟ قال: وما معك من الدنيا؟ قال معي جرابي أحمل فيه زادي، ومعي قصعتي أغسل فيها ثوبي، ومعي إداوتي أحمل فيها مائي لشرابي، ومعي عصاي إن لقيت عدوا قاتلته، وإن لقيت حية قتلتها، وما بقي من الدنيا تبع لما معي. ومن جميل القول في العصا وما يجوز فيها من المنافع والمرافق تفسير شعر غنيه الاعرابية في شأن ابنها وذلك انها كان لها ابن شديد العرامة كثير التلفت الى الناس مع ضعف أسر، ودقة عظم، فواثب مرة فتى من الأعراب فقطع الفتى أنفه وأخذت غنية دية أنفه فحسنت حالها بعد فقر مدقع ثم واثب آخر فقطع أذنه فأخذت الدية فزادت دية أذنه في المال وحسن الحال ثم واثب بعد ذلك آخر فقطع شفته فلما رأت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 182 ما قد صار عندها من الإبل والغنم والمتاع والكسب بجوارح ابنها حسن رأيها فيه فذكرته في أرجوزة لها تقول فيها: أحلف بالمروة حقا والصفا ... أنك خير من تفاريق العصا فقيل لابن الأعرابي: ما تفاريق العصا؟ قال: العصا تقطع ساجورا وتقطع عصا الساجور فتصير أوتادا ويفرق الوتد فتصير كل قطعة شظاظا فإن كان رأس الشظاظ كالعلكة صار للبختي مهارا وهو العود الذي يدخل في أنف البختي (والبختي الجمل الخراساني) وإذا فرق المهار جاءت منه تواد والسواجير تكون للكلاب والأسرى من الناس. وسئل عن قوله «ولي فيها مآرب أخرى» قال: لست أحيط بجميع مآرب موسى عليه السلام ولكني سأنبئكم جملا تدخل في باب الحاجة الى العصا من ذلك: انها تحمل للحية والعقرب والذئب والفحل الهائج ولعير العانة في زمن هيج الفحول وكذلك فحول الجحور في المروج ويتوكأ عليها الكبير الدانف والسقيم المدنف والأقطع الرجل والأعرج فإنها تقوم مقام رجل أخرى، وقال أعرابي مقطوع الرجل: الله يعلم أني من رجالهم ... وإن تخدّد عن متنيّ أطماري وإن رزئت يدا كانت تجمّلني ... وإن مشيت على زج ومسمار والعصا تنوب للأعمى عن قائده وهي للقصار والفاشكار والدباغ ومنها المفأد للملّة (أي الخشبة يحرك بها الرماد الحار) والمحراك للتنور وهي لدق الجص والجبسين والسمسم ولخبط الشجر وللفيج (ساعي البريد والدولة) وللمكاري فانهما يتخذان المخاصر فإذا طال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 183 الشوط وبعدت الغاية استعانا في حضرهما وهرولتهما في أضعاف ذلك بالاعتماد على وجه الأرض وهي تعدل من ميل المفلوج وتقيم من ارتعاش المبرسم (المصاب بمرض البرسام) ويتخذها الراعي لغنمه، وكل راكب لمركبه، ويدخل عصاه في عروة المزود ويمسك بيده الطرف الآخر وربما كان أحد طرفيها بيد رجل والطرف الآخر بيد صاحبه وعليها حمل ثقيل، وتكون- إن شئت- وتدا في حائط وإن شئت ركزتها في الفضاء وجعلتها قبلة وإن شئت جعلتها مظلة وإن جعلت فيها زجا كانت عنزة وإن زدت فيها شيئا كانت عكازا، وإن زدت فيها شيئا كانت مطردا وإن زدت فيها شيئا كانت رمحا، والعصا تكون سوطا وسلاحا. ونجتزئ بما تقدم من كتاب الجاحظ ونعود الى مآرب موسى فقد ذكر في الكشاف «وقيل في المآرب كانت ذا شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والحلاب وغيرها وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل، وإذا قصر رشاؤه وصله بها وكان يقاتل بها السباع عن غمه» . 3- الاستعارة المكنية: في قوله «وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ» الجناح معروف وقيل لكل ناحيتين جناحان كجناحي العسكر، وجناحا الإنسان جنباه والأصل المستعار منه جناحا الطائر سميا جناحين لأنه يجنحهما عند الطيران أي يميلها والمراد الى جنبك تحت العضد دل على ذلك قوله تخرج. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 184 4- الاحتراس والكناية: وفي قوله «تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» فن الاحتراس وقد تقدم ذكره والسوء الرداءة والقبح في كل شيء فكني به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوءة وكان جذيمة بن الوضاح أبرص فكنوا عنه بالأبرش لأن البرص أبغض شيء الى العرب وبهم عنه نفرة عنبسة فكان جديرا أن يكنى عنه ولا أحسن ولا ألطف من كنايات القرآن كما يأتي ولو أنه لم يذكر من غير سوء لتوهم أن البياض قد ازداد حتى صار برصا فأتى بقوله من غير سوء دفعا لذلك التوهم. [سورة طه (20) : الآيات 24 الى 35] اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) اللغة: (وَزِيراً) : مشتق من الوزر لأنه يتحمل عن الملك أوزاره أي أثقاله فهو معين على أمر الملك وقائم بأمره وقيل بل هو مشتق من الوزر بفتحتين وهو الملجأ ومنه قوله تعالى: «كَلَّا لا وَزَرَ» وقيل بل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 185 هو مشتق من المؤازرة وهي المعاونة وفي القاموس الأزر الإحاطة والقوة والضعف فهو من الأضداد، والتقوية والظهر. الإعراب: (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) اذهب فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت والى فرعون متعلقان باذهب وان واسمها وجملة طغى خبرها وجملة إنه طغى تعليلية لا محل لها. (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ورب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة واشرح فعل دعاء ولي متعلقان باشرح وصدري مفعول به وذكر كلمة لي لفائدة سترد في باب البلاغة. (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) عطف على اشرح لي صدري. (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) عطف على اشرح وعقدة مفعول به ومن لساني متعلقان بمحذوف صفة لعقدة كأنه قيل عقدة من عقد لساني وسيأتي ما قيل في العقدة في باب البلاغة. (يَفْقَهُوا قَوْلِي) يفقهوا فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب والواو فاعل وقولي مفعول به. (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) (هارُونَ أَخِي) الواو عاطفة واجعل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولي في محل نصب مفعول ثان ووزيرا مفعول به أول ومن أهلي صفة لوزيرا وهارون بدل من وزيرا وأخي بدل من هارون ويجوز أن يكون وزيرا مفعولا ثانيا وهارون مفعولا أول وقدم الثاني عليه اعتناء بأمر الوزارة ولي متعلقان بمحذوف حال أو بنفس الجعل ومن أهلي صفة ويجوز أن يكون وزيرا هو المفعول الاول ومن أهلي هو الثاني وجميع هذه الأوجه متساوية الرجحان. (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) اشدد فعل دعاء وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت وبه متعلقان باشدد وأزري مفعول به وأشركه عطف على اشدد والهاء مفعول به وفي أمري الجزء: 6 ¦ الصفحة: 186 متعلقان باشركه وقرئ اشدد وأشركه مضارعين مجزومين بالطلب. (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً) (وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) كي حرف مصدرية ونصب واستقبال وسيأتي بحثها في باب الفوائد ونسبحك فعل مضارع منصوب بكي وفاعل نسبحك ضمير مستتر تقديره نحن وكثيرا صفة لمصدر محذوف أو صفة لظرف محذوف فهي مفعول مطلق أو مفعول فيه ونذكرك كثيرا عطف على نسبحك كثيرا. (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) إن واسمها وجملة كنت خبر والتاء اسم كنت وبنا متعلقان ببصيرا وبصيرا خبر كنت. البلاغة: 1- الزيادة: زيادة «لي» في قوله تعالى «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي» والكلام تام بدونها وقد ذكر الزمخشري سرا ونذكر الثاني فيما بعد قال: «فإن قلت «لي» من قوله اشرح لي صدري ويسر لي أمري ما جدواه والكلام مستتب بدونه، قلت: قد أبهم الكلام أولا فقيل اشرح لي ويسر لي فعلم أن ثم مشروحا وميسرا ثم بين ورفع الإبهام بذكرهما فكان آكد لطلب الشرح والتيسير لصدره وأمره» أما السر الثاني فهو أن تكون فائدتها الاعتراف بأن منفعة شرح الصدر وتيسير الأمر راجعة إليه وعائدة عليه فإن الله عز وجل لا ينتفع بإرساله ولا يستعين بشرح صدره تعالى وتقدس. 2- التنكير: وفي تنكير العقدة من قوله تعالى «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي» دلالة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 187 على أنه لم يسأله حل جميع عقد لسانه بل حل بعضها الذي يمنع الافهام بدليل قوله «يفقهوا قولي» كأنه قال واحلل عقدة من عقد لساني وهذه العقدة ناشئة كما يروى عن جمرة وضعها في فمه وهو صغير وقصتها في المطولات. الفوائد: بحث كي: (كَيْ) أحد أحرف النصب وهي قسمان: 1- المصدرية وهي الداخل عليها اللام لفظا نحو لكي لا تأسوا أو تقديرا نحو جئتك كي تكرمني إذا قدرت الأصل لكي وانك حذفت اللام استغناء عنها بنيتها فإن لم تقدر اللام فهي: 2- التعليلية، فأما المصدرية فناصبة بنفسها وأما التعليلية فجارة والناصب بعدها أن مضمرة لزوما في النثر وقد تظهر في الشعر: فقالت أكل الناس أصبحت مانحا ... لسانك كيما ان تغرّ وتخدعا وهذا مذهب سيبويه والخليل وجمهور البصريين أما الكوفيون فيرون أن كي ناصبة دائما تقدمتها اللام أو لم تتقدمها. قال أبو حيان: وأجمعوا على أنها يجوز الفصل بينها وبين معمولها بلا النافية وما الزائدة وأما الفصل بغير ما ذكر فلا يجوز عند البصريين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 188 [سورة طه (20) : الآيات 36 الى 40] قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) اللغة: (السؤل) : الطلبة وهو فعل بمعنى مفعول كالخبز بمعنى المخبوز والأكل بمعنى المأكول. (التَّابُوتِ) : الصندوق من خشب. (الْيَمِّ) : البحر وأراد به نهر النيل. الإعراب: (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) جملة قد أوتيت مقول القول وأوتيت فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل وسؤلك مفعول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 189 به ثان لأوتيت. (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ومننا فعل وفاعل وعليك متعلقان بمننا ومرة ظرف أو مفعول مطلق وأخرى صفة لمرة. (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى) إذ ظرف يفيد هنا التعليل وهو متعلق بمننا وجملة أوحينا مضافة إليها الظرف والى أمك متعلقان بأوحينا وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر هو مفعول مطلق أو موصولة فهي نائب فاعل وجملة يوحى صلة وهي تفيد الإبهام وسترد في باب البلاغة. (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ) أن مفسرة لأن الوحي بمعنى القول واقذفيه فعل أمر وفاعل ومفعول به وفي التابوت متعلقان باقذفيه، فاقذفيه في اليم عطف على فاقذفيه في التابوت ولم تختلف الضمائر لأن المقذوف هو موسى عليه السلام. (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) الفاء عاطفة واللام لام الأمر ويلقه فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وعلامة جزمه حذف حرف العلة والهاء مفعول به واليم فاعل وهذا أمر معناه الخبر ولكونه أمرا لفظا جزم جوابه في قوله يأخذه وسيأتي مزيد بيان له في باب البلاغة وبالساحل متعلقان بيلقه أو بمحذوف حال أي ملتبسا به ويأخذه جواب الطلب والهاء مفعول وعدو فاعل ولي صفة وعدو له عطف على عدو لي. (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) الواو حرف عطف وألقيت فعل وفاعل وعليك متعلقان بألقيت ومحبة مفعول به ومني صفة لمحبة أي محبة عظيمة كائنة مني فلا جرم أحبك كل من رآك ويجوز تعليق مني بألقيت ولتصنع عطف على علة مضمرة مفهومة من سياق الكلام أي لتحب من الناس، ولتصنع: اللام للتعليل وتصنع فعل مضارع مبني للمجهول منصوب بأن مضمرة بعد اللام وعلى عيني حال أي لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك ومراقبك وكالئك وسيأتي بحث المجاز المرسل هنا في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 190 باب البلاغة. (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ؟) إذ ظرف للتعليل متعلق بألقيت أو بتصنع أو بمحذوف تقديره اذكر وجملة تمشي مضاف إليها الظرف وأختك فاعل فتقول عطف على تمشي وهل حرف استفهام وأدلكم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وعلى من متعلقان بأدلكم وجملة يكفله صلة. (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) الفاء عاطفة على محذوف للايجاز تقديره فأجيبت الى طلبها فجاءت أمه فقبل موسى ثديها. ورجعناك فعل وفاعل ومفعول به والى أمك متعلقان برجعناك وكي حرف ناصب وتقر منصوب بكي وعينها فاعل ولا تحزن عطف على كي تقر. (وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) وقتلت فعل وفاعل ونفسا مفعول قتل وقد قتل موسى القبطي بمصر واسمه قاب قان وكان طباخا لفرعون وكانت سن موسى إذ ذاك ثلاثين سنة، فنجيناك الفاء عاطفة ونجيناك فعل وفاعل ومفعول به ومن الغم متعلقان بنجيناك وفتناك فعل وفاعل ومفعول به وفتونا مفعول مطلق إذا كان مصدرا وهو الأرجح كالقعود والجلوس والشكور والثبور واللزوم أو منصوب بنزع الخافض إذا كان جمع فتنة أي بضروب من الفتن والمعنى ابتليناك وامتحناك بأنواع من الشدائد. (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) الفاء عاطفة ولبثت فعل وفاعل وسنين ظرف زمان متعلق بلبثت قيل مكث عند النبي شعيب في مدين عشر سنوات وتزوج خلالها ابنته وقيل ثمانيا وعشرين سنة منها مهر ابنته وهو عشر حجج حيث قضى أوفى الأجلين، وفي أهل مدين متعلقان بلبثت ومدين مضاف لأهل ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث ثم حرف عطف وجئت فعل وفاعل وعلى قدر حال أي موافقا لما قدر لك أو مستقرا على قدر معين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 191 ويا موسى نداء، وقد اقتبس هذا التركيب جرير بقوله مادحا عمر ابن عبد العزيز: أتى الخلافة أو كانت له قدرا ... كما أتى ربه موسى على قدر البلاغة: فنون هذه الآيات البيانية كثيرة جدا نورد أهمها فيما يلي: 1- التفسير بعد الإبهام: فأولها التفسير بعد الإبهام وهذا النوع يؤتى به لتفخيم أمر المبهم وإعظامه لأنه يطرق السمع بعد أن كان متعلقا بشيء مبهم فتترنح الجوارح، ويذهب بلب السامع كل مذهب وعلى هذا النحو جاء قوله تعالى «قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى، وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى» فابهم الكلام وأتى به مجملا ليتعلق الذهن، ويتطلع ما عسى أن يكون السؤال؟ وما هي المنة الأخرى؟ وما عسى أن يردفها من منن وآلاء؟ انه يتشوف للمعرفة، ويحاول اكتناه الحقيقة فيأتي قوله بعد ذلك مفسرا ما أبهم، فيقول «إذ أوحينا الى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم» فإن قلت ما هي المنة الأولى؟ وما هي المنة الثانية؟ وهل بعد ذلك من منن؟ قلت ان مجموع المنن التي امتن الله بها على نبيه موسى ثماني منن: آ- قوله إذ أوحينا إلى قوله «وعدو له» . ب- قوله: «وألقيت عليك محبة مني» إلخ.. ج- قوله: «ولتصنع على عيني» الى قوله «من يكفله» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 192 د- قوله: «فرجعناك الى أمك» الى قوله «ولا تحزن» . هـ- قوله: «وقتلت نفسا فنجيناك من الغم» . وقوله: «وفتناك فتونا» . ز- قوله: «فلبثت في أهل مدين» الى قوله «يا موسى» . ح- قوله: «واصنعتك لنفسي» . 2- الإبهام: أما الإبهام المجرد فقوله «ما يوحى» وهو كثير شائع في القرآن الكريم ومثله في الشعر قول دريد بن الصمة في رثاء أخيه: صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل: ابعد وسيرد منه المزيد المطرب. 3- المجاز العقلي: المجاز العقلي: في قوله تعالى «فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ» أسند الإلقاء الى اليم وهو لا يعقل ولكنه يمثل مشيئة الله وإرادته التي لا تخطئ ولا يعزب عنها شيء، أسند اليه الإفضاء المقرر في عالم الغيب ودنيا المشيئة كأنه ذو تمييز يطيع الأمر ويمتثل رسمه. 4- التنكير: نكر المحبة وأسندها اليه سبحانه، لأمرين هامين: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 193 1- ما في التنكير من الفخامة الذاتية كأنها محبة تعلو على الحب المتعارف المتبادل بين المخلوقات. 2- ما في إسنادها اليه من الفخامة الاضافية أي محبة عظيمة مني وقد زرعتها في القلوب وركزتها في السرائر ومنطويات الضمائر فسبحان المتكلم بهذا الكلام. 5- المجاز المرسل: في قوله على عيني مجاز مرسل فقد أراد بالعين المحبة أي على المحبة مني لأن العين رائدها وسببها فالعلاقة السببية قال أبو عبيدة وابن الأنباري: إن المعنى لتغذى على محبتي وإرادتي تقول أتخذ الأشياء على عيني أي على محبتي، قال ابن الأنباري: العين في هذه الآية يقصد بها قصد الارادة والاختيار، من قول العرب: فلان على عيني أي على المحبة مني قيل واللام متعلقة بمحذوف أي فعلت ذلك لتصنع وقيل متعلقة بألقيت. [سورة طه (20) : الآيات 41 الى 47] وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 194 اللغة: (وَاصْطَنَعْتُكَ) : اخترتك لي من بين الناس جميعا، وسيأتي المزيد من بحث المجاز في هذا التعبير الرشيق. (تَنِيا) : تفترا والونى الفتور والتقصير يقال ونى يني ونيا كوعد يعد وعدا إذا فتر والاسم الونى وهو الفتور وونى فعل لازم لا يتعدى وزعم بعض النحاة انه يكون من أخوات زال وانفك فيعمل عملهما بشرط النفي يقال: ما وني زيد قائما أي ما زال زيد قائما وفي المصباح: وني في الأمر ونيا من باب تعب ووعد ضعف وفتر فهو وان وفي التنزيل «ولا تنيا في ذكري» وتوانى في الأمر توانيا: لم يبادر الى ضبطه ولم يهتم به فهو متوان أي غير مهتم ولا محتفل» وهو في الآية من باب وعد لأجل كسر النون إذ لو كان من باب تعب لكان بفتحها وقد أشار في الأساس إلى إمكان عمل هذا الفعل عمل لا يزال قال: «ولا يني يفعل: لا يزال يفعل وامرأة وناة: فيها فتور» وفي القاموس: «الونى كفتى التعب والفترة ضد ويمد ونى يني ونيا وونيا ووناء وونية ونية وونى وأوناه وتوانى هو وناقة وانية: فاترة طليح وامرأة وناة وأناة وإنية: حليمة بطيئة القيام والقعود والمشي والمينا مرفأ السفينة ويمد وجوهر الزجاج والونية كاللؤلؤة كالوناة أو العقد من الدر» . (يَفْرُطَ) : يقال فرط يفرط من باب قعد علينا فلان إذا عجل بمكروه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 195 الإعراب: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) فعل ماض وفاعل ومفعول به ولنفسي متعلقان به. (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) اذهب فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وأنت ضمير منفصل تأكيد للضمير المستتر والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير المراد بالاصطناع وأخوك عطف على الضمير المرفوع وعلامة رفعه الواو والكاف مضاف اليه وبآياتي حال لأن الباء للمصاحبة أي مصحوبين بآياتي ومعتصمين بها وليست للتعدية لأن المراد إظهار الآيات للناس لا مجرد الذهاب الى فرعون والواو حرف عطف ولا ناهية وتنيا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والألف فاعل وفي ذكري متعلقان بتنيا، قيل «في» هنا بمعنى عن أي عن عبادتي ولم أره لأحد فالأولى أن تبقى على حقيقتها من الظرفية كأنه اشتمل على التقصير، لكن قال في المغني «والظاهر أن معنى ونى عن كذا جاوزه ولم يدخل فيه وونى فيه دخل فيه وفتر» وهذا يرجح انها للظرفية لا للمجاوزة. (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) اذهبا فعل وفاعل والى فرعون متعلقان باذهبا وان واسمها وجملة طغى خبرها. (فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) الفاء عاطفة وقولا فعل أمر وفاعل وله متعلقان بقولا وقولا مفعول مطلق ولينا صفة ولعل واسمها وجملة يتذكر خبرها أو حرف عطف ويخشى عطف على يتذكر وسيأتي معنى الترجي هنا وبصورة عامة في باب الفوائد. (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) قالا فعل ماض وفاعل وربنا منادى مضاف وإن واسمها وجملة نخاف خبرها وأن وما في حيزها مفعول نخاف وعلينا متعلقان بيفرط أو حرف عطف أن يطغى عطف على أن يفرط. (قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) لا ناهية وتخافا فعل مضارع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 196 مجزوم بلا والألف فاعل وجملة لا تخافا مقول القول وجملة إنني معكما تعليلية لعدم الخوف وان واسمها والظرف متعلق بمحذوف خبرها وجملة أسمع خبر ثان أو حالية وأرى عطف على أسمع. (فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) فأتياه الفاء هي الفصيحة وأتياه فعل أمر وفاعل ومفعول به فقولا عطف على فأتياه وإن واسمها ورسولا خبرها وربك مضاف اليه. (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ) الفاء هي الفصيحة أيضا وأرسل فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت ومعنا ظرف مكان متعلق بأرسل وبني إسرائيل مفعول به ولا تعذبهم لا ناهية وتعذبهم مجزوم بلا والهاء مفعول به. (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) جملة قد جئناك حالية جرت من جملة إنا رسولا ربك مجرى البيان والتفسير لأن دعوى الرسالة لا تثبت إلا مدعومة بالآيات والدلائل الظاهرة الدالة عليها وقد حرف تحقيق وجئناك فعل ماض وفاعل ومفعول به وبآية متعلقان بجئناك ومن ربك صفة لآية والواو استئنافية والسلام مبتدأ وعلى من اتبع الهدى خبر. الفوائد: اهتم العلماء اللغويون والنحاة بمعنى الرجاء في قوله تعالى «لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» وسنلخص الأوجه التي ذكرها هؤلاء لأن إيرادها بنصوصها لا يتسع له المجال، فالرجاء يحتمل الأمور التالية: 1- أن يكون الترجي هنا على بابه وذلك بالنسبة الى المرسل وهو موسى وهارون أي اذهبا على رجائكما في إيمانه وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله فهو يفرغ جهده ويبذل ما في وسعه ويستحيل أن يرد ذلك في حق الله تعالى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 197 إذ هو عالم بالعواقب والمغاب وعن سيبويه «كل ما ورد في القرآن من لعل وعسى فهو من الله واجب» وهذا صريح في أن الترجي يستحيل بقاؤه على معناه في حق الله تعالى. 2- ان لعل تفيد التعليل فهي بمثابة كي وهذا قول الفراء قال: كما تقول: اعمل لعلك تأخذ أجرك أي كي تأخذ أجرك. 3- انها استفهامية أي هل يتذكر ويخشى وهذا قول مردود لأنه يستحيل الاستفهام في حق الله تعالى. ما يقوله النحاة: ويقول النحاة إن لعل للتوقع وعبر عنه قوم بالترجي في الشيء المحبوب نحو لعل الحبيب قادم ومنه قوله تعالى: «لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» والإشفاق في الشيء المكروه نحو «فلعلك باخع نفسك» أي قاتل نفسك والمعنى أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على ما فاتك من إسلام قومك وقد تقدم بحثه والإشفاق لغة الخوف يقال أشفقت عليه بمعنى خفت عليه وأشفقت منه بمعنى خفت منه وحذرته. وقال الأخفش والكسائي: وتأتي لعل للتعليل نحو: ما يقول الرجل لصاحبه: افرغ من عملك لعلنا نتغدى واعمل عملك لعلك تأخذ أجرك أي لنتغدى ولتأخذ، ومنه «لعله يتذكر» أي ليتذكر وقال في المغني: ومن لم يثبت ذلك يحمله على الرجاء ويصرفه للمخاطبين أي اذهبا على رجائكما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 198 [سورة طه (20) : الآيات 48 الى 55] إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) الإعراب: (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) إن واسمها وجملة قد أوحي خبر وإلينا متعلقان بأوحي وأن وما في حيزها في تأويل مصدر نائب فاعل لأوحى وأن واسمها وعلى من خبرها وجملة كذب صلة وتولى عطف على كذب. (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) أي فأتياه وقالا جميع ما ذكر، فالفاء عاطفة على مقدر ومن اسم استفهام مبتدأ وربكما خبر والجملة مقول القول ولم يذكر هارون لأنه تبع وردء ووزير له وقيل غير ذلك مما لا طائل تحته. (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 199 ثُمَّ هَدى) ربنا مبتدأ والذي خبره وجملة أعطى صلة وكل شيء مفعول به أول وخلقه مفعول به ثان وقيل خلقه أول مفعولي أعطى وكل شيء ثانيهما وقدم للاهتمام أي أعطى خليقته «وهي جمع الخلائق» كل شيء يحتاجون اليه وقرئ خلقه على أنه فعل والمفعول الثاني محذوف للعلم. ثم هدى عطف على أعطى أي أعطى كل شيء صورته وأفرغه في مسلاخه الخليق بما نيط به من خصائص ومنافع وهدى كل مخلوق إلى ما خلق له، وفي هذا الإيجاز كلام طويل يطالعه القارئ في باب البلاغة. (قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) الفاء عاطفة وما استفهام مبتدأ وبال خبر والقرون مضاف اليه والأولى صفة. (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) علمها مبتدأ وعند ربي الظرف متعلق بمحذوف خبر وفي كتاب حال أو في كتاب هو الخبر وعند ربي حال أو هما خبران أو هما خبر واحد على حد قولك الرمان حلو حامض أي مز وجملة لا يضل مستأنفة وقيل صفة لكتاب والعائد محذوف تقديره في كتاب لا يضله ربي أو لا يضل حفظه ربي، وربي فاعل يضل ولا ينسى عطف على لا يضل وسيأتي في باب الفوائد ما قاله العلماء في معنى هذه الآية. (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا) الذي خبر لمبتدأ محذوف أي هو وجملة جعل صلة ولكم حال لأنه كان صفة لمهادا والأرض مفعول به أول ومهادا مفعول به ثان وسلك فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو ولكم متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لسبلا وفيها متعلقان بسلك وسبلا مفعول به. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) وأنزل عطف على ما تقدم ومن السماء متعلقان بأنزل وماء مفعول به فأخرجنا الفاء عاطفة وأخرجنا فعل وفاعل وبه متعلقان بأخرجنا وأزواجا مفعول به ومن نبات صفة لأزواجا وشتى صفة لأزواجا أو حال منه لأنه وصف وأجاز الزمخشري الجزء: 6 ¦ الصفحة: 200 أن يكون صفة للنبات. (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) كلوا فعل أمر وفاعل والجملة معمولة لحال محذوفة أي قائلين أو آذنين في الانتفاع بها، مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها وارعوا عطف على كلوا وأنعامكم مفعول به لارعوا وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبر إن المقدم ولآيات اللام المزحلقة وآيات اسم إن المؤخر ولأولي النهى صفة لآيات والنهى مضاف لأولي وهي جمع نهيه وقيل اسم مفرد. (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) منها متعلقان بخلقناكم وفيها متعلقان بنعيدكم ومنها متعلقان بنخرجكم وتارة ظرف متعلق بنخرجكم وأخرى صفة لتارة. البلاغة: 1- الإيجاز: في قوله تعالى «ثُمَّ هَدى» إيجاز بليغ لأنه حذف جملا لا يقع عليها الحصر لأنه ليس بالمتاح إحصاء المخلوقات الحية وغير الحية، العاقلة وغير العاقلة التي خلقها الله ولكل منها عمله الميسر له على حد قوله صلى الله عليه وسلم «كل ميسر لما خلق له» فمن العسير بل من المستحيل أن يتحدث أحد عن المرتفقات العامة وإعطاء كل مرتفق الى صاحبه المخلوق له الذي عرف كيف يرتفق بما أعطي وكيف يتوصل اليه ولهذا أحسن الزمخشري بقوله: «ولله در هذا الجواب ما أحصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الانصاف وكان طالبا للحق» ثم إن للايجاز فائدة أخرى وهي أن فرعون أراد أن يصرف موسى عليه السلام بعد أن أوشك أن يفضحه ويبطل خرافاته، الى ما لا يعنيه من الأمور التي لا تعلق لها بالرسالة من الحكايات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 201 والأساطير فأجابه موسى بأن ذلك ليس من خصائص الرسالة وانما علمه عند ربي فلما سأله عن ربه أوجز الكلام على هذا الشكل البديع. 2- الالتفات: من الغيبة الى لفظ التكلم على الحكاية لكلام الله عز وجل والفائدة منه التنبيه على ظهور ما في الأرض من الدلالة على كمال القدرة الإلهية والحكمة التي لا تطيش وانقياد المخلوقات جميعا لمشيئته وقيل لا التفات في الكلام لأنه يشترط في الالتفات أن يكون في كلام المتكلم الواحد يصرف كلامه على وجوه شتى وما نحن فيه ليس من ذلك فإن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام قوله لفرعون: علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ثم قوله: الذي جعل لكم الأرض مهادا الى قوله فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى فإما أن يجعل من قول موسى فيكون من باب قول خواص الملك: أمرنا وعمرنا وانما يريدون الملك وليس هذا بالتفات وإما أن يكون كلام موسى قد انتهى عند قوله: ولا ينسى ثم ابتدأ الله تعالى وصف ذاته بصفات انعامه على خلقه فليس التفاتا أيضا وانما هو انتقال من حكاية الى إنشاء خطاب. وقد يبدو هذا الرد وجيها لأول وهلة ولكن نذكر أن موسى وصف الله تعالى بهذه الصفات على لفظ الغيبة فقال: الذي جعل لكم الأرض مهادا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرج به أزواجا من نبات شتى فلما حكاه الله تعالى عنه أسند الضمير الى ذاته لأن الحاكي هو المحكي في كلام موسى فمرجع الضميرين واحد وهذا الوجه دقيق وهو أقرب الوجوه الى الالتفات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 202 الفوائد: حول «لا يضل ربي ولا ينسى» : أقرب ما يقال في نفي الضلال والنسيان عن الله تعالى وهو غني عن النفي لأنه علام الغيوب أن يقال هو من باب التعريض والمعنى: ان كل كائن محيط به علمه وهو مثبت عنده في كتاب ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان كما يجوز عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل، أي لا يضل كما تضل أنت يا مدعي الربوبية بالجهل والصلف والوقاحة. وقال القفال: «هناك فرق بين يضل وينسى أي لا يضل عن الأشياء ومعرفتها وما علمه من ذلك لم ينسه فاللفظ الاول إشارة الى كونه عالما بكل المعلومات واللفظ الثاني دليل على بقاء ذلك العلم أبد الآباد وهو اشارة الى نفي التغير» . هذا، واختلف في معنى لا يضل ربي ولا ينسى على أقوال: الاول: انه ابتداء كلام تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين وقد تم الكلام عند قوله في كتاب. الثاني: ان معنى لا يضل لا يخطئ. الثالث: ان معناه لا يغيب. الرابع: ان معناه لا يحتاج الى كتاب ولا يضل عنه علم شيء من الأشياء ولا ينسى ما علمه منها. الخامس: ان هاتين الجملتين صفة لكتاب والمعنى ان الكتاب غير ذاهب عن الله ولا هو ناس له. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 203 [سورة طه (20) : الآيات 56 الى 63] وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) اللغة: (ضُحًى) : الضحى: شروق الشمس بعد طلوعها وقد سمت العرب ساعات النهار بأسماء فالأولى الذرور ثم البزوغ ثم الضحى ثم الغزالة ثم الهاجرة ثم الزوال ثم الدلوك ثم العصر ثم الأصيل ثم الصبوب ثم الحدور ثم الغروب. ويقال فيها: البكور ثم الشروق ثم الإشراق ثم الرأد ثم الضحى ثم المتوع ثم الزوال ثم الهاجرة ثم الأصيل ثم العصر ثم الطفل ثم الغروب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 204 (فَيُسْحِتَكُمْ) : يهلككم من أسحت الرباعي وهي لغة نجد وتميم أي أهلك ويقال سحت وهي لغة الحجاز وأصل هذه المادة تدل على الاستقصاء والنفاد ومنه سحت الحالق الشعر أي استقصاه فلم يترك منه شيئا ويستعمل في الإهلاك والإذهاب وفي القاموس «سحت يسحت من باب فتح وسحّت بالتشديد اكتسب السحت أي المال الحرام وسحته أهلكه واستأصله وذبحه وسحت الشحم عن اللحم قشره وسحت وجه الأرض محاه وأسحت: أفسده وأهلكه واستأصله» . الإعراب: (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى) اللام جواب لقسم محذوف وقد حرف تحقيق وأريناه فعل ماض من رأى البصرية ولكنها تعدت الى اثنين لدخول همزة النقل عليها ونا ضمير متصل في محل رفع فاعل والهاء مفعول به أول وآياتنا مفعول به ثان وكلها تأكيد لآياتنا فكذب وأبى عطف على أريناه وقد مرت آيات موسى التسع ثم الآيتان الأخيرتان وهما العصا ونزع اليد. (قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو أي فرعون وجملة أجئتنا مقول القول والهمزة للاستفهام الانكاري وجئتنا فعل وفاعل ومفعول به ولتخرجنا اللام للتعليل وتخرج فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ونا مفعول به ومن أرضنا متعلقان بتخرجنا وبسحرك متعلقان بتخرجنا. (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً) الفاء الفصيحة واللام جواب قسم محذوف تقديره والله لنأتينك وبسحر متعلقان بنأتينك ومثله صفة لسحر ويجوز أن يتعلق بسحر بمحذوف حال أي متلبسين بسحر مثله في الغرابة يعارضه ويدحضه، فاجعل الفاء عاطفة واجعل فعل أمر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 205 وفاعله أنت وبيننا ظرف متعلق بمحذوف مفعول به ثان وبينك عطف وموعدا مصدر ميمي مفعول به أول وجملة لا نخلفه صفة لموعدا ونحن تأكيد للضمير في نخلفه والواو عاطفة ولا نافية وأنت عطف على الضمير في نخلفه ومكانا بدل من موعدا بتقدير مضاف أي مكان موعد أو تعرب مكانا منصوبا بنزع الخافض أي في مكان أو تنصبه بالمصدر وهو موعد وسوى صفة أي وسطا وهو بضم الواو وكسرها وهذا وجه من أعاريب أخرى ستأتي في باب الفوائد. (قالَ: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) موعدكم مبتدأ ويوم الزينة خبر وان وما بعدها عطف على يوم الزينة إما على اليوم فيكون محل المصدر الرفع وإما على الزينة فيكون محله الجر والناس نائب فاعل وضحى ظرف متعلق بيحشر وسيأتي بحث يوم الزينة والعلة في اختياره. (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) الفاء عاطفة وتولى فعل ماض وفرعون فاعل فجمع عطف على فتولى وكيده مفعول به على حذف مضاف أي ذوي كيده وهم السحرة ثم حرف عطف وأتى عطف على جمع وعبر بثم للدلالة على انه استغرق وقتا في جمع السحرة ورسم الخطط. (قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً) قال فعل ماض ولهم متعلقان به وموسى فاعل وويلكم مصدر للدعاء أمات العرب فعله فهو منصوب بفعل محذوف ولا ناهية وتفتروا فعل مضارع مجزوم بلا وعلى الله متعلقان بتفتروا وكذبا مفعول به. (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) الفاء فاء السببية ويسحتكم مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية المسبوقة بالنهي وبعذاب متعلقان بيسحتكم وقد الواو حالية وقد حرف تحقيق وخاب فعل ماض ومن فاعل وجملة افترى صلة. (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى) الفاء عاطفة وتنازعوا فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة والواو فاعل وأمرهم مفعول به أو منصوب بنزع الخافض وبينهم ظرف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 206 متعلق بمحذوف حال وأسروا عطف على تنازعوا والنجوى مفعول به أي أخفوها أي انهم تشاوروا في السر. (قالُوا: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) إن مخففة من الثقيلة ومهملة وهذان اسم اشارة للمثنى في محل رفع مبتدأ واللام الفارقة وساحران خبر هذان وجملة يريدان صفة لساحران وان وما في حيزها مفعول يريدان ومن أرضكم متعلقان بيخرجاكم بسحرهما حال أي متلبسين بسحرهما ويذهبا عطف على يخرجاكم وبطريقتكم متعلقان بيذهبا والمثلى صفة لطريقتكم. البلاغة: في قوله «لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى» فن رد العجز على الصدر وسماه المتأخرون التصدير وهو أخف على السمع وأليق بالمقام وقد تقدم البحث فيه ونضيف هنا أن ابن المعتز فسمه ثلاثة أقسام: الأول ما وافق آخر كلمة في المصراع الأول آخر كلمة في المصراع الثاني أو كانت مجانسة لها كقول بعضهم: يلقى إذا ما كان يوم عرمرم ... في جيش رأي لا يفل عرمرم والقسم الثاني ما وافق آخر كلمة في البيت أول كلمة منه كقول الآخر: سريع الى ابن العم يلطم وجهه ... وليس الى داعي الندى بسريع والقسم الثالث ما وافق آخر كلمة في البيت بعض كلمة في الصدر منه كقوله: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 207 سقى الرمل صوب مستهل غمامه ... وما ذاك إلا حب من حل بالرمل وقال الشيخ زكي الدين بن أبي الإصبع: «والذي يحسن أن يسمى القسم الأول تصدير التقفيه والثاني تصدير الطرفين والثالث تصدير الحشو» . والامثلة على ذلك كثيرة. الفوائد: كثر اختلاف المعربين في قوله تعالى «فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً» والحق انه من معضلات التراكيب وقد اخترنا في الاعراب أمثل الوجوه وأقربها الى المنطق وأدناها الى السهولة، بقيت هناك أمور لا بد من إيضاحها: موعدا: اختلف فيه على الأوجه التالية: آ- اسم زمان ويرجحه قوله «قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ» والمعنى عيّن لنا وقت اجتماع ولذلك أجابهم بقوله: «موعدكم يوم الزينة» . ب- اسم مكان ويرجحه قوله «مَكاناً سُوىً» والمعنى بيّن لنا مكانا معلوما نعرفه نحن وأنت فتأتيه. ج- مصدر ميمي بمعنى الوعد ويقدر مضاف محذوف أي مكان وعد ويؤيد هذا قوله «لا نخلفه نحن ولا أنت» لأن المواعدة توصف بالخلف وعدمه وهذا ما اخترناه. فإن جعلته زمانا لزمك شيئان: أن تجعل الزمان مخلفا وأن يفضل عليك ناصب مكانا وان جعلته مكانا لزمك أيضا أن توقع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 208 الأخلاف على المكان وأن لا يطابق قوله موعدكم يوم الزينة فبقى أن يجعل مصدرا بمعنى الوعد ويقدر مضاف محذوف أي مكان موعد ويجعل الضمير في نخلفه للموعد ومكانا بدل من المكان المحذوف. وجوز أبو علي الفارسي وأبو البقاء أن ينتصب مكانا على المفعول الثاني لا جعل قالا وموعدا على هذا مكان أيضا ولا ينتصب بموعدا لأنه مصدر قد وصف يعني أنه يصح مفعولا ثانيا ولكن بشرط أن يكون الموعد بمعنى المكان ليطابق الخبر. وجعل الحوفي انتصاب مكانا على الظرف وانتصابه باجعل فتحصل في نصب مكانا خمسة أوجه: 1- أنه بدل من مكانا المحذوف. 2- انه مفعول ثان للجعل. 3- انه نصب بإضمار فعل. 4- انه منصوب بنفس المصدر. 5- انه منصوب على الظرف بنفس اجعل. وانما أوردنا هذه الأقوال لأنها قريبة ولأن استيعابها مفيد للغاية فتدبر. [سورة طه (20) : الآيات 64 الى 70] فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 209 اللغة: (فَأَجْمِعُوا) : أي ازمعوا كيدكم واجعلوه مجمعا عليه حتى لا تختلفوا كالمسألة المجمع عليها ويقال: اجمعوا الأمر واجمعوا عليه، وفلانة بجمع أي عذراء وضربه بجمع كفه واستجمع لفلان أمره واستجمع السيل واستجمع الفرس جريا قال يصف السراب: ومستجمع جريا وليس ببارح ... تباريه في ضاحي المتان سواعده أي مجاريه واستجمع الوادي إذا لم يبق منه موضع إلا سال وعن بعض العرب: الرّمة وفلج لا يستجمعان إنما يسيلان في نواحيهما وأضواحهما، واستجمع القوم ذهبوا كلهم وجمعوا لبني فلان إذا حشدوا لقتالهم «إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ» وأجمعت القدر غليا قال امرؤ القيس: ونحشّ تحت القدر نوقدها ... بغضا الغريف فأجمعت تغلي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 210 ومن الكناية: فلانة قد جمعت الثياب أي كبرت لأنها تلبس الدرع والخمار والملحفة. (فَأَوْجَسَ) : الإيجاس: الإضمار وايجاس الخوف إضمار شيء منه وكذلك توجس الصوت تسمع نبأة يسيرة منه وكان ذلك لطبع الجبلة البشرية. (تَلْقَفْ) : تبتلع وأصله التناول بسرعة قال في القاموس: لقف يلقف من باب تعب لقفا والتقف الشيء تناوله بسرعة. الإعراب: (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) الفاء الفصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من كونهما ساحرين إلخ فأجمعوا كيدكم واجعلوه مجمعا بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم وأجمعوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وكيدكم مفعول به إذا اعتبرت أجمعوا متعدية وبعضهم لم يعتبرها متعدية فيكون كيدكم منصوبا بنزع الخافض ثم ائتوا عطف على أجمعوا وصفا حال وانما أمرهم بذلك لإدخال الرهبة في صدور الرائين، وقال أبو عبيدة: الصف موضع المجمع ويسمى المصلى الصف قال الزجاج: وعلى هذا معناه ثم ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم يقال أتيت الصف بمعنى أتيت المصلى فعلى هذا يكون انتصابه على المفعولية. وقد الواو اعتراضية وقد حرف تحقيق وأفلح فعل ماض واليوم ظرف متعلق بأفلح ومن فاعل أفلح وجملة استعلى صلة. (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) إما حرف شرط وتفصيل ومعناها هنا التخيير ولا يكون إلا بعد الطلب، وأن وما بعدها في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 211 تأويل مصدر منصوب بفعل محذوف تقديره اختر أحد الأمرين أو مرفوع بأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمر القاؤك أو مبتدأ والخبر محذوف والتقدير إلقاؤك أول وإما أن تكون عطف على ما تقدم واسم نكون مضمر تقديره نحن وأول خبرها ومن مضاف اليه وجملة ألقى صلة. ويجوز أن تكون ان وما في حيزها في محل نصب بفعل مضمر أي اختر إلقاءك أولا أو القاءنا. (قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) بل حرف إضراب وعطف وألقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل فإذا الفاء عاطفة على محذوف تقديره فألقوا فإذا وإذا هذه للمفاجأة وقد تقدم أنها حرف أو ظرف ثم اختلف أهو ظرف مكان أو زمان وسننقل قول الزمخشري فهو غاية الغايات قال: «والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف إليها خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلا مخصوصا وهو فعل المفاجأة والجملة ابتدائية لا غير فتقدير قوله تعالى «فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ» ففاجأ موسى وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم وهذا تمثيل والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي» . وحبالهم مبتدأ وعصيهم عطف عليه وجملة يخيل اليه خبر حبالهم وإذا جعلت إذا خبرا فتكون جملة يخيل إليه حال ومن سحرهم متعلقان بيخيل وأنها وأن واسمها وجملة تسعى خبر أن وأن وما بعدها في تأويل مصدر نائب فاعل ليخيل أي يخيل إليه سعيها وجعل الزمخشري المصدر بدل اشتمال من الضمير في حبالهم وعصيهم. (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) الفاء عاطفة وأوجس فعل ماض، وفي نفسه متعلقان بأوجس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 212 وخيفة مفعول به وموسى فاعل. (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) قلنا فعل وفاعل وجملة لا تخف مقول القول ولا ناهية وتخف فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والفاعل مستتر تقديره أنت وجملة انك مستأنفة كتعليل للنهي عن الخوف الذي ساوره لطبع البشرية من ضعف القلب وان كان متيقنا من أن الله ناصره وأنهم لن يصلوا اليه بسوء وإن واسمها وأنت تأكيد أو ضمير فصل أو مبتدأ والأعلى خبر إن أو خبر أنت والجملة خبر إن وسيأتي الكلام على المبالغة في هذا التعبير في باب البلاغة. (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) وألق الواو عاطفة وألق فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت وما مفعول به وفي يمينك متعلقان بمحذوف صلة ما وسيأتي سر هذا الإبهام في باب البلاغة وتلقف جواب الطلب مجزوم وعلامة جزمه السكون وفاعل تلقف ضمير مستتر تقديره هي وما مفعول به وجملة صنعوا صلة أي ما زوّروه وكذبوا فيه. (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) تعليل لقوله تلقف وإن واسمها وجملة صنعوا صلة وكيد ساحر خبر إن، وقد درج المصحف على كتابة ما متصلة بان، ويجوز أن تكون ما مصدرية والاعراب واحد ولا الواو حالية أو عاطفة ولا نافية ويفلح الساحر فعل مضارع وفاعل وحيث ظرف مكان مبني على الضم متعلق بيفلح وجملة أتى مضافة الى الظرف. (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) الفاء عاطفة على جملة محذوفة تقديرها فألقى موسى عصاه فتلقفت كل ما صنعوه فألقي السحرة فعل ماض مبني للمجهول والسحرة نائب فاعل وسجدا حال من السحرة قالوا فعل وفاعل وجملة آمنا مقول القول وهو فعل وفاعل وبرب هارون وموسى متعلقان بآمنا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 213 البلاغة: في هذه الآيات فنون من البيان تذهل العقول، فأولها: 1- فن الاستدراج وقد تقدم القول فيه وهو بالاضافة الى ما فيه من البلاغة ينطوي على نكت دقيقة في استدراج الخصم واضطراره الى الإذعان والتسليم فقد شاء السحرة في بادئ الأمر استدراج موسى ثقة منهم بأنهم فائزون عليه وكأنما ألهمهم الله حسن الأدب مع موسى في تخييره وإعطائه النصفة من أنفسهم عند ما قالوا «فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً» ففوضوا ضرب الموعد اليه ولكن موسى استدرجهم بإلهام من الله عز وجل أن يجعل موعدهم يوم زينتهم وعيدهم ليكون الحق أبلج على رؤوس الأشهاد فيكون أفضح لكيدهم وأهتك لسترهم ولما استدرجوه الى التخيير في الإلقاء أيكون هو البادئ أم يكونون هم البادئين استدرجهم هو إلى أن يجعلهم مبتدئين بما معهم ليكون القاؤه العصا بعد قذفا بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق فما أروع هذا الكلام. 2- فن توكيد الضميرين، وقد تتساءل وما علاقة البحث النحوي بالبلاغة؟ والضمائر وتوكيد بعضها لبعض مذكورة في كتب النحو ونقول ان المسألة أجلّ وأسمى من النحو، والنحاة بمعزل عن هذا الفن الرفيع ونعني بتوكيد الضميرين أن يؤكد المتصل بالمنفصل كقولك إنك أنت أو يؤكد المنفصل بمنفصل مثله كقولك أنت أنت أو يؤكد المتصل بمتصل مثله كقولك إنك إنك لعالم وانما يؤتى بمثل ذلك في معرض المبالغة وهو من أسرار علم البيان ومن ذلك قوله تعالى «قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ» فإن إرادة السحرة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 214 الإلقاء قبل موسى لم تكن معلومة عنده لأنهم لم يصرحوا بما في أنفسهم من ذلك لكنهم لما عدلوا عن مقابلة خطابهم موسى بمثله الى توكيد ما هو لهم بالضميرين اللذين هما نكون ونحن دلّ ذلك على أنهم يريدون التقدم عليه والإلقاء قبله لأن من شأن مقابلة خطابهم موسى بمثله إن كان قالوا: إما أن تلقي وإما أن نلقي لتكون الجملتان متقابلتين فحيث قالوا عن أنفسهم «وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ» استدل بهذا القول على رغبتهم في الإلقاء قبله ومنه أيضا قوله تعالى «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى» فتوكيد الضميرين هاهنا في قوله إنك أنت الأعلى أنفى للخوف من قلب موسى وأثبت للغلبة والقهر ولو قال: لا تخف إنك الأعلى أنت الأعلى لم يكن له من التقرير والإثبات لنفي الخوف ما لقوله «إنك أنت الأعلى» وفي هذه الكلمات الثلاث ست فوائد: 1- «إن» المشددة التي من شأنها الإثبات لما يأتي بعدها وتأكيده وقد نص علماء المعاني على أن الخبر يكون مع إن طلبيا أو إنكاريا لا ابتدائيا كقولك زيد قائم ثم تقول: إن زيدا قائم ففي قولك إن زيدا قائم من الإثبات لقيام زيد ما ليس في قولك زيد قائم. 2- تكرير الضمير في قوله «إنك أنت» ولو اقتصر على أحد الضميرين لما كان بهذه المثابة في التقرير لغلبة موسى والإثبات لقهره. 3- لام التعريف في قوله «الأعلى» ولم يقل أعلى أو عال لأنه لو قال ذلك لكان قد نكره وكان صالحا لكل واحد من جنسه كقولك رجل فإنه يصلح أن يقع على كل واحد من الرجال وإذا قلت الرجل فقد خصصته من بين الرجال بالتعريف وجعلته علما فيهم وكذلك جاء قوله «إنك أنت الأعلى» أي دون غيرك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 215 4- لفظ أفعل الذي من شأنه التفضيل ولم يقل العالي فهو أعلى من كل عال. 5- لفظ العلو الدال على أن الغلبة ثابتة له من جهة العلو ومعلوم أن الغرض من قوله «الأعلى» الغلبة إلا أن في الأعلى زيادة وهي كونها صادرة عن مكان عال. 6- الاستئناف وهو قوله تعالى: «لا تخف إنك أنت الأعلى» ولم يقل لأنك أنت الأعلى فكان ذلك أبلغ في إيقان موسى عليه السلام بالغلبة والاستعلاء وأثبت ذلك في قرارة نفسه بما لا يدع أي مجال للشك. هذا وقد تقدم نوع من هذا الفن وسيرد غيره في حينه ومواضعه ان شاء الله، بقي أن تتحدث عن اختيار موسى يوم الزينة فما هو هذا اليوم؟ يوم الزينة: قيل فيه يوم عاشوراء، ويوم النيروز، ويوم عيد كان لهم في كل عام وكانوا يتخذون فيه سوقا ويتزينون ويظهرون فيه كل بهارجهم إذ يحشر فيه الناس منذ ضحوة النهار حتى المساء. 3- فن الإبهام: وذلك في قوله «ما في يمينك» فقد أبهمها لأمرين متضادين أولهما استصغار أمرها أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي بيدك فانه بقدرة الله تعالى يتلقفها على وحدته الجزء: 6 ¦ الصفحة: 216 وكثرتها وصغره وعظمها، وثانيهما تعظيم أمرها أي لا تعبأ بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة فإن في يمينك شيئا هو أعظم منها كلها فألقها تمحقها وتطح بها بإذن الله، وقد يقول قائل كيف يحتقر العصا؟ والجواب ان المقصود بتحقيرها في جنب القدرة الإلهية تحقير كيد السحرة بطريق الأولى لأنها إذا كانت وهي الحقيرة الضئيلة التي لا يؤبه بها بالنسبة للقدرة الإلهية قد طاحت بما أتوا به من أضاليل مموّهة وأكاذيب مخترعة فما ظنك بكيدهم وأقل شيء يذهب به وهذا معنى دقيق قل من يتفطن له، وقد رمق سماءه شاعر الخلود أبو الطيب المتنبي فقال من قصيدة يمدح بها بدر بن عمار ويذكر الأسد وقد أعجله فضربه بسوطه: أمعفر الليث الهزبر بسوطه ... لمن ادّخرت الصارم المصقولا؟ والمعنى إذا كنت تلقى هذا الأسد وهو أقوى الحيوانات وأشجعها بسوطك فلمن خبأت صارمك المصقول؟ ولأصحاب البلاغة أيضا طريق في علو المدح بتعظيم جيش عدو الممدوح ليلزم من ذلك تعظيم جيش الممدوح وقد قهره واستولى عليه وقد رمق سماءه أبو الطيب إذ وصف جيش الروم الذي لاقاه سيف الدولة فبالغ في تعظيم أمره وتصوير عدده البالغة والغاية هي أن يتناهى في تعظيم أمر سيف الدولة وجيشه فقال في وصف جيش الروم: أتوك يجرون الحديد كأنهم ... سروا بجياد ما لهن قوائم إذا برقوا لم تعرف البيض منهم ... ثيابهم من مثلها والعمائم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 217 جعل الروم يبرقون لكثرة ما عليهم من الحديد ولم يفرق بين سيوفهم وبينهم لأن على رءوسهم البيض والمغافر وثيابهم الدروع فهم كالسيوف وأشار بهذا الوصف الى كثرة سلاح هذا الجيش تمهيدا للاشارة الى قوته: خميس بشرق الأرض والغرب زحفه ... وفي أذن الجوزاء منه زمازم تجمع فيه كل لسن وأمة ... فما تفهم الحداث إلا التراجم فلله وقت ذوب الغشّ ناره ... فلم يبق إلا صارم أو ضبارم وستأتي تتمة هذا الوصف البديع في موطن آخر من مواطن البلاغة التي رمق أبو الطيب سماء القرآن فيها. نكتة أخرى في الإبهام: وهناك نكتة أخرى سوى قصد التعظيم والتحقير وهي أن موسى عليه السلام أول ما علم أن العصا آية من الله تعالى عند ما سأله: وما تلك بيمينك يا موسى ثم أظهر له تعالى آيتها فلما دخل وقت الحاجة الى ظهور الآية منها قال تعالى: وألق ما في يمينك ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قال الله تعالى له «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ» وقد أظهر له آيتها فيكون ذلك تنبيها له وتأنيسا حيث خوطب بما عهد أن يخاطب به وقت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 218 ظهور آيتها وذلك مقام يناسب التأنيس والتثبيت في موقف يزايل الوقار أشد النفوس قوة ورباطة. 4- فن التكرير: وقد تقدم كثيرا بحثه والاشارة اليه وذكر نماذج رائعة منه وسيأتي المزيد والأكثر وهنا في هذه الآيات تكرر لفظ الإلقاء ولكنه تكرر لم يطرد على وتيرة واحدة وانما هو لفظ واحد في معنيين متضادين متناقضين نقل بهما سبحانه عباده من غاية الكفر والعناد، الى نهاية الايمان والسداد فما أعظم الفرق بين الإلقاءين: لقد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود. ثم ألقوا رءوسهم بعد ساعة للشكر والسجود. [سورة طه (20) : الآيات 71 الى 76] قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 219 الإعراب: (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) جملة آمنتم مقول القول والقائل هو فرعون وآمنتم الهمزة للاستفهام والتقريع والتوبيخ حذفت الهمزة الأولى وسهلت الثانية وهو فعل ماض وفاعل وله متعلقان بآمنتم وقبل ظرف متعلق بآمنتم أيضا وأن آذن لكم المصدر المؤول مضاف لقبل. (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) ان واسمها واللام المزحلقة وكبيركم خبرها والذي صفة وجملة علمكم السحر صلة والسحر مفعول به ثان لعلمكم، أي أن موسى لكبيركم أي معلمكم وأستاذكم وأعلاكم درجة في صناعة السحر، قال الكسائي: الصبي بالحجاز إذا جاء من عند معلمه قال: جئت من عند كبيري، وقال الواحدي: والكبير في اللغة الرئيس ولهذا يقال للمعلم الكبير، وأراد فرعون من ذلك إلقاء الشبهة على الناس وإدخالها في صدورهم ليستريبوا ولا يؤمنوا وإلا فقد علم أنهم لم يتعلموا من موسى ولا كان رئيسا لهم ولا صلة بينه وبينهم. (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) الفاء الفصيحة واللام موطئة للقسم وأقطعن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره أنا وأيديكم مفعول به وأرجلكم عطف على أيديكم ومن خلاف حال بمعنى مختلفة ومن ابتدائية كأن القطع ابتدئ من مخالفة العضو للعضو. (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) الواو حرف عطف ولأصلبنكم عطف على لأقطعن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 220 وفي الظرفية شبه تمكن المصلوب بالجذع بتمكن المظروف في الظرف وهو متعلق بأصلبنكم وسيأتي مزيد بحث عنه في باب البلاغة. (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) ولتعلمن عطف على لأصلبنكم وأينا استفهامية مبتدأ وأشد خبر والجملة في محل نصب سادة مسد مفعولي تعلمن لأن الفعل علق بأي الاستفهامية ويجوز أن تكون أي موصوليه وبنيت لأنها أضيفت وحذف صدر صلتها وقد تقدمت نظائرها كثيرا وعندئذ تكون هي المفعول به لتعلمن وأشد خبرا لمبتدأ محذوف تقديره هو وجملة أشد صلة الموصول وأبقى عطف على أشد. (قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا) لن حرف نفي ونصب واستقبال ونؤثرك مضارع منصوب بلن والكاف مفعول به والفاعل مستتر تقديره نحن والجملة مقول قولهم وعلى ما متعلقان بنؤثرك وجملة جاءنا صلة ومن البينات متعلقان بمحذوف حال والذي عطف على ما وأخروا ذكر الباري من باب تقديم الأدنى على الأعلى وسيرد بحث التقديم والتأخير في باب البلاغة وقيل الواو للقسم والذي مجرور بواو القسم أي مقسم به وهو الله تعالى وفطرنا صلة والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وجواب القسم محذوف تقديره لا نؤثرك على الذي جاءنا من الحق. (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) الفاء الفصيحة واقض فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت وما مفعول به وأنت مبتدأ وقاض خبر مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين وجملة أنت قاض صلة والعائد محذوف أي قاضيه وانما كافة ومكفوفة على الأرجح وتقضي فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره أنت ومفعول تقضي محذوف تقديره لبانتك أو مأربك وهذه ظرف والحياة بدل والدنيا صفة والظرف متعلق بتقضي ويجوز أن تكون ما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 221 موصولة أو مصدرية وهي اسم إن والخبر هو الظرف ويجوز اعراب هذه الحياة الدنيا مفعولا به على السعة. (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) ان واسمها وجملة آمنا خبرها وبربنا متعلقان بآمنا واللام للتعليل ويغفر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ولنا متعلقان بيغفر وما عطف على خطايانا أي ليغفر لنا خطايانا ويغفر لنا أيضا الذي أكرهتنا عليه ولك أن تجعل الواو ابتدائية وما مبتدأ وجملة أكرهتنا صلة والخبر محذوف أي مرفوع عنا وملقى عن كواهلنا وعليه متعلقان بأكرهتنا ومن السحر حال والله مبتدأ وخير خبر وأبقى عطف على خير (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) إن واسمها ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويأت فعل الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة وفاعل يأت مستتر تقديره هو وربه مفعول به والهاء مضاف اليه ومجرما حال من فاعل يأت فإن الفاء رابطة لجواب الشرط وان حرف مشبه بالفعل وله خبرها المقدم وجهنم اسمها المتأخر وجملة لا يموت فيها حالية من الهاء في له أو من جهنم وفيها متعلقان بيموت ولا يحيا عطف على يموت. (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) ومن يأته مؤمنا تقدم إعراب نظيرها وجملة قد عمل الصالحات صفة لمؤمنا فأولئك الفاء رابطة وأولئك اسم اشارة مبتدأ ولهم خبر مقدم والدرجات مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر أولئك وجملة فأولئك في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من والعلى صفة للدرجات. (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) جنات عدن بدل من الدرجات العلى أو خبر لمبتدأ محذوف وجملة تجري من تحتها الأنهار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 222 صفة لجنات وخالدين فيها حال من «من» وفيها متعلقان بخالدين وذلك مبتدأ وجزاء خبر ومن مضاف اليه وجملة تزكى صلة. البلاغة: معنى لأصلبنكم في جذوع النخل: قوله «وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ» في الكلام استعارة مكنية تبعية وتقريرها انه شبّه استعلاء المصلوب على الجذع بظرفية المقبور في قبره ثم استعمل في المشبه «في» الموضوعة للمشبه به أعني الظرفية فجرت الاستعارة في الاستعلاء والظرفية وبتبعيتها في على وفي واذن، ففي على بابها من الظرفية وهذا أصح الأقوال فيها وقيل ان في بمعنى على فلا يكون في الكلام استعارة. [سورة طه (20) : الآيات 77 الى 82] وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 223 اللغة: (يَبَساً) : بفتحتين قال في القاموس: يبس الشيء ييبس من بابي علم وحسب يبسا ويبسا واتّبس كان رطبا فجف فهو يبس ويبس ويابس ويبوس ويبيس وأيبس» وسمع بعض العرب: جمّرت الخبز كي يابس ظهره: جعلت عليه الجمر وقد يبست: إذا ذهب نداها وعود يابس وعيدان يبس والسفينة لا تجري على يبس «طريقا في البحر يبسا» وهي ترعى اليبس واليبيس: ما يبس من النبات فاستعمال العامة للنبات اليبيس ليطبخ في غير أوانه لا غبار عليه ومن المجاز قد يبس ما بينهما: إذا تقاطعا ولا توبس الثرى بيني وبينك قال جرير: أتغلب أولي حلفة ما ذكرتكم ... بسوء ولكني عتبت على بكر فلا توبسوا بيني وبينكم الثرى ... فإن الذي بيني وبينكم مثري (دَرَكاً) : بفتحتين أي أن يدركك فرعون وجنوده والدرك والدرك بفتحتين وبفتح الدال وسكون الراء اللحاق وادراك الحاجة وأقصى قعر الشيء يقال بلغ الغواص درك البحر ويقال فرس درك الطريدة أي يدركها ومنه قولهم: ما لحقك من درك فعليّ خلاصه فاستعمال رجال الدرك صحيح لا غبار عليه. الإعراب: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) الواو عاطفة أو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وأوحينا فعل وفاعل والى موسى متعلقان بأوحينا وأن مفسرة وأسر بقطع الهمزة من أسرى فعل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 224 أمر مبني على حذف حرف العلة وبعبادي متعلقان بأسر أي سربهم ليلا. (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) فاضرب عطف على أسر أي اجعل، من قولهم ضرب له في ماله سهما وضرب اللبن عمله فقول العامة: ضرب لبنا لا غبار عليه. ولهم متعلقان باضرب أي قائم مقام المفعول الثاني وطريقا مفعول به أول وفي البحر صفة ويبسا صفة ثانية وهو وصف لما يئول اليه كما سيأتي في باب البلاغة أو مصدر وصف به مبالغة كرجل عدل وصدق وجملة لا تخاف حالية من فاعل اضرب أي اضرب غير خائف أو صفة لطريقا والعائد محذوف أي لا تخاف فيه أو هي جملة مستأنفة والأول أظهر ولا نافية وتخاف فعل مضارع مرفوع وفاعله أنت ودركا مفعول به وجملة ولا تخشى عطف على لا تخاف. (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) الفاء عاطفة واتبعهم فعل ماض متعد لاثنين حذف ثانيهما والتقدير فأتبعهم فرعون عقابه والهاء هو المفعول الأول وقيل الباء زائدة في المفعول الثاني والتقدير فأتبعهم فرعون جنوده فهو كقوله تعالى: «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» واتبع قد جاء متعديا الى اثنين مصرح بهما قال «وَأَتْبَعْناهُمْ ذرياتهم» وقيل هو بمعنى تبع يتعدى لواحد فتكون بجنوده في محل نصب على الحال فغشيهم الفاء عاطفة وغشيهم فعل ماض والهاء مفعوله أي غمرهم وما فاعل وجملة عشيهم صلة وهو من الإبهام وسيأتي الكلام عنه مرة ثانية في باب البلاغة. (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) الواو عاطفة مع تقديم وتأخير في الكلام لأن إضلاله قومه كان قبل العرق طبعا وأضل فعل ماض وفرعون فاعل وقومه مفعول به وجملة وما هدى عطف على أضل وسيأتي الكلام عن هذا العطف في باب البلاغة والتهكم فيه. (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) يا حرف نداء وبني إسرائيل منادى مضاف وقد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 225 حرف تحقيق وأنجيناكم فعل ماض وفاعل ومفعول به ومن عدوكم متعلقان بأنجيناكم. (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) وواعدناكم عطف على أنجيناكم وواعدناكم فعل وفاعل ومفعول به أول وجانب الطور مفعول به ثان على حذف مضاف أي إتيان جانب ولا يكون ظرفا لأنه محدود، والأيمن صفة لجانب ونزلنا عطف على ما قبله لتتمة تعداد النعم الدنيوية والدينية المترادفة عليهم وعليكم متعلقان بنزلنا والمن مفعول به والسلوى عطف على المن وقد تقدم ذكرهما والنداء إما أن يكون لبني إسرائيل بعد انجائهم من البحر وإهلاك فرعون وجنوده وإما أن يكون موجها الى اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، خوطبوا بما أنعم الله به على أجدادهم ومع ذلك كفروا بالنعمة وغمطوها وجحدوها فهم علة العلل في مختلف ظروف الزمان والمكان، وهم أداة تعطيل السلام في كل آن. (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) كلوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ومن طيبات متعلقان بكلوا وما مفعول به وجملة رزقناكم صلة ولا تطغوا الواو عاطفة ولا ناهية وتطغوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل وفيه متعلقان بتطغوا فيحل الفاء السببية ويحل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة لأنه وقع في جواب النهي وعليكم متعلقان بيحل وغضبي فاعل وقيل هو معطوف فيكون نهيا أيضا. (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) الواو عاطفة ومن شرطية مبتدأ ويحلل فعل الشرط وعليه متعلقان بيحلل وغضبي فاعل يحلل والفاء رابطة لجواب الشرط وقد حرف تحقيق وهوى فعل ماض أي هلك والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من على التحقيق. (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 226 وغفار خبر إن ولمن متعلقان بغفار وجملة تاب صلة وآمن وعمل عطف وصالحا مفعول به أو صفة لمصدر محذوف أي عمل عملا صالحا ثم اهتدى عطف متأخر باعتبار الانتهاء لبعده عن أول الاهتداء أو للتفاوت بين المرتبتين فإن الاستمرار في التوبة والايمان والعمل الصالح هو الشرط الاساسي لقبول الأعمال. البلاغة: في هذه الآيات أفانين متنوعة من الفنون ندرجها فيما يلي: 1- المجاز المرسل: وذلك في قوله يبسا لأنه لم يكن حين خاطبه الله تعالى يبسا ولكن باعتبار ما يئول اليه كقوله تعالى «إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) وقد تقدم القول فيه مفصلا. 2- الإبهام: وذلك في قوله «فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ» أي علاهم وغمرهم من الأمر الهائل الذي ليس في طوقهم احتماله ما لا يمكن ادراك كنهه ولا سبر غوره وهو من جوامع الكلم التي يقل لفظها ويتشعب القول في معناها. 3- التهكم: تقدم القول فيه مرارا وهو هنا في قوله «وَما هَدى» والمعروف أن التهكم هو أن يأتي المتكلم بعبارة والمقصود عكس معناها كقوله «إنك لأنت الحليم الرشيد» وغرضهم وصفه بضد هذين الوصفين وأما قوله تعالى «وَما هَدى» فمضمونه هو الواقع فهو حينئذ مجرد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 227 إخبار عن عدم هدايته لقومه فأين التهكم؟ ولكن العرف في مثل ما هدى زيد عمرا بثبوت الهداية لزيد في نفسه ولكنه يؤخذ عليه انه لم يهد عمرا ولكن فرعون ضال في نفسه بل ان الضلال مركوز في سليقته كامن فيه كمون الطبائع الاصيلة فكيف يتوهم انه يهدي غيره وإذن فهو جمع بين المثلبتين واكتنفه الشر من ناحيتين فحق لمثله وقد صار مهزأة ان يتهكم به ويكون أداة للتهكم. 4- المجاز العقلي: وفي قوله تعالى «وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ» فإن لقائل أن يقول ان المواعدة كانت لموسى عليه السلام فكيف أضيفت إليهم، وإيضاح الجواب الدقيق الذي لم أر من وفّاه حقه أنه مجاز عقلي أسند المواعدة إليهم من قبل الله كما تسند الأمور المدركة الى من ليس له ادراك على حد المجاز العقلي وهذا من أسمى ما يصل اليه الأسلوب اللبق تقول لابن صديقك المتعسف المرتطم في حمأة الهوان لقد عرفتكم أهل حجا وتصون، تريد أن تنسب اليه ما هو بعيد عنه بعد الأمور المدركة عن غير العقلاء حين تنسب إليهم على طريق المجاز العقلي. [سورة طه (20) : الآيات 83 الى 86] وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 228 اللغة: (عَلى أَثَرِي) : الأثر بقية الشيء والجمع آثار وأثور والخبر وخرج في أثره وإثره: بعده وائتثره وتأثّره تبع اثره والأثر فرند السيف ويكسر كالأثير والجمع أثور. (السَّامِرِيُّ) : في القاموس: الذي عبد العجل وكان علجا من كرمان أو عظيما من بني إسرائيل ينسب الى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة نسبة الى مقاطعة في فلسطين، قال في المنجد: وهم قوم «يخالفون اليهود في نقاط دينية جوهرية منها أنهم لا يقرون من كتب الوحي إلا أسفار موسى الخمسة المعروفة بالتوراة وانهم يقولون بواجب العبادة لا في أورشليم ولكن على جبل جريزيم جنوبي شكيم» وقال في الخازن «واسمه موسى بن ظفر» . الإعراب: (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) الواو عطف على محذوف يفهم من السياق والتقدير فسار موسى لحضور الميقات مع قوم مخصوصين وهم السبعون الذين اختارهم موسى من بين قومه ليذهبوا معه الى جبل الطور ليأخذوا التوراة، عجل من بينهم شوقا الى كلام ربه وتنجز ما وعد به بناء على اجتهاده وخلفهم وراءه فقال له تعالى: وما أعجلك وسيأتي المزيد عن هذا السؤال في باب البلاغة. وما اسم استفهام مبتدأ وأعجل فعل ماض وفاعل مستتر تقديره هو يعود على ما والكاف مفعول به والجملة خبر ما وعن قومك متعلقان بأعجلك. (قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) هم مبتدأ وأولاء خبر وعلى أثري خبر ثان أو حال وعجلت فعل وفاعل والواو حالية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 229 بتقدير قد أو عاطفة وإليك متعلقان بعجلت ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وحرف النداء محذوف ولترضى اللام للتعليل وترضى فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بعجلت أيضا كأنه تعليل لعجلته. (قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) قال فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله والفاء الفصيحة أي إن شئت أن تعلم مصير قومك، وان واسمها وجملة قد فتنا خبرها وهي فعل وفاعل وقومك مفعول به وأضلهم السامري فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر. (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) تقدم القول في فاء التعقيب انها قد تتخلف في وقتها دون أن يحدث فاصل فلم يرجع موسى إلا بعد أن استوفى الأربعين يوما وأخذ التوراة، ورجع فعل ماض وموسى فاعل والى قومه متعلقان برجع وغضبان أسفا حالان. (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) يا حرف نداء وقوم منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة، ألم الهمزة للاستفهام الانكاري ويعدكم فعل مضارع مجزوم بلم والكاف مفعول به وربكم فاعل ووعدا مفعول مطلق وحسنا صفة. (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) الهمزة للاستفهام والفاء حرف عطف على محذوف وطال فعل ماض وعليكم متعلقان بطال والعهد فاعل وأم حرف عطف معادل للهمزة وأردتم فعل وفاعل وأن وما في حيزها مفعول أردتم وعليكم متعلقان بيحل وغضب فاعل يحل ومن ربكم صفة لغضب فأخلفتم الفاء حرف عطف وأخلفتم عطف على أردتم وموعدي مفعول أخلفتم. البلاغة: الاستفهام من الله تعالى لا يقع لاستدعاء المعرفة ولكنه يخرج عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 230 معناه الأصلي لأغراض أخر تدرك من سياق الكلام وقد أفاد السؤال هنا أغراضا نوجزها فيما يلي: آ- لتعريف المسئول بما يجهله من أمور وقد أراد سبحانه تعريفه بفتنة قومه فقد قيل انهم كانوا نحو ستمائة ألف نفس ما نجا منهم من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا. ب- تبكيت المسئول وتفهيمه وتنبيهه الى خطل ما جاء به من ترك القوم وافساح المجال للسامري كي يضلهم لأنه مغرق في الضلالة وماهر في الإضلال. ج- تعليم المسئول آداب السفر وهي: انه ينبغي على رئيس القوم أن يتأخر عنهم في المسير ليكون نظره محيطا بهم ونافذا فيهم ومهيمنا عليهم، وقاطعا الطريق على كل فتنة قد تتسرب الى صفوفهم. على أن موسى عليه السلام أغفل هذه الأمور ولعله ملم بها ومطلع عليها ولكن الشوق الى لقاء الله والمسارعة الى ميعاده ألهب قلبه فلم يملك عنان صبره الجامح وذلك شأن الموعود بما طال حنينه اليه يودّ لو امتطى أجنحة الطير واستبق الساعات وهل ثمة ما يلهب الشوق مثل مواعدة الله؟ [سورة طه (20) : الآيات 87 الى 98] قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 231 اللغة: (بِمَلْكِنا) : بقدرتنا مصدر ملك وهو مثلث الميم وفي القاموس وشرحه التاج ملك يملك من باب تعب ملكا وملكا وملكا بفتح الميم وضمها وكسرها وملكة ومملكة بفتح اللام ومملكة بكسرها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 232 ومملكة بضمها الشيء احتواه قادرا على التصرف والاستبداد به وملك على القوم: استولى عليهم وملك على فلان أمره استولى عليه وملك نفسه قدر على حبسها وملك المرأة تزوجها. (أَوْزاراً) : أثقالا وأرادوا بها حلي القبط التي استعاروها منهم وأرادوا بالأوزار انها آثام وتبعات لأنهم استعاروها منهم وليس لهم فيها حق. (خُوارٌ) : بضم الخاء صوت البقر والعجاجيل وعبر بالجسد مع أنه لا يقال للعاقل: ولأن الجسد لا يقال إلا للانسان تغليبا وتشبيها له بالعاقل كأنه غاير البقر ولا يقال جسد لغير الإنسان إلا للزعفران ويقال جساد بفتح الجيم أيضا وللدم إذا يبس ويقال له جاسد أيضا. َا بْنَ أُمَّ) : سيأتي في باب الفوائد. (فَقَبَضْتُ) : قبض يقبض من باب جلس بيده الشيء وعلى الشيء: أمسكه بيده وضم عليه أصابعه وقبض يده عن الشيء: امتنع عن إمساكه وقبضه عن الأمر أنحاه وقبضه الله أماته وقبض الشيء: خلاف بسطه ووسعه وقبض الطائر جناحه: جمعه وقبض الدار ونحوها تسلمها وقبض منه المال: أخذه لنفسه وقبض قبضة أخذها ويقال قبص بالصاد المهملة لأنهما تتعاقبان في كثير من الكلمات نورد أهمها فيما يلي: قال يعقوب بن السكيت: وقضت قبضة وقبصت قبصة ويقال: إن القبصة أقل من القبضة وقال غيره: القبص بأطراف الأصابع والقبض بالكف كلها ويقال عاد الى ضئضئه وصئصئه أي الى أصله والهمز الأصل وأنشد: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 233 أنا من ضئضىء صدق ... بخ ومن أكرم حذل من عزاني قال به به ... سنخ ذا أكرم أصل الحذل: الحجر وقال اللحياني: بخ بخ وبه به تقال للانسان إذا عظّم، وقال أبو عمرو: ما ينوض بحاجة وما يقدر على أن ينوص أي يتحرك ومنه قوله عز وجل: «وَلاتَ حِينَ مَناصٍ» ومناص ومناض واحد ويقال: أنقاص وأنقاض بمعنى واحد وقال الأصمعي: المنقاض: المنقعر من أصله والمنقاص: المنشقّ طولا وقال أيضا: مضمض لسانه ومصمص لسانه إذا حركه وقال اللحياني: يقال: إنه لصلّ أصلال وضلّ أضلال والصل الحية التي تقتل إذا نهشت من ساعتها ويقال مصمص إناءه ومضمضه إذا غسله فقول العامة مصمص العظم صحيح لا غبار عليه. (بَصُرْتُ) : بصر بالشيء بضم الصاد وأبصره بمعنى علمه وهو من باب ظرف ويقال بصر بالكسر من باب علم. (مِساسَ) : بكسر الميم مصدر ماس وستأتي حقيقة هذا التركيب في باب الإعراب. الإعراب: (قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) قالوا فعل وفاعل وما نافية وأخلفنا فعل وفاعل وموعدك مفعول به وبملكنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي حال كوننا مالكين أمرنا ولكننا غلبنا على أمرنا من جهة السامري وكيده. (وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) الواو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 234 عاطفة ولكن واسمها وحملنا فعل ماضي بالبناء للمجهول ونا نائب فاعل وأوزارا مفعول به ثان ومن زينة القوم صفة. (فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ) الفاء عاطفة وقذفناها فعل وفاعل ومفعول وهو معطوف على محذوف أي فقال لنا السامري اقذفوها في النار لأن موسى تأخر عنكم بسببها فقذفناها الفاء حرف عطف وكذلك نعت لمصدر محذوف وقد تقدم كثيرا وألقى السامري فعل وفاعل. (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ) الفاء عاطفة وأخرج فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على السامري والعطف على فأضلهم السامري لئلا يتوهم أنه من كلامهم ولهم متعلقان بأخرج وعجلا مفعول به وجسدا حال من عجلا ولكن يشكل على هذا الإعراب الذي اختاره عدد من المفسرين أن صاحب الحال لا يكون إلا معرفة ولعل هذا العجل الذي أخرجه السامري من الحفرة التي فيها تراب اثر حافر الرسول الى موسى كما سيأتي صار بحكم المعرفة نقول ولا مانع من إعرابه بدلا من عجلا وجملة له خوار من الخبر المقدم والمبتدأ المؤخر صفة. (فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) الفاء حرف عطف وقالوا فعل وفاعل وهذا مبتدأ وإلهكم خبر وإله موسى عطف على إلهكم فنسي الفاء حرف عطف ونسي فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على موسى أي نسي ربه فذهب يطلبه وقيل الضمير يعود على السامري أي ترك ما كان عليه من الايمان الظاهر. (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) الهمزة للاستفهام والفاء حرف عطف ولا نافية ويرون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وأن مخففة من الثقيلة ولا نافية ويرجع فعل مضارع واسم أن المخففة ضمير الشأن أي انه، وفاعل يرجع مضمر تقديره هو يعود على العجل وإليهم متعلقان بيرجع وقولا مفعول به ولهذا ارتفع الفعل بعدها. (وَلَقَدْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 235 قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ) الواو حرف عطف واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وقال لهم هارون فعل ماض وفاعل ومن قبل متعلقان بمحذوف حال أي قبل رجوع موسى. (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) يا حرف نداء وقوم منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وإنما كافة ومكفوفة وفتنتم فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل والميم علامة جمع الذكور وبه متعلقان بفتنتم وإن ربكم الرحمن ان واسمها وخبرها والفاء الفصيحة واتبعوني فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به وأطيعوا أمري عطف على اتبعوني. (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) لن حرف نفي ونصب واستقبال ونبرح فعل مضارع ناقص منصوب بلن واسمها ضمير مستتر تقديره نحن وعليه متعلقان بعاكفين وعاكفين خبر نبرح، حتى حرف غاية وجر ويرجع فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى وإلينا متعلقان بيرجع وموسى فاعل وهذا التعليق الذي جعلوه غاية لعكوفهم أم يكن منهم إلا تسويفا وتعللا ليس من قبيل الوعد بترك عبادته بعد رجوع موسى. (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) ما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة منعك خبر وإذ ظرف متعلق بمنعك وجملة رأيتهم مضافة للظرف ورأيتهم فعل وفاعل ومفعول به وجملة ضلوا حالية أو مفعول به ثان لرأيتهم إذا اعتبرتها قلبية. (أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) أن حرف مصدري ونصب ولا مزيدة أي أي شيء منعك من اتباعي في الغضب لله وهلا قاتلت من كفر بمن آمن، والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على مقدر وعصيت فعل ماض وفاعل وأمري مفعول به. الَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) يا ابن أم يا حرف نداء وابن أم اسمان مبنيان على الفتح لتركبهما تركب الأعداد مثل خمسة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 236 عشر أو الظروف مثل صباح مساء فعلى هذا ليس ابن مضافا الى أم بل هو مركب معها فحركتهما حركة بناء وقد تقدم تفصيل هذا التركيب في «الأعراف» وعلى كل فهما في محل نصب منادى وانما اقتصر في خطابه على الأم مع أنه شقيقه لأن ذكر الأم أعطف لقلبه، ولا ناهية وتأخذ فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والفاعل مستتر تقديره أنت وبلحيتي متعلقان بتأخذ ولا برأسي عطف على بلحيتي. قيل كان موسى مجبولا على الحدة والغضب لله ولدينه فلم يتمالك حين رأى قومه يعبدون غير الله أن أخذ برأس أخيه وبشعر وجهه يجره إليه. ِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) ان واسمها وجملة خشيت خبر إن وأن وما في حيزها مفعول خشيت وجملة فرقت مقول القول وبين ظرف مكان متعلق بفرقت وبني إسرائيل مضاف اليه ولم ترقب قولي عطف على فرقت أي وخشيت أن تقول لم ترقب قولي وعلى هذا يكون الضمير في قولي واقعا على موسى، ويجوز عطفها على خشيت فيكون الضمير في قولي واقعا على هارون. (قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على موسى والفاء عاطفة أو استئنافية وما استفهامية مبتدأ وخطبك خبر ويا حرف نداء وسامري منادى مفرد علم. (قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) جملة بصرت مقول القول وفاعل قال هو أي السامري، وبما متعلقان ببصرت وجملة لم يبصروا به صلة، فقبضت عطف على بصرت وقبضة مفعول به، وهي مصدر مرة من قبض وإطلاقها على المقبوض من تسمية المفعول بالمصدر، ومن أثر صفة لقبضة وأثر مضاف والرسول مضاف اليه على تقدير محذوفين أي من أثر حافر فرس الرسول والمعنى من تربة موطئه، وتفصيل القصة في المطولات وسنلخص لك ما قالوه في باب البلاغة (فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 237 نَفْسِي) فنبذتها عطف على قبضت أي ألقيتها، وكذلك نعت لمصدر محذوف وقد تقدم وسولت لي نفسي فعل وفاعل أي زينت لي نفسي. (قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) قال فعل ماض وفاعله يعود على موسى، فاذهب الفاء عاطفة واذهب فعل أمر فاعله أنت، فإن الفاء عاطفة وان حرف مشبه بالفعل ولك خبرها المقدم وفي الحياة متعلقان بمحذوف حال وأن وما بعدها اسم إن ولا نافية للجنس ومساس اسم لا والخبر محذوف فهو مبني مع لا الجنسية والمراد به النهي أي لا تمسني ولا أمسّك، ومساس مصدر ماس كقتال مصدر قاتل، قال الزمخشري: «عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أطم منها وأوحش وذلك انه منع من مخالطة الناس منعا كليا وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضا وإذا اتفق أن يماس أحدا رجلا أو امرأة حم الماس والممسوس فتحامى الناس وتحاموه» . (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ) وإن حرف مشبه بالفعل ولك خبرها المقدم وموعدا اسمها المؤخر ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتخلفه منصوب بلن ونائب الفاعل مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به ثان. (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) وانظر الواو عاطفة وانظر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وإلى إلهك متعلقان بانظر، والذي صفة وجملة ظلت صلة وظلت فعل ماض ناقص، وأصله ظللت بلامين وأولاهما مكسورة حذفت تخفيفا، وعليه متعلقان بعاكفا وعاكفا خبر ظلت، ولنحرقنه اللام موطئة للقسم ونحرقنه فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به، ثم حرف عطف لننسفنه مثل نحرقنه وفي اليم متعلقان بننسفنه ونسفا مفعول مطلق. (إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) إنما كافة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 238 ومكفوفة وإلهكم مبتدأ والله خبره والجملة مستأنفة والذي نعت وجملة لا إله إلا هو صلة وقد تقدم اعرابها كثيرا ووسع فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وكل شيء مضاف اليه وعلما تمييز من فاعل وسع. البلاغة: الإيجاز في هذه الآيات واضح جدا وهو في كل واحدة، لأن تسلسل الحوادث يقتضي تقدير جمل لا بد منها، وقد أشرنا إليها إشارات واضحة تجزئ عن إعادتها ولكننا نورد هنا إيجازا بالحذف ورد في قوله تعالى «فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ» فقد حذف المضاف مكررا هنا والتقدير من أثر حافر فرس الرسول وهذا الحذف شائع كثيرا في القرآن كقوله تعالى «وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى» وقوله «حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ» فحذف المضاف الى يأجوج ومأجوج وهو سدهما كما حذف المضاف الى القرية في قوله تعالى: «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ» أي أهل القرية وقد ورد في الشعر أيضا ومما جاء منه قول الخزيمي يرثي أبا الهندام وهو من شعراء الحماسة: إذا لاقيت قومي فاسأليهم ... كفى قوما بصاحبهم خبيرا هل أعفو عن أصول الحق فيهم ... إذا عسرت وأقتطع الصدورا أراد أنه يقتطع ما في الصدور من الضغائن أي يزيل ذلك بإحسانه من عفو وغيره فحذف المضاف وأقام المضاف اليه مقامه. وحذف المضاف أكثر من حذف المضاف اليه ومما جاء من حذف المضاف اليه في القرآن الكريم قوله تعالى «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» أي من قبل الغلب ومن بعده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 239 خلاصة قصة السامري: هذا وسنخرج عن النطاق الذي ترسمناه في هذا الكتاب وهو نطاق الاعراب واللغة والبيان فنورد لمحة خاطفة عن قصة السامري لعلاقتها بما نحن بصدده تاركين للقارئ مجال الرجوع الى المطولات. ففي الوقت الذي حل ميعاد الذهاب الى الطور أرسل الله الى موسى جبريل راكبا حيزوم فرس الحياة ليذهب به، فأبصره السامري فقال: إن لهذا شأنا فقبض قبضة من أثر تربة موطئه فلما سأله موسى عن قصته قال: قبضت من أثر فرس المرسل إليك يوم حلول الميعاد ولعله لم يعرف انه جبريل، وقيل انه كلما وضعت الفرس حافرها على شيء اخضر، فعرف أن للتراب الذي تضع الفرس حافرها عليه شأنا وقيل غير ذلك مما لا تطمئن اليه النفس ويحتاج الى كثير من التمحيص. الفوائد: صاحب الحال: الأصل في صاحب الحال التعريف لأنه محكوم عليه بالحال وحق المحكوم عليه أن يكون معرفة لأن الحكم على المجهول لا يفيد غالبا، ويقع صاحب الحال نكرة بمسوغ يقربه من المعرفة وذلك في المواضع التالية: 1- إذا تقدمت عليه الحال نحو في الدار جالسا رجل، وقول كثير عزة: لمية موحشا طلل ... يلوح كأنه خلل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 240 وفي المغني ان تقديم حال النكرة عليها ليس لأجل تسويغ الحال فيها بل لئلا يلتبس الحال بالصفة. 2- أن يكون صاحبها مخصوصا بوصف كقول الشاعر: نجيت يا رب نوحا واستجبت له ... في فلك ماخر في اليم مشحونا فمشحونا حال من فلك لوصفه بماخر. 3- أن يكون صاحبها مخصوصا باضافة كقوله تعالى «فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ» فسواء حال من أربعة لاختصاصها بالاضافة الى أيام. 4- أن يكون صاحبها مخصوصا بمعمول نحو: عجبت من ضرب أخوك شديدا، فشديدا حال من ضرب لاختصاصه بالعمل في الفاعل وهو أخوك. 5- أن يكون صاحبها مخصوصا بعطف نحو: هؤلاء أناس وعبد الله منطلقين، فمنطلقين حال من أناس لاختصاصه بالعطف عليه وهو عبد الله. 6- أن يكون صاحبها مسبوقا بنفي كقوله تعالى «وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ» فجملة ولها كتاب معلوم حال من قرية لكونها مسبوقة بالنفي، وقد مرّ أن الزمخشري يرد هذا القول ويجعل الجملة صفة لقرية وانما توسطت الواو بينهما لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف. 7- أن يكون صاحبها مسبوقا بنهي كقول الطرماح: لا يركنن أحد الى الاحجام ... يوم الوغى متخوفا لحمام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 241 فمتخوفا حال من أحد لأنه مسبوق بالنهي. 8- أن يكون صاحبها مسبوقا باستفهام كقول أحد الطائبين: يا صاح هل حم عيش باقيا فترى ... لنفسك العذر في إبعادها الأملا فباقيا حال من عيش لكونه مسبوقا بالاستفهام بهل، وصاح منادى مرخم صاحب على غير قياس وحم بالحاء المهملة بمعنى قدر والإبعاد مصدر أبعد والأمل مفعوله. هذا وقد يقع صاحب الحال نكرة بلا مسوغ كقولهم عليه مائة بيضا، فبيضا بلفظ الجمع حال من مائة وليس تمييزا خلافا للمبرد لأن تمييز المائة لا يكون جمعا منصوبا ولا مجرورا وهو من أمثلة سيبويه، وفي الحديث: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا ووراءه رجال قياما، فقياما حال من رجال وهو نكرة بلا مسوغ. [سورة طه (20) : الآيات 99 الى 104] كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 242 اللغة: (وِزْراً) : حملا ثقيلا والمراد بها هنا العقوبة الثقيلة المرهقة الباهظة، سماها وزرا تشبيها لها في ثقلها على من يحل به العقاب بالحمل الثقيل ينوء به الكاهل ويرزح الحامل تحت عبئه الفادح. (زُرْقاً) : جمع أرزق وسبب اختياره لعيونهم القيامة لوجهين: 1- ان الزرقة أبغض شيء من ألوان العيوب الى العرب لأن الروم كانوا أعداءهم وهم زرق العيون ومن أقوالهم في صفة العدو: «أسود الكبد، أصهب السبال، أزرق العين» فأصهب من الصهبة بالصاد المهملة وهي حمرة أو شقرة في الشعر، والسبال: ما على الشارب من الشعر ومقدم اللحية والاثنان مرادان بها هنا وقال بشار في وصف البخيل: وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود وهو من أبيات ممتعة نوردها بكاملها: ظل اليسار على العباس ممدود ... وقلبه أبدا بالبخل معقود إن الكريم ليخفي عنك عسرته ... حتى تراه غنيا وهو مجهود وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود إذا تكرهت أن تعطي القليل ولم ... تقدر على سعة لم يظهر الجود أورق بخير ترجّي للنوال فما ... ترجى الثمار إذا لم يورق العود بثّ النوال ولا تمنعك قلته ... فكل ما سدّ فقرا فهو محمود الجزء: 6 ¦ الصفحة: 243 2- ان المراد العمى لأن حدقة من يذهب نور بصره تزرق. (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) أي يخفضون أصواتهم ويخفونها لما لحقهم من الرعب والهول وفي المختار: خفت الصوت سكن وبابه جلس والمخافتة والتخافت والخفت بوزن السبت: أسرار المنطق. (أَمْثَلُهُمْ) : أفضلهم وأعدلهم رأيا أو عملا في الحياة الدنيا وجمعه أماثل ومثل ومؤنثه مثلى، وأماثل القوم خيارهم، والطريقة المثلى الشبهى بالحق ويقال المريض اليوم أمثل أي أحسن حالة، وقال امرؤ القيس يصف الليل من معلقته: وليل كموج البحر أرخى سدوله ... عليّ بأنواع الهموم ليبتلي فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف إعجازا وناء بكلكل ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل الإعراب: (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) كذلك: نعت لمصدر محذوف أي كما قصصنا يا محمد هذه القصة ونقص فعل مضارع فاعله مستتر تقديره نحن وعليك متعلقان بنقص ومن أنباء صفة لموصوف محذوف هو مفعول به لنقصّ أي نقصّ نبأ من أنباء، وما مضاف اليه وجملة قد سبق صلة، وقد الواو عاطفة وقد حرف تحقيق وآتيناك فعل ماض وفاعل ومفعول به ومن لدنا حال لأنه كان صفة لذكرا، وذكرا مفعول به ثان أي قرآنا. (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) من شرطية في محل رفع مبتدأ وأعرض فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله ضمير مستتر تقديره هو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 244 وعنه متعلقان بأعرض والفاء رابطة وان واسمها وجملة يحمل خبرها والفاعل مستتر تقديره هو ويوم القيامة ظرف متعلق بيحمل ووزرا مفعول وجملة من أعرض في محل نصب نعت لذكرا أي قرآنا منطويا مشتملا على هذه القصص يحمل المعرض عنها وزرا كاملا يوم القيامة. (خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا) خالدين حال وفيه متعلقان بخالدين والضمير يعود للوزر أي في العقاب المتسبب عنه ففي الكلام مجاز كما سيأتي، وساء الواو حالية أو عاطفة وساء فعل ماض من أفعال الذم وقد تقدم كثيرا وفاعله مستتر مميز بنكرة وهو حملا والمخصوص بالذم محذوف تقديره وزرهم، ولهم متعلقان بقول مقدر أي يقال لهم هذا الكلام، وقيل هي كاللام في هيت لك أي لمجرد البيان فراجع سورة يوسف. ويوم القيامة ظرف متعلق بساء وحملا تمييز. (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) الظرف بدل من يوم القيامة وجملة ينفخ مضافة الى الظرف وينفخ فعل مضارع بالبناء للمجهول وفي الصور متعلقان بينفخ، ونحشر الواو عاطفة ونحشر فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن والمجرمين مفعول به ويوم ظرف أضيف الى ظرف مثله متعلق بنحشر والتنوين في إذ عوض عن جملة وزرقا حال من المجرمين. (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) الجملة حال من المجرمين أو مستأنفة مسوقة لبيان حالهم في ذلك اليوم ويتخافتون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو فاعل وبينهم ظرف متعلق بيتخافتون، وإن لبثتم جملة منصوبة بقول دل عليه يتخافتون والقول نصب على الحال أي قائلين في السر، وان نافية ولبثتم فعل وفاعل وإلا أداة حصر وعشرا ظرف زمان ذهابا الى الليالي لأن الشهور غررها الليالي فتكون الأيام داخلة تبعا وتخافتهم ناجم عن الرعب الذي داخلهم، فكأن أيام الدنيا لم تكن شيئا مذكورا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 245 فهم يتذكرون أيام السرور التي سنحت لهم في الدنيا كيف مرت عليهم كظل الطائرة. (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) نحن مبتدأ وأعلم خبر وبما متعلقان بأعلم وجملة يقولون صلة، وإذ ظرف متعلق بأعلم وجملة يقول مضافة الى الظرف وأمثلهم فاعل وطريقة تمييز وإن نافية ولبثتم فعل وفاعل وإلا أداة حصر ويوما ظرف متعلق بلبثتم. البلاغة: المجاز المرسل في قوله «خالِدِينَ فِيهِ» أي في الوزر، والوزر لا يقام فيه ولكن أراد العقاب المتسبب عن الوزر، فالعلاقة فيه السببية. [سورة طه (20) : الآيات 105 الى 114] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 246 اللغة: (قاعاً) : القاع: أرض سهلة مطمئنة قد انفرجت عنها الجبال والآكام والجمع أقواع وأقوع وقيع وقيعان وقيعة، وقيل هو المنكشف من الأرض، وقيل المستوي الصلب منها، وقيل مالا نبات فيه ولا بناء. (صَفْصَفاً) : الصفصف: الأرض المستوية الملساء كأن أجزاءها صف واحد من كل جهة، وفي القاموس: المستوي من الأرض، وقاع صفصف مستو مطمئن فهو بمثابة التأكيد للقاع لأنه بمعناه. (أَمْتاً) : الأمت هو النتوّ اليسير، يقال مدّ حبله حتى ما فيه أمت وقيل: الأمت هو التل وهو قريب من الأول وقيل الشقوق في الأرض وقيل الآكام وفي القاموس «أمته يأمته قدره وحزره كأمّته وقصده وأجل مأموت مؤقت والأمت المكان المرتفع والتلال الصغار والانخفاض والارتفاع والاختلاف في الشيء والجمع أمات وأموت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 247 والضعف والوهن والطريقة الحسنة والعوج والعيب في الفم وفي الثوب والحجر وأن يغلظ مكان ويرق مكان والمؤمّت المملوء والمتهم بالشر ونحوه والخمر حرمت لا أمت فيها أي لا شك في حرمتها» . (هَمْساً) : الهمس: الصوت الخفي وهو مصدر همست الكلام من باب ضرب إذا أخفيته ومنه الحروف المهموسة وقيل هو من همس الإبل وهو صوت أخفافها إذا مشت. (وَعَنَتِ) : في المختار: عنا يعنو من باب سما يسمو سموّا فالألف محذوفة قبل تاء التأنيث لالتقاء الساكنين إذا ذل وخضع ومنه العناة جمع عان وهو الأسير. (هَضْماً) : الهضم: النقص، تقول العرب: هضمت لزيد من حقه أي نقصت منه، ومنه هضيم الكشحين أي ضامرهما، قال امرؤ القيس: إذا قلت هاتي نوليني تمايلت ... عليّ هضيم الكشح ريا المخلخل ورجل هضيم ومهتضم أي مظلوم، وهضمته واهتضمته وتهضمته كله بمعنى. الإعراب: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) الواو للاستئناف والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير تعنتهم وإصرارهم على الجدل والمكابرة والاستهزاء، ويسألونك فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والكاف مفعول به، فقل الفاء عاطفة وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وجملة ينسفها مقول القول والهاء مفعول به مقدم وربي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 248 فاعل مؤخر ونسفا مفعول مطلق. (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً) الفاء عاطفة ويذرها فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره هو أي الله تعالى والهاء مفعول به وقاعا لك أن تعربها حالا من الضمير المنصوب أو مفعولا به ثانيا لتضمين يذر معنى التصيير، وصفصفا حال ثانية أو بدل من المفعول الثاني وأعربها بعضهم صفة له. (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) الجملة حال ثالثة أو حال أولى ولا نافية وترى فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنت وفيها متعلقان بتري وعوجا مفعول به ولا أمتا عطف. وسيأتي مزيد من التقرير حول هذه الآية في باب البلاغة. (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ) الظرف متعلق بيتبعون أو بدل من يوم القيامة المتقدم وقد تقدم تقرير اضافة يوم الى الظرف ويتبعون الداعي فعل مضارع وفاعل ومفعول به ولا نافية للجنس وعوج اسمها مبني على الفتح وله خبرها وجملة لا عوج له حال من الداعي أو صفة لمصدر محذوف أي يتبعونه اتباعا لا عوج له ويجوز أن تكون مستأنفة والأول أظهر لأن الضمير في له يعود عليه أي لا عوج لدعائه بل يسمع جميعهم فلا يميل الى أناس دون أناس. (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) الواو عاطفة وخشعت الأصوات فعل وفاعل وللرحمن متعلقان بخشعت والفاء عاطفة ولا نافية وتسمع فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو وإلا أداة حصر وهمسا مفعول به لأن الاستثناء مفرغ. (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) الظرف متعلق بتنفع وإذ مضاف ولا نافية وتنفع الشفاعة فعل مضارع وفاعل، وإلا أداة حصر ومن يجوز فيه أن يكون مفعولا لتنفع وعندئذ تكون من واقعة على المشفوع ويجوز أن يكون بدلا من الشفاعة على قاعدة المستثنى المنفي أو النصب على الاستثناء المتصل من الشفاعة ولا بد في هذين الوجهين من تقدير مضاف تقديره إلا شفاعة من أذن له وإذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 249 اعتبر مستثنى منقطعا وجب نصبه فتلخص فيه أربعة أوجه متقاربة الرجحان ورجح الزمخشري الرفع على البدلية وتبعه القاضي البيضاوي. وجملة أذن له الرحمن صلة ورضي له قولا عطف على أذن له ورجح أبو البقاء النصب على المفعولية. (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) الجملة استئنافية مسوقة لتقرير علمه تعالى ما تقدمهم من الأحوال وما يستقبلهم، ويعلم فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو وما مفعول به وبين ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول وأيديهم مضافة لبين، وما خلفهم عطف على ما بين أيديهم، ولا يحيطون لك أن تجعل الواو عاطفة ولك أن تجعلها حالية، ويحيطون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون وبه متعلقان بيحيطون وعلما مفعول به. (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) وعنت الوجوه فعل وفاعل وللحي متعلقان بعنت والقيوم صفة، وسيأتي المراد بالوجوه في باب البلاغة والواو حالية وجملة وقد خاب حالية ومن فاعل خاب وجملة حمل ظلما صلة. (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) الواو عاطفة على وقد خاب، ومن شرطية مبتدأ ويعمل فعل الشرط ومن الصالحات صفة لمفعول به محذوف أي ومن يعمل أعمالا من الصالحات والواو حالية وهو مبتدأ ومؤمن خبر والفاء رابطة لجواب الشرط ولا نافية ويخاف فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو وظلما مفعول به ولا هضما عطف على ظلما وجملة لا يخاف خبر لمبتدأ محذوف والتقدير فهو لا يخاف، وجملة فهو لا يخاف في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر من. (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) الكاف صفة لمصدر محذوف أي مثل ذلك الانزال أنزلناه وقرآنا حال وعربيا صفة. (وَصَرَّفْنا فِيهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 250 مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) وصرفنا فعل وفاعل وفيه متعلقان بصرفنا ومن الوعيد صفة لمفعول محذوف أي صرفنا وعيدا من الوعيد، ولعل واسمها وجملة يتقون خبرها وأو حرف عطف ويحدث عطف على يتقون ولهم متعلقان بيحدث وذكرا مفعول به، وفاعل يحدث هو أي القرآن. (فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) الفاء استئنافية وتعالى الله فعل ماض وفاعل والملك الحق صفتان لله ولا تعجل الواو عاطفة ولا ناهية وتعجل فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وبالقرآن متعلقان بتعجل ومن قبل متعلقان بتعجل وأن يقضى المصدر المؤول مضاف لقبل وإليك متعلقان بيقضى ويقضى فعل مضارع مبني للمجهول ووحيه نائب فاعل، وقل عطف على لا تعجل ورب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وزدني فعل أمر والنون للوقاية والياء مفعول به أول وعلما مفعول به ثان أو تمييز. البلاغة: في قوله تعالى: «لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً» فن طريف يذهل العقول، ويسكر العواطف، ولا يكاد يدركه إلا من أودع الله فيهم سر البيان، وارتاضوا بالمعاناة والدربة على إدراك النكت التي تعز على من رامها وتطول، وهذا الفن سموه فن «التنكيت» وحدّه أن يخص المتكلم شيئا بالذكر دون غيره مما يسد مسده وما يقتضيه ظاهر الكلام لأجل نكتة في المذكور ترجح مجيئه على سواه، وهو كثير في القرآن الكريم وسيرد في مواطنه، أما في هذه الآية فقد تقدم في الكهف أن أهل اللغة فرقوا بين العوج والعوج فقالوا: العوج بالكسر في المعاني والعوج بالفتح في الأعيان ولذلك قال في الكهف «الحمد لله الذي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 251 أنزل الكتاب ولم يجعل له عوجا» أما في هذه الآية فالأرض عين فكيف صح فيها المكسور العين؟ أوليس مقتضى اللغة يوجب أن يستعمل العوج بالفتح؟ وهنا يأتي هذا الفن ليسبر غور هذه النكتة التي تدق على النظرة السطحية الأولى، ولا تقف عند التقارير اللغوية، فنقول: إن اختيار العوج بالكسر في الآية له موضع حسن بديع في استواء الأرض ووصفها بالملاسة وانتفاء الاعوجاج عنها على أبلغ وجه، وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة من الأرض فسويتها وبالغت في تسويتها على عينك وعلى عيون البصراء بالأراضي واتفقتم بالإجماع على انه لم يبق فيها اعوجاج قط ثم عمدت الى المهندس تستطلع رأيه لا بحسب الحدس والتخمين والنظر المجرد بل بحسب المقاييس الهندسية المبنية على العلم الدقيق لعثر فيها على عوج في غير موضع، لا يدرك ذلك بحاسة البصر ولكن بالقياس الهندسي الذي لا يضل ولا يعزب عنه القليل النادر. فنفى الله سبحانه ذلك العوج الذي دقّ ولطف عن الإدراك والفهم أللهم إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الاحساس ولحق بالمعاني وسما عن الأعيان فقيل فيه عوج بالكسر. وقد مرّ معنا وسيمر في هذا الكتاب نماذج رائعة لهذا التنكيت الذي ظهر لك في هذه الآية الكريمة مما لا يدركه إلا الحذاق الملهمون، فلنرجئ القول فيها وسنعرض الآن على ناظريك نماذج من الشعر الجميل التي اشتملت على نكتة بارعة لتكون لك معالم صبح تحتذيها، فمن ذلك قول الخنساء ترثي أخاها صخرا: يذكرني طلوع الشمس صخرا ... وأذكره لكل غروب شمس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 252 وقد سئل الأصمعي عن قولها هذا: لم اختصت فيه طلوع الشمس وغروبها دون أثناء النهار؟ فقال لأن طلوع الشمس وقت الركوب الى الغارات وغروب الشمس وقت قرى الضيفان. ومنه قول الحسن بن هانئ، أبي نواس: ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر فقال «وقل لي هي الخمر» وذلك لأن الحواس الأربع قد التذت حين شربها وبقيت حاسة وحدة لم تستكمل لذتها وهي حاسة السمع فقال «وقل لي هي الخمر» ليسمع ذلك فتكمل له اللذة بجميع حواسه. ونكتفي الآن بما تقدم ولنا عودة الى هذا الفن الجميل. [سورة طه (20) : الآيات 115 الى 123] وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 253 اللغة: (تَضْحى) : ينتابك حر الشمس في الضحى وفي القاموس: «وضحا يضحو كغزا يغزو ضحوا برز للشمس وكسعى ورضي ضحوا وضحيا أصابته الشمس» . (وسوس) : وسوسة الشيطان كولولة الثكلى ووعوعة الذئب في أنها حكايات للأصوات، وسنتحدث عن أسماء الأصوات وحكاياتها في باب الفوائد، وجاء في القاموس: «وسوس وسواسا ووسوسة الشيطان له وإليه حدثه بشر أو بما لا نفع فيه ولا خير ووسوس الرجل: أصيب في عقله وتكلم بغير نظام وأصابته الوساوس فهو موسوس وتكلم بكلام خفي، والوسواس صوت الحلي، ووسوس الرجل كلمه كلاما خفيا، ووسوس به بالبناء للمجهول اختلط كلامه ودهش، والوسواس الاسم من وسوس، والوسواس الشيطان، والوسواس مرض يحدث من غلبة السوداء ويختلط معه الذهن ويقال لما يخطر بالقلب من شر أو لما لا خير فيه وسواس وجمعه وساوس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 254 (سَوْآتُهُما) : عوراتهما وقد تقدمت. (يَخْصِفانِ) : أي يلزقان من خصف النعل وهو أن يخرز عليها الخصاف أي يلزقان ورق الشجر بعضه ببعض حتى يصير عريضا صالحا للاستتار. (اجْتَباهُ) : اصطفاه وقربه من جبى إلي كذا فاجتبيته فالمجتبى كأنه في الأصل من جمعت فيه المحاسن حتى اختاره غيره. الإعراب: (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير مساوئ النسيان الذي هو صنو الجهل وقرينه ولذلك يجب التحوط منه والدعاء دائما بقوله تعالى «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» . واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وعهدنا فعل وفاعل والى آدم جار ومجرور متعلقان بعهدنا ومن قبل متعلقان بمحذوف حال، فنسي عطف على عهد أي نسي ما أمرناه به أي أن النسيان أمر مركوز في طباع بني آدم، ولم نجد: الواو عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم والفاعل مستتر تقديره نحن وعزما مفعول به. (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) الظرف متعلق باذكر مقدرا أي واذكر وقت ما جرى على آدم من معاداة إبليس ووسوسته له وتزيينه له الأكل من الشجرة ومبادرة آدم بالطاعة له بعد ما سلف من النصيحة البالغة والتحذير من الشيطان ومكره وأحابيله. وقد تقدم اعراب الآية كثيرا فلا حاجة الى الاعادة، ولا تنس اختلاف العلماء في اتصال الاستثناء وانقطاعه. وجملة أبى حالية. (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) الفاء عاطفة وقلنا فعل وفاعل ويا آدم نداء وجملة إن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 255 مقول القول وهذا اسم ان وعدو خبرها ولك صفة لعدو ولزوجك عطف على لك. (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) الفاء عاطفة ولا ناهية ويخرجنكما فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم بلا والكاف مفعول به والفاعل مستتر وهو إبليس والميم والألف للتثنية، فتشقى الفاء فاء السببية وتشقى فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية والفاعل مستتر تقديره أنت وأسند فعل الشقاء الى آدم وحده لأن شقاء زوجه منوط بشقائه كما أن سعادتها منوطة بسعادته فاختصر الكلام مع المحافظة على الفاصلة. (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) إن حرف مشبه بالفعل ولك خبر مقدم وأن وما في حيزها اسمها المؤخر وفيها متعلقان بتجوع ولا تعرى عطف على لا تجوع. (وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) عطف على سابقتها وسيأتي كلام بديع حول فصل الجوع عن الظمأ والعري عن الضحو والسر البياني الذي تتقطع دونه الأعناق في باب البلاغة. بقيت هناك مشكلة وهي عطف أنك على أن لا تجوع فكأنها اسم لإن بالكسر وهذا ممتنع فلا يقال: إن أن زيدا منطلق ولكن لما فصل هنا بينهما جاز فتقول: إن عندي أن زيدا قائم، فعندي هو الخبر قدم على الاسم وهو ان وما في حيزها لكونه ظرفا. والآية من هذا القبيل، ورأى الزمخشري رأيا آخر فقال «فإن قلت: إن لا تدخل على أن فلا يقال إن أن زيدا منطلق، والواو نائبة عن أن وقائمة مقامها، فلم أدخلت عليها؟ قلت: الواو لم توضع لتكون أبدا نائبة عن إن، إنما هي نائبة عن كل عامل، فلما لم تكن حرفا موضوعا للتحقيق خاصة كأن لم يمتنع اجتماعهما كما امتنع اجتماع إن وأن» . قال ابن هشام في صدد الحديث عن المواضع التي يجوز فيها كسر همزة إن وفتحها: السادس أن تقع بعد واو مسبوقة بمفرد صالح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 256 للعطف عليه نحو إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى، قرأ نافع وأبو بكر بالكسر في «وانك لا تظمأ» إما على الاستئناف فتكون جملة منقطعة عما قبلها أو بالعطف على جملة إن الأولى وهي إن لك أن لا تجوع وعليهما فلا محل لها من الإعراب وقرأ الباقون من السبعة بالعطف على أن لا تجوع من عطف المفرد على مثله والتقدير ان لك عدم الجوع وعدم الظمأ» . (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) فوسوس الفاء عاطفة ووسوس فعل ماض واليه متعلقان بوسوس والشيطان فاعل، قال يا آدم فعل ماض ونداء وهل حرف استفهام وأدلك فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وعلى شجرة الخلد متعلقان بأدلك وملك عطف على شجرة وجملة لا يبلى صفة لملك. (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) فأكلا فعل ماض والألف فاعل ومنها متعلقان بأكلا فبدت عطف على أكلا ولهما متعلقان ببدت وسوءاتهما فاعل، وطفقا فعل ماض من أفعال الشروع العاملة عمل كاد في وقوع الخبر فعلا مضارعا والالف اسمها وجملة يخصفان خبر طفقا وعليهما متعلقان بيخصفان ومن ورق الجنة صفة لموصوف محذوف هو المفعول به أي ورقا من ورق الجنة قيل هو التين والأولى أن يكون عاما ليشمل جميع أوراق الأشجار، وعصى آدم ربه فعل وفاعل ومفعول به، فغوى عطف على عصى. (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) ثم حرف عطف واجتباه فعل ومفعول به وربه فاعل فتاب عليه عطف على اجتباه وهدى عطف على تاب. (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) اهبطا فعل أمر مبني على حذف النون والألف فاعل ومنها متعلقان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 257 باهبطا وجميعا حال وبعضكم مبتدأ ولبعض حال لأنه كان صفة لعدو وعدو خبر وجملة بعضكم لبعض عدو في محل نصب على الحال. (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) الفاء عاطفة وإن شرطية وما زائدة ويأتينكم فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط والكاف مفعول به ومني متعلقان بيأتينكم وهدى فاعل يأتينكم، فمن اتبع الفاء رابطة ومن شرطية مبتدأ واتبع فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وهداي مفعول به والفاء رابطة للجواب وجملة لا يضل في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من وجملة من اتبع في محل جزم جواب إن. البلاغة: في قوله تعالى «إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى» فن بديع يسمى قطع النظير عن النظير وذلك انه قطع الظمأ عن الجوع والضحو عن الكسوة مع ما بينهما من التناسب، والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها، ولو قرن كلّا بشكله لتوهم المعدودات نعمة واحدة. ويسميه بعض علماء البيان «فن التوهيم» وقد سبقت الاشارة اليه وهو أن يأتي المتكلم بكلمة يوهم ما بعدها من الكلام أن المتكلم أراد تصحيفها وهو يريد غير ذلك، ومنها أن يأتي في ظاهر الكلام ما يوهم أن فيه لحنا خارجا عن اللسان، ومنها ما يأتي ظاهره يوهم أن الكلام قد قلب عن وجهه لغير فائدة، ومنها ما يأتي دالا على أن ظاهر الكلام فاسد المعنى وهو صحيح. وهذه الآية من القسم الذي يوهم ظاهره أن نظم الكلام جاء على غير طريق البلاغة لكون لفظه غير مؤتلف بمعناه لما ترى في الألفاظ من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 258 عدم ملاءمة، وإذا تأمله المتأمل حق التأمل وجده جاريا على منهج البلاغة بحيث لو جاء على ما توهمه المعترض لكان النظم معيبا. وفي الآية يقول المتوهم لو قيل لا تجوع ولا تظمأ ولا تضحى ولا تعرى لكان ذلك جاريا على ما توجبه البلاغة من الملاءمة والجواب ان مجيئها على ما توهمه المتوهم يفسد معنى النظم لأنه لو قيل: ان لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ لوجب أن يقول وانك لا تعرى فيها ولا تضحى، والتضحي البروز للشمس بغير سترة. قال الهذلي وقيل للمجنون كما في أمالي القالي: سلبت عظامي لحمها فتركتها ... مجردة تضحى لديك وتخصر أي تلقى الشمس الضاحية مجردة فينال منها حرها وتلقى برد الليل مجردة فينال منها برده فهي معذبة ليلها ونهارها وإذا كان التضحي البروز للشمس بغير سترة كان معناه التعري فيصير معنى الكلام: وانك لا تعرى فيها ولا تعرى وهذا فساد ظاهر، ولما كان هذا الفساد لازما للنظم على الوجه الذي توهمه المتوهّم وجب العدول عنه الى لفظ القرآن وهو أن يضم سبحانه لنفي الجوع نفي العري لتطمئن النفس بسد الجوعة وستر العورة اللذين تدعو إليهما ضرورة الحياة وتطلبهما طبيعة الإنسان بالجبلّة، ولما كان الجوع مقدّما على العطش كتقديم الأكل على الشراب أوجبت البلاغة تأخر ذكر الظمأ عن الجوع وتقديمه على التضحي لأنه مهم يجب أن يتقدم الوعد بنفيه كما تقدم الوعد بنفي الجوع، ويتأخر ذكر التضحي كما تأخر ذكر العري عن الجوع لأن التضحي من جنس العري والظمأ من جنس الجوع فإن قيل: لم ذكر التضحي وهو عري في المعنى وقد أغنى ذكر العري؟ قلت: في ذكر التضحي فائدة كبيرة وهي وصف الجنة بأنها لا شمس فيها كما قال سبحانه: «لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» فإن التضحي عري مخصوص الجزء: 6 ¦ الصفحة: 259 مشروط بالبروز الى الشمس وقت الضحى لذلك سمي تضحيا والانتقال من الأعم الى الأخص بلاغة لاختصاص الأخص بما لا يوجد في الأعم وقال العز بن عبد السلام في الأمالي: كان المناسب من طريق المجاز أن لا تجوع ولا تظمأ ولا تعرى ولا تضحى للجمع بين المتماثلين فلم عدل عن هذا؟ والجواب: ان في الآية جناسا خيرا من هذا وذلك أن الجوع تجرد الباطن من الغذاء والعري تجرد الظاهر من الغشاء فجانس في الآية بين التجردين وكذلك الظمأ حر الباطن والضحى وهو الظهور للشمس حرّ الظاهر فجانس بالجمع بين الحرّين. وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديما وحديثا فقال أبو الطيب المتنبي: وفقت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضّاح وثغرك باسم يحكى انه لما استنشده سيف الدولة يوما قصيدته التي أولها: على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم فلما بلغ الى هذين البيتين قال سيف الدولة: قد انتقدتهما عليك كما انتقد على امرئ القيس قوله: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 260 كأني لم أركب جوادا للذة ... ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال ولم اسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال فبيتاك لم يلتئم شطراهما كما لم يلتئم شطرا بيتي امرئ القيس وكان ينبغي لك أن تقول: وفقت وما في الموت شك لواقف ... ووجهك وضاح وثغرك باسم تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... كأنك في جفن الردى وهو نائم فقال المتنبي إن صحّ أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا هو أعلم بالشعر منه فقد أخطأ امرؤ القيس واخطأت انا، ومولاي يعلم أن الثوب لا يعلمه البزاز كما يعلمه الحائك لأن البزاز يعرف جملته والحائك يعرف تفاصيله، وانما قرن امرؤ القيس النساء بلذة الركوب للصيد، وقرن السماحة بسباء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء، وكذلك لما ذكرت الموت في صدر البيت الأول أتبعته بذكر الردى في آخره ليكون أحسن تلاؤما، ولما كان وجه المنهزم الجريح عبوسا وعينه باكية قلت «ووجهك وضاح وثغرك باسم» لأجمع بين الأضداد. على أن في هذه الآية سرا لذلك زائدا على ما ذكر وهو أنه قصد تناسب الفواصل ولو قرن الظمأ بالجوع لانتثر سلك رؤوس الآي وأحسن به منتظما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 261 الفوائد: أسماء الأصوات: وعدناك ببحث أسماء الأصوات ونرى أن نتوسع فيها قليلا لأن كتب النحو قلّما تهتم لها. فهي تجري مجرى أسماء الافعال لأنها متواخية معها وهي مبنية وتنقسم الى قسمين: آ- ما خوطب به مالا يعقل مما يشبه اسم الفعل في الاكتفاء به، ولكن اسم الفعل مركب واسم الصوت مفرد لعدم تحمله الضمير كقولهم في دعاء الإبل لتشرب: جىء جىء بكسر الجيم فيهما مكررين مهموزين، وفي المحكم انهما أمر للابل بورود الماء يقال جأجأت الإبل إذا دعوتها لتشرب فقلت جىء جىء نقله الجوهري عن الاموي، وكقولهم في دعاء الضأن حاحا وفي دعاء المعز عاعا غير مهموزين والفعل منهما حاحيت وعاعيت، قال سيبويه وأبدلوا الألف من الياء لشبهها بها لأن قولك حاحيت انما هو صوت بنيت منه فعلا وليست فاعلت وكقولهم في زجر البغل: عدس ما لعباد عليك إمارة ... أمنت وهذا تحملين طليق فعدس صوت يزجر به البغل وقد يسمى البغل به والتقدير على التسمية به يا عدس فحذف حرف النداء. وإمارة بكسر الهمزة أي حكم. ب- ما حكي به صوت مسموع، والمحكي صوته قسمان حيوان وغيره: فالأول كغاق بالغين المعجمة والقاف لصوت الغراب، والثاني نحو طاق حكاية لصوت الضرب وطق بفتح الطاء حكاية لصوت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 262 وقع الحجارة بعضها على بعض. هذا وسيرد المزيد من بحث أسماء الأصوات في هذا الكتاب. نبذة من أسماء الأصوات: وفيما يلي طائفة مختارة من أسماء الأصوات: الصرير صوت القلم والسرير والباب والطست والنعل، والنشيش صوت غليان القدر والشراب، الرنين: صوت الثكلى والقوس، القصيف: صوت الرعد والبحر، وهدير الفحل، النقيق صوت الدجاج والضفدع، القعقعة: صوت السلاح والجلد اليابس والقرطاس، الغرغرة: صوت غليان القدر وتردد النفس في صدر المحتضر، العجيج: صوت الرعد والنساء والشاء، الزفير: صوت النار والحمار والمكروب إذا امتلأ صدره غما فزفر به، الخشخشة والشخشخة: صوت حركة القرطاس والثوب الجديد والدرع، الجلجلة: صوت السبع والرعد وحركة الجلاجل، الحفيف: صوت حركة الأغصان وجناح الطائر وحركة الحية، الصليل والصلصلة: صوت الحديد واللجام والسيف والدراهم والمسامير، الطنين: صوت البعوض والذباب والطنبور، الأطيط: صوت الناقة والمحمل والرجل إذا أثقله ما عليه، الصرصرة: صوت البازي والبط، الدوي: صوت النحل والأذن والمطر والرعد، الانقاض: صوت الدجاجة والفروج، التغريد صوت المغني والحادي والطائر وكل صائت طرب الصوت فهو غرد، الزمزمة والزهزمة: صوت الرعد ولهب النار وحكاية صوت المجوسي إذا تكلف الكلام وهو مطبق فمه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 263 [سورة طه (20) : الآيات 124 الى 135] وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 264 اللغة: (ضَنْكاً) : بالتنوين مصدر بمعنى ضيقة ولهذا لم يؤنث بأن يقال ضنكة على حد القاعدة التي ذكرها صاحب الخلاصة: ونعتوا بمصدر كثيرا ... فالتزموا الإفراد أو التذكيرا وفي القاموس: «الضنك الضيق في كل شيء للذكر والأنثى يقال ضنك ككرم ضنكا وضناكة وضنوكة ضاق» وقرئ ضنكى على فعلى. (يَهْدِ لَهُمْ) : أي يهتدي لهم فهو لازم ومعناه يتبين. (آناءِ اللَّيْلِ) : جمع إنى بكسر الهمزة والقصر كمعى بكسر الميم. وفي المختار: آناء الليل ساعاته، قال الأخفش واحدها إنى مثل معى وقيل واحدها أني وأنو، يقال مضى من الليل أنوان وانيان. (مُتَرَبِّصٌ) : منتظر ما يئول اليه الأمر. الإعراب: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) الواو عاطفة على جواب الشرط المتقدم وهو «فمن اتبع هداي» ومن اسم شرط جازم مبتدأ وأعرض فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وعن ذكري متعلقان بأعرض، فإن الفاء رابطة للجواب لأنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 265 جملة اسمية وان حرف مشبه بالفعل وله خبرها المقدم ومعيشة اسمها المؤخر وضنكا صفة والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من. (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) ونحشره الواو استئنافية ونحشر فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به ويوم القيامة ظرف متعلق بنحشره وأعمى حال من الهاء في نحشره وقد قرئ بالجزم عطفا على محل «فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً» . (قالَ: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) رب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة ولم اللام حرف جر وما الاستفهامية في محل جر باللام وقد حذفت ألف ما الاستفهامية كما هي القاعدة والجار والمجرور متعلقان بحشرتني، وحشرتني فعل وفاعل ومفعول به وأعمى حال والواو للحال وقد حرف تحقيق وكنت: كان واسمها وبصيرا خبر كنت. (قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) كذلك نعت لمصدر محذوف أي حشرا مثل ذلك أو خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وأتتك آياتي فعل وو مفعول به مقدم وفاعل مؤخر، فنسيتها الفاء عاطفة ونسيتها فعل وفاعل ومفعول به، وكذلك نعت لمصدر محذوف واليوم ظرف متعلق بتنسى. (وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) وكذلك نعت لمصدر محذوف ونجزي فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ومن موصول مفعول به وجملة أسرف صلة، ولم يؤمن عطف على أسرف فهو داخل في حيز الصلة وبآيات متعلقان بيؤمن وربه مضاف إليه، ولعذاب: الواو حالية أو عاطفة واللام للابتداء وعذاب مبتدأ والآخرة مضاف إليه وأشد خبر وأبقى عطف على أشد. (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) الهمزة للاستفهام وهي داخلة على محذوف عطف عليه بالفاء وقد تقدم تقريره كثيرا وأعدناه الآن للتذكير والتقدير أغفلوا فلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 266 يتبين لهم، وفاعل يهد المصدر المفهوم من أهلكنا أي أفلم يتبين لهم إهلاكنا ويحتمل أن يكون فاعل يهد ضميرا عائدا على الله تعالى أي يبين الله والأول أولى لأن يهدي معناه يتبين فهو لازم فالفاعل هو الجملة المنسبكة مصدرا لأهلكنا. وقد أنكر البصريون وقوع الجملة فاعلا وجوزه غيرهم قال القفال: جعل كثرة ما أهلك من القرون مبينا لهم، قال النحاس: وهذا خطأ لأن كم استفهام فلا يعمل فيها ما قبلها وقال الزجاج: المعنى أولم يهد لهم الأمر باهلاكنا من أهلكناه وحقيقته تدل على الهدى فالفاعل هو الهدى. ولهم متعلقان بيهد وكم خبرية مفعول مقدم لأهلكنا ومن القرون نعت لتمييزكم الخبرية أي كم قرن من القرون والمراد الأمة، وجملة يمشون في مساكنهم حال من مفعول أهلكنا أو من الضمير في لهم وفي مساكنهم متعلقان بيمشون والضمير يعود على المهلكين بفتح اللام يريد أن قريشا يتقلبون في بلاد عاد وثمود ويعاينون آثار هلاكهم وفيها ما يدعوا الى العبرة والاتعاظ، وقد رمق أبو الطيب سماء هذا المعنى كما سيأتي في باب البلاغة. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) إن وخبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها المؤخر، ولأولي صفة لآيات والنهى مضاف اليه وهي جمع نهية بمعنى العقل. (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) الواو استئنافية ولولا حرف امتناع لوجود وكلمة مبتدأ محذوف الخبر وجملة سبقت من ربك صفة لكلمة ومن ربك متعلقان بسبقت، لكان اللام واقعة في جواب لولا وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره هو يعود على الإهلاك ولزاما خبرها، وأجل مسمى عطف على كلمة أي ولولا أجل مسمى لكان الإهلاك لازما لهم ويجوز كما يرى الزمخشري وأبو البقاء أن يكون معطوفا على الضمير المستتر في «كان» أي لكان الإهلاك العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود ومن العجيب ان معظم المفسرين كالجلال والبيضاوي وغيرهما جروا على هذا الوجه رغم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 267 ما فيه من تكلف وقالوا: ان الفصل بالخبر قام مقام التأكيد لأنه كان من حق العطف أن يؤكد الضمير المستتر في كان بالضمير المنفصل فكان يقال هو لزاما وأجل مسمى ولا داعي لكل هذا التكلف وعطفه على كلمة أسهل وأسرع في تأدية المعنى المراد. (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها) الفاء الفصيحة أي إذا كان الأمر على ما ذكر من أن تأخير عذابهم ليس باهمال بل امهال وهو واقع بهم وآت عليهم فاصبر. واصبر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعلى ما متعلقان باصبر وجملة يقولون صلة وسبح عطف على اصبر وبحمد ربك في موضع نصب على الحال أي وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه وسيأتي المراد بالصبر في باب الفوائد. وقبل متعلق بسبح وطلوع الشمس مضاف وقبل غروبها عطف على قبل طلوع الشمس. (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) الجار والمجرور متعلقان بسبح والفاء هي الفصيحة أيضا وسبح فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وأطراف النهار نصب عطفا على محل «ومن آناء» المنصوب ويجوز عطفه على قبل طلوع الشمس ولعل حرف ترج ونصب والكاف اسمها وجملة ترضى خبرها ومتعلق نرضى محذوف مفهوم من السياق أي بما تعطاه من الثواب وجملة لعلك ترضى حالية من فاعل سبح أي صل حال كونك راجيا في أن الله تعالى يرضيك بما يعطيكه من الثواب. (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) الواو عاطفة ولا ناهية وتمدن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد وهو في محل جزم بلا وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت وعينيك مفعول به والى ما متعلقان بتمدن وجملة متعنا صلة وبه متعلقان بمتعنا والهاء هي العائد وأزواجا مفعول متعنا أي أصنافا منهم ومنهم صفة ويجوز أن يعرب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 268 نصبا على الحال من هاء الضمير فيكون منهم متعلقا بمتعنا وزهرة الحياة الدنيا توسع المعربون في اعرابها فأوصلوا أوجه نصبها الى تسعة وقد محصناها فرأيناها كلها سائغة ولهذا نعرضها كما ذكروها لنتوصل إلى الترجيح: 1- أن تكون مفعولا ثانيا إذا أعربنا أزواجا هو المفعول الاول لأن معنى متعنا أعطينا. 2- أن تكون منصوبة على الحال من ما الموصولة. 3- أن تكون منصوبة على البدلية من أزواجا على المبالغة كأنهم نفس الزهرة. 4- أن تكون منصوبة بفعل مضمر دل عليه متّعنا تقديره جعلنا لهم زهرة. 5- أن تكون منصوبة على الذم أي أذم زهرة الحياة الدنيا. 6- أن تكون منصوبة على الاختصاص. 7- أن تكون منصوبة على البدلية من محل «به» . 8- أن تكون منصوبة على الحال من الضمير في «به» . 9- أن تكون منصوبة على التمييز ل «ما» أو للهاء في «به» . ومن تمحيص هذه الوجوه ومراعاة جانب السهولة يتبين أن نصب زهرة يترجح في نصبها على الذم أو المفعولية على تضمين متعنا معنى أعطينا وبهما بدأ الزمخشري وغيره. ولنفتنهم اللام للتعليل ونفتنهم مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 269 لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بمتعناهم والهاء مفعول به وفيه متعلقان بنفتنهم. (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) الواو للحال ورزق ربك مبتدأ وخير خبر وأبقى عطف على خير. (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) وأمر الواو استئنافية أو عاطفة وأمر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وأهلك مفعول به وبالصلاة متعلقان بفعل الأمر واصطبر فعل أمر وفاعله مستتر وتقديره أنت وعليها متعلقان باصطبر وجملة لا نسألك استئنافية ونسألك فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به ورزقا مفعول به ثان. (نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) نحن مبتدأ وجملة نرزقك خبر والعاقبة مبتدأ وللتقوى خبر وهاتان الجملتان مستأنفتان أيضا. (وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) لولا حرف تحضيض أي هلا ويأتينا فعل وفاعل مستتر ومفعول به وبآية متعلقان بيأتينا ومن ربه متعلقان بمحذوف صفة لآية، اقترحوا جريا على دينهم المعروف وعادتهم في التعنت واللجاج، أولم الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على مقدر يقتضيه السياق والتقدير ألم تأتهم البينات تترى ولم تأتهم بصورة خاصة بينة ما في الصحف الأولى، وبينة فاعل لتأتهم وما موصول مضاف لبينة وفي الصحف متعلقان بمحذوف صلة الموصول والأولى صفة للصحف وفيها ما يكفي المنصف أما المكابر المتعنت فهيهات أن يقنعه شيء. (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا) تقدم اعراب مثل هذا التركيب أي لو ثبت إهلاكنا، فأنا وما بعدها فاعل لفعل محذوف والجملة مستأنفة سيقت لدعيم ما تقرر من تعنتهم وصلفهم ومجادلتهم وبعذاب متعلقان بأهلكناهم ومن قبله صفة لعذاب. لقالوا: جواب لو والجملة لا محل لها وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء ولولا حرف تحضيض الجزء: 6 ¦ الصفحة: 270 وأرسلت فعل وفاعل وإلينا متعلقان بأرسلت ورسولا مفعول به والجملة مقول القول. (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) فنتبع الفاء هي السببية وتنبع منصوب بأن مضمرة في جواب التحضيض والفاعل مستتر تقديره نحن وآياتك مفعول به منصوب بالكسرة لأنه جمع مؤنث سالم ومن قبل متعلقان بنتبع وان وما بعدها في تأويل مصدر مضاف لقبل ونخزى عطف على نذل. (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى) كل مبتدأ ساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم ومتربص خبر والجملة مقول القول والفاء الفصيحة وتربصوا فعل أمر، فستعلمون الفاء استئنافية والسين حرف استقبال وتعلمون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل ومن اسم استفهامية مبتدأ وأصحاب الصراط السوي خبر ومن اهتدى عطف على من أصحاب والجملة من أصحاب مفعول تعلمون المعلقة عن العمل ويجوز أن تكون من موصولة مفعول تعلمون وأصحاب الصراط خبر لمبتدأ محذوف أي هم أصحاب. البلاغة: 1- المجاز المرسل فقد ذكر القرون وأراد الأمم التي تعيش عبرها والاعتبار بآثار الأمم البائدة، والقرون الخالية، كان مثارا لأخيلة الشعراء وخاصة في مقام الرثاء وأبرع من سما بخياله الى هذا المعنى أبو الطيب المتنبي والبحتري فنكتفي بهما وسنورد أبياتا مختارة من قصيدتين لهما. يقول عبد الله بن المعتز الشاعر العباسي الخليفة: «لو لم يكن للبحتري إلا قصيدته في ايوان كسرى وقصيدته في وصف بركة المتوكل لكان أشعر الناس» فقد زار البحتري بعد أن سئم الحياة في بغداد بعد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 271 مقتل المتوكل على الله المدائن وهي مدينة يقع فيها ايوان كسرى وقد أبدع في وصف الايوان إبداعا فريدا زاده روعة أنه من شعراء العرب أول من وصف الآثار القديمة الخالدة واستوحاها وصب عليها من روحه وهذه مختارات منها: صنت نفسي عما يدنّس نفسي ... وترفعت عن جدا كلّ جبس وتماسكت حيث زعزعني الده ... ر التماسا منه لتعسي ونكسي حضرت رحلي الهموم فوجه ... ت الى أبيض المدائن عنسي ذكرتنيهم الخطوب التوالي ... ولقد تذكر الخطوب وتنسي حلل لم تكن كأطلال سعدى ... في فقار من البسابس ملس فكأن الجرماز من عدم الأن ... س وإخلاله بنية رمس لو تراه علمت أن الليالي ... جعلت فيه مأتما بعد عرس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 272 فإذا ما رأيت صورة انطا ... كية ارتعت بين روم وفرس والمنايا مواثل وانوشر ... ... ... وان يزجي الصفوف تحت ال درفس في اخضرار من اللباس على أص ... فر يختال في صبيغة ورس عمرت للسرور دهرا فصارت ... للتعزي رباعهم وال تأسي فلها ان أعينها بدموع ... موفقات على الصبابة حبس ولا يتسع المجال لا يراد القصيدة بكاملها، فهي نموذج حي معبر من أدبنا العربي، كما لا يتسع المجال لدراستها فنكتفي بإيراد بعض الملاحظات السريعة عليها: 1- تشعر حين تقرأ السينية بروعة موسيقاها الناتجة عن خفة الجر وجماله (الخفيف) وتلاؤمه مع العواطف والمعاني والألفاظ والروي المهموس وهو السين وترداد الحروف المهموسة كالسين والصاد والتاء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 273 2- تشعر بتأثر الشاعر بالعظمة حين قدم لوصف الايوان ثم ما تعتم أن تأسى وتحزن حين تقرأ أن الليالي جعلت فيه مأتما بعد عرس وهذا التجاوب النفسي بين ما يصفه الشاعر وبين ما يصف ميزة فنية بحتة. 3- تشعر أن الشاعر يعجب بكل ما هو عظيم في الدنيا ولو كان من غير قومه فنراه هنا معجبا بالفرس فبكاهم أصدق بكاء ورثاهم أحر رثاء وهكذا الفن يسمو ليستحيل انسانية صرفا. 4- وأخيرا تعجب من أن الشاعر يطرق في الأدب العربي فنا جديدا لم يطرقه أحد من قبله وهو رثاء الممالك الزائلة والآثار الباقية، ولم يشر إليه قبل القرآن أحد فيقول الله تعالى «أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى» . وننتقل الى عينية أبي الطيب المتنبي وهي القصيدة التي رثى بها أبا شجاع فاتك وفيها تحدث عن شعور الإنسان حيال الآثار المتخلفة عن أصحابها فقال منها: إني لأجبن عن فراق أحبتي ... وتحسّ نفسي بالحمام فأشجع ويزيدني غضب الأعادي قسوة ... ويلمّ بي عتب الصديق فأجزع تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عما مضى فيها وما يتوقع ولمن يغالط في الحقائق نفسه ... ويسومها طلب المحال فتطمع أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه؟ ما المصرع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 274 تتخلّف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع ويظهر أن أبا الطيب كان يحب القائد فاتكا أبا شجاع حبا خالصا قائما على الاعجاب فهو يرثيه بقصيدتين يجعل منهما وسيلة إلى الإبانة عما في نفسه من هموم ومحن وترى من خلالهما بعض النظرات الفلسفية فهو كما ترى يرى الحياة لا تصفو إلا للجاهل أو الغافل أما الشجاع الأبي فقلما تخطئه سهامها ونراه هنا معاني مظلمة قاتمة في نفسه حتى ليكاد يلقي سلاحه أمام عوادي الزمان لولا بقية من قوة يستمسك بها: المجد أخسر والمكارم صفقة ... من أن يعيش لها الهمام الأروع والناس أنزل في مكانك منزلا ... من أن تعايشهم وقدرك أرفع 2- وفي قوله: «أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ... » الآية فن المناسبة وهي على ضربين معنوية ولفظية والمعنوية هي أن يبتدئ المتكلم بمعنى ثم يتمم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ فالآية موعظتها سمعية فختمها بأشد مناسبة معنوية بقوله «أَفَلا يَسْمَعُونَ» وقال في الآية التي موعظتها مرئية وهي آية السجدة: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ» فقد ختمها بقوله: «أَفَلا يُبْصِرُونَ» لأن ذلك مما يتبين بالرؤية وما فوق هذه المناسبة مناسبة. ومن بديع ما ورد فيها شعرا قول القاضي الفاضل: وبدر بأفلاك الخواطر طالع ... وغصن بريحان الغدار وريق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 275 لئن بت في بحر من الفكر سابحا ... فإنسان عيني في الدموع غريق فالمناسبة في الشطر الاول في البدر والافلاك والطلوع وفي الشطر الثاني بين الغصن والريحان ووريق وفي الثالث بين البحر وسابحا وفي الرابع بين إنسان العين والدموع وغريق ففي كل شطر من البيتين مناسبات عديدة، وأما المناسبة اللفظية فهي دون رتبة المعنوية وهي الإتيان بكلمات متزنات وهي أيضا على ضربين: تامة وغير تامة فالتامة تكون الكلمات مع الاتزان مقفاة والناقصة موزونة غير مقفاة فمن شواهد التامة من القرآن العظيم قوله تعالى: «ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ، ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ» ومن الشعر قول ابن هانئ الاندلسي: وعوابس وقوابس وفوارس ... وكوانس وأوانس وعقائل ومن غير التامة قول ابن خلوف المغربي: كالورد خدا والغزالة بهجة ... والغصن قدا والغزال مقلدا وقد اجتمعت التامة والناقصة في قول أبي تمام: مها الوحش إلا أن هاتا أوانس قنا الحظ إلا أن تلك ذوابل فبين قنا ومها مناسبة لفظية تامة وبين الوحش والحظ وأوانس وذوابل مناسبة غير تامة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 276 الفوائد: النسخ في القرآن: في قوله تعالى «فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ» مبحث هام جدير بالتأمل وهو أن معظم المفسرين درجوا على القول إن هذه الآية منسوخة بآية القتال والصواب انها ليست منسوخة بل هي أمر بالصبر المحمود على كل حال وهو عدم الاضطراب ومساورة الجزع لما يقولون ولما يصدر عنهم من الأذية وليس فيها أية اشارة أو تلميح الى عدم القتال حتى يكون الأمر بالقتال ناسخا لها. وموضوع النسخ في القرآن الكريم من الموضوعات الشائكة الصعبة، والاختلاف حوله كثير وما علم في هذا الباب من استقراء كلام الصحابة والتابعين انهم كانوا يستعملون النسخ بإزالة المعنى اللغوي الذي هو إزالة شيء بشيء لا بإزاء مصطلح الأصوليين فمعنى النسخ عندهم إزالة بعض الأوصاف من الآية بآية أخرى إما بانتهاء مدة العمل أو بصر الكلام عن المعنى المتبادر الى غير المتبادر، أو بيان كون قيد من القيود اتفاقيا أو تخصيص عام أو بيان الفارق بين المنصوص وما قيس ظاهرا عليه أو ازالة عادة الجاهلية أو الشريعة السابقة فاتسع باب النسخ عندهم وكثر جولان العقل هنالك واتسعت دائرة الاختلاف. أما المنسوخ باصطلاح المتأخرين فهو قليل جدا وقد ذكر الشيخ جلال الدين السيوطي في الإتقان بتقرير مبسوط، كما ينبغي، بعض ما ذكره العلماء ثم حرر المنسوخ الذي فيه رأي المتأخرين على وفق الامام الحافظ القاضي أبي بكر محمد بن عبد الله ابن العربي المعافري الجزء: 6 ¦ الصفحة: 277 الاندلسي فعنده قريبا من عشرين آية، وأتى في العصر الحديث الشيخ الامام محمد عبده فأنكر النسخ في القرآن وقال ان كل ما زعموا انه منسوخ يمكن تأويله كما رأيت في قوله تعالى «فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ» وهو ظاهر في هذه الآية يطيح بالقول القديم ان الآيات المنسوخة تبلغ حوالي خمسمائة آية وهو قول ظاهر البطلان بالبداهة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 278 (21) سورة الأنبياء مكية وآياتها اثنتا عشرة ومائة [سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) اللغة: (النَّجْوَى) : الكلام السرّ وهي اسم من التناجي ولا تكون إلا خفية، وفي القاموس: «وهو وصف بالمصدر يستوفى فيه المفرد والجمع يقال: هم نجوى» . (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) : أخلاط رآها في النوم وقد تقدم بحثها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 279 الإعراب: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) اقترب فعل ماض مبني على الفتح وللناس متعلقان باقترب ويجوز أن تكون تأكيدا لإضافة الحساب إليهم كقولك أزف للحي رحيلهم. والأصل أزف رحيل الحي ثم أزف للحي الرحيل ثم أزف للحي رحيلهم، وحسابهم فاعل اقترب لأن كل آت قريب مهما يطل الأمد والواو للحال وهم مبتدأ وفي غفلة خبر ومعرضون خبر ثان. (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) الجملة تعليل للجملة السابقة فلا محل لها وما نافية ويأتيهم فعل مضارع والهاء مفعول به ومن حرف جر زائد لسبقه بالنفي وذكر مجرور لفظا مرفوع محلا على الفاعلية ومن ربهم صفة لذكر ومحدث صفة ثانية ويجوز تعليق من ربهم بيأتيهم أو بمحذوف حال من ذكر لأنه وصف بمحدث وإلا أداة حصر لأن الاستثناء مفرغ وجملة استمعوه في محل نصب على الحال من مفعول يأتيهم وقد مقدرة وهم الواو حالية وهم مبتدأ وجملة يلعبون خبر هم والجملة نصب على الحال من فاعل استمعوه، هذا وقد استدل بوصف الذكر بكونه محدثا على أن القرآن محدث لأن الذكر هنا هو القرآن وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث المركب من الأصوات والحروف لأنه متجدد في النزول فالمعنى محدث تنزيله وإنما النزاع في الكلام النفسي. (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) لاهية حال من فاعل يلعبون أيضا فتكون حالا متداخلة ويجوز أن تكون حالا من فاعل استمعوه فتكون الحالان مترادفتين لأن الحال يجوز تعددها وقلوبهم فاعل لاهية وأسروا فعل وفاعل والنجوى مفعول به والذين بدل من واو وأسروا النجوى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 280 إشعارا بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش الذي جاءوا به وسيأتي المزيد من إعراب هذه الكلمة في باب الفوائد، وجملة ظلموا صلة وهل حرف استفهام وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وبشر خبر. ومثلكم صفة والجملة الاستفهامية في محل نصب بدل من النجوى لأنها بمثابة التفسير لها وأجاز الزمخشري أن تكون في محل نصب مقول قول محذوف ويجوز أن تكون في محل نصب محكية للنجوى لأنها في معنى القول، ولا أرى مانعا من أتكون جملة لا محل لها لأنها مفسرة. (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) وهذه الجملة تنطبق عليها الأوجه المتقدمة والهمزة للاستفهام والفاء عاطفة على مقدر وتأتون السحر فعل مضارع وفاعل ومفعول به والواو للحال وأنتم مبتدأ وجملة تبصرون خبر وجملة وأنتم تبصرون حالية من فاعل تأتون مقررة للانكار. (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ربي مبتدأ وجملة يعلم القول خبر والجملة مقول القول وفي السماء والأرض متعلقان بمحذوف حال من القول أو بيعلم وهو الواو عاطفة وهو مبتدأ والسميع العليم خبران لهو وحذف متعلقهما للعلم به أي السميع لما أسروه والعليم به. (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ) أضربوا عن قولهم هو سحر فقالوا هو أضغاث أحلام فأضغاث أحلام خبر لمبتدأ محذوف والجملة في محل نصب مقول قالوا بل افتراه ثم أضربوا عن ذلك فقالوا اختلقه فافتراه فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به ثم أضربوا أيضا فقالوا هو شاعر مبتدأ وخبر. (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدر كأنه قيل وإن لم يكن كما قلنا فليأتنا واللام لام الأمر ويأت فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره هو ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به كما يجوز في الكاف أن تكون نعتا لآية أي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 281 كائنة مثل الآية التي أرسل بها الأولون وعندئذ فما موصولة ويجوز أن تكون نعتا لمصدر محذوف وما مصدرية أي فليأتنا بآية اتيانا كائنا مثل إرسال الأولين. الفوائد: قوله تعالى «وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» قال أبو البقاء: «الذين ظلموا في موضعه ثلاثة أوجه: أحدها: الرفع، وفيه أربعة أوجه: آ- أن يكون بدلا من الواو في وأسروا. ب- أن يكون فاعلا والواو حرف للجمع لا اسم. ج- أن يكون مبتدأ والخبر هل هذا والتقدير يقولون: هل هذا؟ د- أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين ظلموا. وثانيها: أن يكون منصوبا على إضمار أعني. وثالثها: أن يكون مجرورا صفة للناس. والمعروف أن الفعل يجب أن يبقى مع الفاعل بصيغة الواحد وان كان مثنى أو مجموعا قال ابن مالك: وجرد الفعل إذا ما أسندا ... لاثنين أو جمع كفاز الشهدا إلا على لغة ضعيفة لبعض العرب فيطابق فيها الفعل الفاعل، وحكى البصريون عن طيء وحكى بعضهم عن ازدشنوءة نحو ضربوني قومك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 282 وضربنني نسوتك وضرباني أخواك وفي الحديث «أو مخرجيّ هم» وقال عمرو بن ملقط الجاهلي: ألفيتا عيناك عند القفا ... أولى فأولى لك ذا واقيه فألفيتا بالبناء للمجهول فعل ماض وعيناك نائب الفاعل فألحق الفعل علامة التثنية مع اسناده الى الظاهر ونائب الفاعل كالفاعل وعند ظرف بمعنى قرب متعلق بألفيتا وذا واقية حال من المضاف إليه وهو الكاف وواقية مصدر معناه الوقاية كالكاذبة مصدر معناه الكذب وأولى، فأولى لك دعاء أي قاربك ما يهلكك قال العيني: فإن قلت: ما موقع أولى من الاعراب؟ قلت: يجوز أن يكون في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره دعائي أولى لك، فأولى لك عطف على أولى الأول كرر للتأكيد وقال أبو البقاء في إعراب أولى لك فأولى فيه قولان أحدهما فعلى والألف فيه للإلحاق لا للتأنيث والثاني أفعل وهو على القولين هنا ولذلك لم ينون ويدل عليه ما حكى أبو زيد في النوادر وهي أولات بالتاء غير مصروف لأنه صار علما للوعيد فصار كرجل اسمه أحمد فعلى هذا يكون أولى مبتدأ ولك الخبر والثاني أن يكون اسما للفعل مبنيا ومعناه ويلك شر بعد شر ولك تبيين، وهذا البيت يصف به رجلا إذا اشتد الوطيس فهو يلتفت الى ورائه مخافة أن يتبع فتلفى عيناه عند فقاه من شدة الالتفات، وقال أبو فراس: تنج الربيع محاسنا ... ألقحنها غر السحائب وأبو فراس من المولدين والغرض من كلامه التمثيل لا الاستشهاد. وارتأى الشيخ مصطفى الغلاييني رأيا جميلا وسنورد نص كلامه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 283 «وما ورد من ذلك من فصيح الكلام فيعرب الظاهر بدلا من المضمر وعليه قوله تعالى (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أو يعرب الظاهر مبتدأ والجملة قبله خبر مقدم، أو يعرب فاعلا لفعل محذوف فكأنه قيل بعد قوله وأسروا النجوى: من أسرها؟ فيقال أسرها الذين ظلموا وهو الحق وهذا لا يكون إلا حيث يستدعي المقام تقدير كلام استفهامي كما ترى في الآية الكريمة» ونحسب أن القول قد أشبع فحسبنا ما تقدم. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 6 الى 13] ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) اللغة: (قَصَمْنا) : القصم أبلغ من الكسر وفي القاموس «قصم من باب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 284 صرب قصما الشيء: كسره، وقصم الرجل: أهلكه، ويقال: قصم الله ظهر الظالم أي أنزل به البلية» وللقاف مع الصاد فاء وعينا للكلمة سر عجيب، انهما تدلان على الكسر والمحق والإهلاك فقولهم: قصب الشاة يعني قطعها قطعا أو عضوا عضوا ومنه سمي القصاب أي الجزار والقصّابة مؤنث القصاب ولها معنى آخر وهو ما نسميه اليوم «الناي» أي قصبة ينفخ بها للغناء وعن بعض العرب: قلت أبياتا فغنى بها حكم الوادي فو الله ما حرك بها قصّابة إلا خفت النار فتركت قول الشعر، وهي الوتر، ونفخ في القصابة: في المزمار، وأقصدته المنية أهلكته ومنه قصد الرجل أتى اليه ونحا نحوه، وقصرته حبسته وقصرت نفسي على هذا الأمر إذا لم تطمح الى غيره وقصرت طرفي لم أرفعه الى مالا ينبغي وهنّ قاصرات الطرف: قصرنه على أزواجهنّ، وقص الشعر والريش وقصّصه معروف وجناح مقصوص ومقصص، وقصع الصّؤاب بين ظفريه قتله وقصعت الرحى الحب فضخته وصبي قصيع قميء لا يشب، وقصف القناة والعود كسرهما وقصف ظهره ورجل مقصوف والعامة تقول لمن تدعو عليه يا مقصوف وهي فصيحة لا غبار عليها وعصفت ريح فقصفت السفينة وعود قصف: سريع الانكسار، قال الطرماح: تميم تمنّى الحرب ما لم ألاقها ... وهم قصف العيدان في الحرب خورها وقصله قطعه قطعا وحيّا وسيف قاصل وقصّال ومقصل وقصل فرسه يقصله: علفه القصيل ومنه المقصلة وهي آلة للاعدام قوامها سكين تسقط على رأس المجرم فتقطعه، وقصا يقصو قصوا وقصوا وقصا وقصاء الرجل تباعد وفي البعد اشارة الى الهلكة لأنها بعد أيضا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 285 (أُتْرِفْتُمْ) : نعمتم من العيش الرافه والحال الناعمة والإتراف ابطار النعمة. الإعراب: (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) ما نافية وآمنت فعل ماض والتاء للتأنيث والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير كفرهم واستبعاد إيمانهم وقبلهم ظرف متعلق بآمنت ومن حرف جر زائد وقرية مجرور لفظا فاعل آمنت محلا وجملة أهلكناها صفة لقرية والمراد بالقرية أهلها كما سيأتي في باب البلاغة، أفهم الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة يؤمنون خبر. (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) الواو عاطفة وما نافية وأرسلنا فعل ماض وفاعل إلا أداة حصر ورجالا مفعول أرسلنا وجملة نوحي إليهم صفة لرجالا، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية. (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الفاء الفصيحة واسألوا فعل أمر وفاعل وأهل الذكر مفعول به وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وجملة لا تعلمون خبرها وجواب الشرط محذوف دلت عليه الفاء الفصيحة. (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ) الواو عاطفة وما نافية وجعلناهم فعل وفاعل ومفعول به وجسدا مفعول ثان إذا كانت جعل بمعنى التصيير وإن كانت بمعنى الخلق فجسدا حال مؤولة بالمشتق أي متغذين، وجملة لا يأكلون الطعام في محل نصب نعت لجسدا وجسد مفرد أريد به الجمع وانما وحدّه ليشمل الجنس عامة لأن الجسد لا بد له من غذاء، والواو عاطفة وما نافية وكانوا خالدين كان واسمها وخبرها والجملة معطوفة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 286 على لا يأكلون. (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) ثم حرف عطف وصدقناهم فعل وفاعل ومفعول والوعد منصوب بنزع الخافض لأن صدق يتعدى لاثنين الى ثانيهما بحرف الجر والأصل في الوعد، فأنجيناهم عطف على صدقناهم ومن نشاء عطف على الهاء وجملة نشاء صلة وأهلكنا المسرفين عطف على أنجيناهم والمسرفين مفعول به. (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) اللام جواب لقسم محذوف وقد حرف تحقيق وأنزلنا فعل وفاعل وإليكم متعلقان بأنزلنا وكتابا مفعول به وفيه خبر مقدم وذكركم مبتدأ مؤخر والجملة صفة لكتابا وسيأتي معنى فيه ذكركم في باب الفوائد والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والفاء عاطفة على مقدر ينسحب عليه الكلام أي ألا تتفكرون فلا تعقلون شيئا من الأشياء المذكورة لكم، (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) الواو عاطفة أو استئنافية مسوقة للتمثيل بالأمم التي هلكت قبلهم وكم خبرية مفعول به مقدم لقصمنا ومن قرية تمييز لكم الخبرية مجرور بمن وقد تقدم ذلك وجملة كانت ظالمة صفة لقرية والمراد بالقرية أهلها وكانت ظالمة كان واسمها المستتر وخبرها وأنشأنا عطف على قصمنا وبعدها ظرف متعلق بأنشأنا وقوما مفعول به وآخرين صفة لقوما. (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) الفاء عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة وإذا الفجائية وقد تقدم الكلام حولها والخلاف فيها مشبعين وهم مبتدأ وجملة يركضون خبرهم ومنها متعلقان بيركضون وقد استدل بعضهم بهذه الآية على أن لما حرف وسماها ابن هشام رابطة لأنه لا عامل لها إذا أعربت ظرفا بمعنى حين ونرى أن معنى المفاجأة التي دلت عليه إذا هو العامل وسيأتي مزيد بحث عن لما في باب الفوائد. (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 287 لا ناهية وتركضوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل وجملة لا تركضوا مقول قول محذوف والقائل اختلف فيه فقيل هم الملائكة وقيل هم من كان هناك من المؤمنين وهذا القول على سبيل الاستهزاء بهم طبعا، وارجعوا فعل أمر معطوف على لا تركضوا والى ما متعلقان بارجعوا وجملة أترفتم صلة وفيه متعلقان بأترفتم ومساكنكم بالجر عطف على ما، ولعلكم تسألون لعل واسمها وخبرها والترجي هنا استهزاء بهم وتهكم بما كانوا يظنونه بأنفسهم من أنهم مظنة السخاء ومطلع الكرم والمعنى ارجعوا الى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسألون شيئا من دنياكم حسبما تتصورون أنفسكم من أنكم أهل النوال والعطاء حيث يسألكم الناس في العوادي والنوازل ويندبونكم للملمات ويستشيرونكم في المعضلات وسيأتي المزيد عن هذا البحث الشيق في باب البلاغة. البلاغة: 1- المجاز المرسل في قوله «قرية» إذ المراد أهلها وقد تقدم مثال ذلك كثيرا. 2- التهكم بقوله «وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ» وقد ألمعنا الى المراد من هذا التهكم ونزيد عليه هنا احتمالين هامين مترتبين على هذا التهكم: آ- انهم كانوا أسخياء حقيقة يجودون بالنوال ويبسطون أيديهم بالعطايا ولكنهم كانوا يفعلون ذلك رئاء الناس واكتسابا للشهرة والثناء وفي ذلك من الإيلام والايجاع ما فيه، إذ يرون أن ما أنفقوه وما بذلوه لم يكن إلا زيادة في برحائهم وإمعانا في عذابهم: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 288 ب- انهم كانوا بخلاء يكرهون البذل ويصدون عمن جاء يستندي سحاب أكفهم ويمتري اخلاف جدواهم فقيل لهم ذلك ليزيدهم إيلاما على إيلام وايجاعا على إيجاع. الفوائد: 1- قوله «كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ» أي فيه ما يوجب الثناء عليكم لكونه نازلا بلسانكم وبين ظهرانيكم وعلى رسول منكم وقيل فيه ما تنشدونه من حسن الذكر وبعد الصيت وطيب الأحدوثة وقيل فيه الموعظة لكم والإرشاد لما ينفعكم في دينكم ودنياكم وجميع ذلك محتمل. 2- بحث لما: تقع لما في العربية على ثلاثة أوجه: الأول: أن تختص بالمضارع فتجزمه وتنفيه وتقلبه ماضيا ك «لم» إلا أنها تفارقها في خمسة أمور: 1- انها لا تقترن بأداة شرط فلا يقال: إن لما تقم ويقال: إن لم تقم. 2- ان منفيها مستمر النفي الى الحال أما منفي لم فيحتمل الاتصال والانقطاع مثل: «لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً» ولهذا جاز أن تقول: لم يكن ثم كان، ولكن لا يجوز أن تقول: لما يكن ثم كان. 3- ان الغالب في منفي لما ان يكون قريبا من الحال بخلاف منفي لم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 289 4- ان منفي لما متوقع ثبوته بخلاف منفي لم. 5- ان منفي لما جائز الحذف لدليل كقوله: «فجئت قبورهم بدءا ولما» أي ولما أكن بدءا قبل ذلك أي سيدا ولا يجوز: «وصلت الى حمص ولم» تريد ولم أدخلها. الثاني: أن تختص بالماضي فتقتضي جملتين وجدت ثانيتهما عند وجود أولاهما نحو: لما جاءني أكرمته ويقال فيها حرف وجود لوجود وبعضهم يقول وجوب لوجوب وقيل هي ظرف لفعل وقع لوقوع غيره وقال جماعة: انها ظرف بمعنى حين. الثالث: أن تكون حرف استثناء بمعنى إلا فتدخل على الجملة الاسمية نحو: «إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ» فيمن شدد الميم وعلى الماضي لفظا لا معنى نحو أنشدك الله لما فعلت أي ما أسألك إلا فعلك. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 14 الى 23] قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 290 اللغة: (حَصِيداً) : فعيل بمعنى مفعول يستوي فيه الواحد وغيره وستأتي قاعدته في باب الفوائد وهو الزرع المحصود. (خامِدِينَ) : يقال خمدت النار وهمدت كل منهما من باب دخل لكن الاول عبارة عن سكون لهبها مع بقاء الجمر والثاني عبارة عن ذهابها بالكلية. (لَهْواً) : في المصباح: «اللهو معروف، تقول أهل نجد: لهوت عنه ألهو لهيّا والأصل على فعول من باب قعد، وأهل العالية لهيت عنه ألهى من باب تعب ومعناه السلوان والترك ولهوت به لهوا من باب قتل أولعت به أيضا، قال الطرطوشي: وأصل اللهو الترويح عن النفس بما لا تقضيه الحكمة وألهاني الشيء بالألف شغلني» اهـ. وفي القاموس والتاج: «لهى لهوا لعب كالتهى وألهاه ذلك والملاهي آلاته وتلاهى بذاك والألهوة والألهية والتلهية ما يتلاهى به ولهت المرأة الى حديثه لهوا ولهوّا: أنست به وأعجبها واللهوة المرأة الملهو بها كاللهو وبالضم والفتح ما ألقيته في فم الرحى والعطية أو أفضل العطايا وأجزلها كاللهية والحفنة من المال أو الألف من الدنانير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 291 والدراهم لا غير ولهي به كرضي أحبه وعنه سلا وغفل وترك ذكره كلها كدعا لهيا ولهيانا، وقال شارح القاموس قوله: لها لهوا لعب قضية اتحادهما وقد فرق بينهما جماعة فقيل يشتركان في أنهما اشتغال بما لا يعني حراما أو لا قيل واللهو أعم مطلقا فاستماع الملاهي لهو لا لعب وقال الجوهري: قد يكنى باللهو عن الجماع ويدل على ما قاله امرؤ القيس: ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ... كبرت وان لا يحسن اللهو أمثالي (فَيَدْمَغُهُ) : فيذهبه وبابه قطع وفي القاموس: دمغة قهره ودمغ الحق بالباطل: أبطله ومحقه وسيأتي تفصيل ذلك في باب البلاغة. (يَسْتَحْسِرُونَ) يكلون ويتعبون يقال: استحسر البعير أي كلّ وتعب ويقال حسر البعير وحسرته أنا فيكون لازما ومتعديا وأحسرته أيضا فيكون فعل وأفعل بمعنى واحد وسيأتي مزيد بيان عن الاستحسار في باب البلاغة. الإعراب: (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) يا أداة نداء وويلنا منادى مضاف يدعون الويل والثبور لأن هذا وقته ويجوز أن تكون يا للتنبيه وويلنا مصدر لفعل محذوف والجملة مقول قولهم وإن واسمها وجملة كنا ظالمين خبرها وكان واسمها وظالمين خبرها. (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) الفاء عاطفة وما زالت فعل ماض ناقص والتاء علامة التأنيث وتلك اسم اشارة اسمها في محل رفع ودعواهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 292 خبرها منصوب بفتحة مقدرة على الألف والهاء مضاف اليه والميم حرف دال على جمع الذكور والمراد بالدعوى تلك الكلمات وهي «يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» وحتى حرف غاية وجر وجعلناهم فعل وفاعل ومفعول به أول وحصيدا خامدين مفعول به ثان لأن حكمهما حكم الواحد. إذ أن معنى جعلناهم حصيدا خامدين: جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود ومثال ذلك قولك جعلته حلوا حامضا أي جامعا للطعين أي مزا، ولك أن تجعل خامدين صفة لحصيدا. (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) الواو حرف عطف أو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لعرض البدائع والعجائب التي انطوى عليها خلق السموات والأرض وما فيهما للعظة ولتكون مطارح اعتبار وحافزا للتفكير والاستدلال وما نافية وخلقنا فعل وفاعل والسماء مفعول به والأرض عطف على السماء وما عطف على السماء والأرض وبينهما ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول ولاعبين حال من فاعل خلقنا. (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) لو شرطية امتناعية وأردنا فعل وفاعل وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول أردنا وفاعل نتخذ ضمير مستتر تقديره نحن ولهوا مفعول به ولاتخذناه اللام واقعة في جواب لو واتخذناه فعل وفاعل ومفعول به من لدنا متعلقان بمحذوف مفعول به ثان لاتخذ وإن يجوز أن تكون نافية بمعنى ما وكنا فاعلين كان واسمها وخبرها والجملة حالية من فاعل اتخذناه أي حال كوننا غير فاعلين ويجوز أن تكون إن شرطية وجوابها محذوف يدل عليه جواب لو ولعل هذا أولى وأشبه الوجهين بمذهب العربية. (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) بل إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب وتنزيه منه تعالى لذاته ونقذف فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن وبالحق جار ومجرور متعلقان بنقذف وعلى الباطل متعلقان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 293 بمحذوف حال أي مستعليا على الباطل، فيدمغه عطف على نقذف فإذا الفاء عاطفة وإذا فجائية وقد تقدم ذكرها وهو مبتدأ وزاهق خبرها ولكم الواو استئنافية ولكم خبر مقدم والويل مبتدأ مؤخر ومما متعلقان بالاستقرار الذي تعلق به الخبر وهو مما، أي استقر لكم الويل من كل ما تصفون ومما يجوز أن تكون موصولة وأن تكون مصدرية وعلى كل جملة تصفون لا محل لها. (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الواو عاطفة وله خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وفي السموات والأرض صلة. (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) الواو عاطفة ومن معطوفة على من الأولى وعنده ظرف متعلق بمحذوف صلة وجملة لا يستكبرون حالية من من الأولى وعن عبادته متعلقان بيستكبرون وجملة لا يستحسرون عطف على جملة لا يستكبرون ويجوز أن تكون الواو للاستئناف ومن عنده أي الملائكة مبتدأ خبره جملة لا يستكبرون والجملة مستأنفة. (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما يصنعه من عند الله في عبادتهم ويسبحون فعل مضارع وفاعل ويجوز أن تكون الجملة حالية والليل والنهار ظرفان متعلقان بيسبحون وجملة لا يفترون حال من فاعل يسبحون. (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) أم المنقطعة عاطفة وتفيد الإنكار واتخذوا فعل وفاعل وآلهة مفعول به ومن الأرض صفة وهم مبتدأ وجملة ينشرون خبر وجملة هم ينشرون صفة لآلهة ومفعول ينشرون محذوف أي يحيون الموتى ويجوز جعلها جملة مستأنفة لم يدعوا لآلهتهم انها تنشر الموتى ولكنهم بمجرد دعواهم ألوهيتها يترتب عليهم أن يدعوا ضمنا انها تنشر الموتى وسيأتي مزيد بحث حول الضمير الذي هو «هم» في باب البلاغة. (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) لو شرطية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 294 امتناعية وكان فعل ماض ناقص وفيهما خبر كان المقدم وآلهة اسمها المؤخر وإلا بمعنى غير صفة لآلهة ظهر اعرابها على ما بعدها ولا يصح أن تكون استثنائية لأن مفهوم الاستثناء فاسد هنا إذ حاصله انه لو كان فيهما آلهة لم يستثن الله منهم لم تفسدا وليس كذلك فإن مجرد تعدد الآلهة يوجب لزوم الفساد مطلقا وسيأتي مزيد بسط لهذا المبحث الهام، ولفسدتا اللام واقعة في جواب لو وجملة فسدتا لا محل لها من الإعراب فسبحان الله الفاء عاطفة لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالبرهان وسبحان مفعول مطلق لفعل محذوف ولفظ الجلالة مضاف اليه ورب العرش بدل أو صفة للفظ الجلالة وعما متعلقان بسبحان وجملة يصفون لا محل لها لأنها صلة ما ويجوز أن تكون ما مصدرية. (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان تفرده سبحانه بالسلطان، بحيث لا يسأله أحد عما يفعله ولا نافية ويسأل فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وعما متعلقان بيسأل وهم الواو عاطفة أو حالية وهم مبتدأ وجملة يسألون خبر. البلاغة: في هذه الآيات فنون عديدة أولها: 1- الاستعارة في قولهم «يا ويلنا» فقد خاطبوا الويل وهو الهلاك كأنه شخص حي يدعونه لينقذهم مما هم فيه. 2- التشبيه البليغ في قوله «جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ» . فقد شبههم بعد حلول العذاب بهم بالحصيد أولا وهو الزرع المحصود ووجه الشبه بين المشبه والمشبه به هو الاستئصال من المنابت ثم شبههم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 295 ثانيا بالنار المنطفئة ولم يبق منها إلا جمر منطفىء لا نفع فيه ولا قابلية لشيء من النفع منه فلا ترى إلا أشلاء متناثرة وأجزاء متفرقة قد تمددت وقدران عليها البلى. 3- الاستعارة المكنية في قوله «بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق» فقد شبه الحق والباطل وهما معنويان بشيئين ماديين محسوسين يقذفان ويدفعان ثم حذف هذين الشيئين واستعار ما هو من لوازمهما وهما القذف والدمغ لتجسيد الاطاحة بالباطل واعتلاء الحق عليه وتصوير إبطاله وإهداره ومحقه كأنه جرم صلب كصخرة أو ما يماثلها في القوة والصلابة قذف به على جرم رخو أجوف فدمغه وهي من استعارة المحسوس للمعقول وقد تقدم بحث ذلك مفصلا مع استيفاء أقسام الاستعارة بالنسبة لطرفي التشبيه. 4- قوة اللفظ لقوة المعنى: وقد تقدم الكلام عن هذا الفن ونعني به نقل اللفظ من وزن الى وزن آخر أكثر منه ليتضمن من المعنى الدال عليه أكثر مما تضمنه أولا لأن الألفاظ أدلة على المعاني وأمثلة للابانة عنها فاذا زيد في الألفاظ أوجبت القسمة زيادة المعاني وهذا الضرب من الزيادة لا يستعمل إلا في مقام المبالغة وهو هنا في قوله تعالى «وَلا يَسْتَحْسِرُونَ» فقد عدل عن الثلاثي وهو حسر الى السداسي وهو استحسر وقد كان ظاهر الكلام أن يقال يحسرون أي يكلون ويتعبون، لأن أقل ملل منهم أو كلال إزاء الملائكة وإزاء عبادتهم لله سبحانه لا يتصور منهم ولكنه عدل عن ذلك لسرّ يخفى على النظرة السطحية الأولى وهو أن ما هم فيه من انهماك بالعبادة وانصراف بالكلية لها يوجب غاية الحسور وأقصاه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 296 5- التصريح بالضمير: وذلك في قوله: «هم ينشرون» وقد كان يكفي أن يقول ينشرون ولكنه عدل عن ذلك الى التصريح بالضمير لإفادة معنى الخصوصية أولا كأنهم قالوا ليس هنا من يقدر على الإنشار غيرهم وثانيا لتسجيل إلزامهم ادعاء صفات الألوهية لآلهتهم وهذا الادعاء قد أبطله الله في الآية التالية لهذه الآية بدليل التمانع المغترف من بحر هذه الآية وهي «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» كما سيوضح في الاعراب، وهذا من جوهر الكلام وخالصه. 6- المذهب الكلامي: وذلك في قوله «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» وذكر ابن المعتز أن الذي سماه هذه التسمية هو الجاحظ والكتاب الكريم مشحون به وتعريفه هو انه احتجاج المتكلم على ما يريد إثباته بحجة تقطع المعاند له على طريقة أرباب الكلام وله طرق متعددة وقد أوصلها الرماني في تفسيره المسمى بالنكت في اعجاز القرآن الى خمسة ضروب ومنها إخراج الكلام مخرج الشك للمبالغة في العدل فملزوم قوله «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» انهما ما فسدتا فليس فيهما آلهة إلا الله، وإيضاح ذلك إن دليل التمانع هو انه لو وجد مع الله إله آخر ربما قالوا لو فرضنا وجود إلهين فإما أن يكونا جميعا موصوفين بصفات الكمال اللاتي يندرج فيها القدرة على احياء الموتى وانشارهم وغير ذلك من الممكنات أو لا يتصف بها واحد منهما أو أحدهما دون الآخر وعندئذ تفسد الرعية بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف وعن عبد الملك بن مروان حين قتل عمرو بن سعيد الأشدق: «كان والله أعز علي من دم ناظري ولكن لا يجتمع فحلان في شول» وللمتكلمين في طريقة التمانع جولات واسعة تؤخذ في مظانها، وسيرد إيضاحها في باب الفوائد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 297 الفوائد: «إلا» بمعنى «غير» : الأصل في «إلا» أن تكون للاستثناء وفي «غير» أن تكون وصفا ثم قد تحمل إحداهما على الأخرى فيوصف بإلا ويستثنى بغير فإن كانت إلا بمعنى غير وقعت هي وما بعدها صفة لما قبلها وذلك حيث لا يراد بها الاستثناء وانما يراد بها وصف ما قبلها بما يغاير ما بعدها كقوله تعالى «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» فإلا وما بعدها صفة لآلهة لأن المراد نفي الآلهة المتعددة واثبات الإله الواحد الفرد ولا يصح الاستثناء بالنصب لأن المعنى يكون حينئذ: لو كان فيهما آلهة ليس فيهم الله لفسدتا وذلك يقتضي أنه لو كان فيهما آلهة فيهم الله لم تفسدا وهذا ظاهر الفساد، وسامح الله ابن يعيش شارح مفصل الزمخشري حيث أجاز النصب على الاستثناء في الآية الكريمة غير مقدر ما يترتب على النصب من فساد وعبارة ابن يعيش «قال الله تعالى: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا والمراد غير الله فهذا لا يكون إلا وصفا ولا يجوز أن يكون بدلا يراد به الاستثناء لأنه يصير في تقدير لو كان فيهما إلا الله لفسدتا وذلك فاسد لأن لو شرط فيما مضى فهي بمنزلة إن في المستقبل وأنت لو قلت إن أتاني إلا زيد لم يصح لأن الشرط في حكم الموجب فكما لا يصح أتاني إلا زيد كذلك لا يصح إن أتاني إلا زيد فلو نصب على الاستثناء فقلت لو كان فيهما إلا الله لجاز» . ثم لا يصح أيضا أن يعرب لفظ الجلالة بدلا من آلهة لأنه حيث لا يصح الاستثناء لا تصح البدلية ثم إن الكلام موجب فلا تجوز البدلية ولو صح الاستثناء لأن النصب واجب في الكلام الموجب التام وأيضا لو جعلته بدلا لكان التقدير: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 298 لو كان فيهما إلا الله لفسدتا لأن البدل على نية طرح المبدل منه كما هو معلوم ولعدم صحة الاستثناء هنا وعدم جواز البدلية تعين أن تكون إلا بمعنى غير. ولتتمة هذا المبحث الدقيق ننقل الفصل الممتع الذي أورده العلامة ابن هشام في مغني اللبيب ورده على المبرد مع تعليقات مناسبة ليستوفي الموضوع حقه قال ابن هشام بعد أن ذكر أن لإلا أربعة أوجه: «والثاني أن تكون صفة بمنزلة غير فيوصف بها وبتاليها جمع منكر أو شبهه فمثال الجمع المنكر: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» فلا يجوز في إلا هذه أن تكون للاستثناء من جهة المعنى إذ التقدير حينئذ لو كان فيهما آلهة ليس فيهم الله لفسدتا وذلك يقتضي بمفهومه أنه لو كان فيهما آلهة فيهم الله لم تفسدا وليس ذلك المراد، ولا من جهة اللفظ لأن آلهة جمع منكر في الإثبات فلا عموم له فلا يصح الاستثناء منه فلو قلت قام رجال إلا زيدا لم يصح اتفاقا، وزعم المبرد أن «إلا» في الآية للاستثناء وان ما بعدها بدل محتجا بأن «لو» تدل على الامتناع وامتناع الشيء انتفاؤه وزعم أن التفريغ بعدها جائز وان نحو «لو كان معنا إلا زيد» أجود كلام ويرده انهم لا يقولون «لو جاءني ديّار أكرمته» ولا «لو جاءني من أحد أكرمته» ولو كانت بمنزلة النافي لجاز ذلك كما يجوز ما فيها ديار وما جاءني من أحد ولما لم يجز ذلك دل على أن الصواب قول سيبويه إن إلا وما بعدها صفة» . الى أن يقول: «وشرط ابن الحاجب في وقوع إلا صفة تعذر الاستثناء وجعل من الشاذ قول حضرمي بن عامر الصحابي وقيل عمرو بن معدى كرب: وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 299 ومعنى الشذوذ فيه انه ليس استثناء إذ لم ينصب بعد الكلام التام الموجب فتعين انه صفة ولم يتعذر الاستثناء فهو شاذ إذ كان يمكنه أن يقول إلا الفرقدين، ونحسب أن البحث طال فحسبنا ما تقدم. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 24 الى 29] أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) الإعراب: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً» أم حرف عطف للاضراب والانتقال الى إظهار بطلان ما اتخذوه آلهة مع خلوها من خصائص الألوهية، واتخذوا فعل ماض وفاعل ومن دونه في محل نصب مفعول به ثان لاتخذوا وآلهة هو المفعول الأول. (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) هاتوا فعل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 300 أمر مبني على الكسر دائما إلا مع واو الجماعة فيضم وواو الجماعة فاعل وبرهانكم مفعول به. (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) هذا مبتدأ والاشارة للقرآن وجميع الكتب السماوية وذكر خبر ومن مضاف اليه ومعي ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول وذكر عطف على ذكر الأولى ومن مضاف اليه والظرف صلة والجملة مستأنفة. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) بل حرف إضراب وأكثرهم مبتدأ وجملة لا يعلمون خبر والواو فاعل والحق مفعول به، فهم الفاء للتعليل وهم مبتدأ ومعرضون خبر. (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) الواو استئنافية وما نافية وأرسلنا فعل وفاعل ومن قبلك حال ومن حرف جر زائد ورسول مجرور لفظا منصوب محلا على انه مفعول به وإلا أداة حصر ونوحي فعل وفاعل واليه متعلقان بنوحي ولا إله إلا أنا تقدم اعرابها كثيرا والفاء الفصيحة واعبدوني فعل أمر والواو فاعل والياء المحذوفة تبعا لرسم المصحف مفعول به والجملة مستأنفة مقررة لما سبق اجماله من توحيد الله كما نطقت بذلك الكتب السماوية استدلالا بمقتضيات العقل والمنطق. (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً، سُبْحانَهُ، بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) استئناف آخر مسوق لحكاية أقوال بعض القبائل العربية الذين قالوا: الملائكة بنات الله ويقال انهم بنو خزاعة وبنو جهينة وبنو سلمة وبنو مليح وجملة اتخذ الرحمن ولدا مقول القول وسبحانه مصدر لفعل محذوف وقد مر والجملة معترضة وبل حرف إضراب وعباد خبر لمبتدأ محذوف ومكرمون صفة وقد وصف الملائكة بسبع صفات تقدمت الأولى. (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) وهاتان صفتان ثانيتان الأولى جملة لا يسبقونه بالقول والثانية جملة هم بأمره يعملون، وبأمره متعلقان بيعملون وجملة يعملون خبرهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 301 (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) وهذه هي الصفة الرابعة وما موصول مفعول به وبين ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول وأيديهم مضاف اليه وما خلفهم عطف على ما بين أيديهم. (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) وهاتان صفتان أخريان ويشفعون فعل مضارع وفاعل وإلا أداة حصر ولمن متعلقان بيشفعون وارتضى صلة الموصول وهم مبتدأ ومن خشيته جار ومجرور متعلقان بمشفقون ومشفقون خبرهم. (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) وهذه هي الصفة السابعة والأخيرة ومن شرطية مبتدأ ويقل فعل الشرط مجزوم ومنهم حال وان واسمها وإله خبرها والفاء رابطة لجواب الشرط لأنه وقع جملة اسمية وذلك اسم اشارة مبتدأ وجملة نجزيه خبر والهاء مفعول نجزي وجهنم مفعول نجزي الثاني والجملة جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر ذلك وكذلك نجزي الظالمين الكاف نعت لمصدر محذوف أي نجزي الظالمين جزاء مثل ذلك. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 الى 33] أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 302 اللغة: (رَتْقاً) : في المختار: «الرتق: ضد الفتق وقد رتقت الفتق من باب نصر سددته فارتتق أي التأم ومنه قوله تعالى: كانتا رتقا ففتقناهما، والرتق بفتحتين مصدر قولك امرأة رتقاء أي لا يستطاع جماعها لارتتاق ذلك الموضع منها» وفي الأساس: «رتق الفتق حتى ارتتق وقرئ كانتا رتقا ورتقا وعن ابن الكلبي كانتا رتقاوين ففتق الله السماء بالماء وفتق الأرض بالنبات وامرأة رتقاء بينة الرّتق إذا لم يكن لها خرق إلا المبال» . (رَواسِيَ) : جمع راسية من رسا الشيء إذا ثبت ورسخ وفي المختار: «والرواسي من الجبال الرواسخ واحدتها راسية» وفي المصباح: «رسا الشيء يرسو رسوا ورسوّا ثبت فهو راس وجبال راسية وراسيات ورواس» . (تَمِيدَ) : في المصباح: «ماد يميد ميدا من باب باع وميدانا بفتح الياء تحرك» وفي الأساس: «غصن مائد مائل وماد يميد ميدانا ومن المجاز مادت المرأة وماست وتميّدت وتميّست ومادت به الأرض دارت، ورجل مائد: يدار به والمطعون يميد في الرمح» . (فِجاجاً) : في المختار: «الفج بالفتح: الطريق الواسع بين الجبلين والجمع فجاج بالكسر مثل سهم وسهام والفج بالكسر البطيخ الشامي وكل شيء من البطيخ والفواكه لم ينضج فهو فج بالكسر» وفي القاموس: الفج وجمعه فجاج، والفجاج: الطريق الواسع بين جبلين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 303 الإعراب: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو حرف عطف على مقدر ولم حرف نفي وقلب وجزم والذين فاعل وجملة كفروا صلة وان وما بعدها سدت مسد مفعولي رأى لأن الرؤية قلبية وان واسمها وجملة كانتا خبرها والالف اسم كان ورتقا خبرها وفي الاخبار به ما تقدم في زيد عدل أي كانت الشمس والأرض نفس الرتق، ففتقناهما الفاء عاطفة وفتقناهما فعل وفاعل ومفعول به والجملة معطوفة على كانتا والميم والالف حرفان دالان على التثنية، قال الأخفش: إنما قال كانتا لأنهما صنفان أي جماعتا السموات والأرضين كما قال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا» وقال الزجاج: انما قال كانتا لأنه يعبر عن السموات بلفظ الواحد لأن السموات كانت سماء واحدة وكذلك الأرضون. (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) وجعلنا عطف على ما تقدم وجعلنا فعل وفاعل بمعنى خلق ومن الماء متعلقان بجعلنا لأنها بمعنى خلقنا أو بمحذوف حال من كل شيء لأنه كان في الأصل وصفا له فلما قدم عليه نصب على الحال ولك أن تجعل وجعلنا بمعنى صير متعديا لاثنين فيكون من الماء في محل نصب على أنه مفعول ثان وكل شيء مفعول أول، أفلا الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف ولا نافية ويؤمنون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل. (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) وجعلنا عطف على جعلنا وفي الأرض إما مفعول ثان ورواسي هو المفعول الاول وإما متعلقان بجعلنا أو بمحذوف حال ورواسي مفعول به وان وما في حيزها في محل نصب مفعول لأجله أي كراهة أن تميد أو لئلا تميد وبهم متعلقان بتميد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 304 (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) وجعلنا عطف على ما تقدم وفيها هو المفعول الثاني أو متعلق بجعلنا وفجاجا حال لأنه كان صفة لسبلا وتقدم عليه وسبلا مفعول به ولعل واسمها وجملة يهتدون خبرها. (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) وجعلنا السماء فعل وفاعل ومفعول به أول وسقفا مفعول به ثان وهم مبتدأ وعن آياتها متعلقان بمعرضون ومعرضون خبرهم والجملة حالية أو استئنافية. (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) الواو عاطفة وهو مبتدأ والذي خبر وجملة خلق صلة وفاعل خلق ضمير مستتر تقديره هو والليل مفعول به وما بعده عطف عليه وكل مبتدأ وساغ الابتداء لما فيه من معنى العموم وفي فلك متعلقان بيسبحون وجملة يسبحون خبر كل وجملة كل في فلك يسبحون محلها النصب على الحال من الشمس والقمر، وانما جعل الضمير واو العقلاء للوصف بفعل هو من خصائص العقلاء هو السباحة وتقدم نظيره في قوله «رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» . الفوائد: 1- بحث شيق في المفعول لأجله: هذا بحث طريف أفرد له سيبويه فصلا خاصا في كتابه وهو بتعلق بالمفعول لأجله المؤول وهو هنا في قوله «وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ» قال ما خلاصته: هو من وادي قولهم: أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه قال ومعناه «ان ادعم الحائط إذا مال» وانما قدم ذكر الميل اهتماما بشأنه ولأنه أيضا هو السبب في الإدغام، وادعام سبب في إعداد الخشبة فعامل سبب السبب معاملة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 305 السبب وعليه حمل قوله تعالى «أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى» كذلك ما نحن بصدده يكون الأصل وجعلنا في الأرض رواسي لأجل أن تثبتها إذا مادت بهم فجعل الميد هو السبب كما جعل الميل في المثل المذكور سببا وصار الكلام وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد فتثبتها ثم حذف فتثبتها لأمن الإلباس إيجازا واختصارا» وهذا لعمري أولى مما درجنا عليه في الاعراب لأن مقتضى ما ذكرناه وذكره أكثر المعربين والمفسرين يقتضي أن لا تميد الأرض بأهلها لأن الله كره ذلك ومكروه الله تعالى محال أن يقع كما أن مراده واجب أن يقع والمشاهد خلاف ذلك فكم من زلزلة مادت لها الأرض وكادت تقلب عاليها سافلها واما على تقرير سيبويه فالمراد أن الله تعالى يثبت الأرض بالجبال إذا مادت وهذا لا يأبى وقوع الميد، وهذا بحث جليل قلّ من ينتبه له إلا بعد هذا التفصيل فتأمله تر السحر الحلال وان من البيان لسحرا. 2- ذهب سيبويه والجمهور الى القول بأن لفظي كل وبعض معرفتان بنية الاضافة ولذلك يأتي الحال منهما كقولهم مررت بكل قائما وببعض جالسا، وأصل صاحب الحال التعريف وذهب الفارسي إلى أنهما نكرتان وألزم من قال بتعريفهما أن يقول إن نصفا وسدسا وثلثا وربعا ونحوها معارف لأنها في المعنى مضافات وهي نكرات بإجماع، ورد بأن العرب تحذف المضاف وتريده وقد لا تريده ودلّ مجيء الحال بعد كل وبعض على إرادته، بقي هنا سؤال واحد وهو لم أتى بصيغة الجمع وهما اثنان؟ والجواب ان الضمير عائد عليهما مع الليل والنهار وذلك لأن الليل والنهار يسبحان أيضا لأن الليل ظل الأرض وهو يدور على محيط كرة الأرض على حسب دوران الأرض وكذلك النهار يدور أيضا لأنه يخلف الليل في المحيط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 306 [سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 الى 40] وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) الإعراب: (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير عدم خلود البشر جوابا لقولهم أن محمدا سيموت، وما نافية وجعلنا فعل وفاعل ولبشر في محل نصب مفعول ثان ومن قبلك صفة لبشر والخلد مفعول جعلنا الاول والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة وإن شرطية ومت فعل ماض وفاعل وهو في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة وهم مبتدأ والخالدون خبر والجملة في محل جزم جواب الشرط وهي بنية التقديم لأن أصل الكلام أفهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 307 الخالدون إن مت، قال الفراء: جاء بالفاء لتدل على الشرط لأنه جواب قولهم سيموت قال ويجوز حذف الفاء واضمارها والمعنى إن مت فهم يموتون أيضا فلا شماتة في الموت. (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) كل مبتدأ ونفس مضاف اليه وذائقة الموت خبر والجملة مستأنفة مسوقة للتدليل على عدم الخلود فلا مجال للشماتة ورحم الله القائل: فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) الواو استئنافية أيضا ونبلوكم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به وبالشر متعلقان بنبلوكم والخير عطف على الشر أي نختبركم بما يجب فيه الصبر وبما يجب فيه الشكر وفتنة مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه لأن الابتلاء فتنة فكأنه قيل نفتنكم فتنة ويجوز أن يعرب مفعولا من أجله أو نصبا على الحال من فاعل نبلوكم أي فاتنين لكم وإلينا متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل والجملة معطوفة على نبلوكم أو حالية. (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) لك أن تجعل الواو استئنافية فتكون الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير موقفهم من النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأن تجعلها عاطفة فتكون الجملة معطوفة على قوله الآنف «وَأَسَرُّوا النَّجْوَى» وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة رآك مضاف لها الظرف وفاعل رآك الذين والكاف مفعول به وجملة كفروا صلة وإن نافية ويتخذونك فعل مضارع وفاعل ومفعول به وإن النافية وما في حيزها جواب إذا وسيأتي ذكر السبب في عدم اقتران الجواب بالفاء في باب الفوائد وإلا أداة حصر وهزوا مفعول به ثان اما على الوصف بالمصدر مبالغة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 308 وقد مرت له نظائر واما على حذف مضاف، هذا ويجوز ان تكون ان النافية وما بعدها جملة معترضة فيكون الجواب قوله الآتي: (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) الهمزة للاستفهام والاستفهام معناه السخرية والجملة اما جواب إذا كما تقدم وإما مقول قول محذوف أي يقول بعضهم لبعض على سبيل السخرية والهزء أهذا، وهذا مبتدأ والذي خبره وجملة يذكر صلة وآلهتكم مفعول به والواو حالية وهم مبتدأ وبذكر متعلقان بكافرون والرحمن مضاف اليه وهم تأكيد لهم الأولى تأكيدا لفظيا وكافرون خبر هم والجملة حال إما من فاعل يتخذونك وإما من فاعل القول المقدر كما أسلفنا ومفعول يذكر محذوف وسيرد بحثه في باب البلاغة. (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) الجملة مستأنفة مسوقة للرد على استعجالهم العذاب وخلق فعل ماض مبني للمجهول والإنسان نائب فاعل ومن عجل متعلقان بخلق أو بمحذوف حال وسيأتي معنى هذا التركيب في باب البلاغة وسأريكم السنين للاستقبال وأريكم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به أول وآياتي مفعول به ثان والفاء عاطفة ولا ناهية وتستعجلون فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والياء المحذوفة للرسم مفعول به وجملة سأريكم مستأنفة أيضا مسوقة لتأكيد العجلة وعاقبتها التي هي رؤية العذاب. (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لإيراد نمط من استعجالهم المذموم ويقولون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل ومتى اسم استفهام في محل نصب على الظرفية وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر والوعد بدل وإن شرطية وكنتم كان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 309 واسمها في محل جزم فعل الشرط وصادقين خبر كنتم وجواب ان محذوف تقديره فعينوا موعده وخطابهم للنبي وأصحابه. (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) لو شرطية ويعلم فعل مضارع والذين فاعل وجملة كفروا صلة وحين يجوز أن يكون مفعول يعلم أي الوقت الذي يستعجلون فيه بقولهم متى هذا الوعد وهو وقت صعب ضنك تحيط بهم النار من كل مكان لما كانوا بتلك المثابة من الكفر فجواب لو محذوف وقد تقدمت الاشارة اليه كثيرا ويجوز أن يكون يعلم متروكا بلا تعدية بمعنى لو كان معهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا متعجلين وحين منصوب بمضمر أي حين لا يكفوا عن وجوههم النار يعلمون أنهم كانوا على الباطل والأرجح ان مفعول يعلم محذوف لدلالة ما قبله عليه أي لو يعلم الذين كفروا مجيء الموعود الذي سألوا عنه واستبطئوه وحين منصوب بالمفعول الذي هو مجيء وجملة لا يكفون مضافة الى الظرف وعن وجوههم متعلقان بيكفون والنار مفعول به ولا عن ظهورهم معطوفة، والواو حرف عطف ولا نافية وهم مبتدأ وجملة ينصرون خبر وينصرون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) بل حرف إضراب وعطف وتأتيهم فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على النار وبغتة حال أتى مصدرا وقيل مفعول مطلق وسيأتي مزيد بحث عنه في باب الفوائد، فتبهتهم عطف على تأتيهم فلا يستطيعون عطف أيضا وردها مفعول يستطيعون ولا هم ينظرون عطف أيضا وهم مبتدأ وجملة ينظرون خبر كما أنظروا وأمهلوا من قبل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 310 البلاغة: 1- التذييل: في قوله تعالى: «وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ. كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» فن طريف من فنون البلاغة أطلق عليه علماؤها اسم «التذييل» وعرفوه بأنه تذييل الكلام بعد تمامه وحسن السكوت عليه بجملة تحقق ما قبلها من الكلام وتزيده توكيدا وتخرجه مخرج المثل السائر ليشيع الكلام بعد دورانه على الألسنة فإن لم تكن الزيادة تفيد ذلك فلا يسمى تذييلا وبعضهم يسميه آنذاك تذييلا ولكنه يقول عنه أنه معيب وما أجدر المعيب أن ينتفى عن فنون البلاغة أو يندرج في سلكها وهو شائع في القرآن الكريم وستأتي أمثلة كثيرة منه، أما في الآية التي نحن بصددها فإن المعنى مستوفى في الاخبار بأنه سبحانه لم يجعل لبشر قبل نبيه الخلد ثم ذيل ذلك الاخبار بما أخرجه مخرج تجاهل العارف وهو قوله «أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ» ثم ذيل هذا التذييل بما أخرجه مخرج المثل السائر حيث قال: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» . ومن أروع أمثلة التذييل في الشعر قول شاعر الخلود أبي الطيب: تمسي الأماني صرعى دون مبلغه ... فما يقول لشيء ليت ذلك لي يقول أبو الطيب: لا تصل الأماني الى قلبه فتستميله، ولا الى لسانه فتجري عليه لأنه لا يحتاج أن يتمنى شيئا إلا وله خير منه أو صار له ذلك الشيء فالأماني تقصر عن بلوغ قدره، وتقصر عن جلالة أمره وتمسي صرعى دون إدراك مجده فما يتمنى في الرفعة أكثر مما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 311 قد بلغه، ولم يزل سيف الدولة لهجا بهذا البيت معظما له، مثنيا عليه، مقرا له بأنه لا يلحق سبقا ولا يأتي أحد في بابه من المبالغة بمثل ما أتى به. وقال ابن نباتة السعدي وأجاد: لم يبق جودك لي شيئا أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل لقد حقق له جميع آماله ومشتهياته فلم يعد لديه ما يؤمله وهبه صبا الى شيء فإنه واثق بحضوره فغدا بلا آمال. 2- الإيجاز بالحذف: وذلك في حذف مفعول يذكر في قوله تعالى: «أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ» والذكر يكون بالخير والشر فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد كقولك للرجل: سمعت فلانا يذكرك فإن كان الذاكر صديقا فهو ثناء وإن كان عدوا فذم ومن جهة ثانية لم يقولوا: أهذا الذي يذكر آلهتكم بكل سوء لأنهم استفظعوا حكاية ما يقوله النبي من القدح في آلهتهم رميا بأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر ورئبوا بها عن نقل ذمها تفصيلا وتصريحا فنقلوه إجمالا وتلميحا، بل أومئوا اليه بالاشارة المذكورة كما يتحاشى المؤمن من حكاية كلمة الكفر وان كان قائلها غير كافر فيومىء إليها بلفظ يفهم المقصود بطريق التعريض فسبحان من أضلهم حتى تأدبوا مع الأوثان، وأساءوا الأدب على الرحمن. 3- الاستعارة المكنية في قوله «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ» فقد شبه العجل الذي طبع عليه الشخص وصار له كالجبلة بأصل مادته وهي الطين ثم حذف المشبه به ورمز اليه بشيء من لوازمه وهو قوله «خلق» وقيل لا استعارة فيه وانما هو من باب القلب والأصل خلق العجل من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 312 الإنسان لشدة صدوره عنه وملازمته له والقلب موجود كثيرا في كلامهم وقد تقدمت الإشارة اليه والأول أولى وأقعد بالبلاغة ومن بدع التفاسير ما قالوه من أن العجل هو الطين بلغة حمير وقال شاعرهم: النبع في الصخرة الصماء منبته ... والنخل ينبت بين الماء والعجل يقول النبع وهو شجر تتخذ منه القسي في الصخرة الصماء الصلبة لا في غيرها منبته أي نباته والنخل ينبت في الأرض اللينة الريانة فهو بين الماء والعجل أي الطين وهذه لغه حمير كما قيل والظاهر أن الشطر الأول تمثيل للصعب البخيل والثاني للسهل الجواد أو الاول للشجاع والثاني للجبان لشدة الاول ورخاوة الثاني وعلى كل حال هذا المعنى غير وارد في الآية الكريمة لأن السياق يأباها فهم يستعجلون والله سبحانه ينعى عليهم عجلتهم. وفي هذه الآية الاستعارة المكنية بقوله «ذائقة الموت» وليس الموت مما يذاق ولكنه شبهه بطعام غير مريء ولا مستساغ ولكنه لحتمية وقوعه وكونه أمرا لا بد منه أصبح بمثابة المريء المستساغ فلا مندوحة لنفس عن ذوقه وقد تقدمت نظائر لهذه الاستعارة. الفوائد: 1- جواب «إذا» : تخالف «إذا» أدوات الشرط جيمعا، فإن أدوات الشرط متى أجيبت بأن النافية أو بما النافية وجب الإتيان بالفاء كما في هذه الآية وكما في قوله تعالى أيضا: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 313 2- مجيء المصدر حالا: جاءت مصادر تعرب أحوالا بكثرة في النكرات كطلع زيد بغتة وجاء ركضا وقتلته صبرا وهو أن تحبسه حيا ثم يرمى حتى يقتل وذلك كله على كثرته مؤول بالوصف فيؤول بغتة بوصف من باغت لأنها بمعنى مفاجأة أي مباغتا ويؤول ركضا بوصف الفاعل من ركض أي راكضا ويؤول صبرا بوصف المفعول من صبر أي مصبورا محبوسا ومع كثرة وروده قال سيبويه: لا ينقاس مطلقا وقاسه بعضهم بما يمكن الرجوع اليه في المطولات. ونعود الى بغتة فقد أكد بعضهم أنه يجوز جعلها مفعولا مطلقا وكذلك القول في الأمثلة المتقدمة إذ هي نوع من عاملها فهي كرجع القهقرى. ويتحصل مما ذكره النحاة أن المصدر المنصوب فيه أقوال ثلاثة: 1- مذهب سيبويه ان المصدر هو الحال وهو الأصل. 2- مذهب المبرد والأخفش انه مفعول مطلق غير منصوب بالعامل قبله وانما هو منصوب بالعامل المحذوف من لفظه وذلك المحذوف هو الحال وهو قول جميل كما ترى. 3- مذهب الكوفيين انه مفعول مطلق منصوب بالعامل قبله وليس في موضع الحال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 314 ومما يرد في هذا المجال اعراب «أسفا» من قول أبي الطيب: أبلى الهوى أسفا يوم النوى بدني ... وفرق الهجر بين الجفن والوسن روح تردّد في مثل الخلال إذا ... أطارت الريح عنه الثوب لم يبن كفى بجسمي نحولا إنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني فالحال هنا غير واردة لأن المعنى يأباها والمفعول لأجله لا يصح لاختلاف الفاعل فلم يبق إلا المفعولية المطلقة والتقدير أسفت أسفا ودل على فعله ما تقدمه لأن إبلاء الهوى بدنه يدل على أسفه كأنه قال أسفت أسفا، وتعسف ابن هشام فحاول أن يبرر نصبه على أنه مفعول لأجله فقال: فمن لم يشترط اتحاد الفاعل فلا إشكال (والقائل بهذا هو ابن خروف) واما من اشترطه فهو على إسقاط لام العلة توسعا كما في قوله «يَبْغُونَها عِوَجاً» (أي يبغون لها عوجا) أو الاتحاد موجود تقديرا إما على أن الفعل المعلل مطاوع أبلى محذوفا أي فبليت أسفا ولا تقدر فبلي بدني لأن الاختلاف حاصل إذ الأسف فعل النفس لا البدن أو لأن الهوى لما حصل بتسببه كأنه قال أبليت بالهوى بدني ولا طائل تحت هذه التأويلات المتعسفة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 315 [سورة الأنبياء (21) : الآيات 41 الى 47] وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) اللغة: (يَكْلَؤُكُمْ) : في المصباح: «كلأه الله يكلؤه مهموز بفتحتين من باب قطع كلاءة بالكسر والمد حفظه ويجوز التخفيف فيقال كليته أكلاه وكلئته أكلؤه من باب تعب لغة لقريش لكنهم قالوا: مكلوّ بالواو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 316 أكثر من مكليّ بالياء» وفي القاموس: «كلأ يكلأ بالفتح كلئا وكلاءة وكلاء بكسر الكاف الله فلانا حرسه وحفظه وكلأه بالسوط ضربه به وكلأ بصره في الشيء ردّده فيه وكلأ النجم متى يطلع: رعاه» وفي الأساس: «الله يكلؤك، وتداركه الله بكلاءته واكتلأت منه: احترست قال كعب بن زهير: أنخت قلوصي واكتلأت بعينها ... وآمرت نفسي أيّ أمري أفعل أي احترست بعينها لأنها إذا رأت شيئا ذعرت، وكلأ دينه كلوءا: تأخر فهو كالىء ونهي عن «بيع الكالئ بالكالئ» وكلّأته أنا تكلئة واستكلأت كلأة وتكلأت: استلفت سلفا وتقول: «إن الكلى تذيب شحم الكلى» جمع كلأة» . (خَرْدَلٍ) : الخردل: نبات له حبّ صغير جدا أسود مقرح والواحدة خردلة ويقال خردل الطعام: أكل خياره وخردل اللحم قطع أعضاءه والخرادل القطع من اللحم. الإعراب: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم ومواساته واللام جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق واستهزئ فعل ماض مبني للمجهول وبرسل قام مقام نائب الفاعل ومن قبلك نعت لرسل. (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الفاء عاطفة وحاق فعل ماض وبالذين متعلقان بحاق وجملة سخروا لا محل لها لأنها صلة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 317 الموصول ومنهم حال من فاعل سخروا وما فاعل حاق وجملة كانوا صلة الموصول وكان واسمها وبه متعلقان بقوله يستهزئون ويستهزئون جملة فعلية في محل نصب خبر كانوا. (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) من اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة يكلؤكم خبر والجملة مقول القول وبالليل متعلقان ييكلؤكم والنهار عطف على الليل ومن الرحمن أي من عذابه وأمره وهما متعلقان بيكلؤكم. (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) بل حرف إضراب وهم مبتدأ وعن ذكر ربهم متعلقان بمعرضون، ومعرضون خبر هم وهو إضراب عما تضمنه الكلام من النفي والتقدير ليس لهم كالىء ولا مانع غير الرحمن مع انهم لا يخطرونه في بالهم فضلا عن أن يخافوا بأسه وعذابه. (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) أم حرف عطف وإضراب فهي بمعنى بل ولهم خبر مقدم وآلهة مبتدأ مؤخر وهمزة الاستفهام مقدرة والتقدير ألهم آلهة تمنعهم وجملة تمنعهم صفة لآلهة ومن دوننا صفة لآلهة أيضا. (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير أن من ليس بقادر على نصر نفسه ومنعها ولا بمصحوب من الله بالنصر والتأييد كيف يمنع غيره وينصره ولا نافية ويستطيعون فعل مضارع وفاعل ونصر أنفسهم مفعول به ولا الواو عاطفة ولا نافية وهم مبتدأ ومنا متعلقان بيصحبون ويصحبون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وجملة يصحبون خبرهم، تقول العرب أنا لك صاحب من فلان أي مجير لك منه وتقول أيضا: صحبك الله أي حفظك وأجارك. (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) بل حرف إضراب انتقالي ومتعنا فعل وفاعل وهؤلاء اسم اشارة مبني على الكسر في محل نصب مفعول به وآباءهم عطف على هؤلاء وحتى حرف غاية وجر وطال فعل ماض وعليهم متعلقان بطال والعمر فاعل طال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 318 (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على مقدر وقد تكرر هذا التعبير حتى لم يعد ثمة موجب لإعادته ولا نافية ويرون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وان وما في حيزها سدت مسد مفعولي يرون لأن الرؤية هنا علمية ويجوز أن تكون بصرية وان واسمها وجملة نأتي الأرض خبرها وجملة ننقصها من أطرافها حالية من فاعل نأتي أو من مفعوله أي نفتحها أرضا بعد أرض بما ينقص من أطراف المشركين ويزيد في أطراف المؤمنين وقد تقدم بسط هذا مفصلا في سورة الرعد فجدد به عهدا وسيأتي السر في اسناد الفعل الى نفسه في باب البلاغة وقوله أفهم الهمزة للاستفهام الانكاري التقريعي والفاء عاطفة على مقدر وهم مبتدأ والغالبون خبر (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ) إنما كافة ومكفوفة وأنذركم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وبالوحي متعلقان بأنذركم ولا يسمع الواو عاطفة ويجوز أن تكون حالية ولا نافية ويسمع الصم الدعاء فعل مضارع وفاعل ومفعول به وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وهي لمجرد الظرفية متعلقة بيسمع أي وقت إنذارهم، وما زائدة وينذرون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وجملة ينذرون في محل جر باضافة الظرف إليها وسيأتي تفصيل لهذه الآية في باب البلاغة. (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية ومستهم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والهاء مفعول به ونفحة فاعل والمراد بالنفحة القليل مأخوذ من نفح المسك قاله ابن كيسان ومنه قول النعمان بن بشير: وعمرة من سروات النسا ... ء تنفح بالمسك أردانها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 319 وقال المبرد: النفحة الدفعة من الشيء التي دون معظمه يقال نفحه نفحة بالسيف إذا ضربه ضربة خفيفة، وقيل: هي النصيب، وقيل هي الطرف والمعنى متقارب أي ولئن مسهم أقل شيء من العذاب، ومن عذاب ربك صفة لنفحة، ليقولن اللام واقعة في جواب القسم لأنه سبق ويقولنّ فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والنون للتوكيد ويا ويلنا إما نداء للويل ليحضر فهذا أوانه واما ان يا للتنبيه وويلنا مفعول مطلق لفعل محذوف وإنا إن واسمها وجملة كنا خبرها ونا اسم كان وظالمين خبرها. (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) جملة مستأنفة مسوقة لبيان ما سيقع عند إتيان ما أنذروه ونضع فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن والموازين مفعول به والقسط وصف الموازين وقد وصفت بنفس المصدر مبالغة من قسط إذا عدل وليوم القيامة متعلق بنضع واللام بمعنى «في» كقولهم مضى لسبيله وقيل يمعنى عند قال الزمخشري: «مثلها في قولك جئته لخمس خلون من الشهر ومنه بيت النابغة: توسمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع ومعناه تتبعت رسومها وآثارها فعرفتها أي في تلك المواضع المذكورة في البيت قبله وقوله لستة أعوام أي تمام ستة أعوام مضت من عهدها وهذا العام الحاضر الذي نحن فيه هو السابع ولو قال لسبعة أعوام لأفاد أن السبعة كلها مضت وليس مرادا فقول بعضهم انه كان يكفيه أن يقول لسبعة أعوام فعجز عن إتمامه وكمله بما لا معنى له ولا وجه إلا عدم التبصر. فلا الفاء عاطفة وتظلم فعل مضارع مبني للمجهول ونفس نائب فاعل وشيئا مفعول مطلق أو مفعول ثان لتظلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 320 (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) الواو عاطفة وإن شرطية وكان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط واسمها مستتر تقديره هو يعود على العمل ومثقال حبة خبر كان ومن خردل صفة لحبة وأتينا بها في محل جزم جواب الشرط وكفى الواو عاطفة وكفى فعل ماض والباء حرف جر زائد وحاسبين تمييز أو حال وأنث ضمير المثقال لأنه أضيف الى الحبة وقد مرت قاعدته. البلاغة: 1- وضع الظاهر موضع المضمر: في قوله تعالى: «قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ» فن لطيف يمكن تسميته وضع الظاهر موضع المضمر والفائدة منه التسجيل عليهم فقد كان مقتضى السياق أن يقول ولا يسمعون ولكنه صرح بالصم وتجاوز بالظاهر عن ضميره للدلالة على تصامهم وسدهم أسماعهم إن أنذروا، وللدلالة على صدور إنكار شديد وغضب عظيم وتعجب من نبو أسماعهم عن الوحي وعدم إصاختهم لما ينفعهم وإمعانهم في ركوب الغي والتعسف في متاهات الضلال وهذا فن عجيب تميز به القرآن الكريم وسيرد عليك الكثير من نماذجه. 2- اسناد الضمير الى الله تعالى في قوله تعالى: «أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها» أسند سبحانه الضمير الى نفسه تعظيما للمسلمين الذين أجرى على أيديهم الانتصار العظيم وافتتاح البلاد والأمصار وان عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 321 ناقصة من أطرافها فأصله تأتي جيوش المسلمين ولكنه أسند الإتيان الى نفسه تنويها بقدر المجاهدين وتعظيما لما أتوا به من جلائل الأعمال وناهيك بمن يعمل عملا ينسبه الله الى نفسه ألا يصح فيه أن يكون مصداقا لقوله في حديثه «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها» الى آخر الحديث القدسي. 3- مبالغات ثلاث: وفي قوله تعالى: «وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا» ثلاث مبالغات: آ- ذكر المس وهو أقل شيء بل هو شيء رفيق جدا فما بالك إذا انثال عليهم؟ أي يكفي للدلالة على ذلهم وهوان أمرهم ووهن عزيمتهم أن أقل مس يكفيهم ليذعنوا ويتطامنوا ويعلنوا ذلهم وخضوعهم والإقرار على أنفسهم بأنهم تصاموا وأعرضوا وقد رمق المتنبي سماء هذه المبالغة فقال في وصف قوم جبناء: وضاقت الأرض حتى كاد هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا ب- وما في النفحة من معنى القلة والنزارة يقال: نفحته الدابة ونفحه بعطية. ج- بناء المرة من النفح فمصدر المرة يأتي على فعلة أي نفحة واحدة لا ثاني لها تكفي لتشتيت أمرهم وتوهين كيانهم وتصدع صفوفهم فكيف إذا عززت بثانية أو ثالثة؟. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 322 الفوائد: مصدرا المرة والهيئة: مصدر المرة هو ما يذكر لبيان عدد الفعل ويبنى من الثلاثي المجرّد على وزن فعلة بفتح الفاء وسكون العين مثل: وقفت وقفة ووقفتين ووقفات فإن كان الفعل فوق الثلاثي ألحقت بمصدره التاء مثل أكرمته إكرامة وفرّحته تفريحة وتدحرج تدحرجة إلا ان كان المصدر ملحقا في الأصل بالتاء فيذكر بعده ما يدلّ على العدد مثل رحمته رحمة واحدة وأقمت إقامة واحدة واستقمت استقامة واحدة. أما مصدر النوع أو الهيئة فهو ما يذكر لبيان نوع الفعل وصفته نحو وقفت وقفة ويبنى من الثلاثي المجرد على وزن فعلة بكسر الفاء مثل عاش عيشة حسنة ومات ميتة سيئة وفلان حسن الجلسة وفلانة هادئة المشية فإن كان الفعل فوق الثلاثي يصير مصدره بالوصف مصدر نوع مثل أكرمته إكراما عظيما. هذا وهنا تنبيه هام نبه عليه الشيخ أبو حيان وهو أن هذه التاء الدالة على المرة الواحدة لا تدخل على كل مصدر بل على المصادر الصادرة عن الجوارح المدركة بالحس نحو قومة وضربة وقعدة وأكلة، وأما مصادر الأفعال الباطنة والخصال الجليلة الثابتة نحو الظرف والحسن والجبن والعلم فلا يقال من ذلك علمته علمة ولا فهمته فهمة ولا صبرته صبرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 323 [سورة الأنبياء (21) : الآيات 48 الى 55] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) اللغة: (التَّماثِيلُ) : جمع تمثال بكسر التاء أي الصورة المصورة أو ما تصنعه وتصوره مشبها بخلق الله من ذوات الروح والصورة وهذا الوزن فيه زائدان أحدهما قبل الفاء والآخر قبل اللام وقد جاء اسما وصفة. فالاسم تمثال للصورة ويجمع على تماثيل وقالوا تجفاف وتبيان فالتجفاف واحد تجافيف الفرس وهو ما يلبس عند الحرب والزينة وتبيان بمعنى البيان فمنهم من يجعله مصدرا من قبيل الشاذ لأن المصادر إنما تجيء على تفعال بالفتح نحو التلعاب والتهدار ولم يجيء بالكسر إلا تبيان وتلقاء، وسيبويه يجعلهما من الأسماء التي وضعت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 324 موضع المصادر كالغارة وضعت موضع الإغارة. وقال غير واحد من علماء اللغة: التمثال هو الصورة المصنوعة من رخام أو نحاس أو خشب شبيهة بخلق الآدمي. الإعراب: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما يكابده من قومه وتقوية لقلبه وحفزا لاستدامته في تأدية الرسالة وذكر منها في هذه السورة عشر قصص وستأتي. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل وموسى مفعول به وهارون معطوف على موسى والفرقان مفعول به ثان وضياء عطف على الفرقان وذكرا عطف على ضياء وللمتقين متعلقان بضياء وعطف الصفات جائز فهو من هذا الوادي واختار الزمخشري أن يعرب حالا وعامله محذوف دل عليه ما قبله وقدره: وآتينا به ضياء، أما ما ارتآه بعضهم من أن الواو زائدة وضياء حال من الفرقان فهذا مجرد تحكم لا نتردد في رده. (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) الذين اسم موصول في محل جر صفة للمتقين ولك أن تعربه خبرا لمبتدأ محذوف أي هم الذين وجملة يخشون صلة والواو فاعل وربهم مفعول به وبالغيب حال من الفاعل في يخشون وهم الواو عاطفة أو حالية وهم مبتدأ ومن الساعة جار ومجرور متعلقان بمشفقون ومشفقون خبرهم وسيأتي سر التعبير بالاسمية في باب البلاغة. (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة لخطاب أهل مكة ومحاورتهم حول القرآن الكريم الذي أنزل بلسانهم، وهذا مبتدأ وذكر خبر ومبارك صفة وجملة أنزلناه صفة لذكر وهو فعل وفاعل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 325 ومفعول به والهمزة للاستفهام التوبيخي لأنه خطاب للعرب وهم أهل اللسان العربي ومعادن الفصاحة فما أجدرهم باكتناه أسرار القرآن وإدراك بلاغته والفاء عاطفة على محذوف وأنتم مبتدأ وله متعلقان بمنكرون ومنكرون خبر أنتم. (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل وابراهيم مفعول به أول ورشده مفعول به ثان ومن قبل حال أي من قبل موسى وهارون وكنا الواو عاطفة وكان واسمها وبه متعلقان بعالمين وعالمين خبر كنا. (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ؟) الظرف متعلق بفعل محذوف أي اذكر ولك أن تعلقه بعالمين وعلقه الزمخشري بآتينا أو برشده أيضا وليس ثمة ما يمنع من ذلك وجملة قال مضاف إليها الظرف ولأبيه متعلقان بقال وقومه عطف على لأبيه، وما اسم استفهام مبتدأ وهذه خبر والتماثيل بدل من اسم الاشارة والتي صفة وجملة أنتم لها عاكفون صلة الموصول وأنتم مبتدأ وعاكفون خبر ولها متعلقان بعاكفون وسيأتي السر في عدوله عن القول عليها عاكفون الى لها عاكفون في باب البلاغة. (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) قالوا فعل وفاعل ووجدنا فعل وفاعل والجملة مقول القول وآباءنا مفعول وجدنا الأول ولها متعلقان بعابدين وعابدين مفعول وجدنا الثاني. (قالَ: لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وكنتم كان واسمها وأنتم تأكيد للتاء وآباؤكم عطف على التاء وفي ضلال خبر كنتم ومبين صفة لضلال. (قالُوا: أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) الهمزة للاستفهام وجئتنا فعل وفاعل ومفعول به وبالحق متعلقان بجئتنا وأم حرف عطف معادل للهمزة وأنت مبتدأ ومن اللاعبين خبره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 326 البلاغة: 1- العدول عن الفعلية الى الاسمية: في قوله تعالى: «وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ» عدول عن الخطاب بالجملة الفعلية كما هو مقتضى السياق الى الخطاب بالجملة الاسمية وانما يعدل عن أحد الخطابين وإن كان السياق يقتضيه لضرب من التأكيد والمبالغة وقد جيء بها هنا تنويها بالخاص بعد العام فالخشية من الله ملازمة لهم ولكنها من الساعة أكثر ملازمة وأشد امتلاكا لقلوبهم وأسرا لجوارحهم، ما يريمون عن تذكرها، وتفادي كل ذنب خشية مواجهتها بما هم فيه، وأمر ثان هو الديمومة والاستمرار اللذان تفيدهما الجملة الاسمية أكثر مما تفيدهما الجملة الفعلية التي تتوزع على الأزمنة. 2- في قوله تعالى: «ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ» عدول عن «على» التي يتعدى فعل العكوف بها ولكنه أم يقصد التعدية ولو قصد التعدية لقال عليها ولكنه عدل عنها الى اللام لأنه قصد من العكوف معنى العبادة ليجيبوه بقولهم «وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ» وانهم لا ينفكون عن التقليد الأعمى وفي ذلك ما فيه من التنديد بالتقليد والقول بغير برهان والانجرار الى ما عليه آباؤهم ولو بالأرسان، وكفى أهل التقليد سبة أن عبدة الأوثان والأصنام منهم وقيل إن اللام بمعنى على وقد نص النحاة على مجيئها بمعنى على ولكن تفوت بذلك النكتة التي ألمعنا إليها فالأولى بقاؤها على بابها من الاختصاص الذي هو معنى رئيسي للام. 3- خولف بين الجملتين في الآية «قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ» لملاحظة تجدد في إحداهما فبرزت في صورة الفعلية وثبات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 327 في الأخرى فبرزت في صورة الاسمية والمعنى: أحدثت عندنا الإتيان بالحق وهو التوحيد فيما نسمعه منك أم أنت على ما كنت عليه من اللعب منذ أيام الصبا وأرادوا بالتجدد في الجملة الاولى أن التوحيد أمر محدث مخترع وبالثبات في الثانية أنه على عادتهم المستمرة من اللعب تحقيرا له، وما أقبح ضلالهم في تقليد آبائهم في عبادة جماد هو دونهم في الرتبة حيث ينحتونها بأيديهم ثم يعفرون وجوههم وجباههم دونها. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 56 الى 61] قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) اللغة: (جُذاذاً) : في القاموس الجذاذ بتثليث الجيم: ما تكسر من الشيء وفعله جذّ يجذّ من باب نصر وقد تقدمت الخصائص لاجتماع الجيم والذال فاء وعينا للكلمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 328 الإعراب: (قالَ: بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) بل حرف إضراب وربكم مبتدأ ورب السموات والأرض خبر والذي صفة لرب وجملة فطرهن صلة والضمير يعود على السموات والأرض أو على التماثيل ورجح الزمخشري الثاني لكونه «أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم» ويدل على ذلك أيضا قوله «وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» كأنه قال وسأبين لكم ذلك وأبرهن عليه، وأنا مبتدأ خبره من الشاهدين وعلى ذلك متعلقان بالشاهدين. (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) وهذا شروع في تأكيد الطريقة الفعلية أو الدليل العملي كما يقال فالواو عاطفة والتاء تاء القسم وسيرد بحث هام عن حروف القسم الجارة في باب الفوائد والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم واللام جواب القسم وأكيدن فعل مضارع مبني على الفتح لوجوب توكيده بنون التوكيد الثقيلة وفاعله ضمير مستتر تقديره أنا وأصنامكم مفعول به وبعد ظرف متعلق بأكيدن وأن وما في حيزها مصدر مؤول مضاف الى الظروف ومدبرين حال أي تعودوا الى مجتمعاتكم. (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) الفاء عاطفة على محذوف تقديره فولوا وعادوا الى مجتمعاتهم وذهب معهم ابراهيم فلما كان ببعض الطريق ألقى بنفسه وقال إني سقيم أشتكي رجلي فتركوه ومضوا فرجع إبراهيم الى بيت الأصنام وقبالة الباب صنم عظيم والى جنبه أصغر منه وهكذا دواليك فقال لهم إبراهيم ألا تأكلون فلم ينبس أحد فانهال عليهم تكسيرا فجعلهم ... والقصة بكاملها مروية في الخازن وغيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 329 وجعلهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول وجذاذا مفعول به ثان وإلا أداة استثناء لأن الكلام تام موجب وكبيرا مستثنى من الهاء أي لم يكسره وتركه لحبك النكتة واستكمال الهزء بهم، ولعل واسمها واليه متعلقان بيرجعون وجملة يرجعون خبر لعل وفي هذا من التهكم ما فيه. (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) قالوا فعل وفاعل ومن اسم استفهام قصد به الإنكار مبتدأ وجملة فعل خبر وهذا مفعول فعل وبآلهتنا متعلقان بفعل ولم يشيروا إليها بهؤلاء وهي أمامهم لوضع الظاهر موضع المضمر وقد تقدم بحثه وجملة إنه لمن الظالمين مستأنفة مسوقة لتقرير ما تقدم وتأكيد استنكارهم لما حدث وان واسمها واللام المزحلقة ومن الظالمين خبران. (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) جملة سمعنا مقول القول وفتى مفعول سمعنا وجملة يذكرهم مفعول به ثان وستأتي خاصة فعل سمع في باب الفوائد وجملة يقال صفة لفتى وله متعلقان بيقال وابراهيم: في رفعه عدة أوجه متساوية الرجحان أولها انه نائب فاعل، يقال أي يقال له هذا اللفظ قال الزمخشري: وهو الصحيح لأن المراد الاسم لا المسمى وثانيها أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو ابراهيم أو هذا ابراهيم وثالثها أنه مبتدأ محذوف الخبر أي ابراهيم فاعل ذلك ورابعها انه منادى وحرف النداء محذوف أي يا ابراهيم. (قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) فأتوا الفاء الفصيحة وأتوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وبه متعلقان بقوله فأتوا، وعلى أعين الناس في محل نصب على الحال من الضمير المجرور بالباء أي ائتوا به حال كونه معاينا مشاهدا وسيأتي سر الاستعلاء في هذا التعبير ولعلهم لعل واسمها وجملة يشهدون خبرها أي يشهدون عليه انه الفاعل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 330 الفوائد: في هذه الآيات فوائد كثيرة نورد أهمها فيما يلي: 1- حروف القسم: أصل حروف القسم الباء والواو مبدلة منها وانما قلنا ذلك لأنها حرف الجر الذي يضاف به فعل الحلف الى المحلوف وذلك الفعل أحلف أو أقسم أو نحوهما ولكنه لما كان الفعل غير متعد وصلوه بالباء المعدية فصار أحلف بالله أو أقسم بالله، قال الله تعالى: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ» وقال الشاعر: أقسم بالله وآلائه ... والمرء عما قال مسئول وقال زهير بن أبي سلمى: فأقست بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم وانما خص الباء بذلك دون غيرها من حروف الجر لأمور: آ- انه يجوز ذكر فعل القسم معها كما رأيت في الشواهد المتقدمة ولا يجوز ذلك في الواو والتاء فلا تقول أقسم والله ولا أقسم تالله. ب- جواز دخولها على الضمير دون غيرها من الحروف تقول: بك لأفعلن ولا تقول تك ولا وك، ومعروف أن الضمير يرد الشيء الى أصله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 331 ج- استعمالها في القسم الاستعطافي وذلك أن القسم جملة انشائية يقصد بها تأكيد جملة أخرى فإن كانت هذه الجملة الاخرى انشائية أيضا فذلك هو القسم الاستعطافي نحو بالله هل قام زيد أي أسألك بالله مستحلفا. ومن القسم الاستعطافي بالباء قول المجنون: بربك هل ضممت إليك ليلى ... قبيل الصبح أو قبلت فاها د- اختصاص الباء دون الواو والتاء بمجيئها لغير القسم وهو ظاهر. ولما كثر استعمال ذلك في الحلف آثروا التخفيف فحذفوا الفعل من اللفظ وهو مراد ليعلق حرف الجر به ثم أبدلوا الواو من الباء توسعا في اللغة ولأنها أخف لأن الواو أخف من الباء وحركتها أخف من حركة الباء وانما خصوا الواو بذلك لأمرين: آ- انها من مخرج الباء أي من الشفتين. ب- من جهة المعنى وذلك ان الباء معناها الإلصاق والواو معناها الاجتماع، والشيء إذا لاصق الشيء فقد جاء معه. وأما التاء فهي مبدلة من الواو لأنه قد كثر إبدالها في نحو تكأة وتراث وتخمة لشبهها من جهة اتساع المخرج وهي من الحروف المهموسة فناسب همسها لين حروف اللين، ولما كانت الواو بدلا من الباء والبدل ينحط عن درجة الأصل فلذلك لا تدخل إلا على كل ظاهر ولا تدخل على المضمر لانحطاط الفرع عن درجة الأصل لأنه من المرتبة الثانية والتاء لما كانت بدلا من الواو وكانت من المرتبة الثالثة انحطت عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 332 درجة الواو فاختصت باسم الله تعالى لكثرة الحلف به وقد يكون فيها معنى التعجب قال الله تعالى: «تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ» على طريق التعجب وكالآية التي نحن بصددها كأنه تعجب من تسهيل الكيد على يده وتأتيه لأن ذلك كان أمرا مقنوطا منه أو مشكوكا فيه على الأقل لتعذره وصعوبته. 2- خصائص فعل سمع: لهذا الفعل خصائص عجيبة وذلك انه إذا دخل على ما لا يسمع تعدى لاثنين كما في الآية الكريمة فالمفعول الأول فتى والثاني يذكرهم بخلاف ما لو دخلت على ما يسمع كأن قلت سمعت كلام زيد فانها تتعدى لواحد. 3- معنى الاستعلاء: معنى الاستعلاء العلو فالسين والتاء للعلو لا للطلب ويكون الاستعلاء على نوعين حقيقي نحوَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ» ومجازي نحو «أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ» «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» شبه التمكن من الهدى والأخلاق العظيمة الشريفة والثبوت عليها بمن على دابة يصرفها كيف شاء وكذلك قولهم: عليه دين كأن شيئا اعتلاه وكما في قوله «عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ» أي يثبت إتيانه في الأعين ويتمكن منها ثبات الراكب على المركوب وتملكه منه. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 62 الى 70] قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 333 الإعراب: (قالُوا: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ؟) الهمزة للاستفهام وأنت مبتدأ وجملة فعلت خبر وهذا مفعول به وبآلهتنا متعلقان بفعلت ويا حرف نداء وابراهيم منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب منادى. (قالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) بل حرف إضراب وفعله كبيرهم فعل ومفعول به وفاعل مؤخر وهذا نعت لكبيرهم أو بدل منه والفاء الفصيحة واسألوهم فعل أمر وفاعل ومفعول به وإن شرطية وكانوا فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والواو اسمها وجملة ينطقون خبرها وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فاسألوهم. (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) الفاء عاطفة ورجعوا فعل ماض وفاعل والى أنفسهم متعلقان برجعوا فقالوا عطف على فرجعوا وإنكم ان واسمها وجملة أنتم الظالمون خبرها ولك أن تجعل أنتم ضمير فصل والظالمون خبر إن. (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 334 رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) ثم حرف عطف للتراخي وسيأتي معنى التنكيس في باب البلاغة ونكسوا فعل ونائب فاعل وعلى رءوسهم حال أي كائنين على رءوسهم ولك أن تعلقه بنفس الفعل ومعنى التنكيس القلب يقال نكس رأسه ونكسه مخففا ومشددا أي طأطأه حتى صار أعلاه أسفله واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وعلمت فعل وفاعل والخطاب لابراهيم والجملة معمول لقول محذوف في موضع الحال وما نافية حجازية وهؤلاء اسمها وجملة ينطقون خبرها وجملة ما هؤلاء ينطقون في موضع المفعولين لعلمت أو في موضع المفعول الواحد إن كانت علمت بمعنى عرفت. (قالَ: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف وتعبدون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل ومن دون الله حال وما مفعول به وجملة لا ينفعكم صلة وشيئا مفعول مطلق ولا يضركم عطف على لا ينفعكم. (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أف اسم فعل مضارع وقد تقدمت اللغات فيها ومعناه أتضجر ولكم متعلقان بمحذوف حال لأن اللام للبيان بالنسبة للمتأفف ولما تعبدون عطف على لكم وجملة تعبدون صلة ومن دون الله حال أفلا الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف ولا نافية وتعقلون فعل مضارع والواو فاعل. (قالُوا: حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) حرقوه فعل أمر وفاعل ومفعول به والجملة مقول القول وانصروا فعل أمر وفاعل وآلهتكم مفعول به وإن شرطية وكنتم فعل الشرط والتاء اسم كان وفاعلين خبرها وجواب ان محذوف دل عليه ما قبله أي فحرقوه وانصروا آلهتكم. (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) لا بد من تقدير جمل محذوفة أي فأزمعوا أمرهم على حرقه فجمعوا الحطب الكثير وأضرموا النار وأوثقوا ابراهيم وجعلوه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 335 في منجنيق ورموه في النار، وقلنا فعل وفاعل ويا حرف نداء ونار منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب وكوني فعل أمر ناقص والياء اسمها وبردا خبرها وسلاما عطف على بردا وعلى ابراهيم صفة سلاما. (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) الواو حرف عطف وأرادوا فعل ماض وفاعل وبه متعلقان بأرادوا وكيدا مفعول به، فجعلناهم الفاء حرف عطف وجعلناهم عطف على أرادوا والأخسرين مفعول به ثان. البلاغة: 1- تجاهل العارف: في قوله: «أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ» فن طريف من فنونهم يسمى تجاهل العارف وهو سؤال المتكلم عما يعلمه حقيقة تجاهلا منه ليخرج الكلام مخرج المدح أو الذم أو ليدل على شدة الوله في الحب أو لقصد التعجب أو التوبيخ أو التقرير وهو على قسمين موجب ومنفي والآية التي نحن بصددها من التجاهل الموجب الجاري مجرى التقرير. 2- التعريض: في قوله «فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ» فن التعريض، وقد تقدمت الاشارة اليه أكثر من مرة، أراد عليه الصلاة والسلام أن يبين لهم أن من لا يتكلم ولا يعلم ليس بمستحق للعبادة ولا يصح في العقل أن يطلق عليه أنه إله، فأخرج الكلام مخرج التعريض لهم بما يوقعهم في الاعتراف بأن الجمادات التي عبدوها ليست بآلهة لانهم إذا قالوا لا ينطقون قال لهم: فكيف تعبدون من يعجز عن النطق ويقصر عن أن يعلم بما يقع عنده في المكان الذي هو فيه، فهذا الكلام من فرض الباطل مع الخصم حتى تلزمه الحجة ويعترف بالحق فإن ذلك أقطع لشبهته وأدفع لمكابرته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 336 [سورة الأنبياء (21) : الآيات 71 الى 75] وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) الإعراب: (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) الواو عاطفة ونجيناه فعل وفاعل ومفعول به ولوطا معطوف على الهاء أو مفعول معه والواو واو المعية وهو ابن أخيه فنقلناه من أرض نمروذ بالعراق، الى الأرض متعلقان بنجيناه أو بمحذوف حال والتي صفة للأرض وجملة باركنا فيها للعالمين صلة وفيها حال وللعالمين متعلقان بباركنا وهي قرى بيت المقدس بفلسطين وسيأتي بحث هام عن فلسطين لغة في باب الفوائد (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ) الواو حرف عطف ووهبنا فعل وفاعل وله متعلقان بوهبنا واسحق مفعول به ويعقوب عطف على اسحق ونافلة حال من يعقوب أي أعطي يعقوب زيادة من غير سؤال وإذا جعلت معنى نافلة عطية فيكون انتصابها على المفعولية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 337 المطلقة من معنى العامل وهو وهبنا لأن الهبة والعطية متقاربان في المعنى وكلّا مفعول أول لجعلنا مقدم وجعلنا فعل وفاعل وصالحين مفعول به ثان. (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) وجعلناهم فعل وفاعل ومفعول به وأئمة مفعول به ثان وجملة يهدون بأمرنا صفة لأئمة وبأمرنا حال أي يهدون الى ديننا ملتبسين بأمرنا. (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) وأوحينا عطف على ما تقدم وإليهم متعلقان بأوحينا وفعل الخيرات مفعول به وإقام الصلاة عطف على فعل الخيرات وكذلك إيتاء الزكاة، وكانوا الواو عاطفة وكانوا كان واسمها وعابدين خبرها ولنا متعلقان بعابدين. (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) ولوطا منصوب بفعل محذوف يفسره ما بعده أي آتينا لوطا فهو من باب الاشتغال وجملة آتيناه مفسرة لا محل لها وحكما مفعول ثان لآتيناه وعلما معطوف على حكما. (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) ونجيناه فعل وفاعل ومفعول به ومن القرية متعلقان بنجيناه والتي صفة للقرية وجملة كانت صلة واسم كانت ضمير مستتر تقديره هي وجملة تعمل الخبائث خبر كانت وجملة انهم تعليلية لا محل لها وان اسمها وجملة كانوا خبرها وقوم خبر كانوا وسوء مضاف لقوم وفاسقين صفة لقوم. (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) في رحمتنا متعلقان بأدخلناه وجملة انه من الصالحين تعليلية وان واسمها والجار والمجرور خبرها. البلاغة: في هذه الآيات مجازان الأول في قوله «وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ» والمراد أهلها لأنهم كانوا يمارسون الخبائث أي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 338 الأعمال القبيحة من اللواط والرمي بالبندق واللعب بالطيور وغيرها. والثاني في قوله «وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا» أي في جنتنا لأنها مكان الرحمة فهو مجاز مرسل علاقته المحلية. الفوائد: 1- فلسطين: فلسطين بفتح الفاء وكسرها مع فتح اللام لا غير قرى بيت المقدس وفي القاموس: «فلسطون وفلسطين وقد تفتح فاؤهما: كورة بالشام وقرية بالعراق تقول في حال الرفع بالواو وفي حال النصب والجر بالياء أو تلزمها الياء في كل حال والنسبة فلسطي» هذا ويجوز في هذا النوع أي المسمى بجمع المذكر السالم أن يعرب بالحركات الثلاثة ظاهرة على النون حال كونه لم يكن أعجميا وإن كان أعجميا أعرب إعراب ما لا ينصرف أي لا ينون ويجر بالفتحة ويجوز فيه أن يعرب اعراب جمع المذكر السالم. 2- إقام الصلاة وإيتاء الزكاة: (إِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) القاعدة في مصدر الفعل الرباعي على وزن أفعل أن يأتي على إفعال إن كان صحيح العين نحو أكرم إكراما وأوجد إيجادا فان اعتلت عينه نحو اقام وأعان وأبان جاء مصدره على إفالة كإقامة وإعانة وابانة حذفت عين المصدر وعوض منها تاء التأنيث والأصل أقوام وإعوان وإبيان فنقلت حركة الواو والياء وهي الفتحة الى الحرف الساكن قبلهما ثم حذفتا فرارا من اجتماع الساكنين وعوض الجزء: 6 ¦ الصفحة: 339 منهما التاء وقد تحذف هذه التاء من المصدر إذا أضيف كقوله تعالى «وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ» وما كان منه معتلّ اللام مثل أعطى وأهدى وأولى قلبت لامه في المصدر همزة مثل إعطاء وإهداء وإيلاء والأصل إعطاو وإهداي وايلاي قال في شرح القاموس «العرب تهمز الواو والياء إذا جاءتا بعد ألف لأن الهمزة أحمل للحركة منهما ولأنهم يستثقلون الوقف على الواو وكذلك الياء مثل الرداء أصله رداي» هذا ويرجع في هذا الى بحث الابدال في كتب النحو المطولة. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 76 الى 82] وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 340 اللغة: (الْحَرْثِ) : الزرع وبابه نصر أو كتب كما في المختار وفي القاموس: الحرث مصدر والأرض التي تستنبت بالبذر والنوى والغرس قال ابن عباس وأكثر المفسرين إن الحرث كان كرما قد تدلت عناقيده وقيل كان زرعا. (نَفَشَتْ) : تفرقت وانتشرت فيه فرعته وأفسدته وفي المختار: «نفشت الغنم والإبل أي رعت ليلا بلا راع من باب جلس ... والنفش بفتحتين اسم منه ومنه قوله تعالى «إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ» ولا يكون النفش إلا بالليل» ونفش الصوف والقطن من باب نصر والنفش تشعيب الشيء بأصابعك حتى ينتشر. (لَبُوسٍ) : اللبوس اللباس قال: «البس لكل حال لبوسها» والمراد الدرع، قال قتادة: كانت صفائح فأول من سردها وخلقها داود فجمعت الخفة والتحصين وهي المسماة بالدرع والدرع كما في المختار مؤنثة، وقال أبو عبيدة تؤنث وتذكر. الإعراب: (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) ونوحا عطف على لوطا فيكون مشتركا معه في عامله الذي هو آتينا المفسر بآتينا الظاهر وكذلك داود وسليمان والتقدير ونوحا آتيناه حكما وداود وسليمان آتيناهما حكما فإذ بدل اشتمال من نوحا وداود وسليمان ولك أن تعربه مفعولا به لفعل محذوف أي واذكر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 341 نوحا وداود وسليمان أي اذكر خبرهم وقصتهم فتكون إذ منصوبة بنفس المضاف المقدر أي خبرهم الواقع في وقت كذا، وجملة نادى مضاف إليها ومن قبل متعلقان بنادى فاستجبنا عطف على نادى وله متعلقان باستجبنا، فنجيناه عطف على استجبنا ومن الكرب متعلقان بنجيناه والعظيم صفة. (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) ونصرناه فعل وفاعل ومفعول به ومن القوم متعلقان بنصرناه والذين صفة للقوم وجملة كذبوا بآياتنا صلة وان واسمها وجملة كانوا خبرها وجملة انهم تعليلية لا محل لها وقوم سوء خبر كانوا فأغرقناهم عطف على ما تقدم وأجمعين تأكيد للهاء. (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) وداود وسليمان تقدم اعرابهما وإذ ظرف بدل من المضاف المحذوف أي اذكر قصة داود وسليمان وجملة يحكمان مضافة إليها وفي الحرث متعلقان بيحكمان وإذ ظرف متعلق بدل من المضاف المحذوف وجملة نفشت مضاف إليها وفيه جار ومجرور متعلقان بنفشت وغنم القوم فاعل وستأتي خلاصة القصة في باب الفوائد، وكنا الواو عاطفة وكان واسمها وشاهدين خبرها ولحكمهم متعلقان بشاهدين وجمع الضمير لأنه أرادهما والمتحاكمين إليهما، أو انه ضمير يراد به المثنى وانما وقع الجمع مقام التثنية مجازا أو لأن التثنية جمع وأقل الجمع اثنان، ويدل على أن المراد التثنية قراءة ابن عباس لحكمهما بصيغة التثنية. (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) ففهمناها عطف على يحكمان لأنه بمعنى الماضي أي فهمناه الصواب فيها وفهمناها فعل وفاعل ومفعول به وسليمان مفعول به ثان وكلّا مفعول أول مقدم لآتينا وحكما وعلما مفعول به ثان لآتينا. (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ) وسخرنا فعل وفاعل ومع ظرف مكان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 342 متعلق بسخرنا وداود مضاف اليه والجبال مفعول به وجملة يسبحن حالية من الجبال أي مسبحة ويجوز أن تكون مستأنفة والطير عطف على الجبال أو مفعول معه وكنا الواو عاطفة وكان واسمها وفاعلين خبرها. (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) وعلمناه عطف على ما تقدم وعلمناه فعل وفاعل ومفعول به وصنعة مفعول ثان لعلمناه ولبوس مضاف ولكم يجوز أن تتعلق بمحذوف صفة للبوس فاللام للتمليك ويجوز أن تتعلق بعلمناه فتكون اللام للتعليل وعلى هذا يكون قوله لتحصنكم بدلا باعادة اللام أي لكم ولإحصانكم، وعلى الوجه الأول يتعلق قوله لتحصنكم بعلمنا، ولتحصنكم اللام للتعليل وتحصنكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والفاعل مستتر تقديره هي والكاف مفعول به ومن بأسكم متعلقان بتحصنكم والفاء استئنافية وأنتم مبتدأ وشاكرون خبر. (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) الواو عاطفة ولسليمان متعلقان بفعل محذوف تقديره سخرنا والريح مفعول به للفعل المحذوف المفهوم من قوله تعالى «وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ» وعاصفة حال وجملة تجري بأمره حال ثانية والى الأرض متعلقان بتجري والتي صفة وجملة باركنا فيها صلة. (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) الواو عاطفة، وكنا: كان واسمها وبكل شيء متعلقان بعالمين وعالمين خبرها. (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) ومن الشياطين خبر مقدم ومن يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة مبتدأ مؤخر ولك أن تعطفها نسقا على الريح وجملة يغوصون صلة أو صفة وجمع الضمير حملا على معنى من وحسّن ذلك تقدم جمع ما قبله وله متعلقان بيغوصون. (وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) ويعملون عطف على يغوصون وعملا مفعول به أو مفعول مطلق ودون ظرف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 343 متعلق بمحذوف صفة وذلك مضاف اليه وكنا كان واسمها وحافظين خبرها ولهم متعلقان بحافظين. البلاغة: في قوله تعالى: «وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ» الخ فن جمع المختلف والمؤتلف، وهو عبارة عن أن يريد المتكلم التسوية بين ممدوحين فيأتي بمعان مؤتلفة في مدحهما ثم يروم بعد ذلك ترجيح أحدهما على الآخر بزيادة فضل لا ينقص مدح الآخر فيأتي لأجل ذلك الترجيح بمعان تخالف معاني التسوية، وقبل أن نتحدث عن الآية نورد أبياتا للخنساء توضح هذا الفن بجلاء نظمتها في أخيها صخر وقد أرادت مساواته في الفضل بأبيها مع مراعاة حق الوالد بزيادة فضل لا ينقص بها مدح الولد فقالت: جارى أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الحضر وهما وقد برزا كأنهما ... صقران قد حطّا الى وكر حتى إذا نزت القلوب وقد ... لزت هناك العذر بالعذر وعلا هتاف الناس أيهما ... قال المجيب هناك: لا أدري برقت صحيفة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجري أولى فأولى أن يساويه ... لولا جلال السن والكبر فلنتكم الآن على الآية والأبيات معا لتتضح لك حقيقة هذا الفن العجيب: ففي الآية ساوى أول الآية بين داود وسليمان عليهما السلام في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 344 أهلية الحكم ثم رجح آخرها سليمان حيث يقول «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» وحصل الالتفات الى مراعاة فأتى بما يقوم مقام تلك الزيادة التي يرجح بها سليمان لترشد الى المساواة في الفضل لتكون فضيلة السن وما يستتبعها من وفرة التجارب وحنكة الحياة قائمة مقام الزيادة التي رجح بها سليمان في الحكم أما معنى شعر الخنساء فإنها بعد قولها في المساواة: وهما وقد برزا كأنهما ... صقران قد حطا الى وكر وبعد قولها فيها أيضا: حتى إذا نزت القلوب وقد ... لزت هناك العذر بالعذر تريد أن عذر اللجم لز بعضها بعضا والعذر جميع عذار وهو السير الذي يكون على خد الدابة من اللجام وهذا يدل على المساواة في العدو ثم قالت في ترجيح الوالد: برقت صحيفة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجري تعني أنه خرج وجهه من الغبار دون وجه رسيله سبقا. ثم قالت في الحاق الولد بالوالد في الفضل: أولى فأولى أن يساويه ... لولا جلال السن والكبر تريد أن الولد كان قادرا على مساواة الوالد لولا ما التزمه من الأدب مع برّ أبيه، ومعرفته بحقه، فغض من عنانه وخفض جناح فضله ليؤثر أباه بالفضل على نفسه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 345 والآية الكريمة ساوت بين داود وسليمان في التأهل للحكم وشركت بينهما فيه حيث قالت: «إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ» وأخبرت ان الله سبحانه فهم سليمان إصابة الحكم ففضل أباه بذلك بعد المساواة ثم التفت سبحانه، الى مراعاة حق الوالد فقال: «وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً» فرجعا بذلك الى المساواة بعد ترجيح سليمان ليعلم الولد بذلك بر الوالد ويعرفه ما له عليه من الحق حتى إذا فكر الناظر في هذا الكلام وقال: من أين جاءت المساواة في الحكم والعلم بعد الاخبار بأن سليمان فهم من الحكم ما لم يفهمه أبوه؟ علم أن حق الأبوة قام مقام تلك الفضيلة فحصلت المساواة وحصل في هذا الكلام من الزيادة على معنى الخنساء بعد اشتراكهما في جمع المختلف والمؤتلف ضرب آخر من المحاسن يقال له الالتفات وذلك في قوله تعالى فيها «وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ» وأدمج في هذا الالتفات ضربا آخر من المحاسن يقال له «التنكيت» فإن النكتة التي من أجلها جمع الضمير الذي كان من حقه أن يكون مثنى هي الاشارة الى أن هذا الحكم متبع يجب الاقتداء به لأنه عين الحق ونفس العدل وكيف لا يكون كذلك وقد أخبر سبحانه أنه شاهد له أي هو مراعى بعينه عز وجل ويجوز أن يكون جمع الضمير الذي أضيف اليه الحكم من أجل أن الحكم يستلزم حاكما ومحكوما له ومحكوما عليه فجمع الضمير لأجل ذلك. هذا ومن طريف ما قيل في جمع المؤتلف والمختلف قول الخبز أرزي واسمه نصر الله بن أحمد البصري وكان أميا يخبز خبز الأرز في البصرة وبنشد أشعار الغزل فقد قال: رأيت الهلال ووجه الحبيب ... فكانا هلالين عند النظر فلم أدر من حيرتي فيهما ... هلال السما من هلال البشر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 346 ولولا التورد في الوجنتين ... وما لاح لي من خلال ا لشعر لكنت أظن الهلال الحبيب ... وكنت أظن الحبيب القمر فقد سوى بينهما أولا ثم رجع ففضل الحبيب على الهلال. الفوائد: قصة حكم داود وسليمان في الحرث: سنلخص قصة حكومة داود وسليمان في الحرث لما انطوت عليه من طرافة لتكون حافزا لأقلام كتاب القصة على ترجمتها على غرار قصة أهل الكهف فقد روى التاريخ: أن رجلين دخلا على داود عليه السلام أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم فقال صاحب الحرث ان هذا انفلتت غنمه فوقعت في حرثي فأفسدته فلم تبق منه شيئا فأعطاه داود رقاب الغنم في الحرث فخرجا فمرا على سليمان وهو ابن احدى عشرة سنة فقال: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه فقال سليمان لو وليت أمركما لقضيت بغير هذا وروي انه قال: غير هذا أرفق بالفريقين فأخبر بذلك داود فدعاه فقال: كيف تقضي، ويروى أنه قال بحق النبوة والأبوة إلا ما أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين، قال: أدفع الغنم الى صاحب الزرع ينتفع بدرها ونسلها وصوفها ويبذر صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه فإذا صار الحرث كهيئته دفع الى أهله وأخذ صاحب الغنم غنمه فقال داود: القضاء ما قضيت كما قال تعالى: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» أي علمناه القضية ويروى قال سليمان أرى أن تدفع الغنم الى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأصوافها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 347 والحرث الى أرباب الشاء يقومون عليه حتى يعود كهيئته يوم أفسد ثم يتراد ان فقال: القضاء ما قضيت وامضى الحكم بذلك. الحكم بالشريعة الاسلامية: أما حكم هذه القضية في الشريعة الاسلامية فقد تساءل عنه الزمخشري في كشافه فقال: «فإن قلت: فلو وقعت هذه الواقعة في شريعتنا ما حكمها؟ قلت: أبو حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم لا يرون فيه ضمانا بالليل أو بالنهار إلا أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد، والشافعي رضي الله عنه يوجب الضمان بالليل» . بقي هنا سؤال وهو لماذا استعمل ضمير الجمع لاثنين في قوله تعالى: «وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ» . وفي الجواب قولان أولهما أن المراد المثنى ولو وقع الضمير جمعا لأن التثنية أقل الجمع والثاني أن المصدر المضاف انما هو مضاف للحاكمين وهما داود وسليمان والمحكوم عليه، فهؤلاء جماعة ولكن فيه على هذا اضافة المصدر الى فاعله ومفعوله دفعة واحدة وهما انما يضاف الى أحدهما فقط وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز فان الحقيقة اضافة المصدر الى فاعله والمجاز إضافته الى مفعوله» . ومن عجائب حكم سليمان ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (بينا امرأتان معهما ابناهما إذ جاء الذئب فذهب بأحدهما فقالت هذه: إنما ذهب بابنك وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك فاختصمتا الى داود عليه السلام فقضى به للكبرى فمرتا على سليمان فأخبرتاه فقال: ائتياني بسكين أشقه بينكما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 348 فقالت الصغرى: لا ويرحمك الله فقضى به للصغرى. قال أبو هريرة: والله إن كنت سمعت بالسكين قبل ذلك ما كنت أقول إلا المدية. قال في القاموس: والسكين مؤنثة كالسكينة وصانعها سكّان وسكاكيني، هذا وقد اشتهر داود بصنع الدروع والجواشن ونحوها وفد رمق أبو الطيب المتنبي سماء هذه الصناعة فقال يصف مفرشه وملبسه بصدد الافتخار بنفسه: مفرشي صهوة الحصان ولكنّ ... قميصي مسرودة من حديد لأمة فاضة أهناة دلاص ... أحكمت نسجها يدا داود يقول: إني شجاع لا أفارق ظهر الفرس وملبوسي الدرع وقميصي لأمة أي ملتئمة الصنعة محكمة النسج من صنع داود وهو أول من عمل الدرع. وسؤال آخر: كيف وصف الريح المسخرة لسليمان بأنها عاصف ووصفها في موضع آخر بأنها رخاء فوصفها تارة بالعصف وتارة بالرخاوة وقد أجاب الزمخشري على هذا السؤال ببراعة نادرة فقال: «كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة على ما قال «غدوها شهر ورواحها شهر» فكأن جمعها بين الأمرين، أن تكون رخاء في نفسها وعاصفة في عملها مع طاعتها لسليمان وهبوبها على حسب ما يريد ويحتكم، آية الى آية، ومعجزة الى معجزة، وقيل كانت في وقت رخاء وفي وقت عاصفا لهبوبها على حكم إرادته» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 349 قلت: ويشبه هذا الوصف عصا موسى تارة بأنها جان وتارة بأنها ثعبان والجان الرقيق من الحيات والثعبان العظيم الجافي منها ووجه ذلك أنها جمعت الوصفين فكانت في خفتها وفي سرعة حركتها كالجان وكانت في عظم خلقها كالثعبان وقد رمق الشعراء سماء هذا المعنى فوصفوا اجتماع النقيضين في موصوف واحد، قال ابن الرومي في وصف وحيد المغنية: خلقت فتنة غناء وحسنا ... ما لها فيهما جميعا نديد فهي نعمى يميد منها كبير ... وهي بلوى يشيب منها الوليد فوصفها بأنها نعمى يميد منها الكبير ثم وصفها بأنها بلوى يشيب منها الصغير فهي إن واصلت أحيت وإن هاجرت أماتت وقال من هذه القصيدة الممتعة التي أحب أن ترجع اليها في ديوانه: ما تزالين نظرة منك موت ... لي مميت ونظرة تخليد نتلاقى فلحظة منك وعد ... بوصال ولحظة تهديد وهو في الشعر كثير نجتزى منه بهذا المثال. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 88] وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 350 الإعراب: (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وأيوب مفعول به لفعل محذوف تقديره اذكر وهو على حذف مضاف أي اذكر خبر أيوب، وإذ بدل من خبر أي من المضاف المقدر وجملة نادى ربه مضاف اليه، وربه مفعول نادى، وأني أن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي بأني وان واسمها وجملة مسني الضر خبر أن وأنت الواو حالية وأنت مبتدأ وأرحم خبر والراحمين مضاف إليه وستأتي في باب الفوائد. (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) الفاء عاطفة واستجبنا فعل وفاعل وله متعلقان باستجبنا، فكشفنا عطف على فاستجبنا وما مفعول به وبه صلة ما ومن ضر حال. (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) وآتيناه فعل وفاعل ومفعول به وأهله مفعول به ثان ومثلهم عطف على أهله أو مفعول معه ومعهم ظرف مكان متعلق بمحذوف حال أي كائنين معهم ورحمة مفعول من أجله ويجوز أن يكون مصدرا لفعل مقدر أي رحمناه رحمة والأول أرجح ومن عندنا صفة لرحمة وذكرى عطف على رحمة وللعابدين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 351 متعلقان بذكرى. (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) وإسماعيل مفعول به لفعل محذوف أي واذكر ويجوز أن يعطف نسقا على من تقدم من الأنبياء وإدريس عطف على إسماعيل وذا الكفل عطف أيضا وسيأتي سبب تسميته بذلك في باب الفوائد وكل مبتدأ ومن الصابرين خبره. (وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) الجملة معطوفة وان واسمها ومن الصالحين خبرها. (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) وذا النون مفعول به لفعل محذوف أو معطوف نسقا على من تقدم وسيأتي بحثه في باب الفوائد، وإذ بدل من المضاف المحذوف كما تقدم وجملة ذهب مضاف إليها ومغاضبا حال أي لقومه لا لربه أي انه غضب عليهم لما كابده منهم، فظن الفاء عاطفة وظن معطوف على ذهب أي تركهم وذهب دون أن يؤذن له وفاعل ظن مستتر تقديره هو وأن مخففة من الثقلية واسمها ضمير الشأن وجملة لن نقدر عليه خبر وسيأتي معنى لن في باب الفوائد كما ستأتي خلاصة قصته. (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فنادى عطف على ظن وفي الظلمات متعلقان بمحذوف حال وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وجملة لا إله إلا أنت هي الخبر ويجوز أن تكون مفسرة لأن النداء فيه معنى القول دون حروفه وسبحانك مفعول مطلق لفعل محذوف والجملة حالية واني ان واسمها والجملة تعليلية وجملة كنت من الظالمين خبر إني ومن الظالمين خبر كنت. (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) فاستجبنا عطف على ما تقدم وله متعلقان باستجبنا ونجيناه فعل وفاعل ومفعول به ومن الغم متعلقان بنجيناه، وكذلك الكاف نعت لمصدر محذوف وننجي المؤمنين فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 352 الفوائد: 1- خلاصة قصة أيوب: روى التاريخ أن أيوب كان رجلا روميا من ولد اسحق بن يعقوب وقد استنبأه الله وبسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله وكان له سبعة بنين وسبع بنات وله أصناف البهائم وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ونخيل فابتلاه الله بذهاب ولده انهدم عليهم البيت فهلكوا وبذهاب ماله وبالمرض في بدنه ثماني عشرة سنة وقيل ثلاث عشرة سنة وقالت له امرأته يوما: لو دعوت الله فقال لها كم كانت مدة الرخاء؟ فقالت: ثمانين سنة فقال: أنا أستحيي من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي فلما كشف الله عنه أحيا ولده ورزقه مثلهم ونوافل منهم، وقصة أيوب حافلة بالصور الشعرية الملهمة وهي ديوان حافل عن الصبر على البلاء وعدم البطر في الرخاء. 2- الفرق بين الضّر والضّر: يقال ضر بفتح الضاد وضر بضمها والفرق بينهما أن الضر بالفتح هو الضرر بكل شيء والضر بالضم هو الضرر في النفس من هزال ومرض وفرق بين البناءين لافتراق المعنيين وقد نظم بعضهم الفرق بينهما كما أورد معاني أخرى لهما قال: وضدّ نفع قيل فيه ضرّ ... وجود ضرّة لعرس ضرّ وسوء حال المرء ذاك ضرّ ... كذا هزال مرض أو كبر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 353 3- التلطف في السؤال: وقد تلطف أيوب في السؤال وألمح الى ما يعانيه من بلاء دون أن يصرح بمطلوبه حيث اكتفى بذكر المس في الضر وأدخل أل الجنسية على الضر لتشمل أنواعه المتقدمة ووصف ربه بغاية الرحمة بعد ما ذكر نفسه بما يوجبها فكان درسا بليغا لكل من تتعاوره الأرزاء وتنتابه اللأواء ويحكى أن عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت يا أمير المؤمنين مشت جرذان بيتي على العصي فقال لها: ألطفت في السؤال لا جرم لأردنّها تثب وثب الفهود وملأ بيتها حبا. وقد تعلق أبو الطيب المتنبي بأذيال هذه البلاغة عند ما خاطب كافورا بما كان يرجوه منه وهو أن يعطيه ولاية وإن كان قصده المواربة: أرى لي بقربي منك عينا قريرة ... وإن كان قربا بالبعاد يشاب وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا ... ودون الذي أملت منك حجاب أقلّ سلامي حبّ ما خف عنكم ... وأسكت كيما لا يكون جواب وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب وفي البيت الثالث نكتة نحوية وهي انتصاب حبّ وذلك انه نصبه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 354 على أنه مفعول له وهو مصدر كأنه يقول الحب ما خف أي لإيثاري التخفيف وقد تلطف حبيب بن أوس أبو تمام وأجمل أغراضه كلها في بيت واحد وهو قوله: وإذا الجود كان عوني على المر ... ء تقاضيته بترك التقاضي أما أبو بكر الخوارزمي فقال راسما خظة الطلب: وإذا طلبت الى كريم حاجة ... فلقاؤه يكفيك والتسليم فإذا رآك مسلما عرف الذي ... حملته فكأنه ملزوم وسبقهم جميعا أمية بن أبي الصلت بقوله المشهور: أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء 4- ذو الكفل: هذا لقبه والكفل هو النصيب واسمه بشير وقيل الياس وقيل زكريا كأنه سمي بذلك لأنه المجدور وذو النصيب الأوفى من الحظ، وقيل ذو الكفل اسمه وقد كان له اسمان ولم يكن لقبا. 5- ذو النون: في المختار : «ذو النون الحوت وجمعه أنوان ونينان وذو النون لقب يونس بن متى على وزن شتى اسم والده على ما ذكر في القاموس أو اسم لأمه على ما قاله ابن الأثير في النهاية، وقيل ذا النون لأنه رأى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 355 صبيا مليحا فقال دسموا نونته لئلا تصيبه العين، وحكى ثعلب أن نونة الصبي هي الثقبة التي تكون في ذقن الصبي الصغير، ومعنى دسموا: سودوا، وذو بمعنى صاحب، قال السهيلي في كتاب الأعلام في قوله تعالى «وذا» النون هو يونس بن متى أضاف ذا الى النون وهو الحوت فقال سبحانه «وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ» وبينهما فرق وذلك انه حين ذكر في معرض الثناء عليه قيل ذا النون ولم يقل صاحب النون والاضافة بذا أشرف من الاضافة بصاحب لأن قولك ذو يضاف الى التابع وصاحب يضاف الى المتبوع تقول: أبو هريرة صاحب النبي ولا تقول: النبي صاحب أبي هريرة إلا على وجه ما وأما ذو فانك تقول فيها ذو الملك وذو الجلال وذو العرش وذو القرنين فتجد الاسم الاول متبوعا غير تابع ولذلك سميت أقيال حمير أذواء منهم ذو جدن وذو يزن وذو رعين وذو كلاع وفي الإسلام ذو الشهادتين وذو الشمالين وذو اليدين وذلك كله تفخيم للمسمى بهذا وليس ذلك في لفظ صاحب وانما فيه تعريف لا يقترن به شيء من هذا المعنى» وستأتي قصته وابتلاع الحوت له في الصافات. 6- معنى لن نقدر عليه: أما معنى قوله «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ» لن نقضي عليه بما قضينا من حبسه في بطن الحوت أو نضيق عليه بذلك فهي من القدر. لا من القدرة كما في قوله تعالى «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ» وعن ابن عباس أنه دخل على معاوية فقال: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك، قال وما هي يا معاوية؟ فقرأ عليه هذه الآية وقال: أو يظن نبي الله أن لا يقدر عليه، قال: هذا من القدر لا من القدرة على أن الزمخشري بعد أن ذكر الوجه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 356 الذي أوردناه أجاز أن يفسر بالقدرة على معنى أن لن نعمل فيه قدرتنا وأن يكون من باب التمثيل بمعنى «فكانت حاله ممثلة بحال من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمر الله» . وذهب جمهور من العلماء أن معناها فظنّ أن لن نضيق عليه من قدر عليه رزقه أي ضيق وقتر. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 الى 93] وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) اللغة: (زَكَرِيَّا) : بالمد علم نبي وألفه للتأنيث فلذلك منع من الصرف وهو أيضا غير مصروف للعجمة والتعريف وقيل هو عربي مشتق من زكر أي امتلأ أو تزكر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 357 الإعراب: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) تقدم القول في اعراب وزكريا إذ نادى ربه، ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة ولا ناهية للدعاء وتذرني فعل مضارع مجزوم بلا والنون للوقاية والفاعل مستتر تقديره أنت والياء مفعول به وفردا حال وأنت الواو عاطفة على محذوف أي فارزقني وارثا وأنت مبتدأ وخير الوارثين خبر. (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) الفاء عاطفة واستجبنا فعل وفاعل وله متعلقان باستجبنا واستجبنا فعل وفاعل والمفعول محذوف أي نداءه وأصلحنا فعل وفاعل وله متعلقان بأصلحنا وزوجه مفعول به والمراد بإصلاحها جعلها صالحة للولادة بعد عقرها وعقمها والعقم انسداد الرحم كما في المختار. (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) الجملة تعليل للاصلاح وان واسمها وجملة كانوا كانوا خبرها وكان واسمها وجملة يسارعون في الخيرات خبر كان وعبر بفي دون الى للاشعار بديمومتهم على المسارعة كأنهم استقروا فيها (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) ويدعوننا عطف على يسارعون ويدعوننا فعل وفاعل ومفعول به ورغبا ورهبا مصدران منتصبان على الحال أو على المصدرية الملاقية لعاملها في المعنى دون اللفظ أو على المفعول له وكانوا كان واسمها وخاشعين خبرها ولنا متعلقان بخاشعين. (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) والتي أي واذكر مريم التي، وجملة أحصنت فرجها صلة فنفخنا عطف على أحصنت وفيها متعلقان بنفخنا ومن روحنا متعلقان بنفخنا أيضا ولك أن تعرب التي مبتدأ والخبر محذوف أي فيما يتلى عليهم وجعلناها فعل وفاعل ومفعول به وابنها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 358 عطف على الهاء أو مفعول معه وآية مفعول به ثان وانما لم يطابق المفعول الاول فيثنى لأن كلّا من مريم وابنها آية بانضمامه للآخر فصار آية واحدة أو تقول انه حذف من أحدهما لدلالة الثاني عليه أي وجعلنا مريم آية وابنها كذلك أو بالعكس وللعالمين صفة لآية. (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) إن واسمها وخبرها وأمة حال لازمة وقيل بدل من هذه وواحدة صفة وأنا الواو عاطفة وأنا مبتدأ وربكم خبر والفاء الفصيحة واعبدوني فعل أمر وفاعل وياء المتكلم المحذوفة لرسم المصحف مفعول به. (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) الواو عاطفة وتقطعوا فعل ماض وفاعله والأصل وتقطعتم إلا أن الكلام صرف الى الغيبة على طريقة الالتفات كما سيأتي في باب البلاغة، وأمرهم في نصبه وجوه أرجحها أنه منصوب بنزع الخافض أي تفرقوا في أمرهم ويجوز أن يكون تقطعوا معناه قطعوا فيكون أمرهم مفعولا به ورأى أبو البقاء أن يكون تمييزا ولا أدري كيف استقام ذلك معه. البلاغة: 1- الالتفات: في قوله تعالى «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ» الالتفات، الأصل في تقطعوا تقطعتم على الأول إلا أنه صرف الكلام من الخطاب الى الغيبة على طريقة الالتفات كأنه ينعى عليهم ما أفسدوه ويقبح عندهم ما فعلوه ويقول لهم ألا ترون الى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله فجعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا وذلك تمثيل لاختلافهم فيه وتباينهم ثم توعدهم بعد ذلك بأن هؤلاء الفرق المختلفة إليه يرجعون فيجازيهم على ما فعلوا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 359 2- معنى النفخ في مريم: ظاهر الكلام يوهم أن مريم هي التي أحييت لأن معنى النفخ الاحياء ولكن الله تعالى نزل نفخ الروح في عيسى لكونه في جوف مريم منزلة نفخ الروح في مريم ونحو ذلك أن يقول الزمار: نفخت في بيت فلان أي نفخت في المزمار في بيته. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 94 الى 100] فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) اللغة: (كُفْرانَ) : الكفران مصدر الكفر قال في القاموس: «كفر يكفر من باب نصر كفرا وكفرا وكفورا وكفرانا ضد آمن وكفر بالخالق نفاه وعطّل وكفر كفرا وكفورا وكفرانا بنعم الله جحدها وتناساها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 360 (حَدَبٍ) : بفتحتين مرتفع من الأرض ومنه الحدب في الظهر وكل كدية أو أكمة فهي حدبة. (يَنْسِلُونَ) : يسرعون والنسلان مقاربة الخطا مع الاسراع، وفي المصباح: نسل في مشيه نسلانا: أسرع وبابه ضرب وفي القاموس هو من باب ضرب وقتل. (حَصَبُ جَهَنَّمَ) : الحصب المحصوب به أي يحصب بهم في النار والحصب الرمي وفي المختار: «والحصب بفتحتين ما تحصب به النار أي ترمى وكل ما ألقيته في النار فقد حصبتها به وبابه ضرب ومثله في القاموس. الإعراب: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) الفاء استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويعمل فعل الشرط ومن الصالحات صفة لمفعول به محذوف أي عملا من الصالحات والواو حالية وهو مبتدأ ومؤمن خبر والفاء رابطة ولا نافية للجنس وكفران اسمها ولسعيه خبر والواو استئنافية أو حالية وان واسمها وكاتبون خبرها وله متعلقان بكاتبون. (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) الواو عاطفة من عطف الجمل أو استئنافية وحرام خبر مقدم وعلى قرية متعلقان بحرام وجملة أهلكناها صفة لقرية وان وما في حيزها مبتدأ مؤخر وان واسمها وجملة لا يرجعون خبرها، وقيل لا زائدة وهو قول أبي عبيدة كقوله ما منعك أن لا تسجد، أي يرجعون الى الايمان والمعنى وممتنع على أهل القرية قدرنا عليهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 361 إهلاكهم لكفرهم رجوعهم في الدنيا الى الايمان الى أن تقوم القيامة فحينئذ يرجعون ويصح أن تكون نافية على بابها والتقدير لأنهم لا يرجعون وقال الزجاج: وحرام على قرية أهلكناها حكمنا بإهلاكها أن نتقبل أعمالهم لأنهم لا يرجعون أي لا يتوبون ودلّ على هذا المعنى قوله قبل «فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ» أي يتقبل عمله ثم ذكر هذا عقيبه وبين أن الكافر لا يتقبل عمله. وعبارة ابن هشام في المغني «وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون» فقيل لا زائدة والمعنى ممتنع على أهل قرية قدرنا إهلاكهم لكفرهم انهم يرجعون عن الكفر الى قيام الساعة وعلى هذا فحرام خبر مقدم وجوبا لأن المخبر عنه أن وصلتها ومثله وآية لهم أنا حملنا ذريتهم لا مبتدأ وان وصلتها فاعل أغنى عن الخبر كما جوز أبو البقاء لأنه ليس بوصف صريح ولأنه لم يعتمد على نفي ولا استفهام وقيل لا نافية والاعراب إما على ما تقدم والمعنى ممتنع عليهم انهم لا يرجعون الى الآخرة وإما على ان حرام مبتدأ حذف خبره أي قبول أعمالهم وابتدئ بالنكرة لتقييدها بالمعمول واما على انه خبر لمبتدأ محذوف أي والعمل الصالح حرام عليهم وعلى الوجهين فانهم لا يرجعون تعليل على إضمار اللام والمعنى لا يرجعون أعمالهم فيه ودليل المحذوف ما تقدم من قوله تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ» (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) حتى حرف غاية وجر وهي غاية لامتناع الرجوع فهي متعلقة بحرام على انها حرف غاية وجر ويجوز أن تكون ابتدائية وهي التي يحكى بعدها الكلام والكلام المحكي هنا جملة الشرط والجزاء وإذا ظرف لما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 362 يستقبل من الزمن والجواب الذي تتعلق به إذا محذوف وتقديره قالوا يا ويلنا واختار الزمخشري وغيره أن يكون الجواب هو الفاء الداخلة على إذا الفجائية فإذا جاءت الفاء معها تساندتا وتعاونتا على وصل الجواب بالشرط فيتأكد ولو قيل إذا هي شاخصة أو فهي شاخصة كان سديدا. هذا وقد اختار أبو حيان أن تكون حتى جارة متعلقة بتقطعوا على ما فيه من بعد قال: «وكون حتى جارة متعلقة بتقطعوا فيه من حيث كثرة الفصل لكنه من حيث المعنى جيد وهو انهم لا يزالون مختلفين على دين الحق الى قرب مجيء الساعة فإذا جاءت الساعة انقطع ذلك» وفتحت فعل ماض مبني للمجهول ويأجوج ومأجوج نائب فاعل ولا بد من تقدير مضاف وهو سدهما والواو للحال وهم مبتدأ وخبره جملة ينسلون ومن كل حدب متعلقان بينسلون. (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) الواو عاطفة واقترب الوعد فعل وفاعل والحق صفة للوعد والفاء رابطة وإذا الفجائية وقد تقدم بحثها وهي مبتدأ وشاخصة خبر وأبصار الذين كفروا فاعل شاخصة. (يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) النداء متعلق بقول محذوف في محل نصب على الحال أي يقولون يا ويلنا احضر فهذا أوانك وقد حرف تحقيق وكان واسمها وفي غفلة خبرها ومن هذا متعلقان بغفلة، بل حرف إضراب وكان واسمها وخبرها وهذه الجمل كلها مقول قولهم المحذوف. (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) ان واسمها والجملة ابتدائية وما عطف على الكاف وجملة تعبدون صلة ومن دون الله حال وحصب جهنم خبر انكم وجملة أنتم لها واردون جملة اسمية من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من جهنم وفيه أن مجيء الحال من المضاف اليه لم يرد في كلامهم إلا مشروطا ويجوز أن تكون بدلا من حصب جهنم ويجوز أن تكون خبرا ثانيا لإن وأجاز الجزء: 6 ¦ الصفحة: 363 آخرون أن تكون مستأنفة. (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) لو شرطية امتناعية وكان فعل ماض ناقص وهؤلاء اسمها وآلهة خبرها وجملة ما وردوها لا محل لها لأنها جواب لو والواو للحال وكل مبتدأ وفيها متعلقان بخالدون وخالدون خبر. (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) لهم خبر مقدم وفيها حال وزفير مبتدأ مؤخر والواو عاطفة وهم مبتدأ وفيها متعلقان بيسمعون وجملة لا يسمعون خبرهم. البلاغة: المذهب الكلامي: في قوله تعالى: «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ» المذهب الكلامي وقد تقدمت الاشارة إليه، وسنزيده بسطا هنا فنقول: إذا تقرر أن المذهب الكلامي هو احتجاج المتكلم على ما يريد إثباته بحجة تقطع المعاند له على طريقة أرباب الكلام أو استنتاج النتائج الصحيحة من المقدمات الصادقة كما سيأتي في سورة الحج فإن الآية التي نحن بصددها يترتب عليها ان هؤلاء الأصنام والأوثان ليسوا بآلهة فلو كانوا آلهة فهم حصب جهنم كما تقدم ان ملزوم قوله تعالى «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» هو ما تقديره لكنهما ما فسدتا فليس فيهما آلهة إلا الله ومن النوع الثاني تقدم الكلام في سورة الأعراف على قوله تعالى: «وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ» فوجه استنتاج النتيجة في هذه الجملة من المقدمتين أن يقال إن الكفار لا يدخلون الجنة أبدا حتى يلج الجمل في خرم الابرة، والجمل لا يدخل في خرم الابرة أبدا فهم لا يدخلون الجنة أبدا لأن تعليق الشرط على مستحيل يلزم منه استحالة وقوع المشروط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 364 ومن المذهب الكلامي قوله صلى الله عليه وسلم: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» وتمام الدليل أن يقال: لكنكم ضحكتم كثيرا وبكيتم قليلا فلم تعلموا ما أعلم، ومثله قوله مالك بن المرجل الأندلسي: لو يكون الحب وصلا كله ... لم تكن غايته إلا الملل أو يكون الحب هجرا كله ... لم تكن غايته إلا الأجل إنما الوصل كمثل الماء لا ... يستطاب الماء إلا بالغلل فالبيتان الأولان قياس شرطي والثالث قياس فقهي فإنه قاس الوصل على الماء فكما أن الماء لا يستطاب إلا بعد العطش فالوصل مثله لا يستطاب إلا بعد حرارة الهجر، وأما الأقيسة الحملية فقد استنبطوها على صور، منها ما يروى أن أبا دلف قصده شاعر تميمي فقال له: ممن أنت؟ فقال: من تميم، فقال أبو دلف: تميم بطرق اللؤم اهدى من القطا ... ولو سلكت سبل الهداية ضلت فقال التميمي نعم بتلك الهداية جئت إليك فأفحمه بدليل حملي ألزمه فيه أن المجيء إليه ضلال ولعمري إن القياس الشرطي أوضح دلالة في هذا الباب من غيره وأعذب في الذوق وأسهل في التركيب فإنه جملة واقعة بعد لو وجوابها وهذه الجملة على اصطلاحهم مقدمة شرطية متصلة يستدل بها على ما تقدم من الحكم. وقال ابن رشيق في كتاب العمدة «ذكر ابن المعتز أن الجاحظ سمى هذا النوع المذهب الكلامي قال ابن المعتز: وهذا باب ما علمت اني وجدت منه في القرآن شيئا وهو ينسب الى التكلف تعالى الله عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 365 ذلك علوا كبيرا» وقد فات ابن رشيق وابن المعتز أن القرآن حافل بهذا النوع كما رأيت وكما سيأتي فيما بعد على أن ابن رشيق لاحظ على ابن المعتز شيئا آخر فقال: «غير أن ابن المعتز قد ختم بهذا الباب أبواب البديع الخمسة التي خصها بهذه التسمية وقدمها على غيرها وأنشد للفرزدق: لكل امرئ نفسان: نفس كريمة ... وأخرى يعاصيها الفتى ويطيعها ونفسك من نفسيك تشفع للندى ... إذا قل من احرارهن شفيعها وأنشد لآخر ولا أظنه إلا ابراهيم بن العباس: وعلمتني كيف الهوى وجهلته ... وعلمكم صبري على ظلمكم ظلمي فأعلم ما لي عندكم فيميل بي ... هواي الى جهلي وأعرض عن ظلمي وعاب على أبي تمام قوله: فالمجد لا يرضى بأن ترضى بأن ... يرضى المؤمل منك إلا بالرضا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 366 وحكي أن اسحق الموصلي سمع الطائي ينشد ويكثر من هذا الباب وأمثاله عند الحسن بن وهب فقال: «يا هذا لقد شذرت على نفسك» وعندي أن النقد يتوجه الى أبي تمام في بيته لا من ناحية المذهب الكلامي الذي سلكه بل من ناحية التعقيد اللفظي فيه. ومن طريف هذا المذهب ما أورده ابن رشيق لابن المعتز وهو قوله: أسرفت في الكتمان ... وذاك مني دهاني كتمت حبّك حتى ... كتمته كتماني ولم يكن لي بد ... من ذكره بلساني قال: «وهذه الملاحة نفسها والظرف بعينه» . وقال أبو نواس: سخنت من شدة البرودة حتى ... صرت عندي كأنك النار لا يعجب السامعون صفتي ... كذلك الثلج بارد حار فهذا مذهب كلامي فلسفي، وقوله أيضا: فيك خلاف لخلاف الذي ... فيه خلاف لخلاف الجميل ويمكن اعتبار أبي تمام صاحب طريقة خاصة في المذهب الكلامي، استمع الى قوله في الحسد: وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود الجزء: 6 ¦ الصفحة: 367 ومن أزهار البهاء زهير قوله: يا من أكابد فيه ما أكابده ... مولاي أصبر حتى يحكم الله سميت غيرك محبوبي مغالطة ... لمعشر فيك قد فاهوا بما فاهوا أقول زيد وزيد لست أعرفه ... وإنما هو لفظ أنت معناه وكم ذكرت مسمّى لا اكتراث به ... حتى يجر الى ذكراك ذكراه أتيه فيك على العشاق كلهم ... قد عز من أنت، يا مولاي، مولاه كادت عيونهم بالبغض تنطق لي ... حتى كأن عيون الناس أفواه [سورة الأنبياء (21) : الآيات 101 الى 105] إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) اللغة: (السِّجِلِّ) : كتاب العهود وكتاب الاحكام، وكتاب يكتب فيه القاضي صورة الدعاوى والحكم فيها وصكوك المبايعات ونحوها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 368 لنبقى محفوظة عنده والجمع سجلات ويقال سجّل الرجل: كتب السجل وسجل الأوراق قيدها في المحاكم وسجل القاضي عليه حكم وسجل عليه بكذا شهره به ووسمه وسجل له بماله قرره وأثبته له. الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) إن واسمها وجملة سبقت صلة ولهم متعلقان بسبقت ومنّا حال والحسنى فاعل وأولئك مبتدأ وعنها متعلقان بمبعدون ومبعدون خبر أولئك وجملة أولئك عنها مبعدون خبر إن وجملة إن إلخ ابتدائية. (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) جملة لا يسمعون حسيسها تحتمل وجوها منها أن تكون بدلا من مبعدون لأنها تحل محله فتغني عنه ومنها أن تكون خبرا ثانيا لأولئك ويجوز أن تكون حالا من ضمير مبعدون ولا نافية ويسمعون حسيسها فعل مضارع مرفوع وفاعل ومفعول به والواو للحال أو استئنافية وهم مبتدأ وفيما متعلقان بخالدون وجملة اشتهت أنفسهم صلة وخالدون خبرهم. (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) الجملة حالية أو بدل من الجملة السابقة ولا نافية ويحزنهم فعل ومفعول به والفزع فاعل والأكبر صفة للفزع وتتلقاهم الملائكة فعل ومفعول به وفاعل، وجملة هذا يومكم مقول قول محذوف واقع موقع الحال أي قائلين: هذا يومكم، وهذا مبتدأ ويومكم خبر والذي صفة ليومكم وجملة كنتم صلة وكان واسمها وجملة توعدون خبر كنتم. (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) الظرف متعلق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 369 بمحذوف تقديره اذكر ولك أن تعلقه بلا يحزنهم أو بالفزع أو تتلقاهم الملائكة وجملة نطوي في محل جر بإضافة الظرف إليها والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن والسماء مفعول به وكطي الكاف نعت لمصدر محذوف أي كما يطوي الرجل صحيفته ليكتب فيها فالطي مصدر مضاف للمفعول والحذف للفاعل مع المصدر مطرد باستمرار وللكتب متعلقان بطي فهي لتقوية التعدية أي للمكتوبات جميعها أي لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة. (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) الكاف نعت لمصدر محذوف وما مصدرية وبدأنا فعل وفاعل وأول خلق مفعول بدأنا أي نعيد أول خلق إعادة مثل بدئنا له والزمخشري يجعل ما كافة للكاف دائما ووعدا مصدر منصوب بوعدنا مقدرا قبله وهو مفعول مطلق مؤكد لمضمون ما قبله، وعلينا متعلقان بوعدا وان واسمها وجملة كنا خبر إنا وكان واسمها وفاعلين خبرها وجملة إنا تعليلية بمثابة التأكيد للقدرة على فعل ذلك وقدرها أبو حيان في البحر «أي نحن قادرون على أن نفعل ذلك» واختار العمادي أن تكون حالية وقدرها «أي محققين هذا الوعد فاستعدوا لذلك» وستأتي فوائد هامة حول هذه الآية في بابي الفوائد والبلاغة. (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير أن الأرض للصالحين لها ولاستغلال مواردها وطاقاتها المكنوزة فيها واللام جواب لقسم محذوف وقد حرف تحقيق وكتبنا فعل وفاعل وفي الزبور متعلقان بكتبنا ومن بعد متعلقان بمحذوف حال من الزبور وأن وما في حيزها مفعول كتبنا، أي كتبنا وراثة الأرض، وان واسمها وجملة يرثها خبر وعبادي فاعل والصالحون صفة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 370 البلاغة: 1- المبالغة: في قوله تعالى: «لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها» فن المبالغة ذلك لأن لقائل أن يقول: إذا نزل أهل الجنة منازلهم فيها فأي بشارة لهم في أنهم لا يسمعون حسيسها؟ والجواب انه تأكيد للمبالغة وانها لن تقرب منهم أبدا لأن الذي يكون عن كثب منها يسمع، ولا شك، حسيسها، لأن أهل النار دركات جاءت وفق عدد سكانها وعدد داخليها ووفق عدة معبوداتهم ولذلك قال تعالى في آية أخرى «لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» وسيأتي تفصيل ذلك في سورة الحجر ويروى أن عليا رضي الله عنه قرأ هذه الآية وهي «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ» ثم قال أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف ثم أقيمت الصلاة فقام يجر رداءه وهو يقول: «لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها» . 2- التشبيه: في قوله تعالى «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» تشبيه للاعادة بالابتداء في تناول القدرة لهما على السواء قال الزمخشري: «فإن قلت: وما أول الخلق حتى يعيده كما بدأه؟ قلت: أوله إيجاده من العدم فكما أوجده أولا من عدم يعيده ثانيا من عدم فإن قلت: ما بال خلق منكرا؟ قلت: هو كقولك هو أول رجل جاءني تريد أول الرجال ولكنك وحدته ونكرته ارادة تفصيلهم رجلا رجلا فكذلك معنى أول خلق، أول الخلق بمعنى أول الخلائق لأن الخلق مصدر لا يجمع ووجه آخر وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره نعيده وما موصولة أي نعيد مثل الذي بدأناه نعيده وأول خلق ظرف لبدأناه أي أول ما خلق أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ الثابت في المعنى» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 371 [سورة الأنبياء (21) : الآيات 106 الى 112] إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112) الإعراب: (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) ان حرف مشبه بالفعل وفي هذا خبرها المقدم واللام المزحلقة ولقوم صفة لبلاغا وعابدين صفة. (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) الواو حرف عطف وما نافية وأرسلناك فعل وفاعل ومفعول به وإلا أداة حصر ورحمة مفعول من أجله أو حال مبالغة في أن جعله نفس الرحمة أو على حذف مضاف أي ذا رحمة وللعالمين صفة لرحمة أو يتعلق بنفس الرحمة. (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) إنما كافة ومكفوفة ويوحى فعل مضارع مبني للمجهول وإلي متعلقان بيوحى وان وما في حيزها نائب فاعل يوحى وإلهكم. مبتدأ وإله خبر وواحد صفة والفاء الفصيحة أي ان علمتم هذا وهل حرف حرف استفهام وأنتم مبتدأ ومسلمون خبر وسيأتي مبحث القصر بنوعيه في هذه الآية في باب البلاغة. (فَإِنْ تَوَلَّوْا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 372 فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) الفاء استئنافية وان شرطية وتولوا فعل ماض وهو فعل الشرط والواو فاعل والفاء رابطة لجواب الشرط وقل فعل أمر وآذنتكم فعل وفاعل ومفعول به والجملة في محل جزم جواب الشرط وعلى سواء متعلقان بمحذوف حال من التاء أي الفاعل أو من الكاف أي المفعول أي مستوين في العلم بالحرب وسيأتي تفصيل هذا الإيجاز في باب البلاغة. (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) الواو للحال وإن نافية وأدري فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره أنا والهمزة للاستفهام وقريب خبر مقدم وأم حرف عطف وبعيد عطف عليه وما مبتدأ مؤخر وجملة توعدون صلة وجوز أبو البقاء أن يرتفع ما توعدون فاعلا بقريب سد مسد خبره وقريب مبتدأ قال لأنه اعتمد على الهمزة أو ببعيد لأنه أقرب اليه فتكون المسألة من باب التنازع وجملة أقريب أم بعيد ما توعدون في محل نصب مفعول أدري المعلقة عن العمل. (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) ان واسمها وجملة يعلم خبرها وفاعل يعلم ضمير مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى والجهر مفعول به ومن القول حال من الجهر ويعلم عطف على يعلم الأولى وما مفعول به وجملة تكتمون صلة. (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) الواو عاطفة وإن نافية وأدري فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا ولعل واسمها وفتنة خبرها ولكم صفة ومتاع عطف على فتنة وإلى حين متعلقان بمحذوف صفة لمتاع أو يتعلق به وجملة لعله فتنة في محل نصب بأدري والكوفيون يجرون الترجي مجرى الاستفهام في التعليق عن العمل ولكن النحاة لم يذكروا لعل من المعلقات ولكنها وردت كثيرا في القرآن كقوله في هذه الآية وكقوله: «وما يدريك لعل الساعة قريب، وما يدريك لعله يزكى، وقيل ان قوله ومتاع ليس داخلا في حيز الترجي لأنه محقق فلا يصح عطفه على فتنة لأنه حيث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 373 كان معطوفا على خبرها كان معمولا لها وداخلا في حيزها وفي نطاق الترجي الذي تدل عليه فالأولى اذن أن يقال ان قوله ومتاع خبر لمبتدأ محذوف وتقديره وهذا متاع الى حين أي وتأخير عذابكم متاع لكم وتكون الجملة مستأنفة وليس هذا ببعيد. (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) رب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة واحكم فعل دعاء وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت وبالحق حال وربنا الواو استئنافية وربنا مبتدأ والرحمن يجوز أن يكون خبرا والمستعان خبرا ثانيا ويجوز أن يكون صفة لربنا والمستعان خبر لأنه المحدث به وعلى ما متعلقان بالمستعان وجملة تصفون صلة والعائد محذوف أي تصفونه مخالفا للواقع. البلاغة: 1- القصر: في قوله تعالى «قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» وقد تقدم بحث القصر مفصلا ونقول ان في هذه الآية قصرين الاول قصر الصفة على الموصوف وذلك في قصر الوحي على الوحدانية والمعنى لا يوحى إليّ إلا اختصاص الإله بالوحدانية لا لأنه لم يوح اليه بشيء غيرها ولكنها الأصل الرئيسي في كل عبادة وعمل وهي المطلوبة أولا وقبل كل شيء حتى كأن ما عداها غير منظور اليه أو غير جدير بالذكر والثاني قصر الموصوف على الصفة وذلك في قصر الله على الوحدانية وهو ظاهر. 2- الإيجاز: وذلك في قوله تعالى «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ» تقدم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 374 القول في الإيجاز كثيرا وفي هذه الآية إيجاز قصر لأنه تحدث بثلاث كلمات وهي «آذنتكم على سواء» عن كلام طويل أي إن تولوا بعد هذه الآيات والشواهد وأعرضوا وطووا كشحا فقل لهم لقد أعلمناكم على بيان أنا وإياكم في حرب لا مهادنة فيها ولا صلح بيننا ولكنني لا أدري متى يأذن الله. وآذنتكم منقول من اذن إذا علم قال الحارث ابن حلزة: آذنتنا ببنيها أسماء ... رب ثاو يمل منه الثواء وقد سما الزمخشري في شرح هذا الإيجاز وهذه نبذة من كلامه: «والمعنى اني بعد توليكم واعراضكم عن قبول ما عرض عليكم من وجوب توحيد الله وتنزيهه عن الأنداد والشركاء كرجل بينه وبين أعدائه هدنة فأحسّ منهم بغدرة فنبذ إليهم العهد وشهر النبذ وأشاعه وآذنهم جميعا بذلك «على سواء» أي مستوين في الاعلام به لم يطوه عن أحد منهم وكاشف كلهم وقشر العصا عن لحائه» . 3- التوليد: في قوله: «قل رب احكم بالحق» فن التوليد وسماه ابن منقذ فن التلطيف وهو على ضربين: من الألفاظ ومن المعاني: 1- التوليد من الألفاظ على ضربين أيضا: آ- توليد المتكلم من لفظه ولفظ غيره صورة من الكلام. ب- توليد المتكلم صورة من موضعين من لفظ نفسه. والأول هو أن يزوج لفظة من لفظة للفظة من لفظ غيره فيتولد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 375 بينهما كلام مناقض غرض صاحب اللفظة الأجنبية وذلك في الألفاظ المفردة دون الجمل المؤتلفة ومثاله ما حكي عن مصعب بن الزبير انه كان قد وسم خيله بلفظ «عدّة» وهو يريد عدة الحرب فلما قتل وصارت خيله عند الحجاج ورأى ذلك الوسم أمر أن يوسم الى جانب عدة بلفظة «الفرار» فتولد بين اللفظين معنى غير ما أراده مصعب وانقلب المدح قدحا. 2- التوليد من المعاني وستأتي أمثلته، أما الآية التي نحن بصددها فقد زوج فنا من فنون البديع لفن آخر فيه فتولد فن ثالث غيرهما وذلك انه يتوجه على ظاهر إشكال وهو أن يقال: ما الحكمة في كونه سبحانه أمر نبيه أن يسأله الحكم بالحق وهو عز وجل يعلم أن نبيه متيقن انه سبحانه لا يحكم إلا بالحق فلو اقتصر على قوله احكم فقط كان ذلك كافيا فلم عدل عن الأوجز الموفي بالمعنى المراد مع سلامة الظاهر من الإشكال الى الأطول الموجب للإشكال، والجواب: ان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يدعون على من خالفهم حتى يؤذن لهم في ذلك لأنهم بعثوا مؤلفين لا منفرين وهم لا يعلمون من الغيب إلا ما أعلمهم به الله فإذا أعلمهم بمن لا يمكن إيمانه من قومهم ساغ لهم الدعاء على ذلك، ألا ترى أن نوحا عليه السلام لم يتجرأ أن يقول: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» إلا بعد قوله تعالى له: «أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ» ولذلك احترس في الدعاء بقوله: على الأرض فإن من آمن معه كان في السفينة ولم يبق على الأرض إلا من حق عليه العذاب ولما علم سبحانه ان الذين عادوا نببه محمدا صلى الله عليه وسلم لا يرجى فلاحهم أمره بالدعاء عليهم بيد أنه علمه كيف يدعو عليهم دعاء غير منفر لغيرهم فأراد سبحانه أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 376 يقول: قل رب أهلك الظالمين فعدل عن هذا اللفظ الخاص لما فيه من التنفير الى لفظ الإرداف فقال: «قل رب احكم بالحق» فانه سبحانه إذا حكم بالحق وهو العدل عاقب من يستحق العقاب وأما قول مورد الاشكال: لم عدل عن الأوجز الى الأطول؟ ولو قال رب احكم لكان كافيا، فليس الأمر كما زعم لأن للحاكم المختار الذي لا شريك له أن يحكم بالفضل فينزل عن حق نفسه وله أن يحكم بالعدل ستوفي حقه وحق غيره وطلب مطلق الحكم لا يوفي بذلك فلهذا عدل من الأوجز الى الأطول ليوفي بالمعنى المراد. وقد تنخّل عن هذا الجواب أربعة عشر ضربا من البديع اتفقت في هذه الألفاظ الثلاثة وهي: 1- الإرداف الذي قدمنا ذكره. 2- الإيضاح لأن إيضاح الإشكال الوارد على ظاهر الكلام جاء مدمجا في الإرداف. 3- التتميم إذ لو وقع الاقتصار على قوله: رب احكم لكان المعنى المراد ناقصا لأن مطلق الحكم لا يوفي بالمقصود كما بينا. 4- المقارنة لأن الادماج والإيضاح اقترنا في التتميم. 5 و6- الافتنان لجمع هذه اللفظات الثلاث بين فنين من الفنون التي يقصدها المتكلمون وهما: آ- فن الأدب في تعليم الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم كيف يدعو على من خالفه دعاء غير منفّر عنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 377 ب- فن الهجاء لأن عدل الله سبحانه يأبى أن يأمر نبيه بالدعاء إلا على من علم تصميمه على العصيان وبراءته من الايمان ومن كان كذلك كان مستحقا للذم فأدمج سبحانه في أمر الرسول بالدعاء عليهم هجاءهم بمقتضى ما تضمنه الكلام من استحقاق الملام. 7- الإيجاز عن المعنى المراد بأقل ما يمكن من الحروف. 8- السهولة فقد تركبت الكلمات تركيبا سليما من سوء الجوار، سهلة المخارج ولأن الكلمات جاءت في مقارها فلا تتقدم كلمة عن كلمة ولا تتأخر. 9- التهذيب في كون تركيب الجملة وضع على أصح ترتيب وأسهل تهذيب إذ تقدم فيها ذكر المدعو وثنى بالطلب وثلث بالمطلوب. 10- حسن البيان لأن الذهن يسابق الى فهم معنى الكلام من غير توقف بمجرد سماعه أول وهلة لعدم التعقيد في اللفظ وخلوه من أسباب اللبس من التقديم والتأخير وسلوك الطريق الأبعد وإيقاع المشترك. 11- التمزيج لامتزاج الفنون بمعاني البديع فإن فني الأدب والهجاء امتزجا بمعنى الإرداف والتتميم ولم يظهر في اللفظ لكل معنيين سوى صورة واحدة فظهر فن الأدب وأدمج فيه فن الهجاء وظهر الإرداف وأدمج فيه التتميم. 12- الإبداع لما تتضمن كل لفظة من الجملة الضرب والضربين فصاعدا من البديع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 378 13- التمثيل: لأن قوة البلاغة ورونق الفصاحة أخرجت هذه اللفظات مخرج المثل السائر الذي يصلح لأن يتمثل به في كل واقعة تشبه واقعته. 14- التوليد: لأن الإرداف لما زوج بالتتميم تولد منهما الإيضاح وتولد من الإيضاح والارداف الادماج ولما ظهرت فائدة الإتيان بالجار والمجرور وثبت التتميم وظهرت العلة في العدول عن لفظ الدعاء الخاص الى لفظ الارداف وتولد من ذلك فن الأدب ومن فن الأدب فن الهجاء ولما ثبت الائتلاف والتهذيب وما وقع في النظم من حسن الترتيب تولد من ذلك المثل السائر ولذلك غلب التوليد على جميع ما فيها من الضروب الثلاثة عشر وأثبتت في بابه دون أبوابها. التوليد في الشعر: أما في الشعر فلا يستحسن إلا التوليد في المعاني أما التوليد في الألفاظ فيأتي دونه في المرتبة بل ربما غالى بعضهم فجعله غير مقبول لشبهه بالسرقة وذلك أن يستعذب الشاعر لفظه في شعر غيره فيأخذها ويضمنها معنى غير معناها الأول كقول أبي تمام: لها منظر قيد الأوابد لم يزل ... يروح ويغدو في خفارته الحب أخذ لفظة قيد الأوابد من بيت امرئ القيس في وصف فرس ونقلها الى الغزل وبيت امرئ القيس هو: وقد اغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 379 على أنه قد يكون عذبا كما فعل علي بن زريق البغدادي في قوله: استودع الله في بغداد لي قمرا ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه فقد أخذ الأزرار من قول عبد الله بن المعتز: يا حسن أحمد إذ بدا متشمرا ... في قرطق يسعى بكأس عقاره والغصن في أثوابه والدر في ... فمه وجيد الظبي في أزراره ولقد عابوا على عمارة اليمني بيته يمدح الخليفة المصري الفاطمي عند قدومه عليه من اليمن وهو: فهل درى البيت أني بعد فرقته ... ماسرت من حرم إلا الى حرم لأنه مأخوذ بلفظه من شعر أبي تمام مادحا: يا من رأى حرما يسري الى حرم ... طوبى لمستلم يأتي وملتزم وهنا يحار الناقد في كثرة وقوع الشعراء الكبار بهذه المزالق، قال ابن الأثير: «ومما كنت أستحسنه من شعر أبي نواس قوله من قصيدته التي أولها: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء دارت على فتية ذل الزمان لهم ... فما يصيبهم إلا بما شاءوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 380 وهذا من عالي الشعر ثم وفقت في كتاب الأغاني لأبي الفرج على هذا البيت في أصوات معبد وهو: لهفي على فتية ذل الزمان لهم ... فما أصابهم إلا بما شاءوا وما أعلم كيف هذا» . أما توليد المعاني فهو مستحسن على إطلاقه كقول أبي الطيب المتنبي: همام إذا ما فارق الغمد سيفه ... وعاينته لم تدر أيهما النصل أخذه من قول أبي تمام: يمدون بالبيض القواطع أيديا ... فهن سواء والسيوف القواطع وقال المتنبي أيضا: وما هي إلا لحظة بعد لحظة ... إذا نزلت في قلبه رحل العقل أخذه من قول أبي نواس في وصف الخمرة: إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همه من صدره برحيل وجميل أخذ المتنبي من أبي تمام قوله: ومن الخير بطء سيبك عني ... أسرع السحب في المسير الجهام وبيت أبي تمام: هو الصنع إن تعجل فخير وإن ترث ... فللريث في بعض المواضع أنفع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 381 وبيت المتنبي أجمل وأرشق وفيه زيادة ضرب المثل: وولد أحد الشعراء المولدين بيتا فارسيا فقال: كأن عذاره في الخد لام ... ومبسمه الشهيّ العذب صاد وطرة شعره ليل بهيم ... فلا عجب إذا سرق الرقاد فقد ولد هذا الشاعر من تشبيه العذار باللام وتشبيه الفم بالصاد لفظة لص وولد من معناها ومعنى تشبيه الطرة بالليل ذكر سرقة النجوم فحصل في البيت توليد وإغراب وادماج. وقد أطلنا عنان القول ولكن الحسن غير مملول. الفوائد: التعليق: للأفعال التي تنصب مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر أحكام عديدة منها التعليق وهو إبطال العمل لفظا لا محلا لمجيء ما له صدر الكلام بعده والمعلقات عن العمل هي: 1- لام الابتداء نحو «لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ» فمن مبتدأ وهو موصول اسمي وجملة اشتراه صلة من وعائدها فاعل اشتراه المستتر فيه وما نافية وله وفي متعلقان بالاستقرار خبر خلاق ومن زائدة وجملة ماله في الآخرة من خلاق خبر من والرابط بينهما الضمير المجرور باللام وجملة من وخبره في محل نصب معلق عنها العامل بلام الابتداء لأن لها الصدارة فلا يتخطاها عامل وانما تخطاها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 382 في باب إن فرفع الخبر لأنها مؤخرة من تقديم لاصلاح اللفظ وأصلها التقديم على إن. 2- لام القسم كقول لبيد: ولقد علمت لتأتين منيتي ... إن المنايا لا تطيش سهامها فاللام في لتأتين لام القسم وتسمى جواب القسم، والقسم وجوابه في محل نصب معلق عنها العامل بلام القسم لا جملة الجواب فقط، فسقط ما قيل ان جملة جواب القسم لا محل لها وان الجملة المعلق عنها العامل لها محل فيتنافيان ولهذا قال أبو حيان «أكثر أصحابنا لا يذكرون لام القسم في المعلقات وفي العزة، ولام القسم لا تعلق كقوله: لقد علمت أسد أننا ... لهم يوم نصر لنعم النصير بفتح أن فهذه لام القسم ولم تعلق وتقول علمت أن زيدا ليقومن بفتح أن» اهـ وفي المغني أن أفعال القلوب لإفادتها التحقيق تجاب بما يجاب به القسم كقوله: ولقد علمت لتأتين منيتي إلخ» اهـ. فأخرج لام لتأتين عن كونها للقسم. 3- ما النافية نحو «لقد علمت ما هؤلاء ينطقون» فما نافية وهؤلاء مبتدأ وجملة ينطقون خبره والجملة الاسمية في موضع نصب بعلمت وهي معلق عنها العامل في اللفظ بما النافية. 4- لا وإن النافيتان الواقعتان في جواب قسم ملفوظ به أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 383 مقدر فالملفوظ به نحو علمت والله لا زيد في الدار ولا عمرو وعلمت والله أن زيد في الدار والمقدر نحو علمت لا زيد في الدار ولا عمرو. 5- الاستفهام كالآية التي نحن بصددها وهي «وإن أدري أقريب إلخ» وقول كثير: وما كنت أدري قبل عزة ما البكا ... ولا موجعات القلب حتى تولت فعطف موجعات بالنصب على الكسرة على محل قوله: ما البكا الذي علق عن العمل فيه قوله أدري. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 384 (22) سورة الحجّ مدنيّة وآياتها ثمان وسبعون [سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) اللغة: (مَرِيدٍ) : عات متجرّد للفساد قال الزجاج: المريد والمارد المرتفع الأملس وقال في القاموس وشرحه: المارد: العاتي المرتفع يقال بناء مارد أي مرتفع وهو مجاز وجمعه مردة وماردون ومرّاد، والمريد: الشديد المرادة والخبيث الشرير وجمعه مرد ومؤنثه مرداء يقال: مرد على جرد أي شبان مرد على خيول جرد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 385 الإعراب: (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) يا أداة نداء وأيها منادى نكرة مقصودة مبني على الضم والهاء للتنبيه والناس بدل من أي على اللفظ واتقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وإن زلزلة الساعة إن واسمها وشيء خبرها وعظيم صفة لشيء وجملة إن زلزلة الساعة إلخ تعليلية لا محل لها من الإعراب وذلك لقوله اتقوا ربكم. وزلزلة الساعة من إضافة المصدر الى فاعله أو الى مفعوله فعلى الأول كأنها هي التي تزلزل الأشياء على المجاز الحكمي وعلى الثاني على طريقة الاتساع في الظرف وإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى «بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ» . (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) الظرف متعلق بتذهل وجملة ترونها مضاف إليها الظرف وأجازوا فيه أوجها أخرى منها أن يكون متعلقا بعظيم أو باذكر مقدرة أو انه بدل اشتمال من زلزلة لأن كلا من الحدث والزمان يصدق عليه انه مشتمل على الآخر والضمير في ترونها عائد على الساعة أي القيامة ولأنها بهذه المثابة التي تقطع نياط القلوب، ويجوز أن يعود على الزلزلة ولعله أقرب لأنه في الدنيا، وتذهل فعل مضارع مرفوع وكل مرضعة فاعل والجملة في محل نصب على الحال من ضمير ترونها أي الهاء فإن الرؤية هنا بصرية حتما هذا إذا لم نجعل يوم متعلقا بتذهل فإن تعلق به لم تجز الحال وصارت الجملة مستأنفة أو أنها حال من الزلزلة أو من الضمير المستتر في عظيم أو من الساعة وان كانت مضافا إليها لأنها إما فاعل واما مفعول به، كما تقدم، ولا بد عندئذ من تقدير ضمير محذوف أي تذهل فيها والمرضعة هي التي باشرت الإرضاع بأن ألقمت الرضيع ثديها والمرضع هي التي من شأنها أن ترضع سواء باشرت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 386 الإرضاع أم لم تباشره ففرقوا بينهما بالتاء المربوطة وسيأتي مزيد تفصيل لهذا السر في باب البلاغة وعما أرضعت متعلقان بتذهل وما موصولة أو مصدرية أي عن الذي أرضعته أو عن إرضاعها وتضع كل فعل مضارع وفاعل والجملة معطوفة على جملة تذهل وذات حمل مضاف لكل وحملها مفعول به لتضع والحمل بفتح الحاء المهملة ما كان في بطن أو على شجرة وبالكسرة ما كان على ظهر. (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) الواو عاطفة وترى فعل مضارع معطوف على ترونها وإنما جمع في الأول وأفرد في الثاني لأن الرؤية الأولى علقت بالزلزلة أو الساعة وكل الناس يرونها أما الثانية فهي متعلقة بكون الناس سكارى فلا بد من جعل كل أحد رائيا للباقي بقطع النظر عن اتصافه بالسكر وفاعل ترى مستتر تقديره أنت والناس مفعول به وسكارى حال والواو للحال وما نافية حجازية وهم اسمها والباء حرف جر زائد وسكارى مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما والجملة في محل نصب على الحال من الناس، ويجوز في سكارى ضم السين وفتحها فهما لغتان وبهما قرىء، ولكن الواو عاطفة على محذوف مخالفة لما بعد لكن وهذا حكم مطرد لها والتقدير كما في البحر لأبي حيان: «فهذه الأحوال وهي الذهول والوضع ورؤية الناس شبه السكارى هينة لينة ولكن عذاب الله شديد أي ليس لينا وسهلا فما بعد لكن مخالف لما قبلها» وسيأتي مزيد بحث لهذه الآية في باب البلاغة. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لذكر من غفل عن الجزاء في ذلك وكذب به والمناسبة بينها وبين ما تقدم من ذكر أهوال الساعة وزلزلتها واضحة ومن الناس خبر مقدم ومن نكرة موصوفة حتما وهي مبتدأ مؤخر أي ناس موصوفة بالجدل واللجاج والسفسطة والمكابرة لا تنفع فيهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 387 العظات ولا تؤثر فيهم الدلائل وجملة يجادل في الله صفة لمن وأفرد الضمير مراعاة للفظ من ولو جمع مراعاة لمعناها لجاز وفي الله متعلقان بيجادل على حذف مضاف أي قدرته وصفاته ودينه وبغير علم حال من الضمير الفاعل في يجادل أي جاهلا متخبطا في متاهات الضلالة العمياء والجهالة النكراء (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) ويتبع عطف على يجادل وكل مفعول به وشيطان مضاف اليه ومريد صفة لشيطان ولا بد من تقدير مضاف أي خطوات كل شيطان. (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) كتب فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان به وأن وما في حيزها في محل رفع نائب فاعل ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويجوز أن تكون من اسم موصول مبتدأ وفأنه الخبر ودخلت الفاء لما في الموصول من رائحة الشرط وجملة يضله خبر انه وجملة الشرط أو الموصول خبر أنه وأجاز الزمخشري أن تكون فأنه معطوفة على الأولى وتعقبه أبو حيان فقال: وهذا لا يجوز لأنك إذا جعلت فأنه عطفا على انه بقيت انه بلا استيفاء خبر على أن كثيرين أيدوا الزمخشري في إعرابه ونرى أن ما اخترناه هو الأقرب للصواب، ويهديه عطف على يضله والى عذاب السعير متعلقان بيهديه. البلاغة: 1- في قوله تعالى «وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى» تشبيه بليغ فقد شبه الناس في ذلك اليوم العصيب بحالة السكارى الذين فقدوا التمييز وأضاعوا الرشد، والعلماء يقولون: إن من أدلة المجاز صدق نقيضه كقولك زيد حمار إذا وصفته بالبلادة والغباء ثم يصدق أن تقول وما هو بحمار فتنفي عنه الحقيقة فكذلك الآية بعد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 388 أن أثبتت السكر المجازي نفى الحقيقة أبلغ نفي مؤكد بالباء والسر في تأكيده التنبيه على أن هذا السكر الذي هو بهم في تلك الحالة ليس من المعهود في شيء وإنما هو أمر لم يعهدوا قبله مثله والاستدراك بقوله «وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» راجع الى قوله وما هم بسكارى وكأنه تعليل لاثبات السكر المجازي كأنه قيل: إذا لم يكونوا سكارى من الخمر وهو السكر المعهود فما هذا السكر الغريب؟ وما سببه؟ فقيل شدة عذاب الله تعالى. 2- وفي عدوله عن مرضع الى مرضعة سرّ قل من يتفطّن له وهو ان المرضعة هي التي باشرت الإرضاع فعلا فنزعها الثدي من فم طفلها عند حدوث الهول، ووقوع الارتباك أدل على الدهشة وأكثر تجسيدا لمواطن الذهول الذي استولى عليها وهناك فرق آخر وهو أن وروده على النسب أي مرضع لا يلاحظ فيه حدوث الصفة المشتق منها ولكن مقتضاه انه موصوف بها وعلى غير النسب أي مرضعة يلاحظ فيه حدوث الفعل وخروج الصفة عليه وهذا من أسرار لغتنا التي تندر في اللغات. وقال في المفصل: «إن مذهب الكوفيين ان حذف التاء من حائض للاستغناء عنها وهذا يوجب إثبات التاء في محل الالتباس كضامر وعاشق وأيم وثيب وعانس» وهذا الاعتراض بيّن، وأما الاعتراض بإثبات التاء في الصفات المختصة بالإناث من امرأة معيبة وكلبة مجرية على ما في الصحاح فليس بسديد لأن ما ذكروه مجوز لا موجب لأنهم يقولون الإتيان بالتاء في صورة الاستغناء على الأصل كحاملة في المرأة قال في الصحاح: يقال امرأة حامل وحاملة إذا كانت حبلى فمن قال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 389 حامل قال هذا نعت ومن قال حاملة بناه على حملت فهي حاملة وأنشد لعمرو بن حسان: تمخضت المنون له بيوم ... أتى ولكل حاملة تمام فإذا حملت شيئا على ظهرها أو على رأسها فهي حاملة لا غير. [سورة الحج (22) : الآيات 5 الى 7] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) اللغة: (النطفة) : ماء الرجل أو المرأة والجمع نطاف ونطف وهو ما يعرف بالمني كفني والمني كإلي والمنية كرمية ويجمع على مني كقفل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 390 ومنى وأمنى ومنّى بمعنى واحد. والنطفة أيضا الماء الصافي قل أو كثر وسيأتي المزيد من الكلام عنه. (عَلَقَةٍ) : العلقة: هي الدم الجامد وهو المراد هنا والذي يعلق باليد وكل ما يعلّق وما تتبلّغ به الماشية من الشجر ودويبة سوداء تمتص الدم والجمع علق. (مُضْغَةٍ) : لحمة قدر ما يمضغ. (مُخَلَّقَةٍ) : المخلقة المسواة الملساء من النقصان والعيب يقال خلق السواك والعود إذا سواه وملسه من قولهم صخرة خلقاء كأن الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة متباينة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك وعلى حسب ذلك التفاوت تتفاوت المخلوقات في الصور والخلق. (طِفْلًا) : الطفل بكسر الطاء يطلق على الولد من حين الانفصال الى حين البلوغ وأما الطفل بالفتح فهو الناعم والمرأة طفلة وأما الطفل بفتح الطاء والفاء فهو وقت ما بعد العصر من قولهم طفلت الشمس إذا مالت للغروب وأطفلت المرأة أي صارت ذات طفل وفي المختار: الطفل يستعمل مفردا وجمعا وفي الحديث سئل صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين. وقال في الأساس واللسان ما خلاصته: هو طفل بين الطفولة، وفعل ذلك في طفولته وامرأة وظبية مطفل وطفّلت ولدها: رشحته. قال الأخطل يصف سحابا: إذا زعزعته الريح جرّ ذيولها ... كما زحفت عوذ ثقال تطفّل وامرأة طفلة، وطفلة الأنامل: ناعمة وبنان طفل ناعمة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 391 قال ذو الرمة: أسيلة مستنّ الوشاحين قانىء ... بأطرافها الحناء في سبط طفل وقد طفل طفولة وطفالة وآتيه في طفل الغداة وطفل العشي وهو بعيد طلوع الشمس وقبيل غروبها قال: باكرتها طفل الغداة بغارة ... والمبتغون خطار ذاك قليل وقال لبيد: فتدليت عليه قافلا ... وعلى الأرض غيابات الطّفل وطفّلت الشمس إذا دنت للغروب وطفّل الليل أقبل وأظلّ وطفّل علينا وتطفّل وهو طفيلي وتقول: ما زال يطفّل على الناس، حتى نسخ طفيل الأعراس وهو رجل من الكوفة نسب اليه التطفيل. (أشده) : تقدم بحثه ونقول هنا: الأشد كمال القول والعقل والتمييز وهو من ألفاظ الجمع التي لم يستعمل لها واحد وهو ما بين الثلاثين الى الأربعين. (هامِدَةً) : الهمود السكون والخشوع وهمدت الأرض يبست ودرست وهمد الثوب بلي. (اهْتَزَّتْ) : تحركت وتجوز به هنا عن إنبات الأرض نباتها بالماء. (رَبَتْ) : زادت وارتفعت من ربا يربو. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 392 الإعراب: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) يا أيها الناس تقدم إعرابها وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص فعل الشرط والتاء اسمها وفي ريب خبرها ومن البعث متعلقان بمحذوف صفة لريب فإنا الفاء رابطة وان واسمها وجملة خلقناكم خبرها ومن تراب متعلقان بخلقناكم وانما ساغ وقوع قوله فانا خلقناكم جوابا على تأويل فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم. (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) عطف بثم للدلالة على وجود تراخ في تطور الخلق وتدرجه من حال الى حال وقوله مخلقة صفة لمضغة وغير مخلقة عطف على مخلقة والمراد تفصيل حال المضغة وكونها أولا قطعة لم يظهر فيها من الأعضاء شيء ثم ظهرت بعد ذلك شيئا فشيئا. (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) لنبين اللام للتعليل ونبين مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل واللام مع مدخولها متعلقة بخلقناكم أو اللام للصيرورة والعاقبة أي أن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه مالا يمكن اكتناهه أو الإحاطة به ولذلك حذف مفعول نبين، وذلك للاستدلال بهذه القدرة على ان من قدر على بدء الخلق قادر على إعادته فلا مجال للانكار ولا مساغ للتشكك، ونقر الواو استئنافية ونقر فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره نحن وفي الأرحام متعلقان بنقر وما مفعول به وجملة نشاء صلة والى أجل مسمى متعلقان بمحذوف حال وانما استأنف لأنه ليس المعنى خلقناكم لنقر، ومسمى صفة لأجل حرف أي ممتد الوقت خروجه. (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) ثم حرف عطف وتراخ أيضا ونخرجكم عطف على نقر وفاعل نخرجكم ضمير مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به الجزء: 6 ¦ الصفحة: 393 وطفلا حال من مفعول نخرجكم ثم لتبلغوا لا بد من تقدير فعل وهو نعمركم، ولتبلغوا اللام للتعليل أو الصيرورة وتبلغوا منصوب بأن مضمرة بعد اللام والواو فاعل وأشدكم مفعول به. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) الواو عاطفة ومنكم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة يتوفى صلة ومنكم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة يرد صلة والى أرذل العمر متعلقان بيرد، ونسب الى علي بن أبي طالب قوله أرذل العمر خمس وسبعون سنة وقيل ثمانون، وقال قتادة تسعون والصواب انه الهرم والخرف ووصول الإنسان الى مرحلة الاعياء والوهن أو يرتد إلى مرحلة الطفولة ضعيف البنية والعقل، بليد الفهم. (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) لكيلا متعلقان بيرد ويعلم منصوب بأن مضمرة بعد اللام وكي مصدرية ومن بعد علم متعلقان بمحذوف حال لأن علم بمعنى عرف وشيئا مفعول به ليعلم. (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) وهذه الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير الدليل الثاني لأن الدليل الأول منه ما هو مرئي مشاهد ومنه ما ليس كذلك فعبر عنه بالخلق أما هذا الدليل فهو داخل في حيز النظر ومندرج في سلك المرئيات فلذلك عبر عنه بقوله وترى، والأرض مفعول به وهامدة حال من الأرض فإذا الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة أنزلنا مضافة الى الظرف وعليها متعلقان بأنزلنا والماء مفعول به وجملة اهتزت لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وربت عطف على اهتزت وكذلك قوله وأنبتت ومن كل زوج صفة لمفعول به محذوف أي أشياء وأصنافا كائنة من كل صنف وبهيج صفة لزوج. (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ذلك مبتدأ وبأن الله خبر وقيل ذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وعندئذ تكون الباء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 394 مع مدخولها في محل نصب على الحال وان واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والحق خبر ان أو خبر هو والمبتدأ الثاني وخبره خبر ان وانه عطف على بأن وان واسمها وجملة يحيي الموتى خبرها وانه على كل شيء قدير عطف أيضا ولا بأس هنا بأن نورد ملاحظة لأبي حيان خلاصتها أن الباء ليست للسببية وانما هي متعلقة بمحذوف تقديره شاهد بأن وهو ينطبق على ما ذكرنا من الوجهين المتقدمين. (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) وان الساعة خبر لمبتدأ محذوف أي والأمر أن الساعة، وان واسمها وآتية خبرها ولا نافية للجنس وريب اسمها وفيها خبرها والجملة حالية أو خبر ثان لأن. (وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) عطف على ما تقدم وان واسمها وجملة يبعث خبرها ومن مفعول به وفي القبور متعلقان بمحذوف صلة من. البلاغة: في قوله تعالى «وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» فنون لا يكاد يتسع لها صدر هذا الكتاب وسنحاول تلخيصها جهد المستطاع فأول ما فيها: 1- ائتلاف الطباق والتكافؤ: لمجيء أحد الضدين أو أحد المتقابلين حقيقة والآخر مجازا فهمود الأرض واهتزازها ضدان لأن الهمود سكون فالاهتزاز هنا حركة خاصة وهما مجازان والربو والإنبات ضدان وهما حقيقتان وإنما قلنا ذلك لأن الأرض تربو حالة نزول الماء عليها وهي لا تنبت في تلك الحالة، فإذا انقطعت مادة السماء، وجفف الهواء رطوبة الماء خمد الربو وعادت الأرض الى حالها من الاستواء وتشققت وأنبتت فصدر الآية تكافؤ وما قابله في عجزها طباق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 395 2- الارداف: وفيها مع هذين الفنين فن الارداف وهو كما ذكر قدامة في نقد الشعر أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الموضوع له ولا بلفظ الاشارة الدال على المعاني الكثيرة بل بلفظ هو ردف المعنى الخاص وتابعه قريب من لفظ المعنى الخاص قرب الرديف من الردف وقد تقدمت الاشارة اليه في هود، وهنا في هذه الآية عدل عن لفظي الحركة والسكون الحقيقيين الى أردافهما من لفظي الهمود والاهتزاز لما في لفظي الارداف من الملاءمة للمعنى المراد لأن الهمود يراد به الموت، والأرض في حال عطلها من السقي والنبات موات فكان العدول الى لفظ الهمود المعبر به عن الموت أولى من لفظ السكون والاهتزاز المجازي مشعر بالعطالة كاهتزاز الممدوح للمدح فلأجل ذلك عدل عن لفظ الحركة العام الى لفظ الحركة الخاص لما يشعر أن الأرض ستعطي عند سقيها ما يرضي من نباتها بتنزل السقي لها منزلة ما يسرها فاهتزت لتشعر بالعطاء فقد ظهرت فائدة العدول الى لفظ الارداف لما يعطيه من هذه المعاني التي لا يعطيها لفظ الحقيقة. 3- التهذيب: وقد جاء نظم هذه الآية مع ما تضمن من التكافؤ والطباق والارداف والائتلاف منعوتا بالتهذيب لما فيه من حسن الترتيب حيث تقدم فيه لفظ الاهتزاز على لفظ الربو ولفظ الربو على الإنبات لأن الماء إذ نزل على الأرض فرق أجزاءها ودخل في خلالها، وتفريق أجزاء الجواهر الجمادية هو حركتها حالة تفرق الاتصال لأن انقسام الجوهر يدل على انتقال قسميه أو أحدهما عن حيزه ولا معنى للحركة إلا هذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 396 فالاهتزاز يجب أن يذكر عقيب السقي كما جاء الربو بعد الاهتزاز فإن التراب إذا دخله الماء ارتفع بالنسبة الى حاله قبل ذلك وهذا هو الربو بعينه وقد تقدم شرح كون الإنبات انما يكون بعد الربو وجفاف رطوبة الماء وعود التراب الى حاله وتشققه فحصل التهذيب في نظم هذه الآية بحصول حسن الترتيب واقترن بذلك حسن النسق لتقدم كل ما يجب أن يكون معطوفا عليه على كل ما يجب أن يكون معطوفا. 4- المذهب الكلامي: وفي قوله تعالى من أول سورة الحج الى قوله «وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ» فن المذهب الكلامي ففي هذه الآيات خمس نتائج تستنتج من عشر مقدمات وسياقها مفصلة على الترتيب: آ- قوله تعالى «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» ذلك لأنه قد ثبت عندنا بالخبر المتواتر أنه سبحانه أخبر بزلزلة الساعة معظما لها وذلك مقطوع بصحته لأنه خبر أخبر به من ثبت صدقه عمن ثبتت قدرته منقول إلينا بالتواتر فهو حق ولا يخبر بالحق عما سيكون إلا الحق فالله هو الحق. ب- أخبر سبحانه أنه يحيي الموتى لأنه تعالى أخبر عن أهوال الساعة بما أخبر، وحصول فائدة هذا الخبر موقوفة على إحياء الموتى ليشاهدوا تلك الأهوال التي فعلها سبحانه من أجلهم وقد ثبت أنه قادر على كل شيء، ومن الأشياء إحياء الموتى فهو يحيي الموتى. ج- وأخبر أنه على كل شيء قدير لأنه أخبر أنه من يتبع الشياطين ومن يجادل فيه بغير علم يذقه عذاب السعير ولا يقدر على ذلك إلا من هو على كل شيء قدير، فهو على كل شيء قدير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 397 د- وأخبر أن الساعة آتية لا ريب فيها، لأنه أخبر بالخبر الصادق أنه خلق الإنسان من تراب الى قوله «لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً» وضرب سبحانه لذلك مثلا بالأرض الهامدة التي ينزل عليها الماء فتهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج، ومن خلق الإنسان على ما أخبر به فأوجده بالخلق ثم أعدمه بالموت ثم يعيده بالبعث وأوجد الأرض بعد العدم فأحياها بالخلق ثم أماتها بالمحل ثم أحياها بالخصب، وصدق خبره في ذلك كله بدلالة الواقع الشاهد على المتوقع الغائب حتى انقلب الخبر عيانا صدق خبره. هـ- في الإتيان بالساعة ولا تأتي الساعة إلا ببعث من في القبور، إذ هي عبارة عن مدة تقوم فيها الأموات للمجازاة فالساعة آتية لا ريب فيها وهو سبحانه يبعث من في القبور. 5- المجاز: في قوله تعالى «وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» فقد أسند الإنبات للأرض وهو مجاز عقلي لأن المنبت في الحقيقة هو الله تعالى وقد تقدم القول غير مرة في المجاز ونزيد هنا أن المجاز خلاف الحقيقة والحقيقة فعيلة بمعنى مفعولة من أحق الأمر يحقه إذا أثبته أو من حققته إذا كنت على يقين وانما سمي خلاف المجاز بذلك لأنه شيء مثبت معلوم بالدلالة والمجاز مفعل من جاز الشيء يجوزه إذا تعداه فإذا عدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة وصف بأنه مجاز على أنهم جازوا به موضعه الأصلي أو جاز هو مكانه الذي وضع فيه أولا. شرطا المجاز: المجاز لا يكون إلا بشرطين: آ- أن يكون اللفظ منقولا عن معنى وضع اللفظ بإزائه أولا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 398 وبهذا يتميز عن اللفظ المشترك وعن الكذب الذي ادعي فيه أنه مجاز. ب- والشرط الثاني أن يكون النقل لمناسبة بين الأصل والفرع وعلاقته، ولأجل ذلك لا توصف الأعلام المنقولة بأنها مجاز مثال ذلك تسميتك رجلا بالحجر ويقال ان ذلك مجاز وان كنت نقلت اسم الحجر الى الإنسان إلا أنه نقل لغير مناسبة إذ لا مناسبة بين حقيقة الحجر وحقيقة الإنسان ومتى تحقق هذان الشرطان في لفظ كان ذلك اللفظ مجازا. قسما المجاز: والمجاز مجازان: مجاز استعارة، ومجاز حذف. والأول قائم على التشبيه لأنها جعل الشيء للشيء للمبالغة في التشبيه كقولك لقيت أسدا، وأنت تعني أنك لقيت شجاعا ولكن ليس فيها نقل كما تقدم وسيأتي مزيد بسط لهذا البحث، فقوله تعالى «وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» نقل الإنبات الى الأرض وجعل خضرتها ونضرتها وتعاشيبها وتعاجيب ألوانها لها والحقيقة أن كل ذلك لله. [سورة الحج (22) : الآيات 8 الى 13] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 399 اللغة: (ثانِيَ عِطْفِهِ) : الثني: اللي وفي القاموس ثنى يثني الشيء عطفه وطواه ورد بعضه على بعض وكفه والعطف: الجانب يعطفه الإنسان ويلويه ويميله عند الاعراض عن الشيء وهو تعبير يراد به التكبر. (حَرْفٍ) : طرف وسيأتي تفصيل معناه في باب البلاغة. الإعراب: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) ومن الناس من يجادل في الله بغير علم: تقدم القول فيها مفصلا فجدد به عهدا، ولا هدى عطف على علم ولا كتاب منير عطف أيضا وسيأتي القول في تكرير هذه الآية في باب البلاغة. (ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) ثاني حال من فاعل يجادل وانما نصبه على الحال والحال من شرطها أن تكون نكرة لأن إضافته بنية الانفصال والتنوين مراد كالمنطوق به وعطفه مضاف وثني العطف سيأتي بحثه في باب البلاغة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 400 وليضل للام للتعليل أو للعاقبة والصيرورة ولعلها أولى لملاءمة السياق ويضل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والفاعل مستتر تقديره هو وعن سبيل الله متعلقان بيضل أي عن دينه. (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) له خبر مقدم وفي الدنيا حال لأنه كان صفة لخزي وتقدم على القاعدة المشهورة وخزي مبتدأ مؤخر ونذيقه الواو عاطفة ونذيقه فعل وفاعل مستتر ومفعول به ويوم القيامة ظرف متعلق وعذاب الحريق مفعول به ثان وجملة له في الدنيا حالية. (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ذلك مبتدأ وبما خبر وجملة قدمت صلة ويداك فاعل وان عطف على قدمت فهي في محل جر وان واسمها وجملة ليس خبرها واسم ليس مستتر تقديره هو والباء حرف جر زائد وظلام اسم مجرور لفظا منصوب محلا خبر ليس وللعبيد جار ومجرور متعلقان بظلام وجملة ذلك بما قدمت يداك مقول قول محذوف وجملة القول حالية. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ) الواو عاطفة أو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان حال المرتابين في ايمانهم الشاكين في دينهم ومن الناس خبر مقدم ومن نكرة موصوفة وهي مبتدأ مؤخر أي موصوفة بالعبادة القلقة غير المستقرة ولا الثابتة، فهي عرضة للاهواء يعصف بها أقل ما يحدث لهم من بلاء أو ضر وجملة يعبد الله صفة لمن وعلى حرف حال من فاعل يعبد أي مضطربا مترجرجا وسيأتي مزيد بيان لهذا التعبير في باب البلاغة. (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) فإن الفاء عاطفة وإن شرطية وأصابه فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والهاء مفعول به وخير فاعل واطمأن فعل ماض في محل جزم جواب الشرط وبه متعلقان باطمأن وإن الواو عاطفة على إن الأولى وأصابته فتنة عطف على ما تقدم وانقلب جواب الشرط وعلى وجهه حال أيضا وجملة خسر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 401 الدنيا والآخرة حال أيضا من فاعل انقلب ولك أن تجعلها جملة مستأنفة أو تبدلها من جملة انقلب على وجهه، والدنيا مفعول خسر والآخرة عطف على الدنيا. (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) ذلك مبتدأ وهو مبتدأ ثان والخسران خبر هو والجملة خبر ذلك والمبين نعت للخسران والجملة مستأنفة ولك أن تجعل هو ضمير فصل. (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) يجوز أن تكون هذه الجملة حالا من فاعل يعبد ويجوز أن تكون مستأنفة ويدعو فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره هو ومن دون الله حال وما اسم موصول مفعول به ولا نافية وجملة لا يضره صلة وما لا ينفعه عطف على الجملة السابقة وذلك هو الضلال البعيد تقدم اعراب نظيرتها. (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) الجملة بدل من جملة يدعو السابقة فهي بمثابة التكرير لها ولا محل لها، ويدعو فعل مضارع واللام للابتداء أو هي موطئة للقسم ومن اسم موصول مبتدأ وضره مبتدأ ثان وأقرب من نفعه خبر ضره وجملة ضره أقرب من نفعه صلة من، وجملة لبئس المولى خبر من ويرد على هذا الإعراب دخول لام الابتداء على الخبر وهو ضعيف من حيث القواعد النحوية إلا أن يقال أن اللام كررت للمبالغة ولك أن تجعل يدعو من أفعال القلوب متضمنة معنى يزعم لأن يزعم قول مع اعتقاد فتكون جملة لمن ضره أقرب من نفعه في محل نصب على المفعول به لأن لام الابتداء معلقة لها عن العمل أو يكون يدعو بمعنى يقول ومن مبتدأ وضره مبتدأ ثان وأقرب خبره والجملة صلة من وخبر من محذوف تقديره إله أو إلهي وموضع الجملة نصب بالقول. وجملة لبئس مستأنفة لأنها لا يصح دخولها في الحكاية لأن الكفار لا يقولون عن أصنامهم لبئس المولى ولبئس العشير، وهناك وجه آخر مقبول وهو أن تكون اللام زائدة في المفعول به ليدعو ويؤيد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 402 هذا الوجه قراءة عبد الله يدعو من ضره بغير لام الابتداء فمن مفعول يدعو وضره مبتدأ وأقرب خبر والجملة صلة من وقد اختار الجلال السيوطي هذا الوجه ودعمه شارحوه أما الزمخشري فهذا نص عبارته: «استعير الضلال البعيد من ضلال من أبعد في التيه ضالا فطالت وبعدت مسافة ضلالته فإن قلت: الضرر والنفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين وهذا تناقض؟ قلت: إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم وذلك ان الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جمادا لا يملك ضرا ولا نفعا وهو يعتقد فيه بجهله وضلاله أنه يستشفع به حين يستشفع به ثم قال: يوم القيامة يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله النار بعبادتها ولا يرى أثر الشفاعة التي ادعاها له «لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ» أو كرر يدعو كأنه قال يدعو يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ثم قال: «لمن ضره» بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا لبئس المولى وفي حرف عبد الله من ضره بغير لام» فكأن الزمخشري رحمه الله أجمل الأعاريب التي أوردناها على أن هناك أوجها عديدة سلكها المفسرون تربو على سبعة أوجه ولكنها كلها بعيدة عن المنطق نورد لك منها على سبيل المثال رأي الفراء قال: «إن التقدير يدعو من لضره ثم قدم اللام على موضعها» ولا يخفى ما فيه من التعسف وتقديم ما في صلة الذي عليها. وثمة رأي لا يقل عن هذا غرابة وشذوذا وهو أن يكون ذلك بمعنى الذي في موضع نصب بيدعو أي يدعو الذي هو الضلال ولكنه قدم المفعول وهذا يتمشى على قول من جعل ذا مع غير الاستفهام بمعنى الذي مع انه منحصر في قولك ماذا ومن ذا؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 403 وثمة رأي آخر أشد استحالة وهو أن يكون التقدير ذلك هو الضلال البعيد يدعوه. فذلك مبتدأ وهو مبتدأ ثان أو بدل أو ضمير فصل والضلال خبر المبتدأ ويدعوه حال والتقدير مدعوا وهو وجه يدعو على نفسه بالوهن كما ترى، وإنما أوردنا هذه الآراء لنخلص الى القول إن هذه الآية من المشكلات التي شغلت علماء النحو والتفسير ولم يأتوا فيها بما ينقع الغليل وكلام الله المعجز أسمى من أن تطاله القواعد التي وضعها الإنسان. وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والمولى فاعل والمخصوص بالذم محذوف تقديره هو، ولبئس العشير معطوف على قوله لبئس المولى. [سورة الحج (22) : الآيات 14 الى 17] إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 404 اللغة: (الْمَجُوسَ) : أطلق المجوس على فئة من الكهّان كان لهم الدور الخطير في الديانة الايرانية القديمة ولا سيما في العهد الساساني وقد أطلق الاسم على فئات من المنجمين والعلماء، وجاء ذكر المجوس في إنجيل متى، كانوا من رجال علم الفلك وقد استناروا بوحي خاص عن مجيء المسيح أتوا من منطقة لم تبعد عن فلسطين شرفا على ما يظن يهديهم نجم في السماء الى أن وصلوا الى بيت لحم وقدموا للمسيح الطفل هداياهم وقد ذكر التقليد الشعبي أنهم كانوا ثلاثة ومن سلالة ملوكية، وأطلق العرب المجوس على قرصان النورمان والسكندينافيين الذين حاولوا في القرون الوسطى اقتحام السواحل والحدود في بلاد الغرب الاسلامي، هذا وقد اختلف أهل العلم في المجوس فقيل هم قوم يعبدون النار وقيل الشمس وقيل هم القائلون بأن للعالم أصلين النور والظلمة، وقيل: هم قوم يستعملون النجاسات والأصل نجوس فأبدلت الميم نونا، هذا وقد تقدم تفسير ألفاظ هذه الآية إلا المجوس. الإعراب: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) ان واسمها وجملة يدخل خبر والذين مفعول به وجملة عملوا الصالحات عطف على آمنوا والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير مصير المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وجنات مفعول به ثان على السعة أو نصب بنزع الخافض وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة لجنات وجملة إن الله يفعل ما يريد مستأنفة لتعليل ما تقدم وان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 405 واسمها وجملة يفعل خبر وفاعل يفعل مستتر تقديره هو وما مفعول به وجملة يريد صلة. (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) من شرطية مبتدأ أو موصولة فتكون الفاء فيما بعد رابطة للتشبيه بالشرط والأول أرجح، وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر يعود على من وجملة يظن خبر وفاعل يظن مستتر يعود على من وأن مخففة من الثقيلة واسمها محذوف ضمير الشأن وجملة لن ينصره الله خبرها وان وما بعدها سدت مسد مفعولي يظن وفي الدنيا متعلقان بينصره والآخرة عطف على الدنيا. (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) الفاء رابطة لجواب الشرط واللام لام الأمر ويمدد فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والفاعل مستتر تقديره هو وبسبب متعلقان بيمدد والى السماء صفة لسبب والمراد بالسماء سقف البيت، ثم ليقطع عطف على فليمدد وهل حرف استفهام ويذهبن فعل مضارع مبني على الفتح وكيده مفعول به وما يغيظ فاعل يذهبن وجملة يغيظ صلة وجملة هل يذهبن في موضع نصب بينظر وسيأتي تفصيل واف لهذه الآية في باب البلاغة. (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) الواو عاطفة وكذلك نعت لمصدر محذوف وأنزلناه فعل وفاعل ومفعول به وآيات حال من الهاء وبينات صفة وأن الله عطف على هاء أنزلناه والمعنى وأنزلنا أن الله يهدي من يريد هدايته ولك أن تجعل الواو للحال وأن وما في حيزها في محل رفع لمبتدأ مضمر أي والأمر أن الله يهدي من يريد وأن واسمها وجملة يهدي خبرها ومن مفعول يهدي وجملة يريد صلة من. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) ان واسمها وجملة آمنوا صلة وما بعده عطف على الذين والجملة ابتدائية. (إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) إن الثانية واسمها وخبرها في محل رفع خبر ان الاولى وسيأتي السر في تصدير الجملتين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 406 بإن أو تجعل الثانية تأكيدا للأولى، ويكون قوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) هو الخبر، وإن واسمها وعلى كل شيء متعلقان بشهيد وشهيد خبر إن وقيل الخبر محذوف تقديره معترفون أو نحو ذلك وما ذكر تفسير له. البلاغة: 1- الإيجاز والتمثيل: في قوله تعالى «مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ» الى قوله «ما يغيظ» الإيجاز والتمثيل فأما الإيجاز فلأن معناه من كان يظن من حاسدي محمد ومبغضيه أن الله لن ينصره وانه يفعل شيئا مغايرا للنصر ومن كان يغيظه أن محمدا يظفر بمطلوبه ويبلغ ما هدف اليه من المثل العليا التي رسمناها له فليستقص وسعه وليستفرع جهده، فلن يكون مثله إلا مثل من يأخذ حبلا يمده الى سماء بيته فيخنق نفسه به ثم بعد ذلك كله ليعد النظر والتأمل مجددا ليرى هل ذهب نصر الله الذي يغيظه ويقض مضجعه، وهل ذهب عنه ما كان يساوره من حرقة وارتماض؟ وسمي الاختناق قطعا لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه ومنه قيل للبهر القطع والبهر تتابع النفس، وقال الجوهري في الصحاح: «وقوله تعالى: ثم ليقطع قالوا ليختنق لأن المختنق يمد السبب الى السقف ثم يقطع نفسه من الأرض حتى يختنق تقول منه: قطع الرجل أي اختنق ولبن قاطع أي حامض» قلت والعامة تستعمل هذا التعبير فيما يذهب خيره ويبلى وهو عربي فصيح. وسمي هذا الفعل كيدا لأنه وضعه موضعه إما لأنه لا يستطيع سواه ولا يملك غيره وإما على سبيل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 407 الاستهزاء وقد توسع المفسرون في هذه الآية وذهبوا بها مذاهب شتى فقالوا: «ويجوز أن يراد فليمد حبلا الى السماء المظلة وليصعد عليه ثم ليقطع الوحي» وقال آخرون «النصر هو الرزق وأن الأرزاق بيد الله لا تنال إلا بمشيئته ولا بد للعبد من الرضا بقسمته فمن ظن أن الله غير رازقه وليس به صبر ولا استسلام فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق فإن ذلك لا يقلب القسمة ولا يرده مرزوقا» وقيل غير ذلك وما ذكرناه أولى وأوفى بالمراد وهو ما يخالج كل حاسد وما يقال لكل من يعترض على ما ليس في طوقه ولا داخل في نطاق إرادته تقول له اشرب البحر، أو اقتل نفسك فليس لك حيلة في تبديل ما هو واقع راهن وارادة الله أقوى. 2- تصدير الجملتين بان: وفي تصدير الجملتين بإن زيادة في تأكيد الكلام وقد رمقه الشعراء في أشعارهم، قال جرير: إن الخليفة إن الله سربله ... سربال ملك به تزجى الخواتيم فقوله إن الله سربله خبر ان الاولى وكررها لتوكيد التوكيد وسربله كساه بالملك الشبيه بالسربال ويروى لباس ملك وقوله به أي بذلك اللباس أو الملك تزجى أي تساق الخواتيم جمع خاتم بالفتح والكسر والأصل خواتم فزيدت الباء والمراد بها عواقب الأمور الحميدة ومغابها وقال أبو حيان: «يحتمل أن خبر إن قوله به تزجى الخواتيم وجملة إن الله سربله اعتراضية» ويروى ترجى بالراء المهملة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 408 [سورة الحج (22) : الآيات 18 الى 22] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) اللغة: (الدَّوَابُّ) : جمع دابة بتشديد الباء لأنه مشتق من الدبيب فأما من قرأ بتخفيف الباء فقد حذفها كراهية التضعيف والدابة مؤنث الدابّ ما دبّ من الحيوان أي مشى كالحية أو على اليدين والرجلين كالطفل وغلبت الدابة على ما يركب ويحمل عليه وتقع على المذكر والمؤنث والتاء فيه للوحدة وتصغير الدابة دويّبة والدباب الشديد الدبيب، والضعيف الذي يدب في المشي قال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 409 زعمتني شيخا ولست بشيخ ... إنما الشيخ من يدبّ دبيبا والدبابة مؤنث الدباب وسميت بها آلة كانت في الماضي تتخذ في الحصار وكانوا يدخلون في جوفها ثم تدفع في أصل الحصن فينقبونه وهم في أجوافها ثم أطلقت في العصر الحديث على سيارة مصفحة تهجم على صفوف الأعداء وترمى منها القذائف. (الْحَمِيمُ) : الماء البالغ نهاية الحرارة واستحمّ الرجل: اغتسل واستحمّ دخل الحمام وبض حميمه أي عرقه ويقال للمستحم طابت حمّتك وحميمك وانما يطيب الغرق على المعافى ويخبث على المبتلى، فمعناه أصح الله جسمك وهو من باب الكناية وسخن الماء بالمحمّ وهو القمقم أو الرجل ومثل العالم كمثل الحمّة وهي العين الحارّة وذابوا ذوب الحمّ وهو ما اصطهرت إهالته من الألية وحمى الرجل حمّى شديدة وهو محموم، وهو حميمي وهي حميمتي أي وديدي ووديدتي وهم أحمّائي وتقول المرأة: هم أحمائي وليسوا بأحمّائي، وعرف ذلك العامة والحامّة أي الخاصة وهو مولاي الأحم أي الأخص والأحب قال: وكفيت مولاي الأحم جريرتي ... وحبست سائمتي على ذي الخلّة وحمّ الأمر قضي وحمّ حمامه ونزل به القدر المحموم والقضاء المحتوم. (يُصْهَرُ) : يذاب يقال صهرت الشحم من باب قطع إذا أذبته والصهارة الألية المذابة وصهرته الشمس أذابته وفي الحديث «إن الحميم ليصب من فوق رؤوسهم فينفذ من جمجمة أحدهم حتى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 410 يخلص الى جوفه فيسلب ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان» . (مَقامِعُ) : جمع مقمعة بكسر الميم لأنها آلة القمع يقال قمعه يقمعه من باب قطع إذا ضربه بشيء يزجره به ويذله والميقعة المطرقة وقيل: السوط وفي الأساس: «قمع خصمه قهره وأذله فاقمع وتقمع والناس على باب القاضي متقمّعون وانقمع في بيته وتقمع: جلس وحده وقمعته بالمقمع والمقمعة وبالمقامع وهي الجرزة، وتقمّعت الدواب ذبّبت عن رءوسها القمع وهي ذبّان كبار زرق من ذبان الكلأ التي تغنى الواحدة قمعة، وأنشد الجاحظ: كأنّ مشافر النجدات منها ... إذا ما مسّها قمع الذباب بأيدي مأتم متساعدات ... نعال السبت أو عذب الثياب من النجد: العرق، وقال أوس: ألم تر أن الله أرسل مزنة ... وعفر الظّباء في الكناس تقمّع وهم يكللون الجفان بالقمع جمع قمعة وهي أعلى السنام، ومن المجاز «ويل لأقماع القول» وهم الذين يسمعون ولا يعون وفلان قمع الأخبار يتتبّعها ويتحدّث بها وتقول: ما لكم أسماع، إنما هي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 411 أقماع» وفي القاموس وشرحه «والقمع أيضا بتثليث القاف آلة توضع فوق الإناء فتصبّ فيه السوائل وجمعه أقماع» . وللقاف مع الميم خاصة عجيبة وهي أنهما إذا اجتمعتا فاء وعينا للكلمة دلت على القهر والاذلال والغلبة تقول: قمؤ الرجل قماءة وقمأ قمأ إذا ذل وصغر في الأعين وهو صاغر قميء وأقمأ الرجل أذله، وقمحت السويق وغيره بكسر الميم واقتحمته إذا أخذته في راحتك الى فيك ومنه القمح وهو الحب الذي يطحن ويتخذ منه الخبز وشهر أقماح أشد أشهر الشتاء بردا، قال الهذلي: فتى ما ابن الأغر إذا شتونا ... وحبّ الزاد في شهري قماح ومن المجاز: أقمح المغلول فهو مقمح إذا لم يتركه عمود الغل الذي ينخس ذقنه أن يطأطىء رأسه «فهم مقمحون» وقمر الرجل غلبه وسلبه ماله وقمر الرجل بكسر الميم تحير بصره من الثلج وكأن القمر سمي بذلك لأنه متحير في سمائه، وقمز الشيء جمعه وأخذه بأطراف أصابعه، وقمسه في الماء غمسه وغرق في قاموس البحر: في قعره الأقصى وشبه القاموس بأعماق البحار لاشتماله على الكثير من مفردات اللغة وهو اسم لكتاب الفيروزبادي في اللغة ويطلق في زماننا على كل كتاب في اللغة فهو يرادف كلمة معجم وليس ذلك بعيدا، وقمص يقمص بكسر الميم وضمها في المضارع قماصا بالكسر كالنفار والشراد وتقامص الصبيان وبينهم مقامصة وقمص الفرس رفع يديه معا وطرحهما معا وعجن برجليه وتقمص مطاوع قمص لبس القميص ويقال على الاستعارة تقمص الولاية والإمارة وتقمصت الروح انتقلت من جسد الى جسد آخر على زعم بعضهم ومنه القميص وهو ما يلبس، وقمط الأسير جمع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 412 بين يديه ورجليه بالحبل وهو القماط وقمط الصبي بقماطة وهي الخرقة التي تلف عليه في المهد والعامة تستعمله كثيرا وهو عربي فصيح والقمّاط اللص وقمط الطائر انثاه والرجل امرأته فعل بها، وقمقم ما على المائدة تتبع ما عليها وجمعه، وقمل رأسه صار ذا قمل يفلّيه، وقمّ الشيء يقمه بضم القاف استأصله وقممه جففه، والقمن بفتحتين الجدير بالأمر كأنه يغلبه ويتحكم به ويكون بلفظ واحد مع المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع ويقال: هذا المنزل لك موطن قمن أي جدير بأن تسكنه، وقمه البعير يقمه قموها رفع رأسه فلم يشرب الماء كأن شيئا غلبه وهذا من الغريب بمكان. الإعراب: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ) : الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر تقديره أنت والرؤية هنا علمية وذلك لأن رؤية سجود هذه الأمور إنما تتأتى عن طريق العقل لا عن طريق البصر وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تر وأن واسمها وجملة يسجد خبرها وله متعلقان بيسجد ومن فاعل وفي السموات ومن في الأرض متعلقان بمحذوف صلة الموصول والشمس وما بعدها عطف خاص على قوله من في السموات ومن في الأرض ونص على هذه الأمور لما ورد من أن بعضهم كان يعبدها، والسجود يشمل الملائكة والآدميين والجبال والشجر والدواب وغيرها وأفرد الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب بالذكر لشهرتها واستبعاد السجود منها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 413 (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) شغلت هذه الآية المفسرين والمعربين كثيرا فمن منع استعمال المشترك في معنييه الحقيقي والمجازي لم ينظم كثيرا في المفردات المتناسقة الداخلة تحت حكم الفعل وجعله مرفوعا بفعل مضمر يدل عليه قوله يسجد أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة وذلك أن السجود المسند لغير العقلاء غير السجود المسند للعقلاء فلا يسوغ عطفه عندهم على ما قبله لاختلاف الفعل المسند إليهما في المعنى فسجود العقلاء هو الكيفية المخصوصة المعرفة وسجود غير العقلاء هو الإذعان والطاعة وأما الذين أجازوا استعمال المشترك في معنييه الحقيقي والمجازي فهم ينسقونه على ما تقدم ولهم في تبرير ذلك تأويلات ثلاثة وهي: آ- ان المراد بالسجود هو المعنى العام المشترك بين العقلاء وغيرهم وهو الخضوع والإذعان فيكون الاشتراك معنويا. ب- انه لا يمنع الاشتراك اللفظي وقد يشترك المجاز والحقيقة. ج- انه يجوز الجمع بين المجاز والحقيقة وسيأتي مزيد بسط لهذا الموضوع في باب البلاغة. ووقف فريق من المعربين موقفا ثالثا فلم يرفعوه بفعل مضمر لأن حذف فعل الفاعل غير وارد عندهم ولم ينسقوه على ما تقدم بل أعربوه مبتدأ وخبره محذوف تقديره مطيعون أو مجزيون أو مثابون أو نحو ذلك، ومن الناس صفة كثير وكثير حق عليه العذاب عطف على سابقه. (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) الواو استئنافية أو عاطفة ومن شرطية في محل نصب مفعول به مقدم ليهن والله فاعل وما نافية وله خبر مقدم ومن حرف جر زائد ومكرم مجرور بمن لفظا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 414 مبتدأ مرفوع محلا وإن واسمها وجملة يفعل خبرها والجملة تعليلية. (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) الجملة مستأنفة مسوقة لسرد قصة المتبارزين يوم بدر وهم حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة وقيل هم المختصمون من أهل الكتاب والمسلمين في دين الله وهذان مبتدأ وخصمان خبره وجملة اختصموا صفة لخصمان ولك أن تجعل الجملة خبرا وخصمان بدل من هذان وفي ربهم متعلقان باختصموا وهو على حذف مضاف أي في دينه وقال خصمان ثم جمع الفعل لأن الخصم في الأصل مصدر ولذلك يوحّد ويذكر غالبا ويجوز أن يثنى ويجمع أو الجمع مراعاة للمعنى لأن المتخاصمين كانوا فرقا شتى وطوائف كثيرة. (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) الفاء عاطفة والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة وجملة قطعت خبر ولهم متعلقان بقطعت وثياب نائب فاعل ومن نار صفة لثياب وسيأتي تفصيل معنى الثياب هنا في باب البلاغة وجملة يصب خبر ثان لاسم الموصول أو حالية من الضمير في لهم أو تجعلها مستأنفة ويصب فعل مضارع مبني للمجهول ومن فوق رءوسهم متعلقان بيصب والحميم نائب فاعل. (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) جملة يصهر حالية من الحميم وهو بالبناء للمجهول وبه متعلقان به وما نائب فاعل وفي بطونهم متعلقان بمحذوف صلة ما والجلود عطف على ما واختار بعضهم أن يكون الجلود مرفوعا بفعل مضمر أي وتحرق الجلود قالوا لأن الجلود لا تذاب وانما تنقبض إذا صليت بالنار فهو من باب: علفتها تبنا وماء باردا أي وسقيتها ماء لأن الماء لا يكون علفا. (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) الواو عاطفة ولهم خبر مقدم ومقامع مبتدأ مؤخر ومن حديد صفة لمقامع واختلف في عودة الضمير في لهم فقيل يعود على الذين كفروا واللام للاستحقاق، وقيل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 415 يعود على أعوان جهنم أي الزبانية ولم يتقدم لهم ذكر ولكن سياق الكلام يدل عليه. (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) كلما ظرف متضمن معنى الشرط وقد تقدم كثيرا وأرادوا فعل وفاعل وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول به لأرادوا ومنها متعلقان بيخرجوا ومن غم بدل من الجار والمجرور قبله بدل اشتمال لأنها تشمل عليه ويجوز أن تكون من للتعليل فتتعلق بيخرجوا أيضا أي يخرجوا من النار من أجل الغم الذي لحق بهم وجملة أعيدوا لا محل لها لأنها جواب كلما وفيها متعلقان بأعيدوا والواو حرف عطف والمعطوف محذوف تقديره وقيل لهم وجملة ذوقوا عذاب الحريق مقول القول المحذوف. البلاغة: 1- الحقيقة والمجاز: الحقيقة هي اللفظ الدال على موضعه الأصلي وأما المجاز فهو ما أريد به غير المعنى الموضوع في أصل اللغة كما تقدم وقد وعدناك أن نقول قولا شافيا في جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز فالواقع أن كل مجاز له حقيقة لأنه لم يصح أن يطلق عليه اسم المجاز إلا لنقله عن حقيقة موضوعة له، وبديه أن المخلوقات كلها تفتقر الى أسماء يستدل بها عليها ليعرف كل منها باسمه من أجل التفاهم الذي لا بد منه فالاسم الموضوع بإزاء المسمى هو حقيقة له فاذا نقل الى غيره صار مجازا والفرق الدقيق بينهما هو أن الحقيقة جارية على العموم في نظائر ألا ترى أنا إذا قلنا فلان «عالم» صدق على كل ذي علم بخلاف «واسأل القرية» لأنه لا يصح إلا في بعض الجمادات دون بعض إذ المراد أهل القرية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 416 لأنهم ممن يصح السؤال لهم ولا يجوز أن يقال واسأل الحجر والتراب وقد يحسن أن يقال واسأل الربع والطلل قال الأعشى: ألم تسأل الربع القواء فينطق ... وهل تخبرنك اليوم بيداء سماق 2- الاستعارة التمثيلية في قطعت لهم ثياب: في قوله تعالى: «قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ» استعارة تمثيلية جعل تقطيع الثياب وتفصيلها على قدود الكفار بمثابة الإحاطة بهم مع التهكم الذي ينطوي عليه أي أنها تشتملهم وتحتويهم كما تشتمل الثياب لابسها وتحتويه أما الروعة فهي كامنة في قوله «يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ» وهو ما يسمى بالارداف فإن الثياب تشمل جميع الجسد غير الرأس، أفرد الرؤوس بالذكر بقوله: يصب. [سورة الحج (22) : الآيات 23 الى 25] إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 417 الإعراب: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) تقدم إعراب نظيرها فجدد به عهدا. (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) يحلون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وفيها متعلقان بيحلون ومن أساور اضطربت أقوال المعربين فيها كما استشهد بها جميع النحويين على مجيء من لبيان الجنس وهي قوله من ذهب وعلامتها أن يصح الإخبار بما بعدها عما قبلها فتقول الأساور هي من ذهب، ومن البيانية ومجرورها في موضع نصب على الحال مما قبلها إن كان معرفة كقوله تعالى «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ» وفي موضع النعت كقوله من ذهب، ولم أر بينهم جميعا من تعرض لإعراب من أساور إلا بقول مبهم لا يبل أواما ولا يشفي غليلا ولعل أقرب ما أراه فيها أن تكون نعتا لمفعول محذوف أي حليا ناشئا من أساور كائنة من ذهب، واكتفى ابن هشام بقوله هي للابتداء وقال أبو البقاء مثل قولنا ولم يتعرض الزمخشري لها وقال شهاب الدين الحلي «وقوله من أساور من ذهب، في من الأولى ثلاثة أوجه أحدها أنها زائدة والثاني أنها للتبعيض أي بعض أساور والثالث أنها لبيان الجنس ومن في من ذهب لابتداء الغاية وهي نعت لأساور» وقوله متهافت متدافع كما ترى. ولؤلؤا عطف على محل من أساور لأن محلها النصب، كذا قال المعربون ولكن الزمخشري لم يرتض هذا القول فجعلها منصوبة بفعل محذوف تقديره ويؤتون لؤلؤا، وجملة يحلون حالية أو خبر ثان لإن ولباسهم الواو عاطفة ولباسهم مبتدأ وفيها حال وحرير خبر. وفي هذا العدول عن الفعلية الى الاسمية دلالة على الديمومة حيث لم يقل ويلبسون حريرا فقد دل على أن الحرير ثيابهم المعتادة والدائمة في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 418 الجنة كما أن فيه رعاية للمحافظة على الفواصل لأنه لو قال ويلبسون حريرا لكان في آخر الفاصلة الألف في الكتابة والوقف بخلاف البقية (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) الواو عاطفة وهدوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل والى الطيب متعلقان بهدوا ومن القول متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستكن في الطيب وهدوا الى صراط الحميد عطف على الجملة السابقة أي الى طريق الله المحمود ودينه القويم. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) إن واسمها وجملة كفروا صلة والجملة مستأنفة ويصدون الواو حرف عطف ويصدون عطف على كفروا وفي عطفه على الماضي تأويلات أولها أن لا يقصد بالمضارع الدلالة على زمن معين من حال أو استقبال وإنما يراد به مجرد الاستمرار ومثله «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ» أو انه مؤول بالماضي لعطفه على الماضي أو انه على بابه وان الماضي قبله مؤول بالمستقبل وقد أجاز أبو البقاء وغيره أن تكون الواو حالية والجملة في محل نصب على الحال من فاعل كفروا وهو قول متهافت لأنه مضارع مثبت وما كان كذلك لا تدخل عليه الواو وما ورد منه على قلته مؤول فلا يسوغ حمل القرآن عليه وعن سبيل الله متعلقان بيصدون والمسجد الحرام عطف على سبيل الله والذي صفة ثانية للمسجد وجملة جعلناه صلة ونا فاعل والهاء مفعول به أول وللناس حال لأنه كان صفة وتقدم، وسواء مفعول به ثان ان كانت جعل متعدية لاثنين وان كانت متعدية لواحد أعربت سواء حالا من هاء جعلناه والعاكف فاعل سواء لأنه مصدر وصف فهو في قوة اسم الفاعل المشتق أي بمعنى مستو أي جعلناه مستويا فيه العاكف أي المقيم، والباد بحذف الياء تبعا لرسم المصحف معطوف على العاكف ومعناه الطارئ، وقد انفرد حفص بقراءة النصب في سواء والجمهور على رفعها على انه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 419 خبر مقدم والعاكف والباد مبتدأ مؤخر والجملة في محل نصب مفعول به ثان أو حال وخبر إن محذوف تقديره خسروا أو هلكوا أو نحو ذلك وقدره الزمخشري نذيقهم من عذاب أليم واعترض عليه بأنه يكون بعد المسجد الحرام وفيه فصل بين الصفة والموصوف. (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويرد فعل الشرط وفيه متعلقان بيرد ومفعول يرد محذوف ليتناول كل ما يمكن تناوله وبإلحاد حال وبظلم حال أيضا فهما حالان مترادفتان كأنه قال ومن يرد فيه مرادا عادلا عن القصد ظالما وهذا أولى من تقدير زيادة الباء في إلحاد وجعله هو المفعول، قال أبو عبيدة: «مفعول يرد هو بإلحاد والباء زائدة في المفعول قال الأعشى: ضمنت برزق عيالنا أرماحنا أي رزق» وقال أبو حيان: «والأحسن أن يضمن معنى يرد يلتبس فيتعدى بالباء» ونذقه جواب الشرط والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به ومن عذاب متعلقان بنذقه وأليم صفة وقدر أبو حيان الخبر مستنتجا من قوله نذقه، وهو إعراب تفسيري لا صناعي فالأولى أن يقدر تقديرا أي نذيقهم عذابا أليما. [سورة الحج (22) : الآيات 26 الى 29] وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 420 اللغة: (رِجالًا) : مشاة جمع راجل كقائم وقيام يقال رجل يرجل بفتح الجيم رجلا بفتحتين: سار على رجليه لا راكبا، ويقال هذا رجل أي كامل في الرجال بين الرّجولية والرّجولية وهذا أرجل الرجلين وهو راجل ورجل بين الرّجلة وحملك الله عن الرّجلة ومن الرّجلة وقوم رجّال ورجال ورجّالة ورجل ورجلى ورجالى وأراجيل وترجلوا في القتال نزلوا عن دوابهم للمنازلة ورآه فترجل له ورجل أرجل عظيم الرجل ورجل رجيل وذو رجلة مشّاء. (ضامِرٍ) : في المختار ضمر الفرس من باب دخل وضمر أيضا بالضم ضمرا بوزن فقل فهو ضامر، وناقة ضامر وضامرة وتضمير الفرس أيضا أن تعلفه حتى يسمن ثم ترده الى القوت وذلك في أربعين يوما. والبعير يطلق على الجمل والناقة. (فَجٍّ) : الفج بفتح الفاء ويجمع على فجاج بكسر الفاء والفجاج بضم الفاء: الطريق الواسع الواضح بين الجبلين. (تَفَثَهُمْ) : أوساخهم وقضاء التفث المراد به قص الأظافر ونتف الإبط وفي المصباح: تفث تفثا فهو تفث مثل تعب تعبا فهو تعب إذا ترك الأدهان والاستحداد فعلاه الوسخ وقوله تعالى: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» قيل هو استباحة ما حرم عليهم بالإحرام بعد التحلل» وقال غيره: «التفث قيل أصله من التف وهو وسخ الأظفار قلبت الفاء كمعثور في معفور وقيل هو الوسخ والعذر يقال: ما نفثك؟ وحكى قطرب: تفث الرجل إذا كثر وسخه في سفره ومعنى ليقضوا ليصنعوا ما يصنعه المحرم من ازالة شعر وشعث ونحوهما عند حله» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 421 الإعراب: (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) الواو استئنافية والظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر وجملة بوأنا مضافة إليها الظرف وبوأنا فعل وفاعل ولابراهيم متعلقان ببوأنا ومكان البيت مفعول بوأنا واختار أبو البقاء وغيره أن تكون اللام زائدة أي أنزلناه مكان البيت والدليل عليه قوله تعالى «وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ» اما على الاول فيكون معنى بوأنا هيأنا وان هي المفسرة لأنها واقعة بعد قول مقدر أي قائلين له لا تشرك ولا ناهية وتشرك فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وقيل هي مصدرية فعلنا ذلك لئلا تشرك وجعل النهي صلة لها وبي متعلقان بتشرك وشيئا مفعول تشرك، وعبارة أبي حيان: وأن مخففة من الثقيلة قاله ابن عطية والأصل أن يليها فعل تحقيق أو ترجيح كحالها إذا كانت مشددة أو حرف تفسير قاله الزمخشري وابن عطية وشرطها أن يتقدمها جملة في معنى القول وبوأنا ليس فيه معنى القول والأولى عندي أن تكون أن الناصبة للمضارع إذ يليها الفعل المتصرف من ماض ومضارع وأمر والنهي كالأمر. (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) وطهر الواو عاطفة وطهر فعل أمر فاعله مستتر تقديره أنت وبيتي مفعول طهر وللطائفين متعلق بطهر والقائمين والركع عطف على ما تقدم والسجود صفة للركع والأولى أن تجعل الكلمتين بمثابة الكلمة الواحدة لأنهما عملان في عمل واحد وهو الصلاة. (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) وأذن فعل أمر أي ناد بدعوة الحج والأمر به والخطاب لابراهيم كما يقتضيه السياق وعليه المفسرون جميعا وعن الحسن انه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 422 وهو أقوى من جهة التشريع، وفي الناس متعلقان بأذن وبالحج متعلقان بمحذوف حال أي معلنا ويأتوك مضارع مجزوم لأنه وقع جوابا للطلب والواو فاعل والكاف مفعول به ورجالا حال وعلى كل ضامر عطف على رجالا أي مشاة وركبانا ويأتين فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة والنون فاعل وجملة يأتين صفة لكل ضامر لأنه في معنى الجمع وقرىء يأتون صفة للرجال والركبان ومن كل فج متعلقان بيأتين وعميق صفة لفج. (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) اللام للتعليل ويشهدوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعدها وهي متعلقة مع مجرورها بيأتوك أو بأذّن ومنافع مفعول به ولهم صفة لمنافع ويذكروا عطف على يشهدوا والواو فاعل واسم الله مفعول به وفي أيام متعلقان بيذكروا ومعلومات صفة لأيام وسيأتي ذكر هذه الأيام في باب الفوائد. (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) على ما رزقهم متعلقان بيذكروا أيضا ومعنى على هنا التعليل ومثله قوله تعالى «وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ» وقول الشاعر: علام تقول الرمح يثقل عاتقي ... إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت ومن بهيمة الأنعام متعلقان برزقهم، فكلوا الفاء الفصيحة وكلوا فعل أمر وفاعل ومنها متعلقان بكلوا وأطعموا عطف على كلوا والبائس مفعول به والفقير صفة. (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ثم حرف عطف واللام لام الأمر وسيأتي بحث مفيد عنها في باب الفوائد ويقضوا مضارع مجزوم بلام الأمر وتفثهم مفعول به وليوفوا نذورهم عطف على يقضوا تفثهم وليطوفوا بالبيت العتيق عطف أيضا وبالبيت متعلقان بيطوفوا والعتيق صفة للبيت وسيأتي السر في تسميته بالعتيق في باب الفوائد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 423 الفوائد: 1- لام الأمر: لام الأمر ويسميها النجاة اللام الطلبية سواء أكانت أمر أم دعاء فالأول نحو «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ» والثاني نحو «لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» وتكون للالتماس، فالأمر من الأعلى والدعاء من الأدنى والالتماس من المساوي، ولام الأمر مكسورة إلا إذا وقعت بعد الواو والفاء فالاكثر تسكينها نحو «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي» وقد تسكن بعد ثم، وتدخل لام الأمر على فعل الغائب معلوما ومجهولا وعلى المخاطب والمتكلم المجهولين. 2- لماذا سمي البيت العتيق: اختلف المفسرون في هذه التسمية فرجح الزمخشري انه القديم لأنه أول بيت وضع للناس، وقال ابن عباس: سمي عتيقا لأن الله أعتقه من تسلط الجبابرة عليه فكم من جبار سار اليه ليهدمه فمنعه الله، وقال الزمخشري في تأييد هذا الوجه «فإن قلت: قد تسلط عليه الحجاج فلم يمنع؟ قلت: ما قصد التسلّط على البيت وانما تحصن به ابن الزبير فاحتال لاخراجه ثم بناه ولما قصد التسلط عليه أبرهة فعل به ما فعل» كما سيأتي، وقيل بيت كريم من قولهم عتاق الخيل والطير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 424 [سورة الحج (22) : الآيات 30 الى 33] ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) اللغة: (حُرُماتِ اللَّهِ) : الحرمات بضمتين ويقال في الجمع أيضا حرمات بضم ففتح وحرم بضم ففتح جمع حرمة بضم فسكون وحرمة بضمتين وحرمة بضم ففتح وهي الذمة والمهابة وما وجب القيام به من حقوق الله وحرم التفريط به ومالا يحل انتهاكه وتفاصيل الحرمات تؤخذ من كتب الفقه. (الرِّجْسَ) : بتشديد الراء المكسورة وسكون الجيم والرّجس بتشديد الراء المفتوحة وفتح الجيم والرجس بتشديد الراء المفتوحة وكسر الجيم: القذر والأوساخ وسمى الأوثان رجسا على طريق التشبيه لأنها قذر معنوي. (الزُّورِ) : الشرك بالله والباطل والكذب ومن معانيه أيضا العقل والقوة يقال ماله زور ولا صيّور أي لا قوة له ولا مرجع اليه والرأي والسيد والزعيم ولذة الطعام وطيبه ولين الثوب ونقاؤه ومجلس الغناء وهو من الزور أو هو الازورار وهو الانحراف وفي الأساس «وكلمة زوراء دنية معوجة ومنارة زوراء: مائلة عن السمت ورمى بالزوراء: بالقوس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 425 وفلاة زوراء وهو أزور عن مقام الذل وتقول: قوم عن مواقف الحق زور، فعلهم رياء وقولهم زور، وما لكم تعبدون الزور وهو كل ما عبد من دون الله وأنا أزيركم ثنائي وأزرتكم قصائدي» هذا وقد نظم بعضهم معاني هذه المادة بالأبيات التالية: الصّدر والزائر فهو زور ... وكلّ زوار النساء زير في جمع أزور يقال زور ... أعني به ذا ميل في الصدر زيارة أي مرة فزوره ... وهيئة الزيارة ادع زيره وقطعة الكتان أما الزّوره ... فموضع ذو شجر وطين وسميت بغداد بالزوراء لانحراف قبلتها قال الطغرائي: فيم الإقامة بالزوراء لا سكني ... بها ولا ناقتي فيها ولا جملي (فَتَخْطَفُهُ) : في القاموس: خطف يخطف من باب تعب خطفا الشيء استلبه بسرعة وخطف البرق البصر ذهب به بسرعة. (سَحِيقٍ) : بعيد أي فهو لا يرجى خلاصه. (شَعائِرَ اللَّهِ) : جمع شعيرة أو شعارة بالكسر وفي المصباح: «والشعائر أعلام الحج وأفعاله الواحدة شعيرة أو شعارة بالكسر والمشاعر مواضع المناسك» . الإعراب: (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) ذلك قال الزمخشري: «خبر مبتدأ محذوف أي الأمر والشأن ذلك كما يقدم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 426 الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال: هذا وقد كان كذا» ومعنى هذا انه يذكر للفصل بين كلامين أو بين وجهي كلام واحد، وقيل مبتدأ محذوف الخبر أي ذلك الأمر الذي ذكرته وقيل في موضع نصب تقديره امتثلوا ذلك ونظير هذه الاشارة البليغة قول زهير في وصف هرم بن سنان: هذا وليس كمن يعيا بخطبته ... وسط النديّ إذا ما ناطق نطقا وكان وصفه قبل هذا بالكرم والشجاعة ثم وصفه في هذا البيت بالبلاغة فكأنه قال: هذا خلقه وليس كمن يعيا بخطبته. والواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويعظم فعل الشرط وفاعله مستتر يعود على من وحرمات الله مفعول به والفاء رابطة وهو مبتدأ وخير خبر وله متعلقان بخير والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من وعند ربه الظرف متعلق بمحذوف حال. (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) الواو عاطفة وأحلت فعل ماض مبني للمجهول ولكم متعلقان بأحلت والأنعام نائب فاعل وإلا أداة استثناء وما يستثنى يجوز فيه الاتصال والانقطاع وقد تقدم اعراب هذه الآية وما استثناه الله في كتابه فالانقطاع على انه ذكر في آية المائدة ما ليس من جنس الأنعام كالدم ولحم الخنزير والاتصال على صرفه الى ما يحرم من الأنعام بسبب عارض كالموت ونحوه وجملة يتلى صلة ونائب الفاعل ضمير مستتر وعليكم متعلقان بيتلى. (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) الفاء تفريع على قوله ومن يعظم حرمات الله، واجتنبوا الرجس فعل أمر وفاعل ومفعول به ومن الأوثان بيان للرجس فهو في محل نصب على الحال واختار الزمخشري أن يكون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 427 تمييزا ومثل لذلك بقولك: عندي عشرون من الدراهم لأن الرجس منهم يتناول غير شيء كأنه قيل فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، وليس قوله ببعيد واجتنبوا قول الزور عطف على ما تقدم. (حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) حنفاء لله حال مؤسسة من ضمير اجتنبوا وغير مشركين حال مؤكدة منه أيضا وبه متعلقان بمشركين وسيأتي بحثهما في باب الفوائد. (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) هذه الجملة مستأنفة مسوقة لضرب المثل لمن يشرك بالله ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويشرك بالله فعل الشرط، فكأنما الفاء رابطة وكأنما كافة ومكفوفة وخر فعل ماض وفاعل مستتر ومن السماء متعلقان بخرّ، فتخطفه عطف على خرّ وإنما عدل الى المضارع لسر سيأتي في باب البلاغة، والطير فاعل أو تهوي به الريح عطف أيضا وفي مكان متعلقان بتهوي أيضا وسحيق نعت لمكان. (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ذلك خبر لمبتدأ محذوف كما تقدم ومن يعظم شعائر الله تقدم اعرابها والفاء رابطة وان واسمها ومن تقوى القلوب خبرها. (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) لكم خبر مقدم وفيها حال ومنافع مبتدأ مؤخر والى أجل صفة لمنافع ومسمى صفة لأجل ثم حرف عطف ومحلها مبتدأ وهو اسم مكان من حل يحل أي صار حلالا والى البيت خبر والعتيق صفة. البلاغة: 1- التشبيه المركب والتمثيلي وقد تقدم انه ما كان وجه الشبه فيه صورة منتزعة من متعدد وبيان ذلك انه لما انقسمت حال الكافر الى قسمين لا مزيد عليهما الاول منهما المتذبذب الشاكّ المتمادي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 428 على الشك وعدم التصميم على ضلالة واحدة فهذا القسم من المشركين شبه بمن اختطفته الطير وتوزعته فلا يستولي طائر على مزعة منه إلا انتهبها منه آخر وذلك حال المذبذب لا يلوح له خيال إلا اتبعه ونزل عما كان عليه والثاني مشرك مصمم على معتقد باطل لو نشر بالمناشير لم يتراجع عن تصميمه لا سبيل الى تشكيكه ولا مطمع في نقله عما هو عليه فهو فرح مبتهج لضلالته فهذا مشبه في إقراره على كفره باستقرار من هوت به الريح الى واد سحيق سافل فاستقر فيه ونظير تشبيهه بالاستقرار في الوادي السحيق الذي هو أبعد ما يكون عن السماء. وأجاز الزمخشري أن يكون هذا التشبيه من المركب والمفرق قال «فإن كان تشبيها مركبا فكأنه قال من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرق مزعا في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة وان كان مفرقا فقد شبه الايمان في علوه بالسماء والذي ترك الايمان وأشرك بالله بالساقط من السماء والأهواء التي تتوزّع أفكاره بالطير المتخطفة والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصف به في بعض المهاوي المتلفة» . وكلام الزمخشري فيه نظر لأن التشبيه التمثيلي ما في ذلك شك ولا مساغ لجعله مفرقا. 2- العدول الى لفظ المضارع: سياق الكلام يقتضي أن يعطف فتخطفه على مضارع مع أنه في الآية معطوف على خر وهو ماض، وإنما عدل عن ذلك لتصوير الواقع والتقدير فهي تخطفه فيكون من عطف الجملة على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 429 الجملة ولكنه آثر المخالفة لاستحضار الصورة الغريبة التي تصوره مزعا في حواصل الطير. الفوائد: 1- الحال إما مؤسسة وإما مؤكدة فالمؤسسة هي التي لا يستفاد معناها بدونها نحو جاء خالد راكبا، وأكثر ما تأتي الحال من هذا النوع، والمؤكدة هي التي يستفاد معناها بدونها وانما يؤتى بها للتوكيد، وهذه أنواع ثلاثة: آ- ما يؤتى بها لتوكيد عاملها وهي التي توافقه معنى فقط أو معنى ولفظا فالأول نحو «تبسم ضاحكا» ومنه قوله تعالى «وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» والثاني كقوله تعالى: «وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا» وقول الشاعر: أصخ مصيخا لمن أبدى نصيحته ... والزم توقي خلط الجد باللعب ب- ما يؤتى بها لتوكيد صاحبها كقوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً» . ج- ما يؤتى بها لتوكيد مضمون جملة معقودة من اسمين معرفتين جامدين نحو: هو الحق بينا أو صريحا، وقول الشاعر: أنا ابن دارة معروفا بها نسبي ... وهل بدارة يا للناس من عار 2- لماذا أنث الضمير في فإنها: في قوله تعالى: «وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 430 سؤال مهم وهو لماذا أنث الضمير؟ وعلى أي شيء يعود؟ والجواب لا يستقيم إلا بتقدير مضافات محذوفة ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأن الضمير يعود على الشعائر أي فإن تعظيمها من أفعال تقوى القلوب والعائد على من محذوف أي منه ويجوز أن الضمير ضمير مصدر مؤنث تقديره فإن العظمة أو الحرمة أو الخصلة. [سورة الحج (22) : الآيات 34 الى 38] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 431 اللغة: (مَنْسَكاً) : بفتح السين وكسرها فالفتح على أنها مصدر ميمي والكسر على أنها اسم مكان وفي المصباح نسك لله ينسك من باب قتل تطوع بقربة والنسك بضمتين اسم منه وفي التنزيل: «إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي» والمنسك بفتح السين وكسرها يكون زمانا ومصدرا ويكون اسم المكان الذي تذبح فيه النسيكة وهي الذبيحة وزنا ومعنى، ومناسك الحج عباداته وقيل مواضع العبادات ومن فعل كذا فعليه نسك أي دم يريقه، ونسك تزهد وتعبد فهو ناسك والجمع نساك مثل عابد وعباد» وفي القاموس: «المنسك بفتح السين المكان المألوف والمنسك بالفتح أيضا مصدر نسك والمنسك بالكسر شرعة النسك وموضع تذبح فيه النسيكة» . (الْمُخْبِتِينَ) : المطيعين المتواضعين والإخبات نزول الخبت وهو المكان المنخفض وسيأتي في باب البلاغة بحث قيم حول هذا الوصف. (الْبُدْنَ) : بضم الباء جمع بدنة سميت بذلك لعظم بدنها وهي خاصة بالإبل كما قال الأزهري أو هي تشمل الإبل والبقر كما قال صاحب الصحاح قال القسطلاني: «البدن عند الشافعي خاصة بالإبل وعند أبي حنيفة من الإبل والبقر فكلام الشافعية موافق لكلام الأزهري وكلام الحنفية موافق لكلام الصحاح» . (صَوافَّ) : قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن وقرىء صوافن من صفون الفرس وهو أن يقوم على ثلاث وينصب الرابعة على طرف سنبكه لأن البدنة تعقل احدى يديها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 432 (وَجَبَتْ جُنُوبُها) : وجوب الجنوب وقوعها على الأرض من وجب الحائط وجبة إذا سقط ووجبت الشمس وجبة غربت قال أبو تمام: فالشمس طالعة من ذا وقد غربت ... والشمس واجبة من ذا ولم تجب (الْقانِعَ) : السائل المتذلل والخارج من مكان الى مكان وخادم القوم وأجيرهم والجمع قانعون وقنّع أو بمعنى القنع أي الراضي بما قسم له يقال قنع يقنع من باب تعب تعبا قنعا وقناعة وقنعانا: رضي بما قسم له يقال قنع يقنع من باب تعب تعبا: قنعا وقناعة وقنعانا: رضي بما قسم له وقنع يقنع من باب فتح قنوعا: سأل وتذلل وفي الأساس واللسان: «العز في القناعة والذل في القنوع وهو السؤال وفلان قنع بالمعيشة وقنيع وقنوع وقانع، أنشد الكسائي: فإن ملكت كفاك قوطا فكن به ... قنيعا فإن المتقي الله قانع وقنع بالشيء واقتنع وتقنّع، وأقنعك الله بما أعطاك، وفلان حريص ما يقنعه شيء وبيت شوقي المشهور: شباب قنع لا خير فيهم ... وبورك بالشباب الطامحينا يدل على ضلاعته باللغة وتمكنه منها. (الْمُعْتَرَّ) : المعترض بسؤال وعرّه وعرّاه بمعنى واحد وقيل القانع السائل والمعتر المعترض من غير سؤال وقال قوم بالعكس وفي المصباح: «المعتر الضيف الزائر والمعتر: المعترض للسؤال من غير طلب يقال عره واعتره وعراه واعتراه إذا تعرض للمعروف من غير مسألة» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 433 وفي القاموس «والمعتر الفقير والمعترض للمعروف من غير أن يسأل عرّه، عرّا واعتره وبه» وفي الأساس واللسان: «وعن عائشة رضي الله عنها: مال اليتيم عرة لا أدخله في مالي ولا أخلطه به» . ولا تفعل هذا لا تصبك منه معرّة وفي الحديث «كلما تعاررت ذكرت الله» وكان سلمان رضي الله عنه إذا تعارّ في الليل قال: سبحان رب النبيين وإله المرسلين، وهو أن يهب من النوم مع كلام من عرار الظليم وهو صياحه و «أطعموا القانع والمعتر» أي المعترض بسؤاله» . الإعراب: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير التشريع الخاص بكل أمة ونوع التعبد الذي يتقربون به الى الله ولكل أمة متعلقان بمحذوف مفعول جعلنا الثاني المقدم وجعلنا فعل وفاعل ومنسكا مفعول جعلنا الأول وليذكروا اللام للتعليل ويذكروا مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بجعلنا واسم الله مفعول به وعلى ما رزقهم متعلقان بيذكروا وجملة رزقهم صلة ومن بهيمة الأنعام متعلقان برزقهم. (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) الفاء الفصيحة وإلهكم مبتدأ وإله خبره وواحد صفة فله الفاء عاطفة وله متعلقان بأسلموا وأسلموا فعل أمر وفاعل وبشر الواو عاطفة وبشر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والمخبتين مفعول به. (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) الذين نعت للمخبتين أو بدل منه وإذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 434 ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه وجملة ذكر الله مضاف إليها وجملة وجلت قلوبهم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وإذا وفعلها وجوابها لا محل لها لأنها صلة والصابرين عطف على الذين وعلى ما متعلقان بالصابرين وجملة أصابهم صلة للموصول والمقيمي الصلاة عطف أيضا وحذفت النون للاضافة ومما متعلقان بينفقون وجملة رزقناهم صلة وجملة ينفقون صلة أيضا. (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ) الواو عاطفة والبدن مفعول لفعل محذوف فهي منصوبة على الاشتغال أي وجعلنا البدن، وجعلناها فعل وفاعل ومفعول به ولكم متعلقان بجعلناها ومن شعائر الله مفعول به ثان لجعلناها التي هي بمعنى التصيير. (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ) لكم خبر مقدم وفيها حال وخير مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها ويجوز جعلها حالا من الهاء في جعلناها، فاذكروا الفاء الفصيحة واذكروا فعل أمر وفاعل واسم الله مفعول به وعليها متعلقان باذكروا وصواف حال من الهاء أي بعضها الى جنب بعض. (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل وجملة وجبت جنوبها مضافة الى الظرف والفاء رابطة لجواب إذا وجملة كلوا منها لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وأطعموا القانع والمعتر عطف على جملة كلوا منها. (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) كذلك الكاف نعت لمصدر محذوف أي سخرها تسخيرا مثل ذلك التسخير وسخرناها فعل وفاعل ومفعول به والجملة حال ولكم متعلقان بسخرناها ولعل واسمها وجملة تشكرون خبرها والجملة في محل نصب على الحال من الكاف في لكم. (لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) لن حرف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 435 نفي ونصب واستقبال وينال فعل مضارع منصوب بلن ولفظ الجلالة مفعول به مقدم ولحومها فاعل ينال ولا دماؤها عطف على لحومها والمعنى لن تبلغ مرضاته ولن تقع منه موقع القبول والمراد أصحاب اللحوم والدماء قال أبو حيان في البحر: «أراد المسلمون أن يفعلوا فعل المشركين من الذبح وتشريح اللحم منصوبا حول الكعبة وتضميخ الكعبة بالدم تقربا الى الله تعالى فنزلت هذه الآية» ولكن الواو عاطفة ولكن حرف استدراك مهمل لأنه مخفف ويناله فعل مضارع ومفعول به والتقوى فاعل ومنكم حال من التقوى أي يرفع إليه منكم العمل الصالح الخالص له مع الايمان. (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) الكاف نعت لمصدر محذوف وقد تقدمت نظائره وسخرها فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به ولكم متعلقان بسخرها ولتكبروا اللام للتعليل وتكبروا منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل واللام وما في حيزها متعلقة بسخرها وتكبروا فعل مضارع وفاعل ولفظ الجلالة مفعول به، على ما هداكم: ما مصدرية أو موصولة أي على هدايته إياكم أو على ما هداكم اليه وعلى متعلقة بتكبروا لتضمينه معنى الشكر وبشر الواو استئنافية وبشر فعل أمر وفاعل مستتر والمؤمنين مفعول به. (إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) جملة مستأنفة مسوقة لتأكيد البشرى للمؤمنين بالنصر المحتوم وإن الله ان واسمها وجملة يدافع خبر وعن الذين متعلقان بيدافع وجملة آمنوا صلة ومفعول يدافع محذوف تقديره: عوادي المشركين وغوائلهم، وجملة إن الذين تعليل للجملة السابقة وان واسمها وجملة لا يحب خبرها وكل خوان مفعول به وكفور صفة لخوان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 436 [سورة الحج (22) : الآيات 39 الى 41] أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) اللغة: (صَوامِعُ) : الصوامع جمع صومعة وصومع وهو جبل أو مكان مرتفع يسكنه الراهب أو المتعبد قصد الانفراد ثم أطلقت الكلمة على الدير، والصومعة أيضا: العقاب والبرنس وأعلى كل جبل إذا كان مستدقّ الرأس. (بِيَعٌ) : جمع بيعة بكسر الباء المعبد للنصارى واليهود والجمع بيع وبيعات بكسر الباء وفتح الياء وبيعات بكسر الباء وسكون الياء. (وَصَلَواتٌ) : بفتح الصاد واللام جمع صلاة وسميت الكنيسة صلاة لأنه يصلّى فيها وقيل هي كلمة معربة أصلها بالعبرية صلوثا بفتح الصاد والثاء المثلثة كما في الخفاجي على البيضاوي قال: وبه قرىء في الشواذ ومعناه في لغتهم المصلى فلا يكون مجازا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 437 الإعراب: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) الجملة مستأنفة مسوقة للإذن بقتال المشركين، كان المؤمنون يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يشكون فيقول لهم اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال حتى هاجر فنزلت هذه الآية وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية. وأذن فعل ماضي مبني للمجهول والمأذون فيه محذوف للعلم به أي أذن للذين يقاتلون في القتال وللذين متعلقان بأذن وجملة يقاتلون صلة ويقاتلون مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وبأنهم متعلقان بأذن أيضا والباء للسببية أي بسبب ظلمهم وجملة ظلموا خبر أنهم وإن الله على نصرهم لقدير الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للوعد لهم بالنصر على طريق الرمز والكناية، وان واسمها وقدير خبرها واللام المزحلقة وعلى نصرهم متعلقان بقدير. (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) الذين نعت أو بدل من الموصول الأول، ولك أن ترفعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف تنويها بقدرهم ورفعا لشأنهم، وجملة أخرجوا صلة والواو نائب فاعل ومن ديارهم متعلقان بأخرجوا وبغير حق حال وإلا أداة استثناء وأن يقولوا المصدر المؤول مستثنى منقطع في محل نصب واختار الزمخشري وغيره أن يكون الاستثناء مفرغا لوجود النفي بغير فإلا أداة حصر وان يقولوا في محل جر على الابدال من حق أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتسيير ومثله «هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ» وربنا مبتدأ والله خبر والجملة في محل نصب مقول القول. (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً) الواو استئنافية ولولا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 438 حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط ودفع الله مبتدأ محذوف الخبر وجوبا والناس مفعول به لدفع لأنه مصدر مضاف الى فاعله وهو الله والمعنى ولولا أن دفع الله الناس بعضهم ببعض لغلب المفسدون وتعطلت المصالح ويقل عمله عكسه وهو أن يضاف المصدر الى مفعوله ثم يأتي فاعله مرفوعا كقول الاقيشر الاسدي: أفنى تلادي وما جمعت من نشب ... قرع القواقيز أفواه الأباريق فقرع بالقاف والعين المهملة مرفوع على الفاعلية بأفنى وهو مصدر مضاف الى مفعوله وهو القواقيز بقافين وزاي معجمة: أقداح يشرب بها الخمر واحدها قاقوزة بزاءين معجمتين فجمعها قوازيز، وأفواه فاعل المصدر وهو جمع فم وأصله فوه فلذلك ردت في الجمع على أنه روي البيت بنصب الأفواه فيكون من القسم الأول. وبعضهم بدل بعض من الناس وببعض متعلق بدفع واللام واقعة في جواب لولا وهدمت فعل ماض مبني للمجهول وصوامع نائب فاعل وبيع وصلوات ومساجد عطف على صوامع وأخر ذكر المساجد لأن الصوامع والبيع والكنائس أقدم منها في الوجود وجملة يذكر صفة للمواضع المذكورة وفيها متعلقان بيذكر واسم الله نائب فاعل وكثيرا صفة لمصدر محذوف أي ذكرا كثيرا أو صفة لظرف محذوف أي وقتا كثيرا. (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) الواو استئنافية واللام موطئة للقسم وينصرن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. والله فاعل ومن موصول مفعول به وجملة ينصره صلة وجملة ان وما بعدها تأكيد لتعليل النصر والله اسمها واللام المزحلقة وقوي خبرها الأول وعزيز خبرها الثاني. (الَّذِينَ إِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 439 مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) الذين بدل من الذين السابقة أو نعت ثان للذين الأولى أو خبر لمبتدأ محذوف ولك وجه آخر وهو أن تعربها بدلا من «من ينصره» ذكر هذا الوجه الزجاج قال: أي لينصرن الله الذين إن مكناهم، وإن شرطية ومكناهم فعل ماض وفاعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط وفي الأرض متعلقان بمكناهم وأقاموا فعل ماض وفاعل وهو في محل جزم جواب الشرط والصلاة مفعول به وما بعده عطف عليه. (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) الواو استئنافية أو عاطفة ولله خبر مقدم وعاقبة الأمور مبتدأ مؤخر. الفوائد: الجهاد ذروة سنام الإسلام: والأحاديث في الجهاد كثيرة نورد منها ما يسمو الى ذروة البلاغة جريا على نهجنا في هذا الكتاب فعن أبي هريرة رضي الله عنه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله قيل: ثم ماذا؟ قال الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حجّ مبرور» رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن خزيمة في صحيحه. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس قبل غزوة تبوك فلما أن صبح صلى بالناس صلاة الصبح ثم إن الناس ركبوا فلما أن طلعت الشمس نعس الناس على إثر الدّلجة ولزم معاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو إثره والناس تفرقت بهم ركابهم على جوادّ الطرق تأكل وتسير فبينا معاذ على إثر رسول الله صلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 440 الله عليه وسلم وناقته تأكل مرة وتسير أخرى عثرت ناقة معاذ فحنكها بالزمام فهبت حتى نفرت منها ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف عنه قناعه فالتفت فإذا ليس في الجيش أدنى اليه من معاذ فناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معاذ فقال لبيك يا رسول الله قال: ادن دونك فدنا منا حتى لصقت راحلتاهما إحداهما بالأخرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كنت أحسب الناس منا بمكانهم من البعد فقال معاذ: يا نبيّ الله نعس الناس فتفرقت ركابهم ترتع وتسير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا كنت ناعسا فلما رأى معاذ بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلوته له فقال: يا رسول الله: ائذن لي أن أسألك عن كلمة أمرضتني وأسقمتني وأحزنتني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل عما شئت، قال: يا نبي الله حدثني بعمل يدخلني الجنة لا أسألك عن شيء غيره؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخ بخ بخ لقد سألت لعظيم ثلاثا وإنه ليسير على من أراد الله به الخير، وانه ليسير على من أراد الله به الخير وإنه ليسير على من أراد الله به الخير فلم يحدثه بشيء إلا أعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات حرصا لكيما يتقنه عنه فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله واليوم الآخر وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتعبد الله وحده لا تشرك به شيئا حتى تموت وأنت على ذلك، قال يا رسول الله أعدلي فأعادها ثلاث مرات ثم قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت يا معاذ حدثتك برأس هذا الأمر وقوام هذا الأمر وذروة السّنام؟ فقال معاذ: بلى يا رسول الله حدثني بأبي أنت وأمي فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم إن رأس هذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 441 الأمر: أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وإن قوام هذا الأمر: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وان ذروة السّنام منه الجهاد في سبيل الله، انما أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فاذا فعلوا ذلك فقد اعتصموا وعصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقّها وحسابهم على الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفس محمد بيده ما شحب وجه ولا اغبرّت قدم في عمل تبتغى به درجات الآخرة بعد الصلاة المفروضة كجهاد في سبيل الله ولا ثقّل ميزان عبد كدابّة تنفق في سبيل الله أو يحمل عليها في سبيل الله. [سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 46] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 442 اللغة: (بِئْرٍ) : في المختار: «بأر بئرا بهمزة بعد الباء حفرها ربابه قطع» والبئر فعل بمعنى مفعول كالذبح بمعنى المذبوح حفرة في الأرض عظيمة يستقى منها الماء والجمع آبار وأبآر وبئار وأبؤر وهي مؤنثة. وفي الأساس: «الفاسق من ابتأر، والفويسق من ابتهر يقال: ابتأرت الجارية إذا قال فعلت بها وهو صادق وابتهرتها إذا قال ذلك وهو كاذب وأنشد الكميت: قبيح بمثلي نعت الفتا ... ة إما ابتهارا وإما ابتئارا (مُعَطَّلَةٍ) متروكة بموت أهلها مع أنها عامرة فيها الماء ومعها آلات الاستقاء. (مَشِيدٍ) : مرتفع مجصص من شاد البناء أي رفعه ويقال شيّد وأتى به في النساء من شيّد لأنه هناك وقع بعد جمع أما هنا فقد وقع بعد مفرد فناسب التخفيف. الإعراب: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم وانه ليس بأوحدي في التكذيب، وإن شرطية ويكذبوك فعل الشرط والواو فاعل والكاف مفعول به، فقد الفاء رابطة للجواب لاتصاله بقد وقد حرف تحقيق وكذبت فعل ماض والتاء تاء التأنيث الساكنة والجملة في محل جزم جواب الشرط وقبلهم ظرف زمان متعلق بكذبت وقوم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 443 نوح فاعل وعاد وثمود معطوفان على قوم وأنّث القوم باعتبار معنى الأمة أو القبيلة ولم يقل قوم عاد وثمود استغناء بشهرتهما بهذين الاسمين. (وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ) عطف على ما تقدم. (وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) وأصحاب مدين عطف وعدل عن قوم شعيب لأن أصحاب مدين أعرق من أصحاب الأيكة في التكذيب فلذلك خصهم بالذكر، وكذب فعل ماض مبني للمجهول وموسى نائب فاعل وخالف في الكلام فلم يقل قوم موسى لأنه لما صدر الكلام بحكاية تكذيبهم ثم عدد أصناف المكذبين وطوائفهم ولم ينته الى موسى إلا بعد طول الكلام حسن تكريره ليلي قوله فأمليت فيتصل المسبب بالسبب كما قال في آية «ق» بعد تعديدهم: «كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ» فربط العقاب والوعيد ووصلهما بالتكذيب بعد أن جدد ذكره، فأمليت: الفاء عاطفة وأمليت فعل وفاعل وللكافرين متعلقان بأمليت. (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وأخذتهم فعل وفاعل ومفعول به، فكيف الفاء عاطفة وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم ونكير اسم كان أي إنكاري فحذفت الياء والنكير مصدر بمعنى الإنكار والتغيير حيث أبدلهم بالنعمة نقمة وبالحياة هلاكا وبالبناء خرابا وسيأتي معنى الاستفهام في باب البلاغة. (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ) الفاء استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد ما تقدم بضرب الأمثلة والشواهد وكأين خبرية ومحلها الرفع على الابتداء ومن قرية تمييز كأين وقد تقدم تحقيقه وجملة أهلكناها من الفعل والفاعل والمفعول به خبر كأين ويجوز نصب كأين على الاشتغال بفعل محذوف يفسره أهلكناها فتكون جملة أهلكناها مفسرة، وهي ظالمة الواو للحال وهي مبتدأ وظالمة خبر والجملة نصب على الحال. (فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 444 وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) الفاء عاطفة وهي مبتدأ وخاوية خبر والجملة معطوفة على جملة أهلكناها وعلى عروشها إما متعلقان بخاوية فيكون المعنى انها ساقطة على سقوفها أي خرت سقوفها على الأرض ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف واما أن يكون خبرا ثانيا لهي كأنه قيل هي خالية وهي على عروشها أي قائمة مطلة على عروشها بمعنى أن السقوف سقطت الى الأرض فصارت في سمت الحيطان وبقيت الحيطان مواثل باهتة مشرفة على السقوف الساقطة وكلا التقديرين جميل ووارد، وبئر عطف على قرية أي وكم من بئر، ومعطلة صفة لبئر وقصر مشيد عطف أيضا وهل هي بئر معينة وقصر معين أم هما واردان مورد المثل، سيأتي الكلام عن هذا كله في باب الفوائد. (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) الهمزة للاستفهام الانكاري إن كانوا قد سافروا أو للحث على السفر ليروا مصارع من تقدمهم، والفاء عاطفة على مقدر يقتضيه المقام أي أغفلوا وأهملوا وسافروا فلم ينتفعوا، ولم حرف نفي وقلب وجزم ويسيروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعله وفي الأرض متعلقان بيسيروا فتكون الفاء للسببية وتكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية ولهم خبر تكون المقدم وقلوب اسمها المؤخر وجملة يعقلون صفة لقلوب وبها متعلقان بيعقلون وأو حرف عطف وآذان عطف على قلوب وجملة يسمعون بها صفة لآذان وواضح أن التفريع على المنفي يوجب النفي أيضا. (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الفاء للتعليل وان واسمها والضمير يعود على القصة أو الشأن وجملة لا تعمى الأبصار خبر ولكن الواو عاطفة ولكن حرف استدراك أهمل لأنه خفف وتعمى القلوب فعل مضارع وفاعل والتي صفة القلوب وفي الصدور متعلقان بمحذوف صلة الموصول وسيأتي سر قوله في الصدور في باب البلاغة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 445 البلاغة: 1- الاستفهام في قوله تعالى «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» معناه التقرير وهو حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه ويماري فيه، ويلجأ الى المكابرة والسفسطة في مخالفته، وقال أبو حيان: «ويصحب هذا الاستفهام معنى التعجب فكأنه قيل ما أشد ما كان انكاري عليهم» وهذا واضح أيضا فالاستفهام إذن للتقرير التعجبي. 2- الانفصال في قوله تعالى «وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» فإن لقائل أن يقول ان القلوب لا تكون إلا في الصدور فأية فائدة في ذكر ما هو متعارف وكائن لأنه معلوم والانفصال عن ذلك أن يقال ان المتعارف ان العمى الحقيقي مكانه البصر لأنه إصابة الحدقة بما يطمس نورها واستعماله في القلب مجاز فلما أريد نقله من الحقيقة الى المجاز كان الكلام بمثابة إثبات ما هو خلاف المتعارف وما هو الأصل فاحتاج الى زيادة تعيين ليتقرر أن العمى مكانه هو القلوب لا الأبصار كما تقول ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك فقوله بين فكيك تقرير لما ادعيته للسانه ونفي المضاء عن السيف وهو المتعارف وهذا من أوابد البيان فافهمه، وجملة الأمر ان الخلل ليس في مشاعرهم فهي سليمة لا عيب فيها وإنما الخلل في عقولهم المرتكسة وأحلامهم المعطلة. الفوائد: البئر المعطلة والقصر المشيد: قيل هما خاصان قال الخطيب الشربيني في تفسيره: «روي أن هذه البئر نزل عليها صالح مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله تعالى من العذاب وهي بحضرموت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 446 وإنما سميت بذلك لأن صالحا حضرها حين مات وثم بلدة عبد البئر اسمها حاضورا بناها قوم صالح وأمّروا عليهم جلهس بن جلاس وأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما وأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان نبيا فقتلوه فأهلكهم الله تعالى وعطل بئرهم وخرب قصورهم والأولى أن تكون البئر عامة وأن يكون القصر عاما أي كم من قرية أهلكناها وكم من بئر عطلناها من سقاتها وكم من قصر مشيد تفرق عنه أهلوه وتحمل عنه ساكنوه. [سورة الحج (22) : الآيات 47 الى 53] وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 447 الإعراب: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ) الواو عاطفة ويستعجلونك فعل مضارع وفاعل ومفعول به وبالعذاب متعلقان بيستعجلونك أي يطلبون عجلتك على سبيل الاستهزاء والواو عاطفة ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويخلف فعل مضارع منصوب بلن والله فاعل ووعده مفعول به. (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) الواو للحال وان واسمها وعند ربك الظرف متعلق بمحذوف حال والكاف خبر إن ومما صفة لسنة وجملة تعدون صلة واقتصر في التشبيه على الألف لأن الألف منتهى العدد بلا تكرار وأيام الشدائد مستطالة على حد قول الشاعر: فقصارهن مع الهموم طويلة ... وطوالهن مع السرور قصار (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) الواو عاطفة قال الزمخشري في كشافه: «فإن قلت لم عطفت الأولى بالفاء وهذه بالواو؟ قلت الأولى وقعت بدلا من قوله «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» وأما هذه فحكمها حكم الجملتين المعطوفتين بالواو أعني قوله «وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ» و «إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» وكأين خبرية في محل رفع مبتدأ ومن قرية في محل نصب تمييز كأين وجملة أمليت لها صفة لقرية والواو حالية وهي مبتدأ وظالمة خبر والجملة في محل نصب على الحال ثم أخذتها عطف على أمليت وإليّ الواو عاطفة أو حالية وإليّ خبر مقدم والمصير مبتدأ مؤخر. (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) يا حرف نداء وأيها منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب على النداء والهاء للتنبيه والناس بدل من أي وإنما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 448 كافة ومكفوفة وأنا مبتدأ ونذير خبر ومبين صفة. (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) الفاء تفريعية والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وعملوا عطف على آمنوا والصالحات مفعول به ولهم خبر مقدم ومغفرة مبتدأ مؤخر ورزق عطف على مغفرة وكريم صفة لرزق وجملة لهم مغفرة خبر الذين. (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) الواو عاطفة والذين مبتدأ وجملة سعوا صلة وفي آياتنا متعلقان بسعوا ومعنى السعي في الآيات إفسادها وتزييفها وإبطالها يقال سعيت في أمر فلان إذا أصلحته أو أفسدته بهذا السعي ومعاجزين حال أي مسابقين في زعمهم وتقديرهم قد سولت لهم أنفسهم أنهم يستطيعون إبطالها وصرف الناس عن اتباعها فالمفاعلة لا تخلو من معنى الظن والاعتقاد بالنسبة إليهم، وأولئك مبتدأ وأصحاب الجحيم خبره والجملة خبر الذين. (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في تسلية ثانية للنبي صلى الله عليه وسلم، وما نافية وأرسلنا فعل وفاعل ومن قبلك متعلقان بأرسلنا ومن لابتداء الغاية ومن رسول من زائدة ورسول مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به لأرسلنا ولا نبي عطف على من رسول وإلا أداة حصر وإذا ظرف مستقبل وجملة تمنى في محل جر بإضافة الظرف وجملة ألقى الشيطان لا محل لها والجملة الشرطية بعد إلا تحتمل وجوها أرجحها أن تكون في محل جر صفة لرسول على اللفظ والنصب على المعنى ويجوز أن تكون حالا ولك أن تجعل الاستثناء منقطعا فتكون إلا أداة استثناء والجملة نصب على الاستثناء وفي أمنيته متعلقان بألقى وسيأتي معنى هذا الإلقاء وقصة سبب النزول في باب الفوائد، وقد استشكل أبو حيان مجيء جملة ظاهرها الشرط بعد إلا وهو إذا تمنى ألقى، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 449 وأجاب عن ذلك بأن إذا جردت للظرفية ولا شرط فيها وفصل بها بين إلا والفعل الذي هو ألقى وهو فصل جائز فيكون إلا قد وليها ماض في التقدير ووجه شرط وهو تقدم فعل قبل إلا وهو أرسلنا قال ابن هشام: والذي يظهر انما هو فيما إذا ولي إلا لفظ الفعل وهذا لم يقع في الآية فلا إشكال ولا حاجة لتأويل إذا بأنها خرجت عن الشرطية. (فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الفاء استئنافية وينسخ الله فعل مضارع وفاعل وما مفعول به وجملة يلقي الشيطان صلة ثم حرف عطف ويحكم الله فعل وفاعل وآياته مفعول به والله عليم حكيم جملة اعتراضية مؤلفة من مبتدأ وخبريه. (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) اللام للتعليل والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة وهي متعلقة بيحكم أي ثم يحكم الله آياته ليجعل ويجوز أن تتعلق بينسخ وما موصولية أو مصدرية وهي على كل حال مفعول به أول وجملة يلقي الشيطان صلة وفتنة مفعول به ثان وللذين صفة لفتنة وفي قلوبهم خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر والجملة صلة للذين والقاسية عطف على الذين وقلوبهم فاعل القاسية ومن المفيد أن نذكر أن ال في القاسية موصولة والقاسية صفتها وأنثها لأن مرفوعها وهو قلوبهم مؤنث مجازي. (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) الواو حالية أو استئنافية وإن واسمها واللام المزحلقة وفي شقاق خبرها وبعيد صفة لشقاق. الفوائد: أسطورة الغرانيق: نعرض الآن لمسألة شغلت علماء المسلمين في القديم والحديث، واستأثرت باهتمام الكثيرين منهم لخطورتها، وجسامة ما تنطوي عليه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 450 من أمور لا يجوز للباحث أن يمرّ بها مرور الراكب العجلان، فهي تمسّ جوهر العقيدة، وتتعلق بعصمة صاحب الرسالة، فإلقاء الكلام على عواهنه فيها من غير تمعن ولا تمحيص لا يجوز بحال وسنعمد الى سرد الأسطورة على علاتها وكما نقلها المفسرون من غير تفنيد لها أو اثارة للشكوك حولها، وكثر تناقلها حتى أصبحت حديث السمر تروّح به النفس ويزجى بها الفراغ والناس بطبعهم ميالون الى كل غريب وهذه هي الاسطورة: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعراض قومه عنه، لعيبه أصنامهم وزرايته بآلهتهم، أخذه الضجر من هذا الإعراض، ولحرصه على إسلامهم وتهالكه عليه تمنى أن لا ينزل عليه ما ينفرهم لعله يتخذ ذلك طريقا الى استمالتهم واستنزالهم عن غيهم وعنادهم فاستمر به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى» وهو في نادي قومه وذلك التمني في نفسه فأخذ يقرؤها فلما بلغ قوله: «وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» «أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» التي تمناها بأن وسوس له بما شيعها به فسبق لسانه على سبيل السهو والغلط الى أن قال: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، وروى الغرانقة ولم يفطن له حتى أدركته العصمة فتنبه اليه وقيل نبهه جبريل عليه السلام أو تكلم الشيطان بذلك فأسمعه الناس فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي وطابت نفوسهم وكان تمكين الشيطان من ذلك محنة من الله وابتلاء زاد المنافقون به شكا وظلمة والمؤمنون نورا وإيقانا. وفيما يلي طائفة من أقوال العلماء والمفسرين فقال الرازي ما خلاصته: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 451 هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم تكلم في أن رواة هذه القصة مطعونون وأيضا فقد روى البخاري في صحيحه أنه عليه الصلاة والسلام قرأ سورة النجم وسجد معه المسلمون والمشركون والانس والجن وليس فيه حديث الغرانيق بل روي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها البتة حديث الغرانيق ولا شك أن من جوز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان ولو جوّزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك أي مما ألقاه الشيطان على لسانه ويبطل قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» فانه لا فرق في العقل بين النقصان من الوحي وبين الزيادة فيه فبهذه الوجوه النقلية والعقلية عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة وقد قيل: إن هذه القصة من وضع الزنادقة لا أصل لها. اهـ كلام الرازي. أما شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني شارح البخاري فقد نبه في فتح الباري على البخاري على ثبوت أصلها وقال سامحه الله: «أخرج ابن أبي حاتم والطبري وابن المنذر من طرق عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة والنجم فلما بلغ: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» ألقى الشيطان على لسانه: «تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى» فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فلما ختم السورة سجد وسجدوا فكبر ذلك على النبي فنزل تسلية له «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» أي في قراءته بين كلماته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 452 وأخرجه البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة فقال في إسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب ثم ساق الحديث المذكور وقال البزار: لا يروى إلا متصلا بهذا الاسناد وتفرد بوصله أمية بن خالد وهو ثقة مشهور. وأوردها الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس. ومعناهم كلهم في ذلك واحد وكل من طرقها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف وإما منقطع ولكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلا مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيح، أحدهما ما أخرجه الطبري عن طريق يونس بن زيد عن ابن شهاب، حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فذكر نحوه، والثاني ما أخرجه من طريق المعتمر بن سليمان وحماد بن سلمة كلاهما عن داود بن أبي هند عن أبي العالية. وقال ابن حجر العسقلاني في معرض رده على القاضي أبي بكر ابن العربي: «وقد تجرأ ابن العربي كعادته فقال: ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة لا أصل لها وهو إطلاق مردود عليه وكذا قول القاضي عياض: هذا الحديث لم يخرجه أهل الصحة ولا رواة ثقة بسند سليم متصل مع ضعف نقلته واضطراب رواياته وانقطاع أسانيده وكذا قول عياض أيضا: ومن حكيت عنه هذه القصة من التابعين والمفسرين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها الى صحابي وأكثر الطرق عنهم في ذلك ضعيفة واهية فهذا مردود أيضا. وتتمة كلام القاضي عياض تدل على مدى تحرره من غائلة التقليد ومحاولته تمحيص الحقائق قال: «وقد بين البزاز أن الحديث لا يعرف طريق يجوز ذكره إلا من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير مع الشك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 453 الذي وقع في وصله وأما الكلبي فلا تجوز الرواية عنه لقوة ضعفه ثم رده من طريق النظر بأن ذلك لو وقع لارتد كثير ممن أسلم قال: ولم ينقل ذلك» . قال الحافظ بن حجر: «وجميع ذلك لا يتمشى مع قواعد المحدثين فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دلّ ذلك على أن لها أصلا وقد ذكرنا أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتجّ بالمرسل وكذا من لا يحتجّ به لاعتضاد بعضها ببعض وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر وهو قوله: ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلا وان شفاعتهن لترتجى، فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه وسلم أن يزيد في القرآن عمدا ما ليس فيه وكذا سهوا إذ كان مغايرا لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته» ومضى قائلا: «وقد سلك العلماء في ذلك التأويل مسالك نحو السبعة فقيل جرى ذلك على لسانه حين أصابته سنة من النوم وهو لا يشعر فلما أعلمه الله بذلك أحكم آياته وهذا أخرجه الطبري عن قتادة» . ورد القاضي عياض بأنه لا يصح لكونه لا يجوز على النبي ذلك ولا ولاية للشيطان عليه في النوم. وقيل: ان الشيطان ألجأه الى أن قال ذلك بغير اختيار. ورده ابن العربي بقوله تعالى حكاية عن الشيطان «وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ... الآية» قال: فلو كان للشيطان قوة على ذلك لما بقي لأحد قوة على طاعة. وقيل: ان المشركين كانوا إذا ذكروا آلهتهم وصفوها بذلك فعلق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 454 ذلك بحفظه صلى الله عليه وسلم فجرى على لسانه سهوا. وقد رد القاضي عياض ذلك فأجاد. وقيل: لعله قال ذلك توبيخا للكفار، قال القاضي عياض وهذا جائز إذا كان هناك قرينة تدل على المراد ولا سيما وقد كان الكلام في ذلك الوقت في الصلاة جائزا والى هذا نحا الباقلاني. وقيل: انه لما وصل الى قوله «وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» خشي المشركون أن يأتي بعدها بشيء يذم آلهتهم به كعادته إذا ذكرها فبادروا الى ذلك الكلام فخلطوه في تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم على عادتهم في قولهم: «لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ» أي أظهروا اللغو برفع الأصوات تخليطا وتشويشا عليه ونسب ذلك الى الشيطان لكونه الحامل لهم عليه أو المراد بالشيطان شيطان الانس. وقيل: المراد بالغرانيق العلا الملائكة وكان الكفار يقولون: الملائكة بنات الله ويعبدونها فنسق ذكر الكل ليرد عليهم بقوله «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى» فلما سمعه المشركون حملوه على الجميع وقالوا قد عظم آلهتنا ورضوا بذلك فنسخ تينك الكلمتين وهما قوله: تلك الغرانيق العلا، وان شفاعتهن لترتجى وأحكم آياته. وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن فترصّده الشيطان في سكتة من السكتات ونطق بتلك الكلمات محاكيا صوت النبي صلى الله عليه وسلم بحيث سمعه من دنا اليه فظنها من قول النبي وأشاعها. قال القاضي عياض وهذا أحسن الوجوه وهو الذي يظهر ترجيحه ويؤيده ما روي عن ابن عباس في تفسير تمنى بتلا وكذا استحسن ابن العربي هذا التأويل وقال: معنى قوله في أمنيته أي في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 455 تلاوته فأخبر تعالى في هذه الآية أن سنة الله في رسله إذا قالوا قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه فهذا نصّ في أن الشيطان زاد في قول النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله لأنه معصوم. قال في فتح الباري: «وقد سبق الى ذلك الطبري مع جلالة قدره وسعة علمه وشدة ساعده في النظر فصوب هذا المعنى» اهـ. ما ما ورد في صحيح البخاري بصدد هذه القصة فهو: «وقال ابن عباس في «إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته، ويقال أمنيته قراءته «الأماني يقرءون ولا يكتبون» فتراه حكى تفسير الأمنية بالقراءة بلفظ يقال بعد ما فسرها في الحديث رواية عن ابن عباس، وهذا يدل على المغايرة بين التفسيرين، فما يدعيه الشراح أن الحديث في رأي ابن عباس بمعنى التلاوة يخالف ظاهر العبارة، ثم حكايته تفسير الامنية بمعنى القراءة بلفظ يقال يفيد انه غير معتبر عنده وسيأتي ان المراد بالحديث حديث النفس. وقال القسطلاني في شرح البخاري: «وقد طعن في هذه القصة غير واحد من الأئمة حتى قال ابن اسحق وقد سئل عنها: هي من وضع الزنادقة» وكفى في انكار حديث أن يقول فيه ابن اسحق أنه من وضع الزنادقة مع حال ابن اسحق المعرفة عند المحدثين. وهذا نص ما قاله القاضي عياض: «والذي ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ والنجم» وهو بمكة فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس وقد يكون ذلك لبلاغة السورة وشدة قرعها وعظم وقعها» ثم قال القاضي: «قد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن هذه الرذيلة» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 456 أما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله وهو كفر أو أن يتسوّد عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه وحتى يفهمه جبريل عليه السلام وذلك كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمدا وذلك كفرا وسهوا وهو معصوم من هذا كله وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته صلى الله عليه وسلم من جريان الكفر على لسانه أو قلبه لا عمدا ولا سهوا أو أن يشتبه عليه ما يلقيه الملك بما يلقي الشيطان أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يتقول على الله- لا عمدا ولا سهوا- ما لم ينزل عليه وقد قال الله تعالى: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ» وقال «إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً» . ووجه ثان وهو استحالة هذه القصة نظرا وعرفا وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روي لكان بعيد الالتئام متناقض الأقسام ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف والنظم ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم ومن بحضرته من المسلمين، وصناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك وهذا لا يخفى على أدنى متأمل فكيف بمن رجح حلمه واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه. ووجه ثالث انه علم من عادة المنافقين، ومعاندة المشركين، وضعفة القلوب والجهلة من المسلمين نفورهم لأول وهلة وتخليط العدو على النبي صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة، وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة، ولم يحك أحد في هذه القصة شيئا سوى هذه الرواية الضعيفة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 457 الأصل، ولو كان ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة، ولأقامت اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا مكابرة في قصة الإسراء، ولا فتنة أعظم من هذه البلية لو وجدت، ولا تشغيب للمعادي حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت، وما ورد عن معاند فيها كلمة ولا عن مسلم بسببها بنت شفة فدل على بطلها، واجتثاث أصلها، ولا شك في إدخال بعض شياطين الانس والجن هذا الحديث على بعض مغفلي المحدثين، ليلبس به على بعض ضعفاء المسلمين. ووجه رابع: ذكر الرواة لهذه القصة أن فيها نزلت: «وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» الآيتان، هاتان الآيتان تردّان الخبر الذي رووه لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري ولولا أن ثبته لكاد يركن إليهم شيئا قليلا، فمضمون هذا ومفهومه أن الله عصمه من أن يفتري وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا فكيف كثيرا وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم وانه صلى الله عليه وسلم قال: افتريت على الله وقلت ما لم يقل وهي تضعف الحديث لو صح فكيف ولا صحة له؟ وهذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ» قال القشيري: ولقد طالبته قريش وثقيف إذ مرّ بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها ووعدوه الإيمان به إن فعل فما فعل ولا كان ليفعل، قال ابن الانباري: «ما قارب الرسول ولا ركن» . أما ما ذكره ابن حجر من أن القصة رويت مرسلة من ثلاث طرق على شرط الصحيح وانه يحتج بها إلخ ما سبق فقد ذهب عليه أن العصمة من العقائد التي يطلب فيها اليقين فالحديث الذي يفيد خرمها ونقضها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 458 لا يقبل على أي وجه جاء وقد عد الأصوليون الخبر الذي يكون على تلك الصفة من الأخبار التي يجب القطع بكذبها، هذا لو فرض اتصال الحديث فما ظنك بالمراسيل؟ وانما الخلاف في الاحتجاج بالمرسل وعدم الاحتجاج به فيما هو من قبيل الأعمال وفروع الأحكام لا في أصول العقائد ومعاقد الإيمان بالرسل وما جاءوا به فهي هفوة من ابن حجر يغفرها الله له. وقد استغل بروكلمان المستشرق الألماني الشهير هذه الرواية فنقلها بأمانة واعتبرها من المسائل المفروغ من إثباتها وذلك في كتابه «تاريخ الشعوب الاسلامية» الذي أخرجه للناس عام 1939 للميلاد فقال في الحديث عن محمد: «ولكنه على ما يظهر اعترف في السنوات الأولى من بعثته بآلهة الكعبة الثلاث اللواتي كان مواطنوه يعتبرونها بنات الله ولقد أشار إليهن في احدى الآيات الموحاة اليه بقوله: تلك الغرانيق العلى، وان شفاعتهن ترتجى، أما بعد ذلك حين قوي شعور النبي بالوحدانية فلم يعترف بغير الملائكة شفعاء عند الله، وجاءت السورة الثالثة والخمسون وفيها إنكار لأن تكون الآلهة الثلاث بنات الله، ولم يستطع التقليد المتأخر أن يعتبر ذلك التسليم إلا تحولا أغراه به الشيطان ولذلك أرجئت حوادثه إلى أشد الأوقات ضيقا في مكة ثم ما لبث أن أنكره وتبرأ منه في اليوم التالي» هذا ما ذكره بروكلمان وهو ينضح بالتعصب وينادي على نفسه بالافتئات ولم يقتصر الأمر على بروكلمان وحده فكثير من المبشرين وبعض المستشرقين تشبثوا بهذه الرواية وزعموا أن الرسول فعل ذلك لما قاومه المشركون بمكة فأحب أن يتقرب منهم فمدح آلهتهم ثم عدوا عمله هذا تراخيا عن تشدده في التوحيد ومهاجمة الأصنام، هذا وقد تصدى لهم كثيرون من علماء المسلمين في العصر الحديث ففندوا افتراءاتهم وطوحوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 459 بأراجيفهم، وحسبنا أن نلمع الى اثنين من كبار هؤلاء العلماء ملخصين ما قالاه ضاربين صفحا عن التطويل فيما لا يتفق مع منهاج الكتاب. خلاصة ما كتبه العالم الهندي محمد علي: «إن هذه الرواية وردت عند الواقدي وعند الطبري ومع ذلك فانها لا ظل لها من الحقيقة فإن كل عمل من أعمال رسول الله مناقض لمثل هذا الاتجاه، أضف الى ذلك أن الواقدي معروف بسرد الاسرائيليات وبسرد الخرافات وكذلك الطبري معروف بالجمع الكثير واستقصاء الروايات مهما كان حظها من الصحة، على أننا لو رجعنا الى رواية محمد ابن اسحق أو الى صحيح البخاري وهو الذي لم يغادر من حياة الرسول شيئا إلا ذكره لم نر لقصة الغرانيق أثرا وابن اسحق جاء قبل الواقدي بأربعين سنة وقبل الطبري بنحو مائة وخمسين سنة أو تزيد، أما البخاري فقد كان معاصرا للواقدي ومع ذلك لم يذكر هذه القصة ثم ان الواقدي معروف عند المحدثين بأنه يضع الأحاديث وانه غير ثقة فيما يروي وكذلك لم يذكرها أحد من رواة الحديث. وإذا عدنا الى قراءة الآيات نفسها بالتسلسل وجدناها: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى» فليس من المعقول أن تحشر بين هذه الآيات المتتالية آية مناقضة لها في أصل العقيدة الاسلامية وصلب دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وهنا لك تفاصيل كثيرة في نقض هذه الرواية لا جدوى من ذكرها» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 460 هذا ما ذكره العالم الهندي مولانا محمد علي وهو كاف في الرد على هؤلاء المستشرقين الذين ينظرون الى نبوة محمد نظرة مادية مجردة من الإيحاء الإلهي وما ذلك إلا من قبيل التعصب الديني المبني على عداء سياسي انهم ينكرون أن يكون محمد ذا نبوة صحيحة بينما هم يقرون بهذه النبوة نفسها لجميع أنبياء بني إسرائيل. خلاصة البحث الجليل الذي كتبه الامام محمد عبده: والآن آن لنا أن نلخص البحث الممتع الذي كتبه الامام الشيخ محمد عبده وفيه قطعت جهيزة قول كل خطيب: «لا يخفى على كل من يفهم العربية وقرأ شيئا من القرآن أن قوله تعالى «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ... الآيات» يحكي قدرا قدر للمرسلين كافة لا يعدونه ولا يقفون دونه ويصف شنشنة عرفت فيهم وفي أممهم فلو صح ما قال أولئك المفسرون لكان المعنى أن جميع الأنبياء والمرسلين قد سلط الشيطان عليهم فخلط في الوحي المنزل إليهم ولكنه بعد هذا الخلط ينسخ الله كلام الشيطان ويحكم الله آياته وهذا من أقبح ما يتصور متصور في اختصاص الله تعالى لأنبيائه واختيارهم من خاصة أوليائه فلندع هذا الهذيان ولنعد الى ما نحن بصدده» وبعد أن أفاض الأستاذ الامام في ذكر الله لنبيه أحوال الأنبياء والمرسلين قبله ليبين له سنته فيهم وانه لم يبعث واحد منهم في أمة إلا كان له خصوم يؤذونه بالتأويل والتحريف قال «فعلى هذا المعنى الذي يتفق مع ما لقيه الأنبياء جميعا يجب أن تفسر الآية وذلك يكون على وجهين: الأول: أن يكون تمنى بمعنى قرأ والأمنية بمعنى القراءة وهو معنى قد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 461 يصح وقد ورد استعمال اللفظ فيه قال حسان بن ثابت في عثمان رضي الله عنهما: تمنى كتاب الله أول ليلة ... وآخره لاقى حمام المقادر غير أن الإلقاء لا يكون على المعنى الذي ذكروه بل على المعنى المفهوم من قولك: ألقيت في حديث فلان إذا أدخلت فيه ما ربما يحتمله لفظه ولا يكون قد أراده أو نسبت اليه ما لم يقله تعللا بأن ذلك الحديث المذكور يؤدي اليه وذلك من عمل المعاجزين الذين ينصبون أنفسهم لمحاربة الحق، يتبعون الشبهة، ويسعون وراء الريبة، فالإلقاء بهذا المعنى دأبهم ونسبة الإلقاء الى الشيطان لأنه مثير الشبهات بوساوسه مفسد القلوب بدسائسه، وكل ما يصدر من أهل الضلال ينسب اليه ويكون المعنى: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا حدث قومه عن ربه أو تلا وحيا أنزل اليه فيه هدى لهم قام في وجهه مشاغبون يحولون ما يتلوه عليهم عن المراد منه ويتقولون عليه ما لم يقله، وينشرون ذلك بين الناس ليبعدوهم عنه ويعدلوا بهم عن سبيله ثم يحق الله الحق ويبطل الباطل، ولا زال الأنبياء يصبرون على ما كذبوا وأوذوا ويجاهدون في الحق ولا يعتدون بتعجيز المعجزين ولا بهزء المستهزئين الى أن يظهر الحق بالمجاهدة، وينتصر على الباطل بالمجالدة فينسخ الله تلك الشبهة ويجتثها من أصولها ويثبت آياته ويقررها وقد وضع الله هذه السنة في الناس ليتميز الخبيث من الطيب فيفتتن الذين في قلوبهم مرض وهم ضعفاء العقول بتلك الشبه والوساوس فينطلقون وراءها ويفتتن بها القاسية قلوبهم من أهل العناد والمجاحدة فيتخذونها سندا يعتمدون عليه في جدلهم ثم يتمحص الحق عند الذين أوتوا العلم، ويخلص لهم بعد ورود كل شبهة عليه فيعلموا انه الحق من ربك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 462 فيصدقوا به فتخبت وتطمئن قلوبهم والذين أوتوا العلم هم الذين رزقوا قوة التمييز بين البرهان القاطع الذي يستقر بالعقل في قرارة اليقين وبين المغالطات وضروب السفسطة التي تطيش بالفهم، وتطير به مع الوهم، وتأخذ بالعقل تارة ذات الشمال وأخرى ذات اليمين. الثاني: ان التمني على معناه المعروف وكذلك الأمنية وهي أفعولة بمعنى المنية وجمعها أماني كما هو مشهور وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: التمني حديث النفس بما يكون وبما لا يكون والتمني سؤال الرب وفي الحديث: «إذا تمنى أحدكم فليتكثر فإنما يسأل ربه» وفي رواية فليكثر، قال ابن الأثير: التمني تشهي حصول الأمر المرغوب فيه وحديث النفس بما يكون وما لا يكون. وقال أبو بكر: تمنيت الشيء إذا قدرته وأحببت أن يصير لي، وكل ما قيل في معنى التمني على هذا الوجه فهو يرجع الى ما ذكرنا ويتبعه معنى الأمنية. ما أرسل الله من رسول ولا نبي ليدعو قوما الى هدى جديد أو شرع سابق شرعه لهم ويحملهم على التصديق بكتاب جاء به نفسه إن كان رسولا أو جاء به عيره ان كان نبيا بعث ليحمل الناس على اتباع من سبقه إلا وله أمنية في قومه وهي أن يتبعوه وينحازوا الى ما يدعوهم اليه وما يستشفوا من دائهم بدوائه، ويعصوا أهواءهم بإجابة ندائه، وما من رسول أرسل إلا وقد كان أحرص على إيمان أمته وتصديقهم برسالته منه على طعامه الذي يطعم وشرابه الذي يشرب وسكنه الذي يسكن اليه ويغدو عنه ويروح عليه وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك في المقام الأعلى والمكان الأسمى قال الله تعالى: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» وقال: «وما أكثر الناس ولو حرصت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 463 بمؤمنين» وقال: «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» وفي الآيات مما يطول سرده مما يدل على أمانيه صلى الله عليه وسلم المتعلقة بهداية قومه وإخراجهم من ظلمات ما كانوا فيه الى نور ما جاء به، وما من رسول ولا نبي إذا تمنى هذه الأمنية السامية إلا ألقى الشيطان في سبيله العثرات وأقام بينه وبين مقصده العقبات ووسوس في صدور الناس وسلبهم الانتفاع بما وهبوا من قوة العقل والإحساس فثاروا في وجهه وصدوه عن قصده وعاجزوه حتى لقد يعجزونه، وجادلوه بالقول والسلاح حتى لقد يقهرونه، فإذا ظهروا عليه والدعوة في بدايتها وسهل عليهم إيذاؤه وهو قليل الأتباع ضعيف الأنصار ظنوا الحق من جانبهم وكان فيما ألقوه من العوائق بينه وبين ما عمد اليه فتنة لهم، غلبت سنة الله في أن يكون الرسل من أواسط قومهم أو من المستضعفين فيهم ليكون العامل في الإذعان بالحق محض الدليل، وقوة البرهان، وليكون الاختيار المطلق هو الحامل لمن يدعى اليه على قبوله ولكيلا يشارك الحق الباطل في رسائله ويشاركه في نصب شراكه وحبائله أنصار الباطل في كل زمان، هم أهل القوة والأنفة والجاه والاعتزاز بالأموال والأولاد والعشيرة والأعوان والغرور بالزخارف، والزهو بكثرة المعارف، وتلك الخصال انما تجتمع كلها أو بعضها في الرؤساء وذوي المكانة من الناس فتذهلهم عن أنفسهم وتصرف نظرهم عن سبيل رشدهم، فإذا دعا الى الحق داع عرفته القلوب النقية من أوضار هذه الفواتن، وفزعت اليه النفوس الصافية والعقول المستعدة لقبوله بخلوصها من هذه الشواغل، وقلما توجد الا عند الضعفاء وأهل المسكنة فإذا التف هؤلاء حول الداعي، وظاهروه على دعوته قام أولئك المغرورون يقولون: «ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 464 فإذا استدرجهم الله على سنته وجعل الجدال بينهم وبين المؤمنين سجالا افتتن الذين في قلوبهم مرض من أشياعهم، وافتتنوا بما أصابوا من الظفر في دفاعهم ولكن الله غالب على أمره فيمحق ما ألقاه الشيطان من هذه الشبهات ويرفع هذه الموانع وتلك العقبات ويهب السلطان لآياته فيحكمها ويثبت دعائمها وينشىء من ضعف أنصارها قوة، ويخلف لهم من ذلهم عزة وتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الشيطان هي السفلى «فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض» . خاتمة هامة للأستاذ الامام: «ولو صح ما قاله نقلة قصة الغرانيق لارتفعت الثقة بالوحي وانتقض الاعتماد عليه كما قاله البيضاوي وغيره ولكان الكلام في الناسخ كالكلام في المنسوخ يجوز أن يلقي الشيطان فيه ما يشاء ولا نهدم أعظم ركن للشرائع الإلهية وهو العصمة وما يقال من المخرج في ذلك ينفر منه الذوق ولا ينظر اليه العقل على أن وصف العرب لآلهتهم بأنها الغرانيق العلى لم يردلا في نظمهم ولا في خطبهم ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جاريا على ألسنتهم إلا ما جاء في معجم ياقوت غير مسند ولا معروف بطريق صحيح وهذا يدل على أن القصة من اختراع الزنادقة كما قال ابن اسحق وربما كانت منشأ ما أورده ياقوت ولا يخفى أن الغرنوق والغرنيق لم يعرف في اللغة إلا اسما لطائر مائي أسود أو أبيض أو هو اسم الكركي أو طائر يشبهه، والغرنيق بالضم كزنبور وقنديل وسموءل وفردوس وقرطاس وعلابط معناه الشاب الأبيض الجميل وتسمى الخصلة من الشعر المفتلة الغرنوق كما يسمى به ضرب من الشجر ويطلق الغرنوق والغرانق على ما يكون في أصل العوسج اللين النبات ولا يقال لمة غرانقة وغرانقية أي ناعمة تضيئها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 465 الريح أو الغرنوق الناعم المستتر من النبات إلخ ولا شيء من هذه المعاني يلائم الإلهام والأصنام حتى يطلق عليها في فصيح القول الذي يعرض على ملوك البلاغة وأمراء الكلام فلا أظنك تعتقد إلا أنها من مفتريات الأعاجم ومختلقات الملبسين ممن لا يميز بين حر الكلام، وما استعبد منه لضعفاء الأحلام، فراج ذلك على من يذهله الولوع بالرواية، عما تقتضيه الدراية، «ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب» . [سورة الحج (22) : الآيات 54 الى 60] وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 466 الإعراب: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ) الواو عاطفة وليعلم عطف على ليجعل وقد تقدم تعليق ليجعل والذين فاعل وجملة أوتوا العلم صلة والعلم مفعول به ثان لأوتوا وأنه الحق سدت مسد مفعولي يعلم ومن ربهم حال فيؤمنوا عطف على يعلم وبه متعلقان بيؤمنوا. (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فتخبت عطف على فيؤمنوا به وله متعلقان بتخبت أي تطمئن له قلوبهم وقلوبهم فاعل والواو استئنافية وان واسمها ولهاد اللام المزحلقة وهاد خبر إن والذين مفعول هاد لأنه اسم فاعل وجملة آمنوا صلة والى صراط مستقيم متعلقان بهاد. (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) الواو عاطفة على ما تقدم ليستكمل شرح حال الكافرين ويستوفيها ولا يزال فعل مضارع ناقص والذين كفروا اسمها وفي مرية خبرها ومنه صفة لمرية وهي بكسر الميم وضمها والضمير يعود الى القرآن أو الى الرسول أو الى ما ألقاه الشيطان. (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) حتى حرف غاية وجر وتأتيهم مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والهاء مفعول به والساعة فاعل وبغتة حال وأو حرف عطف ويأتيهم عطف على تأتيهم وعذاب يوم فاعل وعقيم صفة. (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) الملك مبتدأ ويومئذ ظرف مضاف الى مثله وهو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر وهو لله والتنوين عوض عن محذوف تقديره يوم يؤمنون أو يوم تزول حربتهم وجملة يحكم بينهم مستأنفة كأنها وقعت جوابا لسؤال مقدر تقديره ماذا يصنع بهم فقيل يحكم بينهم ولا يبعد أن تكون حالا من اسم الله والظرف متعلق بيحكم. (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) الفاء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 467 عاطفة للتفريع والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وجملة وعملوا الصالحات عطف على جملة آمنوا وفي جنات النعيم خبر. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) والذين مبتدأ أيضا وجملة كفروا صلة وجملة كذبوا بآياتنا عطف على جملة كفروا فأولئك الفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم وعذاب مهين مبتدأ مؤخر والجملة خبر أولئك وجملة أولئك إلخ خبر الذين. (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً) (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً) قتلوا أو ماتوا عطف على قتلوا، ليرزقنهم اللام موطئة للقسم ويرزقنهم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والهاء مفعول به والله فاعل ورزقا مفعول مطلق وحسنا صفة والجملة القسمية وجوابها خبر الذين وهذا أولى من تقدير خبر. (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وهو مبتدأ وخير الرازقين خبر هو والجملة خبر إن. (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) اللام موطئة للقسم وجملة يدخلنهم جواب القسم وجملة القسم وجوابه بدل من الجملة القسمية الأولى أو هي مستأنفة والهاء مفعول به ومدخلا مفعول مطلق لأنه مصدر ميمي وجملة يرضونه صفة لمدخلا، وان الله لعليم حليم الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وعليم حليم خبر ان لإن. (ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) ذلك خبر مبتدأ محذوف وقد تقدم اعراب نظيره والواو استئنافية ومن اسم شرط جازم أو موصوله مبتدأ وعاقب فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وبمثل متعلقان بعاقب وما موصول مضاف اليه وجملة عوقب به صلة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 468 (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) ثم بغي عليه عطف على عاقب واللام موطئة للقسم والجملة القسمية خبر من وجملة ان الله لعفو غفور تعليلية لا محل لها. البلاغة: (يَوْمٍ عَقِيمٍ) : استعارة مكنية فقد شبه ما لا خير فيه من الزمان بالنساء العقم أو لأن يوم الحرب يقتل فيه أولاد النساء فيصرن كأنهن عقم لم يلدن. [سورة الحج (22) : الآيات 61 الى 65] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 469 الإعراب: (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) الجملة مستأنفة لتقرير قدرته تعالى على النصر وان من قدر على إيلاج الليل والنهار وإيلاج النهار في الليل وغير ذلك من روائع قدرته قادر ولا شك على النصر، وذلك مبتدأ والاشارة الى النصر الموعود وبأن الله خبره والباء للسببية وجملة يولج الليل في النهار خبر ان وجملة ويولج النهار في الليل عطف على الجملة الاولى وان الله سميع بصير عطف أيضا على بأن الله إلخ ومعنى إيلاج الليل في النهار وبالعكس تحصيل ظلمة هذا في مكان ضياء ذاك وبالعكس. (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) جملة مستأنفة ثانية لتقرير دليل آخر الى جانب الدليل الاول وهو القدرة على جميع الممكنات وهو كونه تعالى حقا ثابتا وما عداه معدوم وزائل وذلك مبتدأ وبأن خبر والله اسم ان وجملة هو الحق من المبتدأ والخبر خبر أن. (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) عطف على ما تقدم وقوله من دونه متعلقان بمحذوف حال. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره أنت وان وما في حيزها سدت مسد مفعولي تر لأنها علمية كما سيأتي وجملة أنزل خبر أن ومن السماء متعلقان بأنزل وماء مفعول به، فتصبح الفاء عاطفة لا سببية لأن الاستفهام تقريري كما قدمنا مؤول بالخبر أي قد رأيت والخبر لا جواب له وأيضا لا تصح السببية هنا فإن الرؤية لا يتسبب عنها اخضرار الأرض بل انما يوجبه إنزال الماء بعد أن تصبح وسيأتي مزيد تفصيل لهذه النكت البلاغية في باب البلاغة، فتصبح الفاء عاطفة وتصبح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 470 معطوف على أنزل وهو فعل مضارع ناقص وسيأتي سر المخالفة في عطف المضارع على الماضي والأرض اسم تصبح ومخضرة خبرها، واختار أبو البقاء أن تكون تصبح تامة والأرض فاعلا ومخضرة حالا. (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) الجملة تعليل لما تقدم وان واسمها وخبراها. (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) الجملة حالية أو مستأنفة وله خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة ما وما في الأرض عطف على ما في السموات وان الله الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وهو الغني مبتدأ وخبر والجملة خبر إن والحميد خبر ثان لهو. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر مضارع مجزوم بلم وأن الله مفعول تر وجملة سخر خبر أن ولكم متعلقان بسخر وما مفعول سخر وفي الأرض صلة ما والفلك عطف على ما أي سخر لكم ما في الأرض وسخر لكم الفلك وجملة تجري حال من الفلك وفي البحر متعلقان بتجري وبأمره حال (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) الواو عاطفة ويمسك فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو والسماء مفعول به وأن تقع المصدر المؤول في محل نصب مفعول لأجله فالبصريون يقدرون كراهة أن يقع والكوفيون لئلا تقع واختار أبو البقاء وغيره أن تكون بدل اشتمال من السماء أي ويمسك وقوعها بمعنى يمنعه وعلى الأرض متعلقان بتقع وإلا أداة حصر لأن الكلام غير موجب أو في قوة النفي أي لا يتركها تقع في حالة من الأحوال فهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال فقوله باذنه متعلقان بمحذوف حال أي ملتبسة بمشيئته تعالى واذنه والباء للملابسة. (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) الجملة تعليلية وان واسمها وبالناس متعلقان برءوف واللام المزحلقة ورءوف خبر أول ورحيم خبر ثان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 471 البلاغة: في قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً» عطف المضارع المستقبل على الماضي ولم يقل فأصبحت عطفا على أنزل وذلك لإفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان فانزال الماء مضى وجوده واخضرار الأرض باق لم يمض وهذا كما تقول أنعم على فلان فأروح وأغدو شاكرا له ولو قلت فرحت وغدوت شاكرا له لم يقع ذلك الموقع لأنه يدل على ماض قد كان وانقضى وهذا موضع جدير بالتأمل. والسؤال الوارد هنا لم لم ينصب فتصبح جوابا للاستفهام؟ والجواب لو نصب لأعطى عكس ما هو الغرض لأن معناه اثبات الاخضرار فينقلب بالنصب الى نفي الاخضرار مثاله أن تقول لصاحبك: ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه فيه وان رفعته فأنت مثبت للشكر. قال سيبويه: وسألته (يعني الخليل) عن «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً» فقال هذا واجب وهو تنبيه كأنك قلت أتسمع أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا» قال ابن خروف في شرح كتاب سيبويه: «وقوله فقال هذا واجب وقوله فكان كذا يريد أنهما ماضيان وفسر الكلام بأن تسمع ليريك أنه لا يتصل بالاستفهام لضعف حكم الاستفهام فيه» وقال بعض شراح الكتاب: «فتصبح لا يمكن نصبه لأن الكلام واجب ألا ترى أن المعنى أن الله أنزل الماء فالأرض هذه حالها» وقال الفراء «وانما عبر بالمضارع لأن فيه تصويرا للهيئة التي الأرض عليها والحالة التي لابست الأرض والماضي يفيد انقطاع الشيء وهذا كقول جحدر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 472 ابن معونة العكلي يصف حاله مع أشد نازلة في قصة جرت له مع الحجاج بن يوسف: يسمو بناظرتين تحسب فيهما ... لما أجالهما شعاع سراج لما نزلت بحصن أزبر مهضر ... للقرن أرواح العدا مجاج فأكر أحمل وهو يقعي باسته ... فاذا يعود فراجع أدراجي وعلمت اني إن أبيت نزاله ... أني من الحجاج لست بناج فقوله: فأكر تصوير للحالة التي لابسها. وقال ابن هشام في المغني: «وقيل الفاء في هذه الآية للسببية وفاء السببية لا تستلزم التعقيب بدليل صحة قولك إن يسلم فهو يدخل الجنة ومعلوم ما بينهما من المهلة» . بحث ممتع للرازي: وللامام الرازي بحث جيد هنا يمكن تلخيصه بما يلي: «ذكر هنا من آثار قدرته ستة أشياء: 1- إنزال الماء الناشئ عنه اخضرار الأرض وفسر الرؤية بالعلم دون الابصار لأن الماء وان كان مرئيا إلا أن كون الله منزلا له من السماء غير مرئي وقال فتصبح الأرض دون أصبحت لإفادته بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان. 2- قوله: «له ما في السموات وما في الأرض» ومن جملته خلق المطر والنبات نفعا للحيوان مع أن الله لا يحتاج لذلك ولا ينتفع به. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 473 3- تسخير ما في الأرض أي ذلل لكم ما فيها كالحجر والحديد والنار لما يراد منها والحيوان للأكل والركوب والحمل عليه والنظر اليه. 4- تسخير الفلك بالماء والرياح فلولا أن الله سخرها لكانت تغوص أو تقف. 5- إمساك السماء لأن النعم المتقدمة لا تكمل إلا به والسماء جرم ثقيل وما كان كذلك لا بد له من السقوط لولا مانع يمنع منه وهو القدرة فأمسكها الله بقدرته لئلا تقع فتبطل النعم التي امتن بها علينا. 6- الإحياء ثم الإماتة ثم الإحياء. نبه بهذا على أن هذه النعم لمن أحياه الله فنبه بالاحياء الاول على انعامه في الدنيا بكل ما تقدم ونبه بالإماتة والإحياء ثانيا على إنعامه علينا في الآخرة. [سورة الحج (22) : الآيات 66 الى 70] وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 474 اللغة: (مَنْسَكاً) : بفتح السين وكسرها شريعة لأنه مأخوذ من النسيكة وهي العبادة. وقد تقدم الكلام مستوفيا عن هذه المادة. الإعراب: (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات الى قولهم وتمكينهم من منازعته تثبيتا له وحفزا لهمته على المضي في الأمر الذي عهد الله اليه به، وهو مبتدأ والذي خبر وجملة أحياكم صلة ثم حرف عطف للتراخي ويميتكم فعل وفاعل ومفعول به أي عند انتهاء الآجال، ثم حرف عطف وتراخ أيضا ويحييكم فعل مضارع مرفوع والكاف مفعوله أي عند البعث وجملة إن الإنسان لكفور مستأنفة تفيد التعليل لعدم الاعتبار والتبصر بعد هذه العبر والدلائل وان واسمها واللام المزحلقة وكفور خبرها. (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) لكل أمة مفعول ثان مقدم لجعلنا ومنسكا هو المفعول الاول والجملة مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها ولذلك لم يأت بالواو الاستئنافية وهي مسوقة لزجر منازعيه من أهل الأديان السماوية وهم مبتدأ وناسكوه خبر والجملة الاسمية صفة لمنسكا والفاء الفصيحة ولا ناهية وينازعنك فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون لتوالي الأمثال والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين هي واو الجماعة في محل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 475 رفع فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة ولم تؤثر في بناء المضارع لأنه لم تباشره وقد مرت لها نظائر والكاف مفعول به وفي الأمر متعلقان بينازعنك وادع فعل أمر وفاعله أنت والى ربك متعلقان بادع على حذف مضاف أي الى دينه وسبيله وجملة انك لعلى هدى مستقيم تعليلية لا محل لها وان واسمها واللام المزحلقة وعلى هدى خبرها ومستقيم صفة لهدى. (وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة وان شرطية وجادلوك فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والواو فاعل والكاف مفعول به، فقل الفاء رابطة وقل فعل أمر والله مبتدأ وأعلم خبر والجملة مقول القول وجملة فقل جواب الشرط وبما متعلقان بأعلم وتعملون صلة. (اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) جملة مستأنفة مسوقة لتسلية النبي مما كان يلقى والله مبتدأ وجملة يحكم خبر وبينكم ظرف متعلق بيحكم ويوم القيامة متعلق بيحكم أيضا وفيما متعلقان بمحذوف حال وجملة كنتم صلة وكان واسمها وفيه متعلقان بتختلفون وجملة تختلفون خبر كنتم. (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتعلم فعل مضارع مجزوم وفاعله مستتر تقديره أنت وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يعلم وان واسمها وجملة يعلم خبرها وما مفعول به وفي السماء صلة ما والأرض عطف على السماء. (إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) جملتان تعليليتان لما سبق وان واسمها وفي كتاب خبرها وإن واسمها ويسير خبرها وعلى الله متعلقان بيسير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 476 [سورة الحج (22) : الآيات 71 الى 74] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللغة: (يَسْطُونَ) : يبطشون والسطو الوثب والبطش ولذلك عدي بالباء وإلا فهو يتعدى بعلى يقال سطا عليه وأصله القهر والغلبة وفي الأساس «وسطا بقرنه وعلى قرنه وثب عليه وبطش به، والفحل يسطو على طروقته ومن المجاز: سطا الماء كثر وزخر، وما سطوت في طعام أحد: ما تناولته ولهم أيد سواط عواط قال المتنخّل يصف خمرا: ركود في الإناء لها حميّا ... تلذّ بأخذها الأيدي السواطي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 477 وللسين مع الطاء فاء وعينا للكلمة صفة الامتداد، تقول رأيتهم قاعدين على المساطب وهي الدكاكين الممتدة حول رحبة المسجد وبات فلان على المسطبة وتقول: كم أبات هذا البيت رجالا على المساطب، وأوقعهم في المتالف والمعاطب تريد فسر في بلاد الله، وتقول: إما أن يبيتك على المسطبة، أو يرفعك الى المسطبة وهي المجرّة، وسطح الشيء: بسطه وسواه ومنه سطح الخبز بالمسطح وهو المحور وسطح الثريدة في الصحفة ومنه سطح البيت وسطح مسطح: مستو وأنف مسطح منبسط جدا وبسط لنا المسطح والمساطح وهو الحصير من الخوص وضربه فسطحه إذا بطحه على قفاه ممتدا فانسطح وهو سطيح ومنسطح وبه سمي سطيح وضربه بالمسطح وهو عمود الخباء وشرب من السطيحة وهي المزادة، وسطر واستطر كتب وكتب سطرا من كتابه وسطرا وأسطرا وسطورا وأسطارا وهو مسيطر علينا ومتسيطر، ونار ساطعة ممتدة ونور ساطع وسطع الفجر وسطع الغبار سطوعا وسطع البعير والظليم مدّ عنقه الى السماء قال ذو الرمة يصف ظليما: يظلّ مختضعا طورا فتنكره ... حينا ويسطع أحيانا فينتسب وسطع بيديه رفعهما مصفقا بهما ومن المجاز سطعت رائحة المسك وأعجبني سطوع رائحته، واغتسلت بالسّطل والسّيطل وهما القدس الذي يتطهر به في الحمّام، وحرك النار بالاسطام وسيف مصقول السّطام وهو الحدّ وأنشد سيبويه لكعب بن جعيل: وأبيض مصقول السطام مهنّدا ... وذا حلق من نسج داود مسردا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 478 ومن المجاز ليل طما أسطمّه وهو في أسطمّة قريش في وسطهم وعاد الملك في اسطمّه: في أصله، قال: يا ليتها قد خرجت من فمّه ... حتى يعود الملك في اسطمّه والعرب سطام الناس. (الذُّبابُ) : اسم جنس واحده ذبابة يقع على المذكر والمؤنث ويجمع على ذبّان بالكسر كغربان وذبان بالضم كقضبان وعلى أذبّة كأغربة وهو أجهل الحيوانات لانه يرمي نفسه في المهلكات ومدة عيشه أربعون يوما وأصل خلقته من العفونات ثم يتوالد بعضه من بعض يقع روثه على الشيء الأبيض فيرى أسود وعلى الأسود فيرى أبيض، والذباب مأخوذ من ذب إذا طرد وآب إذا رجع لأنك تذبه فيرجع عليك وقد ذكره امرؤ القيس في شعره قال: أرانا موضعين لأمر غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب عصافير وذبّان ودود ... وأجرأ من مجلّحة الذئاب وسيأتي بحث مسهب عنه في باب البلاغة. الإعراب: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) الواو استئنافية والجملة مستأنفة ويعبدون فعل مضارع والواو فاعل ومن دون الله حال وما موصول مفعول به وجملة لم ينزل صلة ما وبه حال لأنه كان في الأصل صفة لسلطانا وسلطانا مفعول به. (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) وما عطف على ما الاولى وجملة ليس صلة ولهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 479 خبر ليس المقدم وبه متعلقان بعلم وعلم اسم ليس المؤخر وما الواو عاطفة وما نافية وللظالمين خبر مقدم ومن حرف جر زائد ونصير مجرور لفظا مرفوع محلا مبتدأ مؤخر. (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة تتلى في محل جر بإضافة إذا إليها وتتلى فعل مضارع مبني للمجهول وعليهم متعلقان بتتلى وآياتنا نائب فاعل وبينات حال وجملة تعرف لا محل لها لأنها جواب إذا وفي وجوه متعلقان بتعرف والذين مضاف اليه وجملة كفروا صلة والمنكر مفعول به وفيه وضع الظاهر موضع المضمر وهو الذين كفروا تشنيعا عليهم وتسجيلا للشهادة عليهم بالكفر. (يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) جملة يكادون حال من الموصول وان كان مضافا لأن المضاف جزؤه ويجوز أن يكون حالا من وجوه لأن المراد بها أصحابها ويكادون من أفعال المقاربة، والواو اسمها وجملة يسطون خبرها وبالذين متعلقان بيسطون وجملة يتلون صلة وعليهم متعلقان بيتلون وآياتنا مفعول به. (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ) قل فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت والجملة مستأنفة، أفأنبئكم الهمزة للاستفهام والفاء عاطفة على محذوف أي أخاطبكم فأنبئكم وأنبئكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وبشر متعلقان بأنبئكم ومن ذلكم متعلقان بشر والنار خبر لمبتدأ محذوف، أو النار مبتدأ وخبره جملة وعدها والجملة لا محل لها لأنها مفسرة لشر. (وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) جملة وعدها الله إما خبر ثان واما خبر النار ووعدها الله فعل ومفعول به أول وفاعل والذين كفروا مفعول به ثان لوعدها ويجوز أن يكون الضمير هو المفعول الثاني والذين كفروا هو المفعول الاول ولعل هذا أرجح لسر سيأتي في باب الفوائد وبئس المصير فعل وفاعل والمخصوص بالذم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 480 محذوف أي هي. (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) كلام مستأنف مسوق لضرب المثل وهو إن يكن أشبه بالقصة إلا انه في سيرورته واستغرابه سمي مثلا، يا أيها الناس تقدم اعرابها كثيرا وضرب مثل فعل ماض مبني للمجهول ونائب فاعل، فاستمعوا الفاء الفصيحة واستمعوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وله متعلقان باستمعوا. (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) الجملة مفسرة للمثل وان واسمها وجملة تدعون صلة ومن دون الله حال وجملة لن يخلقوا ذبابا خبر ان وذبابا مفعول به ولو الواو عاطفة على محذوف هو حال أي انتفى خلقهم الذباب على كل حال ولو في هذه الحال التي اجتمعوا لها ولو شرطية واجتمعوا فعل وفاعل وله متعلقان باجتمعوا. (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) الواو عاطفة وان شرطية ويسلبهم فعل الشرط والهاء مفعول به والذباب فاعل وشيئا مفعول به ثان ولا نافية ويستنقذوه جواب الشرط والواو فاعل والهاء مفعول به ومنه متعلقان بيستنقذوه وجملة ضعف الطالب والمطلوب حال. و (ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) الواو استئنافية مسوقة للرد على أحبار اليهود ورؤسائهم الذين قالوا ان الله فقير ونحن أغنياء وما نافية وقدروا فعل وفاعل ولفظ الجلالة مفعول به وحق قدره مفعول مطلق وجملة ان الله تعليل لما تقدم وان واسمها واللام المزحلقة وقوي خبر إن الاول وعزيز خبر إن الثاني. البلاغة: سلامة الاختراع: وهو أن يخترع الشاعر أو الكاتب معنى لم يسبق اليه ولم يتبع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 481 فيه فقوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً» الآية من أبلغ ما أنزله الله في تجهيل الكافرين واستركاك عقولهم لغرابة التمثيل الذي تضمن الافراط في المبالغة مع كونها جارية على الحق خارجة مخرج الصدق وذلك حين اقتصر سبحانه على ذكر أضعف المخلوقات وأقلها سلبا لما تسلبه وتعجيز كل من دونه سبحانه كائنا من كان عن خلق مثله مع التضافر والاجتماع ثم نزل في التمثيل عن رتبة الخلق إذ هما مما يعجز عن مثلهما كل قادر غير الله عز وجل الى استنقاذ النزر التفه الذي يسلبه هذا الخلق الضعيف على ضعفه ويعجز كل قادر من المخلوقين عن استنقاذه منه فتنقل في النزول في التمثيل على ما تقتضيه البلاغة على الترتيب في هذا المكان، لما علم سبحانه انه لا مبالغة في تعجيزهم عن الخلق والاختراع الذي لا يدعيه جبار ولا يتعاطاه من المخلوقين أحد وإن أوتي قدرة وأعطي قوة وكان فيه من التغالي بالكفر والجهل ما يدعي معه الالهية وينتحل الربوبية، فنزل بهم الى استنقاذ ما يسلبه هذا المخلوق الضعيف على ضعفه وقوتهم ليريهم عجزهم فتستيقنه نفوسهم وإن لم تقرّ به ألسنتهم فجاء بما يقضي الظاهر أنه أيسر من الخلق وهو الحقيقة مثله في العمر فإن الظفر بنفس هذا المخلوق أيسر من الظفر بما يسلبه فاستنقاذ ما يسلبه في العجز عنه مثل خلقه ولم يسمع مثل هذا التمثيل في بابه لأحد قبل نزول الكتاب العزيز. هذا وقد قسم علماء البيان سلامة الاختراع إلى ضربين: أولهما: يبتدعه صاحبه من غير أن يقتدي فيه بمن سبقه وهذا الضرب يعثر عليه عند الحوادث المتجددة، وينتبه له عند الأمور الطارئة فمن ذلك ما ورد في شعر لأبي تمام في قصيدة له يمدح بها المعتصم بالله ويذكر حرق الافشين ومطلعها: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 482 الحق أبلج والسيوف عوار ... فحذار من أسد العرين حذار وفيها يخترع وصف المصلبين فيقول: بكروا وأسروا في متون ضوامر ... قيدت لهم من مربط النّجّار لا يبرحون ومن رآهم خالهم ... أبدا على سفر من الأسفار وهذا المعنى مما يعثر عليه عند الحوادث المتجددة، والخاطر في مثل هذا المقام ينساق الى المعنى المخترع من غير كبير كلفة لشاهد الحال الحاضرة، ومما قاله فيها في صفة من أحرق بالنار: ما زال سر الكفر بين ضلوعه ... حتى اصطلى سرّ الزناد الواري نارا يساور جسمه من حرها ... لهب كما عصفرت شقّ إزار طارت لها شعل يهدّم لفحها ... أركانه هدما بغير غبار فصّلن منه كلّ مجمع مفصل ... وفعلن فاقرة بكل فقار مشبوبة رفعت لأعظم مشرك ... ما كان يرفع ضوءها للساري صلى لها حيا وكان وقودها ... ميتا ويدخلها مع الفجار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 483 وقد ذيل البحتري على ما ذكره أبو تمام في وصف المصلبين فقال: كم عزيز أباده فغدا ير ... كب عودا مركّبا في عود أسلمته الى الرقاد رجال ... لم يكونوا عن وترهم برقود تحسد الطير فيه ضبع البوادي ... وهو في غير حالة المحسود غاب عن صحبه فلا هو موجو ... د لديهم وليس بالمفقود وكأن امتداد كفيه فوق الجذع في محفل الردى المشهود طائر مدّ مستريحا جناحيه استراحات متعب مكدود أخطب الناس راكبا فإذا أر ... جل خاطبت منه عين البليد ومن هذا الضرب ما جاء في شعر أبي الطيب المتنبي في وصفه الحمى: وزائرتي كأن بها حياء ... فليس تزور إلا في الظلام بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي كأن الصبح يطردها فتجري ... مدامعها بأربعة سجام أراقب وقتها من غير شوق ... مراقبة المشوق المستهام ومن بديع ما أتى به في هذا الموضع أن سيف الله بن حمدان كان مخيما بأرض ديار بكر على مدينة ميا فارقين، فعصفت الريح بخيمته فتطّير الناس لذلك وقالوا فيه أقوالا فمدحه أبو الطيب بقصيدة يعتذر فيها عن سقوط الخيمة أولها: أينفع في الخيمة العذّل ... وتشمل من دهرها يشمل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 484 ومما أحسن فيه غاية الإحسان وعدّ من أوابده التي لا تبلى قوله: تضيق بشخصك أرجاؤها ... ويركض في الواحد الجحفل وتقصر ما كنت في جوفها ... وتركز فيها القنا الذّبّل وكيف تقوم على راحة ... كأن البحار لها أنمل فليت وقارك فرّقته ... وحملت أرضك ما تحمل فصار الأنام به سادة ... وسدتهم بالذي يفضل رأت لون نورك في لونها ... كلون الغزالة لا يغسل وأنّ لها شرفا باذخا ... وأن الخيام بها تخجل فلا تنكرنّ لها صرعة ... فمن فرح النفس ما يقتل ولو بلّغ الناس ما بلّغت ... لخانتهم حولك الأرجل ولما أمرت بتطنيبها ... أشيع بأنك لا ترحل فما اعتمد الله تقويضها ... ولكن أشار بما تفعل وعرّف انك من همه ... وأنك في نصره ترفل فما العاندون وما أمّلوا ... وما الحاسدون وما قوّلوا هم يطلبون فمن أدركوا؟ ... وهم يكذبون فمن يقبل؟ وهم يتمنّون ما يشتهون ... ومن دونه جدّك المقبل والمعاني المخترعة فيها واضحة للعيان وكفى المتنبي فضلا أن يأتي بمثلها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 485 وفي كتاب الروضة لأبي العباس المبرد، وهو كتاب جمعه واختار فيه أشعار شعراء بدأ فيه بأبي نواس ثم بمن كان في زمانه فقال مما أورده من شعره: وله معنى لم يسبق اليه بإجماع وهو قوله: تدار علينا الراح في عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارس قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مها تدّريها بالقسيّ الفوارس فللراح ما زرت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس فالمعنى مخترع ولكنه- كما يقول الجاحظ- من المعاني المشاهدة فإن هذه الخمر لم تحمل إلا ماء يسيرا وكانت تستغرق صور هذه الكأس الى مكان جيوبها وكان الماء فيها قليلا بقدر القلانس التي على رؤوسها وهذا حكاية حال مشاهدة بالبصر. وثانيهما: المعاني التي تستخرج من غير شاهد حال متصورة فانها أصعب منالا مما يستخرج بشاهد الحال وقد قيل: إن أبا تمام أكثر الشعراء المتأخرين ابتداعا للمعاني وقد عدت معانيه المبتدعة فوجدت ما يزيد على عشرين معنى: فمن ذلك قوله: يا أيها الملك النائي برؤيته ... وجوده لمراعي جوده كثب ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا ... إن السماء ترجّى حين تحتجب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 486 وكذلك قوله في الهجاء: وأنت تدير قطب رحى عليا ... ولم نر للرحى العلياء قطبا ترى ظفرا بكل صراع قرن ... إذا ما كنت أسفل منه جنبا وكذلك قوله: وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود وكذلك له في الشيب: شعلة في المفارق استودعتني ... في صميم الفؤاد ثكلا صميما يستثير الهموم ما اكتنّ منها ... صعدا وهي تستثير الهموما على أن ابن الرومي فاق شعراء العربية جميعا في خلق الأشكال للمعاني المجردة أو خلق الرموز لبعض الاشكال المحسوسة بل فاق بها شعراء الدنيا جميعا. استمع لوصفه لحركة الرقاق في يد الخباز: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 487 ما أنس لا أنس خبازا مررت به ... يدحو الرقاقة مثل اللمح بالبصر ما بين رؤيتها في كفه كرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر ووصفه للحركة البطيئة في سير السحائب: سحائب قيست في البلاد فألفيت ... غطاء على أغوارها ونجودها حدتها النّعامى مثقلات فأقبلت ... تهادى، رويدا، سيرها كركودها وله: وإذا امرؤ مدح امرأ لنواله ... وأطال فيه فقد أراد هجاءه لو لم يقدر فيه بعد المستقى ... عند الورود لما أطال رشاءه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 488 وله قوله الممتع: عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرنّ من الصحاب فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام والشراب وكذلك قوله: لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد وإلا فما يبكيه منها وانها ... لأوسع مما كان فيه وأرغد إذا أبصر الدنيا استهل كأنه ... بما هو لاق من أذاها يهدد قول جامع للجاحظ: وللجاحظ فصل ممتع انتهى فيه الى وصف الذباب الذي نحن بصدد الحديث عنه قال: «ولا يعلم في الأرض شاعر تقدم في تشبيه مصيب تام وفي معنى غريب عجيب أو في معنى شريف كريم أو في بديع مخترع إلا وكل من جاء من الشعراء من بعده أو معه إن هو لم يقدر على لفظه فيسرق بعضه أو يدعيه بأسره فإنه لا يدع أن يستعين بالمعنى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 489 ويجعل نفسه شريكا فيه كالمعنى الذي تتنازعه الشعراء فتختلف ألفاظهم وأعاريض أشعارهم ولا يكون أحد منهم أحق بذلك المعنى من صاحبه، أو لعله يجحد أنه سمع بذلك المعنى قط وقال انه خطر على بالي من غير سماع كما خطر على بال الأول هذا إذا قرعوه به إلا ما كان من عنترة في صفة الذباب فإنه وصفه فأجاد وصفه فتحامى معناه جميع الشعراء فلم يعرضوا له قال عنترة: جادت عليها كلّ عين ثرّة ... فتركن كل حديقة كالدرهم فترى الذباب بها يغني وحده ... هزجا كفعل الشارب المترنّم غردا يحكّ ذراعه بذراعه ... فعل المكبّ على الزناد الأجذم يريد فعل الأقطع المكب على الزناد، والأجذم المقطوع اليدين فوصف الذباب إذا كان واقعا ثم حك إحدى يديه بالأخرى فشبهه عند ذلك برجل مقطوع اليدين يقدح بعودين ومتى سقط الذباب فهو يفعل ذلك» . قصة قاضي البصرة: وبعد أن تحدث الجاحظ طويلا كعادته في الاستطراد عن الذباب روى قصة قاضي البصرة وهي طويلة تصور إلحاح الذباب وقدرته على العض وهي مثبتة في كتاب الحيوان للجاحظ فليرجع اليه من شاء. الفوائد: متى اجتمع بعد ما يتعدى الى اثنين شيئان ليس ثانيهما عبارة عن الأول فالفاعل المعنوي رتبته التقديم وهو المفعول الأول ويعني بالمفعول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 490 الأول من يتأتى منه فعل فإذا قلت: وعدت زيدا دينارا فالدينار هو المفعول الثاني لأنه لا يتأتى من فعل وهو نظير أعطيت زيدا درهما فزيد هو الفاعل لأنه آخذ للدرهم. [سورة الحج (22) : الآيات 75 الى 78] اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) الإعراب: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير اصطفائه تعالى الرسل والله مبتدأ وجملة يصطفي خبر ومن الملائكة حال لأنه كان في الأصل صفة لرسلا وتقدم عليه ولك أن تعلقه بيصطفي ورسلا مفعول به ومن الناس عطف على من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 491 الملائكة وحذف من الثاني لدلالة الاول عليه أي ويصطفي من الناس رسلا وجملة إن الله سميع بصير تعليلية لما تقدم أي سميع لما يقولونه بصير بمن يتخذه رسولا وان واسمها وسميع خبرها الاول وبصير خبرها الثاني. (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) جملة يعلم خبر ثالث أو مستأنفة ويعلم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو وما موصول مفعول به وبين أيديهم الظرف متعلق بمحذوف صلة وما خلفهم عطف على ما بين أيديهم والى الله الواو عاطفة والى الله متعلقان بترجع وترجع فعل مضارع مبني للمجهول والأمور نائب فاعل. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) يا أيها الذين آمنوا تقدم اعرابها وجملة آمنوا صلة واركعوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل واسجدوا عطف على اركعوا واعبدوا ربكم عطف أيضا. (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وافعلوا الخير عطف على ما تقدم وجملة لعلكم تفلحون حال من الواو في اركعوا وما عطف عليه أي افعلوا هذه الأمور حال كونكم راجين الفلاح. (وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ) وجاهدوا عطف أيضا وفي الله متعلقان بجاهدوا ولا بد من حذف مضاف بعد حذف مفعول جاهدوا أي جاهدوا أعداءكم في ذات الله ومن أجله ففي للسببية وحق جهاده مفعول مطلق. (هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) هو مبتدأ وجملة اجتباكم أي اختاركم خبر والجملة حال من الله وما الواو عاطفة وما نافية وجعل فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وعليكم متعلقان بمحذوف مفعول به ثان لجعل وفي الدين حال ومن حرف جر زائد وحرج مجرور لفظا منصوب محلا لأنه مفعول جعل الأول. (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا) ملة في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 492 نصبها أوجه أظهرها ما ذكره الزمخشري ونصه: «نصب الملة بمضمون ما تقدمها كأنه قيل وسع دينكم توسعة ملة أبيكم ثم حذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه ويجوز نصبها على الاختصاص أي أخص بالدين ملة أبيكم» أو بتقدير فعل مضمر تقديره اتبعوا وهناك أوجه أخرى لا تخرج عن هذه الأوجه، وأبيكم مضاف اليه وابراهيم بدل من أبيكم وهو مبتدأ وجملة سماكم خبر والجملة حال من ابراهيم وسماكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول والمسلمين مفعول به ثان ومن قبل حال أي من قبل هذا الكتاب وفي هذا عطف على من قبل أي وفي هذا القرآن. (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) اللام للتعليل وقيل للعاقبة ويكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام واللام ومدخولها متعلقة بسماكم والرسول اسم يكون وشهيدا خبر يكون وعليكم متعلقان بشهيدا وتكونوا شهداء على الناس عطف على نظيرتها. (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ) الفاء الفصيحة وأقيموا الصلاة فعل أمر وفاعل ومفعول به وما بعده عطف عليه. (هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) الجملة حالية من الله وهو مبتدأ ومولاكم خبر فنعم المولى الفاء استئنافية ونعم فعل ماض جامد لانشاء المدح والمولى فاعل والمخصوص بالمدح محذوف أي هو، ونعم النصير عطف على نعم المولى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 493 (23) سورة المؤمنون مكية وآياتها ثمانى عشرة ومائة [سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) اللغة: (اللَّغْوِ) : اللغو: كل من كان حراما أو مكروها أو مباحا لم تدع اليه ضرورة ولا حاجة، واللغو كل مالا يعنيك من قول أو فعل كاللعب والهزل وما توجب المروءة إلغاءه واطراحه وكل مالا يعتد به. (لِفُرُوجِهِمْ) : الفروج جمع فرج وهو من الإنسان العورة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 494 الإعراب: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) قد حرف تحقيق وأفلح فعل ماض والمؤمنون فاعل. (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) الذين صفة للمؤمنون وهم مبتدأ وفي صلاتهم متعلقان بخاشعون، وخاشعون خبر «هم» والجملة صلة الذين، وقدم الجار والمجرور على متعلقه للاهتمام به وحسنه كون متعلقه فاصلة. (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) والذين عطف على الذين وهم مبتدأ وعن اللغو متعلقان بمعرضون، ومعرضون خبر «هم» والجملة صلة الذين. (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) والذين عطف على الذين وهم مبتدأ وفاعلون خبر وللزكاة متعلقان بفاعلون وضمن فاعلون معنى مؤدون وقيل اللام زائدة في المفعول به لتقدمه على عامله. (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) والذين عطف على ما تقدم وهم مبتدأ وحافظون خبر ولفروجهم متعلقان بحافظون. (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) إلا أداة استثناء وعلى أزواجهم في موضع الحال أي إلا والين على أزواجهم أو قوامين عليهن قال الزمخشري: «من قولك كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلان ونظيره كان زياد على البصرة أو واليا عليها ومنه قولهم: فلانة تحت فلان ومن ثم سميت المرأة فراشا والمعنى أنهم لفروجهم حافظون في كافة الأحوال إلا في حال تزوجهم أو تسريهم أو تعلق «على» بمحذوف يدل عليه «غير ملومين» كأنه قيل يلامون إلا على أزواجهم أي يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه أو تجعله صلة لحافظين من قولك احفظ علي عنان فرسي على تضمينه معنى النفي كما ضمن قولهم نشدتك بالله إلا فعلت معنى ما طلبت منك إلا فعلك» وذهب الفراء الى أن «على» بمعنى «من» أي إلا من أزواجهم كما جاءت «من» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 495 بمعنى «على» في قوله «ونصرناه من القوم» ، وأو حرف عطف وما عطف على أزواجهم وجملة ملكت أيمانهم صلة وعبر بما دون «من» وان كان المقام لها لنقصهن لأنهن السراري والسرية: الأمة التي بوأتها بيتا وهي فعلية منسوبة الى السر وهو الجماع أو الإخفاء لأن الإنسان كثيرا ما يسرها ويسترها عن حرّته، وضمت السين لأن الأبنية قد تغير في النسب كما قالوا في النسب الى الدهر دهري والى الأرض السهلة سهلي بضم أولهما والجمع سراري وقال الأخفش هي مشتقة من السرور لأن الإنسان يسرّ بها، وعبارة المصباح: «والسرية فعلية قيل مأخوذة من السر بالكسر وهو النكاح فالضم على غير قياس فرقا بينها وبين الحرّة إذا نكحت سرا فإنه يقال لها سرية بالكسر على القياس وقيل من السر بالضم بمعنى السرور لأن مالكها يسر بها فهو على القياس» . (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) الجملة تعليل للاستثناء وان واسمها وغير ملومين خبرها. (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) الفاء استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ وابتغى فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره هو ووراء الظرف متعلق بمحذوف صفة وهذا المحذوف مفعول ابتغى أي ابتغى شيئا كائنا وراء ذلك ولك أن تجعل وراء بمعنى خلاف فتنصبه على أنه مفعول به وذلك مضاف اليه والفاء رابطة لجواب الشرط وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ ثان والعادون خبر أولئك أو هم ضمير فصل والعادون خبر والجملة خبر أولئك. (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) والذين عطف على ما تقدم وهم مبتدأ وراعون خبره ولأماناتهم متعلقان براعون وعهدهم عطف على أماناتهم. (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) تقدم اعرابها وهي عطف على ما تقدم. (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) أولئك مبتدأ وهم ضمير فصل والوارثون خبر وقد تقدم انه يجوز اعراب هم مبتدأ ثانيا ولكن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 496 الأحسن أن يكون للفصل للدلالة على التخصيص. (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) الذين خبر ثان أو صفة للوارثون وجملة يرثون صلة والفردوس مفعول به وهم مبتدأ وفيها متعلقان بخالدون، وخالدون خبر هم وأنث الفردوس باعتبار المعنى أن الجنة وجملة هم فيها خالدون حال. البلاغة: 1- التفصيل: تميزت السورة ببراعة استهلالها لأنها ذكرت أحوال المؤمنين على جهة التفصيل، والتفصيل على قسمين: متصل ومنفصل، فالمتصل كل كلام وقع فيه أما أو ما كقوله تعالى: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ» الى آخر الكلام، وأما المنفصل فهو ما يأتي مجمله في مكان ومفصله في مكان آخر كقوله تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» الى قوله تعالى «والذين هم لفروجهم حافظون» الى قوله تعالى «فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون» فإن قوله تعالى وراء ذلك إجمال المحرمات وقد تقدمت مفسّرة في سورة النساء بقوله تعالى: «وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ» الى قوله تعالى «وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ» فإن هذه الآية اشتملت على خمسة عشر محرما من أصناف النساء، ذوات الأرحام ثلاثة عشر صنفا ومن الأجانب صنفان. 2- الطباق: وفي قوله تعالى «الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» طباق إيجاب، فقد جمع سبحانه للمؤمنين في هذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 497 الوصف بين الفعل والترك إذ وصفهم بالخشوع في الصلاة وترك اللغو وهذا كله من طباق الإيجاب المعنوي، وقد حمدوا الخشوع كثيرا، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: «لو خشع قلبه خشعت جوارحه» ونظر الحسن الى رجل يعبث بالحصى وهو يقول: اللهم زوجني بالحور العين فقال: بئس الخاطب أنت تخطب وأنت تعبث. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 16] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) الإعراب: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) الجملة لا محل نها من الاعراب لأنها جواب قسم محذوف واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وخلقنا فعل وفاعل والإنسان مفعول به ومن سلالة متعلقان بخلقنا، فمن للابتداء ومن طين صفة لسلالة أو متعلقان بسلالة لأنها بمعنى مسلولة، فمن للبيان، ولا تلتفت الى قول بعض المعربين ان الواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام فالكلام مستأنف لا علاقة له بما قبله. (ثُمَّ جَعَلْناهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 498 نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) ثم حرف عطف وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به ونطفة مفعول به ثان وفي قرار مفعول به ثالث ومكين صفة. (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) ثم حرف عطف وخلقنا فعل وفاعل والنطفة مفعول به أول وعلقة مفعول به ثان لأن خلقنا متضمن معنى صيرنا. (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) الفاء حرف عطف وخلقنا فعل وفاعل والعلقة مفعول به أول ومضغة مفعول به ثان، فخلقنا فعل وفاعل والمضغة مفعول به أول وعظاما مفعول به ثان. (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) الفاء حرف عطف وكسونا فعل وفاعل والعظام مفعول به أول ولحما مفعول به ثان ثم حرف عطف وأنشأناه فعل وفاعل ومفعول به وخلقا حال وآخر صفة فتبارك الفاء استئنافية وتبارك فعل ماض والله فاعل وأحسن بدل من الله والخالقين مضاف اليه وليس بصفة لأنه نكرة وإن أضيف، لأن المضاف إليه عوض من «من» وهكذا جميع باب اسم التفضيل، ومميز أحسن محذوف للعلم به أي خلقا. (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) ثم حرف عطف وتراخ وان واسمها وبعد ذلك الظرف متعلق بمحذوف حال أو بميتون، واللام المزحلقة وميتون خبر ان، ثم انكم عطف على ما تقدم وجملة تبعثون خبر ان. البلاغة: 1- المخالفة في حروف العطف: في حروف العطف المتتابعة في هذه الآيات أسرار لطيفة المأخذ دقيقة المعنى، فقد ذكر تعالى تفاصيل حال المخلوق في تنقله فبدأ بالخلق الاول وهو خلق آدم من طين، ولما عطف عليه الخلق الثاني الذي هو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 499 خلق النسل عطفه بثم لما بيتهما من التراخي وحيث صار الى التقدير الذي يتبع بعضه بعضا من غير تراخ عطفه بالفاء، ولما انتهى الى جعله ذكرا أو أنثى وهو آخر الخلق عطفه بثم، ونحن نعلم أن الزمن الذي تصير فيه النطفة علقة طويل ولكن الحالتين متصلتان فأحيانا ينظر الى طول الزمان فيعطف بثم وأحيانا ينظر الى اتصال الحالين ثانيهما بأولهما من غير فاصل بينهما بغيرهما فيعطف بالفاء، ومثل هذا تزوج محمد فولد له. وشيء آخر، وهو ان صيرورة التراب نطفة أمر مستبعد في ظاهر الحال ومثل ذلك صيرورة النطفة علقة لاختلاف إحداهما عن الاخرى اختلافا ظاهرا ولكن صيرورة العلقة مضغة لا غرابة فيه لتقاربهما فلهذا الوجه عطف في قوله تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ» بثم، وفي الآية التي نحن بصددها لوحظت أطوار الخلق وتباعد الأوقات بين كل طورين. وفي حاشية الشهاب الخفاجي على البيضاوي ما خلاصته: اختلاف العواطف بالفاء وثم لتفاوت الاستحالات يعني ان بعضها مستبعد حصوله مما قبله وهو المعطوف بثم فجعل الاستبعاد عقلا أو رتبة بمنزلة التراخي والبعد الحسي لأن حصول النطفة من أجزاء ترابية غريب جدا وكذا جعل النطفة البيضاء ماء أحمر بخلاف جعل الدم لحما مشابها له في اللون والصورة وكذا تصليبها حتى تصير عظما لأنه قد يحصل ذلك بالمكث فيما يشاهد وكذا مد لحم المضغة عليه ليستره وذلك يقتضي عطف الجميع بثم إن نظر لآخر المدة وأولها، ويقتضي العطف بالفاء ان نظر لآخرها فقط. 2- تشبيه الرحم بالقرار: في قوله تعالى «فِي قَرارٍ مَكِينٍ» استعارة تصريحية فقد حذف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 500 المشبه وأبقى المشبه به، والمشبه هو الرحم وقد شبهه بالقرار أي موضع الاستقرار ثم وصفه بمكين بمعنى متمكن لتمكنه في نفسه بحيث لا يعرض له اختلال أو لتمكن ما يحل فيه كقولهم طريق سائر أي يسار فيه. وبقي إيضاح قوله تعالى «خَلْقاً آخَرَ» وقد كثرت فيه الأقوال واضطربت، وخير ما يقال فيه انه عام والمراد مباينته للخلق الأول مباينة بعيدة جدا حيث جعله حيوانا وكان جمادا، وناطقا وكان أبكم، وسميعا وكان أصم، وبصيرا وكان أعمى أكمه، وأودع باطنه وظاهره وكل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه عجائب لا توصف وغرائب لا تدرك. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 17 الى 21] وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) اللغة: (طَرائِقَ) : جمع طريقة وهي السيرة والحالة والمذهب والخط الجزء: 6 ¦ الصفحة: 501 في الشيء، وفي الأساس واللسان: «ووضع الأشياء طرقة طرقة وطريقة طريقة: بعضها فوق بعض وهي طرق وطرائق، وطرّق طريقا سهّله حتى طرقه الناس بسيرهم» وسميت السموات طرقا لأنه طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل وكل شيء فوقه مثله فهو طريقة. (طُورِ سَيْناءَ) : وطور سنين قال الزمخشري: «لا يخلو إما أن يضاف فيه الطور الى بقعة اسمها سيناء وسينون وإما أن يكون اسما للجبل مركبا من مضاف ومضاف اليه كامرىء القيس وكبعلبك فيمن أضاف، فمن كسر سين سيناء فقد منع من الصرف للتعريف والعجمة أو التأنيث لأنها بقعة وفعلاء لا يكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء، ومن فتح فلم يصرف لأن الألف للتأنيث كصحراء» هذا وسيناء شبه جزيرة يحدها البحر الأبيض المتوسط شمالا وقناة السويس وخليج السويس غربا وفلسطين وخليج العقبة شرقا تنتهي جنوبا عند رأس محمد في البحر الأحمر، وسيناء جبل واقع في شبه جزيرة سيناء جنوبا والمراد بالشجرة شجرة الزيتون وخصت بطور سيناء مع أنها تخرج في غيره لأن أصلها منه ثم نقلت الى غيره. الإعراب: (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) جملة مستأنفة مسوقة لذكر خلق السموات التي تعلو الإنسان بعد ذكر خلقه واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وخلقنا فعل وفاعل وفوقكم ظرف متعلق بخلقنا وسبع طرائق مفعول خلقنا وطرائق مضاف لسبع، وما الواو حالية وما نافية وكان واسمها وعن الخلق متعلقان بغافلين وغافلين خبر كنا. (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 502 الْأَرْضِ) وأنزلنا عطف على خلقنا ومن السماء متعلقان بأنزلنا وماء مفعول به وبقدر صفة لماء أو حال من الضمير أي بتقدير يسلمون معه من المضرة ويصلون الى المنفعة، فأسكناه عطف على أنزلنا وهو فعل وفاعل ومفعول به وفي الأرض متعلق بأسكناه. (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) الواو عاطفة وان واسمها وعلى ذهاب متعلقان بقادرون وبه متعلقان بذهاب وقادرون خبر إنا واللام المزحلقة. (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) الفاء عاطفة وأنشأنا فعل وفاعل ولكم متعلق بأنشأنا وبه متعلقان بأنشأنا أيضا أو بمحذوف حال فتكون الباء للملابسة وجنات مفعول به ومن نخيل صفة لجنات وأعناب عطف على نخيل. (لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) لكم خبر مقدم وفيها حال وفواكه مبتدأ مؤخر وكثيرة صفة ومنها متعلقان بتأكلون، وتأكلون فعل مضارع وفاعل وجملة لكم فيها الآية حال من جنات أو صفة كما هي القاعدة. (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) الواو حرف عطف وشجرة عطف على جنات وجملة تخرج صفة لشجرة ومن طور سيناء جار ومجرور متعلقان بتخرج. (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) الجملة صفة ثانية لشجرة وبالدهن في موضع نصب على الحال أي ملتبسة بالدهن ومصحوبة به، والدهن عصارة كل شيء ذي دسم، وصبغ عطف على الدهن جار على إعرابه عطف أحد وصفي الشيء على الآخر أي تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن به ويسرج منه وكونه إداما يصبغ به الخبز أي يغمس فيه للائتدام به، وللآكلين صفة لصبغ. (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) الواو حرف عطف وان حرف مشبه بالفعل ولكم خبرها المقدم وفي الأنعام حال واللام المزحلقة وعبرة اسم ان وجملة نسقيكم تفسيرية لعبرة أو مستأنفة والكاف مفعول به ومما متعلقان بنسقيكم وفي بطونها متعلقان بمحذوف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 503 صلة ما. (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) تقدم اعرابها قريبا فجدد به عهدا. البلاغة: في قوله تعالى «وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ» استعارة تصريحية شبه الادام من المائعات بالصبغ ثم حذف المشبه وأبقى المشبه به بجامع التلون بلونه إذا غمس به. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 22 الى 28] وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 504 الإعراب: َ عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) الواو عاطفة وعليها متعلقان بتحملون والضمير يعود على الإبل التي هي من جملة الانعام ولأنها هي المحمول عليها في العادة وقرنها بالفلك التي هي السفائن لأنها سفن البر. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لرد خمس قصص أولاها قصة نوح، واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل ونوحا مفعول به والى قومه متعلقان بأرسلنا. (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) الفاء حرف عطف وقال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ويا حرف نداء وقوم منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة واعبدوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وما نافية ولكم خبر مقدم ومن حرف جر زائد وإله مبتدأ مؤخر محلا مجرور بمن لفظا وغيره صفة لإله على المحل وقرىء بالجر على اللفظ وهو جائز وجملة مالكم من إله غيره مستأنفة تجري مجرى التعليل للأمر بالعبادة، والهمزة للاستفهام والفاء عاطفة على مقدر أي أفلا تخافون أن ترفضوا عبادة الله الذي هو ربكم وخالقكم ورازقكم. (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) الفاء عاطفة وقال الملأ فعل وفاعل والذين صفة للملأ وجملة كفروا صلة ومن قومه حال وجملة ما هذا مقول القول وما نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وبشر خبر ومثلكم صفة وهذه هي الشبهة الأولى من الشبه الخمس التي ذكروها. (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) جملة يريد صفة وأن وما في حيزها مفعول يريد وعليكم جار ومجرور متعلقان بيتفضل والواو حالية أو استئنافية وشاء الله فعل وفاعل، ومفعول المشيئة محذوف يفهم من مضمون جواب لو أي لو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 505 شاء إنزال رسول، واللام واقعة في جواب لو وجملة أنزل ملائكة لا محل لها لأنها جواب شرط جازم وهذه هي الشبهة الثانية. (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) الجملة مستأنفة مسوقة لحكاية شبهتهم الثالثة وما نافية وسمعنا فعل وفاعل وبهذا متعلقان بسمعنا وفي آبائنا في محل نصب حال أي في قصص آبائنا والأولين صفة لآبائنا. (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) جملة مستأنفة مسوقة لحكاية شبهتهم الرابعة وإن نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر ورجل خبر هو وبه خبر مقدم وجنة أي جنون مبتدأ مؤخر والجملة صفة رجل فتربصوا الفاء الفصيحة أي إن أردتم أن تتبينوا حقيقته فتربصوا، ويجوز أن تكون استئنافية وهذه هي شبهتهم الخامسة، وتربصوا فعل أمر أي انتظروا والواو فاعل وبه متعلقان بتربصوا وحتى حرف غاية وجر وحين مجرور بحتى والجار والمجرور متعلقان بتربصوا أيضا أي اصبروا عليه واحتملوه الى زمان حتى ينجلي لكم أمره عن مغبته فإن أفاق من جنته وإلا قتلتموه. (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) كلام مستأنف مسوق لطلب الانتصاف منهم والانتصار عليهم من ربه بعد أن يئس من إيمانهم، ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وانصرني فعل أمر والفاعل مستتر والنون للوقاية والياء مفعول به والباء حرف جر وما مصدرية مؤولة مع الفعل بعدها بمصدر مجرور بالباء أي بسبب تكذيبهم إياي فالباء للسببية ويجوز أن تكون للبدل أي انصرني بدل تكذيبهم إياي، كما تقول هذا بذاك أي بدل ذاك ومكانه، والجار والمجرور متعلقان بانصرني. (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) الفاء استئنافية وأوحينا فعل وفاعل واليه متعلقان بأوحينا وأن مفسرة لوقوعها بعد أوحينا وهو فعل فيه معنى القول دون حروفه واصنع فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والفلك مفعول به وبأعيننا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 506 حال من الضمير المستكن في اصنع أي بحفظنا وكلاءتنا، ووحينا عطف على أعيننا أي وأمرنا. (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) الفاء عاطفة لترتيب مضمون ما بعدها على تمام صنع الفلك والمراد بالأمر العذاب، وجملة جاء مضاف إليها الظرف وأمرنا فاعل وفار التنور عطف على جاء أمرنا وقد تقدم بحث هذا في سورة هود. فاسلك الفاء رابطة لجواب إذا واسلك فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وفيها متعلقان باسلك ومن كل جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لاثنين واثنين مفعول اسلك وقد تقدم اعراب هذا في هود أيضا. (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) وأهلك عطف على اثنين وإلا أداة استثناء ومن مستثنى متصل من موجب فهو واجب النصب وجملة سبق صلة وعليه متعلقان بسبق، والقول فاعل ومنهم حال أي بالإهلاك. (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتخاطبني فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت والنون للوقاية والياء مفعول به وفي الذين متعلقان بتخاطبني أي بترك إهلاكهم وذلك بعد أن لزمتهم الحجة البالغة، وبعد أن أملى لهم الدهر المتطاول، لم يبق إلا أن يجعلوا عبرة للمعتبرين، وجملة ظلموا صلة وجملة إنهم مغرقون تعليل للنهي عن المخاطبة بشأنهم وان واسمها وخبرها. (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) الفاء استئنافية وإذا ظرف مستقبل وجملة استويت في محل جر بالاضافة إليها وأنت تأكيد للتاء ومن عطف على التاء ومعك ظرف متعلق بمحذوف صلة لمن وعلى الفلك متعلقان باستويت أي اعتدلت عليه. (فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الفاء رابطة لجواب إذا وقل فعل أمر وأفرده بالأمر إظهارا لفضله واشعارا بأن في دعائه مندوحة عن دعائهم، والحمد مبتدأ ولله خبره والجملة مقول القول وجملة القول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 507 لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والذي صفة لله وجملة نجانا صلة ومن القوم متعلقان بنجانا والظالمين صفة للقوم. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 29 الى 36] وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) الإعراب: (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) الواو عاطفة وقل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وحرف النداء محذوف وأنزلني فعل أمر للدعاء والفاعل مستتر تقديره أنت والنون للوقاية والياء مفعول به ومنزلا اسم مكان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 508 أو مصدر مفعول به ثان أو مفعول مطلق ومباركا صفة وأنت الواو حالية وأنت مبتدأ وخير المنزلين خبر. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) الجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما ذكر وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم ولآيات اللام المزحلقة وآيات اسم إنّ، وإن مخففة من الثقيلة والغالب إهمالها وكنا كان واسمها واللام الفارقة ومبتلين خبر كنا ويجوز أن يكون اسمها ضمير الشأن والجملة خبرها ويجوز أن تكون إن نافية واللام بمعنى إلا. (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) ثم حرف عطف للتراخي وأنشأنا فعل وفاعل ومن بعدهم حال وقرنا مفعول به أي قوما وآخرين صفة وهم قوم عاد. (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) الفاء حرف عطف وأرسلنا فعل وفاعل وفيهم متعلق بأرسل ورسولا مفعول به ومنهم صفة. (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) أن مفسرة لأن في الإرسال معنى القول دون حروفه أي قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله ثم إن إرسال الرسل هو للتبليغ، ويجوز أن تكون مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر في موضع نصب بنزع الخافض أي بأن اعبدوا والجار والمجرور متعلقان بأرسلنا وما بقي تقدم إعرابه قريبا بنصه فجدد به عهدا. (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) الواو عاطفة وقال الملأ فعل وفاعل، والجملة من كلامهم الباطل معطوفة على كلامه الحق فالعطف هنا لبيان المفارقة، وقد سبق مثل هذا التعبير في سورة الأعراف مجردا من الواو كأنه جواب سؤال مقدر فلم يحتج إليها، ومن قومه حال والذين صفة لقومه وجملة كفروا صلة وما بعدها عطف عليه داخل في حيزها، وأسهب في وصفهم لبيان فداحة ما ارتكبوه من كفران للنعم وجحود للنعم المترادفة عليهم ليورد بعد ذلك على لسانهم شبهتين من شبهات الملاحدة وبنوا عليها انكارهم البعث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 509 والطعن في رسالته عليه السلام. (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) ما نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وبشر خبر ومثلكم صفة وجملة يأكل صفة ثانية ومما متعلقان بيأكل وجملة تأكلون صلة ولك أن تجعلها مصدرية أي من مأكولكم وكذلك قوله ويشرب مما يشربون، وحذف العائد من الثاني اكتفاء بالعائد الأول وهو منه والجملة كلها مقول القول وهي تتضمن الشبهة الاولى. (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية وأطعتم فعل وفاعل وهو في محل جزم فعل الشرط وبشرا مفعول به ومثلكم صفة وإن واسمها واللام المزحلقة وخاسرون خبرها، وإذن: هذه ليست هي الناصبة للفعل المضارع وانما هي إذا الشرطية حذفت جملتها التي تضاف وعوض عنها التنوين كما في يومئذ ولهذا لا يختص دخولها على المضارع بل تدخل على الماضي وعلى الاسم وقد وردت في القرآن كثيرا مثل «إنكم إذن من المقربين» فقد دخلت هنا على الاسم ومن دخولها على الماضي قوله «وإذن لآتيناهم» وهذا تقرير عن شبهتهم الثانية. والجملة جواب القسم لأنه المتقدم حسب القاعدة. (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري الاستبعادي وجملة يعدكم مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبله من زجرهم عن اتباعه بانكار وقوع ما يدعوهم الى الايمان به واستبعاده. ويعدكم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره هو والكاف مفعول به وأن وما في حيزها في محل نصب مفعول به ثان وأن واسمها ومخرجون خبرها وإذا ظرف متعلق بمخرجون وجملة متم في محل جر باضافة الظرف إليها وكنتم ترابا وعظاما عطف على إذا متم وأنكم الثانية تأكيد للأولى لما طال الفصل بين اسم ان وهو الكاف وخبرها وهو مخرجون ولما كانت لمجرد التأكيد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 510 اللفظي لم تحتج الى الخبر، وهذا أحد أوجه ذكرها النحاة وسنأتي على ذكرها في باب الفوائد لأنها كلها صحيحة وما ذكرناه أسهلها. (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) هيهات اسم فعل ماض بمعنى بعد وسيأتي الكلام عليها مطولا في باب الفوائد والثانية تأكيد لفظي لها واللام زائدة وما اسم موصول فاعل لاسم الفعل وهو هيهات ومحله القريب الجر باللام الزائدة ومحله البعيد الرفع على أنه فاعل هيهات، ويجوز أن تكون ما مصدرية، والمصدر المؤول فاعل هيهات، وسيأتي مزيد من الأوجه في اعراب هذا التركيب في باب الفوائد. الفوائد: 1- في قوله تعالى «أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ» الآية: اختلفت آراء الأئمة النحاة والمفسرين في اعراب هذه الآية وقد ذكرنا في الاعراب ما رأيناه أقرب الى التناول وأدنى الى المنطق وسنورد لك هنا ما قالوه لوجاهته، ولترى ما تختار فقال سيبويه: إن خبر «أن» الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه تقديره «أنكم مخرجون» وهو العامل في الظرف و «أن» الثانية وما في حيزها بدل من الأولى. وذهب الجرمي والمبرد والفراء: الى أن خبر «أن» الأولى هو مخرجون وهو العامل في «إذا» وكررت الثانية توكيدا لما طال الفصل وهذا هو الوجه الذي اخترناه. واختار أبو البقاء أن اسم الأولى محذوف أقيم مقام المضاف اليه تقديره: أن إخراجكم، و «إذا» هو الخبر و «أنكم مخرجون» تكرير لأن «أن» وما عملت فيه للتوكيد أو للدلالة على المحذوف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 511 وقيل «أنكم مخرجون» مبتدأ وخبره الظرف مقدما عليه والجملة خبر عن «أنكم» الأولى والتقدير: أيعدكم انكم إخراجكم كائن أو مستقر وقت موتكم، ولا يجوز أن يكون العامل في «إذا» مخرجون لأن ما في حيز «أن» لا يعمل فيما قبلها ولا يعمل فيها «متم» لأنه مضاف اليه، وانكم وما في حيزه في محل نصب أو جر بعد حذف حرف الجر إذ الأصل أيعدكم بأنكم، ويجوز أن لا يقدر حرف جر فيكون في محل نصب فقط نحو وعدت زيدا خيرا. 2- هيهات: في هذه اللفظة لغات كثيرة تزيد على الأربعين ونذكر فيما يلي أشهرها وما قرىء به، فالمشهور هيهات بفتح التاء من غير تنوين بني لوقوعه موقع المبني أو لشبه الحرف وبها قرأ العامة وهي لغة الحجازيين، وهيهاتا بالفتح والتنوين، وهيهات بالضم والتنوين، وبالضم من غير تنوين، وهيهات بالكسر والتنوين، وبالكسر من غير تنوين، وهيهات بإسكان التاء، وهيهه بالهاء آخرا ووصلا ووقفا، وأيهات بابدال الهاء همزة مع فتح التاء. فهذه تسع لغات وقد قرىء بهن ولم يتواتر منهن غير الأولى، ويجوز ابدال الهمزة من الهاء الاولى في جميع ما تقدم فيكمل بذلك ست عشرة لغة، وايهان بالنون آخرا وايها بالألف آخرا، ويقع الاسم بعدها مرفوعا بها ارتفاع الفعل بفعله لأنها جارية مجرى الفعل فاقتضت فاعلا كاقتضائه الفعل. قال جرير: فهيهات هيهات العقيق ومن به ... وهيهات خلّ بالعقيق نواصله والعقيق واد بالمدينة يقول فيه جرير ويبدع: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 512 ولم أنس يوما بالعقيق تخايلت ... ضحاه وطابت بالعشي أصائله رزقنا به الصيد العزيز ولم نكن ... كمن نبله محرومة وحبائله وقال الزمخشري: «فان قلت ما توعدون هو المستبعد ومن حقه أن يرتفع بهيهات كما ارتفع في قوله: «فهيهات هيهات العقيق وأهله» فما هذه اللام؟ قلت: قال الزجاج في تفسيره: البعد لما توعدون أو بعد لما توعدون فيمن نوّن فنزله منزلة المصدر وفيه وجه آخر وهو أن يكون اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في هيت لك لبيان المهيت به» وما اخترناه في الاعراب أسهل وأقرب. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 37 الى 43] إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 513 اللغة: (غُثاءً) : الغثاء: ما يحمله السيل ومثله الجفاء وهو ما تكسر وتهشّم أيضا من المرعى إذا يبس، ويجمع على أغثية كغراب وأغربة وعلى غثيان كغراب وغربان، وقال الزجاج هو البالي من ورق الشجر إذا جرى السيل فخالط زبده، وقيل ما يلقيه السيل والقذر مما لا ينتفع به، ولامه واو لأنه من غثا الوادي يغثو غثوا وكذلك القدر، وأما غثيث نفسه تغثى غثيانا أي خبثت فهو قريب من معناه ولكنه من مادة الياء وقال الزمخشري: «شبههم في دمارهم بالغثاء وهو حميل السيل مما بلي وأسود من بلي العيدان والورق» . الإعراب: (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير معتقدهم بأن العالم قديم بالطبع ولم يزل كذلك ولم يحدث باحداث محدث والناس كالنبات ينبتون ويعودون بالموت هشيما وهذا كفر صريح وضلال بعيد وسيأتي في باب الفوائد مزيد من معتقد الدهريين. وان نافيه وهي مبتدأ وإلا أداة حصر وحياتنا خبر والدنيا صفة وجملة نموت ونحيا حالية أو مفسرة لما ادعوه من أن حياتهم هي الحياة الدنيا أي يموت بعضنا وينقرض بعضنا الى انقراض العصر، والواو حرف عطف وما نافية حجازية ونحن اسمها وبمبعوثين الباء حرف جر زائد ومبعوثين مجرور بالباء لفظا خبر ما محلا. (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) ان نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر ورجل خبر وجملة افترى صفة وعلى الله متعلقان بافترى وكذبا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 514 مفعول به، والواو حرف عطف وما نافية حجازية ونحن اسمها وله متعلقان بمؤمنين ومؤمنين محله القريب مجرور بالباء الزائدة ومحله البعيد خبر ما. (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ورب منادى محذوف منه حرف النداء مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وانصرني فعل أمر معناه الدعاء والنون للوقاية والفاعل مستتر تقديره أنت وبما الباء حرف جر وما موصولة أو مصدرية وكذبوني فعل وفاعل ومفعول به والجملة صلة ما والجار والمجرور متعلقان بانصرني. (قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) عما قليل: عن حرف جر وما زائدة وقليل مجرور بعن والجار والمجرور متعلقان بيصبحن أو بنادمين أو بمحذوف تقديره عما قليل ننصر فحذف لدلالة ما قبله وهو رب انصرني، واللام موطئة للقسم ويصبحن فعل مضارع ناقص والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين اسمها وهو مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة ونادمين خبر يصبحن. (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الفاء عاطفة وأخذتهم الصيحة فعل ومفعول به وفاعل وبالحق حال من الصيحة، فجعلناهم عطف على فأخذتهم والهاء مفعول به أول وغثاء مفعول به ثان والفاء حرف عطف وبعدا مصدر يذكر بدلا من اللفظ بفعله فهو مفعول مطلق لفعل محذوف واجب الإضمار لأنه بمعنى الدعاء عليهم والأصل بعدوا بعدا وللقوم صفة لبعدا ولا تتعلق به لأنه لا يحفظ حذف هذه اللام ووصول المصدر الى مجرورها البتة ووضع الظاهر موضع المضمر للتعليل. (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) ثم حرف عطف وتراخ وأنشأنا فعل وفاعل ومن بعدهم متعلقان بمحذوف حال وقرونا مفعول به وآخرين صفة. (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) ما نافية وتسبق فعل مضارع ومن حرف جر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 515 زائد وأمة مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه فاعل تسبق وأجلها مفعول به وما يستأخرون عطف على ما سبق وذكر الضمير بعد تأنيثه لمراعات المعنى لأن أمة بمعنى قوم. الفوائد: في شرح النهج لابن أبي حديد: «قال قاضي القضاة: ان أحدا من العقلاء لم يذهب الى نفي الصانع للعالم ولكن قوما من الورّاقين اجتمعوا ووضعوا بينهم مقالة لم يذهب أحد إليها وهي أن العالم قديم لم يزل على هيئته هذه ولا إله للعالم ولا صانع له أصلا وإنما هو هكذا ما زال ولا يزال من غير صانع ولا مؤثر، ومن أشهر الذين أخذوا هذه المقالة من العرب ابن الراوندي وقد أخذ هذه المقالة ونصرها في كتابه المعروف بكتاب التاج» قلت: قد ذكر أبو العلاء المعري ابن الراوندي وتاجه هذا في رسالة الغفران ومما قاله: «وأما ابن الراوندي فلم يكن الى المصلحة بمهدي، وأما تاجه فلا يصلح أن يكون فعلا وهل تاجه إلا كما قالت الكاهنة أف وتف وجورب وخف» . وفي هؤلاء يقول أبو العلاء في لزومياته: ضل الذي قال البلاد قديمة ... بالطبع كانت والأنام كنبتها وأمامنا يوم تقوم هجوده ... من بعد إبلاء العظام ورفتها [سورة المؤمنون (23) : الآيات 44 الى 50] ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 516 اللغة: (تَتْرا) سترد في باب الإعراب. (رَبْوَةٍ) : الربوة والرباوة: الأرض المرتفعة وفي رائهما الحركات الثلاث وقد اختلف المفسرون في المراد بها فقيل بيت المقدس وقيل دمشق وغوطتها، وعن الحسن فلسطين والرملة. (مَعِينٍ) : اسم مفعول من عان يعين كباع يبيع فهو معين كسبيع فالميم زائدة وأصله معيون كمبيوع وقد دخله الاعلال، والمعين: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض وقد اختلف في زيادة ميمه وأصالته، فوجه من جعله مفعولا أنه مدرك بالعين لظهوره من عانه إذا أدركه بعينه نحو ركبه إذا ضربه بركبته، ووجه من جعله فعيلا أنه نفاع بظهوره وجريه من الماعون وهو المنفعة، وقال الراغب: هو من معن الماء جرى وسمي مجرى الماء معيان، وأمعن الفرس تباعد في عدوه، وأمعن بحقي ذهب به، وفلان معن في حاجته أي سريع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 517 الإعراب: (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) ثم حرف عطف وتراخ وأرسلنا فعل وفاعل ورسلنا مفعول به وتترى: التاء مبدلة من الواو وأصله وترى وهو مصدر كشبعى ودعوى فألفه للتأنيث وهو منصوب على الحالية أي متتابعين فهو مصدر واقع موقع الحال ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف تقديره إرسالا تترى اي متتابعا وفي ألفها ثلاثة أقوال: 1- هي للإلحاق بجعفر كالألف في أرطى ولذلك تؤنث في قول من صرفها. 2- هي بدل من التنوين. 3- هي للتأنيث مثل سكرى ولذلك لا تنون على قول من منع الصرف. (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) كلما ظرف متضمن معنى الشرط وجملة جاء أمة إما مضاف إليها وإما لا محل لها وقد تقدم تفصيل البحث عن كلما، وأمة مفعول مقدم ورسولها فاعل مؤخر وجملة كذبوه لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم. (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) الفاء عاطفة وأتبعنا فعل وفاعل وبعضهم مفعول به أول وبعضا به ثان وجعلناهم عطف على أتبعنا والهاء مفعول به أول وأحاديث مفعول به ثان، والأحاديث تكون اسم جمع للحديث ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكون جمعا للأحدوثة التي هي مثل الأضحوكة والألعوبة والأعجوبة وهي مما يتحدث به الناس تزجية للفراغ واجتلابا للسلوى ودفعا للملالة وتعجبا وتلهيا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 518 وفي القاموس «يقال صاروا أحاديث أي انقرضوا» . (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) الفاء استئنافية وبعدا مصدر لفعل محذوف أي بعدوا بعدا وهذا دعاء عليهم ولقوم تقدم القول في هذه اللام قريبا فجدد به عهدا وجملة لا يؤمنون صفة لقوم. (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) ثم حرف عطف وتراخ وأرسلنا فعل وفاعل وموسى مفعول به وأخاه عطف عليه وهارون بدل أو عطف بيان وبآياتنا حال أي حال كونهما ملتبسين بآياتنا فالباء للملابسة وسلطان مبين عطف على آياتنا وهي الآيات التي جاء بها وإنما عطف سلطان على آياتنا لما تميزت به تلك الآيات المرهصة من الفضل حتى كأنها ليست منها والا فإن الشيء لا يعطف على نفسه ومن تلك الحجج القاطعة البينة اليد والعصا. (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) الى فرعون متعلقان بأرسلنا وملئه عطف على فرعون فاستكبروا عطف على أرسلنا وكانوا قوما عالين كان واسمها وخبرها ومعنى عالين متكبرين أو متطاولين على الناس قاهرين لهم بالبغي والظلم، وقد أشار سبحانه الى ذلك في آية أخرى فقال: «وإن فرعون علا في الأرض» . (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) الفاء عاطفة وقالوا فعل وفاعل والضمير يعود على فرعون وملئه والهمزة للاستفهام الانكاري ونؤمن فعل مضارع ولبشرين متعلقان بنؤمن، والبشر يقع على الواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث، ومثلنا صفة وهي كغير في انه يوصف بهما الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث قال تعالى: «إنكم إذن مثلهم» وقال: «ومن الأرض مثلهن» ويقال أيضا هما مثلاه وهم أمثاله. وقومهما الواو للحال وقومهما مبتدأ ولنا متعلقان بعابدون وعابدون خبر قومهما. (فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) الفاء عاطفة وكذبوهما فعل وفاعل ومفعول به فكانوا عطف على كذبوهما وكان واسمها ومن المهلكين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 519 خبرها. (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) الواو استئنافية وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل وموسى مفعول به أول والكتاب مفعول به ثان ولعل واسمها والضمير يعود الى قوم موسى لأن فرعون وقومه كانوا قد بادوا غرقا. (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) الواو عاطفة وجعلنا فعل وفاعل وابن مريم مفعول به أول وأمه عطف على ابن مريم وآية مفعول به ثان ولم يقل آيتين لأن الآية فيهما واحدة وهي الولادة من غير أب ولو قال آيتين لساغ لأن مريم ولدت من غير مسيس وعيسى روح الله ألقي إليها وقد تكلم في المهد وكان يحيي الموتى مع معجزات أخرى فكان آية من غير وجه. (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) وآويناهما عطف على جعلنا أي أسكناهما، والى ربوة متعلقان بآويناهما وقد تقدم القول فيها وذات صفة لربوة وقرار مضاف اليه ومعنى القرار الاستقرار أي جعلناها صالحة للاستقرار فيها بما فيها من مغلّات وطاقات وثمار وماء، ومعين عطف على قرار. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 الى 56] يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 520 الإعراب: (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) يا أيها الرسل تقدم اعرابها والنداء لجميع الأنبياء بحسب تفاوت الأزمنة المترامية بينهم، وكلوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ومن الطيبات متعلقان بكلوا والمراد بالطيبات ما حل وطاب. (وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) واعملوا عطف على كلوا وصالحا مفعول به أو مفعول مطلق وجملة إني تعليل للأمر وان واسمها وبما متعلقان بعليم وجملة تعملون صلة وعليم خبر إن. (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للتنبيه على انتظام أمر هذه الأمة وكمال سدادها. وان واسمها وأمتكم خبرها وأمة حال لازمة وواحدة صفة وأنا الواو عاطفة وأنا مبتدأ وربكم خبر، فاتقون الفاء الفصيحة واتقوني فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء المحذوفة لرسم المصحف مفعول به. (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) الفاء استئنافية وتقطعوا فعل ماض والواو فاعل، وأمرهم تقدم اعرابها في الأنبياء وأنها إما نصب على إسقاط الخافض أي تفرقوا في أمرهم أو أنها مفعول به، وعدّى تقطعوا اليه لأنه بمعنى قطعوا، وبينهم ظرف متعلق بتقطعوا وزبرا حال من فاعل تقطعوا أي أحزابا متخالفين، والزبر جمع زبرة بمعنى القطعة أو جمع زبور بمعنى فريق ولها جمع آخر تقدم في الكهف وهو زبر بفتح الباء، وكل مبتدأ وحزب مضاف اليه وبما متعلقان بفرحون ولديهم ظرف متعلق بمحذوف صلة وفرحون خبر كل حزب. (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) الفاء الفصيحة وذرهم فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم والضمير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 521 لكفار مكة وفي غمرتهم حال أي متخبطين في غمرتهم أو مفعول ثان لذر أي اتركهم متخبطين في غمرتهم، وحتى حرف غاية وجر وحين مجرور بحتى والجار والمجرور متعلقان بذرهم. (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) الهمزة للاستفهام الانكاري التقريعي ويحسبون فعل مضارع وفاعل وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي يحسبون وأن وما اسمها وكان من حقها أن تكتب مفصولة ولكنها كتبت موصولة اتباعا لرسم المصحف وجملة نمدهم صلة وبه متعلقان بنمدهم ومن مال وبنين حال من الموصول. (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) الجملة خبر أن، نسارع فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ولهم متعلقان بنسارع وفي الخيرات حال، بل حرف إضراب انتقالي عن الحسبان ولا نافية ويشعرون فعل وفاعل معطوف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي لا نفعل ذلك بل هم لا يشعرون بشيء أصلا كالبهائم لا فطنة لهم ولا شعور يتيح لهم التأمل فيعرفون أن ذلك الإمداد ما هو إلا استدراج لهم واستجرار الى زيادة الإثم. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 الى 63] إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 522 الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) الجملة ابتدائية مستأنفة مسوقة لذكر الأبرار الذين يشفقون من خشية ربهم، وان واسمها وهم مبتدأ ومن خشية ربهم متعلقان بمشفقون ومشفقون خبر هم والمصدر وهو خشية مضاف لمفعوله أي خائفون من عذابه وجملة هم من خشية ربهم مشفقون صلة الذين. وفي الإشفاق معنى يتضمن زيادة على معنى الخشية، هو معنى الرقة والضعف. (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) عطف على الجملة السابقة وإعرابها مماثل لها وجملة يؤمنون خبرهم. (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) عطف أيضا على إن الذين وجملة يؤتون صلة الذين وما مفعول يؤتون وجملة آتوا صلة وقلوبهم الواو حالية وقلوبهم مبتدأ ووجلة خبره وأنهم أن وما بعدها نصب بنزع الخافض ويكون تعليلا لقوله وجلة والتقدير وجلة من أنهم أي خائفة من رجوعهم الى ربهم وأن واسمها والى ربهم متعلقان براجعون وراجعون خبر أنهم. (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) الجملة خبر إن الذين هم من خشية ربهم وما عطف عليه، فاسم إن أربعة موصولات وخبرها جملة أولئك، وأولئك مبتدأ وجملة يسارعون خبر المبتدأ وفي الخيرات متعلقان بيسارعون والواو عاطفة والجملة معطوفة على سابقتها بمثابة تأكيد لها وهم مبتدأ ولها متعلقان بسابقون وسابقون خبرهم والضمير في لها يعود على الخيرات لتقدمها عليه في اللفظ وهو الظاهر من سياق الكلام وقيل على الجنة وليس ببعيد، ومفعول سابقون محذوف أي سابقون الناس لها ويقال سبق له واليه ويجوز أن تكون اللام للتعليل أي سابقون لأجلها. (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 523 وُسْعَها) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للدلالة على أن التكليف غير خارج عن حدود الطاقات والامكانيات، ولا نافية ونكلف فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ونفسا مفعول نكلف الأول وإلا أداة حصر ووسعها مفعول به ثان. (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الواو عاطفة ولدينا ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وكتاب مبتدأ مؤخر وجملة ينطق صفة وبالحق حال أي ملتبسا بالحق وهم الواو عاطفة وهم مبتدأ وجملة لا يظلمون خبر. (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) بل حرف إضراب للانتقال الى أحوال الكفار المحكية وقلوبهم مبتدأ وفي غمرة خبر ومن هذا صفة لغمرة أي كائنة من هذا الذي وصف به المؤمنون. (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ) الواو عاطفة ولهم خبر مقدم وأعمال مبتدأ مؤخر ومن دون ذلك صفة لأعمال وجملة هم صفة ثانية لأعمال وهم مبتدأ ولها جار ومجرور متعلقان بعاملون، وعاملون خبر هم أي مستمرون عليها ومعنى من دون ذلك أي متجاوزة متخطية لما وصف به المؤمنون. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 64 الى 70] حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 524 اللغة: (مُتْرَفِيهِمْ) : أغنياءهم ورؤساءهم. (يَجْأَرُونَ) : يضجون وفي القاموس: جأر كمنع جأرا وجؤارا رفع صوته بالدعاء وتضرع واستغاث، والبقرة والثور صاحا، والنبات طال، والأرض طال نبتها، والجؤار من النبت الغض والكثير والرجل الضخم» وقال في اللسان والأساس: الجؤار الصراخ باستغاثة. (تَنْكِصُونَ) : في المختار ما يدل على انه من بابي جلس ودخل والمصدر نكوص. (سامِراً) : السامر مأخوذ من السمر وهو سهر الليل وقال الراغب: السامر الليل المظلم وهو اسم جمع كحاج وحاضر وراكب وغائب كانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحرا وشعرا، وسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. (تَهْجُرُونَ) : هو بفتح التاء من الهجران وهو الترك أو من هجر هجرا هذى وتكلم بغير معقول لمرض أو نحوه، وقرىء بضمها من أهجر إهجارا: أفحش في كلامه. الإعراب: (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) حتى هنا ابتدائية يبتدأ بها الكلام وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 525 منصوب بجوابه وهو يجأرون وجملة أخذنا في محل جر بإضافة الظرف إليها ونا فاعل ومترفيهم مفعول به وبالعذاب متعلقان بأخذنا وإذا الثانية حرف مفاجأة قائمة مقام فاء الجزاء في الربط والجملة بعدها جواب إذا الأولى لا محل لها كأنه قيل فهم يجأرون وقيل حتى حرف غاية وجر. (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) لا ناهية وتجأروا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل واليوم متعلق بتجأروا وإنكم تعليل للنهي وإن واسمها ومنا متعلقان بتنصرون ولا نافية وجملة تنصرون خبر إنكم والواو نائب فاعل. (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) قد حرف تحقيق وكانت آياتي كان واسمها وجملة تتلى خبرها وعليكم متعلقان بتتلى، فكنتم الفاء عاطفة وكان واسمها وعلى أعقابكم حال من فاعل تنكصون وجملة تنكصون خبر كنتم. (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) مستكبرين حال ثانية من فاعل تنكصون وبه متعلقان بمستكبرين أي بسببه والضمير في به للبيت العتيق والحرم وقيل عائد الى القرآن، وسامرا حال ثالثة وجملة تهجرون حال رابعة فهي أحوال متداخلة أي كل واحدة مما قبلها. (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان أسباب ركوبهم متن الضلالة، وسيأتي أنها خمسة سنشير إليها في مواطنها، والهمزة للاستفهام الانكاري التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويدبروا فعل مضارع مجزوم بلم والقول مفعول به والفاء عاطفة على محذوف دخلت عليه الهمزة أي فعلوا ما فعلوا مما سبق ذكره فلم يدبروا القول، وأم عاطفة بمعنى بل الانتقالية أي بل أجاءهم بل ألم يعرفوا بل أيقولون، وقوله أفلم يدبروا القول هو السبب الأول لإقدامهم على الضلالة واجترائهم على ارتكابها أي أنهم صدفوا عن التأمل في دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم وفي مقدمتها القرآن المعجز، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 526 وجاءهم فعل ومفعول به ثان وما موصول فاعل وجملة لم يأت آباءهم الأولين صلة وهذا هو السبب الثاني وهو اعتقادهم أن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم أمر غريب لأنها لم تسمع عن الأمم السالفة. (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) عطف على ما تقدم كما ذكرنا وهذا هو السبب الثالث في إقدامهم على ركوب الغي وهو عدم علمهم بأمانة مدعي الرسالة وصدقه قبل أن يدعيها وليس الأمر بهذه المثابة بل أنهم سبروا غوره وعلموا حقيقته واكتنهوا صدقه ولقبوه بالأمين فكيف كذبوه بعد أن أجمعوا على جدارته باللقب الذي أطلقوه عليه. والفاء عاطفة وهم مبتدأ وله متعلقان بمنكرون ومنكرون خبرهم. (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) عطف على ما تقدم أيضا وهذا هو السبب الرابع وهو اعتقادهم فيه الجنون وهذا الاعتقاد مناقض لما كانوا يعتقدون فيه من كمال الرجاحة وتمام الحصافة. وبه خبر مقدم وجنة أي جنون مبتدأ مؤخر بل حرف عطف وإضراب انتقالي، وجاءهم فعل ومفعول به وفاعل مستتر وبالحق متعلقان بجاءهم أو بمحذوف حال أي ملتبسا بالحق والواو حالية وأكثرهم مبتدأ وللحق متعلقان بكارهون وكارهون خبر أكثرهم. الفوائد: معنى وأكثرهم: اعترض الزمخشري على نفسه فوجه إليها سؤالا وأجاب عليه وفيما يلي نص السؤال والجواب قال: «فإن قلت: قوله «وأكثرهم» فيه أن أقلهم كانوا لا يكرهون الحق، قلت: كان فيهم من يترك الايمان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 527 به أنفة واستنكافا من توبيخ قومه وأن يقولوا صبأ وترك دين آبائه لا كراهة للحق كما يحكى عن أبي طالب. فإن قلت يزعم بعض الناس أن أبا طالب صح إسلامه قلت: يا سبحان الله كأن أبا طالب كان أخمل أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يشتهر اسلام حمزة والعباس ويخفى إسلامه» . وهذا جميل من الزمخشري ولكن أولى من ذلك أن يكون الضمير في قوله «وأكثرهم» عائدا على الجنس للناس كافة ولما ذكر هذه الطائفة من الجنس بنى الكلام في قوله وأكثرهم على الجنس بجملته كقوله: «إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين» وكقوله: «وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين» ويدل على ذلك قوله تعالى «بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ» والنبي صلى الله عليه وسلم جاء الى الناس كلهم وبعث الى الكافة ويحتمل أن يحمل الأكثر على الكل كما حمل القليل على النفي، وأما قول الزمخشري إن من تمادى على الكفر وآثر البقاء عليه تقليدا لآبائه ليس كارها للحق فمردود فإن من أحب شيئا كره ضده فإذا أحبوا البقاء على الكفر فقد كرهوا الانتقال عنه الى الايمان ضرورة، ثم انجر الكلام الى استبعاد ايمان أبي طالب وتحقيق القول فيه أنه مات على الكفر ووجه ذلك بأنه أشهر عمومة النبي صلى الله عليه وسلم فلو كان قد أسلم لاشتهر إسلامه كما اشتهر اسلام العباس وحمزة لأنه أشهر، وللقائل بإسلامه أن يعتذر عن عدم شهرته بأنه إنما أسلم قبيل الاحتضار فلم يظهر له مواقف في الإسلام يشتهر بها كما اشتهر لغيره من عمومته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 528 [سورة المؤمنون (23) : الآيات 71 الى 76] وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) اللغة: (خَرْجاً) : أجرا وخراجا ويغلب في الخرج أن يكون مال العنق وفي الخراج مال العقار ونقيض الدخل وقيل الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك أداؤه، والوجه أن الخرج أخص من الخراج، ومعنى الآية: أم تسألهم عن هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق فالكثير من عطاء الخالق خير. (ناكبون) عادلون وزائفون ومائلون وكل من لا يؤمن بالآخرة فهو عن القصد ناكب. (لجوا) : اللجاج وهو التمادي في العناد، وفي المصباح: لجّ في الأمر لججا من باب تعب ولجاجا ولجاجة فهو لجوج ولجوجة مبالغة إذا لازم الشيء وواظبه ومن باب ضرب لغة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 529 (يَعْمَهُونَ) : في المصباح: «عمه في طغيانه عمها من باب تعب إذا تردّد متحيرا، وتعامه مأخوذ من قولهم أرض عمهاء إذا لم يكن فيها أمارات تدل على النجاة فهو عمه وأعمه. (اسْتَكانُوا) : يقال: استكان أي انتقل من كون الى كون كاستحال إذا انتقل من حال الى حال وأصله استكون نقلت حركة الواو الى ما قبلها ثم قلبت ألفا، هذا ما قاله علماء اللغة ولكن اعترض بعضهم على هذا التنظير وحجته أن استكان على تأويله أحد أقسام استفعل الذي معناه التحول كقولهم استحجر الطين واستنوق الجمل، وأما استحال فثلاثيه حال إذا انتقل من حال الى حال وإذا كان الثلاثي يفيد التحول لم يبق لصيغة استفعل فيها أثر فليس استحال من استفعل للتحول ولكنه من استفعل بمعنى فعل وهو أحد أقسامه إذا لم يزد السداسي فيه على الثلاثي معنى. ثم نعود الى تأويله فنقول: المعنى عليه فما انتقلوا من كون التكبر والتجبر والاعتياض الى كون الخضوع والضراعة الى الله تعالى، ولقائل أن يقول: استكان يفيد على التأويل المذكور الانتقال من كون الى كون فليس حمله على أنه انتقال عن التكبر الى الخضوع بأولى، وترى هذه الصيغة لا تفهم إلا أحد الانتقالين، فلو كانت مشتقة من مطلق الكون لكانت مجملة محتملة للانتقالين جميعا والجواب أن أصلها كذلك على الإطلاق ولكن غلب العرف على استعمالها في الانتقال الخاص كما غلب في غيرها. ولما دخل أحمد بن فارس اللغوي الوزير بغداد في زمن الامام الناصر جمع له جميع علماء بغداد وعقد بهم محفلا للمناظرة فانجر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 530 الكلام الى هذه الآية فقال: الأصل اللغوي هو مشتق من قول العرب: كنت لك إذا خضعت، وهي لغة هذلية فاستحسن ابن فارس ذلك منه، وعلى هذا يكون من استفعل بمعنى فعل كقولهم استقر واستعلى وحال واستحال على ما مر وانما لم يجعل من استفعل المبني للمبالغة مثل استحسر واستعصم من حسر وعصم لأن المعنى يأباه وذلك أنها جاءت في النفي والمقصود منها ذم هؤلاء بالجفوة والقسوة وعدم الخضوع مع ما يوجب نهاية الضراعة من أخذهم بالعذاب، فلو جعلت للمبالغة أفادت نقص المبالغة لأن نفي الأبلغ أدنى من نفي الأدنى وكأنهم على ذلك ذموا بنفي الخضوع الكثير وأنهم ما بلغوا في الضراعة نهايتها وليس الواقع فانهم ما اتسموا بالضراعة ولا بلحظة منها فكيف تنفى عنهم النهاية الموهمة لحصول البداية؟ ووزن استفعل على ضربين متعد وغير متعد فالمتعدي قولهم استحقه واستقبحه وغير المتعدي استقدم واستأخر ويكون فعل منه متعديا وغير متعد فالمتعدي نحو علم واستعلم وفهم واستفهم وغير المتعدي نحو قبح واستقبح وحسن واستحسن، وله معان أحدها الطلب والاستدعاء كقولك استعطيت أي طلبت العطية واستعتبته أي طلبت اليه العتبى ومنه استفهمت واستخبرت، والثاني أن يكون للاصابة كقولك استجدته واستكرمته أي وجدته جيدا وكريما، وقد يكون بمعنى الانتقال والتحول من حال الى حال نحو قولهم استنوق الجمل إذا صار على خلق الناقة واستتيست الشاة إذا أشبهت التيس ومنه استحجر الطين إذا تحول الى طبع الحجر في الصلابة، وقد يكون بمعنى تفعل لتكلف الشيء وتعاطيه نحو استعظم بمعنى تعظم واستكبر بمعنى تكبر كقولهم تشجّع وتجلّد وربا عاقب فعل قالوا: قرّ في المكان واستقرّ وعلا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 531 قرنه واستعلاه، قال الله تعالى: «وإذا رأوا آية يستسخرون» والغالب على هذا البناء الطلب والإصابة وما عدا ذينك فانه يحفظ حفظا ولا يقاس عليه. الإعراب: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) الواو استئنافية ولو شرطية واتبع الحق فعل وفاعل وأهواءهم مفعول به واللام واقعة في جواب الشرط وفسدت السموات والأرض فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومن عطف على السموات والأرض وفيهن متعلقان بمحذوف صلة من. (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) بل حرف إضراب انتقالي وآتيناهم فعل وفاعل ومفعول به وبذكرهم متعلقان بآتيناهم، والمعنى كيف يكرهون الحق مع أن القرآن أتاهم بتشريفهم والتنويه بذكرهم. والفاء عاطفة وهم مبتدأ وعن ذكرهم متعلقان بمعرضون ومعرضون خبر هم. (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) عطف انتقالي على «أم به جنة» وهو السبب الخامس من أسباب ركوبهم متن الضلالة العمياء وتسألهم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنت ومفعول به أول وخرجا مفعول به ثان والفاء تعليلية أو فصيحة وردت مورد التعليل للسؤال المستفاد من الإنكار، وخراج مبتدأ وربك مضاف اليه وخير خبر، وهو الواو حرف عطف وهو مبتدأ وخير الرازقين خبر. (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الواو حرف عطف وان واسمها واللام المزحلقة وتدعوهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به والى صراط متعلقان بتدعوهم ومستقيم صفة. (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 532 بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) الواو عاطفة وان واسمها وجملة لا يؤمنون صلة وبالآخرة متعلقان بيؤمنون وعن الصراط متعلقان بناكبون واللام المزحلقة وناكبون خبر إن. (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) الواو استئنافية مسوقة لبيان أصابتهم بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم الى المدينة بالقحط حتى روي أنهم أكلوا العلهز وهو كما في الصحاح طعام كانوا يتخذونه من الدم ووبر البعير في سني المجاعة وسيأتي تفصيل هذه الحادثة في باب الفوائد. ولو شرطية ورحمناهم فعل وفاعل ومفعول به وكشفنا عطف على رحمناهم وما مفعول به وبهم متعلقان بمحذوف صلة ما ومن ضر حال، للجّوا اللام رابطة لجواب لو وجملة لجوا لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم وفي طغيانهم متعلقان بيعمهون وجملة يعمهون حالية. (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأخذناهم فعل وفاعل ومفعول به وبالعذاب متعلقان بأخذناهم، فما استكانوا عطف على أخذناهم وما نافية واستكانوا فعل وفاعل ولربهم متعلقان باستكانوا، والواو حرف عطف وما نافية ويتضرعون فعل مضارع وفاعل وسيأتي سر عطف المضارع على الماضي في باب البلاغة. البلاغة: عطف المضارع على الماضي لإفادة الماضي وجود الفعل وتحققه، وهو بالاستكانة أحق بخلاف التضرع فإنه أخبر عنهم بنفي ذلك في الاستقبال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 533 الفوائد: قوله تعالى: «وَلَوْ رَحِمْناهُمْ» الآية والآية التي تليها، هاتان الآيتان مدنيتان فإن أصابتهم بالقحط إنما كانت بعد خروجه صلى الله عليه وسلم من بينهم، روى التاريخ أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة ومنع الميرة من أهل مكة وأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز- وقد قدمنا تفسيره- جاء أبو سفيان الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال بلى، فقال: قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت الآية. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 77 الى 83] حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 534 اللغة: (مُبْلِسُونَ) : في المصباح: «البلاس مثل سلام هو المسح، وهو فارسي معرب والجمع بلس بضمتين مثل عناق عنق، وأبلس الرجل ابلاسا سكت، وأبلس أيس، وفي التنزيل فإذا هم مبلسون» . (ذَرَأَكُمْ) : خلقكم وبثكم بالتناسل. الإعراب: (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) حتى حرف تبتدأ به الجمل وقد تقدم نظيره قريبا وقيل هي غاية وجر، إذا شرطية ظرفية متعلقة بمبلسون وجملة فتحنا في محل جر باضافة الظرف إليها وعليهم متعلقان بفتحنا وبابا مفعول به وذا عذاب صفة لبابا وإذا الثانية حرف مفاجأة قائمة مقام فاء الجزاء في الربط والجملة بعدها جواب إذا الأولى كأنه قيل فهم فيه مبلسون، وهم مبتدأ وفيه متعلقان بمبلسون، ومبلسون خبر هم. (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقريع الكافرين وتذكير المؤمنين فهو خطاب عام، وهو مبتدأ والذي خبر وجملة أنشأ صلة ولكم متعلقان بأنشأ والسمع مفعول به والأبصار والأفئدة عطف عليه وقليلا منصوب على أنه مفعول مطلق صفة لمحذوف هو المفعول المطلق في الحقيقة تقديره شكرا قليلا وما زائدة للتوكيد بمعنى حقا وإنما خص هذه الأعضاء لأنه يناط بها من المنافع مالا يناط بغيرها، هذا من جهة ومن جهة ثانية من لم يعمل هذه الأعضاء فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها، وسيأتي مزيد بسط في هذا الصدد في باب البلاغة. (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 535 عطف على ما تقدم وإعرابه ظاهر. (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) وهو الذي عطف على ما تقدم وله خبر مقدم واختلاف الليل والنهار مبتدأ مؤخر والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف مقدر ولا نافية وتعقلون فعل مضارع وفاعل. (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) بل حرف إضراب انتقالي وقالوا فعل وفاعل ومثل صفة لمصدر محذوف أي قولا مثل قول الأولين وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مضاف لمثل والأولون فاعل. (قالُوا: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) الجملة بدل من الجملة قبلها أي مستأنفة، والهمزة للاستفهام الاستبعادي وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة متنا في محل جر باضافة إذا إليها وكنا عطف على متنا وكان واسمها وترابا خبرها وعظاما عطف على ترابا والهمزة للاستفهام الاستبعادي أيضا وان واسمها واللام المزحلقة ومبعوثون خبرها. (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ) اللام جواب للقسم المحذوف ووعد فعل ماض مبني للمجهول ونا نائب فاعل ونحن تأكيد للضمير وآباؤنا معطوف على الضمير المتصل وسوغ العطف الفصل بالمنفصل ومن قبل متعلقان بوعدنا أو بمحذوف صفة لقوله آباؤنا أي الكائنون من قبل والمعنى على الجميع لقد وعدنا وآباؤنا بالبعث فلم نر هذا الوعد صدقا وانما رأيناه أساطير الأولين. (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) إن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وأساطير الأولين خبر هذا. البلاغة: 1- وحد السمع في قوله تعالى «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ» لوحدة المسموع دون الابصار والأفئدة أو لأنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 536 مصدر في الأصل والمصادر لا تجمع فلمح الى الأصل وقد تقدمت الاشارة الى ذلك في البقرة فجدد به عهدا. 2- في قوله «بل قالوا مثل ما قال الأولون» الفصل أي قطع احدى الجملتين عن الأخرى للاتحاد فقد فصل: قالوا أئذا متنا وكنا ترابا إلخ غما قبله لقصد البدل لكونه أوفى بالمقصود من لأول لأن ما قال الأولون أقوال كثيرة ولا يدرى أي قول يراد من تلك الأقوال والأحسن أن يقال إن أريد بقوله مثل ما قال الأولون ما نقل عنهم من قولهم أئذا متنا إلخ وهو الظاهر كان بدل كل من كل. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 84 الى 96] قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 537 الإعراب: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة استئنافية، ولمن خبر مقدم ومن استفهامية والأرض مبتدأ مؤخر ومن عطف على الأرض ومن موصولية وعبر عنهم بمن تغليبا للعقلاء كما تقرر وفيها متعلقان بمحذوف صلة من وان شرطية وكنتم تعلمون كان واسمها وجملة تعلمون خبرها وكنتم فعل الشرط والجواب محذوف أي فأخبروني بخالقهما، وفي هذا تلويح بغباوتهم. (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة للاخبار من الله تعالى عما يقع منهم في الجواب قبل وقوعه ولله متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف تقديره هي، والجملة مقول القول، قل فعل أمر والمراد بالأمر التوبيخ والتأنيب والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والفاء عاطفة على محذوف ولا نافية وتذكرون فعل مضارع بحذف إحدى التاءين والأصل تتذكرون. (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) من اسم استفهام مبتدأ ورب السموات السبع خبره الجزء: 6 ¦ الصفحة: 538 ورب العرش العظيم عطف عليه. (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) لله خبر لمبتدأ محذوف أي لا بد لهم أن يقولوا ذلك وأتى باللام نظرا الى معنى السؤال، فإن قولك من ربه ولمن هو في معنى واحد كقولك من رب هذه الدار فيقال زيد ويقال لزيد. (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) من اسم استفهام مبتدأ ويده خبر مقدم وملكوت كل شيء مبتدأ مؤخر والجملة خبر من والتاء والواو في ملكوت زائدتان للمبالغة كزيادتهما في الرحموت والرهبوت من الرحمة والرهبة، والملكوت الملك العظيم والعز والسلطان، والملكوت السماوي هو محل القديسين في السماء، والواو عاطفة أو حالية وهو مبتدأ وجملة يجير خبر والواو عاطفة وجملة لا يجار عطف على يجير والمعنى يغيث من يشاء ويحرسه ولا يغاث أحد منه وعدي بعلى لتضمنه معنى النصر. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إن شرطية وكنتم فعل الشرط والجواب محذوف كما تقدم أي فأخبروني. (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) لله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف وفيه نظر الى أن المعنى من له ما ذكر والتقدير في الأولى قل من له السموات السبع وفي الثاني قل من له ملكوت كل شيء فلام الجر مقدرة في السؤال فظهرت في الجواب نظرا للمعنى وقد قرىء بإسقاطها مع رفع الجلالة جوابا على اللفظ لقوله من لأن المسئول به مرفوع المحل وهو من فجاء جوابه مرفوعا مطابقا له في اللفظ. فأنى الفاء الفصيحة وأنى اسم استفهام بمعنى كيف وهي في محل نصب على الحال وتسحرون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) بل حرف إضراب وعطف وأتيناهم فعل وفاعل ومفعول به وبالحق حال والواو حالية وان واسمها واللام المزحلقة وكاذبون خبر إن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 539 (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) ما نافية واتخذ الله فعل وفاعل ومن حرف جر زائد وولد مجرور لفظا منصوب محلا لأنه مفعول به والواو عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم ومن حرف جر زائد وإله مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه اسم كان. (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) إذن حرف جواب وجزاء مهمل والى هذا ذهب الفراء وقد تقدم القول فيه في الاسراء واليه جنح الزمخشري قال: «فإن قلت إذن لا تدخل إلا على كلام هو جواب وجزاء فكيف وقع قوله: إذن لذهب جوابا وجزاء ولم يتقدم شرط ولا سؤال سائل؟ قلت: الشرط محذوف تقديره لو كان معه آلهة فحذف لدلالة: وما كان معه من إله» واختار غير الفراء والزمخشري أن تكون إذن بمعنى لو الامتناعية وعليه جرى البيضاوي قال: «أي لو كان معه آلهة كما تقولون لذهب كل واحد منهم بما خلقه واستبد به وامتاز ملكه عن ملك الآخرين ووقع بينهم التحارب والتغالب كما هو حال ملوك الدنيا فلم يكن بيده وحده ملكوت كل شيء واللازم باطل بالإجماع والاستقراء وقيام البرهان على استناد جميع الكائنات الى واجب واحد» واللام واقعة في جواب الشرط على كلا القولين، وذهب كل إله فعل وفاعل والجملة لا محل لها وبما خلق متعلقان بذهب وجملة خلق صلة ولعلا بعضهم على بعض عطف على ما تقدم. (سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) سبحان الله نصب على المصدر وعما متعلقان بسبحان وجملة يصفون صلة ويجوز أن تكون ما مصدرية أي عن وصفهم. (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) عالم الغيب بالجر على البدلية من الجلالة أو صفة له وقرىء بالرفع على القطع فهو خبر لمبتدأ محذوف، فتعالى الفاء عاطفة كأنه قال علم الغيب فتعالى، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 540 وعما متعلقان بتعالى وجملة يشركون صلة. (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ) رب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وإما أدغمت إن الشرطية بما الزائدة وتريني فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وهو في محل جزم فعل الشرط والنون للوقاية والياء مفعول به وما مفعول به ثان فهي بصرية تعدت لمفعولين بواسطة الهمزة لأنه من أرى الرباعي وجملة يوعدون صلة ما والعائد محذوف أي يوعدون به من العذاب (رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) هذا جواب الشرط والفاء رابطة وأعيد لفظ رب منادى مبالغة في التضرع والابتهال ولا ناهية وتجعلني فعل مضارع مجزوم بلا والنون للوقاية والياء مفعول به أول وفي القوم مفعول به ثان والظالمين صفة. (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) الواو عاطفة على ما تقدم وان واسمها وعلى أن نريك متعلقان بقادرون وأن حرف مصدري ونصب ونرى مضارع منصوب بأن والفاعل مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به أول وما مفعول به ثان وقد تقدم القول في أرى البصرية، واللام المزحلقة وهي لام الابتداء زحلقت الى الخبر وقادرون خبر إنا. (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) كلام مستأنف مسوق لحث النبي صلى الله عليه وسلم على الصفح عن مساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الإحسان. وادفع فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وبالتي جار ومجرور متعلقان بادفع والتي نعت لمحذوف أي الخصلة، وهي أحسن مبتدأ وخبر والجملة الاسمية صلة التي، والسيئة مفعول به وجملة نحن أعلم حالية ونحن مبتدأ وأعلم خبر وبما متعلقان بأعلم وجملة يصفون صلة ويجوز أن تكون ما مصدرية أي بوصفهم لك وسوء ذكرهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 541 البلاغة: في قوله تعالى «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ» عدول عن مقتضى السياق لسرّ بليغ فالظاهر أن يقول ادفع بالحسنة السيئة ولكنه عدل عن مقتضى الكلام لما فيه من التفصيل، والمعنى: ادفع السيئة بما أمكن من الإحسان حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الاستطاعة فيه كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة، ولمعترض أن يقول كيف تسوغ هذه المفاضلة التي هي اشتراك في أمر والتميز بغيره وليس ثمة أي اشتراك بين الحسنة والسيئة فانهما ضدان متقابلان فما وجه هذه المفاضلة اذن؟ والجواب: ان الحسنة من باب الحسنات أزيد من السيئة من باب السيئات فتجيء المفاضلة مما هو أعم من كون هذه حسنة وهذه سبئة وذلك شأن كل مفاضلة بين ضدين كقولك العسل أحلى من الخل يعني أنه في الأصناف الحلوة أميز من الخل في الأصناف الحامضة وليس لأن بينهما اشتراكا خاصا، ومن هذا الوادي ما يحكى عن أشعب الماجن أنه قال: نشأت أنا والأعمش في حجر فلان فما زال يعلو وأسفل حتى استوينا بمعنى أنهما استويا في بلوغ كل منهما الغاية: أشعب بلغ الغاية على السفلة والأعمش بلغ الغاية على العلية. هذا ويجوز أن يراد وجه آخر وهو أن تكون المفاضلة بين الحسنات التي تدفع بها السيئة فانها قد تدفع بالصفح والإغضاء ويقنع في دفعها بذلك وقد يزاد على الصفح الإكرام وقد تبلغ غايته ببذل الاستطاعة فهذه الأنواع من الدفع كلها دفع بحسنة ولكن أحسن هذه الحسنات في الدفع هي الأخيرة لاشتمالها على عدد من الحسنات، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأحسن الحسنات في دفع السيئة وعندئذ تجري المفاضلة على حقيقتها من غير تأويل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 542 [سورة المؤمنون (23) : الآيات 97 الى 104] وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) اللغة: (هَمَزاتِ) : جمع همزة وهي النخسة والدفعة بيد وغيرها وفي الأساس واللسان: «همز رأسه عصره وهمز الجوزة بكفه، ومن المجاز: همز الرجل في قفاه: غمز بعينه ورجل همزة وهمّاز والشيطان يهمز الإنسان: يهمس في قلبه وسواسا ويقال: أعوذ بالله من همسه وهمزه ولمزه و «أعوذ بك من همزات الشياطين» وفي المختار: «وهمزات الشيطان: خطراته التي يخطرها بقلب الإنسان» قلت: وأصل الهمز النخس ومنه مهماز الرائض، شبّه حثهم الناس على المعاصي بهمز الرائض الدواب على المشي والجمع للمرّات أو لتنوع الوساوس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 543 (بَرْزَخٌ) : حاجز يصدهم عن الرجوع الى الدنيا، والبرزخ هو الحاجز بين المتنافيين، وقيل الحجاب بين الشيئين أن يصل أحدهما الى الآخر، وقال الراغب: أصله برزه فعرّب وهو في القيامة الحائل بين الإنسان وبين المنازل الرفيعة، والبرزخ قيل هو الحائل بين الإنسان وبين الرجعة التي يتمناها. (تَلْفَحُ) اللفح أشد النفح لأنه الإصابة بشدة والنفح الاصابة مطلقا كما في قوله تعالى: «وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ» وفي القاموس لفح يلفح من باب فتح فلانا بالسيف ضربه به، ولفحت النار لفحا ولفحانا أو السموم بحرها فلانا أصابت وجهه وأحرقته. (كالِحُونَ) : الكلوح أن تتقلص الشفتان وتتشمرا عن الأسنان كما ترى الرؤوس المشوية، وعن مالك بن دينار: كان سبب نوبة عتبة الغلام أنه مرّ في السوق برأس قد أخرج من التنور فغشي عليه ثلاثة أيام ولياليهن وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته» وفي المختار: «الكلوح تكشّر في عبوس وبابه خضع» قلت: ومنه كلوح الأسد أي تكشيره عن أنيابه ودهر كالح وبرد كالح أي شديد. الإعراب: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة ولك أن تعطفها على ما تقدم ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وأعوذ فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا، وبك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 544 متعلقان بأعوذ وكذلك قوله من همزات الشياطين. (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) عطف على ما تقدم وأعيد كل من العامل والنداء مبالغة وزيادة اعتناء بهذه الاستعاذة، وأن حرف مصدري ونصب ويحضرون منصوب بأن وعلامة نصبه حذف النون والنون للوقاية والواو فاعل وياء المتكلم المحذوفة في محل نصب مفعول به. (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) يجوز أن تكون غاية ليصفون متعلقة بها أي لا يزالون على سوء الذكر الى هذا الوقت، ويجوز أن تكون ابتدائية، وإذا ظرف مستقبل متعلق بقال وجملة جاء مضاف إليها الظرف وأحدهم مفعول به مقدم والموت فاعل مؤخر وجملة قال لا محل لها ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وارجعون فعل أمر مبني على حذف النون وواو الجماعة فاعل والنون للوقاية والياء المحذوفة لرسم المصحف مفعول به وإنما جمع والمخاطب واحد وهو الله تعالى للتعظيم وقال أبو البقاء: «فيه ثلاثة أوجه أحدها انه جمع على التعظيم كما قال تعالى «إنا نحن نزلنا الذكر» وكقوله تعالى: «ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا» والثاني أنه أراد يا ملائكة ربي ارجعون والثالث أنه دل بلفظ الجمع على تكرير القول فكأنه قال ارجعني ارجعني» وما ذكرناه أولى ولعل واسمها وجمل اعمل خبرها وصالحا مفعول به أو مفعول مطلق وفيما صفة لصالحا أو متعلقان باعمل وجملة تركت صلة أي ضيعت من عمري من دون جدوى أو فائدة. (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) كلا حرف ردع وزجر وسيأتي القول فيها مفصلا أي لن تكون له رجعة وإن واسمها وكلمة خبرها وسيأتي بحث مفيد عن الكلمة في باب الفوائد وهو مبتدأ وقائلها خبر والجملة الاسمية صفة لكلمة والواو إما عاطفة وإما حالية ومن ورائهم خبر مقدم وبرزخ مبتدأ والى يوم صفة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 545 لبرزخ وجملة يبعثون مضاف إليها الظرف، وليس المراد انهم يرجعون يوم البعث ولكنه اقناط كلي عن الرجوع الى الدنيا فليست الغاية داخلة في المغيا وانما المراد أنه غيا رجوعهم بالمحال فهو يشبه قوله تعالى: «حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ» . (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) الفاء استئنافية وإذا ظرف مستقبل متعلق بما في الجواب من معنى النفي أي انتفى ذلك، وجملة نفخ مضاف إليها الظرف وفي الصور متعلقان بنفخ والفاء رابطة لجواب إذ ولا نافية للجنس وأنساب اسمها مبني على الفتح وبينهم ظرف متعلق بمحذوف خبرها ويومئذ ظرف متعلق بمحذوف صفة لأنساب أو بالمحذوف الذي تعلق به الخبر والتنوين في يومئذ عوض عن جملة تقديرها يوم نفخ الصور، وسيأتي معنى نفي الأنساب في باب البلاغة، ولا يتساءلون عطف على ما سبق ويتساءلون فعل مضارع وفاعل أي لا يسأل بعضهم بعضا عنها كما سيأتي. (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفاء للتفريع والجملة معطوفة أو مستأنفة ومن شرطية مبتدأ وثقلت فعل الشرط وموازينه فاعل فأولئك الفاء رابطة للجواب لأنه جملة اسمية وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ ثان أو ضمير فصل والمفلحون خبر أولئك أو خبر هم والجملة خبر أولئك. (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) الجملة معطوفة على سابقتها ومثيلتها وفي جهنم متعلقان بخالدون وخالدون خبر لمبتدأ محذوف أو خبر بعد خبر لأولئك وارتأى الزمخشري أن يكون بدلا من خسروا أنفسهم ولا محل للبدل والمبدل منه لأن صلة الموصول لا محل لها. (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) الجملة مستأنفة أو خبر ثان أو حال ووجوههم مفعول به الجزء: 6 ¦ الصفحة: 546 مقدم والنار فاعل مؤخر والواو عاطفة أو حالية وهم مبتدأ وفيها متعلقان بكالحون أو بمحذوف حال من هم وكالحون خبر. البلاغة: في قوله تعالى «فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ» فن التنكيت وقد تقدم بحثه فقد قصد بنفي الأنساب وهي موجودة أمرا آخر لنكتة فيه، فإن الأنساب ثابتة لا يصح نفيها وقد كان العرب يتفاخرون بها في الدنيا ولكنه جنح الى نفيها إما لأنها تلغو في الآخرة إذ يقع التقاطع بينهم فيتفرقون معاقبين أو مثابين، أو أنه قصد بالنفي صفة للأنساب محذوفة أي يعتد بها حيث تزول بالمرة وتبطل لزوال التراحم والتعاطف من فرط البهر والكلال واستيلاء الدهشة عليهم. الفوائد: تطلق الكلمة في اللغة على الكلام، وهذا الإطلاق اختلف فيه العلماء فذهب السنهوري في شرح الأجرومية وابن هشام في شذور الذهب الى أن الإطلاق حقيقي كائن في أصل اللغة، قال صاحب القاموس «الكلمة وجمعها كلم وكلمات: اللفظة وما ينطق به الإنسان مفردا كان أو مركبا» وقيل إن الإطلاق المذكور من قبيل الاستعارة وان أجزاء الكلام لمّا ارتبط بعضها ببعض حصلت له بذلك وحدة فشابه بذلك الكلمة فأطلق لفظها عليه، والآية صريحة في تأكيد هذا الإطلاق، ونحوها قوله صلى الله عليه وسلم: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكلّ نعيم لا محالة زائل وقولهم كلمة الشهادة يريدون: لا إله إلا الله محمد رسول الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 547 [سورة المؤمنون (23) : الآيات 105 الى 110] أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) اللغة: (شِقْوَتُنا) : أحد مصادر شقي، وفي المختار: «الشقاء والشقاوة بالفتح ضد السعادة وقرأ قتادة شقاوتنا بالكسر وهي لغة وقد شقي بالكسر شقاء وشقاوة أيضا وأشقاه الله فهو شقي بيّن الشقوة» وفي القاموس وشرحه «شقي يشقى من باب تعب شقا وشقاوة وشقاوة وشقوة وشقوة ضد سعد فهو شقي والجمع أشقياء» . (اخْسَؤُا) : ذلوا فيها وانزجروا كما تنزجر الكلاب إذا زجرت وفي الصحاح: «خسأت الكلب وخسأ بنفسه يتعدى ولا يتعدى» وفي المختار: «خسأ الكلب طرده من باب قطع وخسأ هو بنفسه خضع» وللخاء مع السين فاء وعينا خاصة واحدة وهي أن الكلمة تدل على المهانة والمذلة وقد تقدم القول في خسأ، وخسر التاجر في بيعه خسرانا وخسرا وتاجر خاسر وأخسر الميزان وخسّره نقصه وميزان مخسور وأخسر فلان وأكسد وقع في الخسران والكساد وأخسرت الرجل نقيض الجزء: 6 ¦ الصفحة: 548 أربحته وقيل لسلم الخاسر لأنه باع مصحفا ورثه واشترى بثمنه عودا يضرب به، والخسة معروفة وهي النذالة، تقول: خسست يا رجل تخس مثل مسست تمس خسة وخساسة ورجل خسيس وقوم أخسة وما رأيت أخسّ منه والخس ترياق ويقال: أين نبت الخس، من فصاحة قسّ وكلاهما من إياد، ولكن أين الأخامص من الأجياد، وخسف القمر وخسفت الأرض وانخسفت ساخت بما عليها وخسف الله بهم الأرض ومن المجاز سامه خسفا أي ذلا وهوانا ورضي بالخسف وبات على الخسف: على الجوع وشربوا على الخسف على غير ثقل وعين خاسفة فقئت حتى غابت حدقتها في الرأس وخسفت عينه وانخسفت وخسف بدنه: هزل، وفلان بدنه خاسف ولونه كاسف قال يصف صائدا: أخو قترات قد تبين أنه ... إذا لم يصب لحما من الوحش خاسف وخسفت إبلك وغنمك وأصابتها الخسفة وهي تولية الطرق وإن للمال خسفتين: خسفة في الحر وخسفة في البرد، وهو مخسول ومخسّل: وقد خسله وخسّله. وقال: ونحن الثريا وجوزاؤها ... ونحن الذراعان والمرزم وأنتم كواكب مخسولة ... ترى في السماء ولا تعلم وقولهم أخسا أم زكا أي أوتر أم شفع، وتخاسى الصبيان تلاعبوا بذلك، وقال الممزق: تخاس يداها بالحصى وترضّه ... بأسمر صرّاف إذا جمّ مطرق وفي هذا القدر ما يكفي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 549 (سِخْرِيًّا) : بالكسر والضم مصدر سخر كالسخر إلا أن في ياء النسب زيادة في قوة الفعل كما قيل الخصوصية في الخصوص وعن الكسائي والفراء أن المكسور من الهزء والمضموم من السخرة والعبودية والأول مذهب الخليل وسيبويه والمراد بهم الصحابة وقيل أهل الصفّة خاصة وفي المصباح: «سخرت منه سخرا من باب تعب هزئت به والسخري بالكسر لغة فيه والسخرة وزان غرفة ما سخرت من خادم أو دابة بلا أجر والسخري بالضم بمعناه وسخرته في العمل بالتثقيل استعملته مجانا وسخر الله الإبل ذللها وسهلها» . الإعراب: (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) الهمزة للاستفهام التقريري والتوبيخي ولم حرف نفي وقلب وجزم وتكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم وآياتي اسمها وجملة تتلى خبرها وعليكم متعلقان بتتلى، فكنتم الفاء عاطفة وكان واسمها وبها متعلقان بتكذبون وجملة تكذبون خبر كنتم. (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) قالوا فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بالواو والواو فاعل وربنا منادى مضاف وغلبت فعل ماض والتاء للتأنيث وعلينا متعلقان بغلبت وشقوتنا فاعل غلبت، وكنا الواو عاطفة وكان واسمها وقوما خبرها وضالين صفة. (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) ربنا منادى مضاف وكرره للعناية به وأخرجنا فعل أمر معناه الدعاء ومنها متعلقان بأخرج والفاء عاطفة وإن شرطية وعدنا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والضمير فاعل والفاء رابطة لجواب الشرط لأنه جملة اسمية وان واسمها وظالمون خبرها والجملة في محل جزم جواب الشرط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 550 (قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) جملة اخسئوا مقول القول وهو فعل آمر والواو فاعل وفيها متعلقان باخسئوا ولا الواو عاطفة ولا ناهية وتكلمون فعل مضارع مجزوم بلا والنون للوقاية والياء المحذوفة مفعول به. (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) جملة تعليلية لما قبلها من الزجر، وإن واسمها وجملة كان خبرها وفريق اسم كان ومن عبادي صفة لفريق وجملة يقولون خبر كان وربنا منادى مضاف وجملة آمنا مقول القول، فاغفر لنا الفاء عاطفة واغفر فعل أمر معناه الدعاء وارحمنا عطف عليه، وأنت الواو استئنافية وأنت مبتدأ وخير الراحمين خبر. (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) الفاء عاطفة واتخذتموهم فعل وفاعل ومفعول به والميم علامة جمع الذكور والواو لاشباع ضمة الميم وسخريا مفعول به ثان ومن هؤلاء المهاجرين بلال وصهيب وعمار وخباب وحتى حرف غاية وجر وأنسوكم فعل ماض وفاعل ومفعول به أول وذكرى مفعول به ثان وكنتم كان واسمها ومعهم متعلقان بتضحكون وجملة تضحكون خبر كنتم والمعنى لم يعد لكم شغل إلا الهزء بهم والضحك منهم. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 111 الى 118] إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 551 اللغة: (الْعادِّينَ) : بتشديد الدال جمع عاد من عدّ الشيء يعدّه بضم العين في المضارع إذا أحصاه وحسبه. (عَبَثاً) العبث بفتحتين: اللعب ومالا فائدة فيه وكل ما ليس فيه غرض صحيح يقال عبث يعبث عبثا إذا خلط عمله بلعب وأصله من قولهم عبثت الأقط أي خلطته والعبث طعام مخلوط ومنه العوبثاني لتمر وسويق وسمن مختلط. الإعراب: (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان حسن حالهم أنهم انتفعوا بإذايتهم إياهم. وان واسمها وجملة جزيتهم خبر إن وجزيتهم فعل ماض وفاعل ومفعول به أول واليوم ظرف لجزيتهم وبما متعلقان بجزيتهم والباء للسببية أي بسبب صبرهم وما مصدرية وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول ثان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 552 لجزيتهم أي جزيتهم فوزهم وأن واسمها وهم ضمير فصل والفائزون خبر ان. (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) كم استفهامية في محل نصب على الظرفية الزمانية وهو متعلق بلبثتم، وفي الأرض متعلقان بلبثتم أو بمحذوف حال وعدد سنين تمييز كم وسنين مضاف اليه والمعنى كم لبثتم عددا من السنين. (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ) جملة لبثنا مقول القول ويوما ظرف متعلق بلبثنا وأو حرف عطف وبعض يوم معطوف على يوما، فاسأل الفاء الفصيحة واسأل فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت والعادين مفعول به وقد قالوا هذا لأنهم- وقد غشيهم العذاب وأحاطت بهم أهواله- لم يعد بوسعهم أن يحصوا ذلك أو يذكروا فقالوا إن أردت معرفة الحقيقة فاسأل العادين أما نحن ففي معزل عن ذلك. (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) قال فعل وفاعله مستتر يعود على الله سبحانه وإن نافية ولبثتم فعل وفاعل وإلا أداة حصر وقليلا صفة لظرف محذوف أي زمنا قليلا ولو حرف امتناع لامتناع وان واسمها وجملة كنتم خبرها وجملة تعلمون خبر كنتم ومفعول تعلمون محذوف أي مقدار لبثكم ويجوز اعراب قليلا صفة لمصدر محذوف أي لبثا قليلا. (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وحسبتم فعل وفاعل والجملة مستأنفة مسوقة لتوبيخهم على تماديهم في الغفلة وصدوفهم عن النظر الصحيح، وأنما كافة ومكفوفة وهي وما بعدها في تأويل مصدر سدت مسد مفعولي حسبتم وخلقناكم فعل وفاعل ومفعول به وعبثا يجوز إعرابه نصبا على أنه مصدر واقع موقع الحال أي عابثين ويجوز إعرابه نصبا أيضا على المصدرية أو انه مفعول لأجله أي لأجل العبث وأنكم يجوز أن يكون معطوفا على أنما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 553 خلقناكم فيكون الحسبان منسحبا عليه وأن يكون معطوفا على عبثا أي للعبث وأن واسمها ولا نافية وجملة ترجعون خبر ان وهو فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. (فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) الفاء استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لاستعظام الله تعالى، وتعالى فعل ماض والله فاعله والملك الحق صفتان له وجملة لا إله إلا هو حال وقد تقدم اعرابها كثيرا ورب العرش صفة ثالثة والكريم نعت للعرش. (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ ويدع فعل الشرط مجزوم بحذف حرف العلة ومع الله ظرف متعلق بيدع وإلها مفعول به ليدع وآخر صفة ولا نافية للجنس وبرهان اسمها مبني على الفتح وله خبر لا والجملة صفة ثانية لإلها وهي صفة لازمة نحو قوله يطير بجناحيه وجيء بها للتوكيد، ويجوز أن تكون جملة معترضة بين فعل الشرط وجوابه فإن كانت صفة فالمقصود بها التهكم بمدعي إله مع الله كقوله «بل أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا» فنفى إنزال السلطان به وإن لم يكن في نفس الأمر سلطان لا منزّل ولا غير منزّل، ومن جنس مجيء الجملة بعد النكرة وصرفها عن أن تكون صفة لها ما تقدم عند قوله تعالى «فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت» فارجع اليه إن شئت. فانما الفاء رابطة لجزاء الشرط لأن الجملة اسمية وإنما كافة ومكفوفة وحسابه مبتدأ وعند ربه الظرف متعلق بمحذوف خبر حسابه والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) الجملة تعليلية لا محل لها وان واسمها وجملة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 554 لا يفلح خبر انه والكافرون فاعل. (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) الواو استئنافية ورب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة واغفر فعل أمر والمقصود منه الدعاء وارحم عطف عليه وأنت الواو استئنافية وأنت مبتدأ وخير الراحمين خبر. البلاغة: في خاتمة سورة «المؤمنون» قوله: «إنه لا يفلح الكافرون» وفي فاتحتها «قد أفلح المؤمنون» فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 555 (24) سورة النّور مدنيّة وآياتها اربع وستّون [سورة النور (24) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 556 اللغة: (الزَّانِيَةُ) : بنية الزّنا والزناء بالمد والقصر، قال الفرزدق: أبا خالد من يزن يعلم زناؤه ... ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكّرا قال الفراء: المقصور من زنى والممدود من زانى، يقال زاناها مزاناة وزناء، وخرجت فلانة تزاني وتباغي وقد زنى بها، وجمع بين الزّناة والزواني وزنّاه تزنية: نسبه الى الزنا وهو ولد زنية بفتح الزاي وكسرها. (رَأْفَةٌ) : في المختار: «والرأفة أشد الرحمة وقد رؤف بالضم رافة ورأف به يرأف مثل قطع يقطع ورئف به من باب طرب كله من كلام العرب فهو رءوف على فعول» . الإعراب: (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) سورة خبر لمبتدأ محذوف أي هذه سورة أو مبتدأ والخبر محذوف أي فيما أوحينا إليك سورة، وساغ الابتداء بالنكرة لأنها وصفت بجملة أنزلناها، وفرضناها عطف على أنزلناها وأنزلنا عطف أيضا وفيها متعلقان بأنزلنا وآيات مفعول به وبينات صفة لآيات، ولعل واسمها وجملة تذكرون خبرها وجملة لعلكم تذكرون حال. (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) جملة مستأنفة مسوقة للشروع في تفصيل ما ذكر من الآيات البينات. والزانية والزاني الجزء: 6 ¦ الصفحة: 557 في رفعهما وجهان: أحدهما مذهب سيبويه أنه مبتدأ خبره محذوف أي فيما يتلى عليكم حكم الزانية، وثانيهما مذهب الأخفش وغيره بأنه مبتدأ والخبر جملة الأمر ودخلت الفاء لشبه المبتدأ بالشرط وقد تقدم الكلام على هذه المسألة مستوفى عند قوله «والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما» فجدد به عهدا وسيأتي في باب الفوائد مزيد من هذا البحث. وانما قدم الزانية على الزاني لأنها الأصل في الفعل لكون الداعية إليها أوفر ولولا تمكينها منه لم يقع وقد عكس الأمر في آية حد السرقة فقدم السارق على السارقة لأن الزنا يتولد بشهوة الوقاع وهي في المرأة أقوى وأكثر، والسرقة انما تتولد من الجسارة والقوة والجرأة وهي في الرجل أقوى وأكثر. فاجلدوا الفاء رابطة لأن الألف واللام بمعنى الذي والموصول فيه رائحة من الشرط أي التي زنت والذي زنى فاجلدوهما كما تقول من زنى فاجلدوه، واجلدوا فعل أمر وفاعل وكل واحد مفعول به ومنهما صفة لواحد ومائة جلدة نائب مفعول مطلق لأن المفعول المطلق ينوب عنه عدده أي ضربة، يقال جلده: ضرب جلده. (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) الواو عاطفة ولا ناهية وتأخذكم فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والفاعل مستتر تقديره أنت وبهما متعلقان بتأخذكم ورأفة فاعل وفي دين الله متعلقان بتأخذكم أيضا. (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص والتاء اسمها وهو في محل جزم فعل الشرط وجملة تؤمنون بالله واليوم الآخر خبر كنتم وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فلا تأخذكم بهما رأفة في دين الله وحكمه، والمراد بالشرط التهيج وإثارة الحفائظ على الزناة والغضب لله ولدينه. وسيأتي في باب البلاغة المزيد من القول في هذه الآية. (وَلْيَشْهَدْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 558 عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة واللام لام الأمر ويشهد فعل مضارع مجزوم باللام وعذابهما مفعول به مقدم وطائفة فاعل مؤخر ومن المؤمنين صفة لطائفة. وسيأتي القول عن المراد فيها. (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) جملة مستأنفة مسوقه لبيان أن الفاسق الخبيث الذي جعل الزنا ديدنه وهجيراه لا يرغب في نكاح الصوالح ذوات الصون والعفاف وكذلك شأن الفاسقة الخبيثة تأبى إلا الارتطام في مستوبل الأقذار. والزاني مبتدأ وجملة لا ينكح خبر وإلا أداة حصر، وسيأتي سر القصر في باب البلاغة. وزانية مفعول به وأو حرف عطف ومشركة عطف على زانية. (وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) جملة معطوفة على سابقتها ومثيلتها في الاعراب وزان فاعل حذفت ياؤه لأنه اسم منقوص تحذف ياؤه في حالة التنوين رفعا وجرا وتثبت نصبا. (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان حكم المتشبهين بالفساق والمستهدفين لسوء القالة والطعن وسيأتي القول في سر التحريم في باب الفوائد. (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) الواو استئنافية مسوقة لبيان نوع آخر من حدود الزنا، والذين مبتدأ سيأتي له ثلاثة أخبار وجملة يرمون صلة الموصول والمحصنات مفعول به ثم لم يأتوا عطف على يرمون وبأربعة متعلقان بيأتوا وشهداء مضاف اليه جر بالفتحة لمنعه من الصرف لمكان ألف التأنيث منه. (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الفاء رابطة لجواب الموصول المتضمن معنى الشرط واجلدوهم فعل أمر وفاعل ومفعول به وجملة فاجلدوهم خبر أول للذين وثمانين مفعول مطلق وجلدة تمييز، ولا تقبلوا عطف على فاجلدوهم وهي بمثابة الخبر الثاني للذين ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لشهادة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 559 وأبدا ظرف متعلق بتقبلوا وأولئك الواو عاطفة وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو خبر ثان والفاسقون خبر أولئك أو خبر هم والجملة بمثابة الخبر الثالث للذين. (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) إلا أداة استثناء والذين مستثنى من الفاسقين واختلف في هذا الاستثناء فقيل هو متصل لأن المستثنى منه في الحقيقة الذين يرمون والتائبون من جملتهم لكنهم مخرجون من الحكم وهذا شأن المتصل، وقيل هو منقطع لأنه لم يقصد إخراجه من الحكم السابق بل قصد إثبات أمر آخر له وهو أن التائب لا يبقى فاسقا ولأنه غير داخل في صدر الكلام لأنه غير فاسق وجملة تابوا صلة الموصول، ومن بعد ذلك متعلقان بتابوا، وأصلحوا عطف على تابوا، فإن الفاء تعليلية لما سبق وإن واسمها وغفور خبرها الاول ورحيم خبرها الثاني. البلاغة: 1- الإيجاز بالحذف: في قوله تعالى «سُورَةٌ أَنْزَلْناها» إيجاز بالحذف وهو كما يراه عبد القاهر الجرجاني باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الافادة أزيد للافادة وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن، ولكن عبد القاهر لم يصب كبد الحقيقة عند ما أردف يقول: «ما من اسم حذف في الحالة التي ينبغي أن يحذف فيها إلا وحذفه أحسن من ذكره» ووجه عدم إصابته أن الذي ذكره لا يأتي في كل مبتدأ وإنما يحسن في مبتدأ خبره وصف يقتضي المدح أو القدح وتقبل المبالغة فيه وتكون تلك المبالغة تفيد الموصوف معنى، وفي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 560 المبتدءات ما هو بخلاف ذلك فان قولنا «زيد قائم» لا نجد في وصف زيد بالقيام خصوصية يمتاز بها زيد عن غيره فان القيام يوصف به كل أحد إذا أريد به ضد القعود ولا يقبل المبالغة، وليس هو من صفات المدح ولا من صفات الذم ولا هو مما يبلغ به الموصوف الى انه استحق الوصف به دون غيره، فإن كان القاضي، رحمه الله، أراد مبتدأ مخصوصا فيحتمل، وإن كان أطلق فالأمر مشكل والسبب فيما ذكر من حذفه غير معلوم. ثم يعرض عبد القاهر أمثلة من الشعر الجيد لأبيات حذف المبتدأ فيها كقول الشاعر: سأشكر عمرا إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلّت فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت والأصل: هو فتى. 2- النهي والشرط للتهييج: المقصود من النهي في قوله «ولا تأخذكم» والشرط في قوله «إن كنتم تؤمنون إلخ» التهييج وإثارة الغضب وإلهاب الحفاظ على دين الله، وإن على المؤمنين الحراص على الاتسام بهذه السمة المشرقة أن يتصلبوا في دينهم وأن لا تأخذهم هوادة أو لين في تنفيذ ما أمرهم الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 561 به لاستيفاء حدوده، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل بنفسه وابنته فقال: «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها» . 3- الحصر بإلا: ظاهر النظم يوحي بأن الزاني لا ينكح المؤمنة العفيفة وأن الزانية لا ينكحها المؤمن التقي، ولما كان ذلك غير ظاهر الصحة كان لا بد من حمل الاخبار على الأعم الأغلب كما لا يفعل الخير إلا الرجل التقي وقد يفعل الخير من ليس بتقي. 4- استعار الرمي للشتم بفاحشة الزنا لكونه جناية بالقول كما قال النابغة: وجرح اللسان كجرح اليد ويسمى الشتم بهذه الفاحشة قذفا، والمراد بالمحصنات النساء، وخصصهن بالذكر لأن قذفهن أشنع والعار فيهن أعظم، ويلحق الرجال بالنساء في هذا الحكم بلا خلاف بين علماء هذه الأمة. الفوائد: 1- قوله تعالى «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا» الآية: إنما عدل الخليل وسيبويه الى هذا الذي نقلناه من الاعراب لوجهين: لفظي ومعنوي أما اللفظي فلأن الكلام أمر وهو يخيل اختيار النصب ومع ذلك فالرفع قراءة العامة فلو جعل الأمر خبرا وبنى المبتدأ عليه لكان خلاف المختار عند الفصحاء فالتجأ الى تقدير الخبر حتى لا يكون المبتدأ مبنيا على الأمر فخلص من مخالفة الاختيار، وقد مثلهما سيبويه في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 562 كتابه بقوله تعالى «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ» الآية ووجه التمثيل أنه صدر الكلام بقوله «مثل الجنة» ولا يستقيم أن يكون قوله «فيها أنهار» خبره فتعين تقدير خبره محذوفا وأصله فيما نقص عليكم مثل الجنة، ثم لما كان هذا إجمالا لذكر المثل فصل المجمل بقوله «فيها أنهار» الى آخرها فكذلك هاهنا كأنه قال: وفيما فرض عليكم شأن الزانية والزاني، ثم فصل هذا المجمل بما ذكره من أحكام الجلد، هذا بيان المقتضى عند سيبويه لاختيار الحذف من حيث الصناعة اللفظية وأما من حيث المعنى فهو أن المعنى أتم وأكمل على حذف الخبر لأنه يكون قد ذكر حكم الزانية والزاني مجملا حيث قال: الزانية والزاني، وأراد: وفيما فرض عليكم حكم الزانية والزاني، فلما تشوّف السامع الى تفصيل هذا المجمل ذكر حكمهما مفصلا فهو أوقع في النفس من ذكره أول وهلة. 2- قوله تعالى «وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» الطائفة الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة وأقلها ثلاثة أو أربعة وهي صفه غالبة كأنها الجماعة الحافة حول الشيء، وعن ابن عباس في تفسيرها هي أربعة الى أربعين رجلا من المصدقين بالله وعن الحسن عشرة وعن قتادة ثلاثة فصاعدا وعن عكرمة رجلان فصاعدا وعن مجاهد أقلها رجل فصاعدا، وقيل رجلان وفضل قول ابن عباس لأن الأربعة هي الجماعة التي يثبت بها الحد والتفصيل في كتب الفقه. 3- أقسام الزناة الأربعة: أ- الزاني لا يرغب إلا في زانية. ب- الزانية لا ترغب إلا في زان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 563 ج- العفيف لا يرغب إلا في عفيفة. د- العفيفة لا ترغب إلا في عفيف. وهذه الأقسام الأربعة مختلفة المعاني وحاصرة للقسمة، فنقول اختصرت الآية من هذه الأربعة قسمين واقتصرت على قسمين أحرى من المسكوت عنهما فجاءت مختصرة جامعة، فالقسم الأول صريح في القسم الاول ويفهم الثالث والقسم الثاني صريح في القسم الثاني ويفهم الرابع والقسم الثالث والرابع متلازمان من حيث أن المقتضي لانحصار رغبة العفيف في العفيفة هو اجتماعهما في الصفة وذلك بعينه مقتض لانحصار رغبتها فيه، ثم يقصر التعبير عن وصف الزناة والإعفاء بما لا يقل عن ذكر الزناة وجودا وسلبا فان معنى الأول: الزانية لا ينكحها عفيف ومعنى الثانية: العفيفة لا ينكحها زان، والسر في ذلك أن الكلام في أحكامهم، فذكر الإعفاء لسلب نقائصهم حتى لا يخرج الكلام عما هو المقصود منه ثم بينه في اسناد النكاح في هذين القسمين للذكور دون الإناث بخلاف قوله الزانية والزاني فانه جعل لكل واحد منهما ثم استقلالا وقدم الزانية على الزاني- كما تقدم- والسبب فيه أن الكلام الاول في حكم الزنا والأصل فيه المرأة لما يبدو منها من الإيماض والإطماع والكلام الثاني في نكاح الزناة إذا وقع ذلك على الصحة والأصل في النكاح الذكور وهم المبتدءون بالخطبة فلم يسند إلا لهم لهذا وان كان الغرض من الآية تنفير الأعفاء من الذكور والإناث مناكحة الزناة ذكورا وإناثا زجرا لهم عن الفاحشة ولذلك قرن الزنا والشرك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 564 [سورة النور (24) : الآيات 6 الى 10] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) الإعراب: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام اللعان وهو مبسوط في كتب الفقه. والذين مبتدأ وجملة يرمون أزواجهم صلة وحذف التاء أفصح ولذلك جمع الزوج على أزواج ويتعين في الفرائض إثبات التاء، ومتعلق يرمون محذوف أي بالزنا، ولم الواو حالية أو عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم ولهم خبر مقدم وشهداء اسمها المؤخر وإلا أداة حصر وأنفسهم بدل من شهداء ويجوز أن تكون إلا بمعنى غير فتكون أنفسهم نعتا لشهداء وقد ظهر عليها إعراب إلا على حد قوله تعالى «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» . (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) الفاء واقعة في جواب اسم الموصول لتضمنه معنى الشرط وشهادة مبتدأ وأحدهم مضاف اليه وأربع شهادات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 565 خبر المبتدأ، وقرأ العامة بنصب أربع، فيكون خبر شهادة مقدر التقديم أي فعليهم شهادة أو مؤخر أي فشهادة أحدهم كائنة أو واجبة أو هو خبر لمبتدأ محذوف أي فالواجب شهادة أحدهم، وأما نصب أربع فهو نصب على المصدر والعامل فيه مصدر مثله وقد ناب عن المصدر عدده، وبالله جار ومجرور متعلقان بشهادات أو بشهادة، فالمسألة من باب التنازع، وإن واسمها وكسرت همزة إن لوجود اللام، واللام المزحلقة ومن الصادقين خبر إن وان وما بعدها مفعول شهادات أو شهادة أي يشهد أنه صادق وجملة فشهادة أحدهم خبر الذين. (وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) الواو اعتراضية والخامسة مبتدأ أي الشهادة الخامسة وأن وما بعدها في تأويل مصدر خبر ولعنة الله اسم أن وعليه خبر أن وإن شرطية وكان فعل الشرط واسم كان مستتر ومن الكاذبين خبر كان وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، ويجوز أن تكون الواو عاطفة والخامسة عطف على شهادة وأن لعنة الله بدل من الخامسة أو نصب بنزع الخافض أي بأن لعنة الله والأول أسهل. (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) جملة ويدرأ عطف على ما سبق ويدرأ فعل مضارع معناه يدفع، عنها متعلقان به والعذاب مفعول به وأن تشهد في تأويل مصدر فاعل يدرأ وأربع شهادات نصب على المصدر فهو نائب مفعول مطلق وبالله متعلقان بشهادات أو بأن تشهد كما تقدم في الأولى وانه لمن الكاذبين تقدم اعرابها. (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) تقدم اعراب مثيلتها فجدد به عهدا. (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) لولا حرف امتناع لوجود وفضل الله مبتدأ وخبره محذوف وجوبا كما تقدم وعليكم متعلقان بفضل ورحمته عطف على فضل وان الله تواب ان واسمها وخبرها وهي معطوفة على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 566 فضل وجواب لولا محذوف للدليل على أمر محذوف لا يكتنه لعظمه وفداحته، ورب مسكوت عنه أبلغ من منطوق به. البلاغة: اشتملت هذه الآيات بالاضافة الى ما انطوت عليه من الأحكام والتشريع الصالح على العديد من فنون البلاغة وقد تقدم البحث فيها فنجتزىء بالالماع إليها: 1- الالتفات: في قوله «ولولا فضل الله عليكم» فقد التفت من الغيبة الى الخطاب لتسجيل المنة، على المخاطبين بحيث لا تبقى لديهم أعذار واهية يتشبثون بها إذا هم تجاوزوا حدود ما بيّنه لهم. 2- التغليب: فقد غلب صيغة الذكور على صيغة الإناث حيث لم يقل عليكم وعليكن لأنه بصدد مخاطبة الفريقين أي القاذفين والمقذوفات. 3- الحذف: وقد تكرر حذف المبتدأ والخبر كما رأيت في الاعراب وحذف جواب لولا أي كأن يقول الله في بيانه: فلان صادق بالزنا لكون المقذوفة قد زنت في نفس الواقع، أو يقول فلان كاذب في قذفه لكون المقذوفة لم تزن في نفس الواقع، وسدل الستار على ذلك كله لأن الغرض الأسمى هو الصون، والصون يتطلب التحوّط، والتحوط يستدعي السكوت عما لا يحسن التصريح به. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 567 [سورة النور (24) : آية 11] إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) اللغة: (الإفك) : أبلغ ما يكون من الكذب وقيل هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك وأصله الإفك وهو القلب لأنه قول مأفوك عن وجهه. (كِبْرَهُ) : كبر الشيء بكسر الكاف وسكون الباء معظمه، قال فيس بن الخطيم يذكر امرأة: تنام عن كبر شأنها فاذا ... قامت رويدا تكاد تنغرف الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) الجملة مستأنفة للشروع في سرد قصة الإفك وتقع في ثماني عشرة آية ستأتي باطراد وهي تتعلق بعائشة رضي الله عنها، وهي صالحة تستحق المديح والثناء فمن رماها بالسوء فكأنه قلب الحقائق وطمسها. وان واسمها وجملة جاءوا صلة الموصول وبالإفك متعلقان بجاءوا وعصبة خبر إن ومنكم صفة لعصبة أي من المؤمنين ولو ظاهرا، فقد كان عبد الله بن أبيّ وهو أحد الذين خاضوا في حديث الافك من كبار المنافقين، وجملة لا تحسبوه مستأنفة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 568 والخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعائشة وصفوان تسلية لهم، وستأتي قصة الافك في باب الفوائد. (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لا جازمة وتحسبوه مضارع مجزوم والواو فاعل والهاء مفعول به أول وشرا مفعول به ثان ولكم متعلقان بشر وبل حرف عطف وإضراب وهو مبتدأ وخير خبر ولكم متعقان بخير ووجه الخير فيه ما يناله صاحب الابتلاء من مثوبة ثم ظهور الكرامة ونصوع الحق بانزال ثماني عشرة آية في براءتكم والتهويل بالوعيد ان خاض فيه عن سوء نية وقصد. (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) لكل امرئ خبر مقدم ومنهم صفة لامرىء وما اسم موصول مبتدأ مؤخر وجملة اكتسب صلة ومن الإثم متعلقان باكتسب. (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) الواو استئنافية والذي مبتدأ وجملة تولى كبره صلة أي بالغ فيه وضخّم الأمور وزوّقها لسوء دخيلته وشر طويته، ومنهم متعلقان بمحذوف حال وهو عبد الله بن أبيّ المنافق، وله خبر مقدم وعذاب عظيم مبتدأ مؤخر والجملة خبر الذي. الفوائد: حديث الافك: جاء في صحيحي البخاري ومسلم على لسان عائشة قالت: «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بعد ما أنزل الحجاب ففرغ منها ورجع ودنا من المدينة وأذن بالرحيل ليلة فمشيت وقضيت شأني وأقبلت الى الرحل فاذا عقدي انقطع فرجعت ألتمسه وحملوا هودجي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 569 يحسبونني فيه وكانت النساء خفافا إنما يأكلن العلقة من الطعام ووجدت عقدي وجئت بعد ما ساروا فجلست في المنزل الذي كنت فيه وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إليّ فغلبتني عيناي فنمت وكان صفوان قد عرس من وراء الجيش فأدلج للاستراحة فسار منه فأصبح في منزله فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي والله ما كلمني بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته ووطئ على يدها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك من هلك فيّ وكان الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبي ابن سلول» . تفسير غريب الحديث: 1- قوله في غزوة: قيل هي غزوة المريسيع وتسمى غزوة بني المصطلق وكانت في السنة الرابعة وقيل في السادسة وسببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحارث ابن أبي ضرار أبو جويرية زوج النبي صلى الله عليه وسلم فلما سمع بذلك خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد الى الساحل فاقتتلوا فهزم الله بني المصطلق وأمكن رسوله من أبنائهم ونسائهم وأموالهم فأفاءها وردها عليهم. 2- يأكلن العلقة: بضم العين وسكون اللام القليل من الطعام. 3- صفوان: هو الصحابي الجليل صفوان بن المعطل السلمي. 4- عرس: بتشديد الراء المفتوحة أي نزل ليلا للاستراحة وهو خاص بآخر الليل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 570 5- أدلج: بتشديد الدال المفتوحة سار من أول الليل. 6- باسترجاعه: أي بقوله: إنا لله وإنا إليه راجعون. 7- خمرت وجهي بجلبابي: أي غطيته بالملاءة. 8- ووطئ على يدها: أي وضع رجله على ركبتها. 9- موغرين: في القاموس: الوغرة شدة الحر ووغرت الهاجرة كوعد وأوغروا دخلوا فيها، والوغر ويحرك: الحقد والضغن والعداوة والتوقد من الغيظ وقد وغر صدره كوعد ووجل وغرا ووغرا بالتحريك وفي المصباح: «ووقع في أرض فلاة صار فيها» . رواية المستشرقين: هذا وقد شغل حديث الافك المستشرقين فصاغوه في روايات شتى نورد منها هنا للاطلاع رواية برو كلمن المستشرق الألماني صاحب كتاب «تاريخ الشعوب الاسلامية» وفيما يلي نص تعريبه: «وقام النبي خلال سنة 627 أيضا بحملات عدة على بعض القبائل البدوية ولقد أبعد في إحداها حتى لقارب مكة وكانت هذه الغزوات آمنة الى حد ساعده على أن يصطحب فيها اثنتين من أزواجه، فاتفق مرة أن أضاعت زوجه المفضلة عائشة بنت أبي بكر- وكانت آنذاك في الرابعة عشرة من عمرها- قلادتها فخرجت تبحث عنها مساء ففاتتها فوافل الغزاة ولم تعد الى المعسكر إلا في اليوم التالي وبرفقتها شاب كانت قد عرفته من قبل وتطرق الشك في إخلاص عائشة إلى نفس النبي فردها الى بيت أبويها ولكن الله لم يلبث أن برأها بعد شهر واحد في إحدى الآيات الموحاة الى النبي مضيفا في الوقت نفسه أن أي اتهام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 571 لامرأة بالخيانة الزوجية لا يؤيده أربعة شهود عيان يعتبر فرية أو قذفا يستحق عليه صاحبه مائة جلدة، وكان علي صهر النبي أحد خصوم عائشة الذين ألحوا عليه في طلاقها وليس من شك في أن جذور العداء الذي تكشفت عنه عائشة لعلي بعد أن استخلف على المسلمين ترجع الى هذه الحقبة، ومهما يكن من شيء، فلم يكن لحادثة العقد هذه أدنى تأثير على وضع المرأة الاجتماعي في الإسلام كما يظن: فالحجاب الذي تصطنعه النساء المتزوجات كان عادة عربية قديمة وكان النبي قد فرضه، قبل هذه الحادثة، لأسباب أخرى والواقع أن الحجاب لم يحل بين النساء في الجاهلية وفي الإسلام أيضا حتى عهد الأمويين وبين الظهور في الناس في كثير من الحرية والتأثير في المجتمع العربي تأثيرا مذكورا في بعض الأحيان، إن مؤسسة الحريم التي وضع قواعدها العباسيون على غرار النموذج المسيحي- البيزنطي هي وحدها المسئولة عن انحطاط المرأة في الشرق» ولا تخلو رواية برو كلمن، على دقتها من خلل وخطأ وتحامل خفي يحاول صاحبه إخفاءه ويأبى إلا أن يظهر ومن ذلك قوله «فردها الى بيت أبويها» . العودة الى المدينة واللغط في الحديث: ولنعد الى رواية عائشة نفسها في تتمة الحديث الآنف الذكر قالت: «واشتكيت حين قدمنا المدينة شهرا والناس يفيضون في قول أهل الافك ولا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، انما يدخل رسول الله فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ فذاك يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع ثم عدنا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 572 قلت: بئس ما قلت!! أتسبين رجلا قد شهد بدرا؟ قالت: أي هنتاه أولم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ فأخبرتني بقول أهل الافك فازددت مرضا الى مرضي فلما رجعت الى بيتي استأذنت أن آتي أبوي: أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما فأذن لي. قالت أمي: هوّني عليك فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثّرن عليها. قلت: سبحان الله وقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا اكتحل بنوم. ودعا رسول الله عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد يستشيرهما في فراق أهله فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود وقال لرسول الله: هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا. وأما عليّ بن أبي طالب فقال: لم يضيّق الله عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك. فدعا رسول الله بريرة يسألها: هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ قالت: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قد أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فنأكله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 573 .. وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي. فبينما نحن على ذلك دخل رسول الله فسلم ثم جلس وتشهّد ثم قال: أما بعد يا عائشة فإني قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألمحت بذنب فاستغفري الله وتوبي اليه فان العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه. فلما قضى رسول الله مقالته قلص دمعي حتى ما أحسّ منه قطرة فقلت لأبي: أجب عني رسول الله فقال: والله ما أدري ماذا أقول لرسول الله، فقلت لأمي: أجيبي عني، فقالت: كذلك والله ما أدري ماذا أقول لرسول الله، قلت:- وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن-: إني والله لقد عرفت أنكم سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به فان قلت لكم: إني بريئة لا تصدقوني، وإن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني بريئة، لتصدقوني واني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، فو الله ما رام رسول الله مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله عز وجل على نبيه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى انه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 574 فلما سرّي عن رسول الله وهو يضحك كان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة أما الله فقد برأك. قالت لي أمي: قومي اليه. قلت: والله لا أقوم اليه ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي. وكان أبو بكر ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره فأقسم لا ينفق عليه شيئا أبدا فأنزل الله عز وجل: «ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى ... الى قوله: ألا تحبون أن يغفر الله لكم» ؟ فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، ورجع الى مسطح النفقة التي كان ينفقها عليه. هذا وسيأتي في بقية الآيات ما يتعلق بهذا الحديث. [سورة النور (24) : الآيات 12 الى 15] لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 575 الإعراب: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) كلام مستأنفة للشروع في زجر الخائضين في الإفك وتوبيخهم على ما أرجفوا به وستأتي تسعه زواجر مترادفة وهذا هو الزاجر الأول. ولولا حرف تحضيض متضمن معنى الزجر والتوبيخ وذلك كثير في اللغة إذا دخلت على الفعل كقوله تعالى «لولا أخرتني» وإذا ظرف لما مضى من الزمن متعلق بظن وجملة سمعتموه في محل جر باضافة الظرف إليها وظن المؤمنون فعل وفاعل والمؤمنات عطف وبأنفسهم متعلقان بخيرا وخيرا مفعول به ثان. (وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) وقالوا عطف على ظن وهذا مبتدأ وإفك خبر ومبين صفة والجملة الاسمية مقول القول وسيأتي القول في الالتفات الرائع بهذه الآية. (لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ) لولا حرف تخصيص ثان وهذا هو الزاجر الثاني وجاءوا فعل وفاعل وعليه متعلقان بشهداء وبأربعة متعلقان بجاءوا وشهداء مضاف اليه، فاذا الفاء عاطفة وإذا ظرف لما مضى من الزمن متعلق بالكاذبون ولم حرف نفي وقلب وجزم ويأتوا فعل مضارع مجزوم بلم والجملة في محل جر باضافة الظرف إليها وبالشهداء متعلقان بيأتوا. (فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) الفاء رابطة وأولئك مبتدأ وعند الله متعلقان بمحذوف حال أي في حكمه وهم مبتدأ ثان أو ضمير فصل والكاذبون خبر أولئك أو خبر هم والجملة خبر أولئك. (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الواو عاطفة ولولا حرف امتناع لوجود وفضل الله مبتدأ حذف خبره وجوبا وهذا هو الزاجر الثالث، وعليكم متعلقان بفضل ورحمته عطف على فضل وفي الدنيا متعلقان بمحذوف حال والآخرة عطف على الدنيا. (لَمَسَّكُمْ فِيما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 576 أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) اللام واقعة في جواب لولا ومسكم فعل ومفعول به والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وفيما متعلقان بمسكم وجملة أفضتم فيه صلة و «ما» عبارة عن حديث الافك والافاضة الاندفاع والخوض ويصح أن تكون ما مصدرية أي لمسكم بسبب إفاضتكم وخوضكم في الإفك، وفيه متعلقان بأفضتم وعذاب فاعل وعظيم صفة. (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) وهذا هو الزاجر الرابع، وإذ ظرف متعلق بمسكم أو بأفضتم وتلقونه فعل مضارع حذفت إحدى تاءيه وهو مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والهاء مفعول به، والتلقي والتلقف والتلقن معان متقاربة، والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها والمراد يرويه بعضكم عن بعض وبألسنتكم متعلقان بتلقونه، وتقولون عطف على تلقونه وبأفواهكم متعلقان بتقولون وما مفعول تقولون وجملة ليس صلة الموصول وليس فعل ماض ناقص ولكم خبر وبه متعلقان بعلم وعلم اسم ليس. (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) وتحسبونه فعل مضارع وفاعل ومفعول به أول وهينا مفعول به ثان والواو للحال وهو مبتدأ وعند الله حال وعظيم خبر هو والجملة حالية. البلاغة: 1- التعبير بالأنفس عن الآخرين: التعبير بالأنفس عن الآخرين ينطوي على أبعد النكت مرمى وأكثرها حفولا بالمعاني السامية، فهو أولا يهيب بالمؤمنين الى التعاطف واجراء التوبيخ على النفس بدلا من أن يذكره بسوء وذلك أدعى الى اصطناعه وجعله محمولا على الموالاة والاصطفاء وذلك بتصويره بصورة من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 577 أخذ يقذف نفسه ويرميها بما ليس فيها من الفاحشة. وروي أن أبا أيوب الأنصاري قال لامرأته ألا ترين مقالة الناس؟ قالت له: لو كنت بدل صفوان أكنت تخون في حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوءا؟ قال: لا، قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنته وصفوان خير منك وعائشة خير مني. وهذا صحيح كل الصحة وبراءة عائشة واضحة ومفهومة بالبداهة لدى كل منصف يفهم أن امرأة كعائشة لا تعرض نفسها لهذه الريبة أمام جيش وفي وضح النهار ولغير ضرورة مع رجل من المسلمين يتقي ما يتقيه المسلم في هذا المقام من غضب النبي وغضب المسلمين وغضب الله، فتلك خلة تترفع عنها من هي أقل من عائشة منبتا ومنزلة وخلقا وأنفة فكيف بها في مكانها المعلوم، وهذا هو المفهوم للتعبير عن الآخرين من المؤمنين بالنفس، حدا بامرأة أبي أيوب الانصاري إلى أن تنزل زوجها منزلة صفوان ونفسها منزلة عائشة ثم تثبت لنفسها ولزوجها البراءة والامانة حتى تثبت لصفوان وعائشة بطريق الأولى. وهو ثانيا يحتمل أن يكون التعبير بالأنفس حقيقة والمقصود إلزام سيىء الظن بنفسه لأنه لم يعتد بنوازع الايمان ووزائعه في حق غيره وألفاه واعتبره في حق نفسه وادعى لها البراءة قبل معرفته بحكم الهوى لا بحكم الهدى. 2- الالتفات: وفي الكلام عدول عن الخطاب الى الغيبة وعن الضمير الى الظاهر وسياق الحديث أن يقول «لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم» وانما اقتضت البلاغة هذا الالتفات والعدول عن الضمير الى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 578 الظاهر للمبالغة في التوبيخ وليصرح بلفظ الايمان دلالة على أن الاشتراك فيه مقتضى أن لا يصدق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا طاعن، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وكان جديرا بالآخرين الاحتذاء به: سمع حديثا يلاك بين المنافقين ويسري الى المسلمين بل الى خاصة ذويه الأقربين، حديثا يسمعه رجل كعلي بن أبي طالب في بره نحيزته فلا يرى بعده حرجا من الطلاق والنساء كثيرات، سمع النبي ذلك الحديث المريب فلم يقبله بغير بينة ولم يرفضه بغير بينة وكان عليه أن يعود زوجه المريضة أو يجفوها الى حين فعادها وبه من الرفق والانصاف ما يأبى عليه أن يفاتحها في مرضها بما يخامر نفسه الكريمة، وبه من الموجدة والترقب ما أبى عليه أن يقابلها بما كان يقابلها به والنفس صافية كل الصفاء وظل يسأل عنها سؤال متعتب ينتظر أن تشفى وأن تأتيه البينة فيشتد كل الشدة أو يرحم كل الرحمة، ولا يعجله لغط الناس أن يأخذ في هذا الموقف الأليم بما توجبه الحمية وما توجبه المروءة في آن. عبد الله بن أبيّ ومسطح: وإذا قيل إن عبد الله بن أبيّ كان من أصحاب العصبية التي بحسب حسابها وتتقى بوادرها فماذا يقال في مسطح وهو مكفول أبي بكر وصنيعته الذي يأكل من ماله؟ ما الذي أنجاه من السخط والعقاب وكفل له دوام البر والمعونة لولا سماحة النبي الكريم وسماحة أبي بكر وسماحة القرآن؟ 3- المبالغة: تقدم البحث في مثل هذا التعبير «تقولون بأفواهكم» والقول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 579 لا يكون إلا بالفم فما معنى ذكر الأفواه، ونعيد القول انه هنا للمبالغة والتعريض بأنه ربما يتمشدق ويقضي تمشدق جازم عالم وهذا أشد وأقطع ومعناه أن الشيء المعلوم يكون وعلمه في القلب فيترجم عنه اللسان وهذا الإفك ليس إلا قولا يجري على ألسنتكم ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم به في القلب. [سورة النور (24) : الآيات 16 الى 20] وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) الإعراب: (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) وهذا هو الزاجر الخامس، ولولا حرف تحضيض وتوبيخ وإذ ظرف متعلق بقلتم أي كان ينبغي لكم بمجرد السماع الأول أن تقولوا: ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا وأن تقولوا سبحانك، وقال الزمخشري: «فإن قلت: كيف جاز الفصل بين لولا وقلتم بالظرف؟ قلت للظروف شأن وهو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 580 تنزلها من الأشياء منزلة أنفسها لوقوعها فيها وانها لا تنفك عنها فبذلك يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها» ورد عليه أبو حيان فقال «وهذا يوهم اختصاص ذلك بالظرف وهو جار في المفعول به تقول لولا زيدا ضربت ولولا عمرا قتلت، وسيأتي سر تقديم الظرف في باب البلاغة. وجملة سمعتموه مضاف إليها الظرف وجملة قلتم لا محل لها لأنها ابتدائية وما نافية ويكون فعل مضارع ناقص ولنا خبرها المقدم وأن وما في حيزها اسمها المؤخر وبهذا متعلقان بنتكلم وسبحانك مفعول مطلق وجملة سبحانك في محل نصب حال لأن معناه التعجب والمعنى هلا قلتم ما ينبغي لنا أن تتكلم بهذا حال كونكم متعجبين من هذا الأمر العجيب الغريب. (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) وهذا مبتدأ وبهتان خبر وعظيم صفة. (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وهذا هو الزاجر السادس ويعظكم وقد ضمن معنى فعل يتعدى بعن ثم حذف الجار أي ينهاكم عن العودة وهي فعل مضارع ومفعول به والله فاعل وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض ولمثله متعلقان بتعودوا وأبدا ظرف زمان متعلق بتعودوا أيضا، وقيل لا تضمين في معنى يعظكم، وأن وما بعدها مفعول لأجله على حذف مضاف أي كراهة أن تعودوا، وإن شرطية وكنتم كان واسمها ومؤمنين خبرها وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم مؤمنين فلا تعودوا لمثله. (وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الواو عاطفة ويبين الله فعل وفاعل ولكم متعلقان بيبين والآيات مفعول به والله مبتدأ وعليم حكيم خبر ان لله. (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) جملة مستأنفة مسوقة لا يراد الزاجر السابع وإن واسمها وجملة يحبون صلة وأن وما في حيزها مفعول يحبون والفاحشة فاعل وفي الذين آمنوا متعلقان بتشيع. (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 581 لا تَعْلَمُونَ) لهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر إن وأليم صفة وفي الدنيا والآخرة صفة ثانية، ففي الدنيا ثبت بالحد للقذف، وسيأتي في باب الفوائد تفصيل ذلك. والله مبتدأ وجملة يعلم خبر وأنتم مبتدأ وجملة لا تعلمون خبر. (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) وهذا هو الزاجر الثامن ولولا امتناعية وفضل الله عليكم مبتدأ محذوف الخبر وجوبا ورحمته عطف على فضل وإن الله رءوف رحيم عطف على فضل الله وجواب لولا محذوف أي لعاجلكم بالعقوبة. الفوائد: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حد القاذفين الأربعة وهم عبد الله بن أبيّ وحسان بن ثابت ومسطح وحمنة بنت جحش، وقعد صفوان لحسان بن ثابت وضربه بالسيف فكف بصره وفي ذلك يقول: توّق ذباب السيف عني فإنني ... غلام إذا هو جيت لست بشاعر ولكنني أحمي حماي وأتقى ... من الباهت الرامي البريء الظواهر وأنشد حسان بن ثابت أبياتا يثني فيها على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- ويبرئها مما نسب إليها ومنها: حصان رزان ما تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل حليلة خير الناس دينا ومنصبا ... نبيّ الهدى والمكرمات الفواضل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 582 عقيلة حي من لؤي بن غالب ... كرام المساعي مجدها غير زائل مهذّبة قد طيب الله جنيها ... وطهرها من كل شين وباطل فإن كان ما بلغت عني قلته ... فلا رفعت سوطي إليّ أناملي وكيف وودي ما حييت ونصرتي ... بآل رسول الله زين الم حافل له رتب عال على الناس فضلها ... تقاصر عنها سورة المتطاول البلاغة: 1- التقديم والتأخير: في قوله تعالى «وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ إلخ» قدم الظرف لفائدة هامة وهي بيان انه كان من الواجب أن يتفادوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به فلما كان ذكر الوقت أهم، وجب التقديم. ولعبد القاهر في دلائل الاعجاز بحث عن التقديم والتأخير يقول فيه: باب التقديم والتأخير من الأبواب التي تظهر بها مزية الكلام ويعلو بها أسلوب على أسلوب ويبدو بها إعجاز القرآن. 2- سر التعجب: في كلمة التعجب «سبحانك» سر عجيب وهو أن الأصل في ذلك أن يسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه ثم كثر حتى استعمل عند كل متعجب منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 583 [سورة النور (24) : الآيات 21 الى 26] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) اللغة: (خُطُواتِ) : جمع خطوة بفتح الخاء وضمها وسكون الطاء، وكل ما كان على وزن فعل بكسر الفاء أو فعل بفتح الفاء مع سكون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 584 العين جاز لنا إذا أردنا أن نجمعه جمعا مؤنثا سالما الاتباع والفتح والتسكين فنقول في خطوة خطوات وخطوات وخطوات. (زَكى) : طهر من دنس. (يَأْتَلِ) : في المختار «وآلى يؤلي إيلاء حلف وتألى وائتلى مثله قلت: ومنه قوله تعالى «وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ» والألية اليمين وجمعها ألايا» وقيل هو من قولهم ما ألوت جهدا إذا لم تدخر شيئا. (الْغافِلاتِ) : السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر لأنهن لم يجربن الأمور ولم يرزن الأحوال فلا يفطن لما تفطن له المجربات العرافات. قال: ولقد لهوت بطفلة ميالة ... بلهاء تطلعني على أسرارها لهوت: تلاهيت ولعبت بطفلة بالفتح أي امرأة ناعمة لينة، يقال امرأة طفلة الأنامل أي رخصتها لينتها، وميالة: مختالة، وبلهاء: غافلة لا مكر عندها ولا دهاء فلذلك تطلعني على ضمائرها. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) وهذا هو الزاجر التاسع والأخير، ولا ناهية وتتبعوا فعل مضارع مجزوم بلا وخطوات الشيطان مفعول به. (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويتبع فعل الشرط وخطوات الشيطان مفعول به والفاء رابطة لجواب الشرط لأنه جملة اسمية وان واسمها وجملة يأمر بالفحشاء والمنكر خبرها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 585 والضمير في انه يعود على الشيطان أو على المتبع والأول أظهر. (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) لولا امتناعية وقد تقدم اعرابها وما نافية وزكى فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله ومنكم حال لأنه كان في الأصل صفة لأحد ومن حرف جر زائد وأحد مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به وأبدا ظرف متعلق بزكى. (وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الواو عاطفة ولكن واسمها وجملة يزكي خبرها ومن يشاء مفعول يزكي والله مبتدأ وسميع خبر أول وعليم خبر ثان أي أنه سبحانه سميع لمقالهم عليم بنياتهم. (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) تقدم القول مسهبا في سبب نزول هذه الآية وأنها نزلت في شأن مسطح بن أثاثة بضم الهمزة وفتحها. ولا ناهية ويأتل فعل مضارع مجزوم بلا وأولو فاعل ملحق بجمع المذكر السالم والفضل مضاف اليه ومنكم حال والسعة عطف على الفضل، وأن يؤتوا: أن وما في حيزها نصب بنزع الخافض مع حذف لا النافية والتقدير على أن لا يؤتوا وأولي القربى مفعول وما بعدها عطف عليه. (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الواو عاطفة واللام لام الأمر ويعفوا مضارع مجزوم بلام الأمر وليصفحوا عطف والهمزة للاستفهام ولا نافية وتحبون فعل مضارع مرفوع وأن وما في حيزها مفعول تحبون والله فاعل ولكم متعلقان بيغفر والله مبتدأ وغفور خبر أول ورحيم خبر ثان. (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) كلام مستأنف مسوق لتقريع الخائضين في الإفك ووعيدهم الشديد وعتابهم البليغ. وإن واسمها وجملة يرمون المحصنات صلة والمحصنات مفعول به والغافلات المؤمنات عطف على المحصنات وجملة لعنوا خبر إن وفي الدنيا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 586 والآخرة متعلقان بلعنوا ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وعظيم صفة. (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) الظرف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به «ولهم» ويجوز تعليقه بالمصدر وهو عذاب لأن الظروف يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها، وجملة تشهد في محل جر باضافة الظرف إليها وعليهم متعلقان بتشهد وألسنتهم فاعل وأيديهم وأرجلهم عطف على ألسنتهم وبما جار ومجرور متعلقان بتشهد وجملة كانوا لا محل لها لأنها صلة ولك أن تجعل ما مصدر وكان واسمها وجملة يعملون خبرها وقد مرت لها نظائر. (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ) الظرف متعلق بيعملون أو بيوفيهم وقد تقدم البحث في إضافة إذ للظرف والتنوين اللاحق لإذ، ويوفيهم الله فعل مضارع ومفعول به وفاعل ودينهم مفعول به ثان والحق نعت لدينهم والمراد بدينهم الحق جزاؤهم الواجب عليه وفي الحديث «كما تدين تدان» . (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) ويعلمون عطف على يوفيهم وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يعلمون وهو ضمير فصل أو مبتدأ والحق خبر أن أو خبر هو والجملة الاسمية خبر أن والمبين صفة. (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) كلام مستأنف مسوق لبيان سنة الله في خلقه في أن يسوق كل صنف إلى صنفه وأن يقع كل طير على شكله. والخبيثات مبتدأ وللخبيثين خبره وما بعده عطف عليه وسيرد معنى ذلك في باب البلاغة. (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أولئك مبتدأ والاشارة الى الطيبين وسيأتي المزيد من هذا المعنى في باب البلاغة، ومبرءون خبر أولئك ومما متعلقان بمبرءون لأنه اسم مفعول وجملة يقولون صلة ولهم خبر مقدم ومغفرة مبتدأ مؤخر والجملة خبر ثان لأولئك ورزق كريم عطف عليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 587 البلاغة: 1- المجاز العقلي في شهادة الأيدي والأرجل وقد تقدم بحثه مستوفى. 2- أراد بالمحصنات العموم وان كان الحديث مسوقا عن عائشة والمقصود بذكرهن على العموم وعيد من وقع في عائشة على أبلغ الوجوه لأنه إذا كان هذا وعيد قاذف آحاد المؤمنات فما الظن بوعيد من وقع في قذف سيدتهن! على أن تعميم الوعد أبلغ وأقطع من تخصيصه، ولهذا عممت زليخا حين قالت «ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم» فعممت وأرادت يوسف تهويلا عليه وارجافا. 3- يحتمل أن يراد بالخبيثات النساء وبالخبيثين الرجال فيكون الكلام جاريا على حقيقته ويجوز أن يراد الكلمات التي صيغ منها الإفك فيكون الكلام مجازا بالاستعارة التصريحية. [سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 588 الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) كلام مستأنف مسوق لبيان ما يترتب على مخالطة الرجال بالنساء ودخولهم عليهن في أوقات خلواتهن. ولا ناهية وتدخلوا فعل مضارع مجزوم بلا وبيوتا مفعول به على السعة وقد تقدم بحث ذلك وغير بيوتكم صفة لبيوتا وحتى حرف غاية وجر وتستأنسوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ومعنى الاستئناس الاستئذان على طريق الكناية، وسيأتي تفصيل ذلك في باب البلاغة، وتسلموا عطف على تستأنسوا وعلى أهلها متعلقان بتسلموا. (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ذلكم مبتدأ وخير خبر ولكم متعلقان بخير ولعل واسمها وجملة تذكرون خبر لعل وجملة ذلكم مستأنفة وجملة لعلكم تذكرون حال معللة لفعل محذوف أي أنزل عليكم هذا آملين أن تتذكروا. (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) الفاء استئنافية وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتجدوا مضارع مجزوم بلم وفيها متعلقان بتجدوا وأحدا مفعول به، فلا تدخلوها الفاء رابطة لجواب الشرط ولا ناهية وتدخلوها مضارع مجزوم بلا الناهية وحتى حرف غاية وجر ويؤذن فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ويؤذن مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر ولكم متعلقان بيؤذن. (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) الواو عاطفة وإن شرطية وقيل لكم فعل الشرط وجملة ارجعوا مقول القول، فارجعوا الفاء رابطة لجواب الشرط لأنه طلبي وهو مبتدأ وأزكى لكم خبر والجملة مستأنفة، والله الواو استئنافية والله مبتدأ وبما تعملون متعلقان بعليم وعليم خبر الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 589 (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) ليس فعل ماض ناقص وعليكم خبر ليس المقدم وجناح اسمها المؤخر وأن وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي في أن تدخلوا والجار والمجرور صفة لجناح وبيوتا مفعول به على السعة وغير مسكونة نعت لبيوتا وفيها خبر مقدم ومتاع لكم مبتدأ مؤخر والجملة صفة ثانية لبيوتا. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) والله الواو ستئنافية والله مبتدأ وجملة يعلم خبر وما مفعول به وجملة تبدون صلة وما تكتمون عطف على ما تبدون. البلاغة: 1- الكناية في قوله تستأنسوا: فإن أصل معناها الاستئناس وهو ضد الاستيحاش لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا فهو متردد مستطار القلب مستوحش، أو كالمستوحش من خفاء الحال عليه فإذا أذن له بالدخول استأنس وزايله تردّده واستطارة قلبه، وقد أريد المعنى البعيد منه وهو الاستئذان. 2- الإرداف وقد تقدم أنه هو أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الموضوع له ولا بلفظ الاشارة الدال على المعاني الكثيرة بل لفظ هو ردف المعنى الخاص وتابعه قرب من لفظ المعنى الخاص قرب الرديف من الردف، وواضح أن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن فوضع موضع الإذن، ويجوز أن يكون من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف من أنس الشيء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا وعليه يكون المعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا، والوجه الأول هو البين، وسر التجوز فيه والعدول اليه عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 590 الحقيقة ترغيب المخاطبين في الإتيان بالاستئذان بواسطة، وسيأتي في باب الفوائد مزيد بحث عن الاستئذان. الفوائد: في القرطبي سبب نزول هذه الآية كما روى الطبراني وغيره عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد لا والد ولا ولد فيأتي الأب فيدخل علي، وانه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال، فنزلت هذه الآية، فقال أبو بكر: يا رسول الله أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن فأنزل الله ليس عليكم جناح ... الآية. وعن أبي موسى الأشعري انه أتى باب عمر رضي الله عنهما فقال السلام عليكم أأدخل قالها ثلاثا ثم رجع وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الاستئذان ثلاثا. واستأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أألج؟ فقال صلى الله عليه وسلم لامرأة يقال لها روضة قومي الى هذا فعلميه فإنه لا يحسن أن يستأذن قولي له: يقول السلام عليكم أأدخل فسمعها الرجل فقالها، فقال: ادخل. وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته: حييتم صباحا وحييتم مساء ثم يدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد، فصدّ الله عن ذلك وعلم الأحسن والأجمل. أما البيوت التي استثناها الله فهي غير المسكونة نحو الفنادق والربط المسبلة وحوانيت البياعين والمنازل المبنية للنزول وإيواء المتاع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 591 فيها واتقاء الحر والبرد وقيل بيوت التجار وحوانيتهم في الأسواق بدخلها للبيع والشراء. [سورة النور (24) : الآيات 30 الى 31] قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) اللغة: (يَغْضُضْنَ) : الغض: أطباق الجفن بحيث تمتنع الرؤية وفي المصباح: «غض الرجل صوته وطرفه ومن صوته ومن طرفه غضا من باب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 592 قتل خفض ومنه يقال غض من فلان غضا وغضاضة إذا انتقصه» وقد أدغم في الأول أحد المثلين في الثاني بخلاف الثاني لأن الثاني في يغضضن متحرك فادغم فيه الاول وفيما سيأتي ساكن فلم يتأت إدغام الاول فيه، قال جرير: فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا (زِينَتَهُنَّ) : الزينة ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب، فما كان ظاهرا منها كالخاتم والفتخة بالتحريك وهي حلقة من فضة لا فص فيها فإذا كان فيها فص فهو الخاتم، والكحل والخضاب فلا بأس بإبدائه للاجانب وما خفي منها كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل وهو- كما في الصحاح- يشبه عصابة تزين بالجوهر ويسمى التاج إكليلا والوشاح والقرط فلا تبديه إلا لهؤلاء المذكورين. (بِخُمُرِهِنَّ) الخمر بضم الخاء والميم جمع خمار بكسر الخاء وهو ما تغطي به المرأة رأسها والستر عموما ويجمع على أخمرة وخمر بضم الخاء وسكون الميم وخمر بضمتين. (جُيُوبِهِنَّ) : جمع جيب والجيب من القميص طوقه والقلب والصدر وعند العامة الجيب هو كيس يخاط في جانب الثوب من الداخل ويجعل فمه من الخارج. (أُولِي الْإِرْبَةِ) : أصحاب الإربة، والإربة الحاجة وفي المصباح: «الأرب: بفتحتين والإربة بالكسر والمأربة بفتح الراء وضمها الحاجة والجمع المآرب والأرب في الأصل مصدر من باب تعب يقال أرب الرجل الى الشيء إذا احتاج اليه فهو آرب على فاعل والإرب بالكسر يستعمل في الحاجة وفي العضو والجمع آراب مثل حمل وأحمال» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 593 الإعراب: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان أحكام كلية شاملة للمؤمنين كافة يندرج فيها حكم المستأذنين عند دخولهم البيوت اندراجا كليا. وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ومفعوله محذوف وهو أمر آخر مثله وقد حذف لدلالة جوابه عليه وهو يغضوا من أبصارهم ويغضوا فعل مضارع جزم لأنه جواب الأمر المحذوف وهو غضوا أو مقول القول، ومن أبصارهم: قال الزمخشري: «من للتبعيض والمراد غض البصر عما يحرم والاقتصار على ما يحل، وجوز الأخفش أن تكون مزيدة وأباه سيبويه» ويجوز أن تكون للبيان أو لابتداء الغاية وعلى كل حال فهي متعلقة بيغضوا وسيأتي السبب في دخول من على الأبصار دون الفروج في باب البلاغة، ويحفظوا عطف على يغضوا وفروجهم مفعول به. (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) ذلك مبتدأ وأزكى خبره ولهم متعلقان بأزكى وان واسمها وخبرها وبما متعلقان بخبير وجملة يصنعون لا محل لها. (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) تقدم اعراب نظيرتها، أي فلا يحل للرجل أن ينظر الى المرأة ولا للمرأة أن تنظر الى الرجل فإن علاقتها به كعلاقته بها وقصدها منه كقصده منها ومن طريف ما يلفت النظر أن هذه الآية اشتملت على عدد كبير من ضمائر الإناث وقد بلغت عدتها خمسة وعشرين ضميرا ما بين مرفوع ومجرور ولم يوجد لها نظير في القرآن في هذا الصدد. (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) الواو حرف عطف ويبدين عطف على يغضضن فهو مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة في محل جزم والنون فاعل وزينتهن مفعول به وإلا أداة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 594 حصر وما بدل من زينتهن وجملة ظهر منها صلة والمراد بالظاهر الوجه والكفان فيجوز أن ينظرها الأجنبي إن لم يخف فتنة كما هو مقرر في علم الفقه. (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) الواو عاطفة واللام لام الأمر ويضربن فعل مضارع مبني على السكون في محل جزم باللام والنون فاعل وبخمرهن الباء زائدة أو تبعيضية أي يلقين خمرهن على جيوبهن أي يسترن الرءوس والأعناق والصدور بالمقانع جمع مقنعة أو مقنع بكسر الميم فيهما وهي ما يغطى به الرأس. (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) الواو عاطفة ولا ناهية ويبدين مضارع مبني في محل جزم والنون فاعل وزينتهن مفعول به وإلا أداة حصر ولبعولتهن متعلقان بيبدين وهذه المستثنيات اثنا عشر نوعا آخرها الطفل. (أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) كلهن معطوفات. (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) غير صفة للتابعين والمراد بالتابعين غير أولي الإربة موضع خلاف، قال ابن عباس: التابع هو العنين الأحمق، وقيل هو الذي لا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن وقيل هو المجبوب وقيل هو الشيخ الهرم الذي ذهبت شهوته وقيل هو المخنث. أقول: والعنين والمخنث هو المشبه بالنساء والشيخ الهرم وأما المجبوب فهو الذي بقي أنثياه والخصي هو الذي بقي ذكره. ومن الرجال حال وأو حرف عطف والطفل معطوف على ما تقدم وهو بمعنى الأطفال فأل جنسية والطفل يطلق على الواحد والمجموع فلذلك وصف بالجمع وقيل لما قصد الجنس روعي فيه الجمع، والذين صفة وجملة لم يظهروا صلة وعلى عورات النساء متعلقان بيظهروا. (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) الواو عطف على ما تقدم ولا ناهية ويضربن فعل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 595 مضارع مبني في محل جزم بلا والنون فاعل وبأرجلهن متعلقان بيضربن، كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال وقيل كانت تضرب بإحدى رجليها الأخرى ليعلم أنها ذات خلخالين فإن ذلك يورث الرجال ميلا إليهن ويوهم أن لهن ميلا الى الرجال، وقال الزجاج «وسماع صوت هذه الزينة أشد تحريكا للشهوة من ابدائها» . (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الواو عاطفة وتوبوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والى الله متعلقان بتوبوا وجميعا حال وأيها المؤمنون منادى نكرة مفصودة وقد تقدم إعرابه ولعل واسمها وجملة تفلحون خبرها وقد رسمت في المصحف دون ألف والرسم سنة متبعة. البلاغة: - من الاسرار التي تدق على الافهام دخول من الجارة على غض الابصار دون الفروج في قوله تعالى «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ» والسر في ذلك أن أمر النظر واسع لا يني يسرح في مراتع الجمال ومواطن الفتنة، قال الزمخشري بهذا الصدد: «ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر الى شعورهن وصدورهن وثديهنّ وأعضادهن وسوقهن وأقدامهن وكذلك الجواري المستعرضات للبيع وأما أمر الفروج فمضيق» . - ومن هذه الأسرار تقديم غض الابصار على حفظ الفروج في الاية نفسها وفي الآية التي تليها، والسر فيه أن النظر بريد الزنا ورائده الذي لا يخطىء. وقد أفاض الشعراء في القديم والحديث فيما تحدثه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 596 النظرة من إلهاب نار الحب، وتأريث الحرقة التي تدفع الى ارتكاب المحرم ومن أجمل ما قيل فيه قول ابن زيدون: حسن أفانين لم تستوف أعيننا ... غاياته بأفانين من النظر وقال ابن الرومي: عيني لعينك حين تنظر مقتل ... لكن لحظك سهم حتف مرسل ومن العجائب أن معنى واحدا ... هو منك لحظ وهو مني مقتل وسيرد في كتابنا العجيب منه. وفيما يلي طائفة من الأحاديث الواردة بهذا الصدد: «عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عن ربه: النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من نركها من مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه» أي جعلت بدله إيمانا يشعر بلذاته في قلبه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة: العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدّق ذلك الفرج أو يكذبه» . والمعنى أن الله تعالى يعذب العين بالنار يوم القيامة لتطلعها الى محرم بقصد بلا فجاءة، والخطا بفتح الخاء المشي الى المعصية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 597 وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والدخول على النساء فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحم؟ قال: الحم الموت» رواه البخاري ومسلم ثم قال: ومعنى كراهية الدخول على النساء على نحو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان» . والحم بفتح الحاء وتخفيف الميم وبإثبات الواو أيضا وبالهمز أيضا هو أبو الزوج ومن أدلى به كالأخ والعم وابن العم ونحوهم وهو المراد هنا كذا فسره الليث بن سعد وغيره وأبو المرأة أيضا ومن أدلى به وقيل بل هو قريب الزوج فقط وقيل قريب الزوجة فقط. قال أبو عبيد في معناه يعني فليمت ولا يفعلنّ ذلك فاذا كان هذا رواية في أب الزوج وهو محرم فكيف بالغريب؟ ومعنى الحمو الموت: أي الخوف منه أكثر من غيره والشر يتوقع منه والفتنة أكثر لتمكنه من الوصول الى المرأة والخلوة من غير أن ينكر عليه. [سورة النور (24) : الآيات 32 الى 33] وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 598 اللغة: (الْأَيامى) : جمع أيم وهي من ليس لها زوج بكرا كانت أو ثيبا ومن ليس له زوج وهذا في الأحرار والحرائر بقرينة قوله وإمائكم، وتجمع الأيم أيضا على أيائم وأيّمون وأيمات يقال آم يئيم الرجل من زوجه أو المرأة من زوجها فقدها أو فقدته، وأصل الأيامى أيائم كما قال الزمخشري ومثله يتامى في يتائم وأجاز سيبويه أن يكون غير مقلوب وانه جمع على فعالى، وقال الشاعر: فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي ... وإن كنت أفتى منكم أتأيم يقول لمحبوبته: إن تتزوجي أتزوج وإن لم تتزوجي لم أتزوج، وجملة وان كنت أفتى منكم اعتراضية، والأفتى الأكثر فتية وشبابا، ورفع المضارع في جواب الشرط كما هنا قليل، وقد ورد في الشعر إذا كان الشرط فعلا ماضيا كما هنا، وفي الحديث: «اللهم إني أعوذ بك من العيمة والغيمة والأئمة والكزم والقرم» أما العيمة فهي شدة شهوة اللبن والغيمة شدة شهوة العطش والأئمة طول العزبة والكزم شدة شهوة الأكل، قال في الصحاح: كزم الشيء بمقدّم فيه أي كسره واستخرج ما فيه، والقرم شد شهوة اللحم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 599 (الْكِتابَ) : والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة: هو أن يقول الرجل لمملوكه كاتبتك على ألف درهم فإن أداها عتق ومعناه كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك أو كتبت لك الوفاء بالمال وكتبت علي العتق، وله أحكام مبسوطة في كتب الفقه. وفي الأساس واللسان: «كتب عليه كذا: قضي عليه، وكتب الله الأجل والرزق وكتب على عباده الطاعة وعلى نفسه الرحمة وهذا كتاب الله: قدره، قال الجعدي: يا بنت عمي كتاب الله أخرني ... عنكم وهل أمنعن الله ما فعلا (الْبِغاءِ) : الزناء وبغت فلانة بغاء وهي بغي: طلوب للرجال وهن بغايا ومنه قيل للإماء البغايا لأنهن كن يباغين في الجاهلية يقال قامت البغايا على رؤوسهم، قال الأعشى: والبغايا يركضن أكسية الاضريج والشّرعبيّ ذا الأذيال وفي المصباح: «وبغت المرأة تبغي بغاء بالكسر والمد من باب رمى فجرت وهي بغي والجمع البغايا وهو وصف مختص بالمرأة فلا يقال للرجل بغي قاله الأزهري والبغي القينة وإن كانت عفيفة لثبوت الفجور لها في الأصل قاله الجوهري ولا يراد به الشتم لأنه اسم جعل كاللقب والأمة تباغي أي تزاني. الإعراب: (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير حكم النكاح، والأمر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 600 للوجوب إن كانت المرأة محتاجة للنكاح خوف الزنا أو كان الرجل محتاجا للنكاح خوف الزنا فإن لم تكن ثمة حاجة كان الأمر للاباحة كما رأى الشافعي، أو للندب كما رأى أبو حنيفة ومالك، والتفصيل في كتب الفقه والأيامى مفعول به ومنكم حال والصالحين عطف على الأيامى ومن عبادكم حال وإمائكم عطف على عبادكم. (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) إن شرطية ويكونوا فعل الشرط والواو اسمها وفقراء خبرها ويغنهم الله جواب الشرط ومن فضله متعلقان بيغنهم والله مبتدأ وواسع خبر أول وعليم خبر ثان. (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) الواو عاطفة واللام لام الأمر ويستعفف مضارع مجزوم بلام الأمر والذين فاعل وجملة لا يجدون صلة ونكاحا مفعول به وحتى حرف غاية وجر ويغنيهم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والله فاعل ومن فضله متعلقان بيغنيهم. (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) والذين نصب على الاشتغال أي منصوب بفعل مقدر يفسره المذكور ويجوز إعرابه مبتدأ وخبره جملة فكاتبوهم والأول أرجح لمكان الأمر وجملة يبتغون الكتاب صلة ومما حال وجملة ملكت أيمانكم صلة والفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وكاتبوهم فعل أمر والواو فاعل والجملة مفسرة على الوجه الاول وخبر على الوجه الثاني وإن شرطية وعلمتم فعل ماض وفاعل وهو في محل جزم فعل الشرط وفيهم متعلقان بعلمتم وخيرا مفعول به والجواب محذوف دل عليه قوله فكاتبوهم (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ) وآتوهم عطف على فكاتبوهم ومن مال الله متعلقان بآتوهم والذي صفة لله وجملة آتاكم صلة للموصول. (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) الواو عاطفة ولا ناهية وتكرهوا فعل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 601 مضارع مجزوم بلا الناهية وعلى البغاء متعلقان بتكرهوا وإن شرطية وأردن فعل ماض وفاعل وهو في محل جزم فعل الشرط وتحصنا مفعول له والجواب محذوف كما تقدم ولتبتغوا اللام للتعليل وتبتغوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والواو فاعل وعرض الحياة الدنيا مفعول به. (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويكرههن فعل الشرط والفاء رابطة لأن الجواب جملة اسمية وان واسمها ومن بعد إكراههن حال وغفور خبر إن الاول ورحيم خبرها الثاني. البلاغة: الاحتراس: في قوله تعالى «إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً» فقد أقحم هذا الاعتراض ليبشع ذلك عند المخاطب ويحذره من الوقوع فيه ولكي يتيقظ أنه كان ينبغي له أن يأنف من هذه الرذيلة وإن لم يكن زاجر شرعي، ووجه التبشيع عليه أن مضمون الآية النداء عليه بأن أمته خير منه لأنها آثرت التحصّن عن الفاحشة وهو يأبي إلا إكراهها، ولأبي السعود قول جميل في هذا الصدد: «وقوله تعالى إن أردن تحصنا ليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنا وإخراج ما عداها من حكمه كما إذا كان الإكراه بسبب كراهتهنّ الزنا لخصوص الزاني أو لخصوص الزمان أو لخصوص المكان أو لغير ذلك من الأمور المصحّحة للاكراه في الجملة بل للمحافظة على عادتهم المستمرة حيث كانوا يكرهوههنّ على البغاء وهن يردن التعفف عنه مع وفور شهوتهن الآمرة بالفجور وقصورهن في معرفة الأمور الداعية الى المحاسن الزاجرة عن تعاطي القبائح» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 602 هذا ومن المفيد أن نذكر سبب نزول هذه الآية فقد ذكروا أنها نزلت في عبد الله بن أبيّ، كان يكره جواريه على الكسب بالزنا وكنّ ستا فشكا منهن اثنتان الى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية، وأسماء هذه الجواري هي: معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة. الفوائد: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» رواه البخاري ومسلم. وانما خص الشباب لأن الغالب وجود قوة الداعي فيهم الى النكاح بخلاف الشيوخ، والباءة الجماع واستعمل لعقد النكاح، قال الجوهري: الباءة مثل الباعة ومنه سمي النكاح باءة، والوجاء أصله رض الخصيتين. قال النووي في شرح مسلم: «معناه من استطاع منكم الجماع لقدرته على مئونته وهي مؤن النكاح فليتزوج ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم ليقطع شهوته ويقطع شر منيه كما يقطعه الوجاء» وهناك قول آخر وهو أن المراد بالباءة مؤن النكاح، سميت باسم ما يلازمها وتقديره من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم، قالوا: والعاجز لا يحتاج الى الصوم لدفع الشهوة فوجب تأويل الباءة بالمؤن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 603 [سورة النور (24) : الآيات 34 الى 38] وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) اللغة: (كَمِشْكاةٍ) : المشكاة: الكوة غير النافذة، وقيل هي الحديدة أو الرصاصة التي يوضع فيها الزيت، وقيل هي العمود الذي يوضع على رأسه المصباح، وقيل ما يعلق فيه القنديل من الحديدة، وفي القاموس وشرحه: المشكاة كل كوة غير نافذة وكل ما يوضع فيه أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 604 عليه المصباح، وقيل المشكاة حبشية معربة، وسيأتي مزيد بحث عنها في باب البلاغة. (زُجاجَةٍ) : الزجاج بفتح الزاي وضمها وكسرها: جسم شفاف يصنع من الرمل والقلى والإناء والقطعة منه زجاجة بتثليت الزاي أيضا وأراد قنديلا من زجاج شامي أزهر. (دُرِّيٌّ) : مضيء، بضم الدال من غير همز وبالتشديد منسوب الى الدر شبّه به لصفائه وإضاءته، ويجوز أن يكون أصله الهمز ولكن خففت الهمزة وهو فعيل من الدر وهو دفع الظلمة بضوئه ويقرأ بالكسر على معنى الوجه الثاني ويكون على فعيل كسكيت وصديق وفي المختار: «الدرء الدفع وبابه قطع ودرأ طلع مفاجأة وبابه خضع ومنه كوكب دريء كسكيت لشدة توقده وتلألؤه، ودريّ بالضم منسوب الى الدر، وقرىء دريء بالضم والهمزة ودريء بالفتح والهمز، وتدارأتم وتدافعتم واختلفتم» وفي الأساس: «وكوكب درّي وطلعت الدراري نسبت الى الدار وهو كبار اللؤلؤ» وفيه أيضا: «ومن المجاز: درأ الكوكب: طلع كأنه يدرأ الظلام ودرأت النار أضاءت» . (الْآصالِ) : جمع أصيل وهو الوقت بين العصر والمغرب وبجمع أيضا على أصائل وأصل وأصلان. الإعراب: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان حقيقة الآيات المنزلة. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 605 وأنزلنا فعل وفاعل وإليكم متعلقان بأنزلنا وآيات مفعول به ومبينات صفة وهي بكسر الياء وفتحها ومثلا عطف على آيات ومن الذين صفة لمثلا وجملة خلوا صلة ومن قبلكم حال وموعظة عطف على مثلا وللمتقين صفة لموعظة. (اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) الله مبتدأ ونور السموات والأرض خبره ومثل مبتدأ ونوره مضاف اليه والكاف اسم بمعنى مثل خبر ومشكاة مضاف اليه، ويجوز اعراب الكاف حرف جر والجار والمجرور خبر مثل، وفيها خبر مقدم ومصباح مبتدأ مؤخر والجملة صفة لمشكاة وسيأتي تحقيق هذا الكلام في باب البلاغة وجملة مثل نوره تفسير لما قبلها فلا محل لها. (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) مبتدأ وخبر والجملة تفسير لما قبلها فلا محل لها. (الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) الزجاجة مبتدأ وكأن واسمها وكوكب خبرها ودري صفة لكوكب والجملة خبر الزجاجة وجملة الزجاجة إلخ تفسير لما قبلها فلا محل لها وجملة يوقد صفة ثانية لكوكب ونائب الفاعل مستتر ومن شجرة جار ومجرور متعلقان بيوقد وهي لابتداء الغاية على حذف مضاف أي من زيت شجرة ومباركة صفة لشجرة وزيتونة بدل من شجرة ولا شرقية صفة ثانية لشجرة ودخلت لا لتفيد النفي فلا تحول بين الصفة والموصوف، ولا غربية عطف وسيأتي المزيد من بيان هذا المعنى في باب البلاغة. (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ) هذه الجملة صفة ثالثة لشجرة ويكاد فعل مضارع ناقص من أفعال المقاربة وزيتها اسمها وجملة يضيىء خبرها، ولو الواو حالية ولو شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتمسسه فعل مضارع مجزوم بلم وجواب لو محذوف أي لأضاء بدلالة ما تقدم عليه والجملة حال فلو هنا تفيد استقصاء الأحوال أي حتى في هذه الحال ونار فاعل تمسسه ونور خبر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 606 لمبتدأ محذوف أي هذا الذي شبهت به الحق نور متضاعف وعلى نور متعلقان بمحذوف صفة لنور مؤكدة له وسيأتي سر تنكسير النور في باب البلاغة. (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير تنفيذ مشيئته سبحانه، ولنوره متعلقان بيهدي ومن يشاء مفعول يهدي وجملة يشاء صلة ويضرب الله فعل مضارع وفاعل والأمثال مفعول به وللناس متعلقان بيضرب، والله الواو استئنافية أو عاطفة والله مبتدأ وبكل شيء متعلقان بعليم وعليم خبر الله. (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) في بيوت صفة لمشكاة أي كمشكاة في بيوت أو لمصباح أو لزجاجة أو متعلقان بيوقد، وعلى هذا لا يوقف على عليم، ولك أن تقف على عليم فتعلقه بمحذوف تقديره سبحوه في بيوت أو بيسبح وقال ابن الأنباري: سمعت أبا العباس يقول: هو حال للمصباح والزجاجة والكوكب كأنه قيل: وهو في بيوت، وقيل متعلقان بتوقد أي توقد في بيوت، وجملة أذن الله صفة لبيوت وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي في أن ترفع، ويذكر عطف على ترفع بالبناء للمجهول وفيها متعلقان بيذكر واسمه نائب فاعل. (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) الجملة صفة ثانية لبيوت وله متعلقان بيسبح وبالغدو والآصال حال ورجال فاعل يسبح وجملة لا تلهيهم صفة لرجال وتجارة فاعل تلهيهم ولا بيع عطف على تجارة وعن ذكر الله متعلقان بتلهيهم وما بعده عطف على ذكر الله. (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) الجملة صفة ثانية لرجال أو حال من مفعول تلهيهم ويخافون فعل وفاعل ويوما مفعول به لا ظرف وجملة تتقلب صفة ليوما وفيه متعلقان بتتقلب والقلوب فاعل تتقلب والابصار عطف على القلوب. (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 607 ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) اللام للتعليل ويجزيهم مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والهاء مفعول به أول والله فاعل وأحسن مفعول به ثان وما مضاف اليه وجملة عملوا صلة ويزيدهم عطف على ليجزيهم ومن فضله متعلقان بيزيدهم. (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة يرزق خبر ومن مفعول به وجملة يشاء صلة وبغير حساب حلل. البلاغة: حفلت هذه الآيات بأفانين شتى من البلاغة والبيان وسنسهب فيها بعض الشيء جريا على ما درجنا عليه في هذا الكتاب وسنوزع هذه المباحث نجوما متتالية. 1- التشبيه البليغ في قوله تعالى «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» والمراد به المضمر الأداة وقد سبق ذكره مع أقسام التشبيه وانما سمي بليغا لحذف واسطة الأداة ولو جازته بسبب هذا الحذف، وقد تكلم علماء البيان مطولا في هذا التشبيه وحاولوا تجسيد الكيفية التي ساغ فيها هذا التشبيه لأن النور كما هو معلوم كيفية أو عرض يدرك بالبصر فلا يصح حمله على الذات المقدسة، وأحسن ما يقال فيه أن التشبيه جار على التقريب للذهن، أي: به تعالى وبقدرته أنارت أضواء السماء والأرض واستقامت أمورها لأن ظهور الموجودات حصل به كما حصل بالضوء جميع المبصرات، أو انه على التجوز أي منور السماء والأرض، أو بتقدير مضاف كقولك زيد عدل أي ذو عدول. 2- التشبيه المرسل في قوله «مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ... الآية» فقد جاء التشبيه هنا بواسطة الأداة وهي الكاف، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 608 والمراد أن النور الذي شبه به الحق نور متضاعف قد تناحر فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت حتى لم تبق بقية مما يقوي النور، واختلفوا في هذا التشبيه هل هو تشبيه تمثيلي أي مركب قصد فيه تشبيه جملة بجملة من غير نظر الى مقابلة جزء بجزء بل قصد تشبيه هداه وإتقانه صنعته في كل مخلوق على الجملة بهذه الجملة من النور الذي تتخذونه وهو أبلغ صفات النور عندكم، أو تشبيه غير تمثيلي أي غير مركب قصد فيه مقابلة جزء بجزء، وأجاز القرطبي الوجهين وهذا نص عبارته: «قوله مثل نوره أي صفة دلائله التي يقذفها في قلب المؤمن والدلائل تسمى نورا وقد سمى الله تعالى كتابه نورا فقال: «وأنزلنا إليكم نورا مبينا» وسمى نبيه نورا فقال: «قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين» وهذا لأن الكتاب يهدي ويبين وكذلك الرسول، ووجه الاضافة الى الله تعالى أنه مثبت الدلالة ومبينها وواضعها، وتحتمل الآية معنى آخر ليس فيه مقابلة جزء من المثال بجزء من المثل به بل وقع التشبيه فيه لجملة بجملة وذلك أن يريد مثل نور الله الذي هو هداه وإتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس فمثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر» . وأبدع الكرخي في تحديده هذا التشبيه التمثيلي فقال: « ... ومثل الله نوره أي معرفته في قلب المؤمن بنور المصباح دون نور الشمس مع أن نورها أتم لأن المقصود تمثيل النور في القلب والقلب في الصدر والصدر في البدن بالمصباح والمصباح في الزجاجة والزجاجة في القنديل وهذا التمثيل لا يستقيم إلا فيما ذكر أو لأن نور المعرفة له آلات يتوقف هو على اجتماعها كالذهن والفهم والعقل واليقظة وغيرها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 609 ولأن نور الشمس يشرق متوجها الى العالم السفلي ونور المعرفة يشرق متوجها الى العالم العلوي كنور المصباح، ولكثرة نفع الزيت وخلوصه عما يخالطه غالبا وقع التشبيه في نوره دون نور الشمع مع أنه أتم من نور المصباح» . 3- الطباق: في قوله تعالى «لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ» وقد تكلم علماء البيان كثيرا عن هذا الطباق والمقصود منه، قال الزمخشري: «وقيل لا في مضحى ولا في مقنأة (وهو المكان الذي لا تطلع عليه الشمس) ولكن الشمس والظل يتعاقبان عليها وذلك أجود لحملها وأصفى لدهنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا خير في شجرة في مقنأة ولا نبات في مقنأة ولا خير فيهما في مضحى وقيل ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط بل تصيبها بالغداة والعشي جميعا فهي شرقية وغربية» . ولابن الأثير كلام لطيف في هذا الصدد قال: «أما تمثيل نور الله تعالى بمشكاة فيها مصباح فإن هذا مثال ضربه للنبي صلى الله عليه وسلم ويدل عليه انه قال: «توقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية» وإذا نظرت الى هذا الموضع وجدته تشبيها لطيفا عجيبا وذاك أن قلب النبي صلى الله عليه وسلم وما ألقي فيه من النور وما هو عليه من الصفة الشفافة كالزجاجة التي كأنها كوكب لصفائها وإضاءتها، وأما الشجرة المباركة المباركة التي لا شرقية ولا غربية فانها عبارة عن ذات النبي صلى الله عليه وسلم لأنه من أرض الحجاز التي لا تميل الى الشرق ولا الى الغرب وأما زيت هذه الزجاجة فإنه مضيء من غير أن تمسه نار والمراد بذلك أن فطرته فطرة صافية من الأكدار منيرة من قبل مصافحة الأنوار» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 610 4- التنكير: في تنكير قوله «نور على نور» ضرب من الفخامة والمبالغة لا أرشق ولا أجمل منه فليس هو نورا واحدا معينا أو غير معين فوق نور آخر مثله، وليس هو مجموع نورين اثنين فقط بل هو عبارة عن نور متضاعف من غير تحديد لتضاعفه بحد معين. وقد استهوى هذا التعبير شعراءنا العرب فرمقوا سماءه، قال أبو تمام يصف غربته في مصر: أخمسة أعوام مضت لمغيبه ... وشهران بل يومان ثكل على ثكل وقال أبو الطيب المتنبي: أرق على أرق ومثلي يأرق ... وجوى يزيد وعبرة تترقرق وقال شوقي في العصر الحديث يرثي المرحوم فوزي الغزي أحد أعلام دمشق: جرح على جرح حنانك جلق ... حملت ما يوهي الجبال ويرهق 5- تشابه الأطراف: وهو أن ينظر المتكلم الى لفظة وقعت في آخر جملة من الفقرة في النثر أو آخر لفظة وقعت في آخر المصراع الأول في النظم فيبتدىء بها ... تأمل في تشابه أطراف هذه الجمل المتلاحقة «الله نور السموات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنه كوكب دري» ومن أمثلة الشعر في قول ليلى الأخيلية في الحجاج بن يوسف: إذا نزل الحجاج أرضا مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 611 شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة س قاها سقاها فرواها بشرب سجاله ... دماء رجال يحلبون حراها وجميل قول أبي تمام: هوى كان خلسا إن من أبرد الهوى ... هوى جلت في افنائه وهو خامل أبا جعفر إنّ الجهالة أمها ... ولود وأم العلم حذاء حائل فكن هضبة نأوى إليها وحرة ... يعدد عنها الاعوجي المناقل فإن الفتى في كل ضرب مناسب ... مناسب روحانية من يشاكل وينسب لأبي نواس قوله: خزيمة خير بني حازم ... وحازم خير بني دارم ودارم خير تميم وما ... مثل تميم في بني آدم إلا البهاليل بني هاشم ... وهم سيوف لبني هاشم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 612 وقد يكون تشابه الأطراف معنويا وهو أن يختم المتكلم كلامه بما يناسب ابتداءه في المعنى لا في اللفظ كقول محمد بن عبيد الله السلامي: بدائع الحسن فيه مفترقه ... وأعين الناس فيه متفقة سهام ألحاظه مفوقه ... فكل من رام لحظه رشقه قد كتب الحسن فوق عارضه ... هذا مليح وحق من خلقه فالرشق في قافية البيت الثاني يناسب السهام في أوله. وجميل قول السري الرفاء: ابريقنا عاكف على قدح ... كأنه الأم ترفع الولدا أو عابد من بني المجوس إذا ... توهم الكأس شعلة سجدا فالسجود مناسب للعابد في أول البيت. وبلغ ابن الرومي الغاية في وصف مغنية: جاءت بوجه كأنه قمر ... على قوام كأنه غصن غنت فلم تبق فيّ جارحة ... إلا تمنيت أنها أذن فالأذن تناسب ذكر الغناء في أول البيت. استدراك على بعض النقاد: هذا وقد خفيت على بعض علماء البيان أسرار التشابه في الأطراف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 613 فجزم بأنه إذا ذكرت اللفظة في أول كلام يحتاج الى تمام فينبغي أن تعاد بعينها في آخره ومتى عدل عن ذلك كان معيبا ثم مثل ذلك بقول أبي تمام وقول أبي الطيب المتنبي فقال: إن أبا تمام أخطأ في قوله: بسط الرجاء لنا برغم نوائب ... كثرت بهن مصارع الآمال فحيث ذكر الرجاء في صدر البيت كان ينبغي أن يعيد ذكره أيضا في عجزه أو كان ذكر الآمال في صدر البيت وعجزه وكذلك أخطأ أبو الطيب في قوله: اني لأعلم واللبيب خبير ... أن الحياة وان حرصت غرور فإنه قال «إني لأعلم واللبيب خبير» وكان ينبغي أن يقول: الي لأعلم واللبيب عليم ليكون ذلك تقابلا صحيحا. هذا ما ذكره الناقد وليس بشيء لأن المعتمد عليه في هذا الصدد أنه إذا كانت اللفظة في معنى أختها جاز. 6- المجاز العقلي: في قوله «يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار» فقد أسند الى القلوب والأبصار التقلب والاضطراب من الهول والفزع. وفي قوله «يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار» فن الغلو وهو الافراط في وصف الشيء المستحيل عقلا وعادة وهو ينقسم الى قسمين مقبول وغير مقبول فالمقبول لا بد أن يقربه الناظم الى القبول بأداة التقريب، إلا أن يكون الغلو في مدح النبي صلى الله عليه وسلم فلا غلو حينئذ ويجب على الناظم أن يسبكه في قالب التخيلات التي تدعو العقل الى قبولها في أول وهلة كالآية الكريمة فإن إضاءة الزيت من غير مس النار مستحيلة عقلا ولكن لفظة يكاد قربته فصار مقبولا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 614 والقسم الثاني وهو الغلو غير المقبول، كقول ابي نواس: وأخفت أهل الشرك حتى أنه ... لتخافك النطف التي لم تخلق [سورة النور (24) : الآيات 39 الى 40] وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) اللغة: (كَسَرابٍ) : السراب: ما يشاهد نصف النهار من اشتداد الحر كأنه ماء تنعكس فيه البيوت والأشجار وغيرها ويضرب به المثل في الكذب والخداع يقال: هو أخدع من السراب، وسمي سرابا لأنه يتسرب أي يجري كالماء، يقال سرب الفحل أي مضى وسار ويسمى الآل أيضا ولا يكون إلا في البرية والحر فيغتر به الظمآن. (بِقِيعَةٍ) : القيعة بمعنى القاع أو جمع قاع وهو المنبسط المستوي من الأرض وفي الصحاح: «والقاع المستوي من الأرض والجمع أقواع وقيعان فصارت الواو ياء لكسر ما قبلها والقيعة مثل القاع وهو أيضا من الواوي وبعضهم يقول هو جمع» وقال الهروي: «والقيعة جمع القاع مثل جيرة وجار» وفي الأساس: «هو كسراب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 615 بقيعة وبقاع ونزلوا بسراب قيعان ولهم قاعة واسعة وهي عرضة الدار وأهل مكة يسمون سفل الدار القاعة ويقولون: فلان قعد في العسية ووضع قماشه في القاعة، وقال: سائل مجاور جرم هل جنيت لهم ... حربا تفرّق بين الجيرة الخلط وهل تركت نساء الحي ضاحية ... في قاعة الدار يستوقدن بالغبط وفي القاموس والتاج ما يفهم منه أن القاع أرض سهلة مطمئنة قد انفرجت عنها الجبال والآكام ويجمع على أقواع وأقوع وقيع وقيعان وقيعة. (لُجِّيٍّ) : اللجي: العميق الكثير الماء منسوب الى اللج وهو معظم البحر هكذا قال الزمخشري، وقال غيره منسوب الى اللجة بالتاء وهي أيضا معظمه. الإعراب: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) كلام مستأنف مسوق لبيان حال عمل من لا يعتقد الايمان ولا يتبع الحق بعد أن بين حال المؤمنين بضرب مثل لهم وهو «مثل نوره كمشكاة» . والذين مبتدأ أول وجملة كفروا صلة الموصول وأعمالهم مبتدأ ثان وكسراب خبر الثاني والمبتدأ الثاني وخبره خبر الاول وجملة يحسبه الظمآن صفة لسراب وماء مفعول به الجزء: 6 ¦ الصفحة: 616 ثان ليحسبه وحتى حرف غاية وجر وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة جاءه في محل جر باضافة الظرف إليها وجملة لم يجده لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وشيئا في موضع المصدر أي لم يجده وجدانا وقيل شيئا هنا بمعنى ما قدّره وظنّه فهي مفعول به ثان ليجده وسيأتي مزيد بحث عنها في باب البلاغة. (وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) الواو حرف عطف ووجد فعل ماض وفاعل مستتر ولفظ الجلالة مفعول به وعنده متعلقان بمحذوف مفعول به ثان لوجد أي كائنا عند السراب أو العمل، فوفاه الفاء عاطفة ووفاه فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول وحسابه مفعول به ثان أي جازاه عليه في الدنيا والله مبتدأ وسريع الحساب خبر. (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) أو حرف عطف قيل هي للتقسيم أو للتخيير أي أن عمل الكافر قسمان: قسم كالسراب وهو العمل الصالح وقسم كالظلمات وهو العمل السيّء أو أن عمل الكافر لاغ لا منفعة له كالسراب ولكونه خاليا من نور الحق كالظلمات المتراكبة والحنادس المدلهمة. قال الزجاج: «أعلم الله سبحانه أن أعمال الكفار كما أنها تشبه السراب الموصوف بتلك الصفات فهي أيضا تشبه الظلمات، وانها ان مثلت بما يوجد فمثلها كمثل السراب، وان مثلت بما يرى فهي كهذه الظلمات التي وصف» وقال أيضا «إن شئت مثل بالسراب وان شئت مثل بهذه الظلمات، فأو للإباحة» والجار والمجرور نسق على كسراب على حذف مضاف تقديره أو كذي ظلمات ويدل على هذا المضاف قوله «إذا أخرج يده لم يكد يراها» أو على حذف مضافين تقديرهما كأعمال ذي ظلمات، وفي بحر صفة لظلمات ولجي صفة لبحر وجملة يغشاه موج صفة ثانية لبحر وموج فاعل ومن فوقه خبر مقدم وموج مبتدأ مؤخر والجملة صفة لموج الأولى وجملة من فوقه سحاب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 617 صفة لموج الثانية. (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) ظلمات خبر لمبتدأ محذوف أي هذه ظلمات والجملة تفسير لما قبلها فلا محل لها وبعضها مبتدأ وفوق بعض الظرف متعلق بمحذوف خبر والجملة صفة لظلمات وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب وجملة أخرج في محل جر باضافة الظرف إليها وفاعل أخرج ضمير الواقع في البحر المرتطم فيه ويده مفعول به ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكد فعل مضارع ناقص مجزوم بلم واسمها ضمير مستتر تقديره هو وجملة يراها خبر يكد وجملة لم يكد يراها لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم. (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ولم حرف نفي وقلب وجزم ويجعل فعل الشرط والله فاعل وله مفعول به ثان ونورا مفعول به أول ليجعل والفاء رابطة للجواب لأنه جملة اسمية وما نافية وله خبر مقدم ومن حرف جر زائد ونور مجرور لفظا مرفوع بالابتداء محلا والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر المبتدأ. البلاغة: وقد انطوت هذه الآية على أفانين من البلاغة ندرجها فيما يلي: 1- التشبيه المرسل: فقد أخرج ما لا تقع عليه الحاسة الى ما تقع عليه الحاسة، ولو قيل يحسبه الرائي ماء لكان بليغا، وأبلغ منه لفظ القرآن لأن الظمآن أشد حرصا عليه وأكثر تعلق قلب به وتشبيه أعمال الكفار بالسراب من أحسن التشبيه وأبلغه فكيف وقد تضمن مع ذلك حسن النظم وعذوبة الألفاظ وصحة الدلالة وصدق التمثيل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 618 2- التشبيه التمثيلي: وقوله «ووجد الله عنده» تشبيه تمثيلي أي وجد عقابه وزبانية عذابه، ووجه التشبيه أن الذي يأتي به الكافر من أعمال البر ويعتقد أن له ثوابا عند الله تعالى وليس كذلك فاذا وافى عرصات القيامة لم يجد الثواب الذي كان يظنه بل وجد العقاب العظيم والعذاب الأليم فعظمت حسرته وتناهى غمه فشبه حاله بحال الظمآن الذي اشتدت حاجته الى الماء فإذا شاهد السراب في البر تعلق قلبه فإذا جاءه لم يجده شيئا فكذلك حال الكافر يحسب أن عمله نافعه فإذا احتاج الى عمله لم يجده أغنى عنه شيئا. 3- العطف على محذوف: في قوله تعالى «وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ» عطف على مقدر وليست الجملة معطوفة على «لم يجده شيئا» بل على ما يفهم منه بطريق التمثيل من عدم وجدان الكفرة من أعمالهم المذكورة عينا ولا أثرا، كأنه قيل حتى إذا جاء الكفرة يوم القيامة أعمالهم التي كانوا في الدنيا يحسبونها نافعة لهم في الآخرة لم يجدوها شيئا ووجدوا حكم الله وقضاءه لهم بالمرصاد. 4- المبالغة في التشبيه: وهذا في قوله: «إذا أخرج يده لم يكد يراها» وقد اختلف الناس في تأويل هذا الكلام ويكاد الإجماع ينعقد على أن المعنى أنه لا يرى يده فعلى هذا في التقدير ثلاثة أوجه: أحدها أن التقدير لم يرها ولم يكد وهذا غير واضح لأنه نفي للرؤية ثم اتبات لها، ووجه ثان وهو أن كاد زائدة ولا مساغ له في القرآن فالوجه إذن انه لم يقرب أن يراها فضلا عن أن يراها، ومثله قول ذي الرمة: إذا غيّر النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 619 أي لم يقرب من البراح، والنأي: البعد، ويقال رس وأرس إذا لزم والرسيس بقية المرض، ويبرح يذهب، وروي أن ذا الرمة لما قدم الكوفة اعترض عليه ابن شبرمة في ذلك بأنه يدل على زوال رسيس الهوى فغيره بقوله لم أجد وقال ابن عتبة حدثت أبي بذلك فقال: أخطأ ابن شبرمة وأخطأ ذو الرمة في تغييره وانما هو كقوله تعالى: «لم يكد يراها» وبعد البيت: فلا القرب يدنو من هواها ملالة ... ولا حبها إن تنزح الدار ينزح [سورة النور (24) : الآيات 41 الى 44] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 620 اللغة: (الطَّيْرُ) : قال أبو عبيدة وقطرب: الطير يقع على الواحد والجمع وقال ابن الانباري: الطير: جماعة وتأنيثها أكثر من التذكير وفي المصباح: «الطائر على صيغة اسم الفاعل من طار يطير طيرانا وهو له في الجو كمشي الحيوان في الأرض ويعدى بالهمزة والتضعيف فيقال: طيرته وأطرته وجمع الطائر طير مثل صاحب وصحب وراكب وركب وجمع الطير طيور وأطيار» . (صَافَّاتٍ) : باسطات أجنحتهن في الهواء. (يُزْجِي) : يسوق وفي المختار: «زجى الشيء تزجية دفعه برفق وتزجّى بكذا اكتفى به وأزجى الإبل ساقها والمزجى الشيء القليل وبضاعة مزجاة قليلة والريح تزجي السحاب والبقرة تزجي ولدها تسوقه» وفي القاموس وشرحه: «زجا يزجو زجوا وزجّى تزجية وأزجى إزجاء وازدجاه ساقه ودفعه برفق يقال: كيف تزجي أيامك أي كيف تدفعها وزجّى فلان حاجتي أي سهّل تحصيلها وأزجى الأمر أخره وأزجى الدرهم روجه» ومنه قول النابغة: إني أتيتك من أهلي ومن وطني ... أزجي حشاشة نفس ما بها رمق (رُكاماً) : الركام بضم الراء المتراكم بعضه فوق بعض وفي المختار: «ركم الشيء إذا جمعه وألقى بعضه على بعض وبابه نصر وارتكم الشيء وتراكم: اجتمع والركام الرمل المتراكم والسحاب ونحوه» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 621 (الْوَدْقَ) : المطر قيل هو خاص بالضعيف وقيل هو المطر ضعيفا كان أو شديدا وهو في الأصل مصدر يقال ودق السحاب يدق من باب وعد. (سَنا) : في المختار: «السنا مقصور ضوء البرق والسنا أيضا هو نبت يتداوى به والسناء من الرفعة ممدود والشيء الرفيع وأسناه رفعه وسناه تسنية فتحه وسهله» . الإعراب: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لتقرير هذه الحقيقة، فالهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر تقديره أنت وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تر لأن الرؤية هنا قلبية لأن تسبيح المسبحين لا تتعلق به رؤية البصر أي قد علمت علما يشبه المشاهدة في اليقين، وجملة يسبح خبر وله متعلقان بيسبح ومن فاعل يسبح وفي السموات والأرض صلة من. (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) الواو للعطف والطير عطف على من وصافات حال ومفعول صافات محذوف أي باسطات أجنحتها، وكل مبتدأ وساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم وجملة قد علم خبر كل وفاعل علم يعود على كل أو على الله، ويقول أبو البقاء إن عودته على «كل» أرجح لأن القراءة برفع كل على الابتداء، فيرجع ضمير الفاعل اليه ولو كان فيه ضمير اسم الله لكان الأولى نصب كل لأن الفعل الذي بعدها قد نصب ما هو من سببها فيصير كقولك زيدا ضرب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 622 عمر وغلامه فتنصب زيدا بفعل دل عليه ما بعده وهو أقوى من الرفع والآخر جائز» وصلاته مفعول به وتسبيحه عطف على صلاته والله مبتدأ وعليم خبر وبما متعلقان بعليم وجملة يفعلون صلة ما. (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) الواو استئنافية ولله خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأ مؤخر والى الله خبر مقدم والمصير مبتدأ مؤخر. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) الهمزة للاستفهام التقريري وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تر وقد تقدم اعراب نظيره، ثم حرف عطف ويؤلف عطف على يزجي وبينه ظرف متعلق بيؤلف ودخلت بين على مفرد وهي إنما تدخل على المثنى فما فوقه لأنه إما أن يراد بالسحاب الجنس فعاد الضمير على حكمه وإما أن يراد أنه على حذف مضاف أي بين قطعه فإن كل قطعة سحابة، ثم حرف عطف ويجعله فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول وركاما مفعول به ثان. (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) الفاء عاطفة وترى الودق فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنت ومفعول به وجملة يخرج حال لأن الرؤية هنا بصرية ومن خلاله متعلقان بيخرج أي من فتوقه ومخارجه جمع خلل كجبل وجبال، وينزل من السماء من جبال فيها من برد تقدم اعرابها ونعيده هنا للتقوية فمن الأولى ابتدائية متعلقة بينزل وكذلك الثانية فهي بدل بإعادة العامل وفيها صفة لجبال ومن برد للتبعيض وهي ومجرورها في موضع مفعول الانزال وقيل هي للبيان أي فتكون حالا وتكون من جبال هي في موضع مفعول الانزال، وأجمل بعضهم اعراب الآية فقال: والحاصل أن من في من السماء لابتداء الغاية بلا خلاف ومن في من جبال فيها ثلاثة أوجه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 623 الاول: لابتداء الغاية فتكون هي ومجرورها بدلا من الاولى بإعادة الخافض بدل اشتمال. الثاني: انها للتبعيض فتكون على هذا هي ومجرورها في محل نصب على أنها مفعول الانزال كأنه قال وينزل بعض جبال. الثالث: انها زائدة أي ينزل من السماء جبالا. وأما من في من برد ففيها أربعة أوجه: الثلاثة المتقدمة والرابع انها لبيان الجنس فيكون التقدير على هذا الوجه: وينزل من السماء بعض جبال التي هي البرد. وقال الزجاج: «ومعنى الآية وينزل من السماء من جبال برد فيها كما تقول: هذا خاتم في يدي من حديد أي خاتم حديد في يدي لأنك إذا قلت هذا خاتم من حديد وخاتم حديد كان المعنى واحدا» وعلى هذا يكون من برد في موضع جر صفة لجبال كما كان من حديد صفة لخاتم ويكون مفعول ينزل من جبال ويلزم من كون الجبال بردا أن يكون المنزل بردا. وذكر أبو البقاء أن التقدير شيئا من جبال فحذف الموصوف واكتفى بالصفة. (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) الفاء عاطفة ويصيب فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر يعود على الله وبه متعلقان بيصيب ومن مفعول به وجملة يشاء صلة الموصول ويصرفه عمن يشاء عطف على الجملة السابقة وهي مماثلة لها. (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) (يُقَلِّبُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 624 اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) الجملة صفة لبرد ويكاد فعل مضارع من أفعال المقاربة وسنا برقه اسمها وجملة يذهب بالأبصار خبرها وجملة يقلب تفسير لما قبلها فلا محل لها والله فاعل يقلب والليل مفعول به والنهار عطف على الليل وان حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وعبرة اسمها المؤخر ولأولي الابصار صفة لعبرة والأبصار بمعنى البصائر. البلاغة: 1- فن العنوان: في قوله «ألم تر أن الله يزجي سحابا» الآية فن انفرد به القليل من علماء البيان وهو فن العنوان، وعرفوه بأنه أن يأخذ المتكلم في غرض له من وصف أو فخر أو مدح أو عتاب أو هجاء أو غير ذلك من الفنون ثم يأتي لقصد تكميله وتوكيده بأمثلة من ألفاظ تكون عنوانات لأخبار متقدمة وقصص سالفة، ومنه نوع عظيم جدا وهو ما يكون عنوانا للعلوم وذلك أن تذكر في الكلام ألفاظ تكون مفاتيح لعلوم ومداخل لها والآية التي نحن بصددها فيها عنوان العلم المعروف بالآثار العلوية والجغرافيا الرياضية وعلم الفلك، ومن أمثلته في الشعر قصيدة أبي فراس الحمداني: خليلي ما أعددتما لمتيم ... أسير لدى الأعداء جافي المراقد فريد عن الأحباب لكن دموعه ... مثان على الخدين غير فرائد جمعت سيوف الهند من كل وجهة ... وأعددت للأعداء كل مجالد إذا كان غير الله للمرء عدة ... أتته الرزايا من وجوه الفوائد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 625 فقد جرت الحنفاء حتف جذيمة ... وكان يراها عدة للشدائد وجرت منايا مالك بن نويرة ... حليلته الحسناء يا أم خالد وأردى ذؤابا في بيوت عتيبة ... بنوه وأهلوه بشدو القصائد فهذه القصص التي استطرد إليها أبو فراس تكميلا لقصده وتدعيما لرأيه مشهورة ومعروفه، ويمكن الرجوع إليها في مظانها بكل سهولة. وقال الفرزدق لجرير: فهل أنت إن ماتت أتانك راكب ... إلى آل بسطام بن قيس فخاطب وإني لأخشى إن خطيت إليهم ... عليك الذي لاقى يسار الكواعب ومن حديث يسار أنه كان عبدا أسود يرعى لأهله إبلا وكان معه عبد يراعيه وكان لمولى يسار بنت فمرت يوما بإبله وهي ترعى في روض معشب فجاء يسار بعلبة لبن وسقاها وكان أفحج الرجلين فنظرت الى فحجه فتبسمت ثم شربت وأخذت مضجعها فانطلق فرحا حتى أتى العبد الراعي وقصّ عليه القصة وذكر فرحه بتبسمها فقال صاحبه يا يسار، كل من لحم الحوار، واشرب لبن العشار، وإياك وبنات الأحرار فقال له: دحكت لي دحكة لا أخيبها، يريد ضحكت لي ضحكة، ثم قام الى علبة فملأها وأتى الى ابنة مولاه فنبهها فشربت ثم اضطجعت فجلس العبد حذاءها فقالت: ما جاء بك؟ فقال: ما خفي عنك ما جاء بي فقالت: فأي شيء هو؟ قال: دحكك الذي دحكت إلي فقالت حياك الله ثم قامت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 626 الى سفط لها فأخرجت منه بخورا ودهنا وعمدت الى موسى ودعت بمجمرة وقالت له: إن ريحك ريح الإبل وهذا دهن طيب فوضعت البخور تحته وطأطأت كأنها تصلح البخور وأخذت مذاكيره وقطعتها بالموسى ثم أشمته الدهن فسلتت أنفه وأذنيه وتركته فصار مثلا لكل جان على نفسه ومتعد طوره. وزعيم هذا الباب أبو تمام فقد كان من أهم مميزات شعره استخدامه الحوادث القديمة والحديثة في أماديحه خاصة كقوله يمدح أبا دلف: إذا افتخرت يوما تميم بقوسها ... وزادت على ما وطّدت من مناقب فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم ... عروش الذين استرهنوا قوس حاجب فقد ارتقى بمديحه الى ذكر قصة قوس حاجب، وخلاصتها أن حاجب بن زرارة سيد بني تميم أتى الى كسرى في سنة جدب يستميره فقال له كسرى: وما ترهنني؟ قال قوسي، فاستعظمه وقدم له ما طلب، فضرب بقوس حاجب المثل عند العرب ثم كانت وقعة ذي قار وانتصر العرب على العجم لأول مرة وحرروا أرضهم من استعمارهم وكان الفضل يعود الى بني شيبان الذين يمت إليهم الممدوح بالنسبة، فقال أبو تمام منوها بذكر هذه الحادثة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 627 ويطول بنا الحديث إن تقصينا ما ورد في هذا الباب فحسبنا من القلادة ما أحاط بالجيد. 2- المبالغة أو الافراط في الصنعة: وفي قوله «يكاد سنابرقه يذهب بالأبصار» فن سماه ابن المعتز الافراط في الصنعة، وسماه قدامة المبالغة، وسماه من بعدهما التبليغ، والناس على تسمية قدامة، وعرفه بقوله: «هو أن يذكر المتكلم حالا لو وقف عندها لأجزأت فلا يقف عندها حتى يزيد في معنى كلامه ما يكون أبلغ في معنى قصده» وقد قدمنا في مكان آخر من هذا الكتاب ضروب المبالغات في الكتاب العزيز فلا حاجة الى الإعادة، ونقف عند الضرب الخامس الذي منه هذه الآية وهو ما جرى مجرى الحقيقة وهو قسمان: قسم كان مجازا فصار بالقرينة حقيقة كهذه الآية فإن اقتران هذه الجملة بيكاد يصرفها الى الحقيقة فانقلبت من الامتناع الى الإمكان، وقسم أتى بصيغة اسم التفضيل وهو محض الحقيقة من غير قرينة كقوله تعالى «أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا» وقد تقدم القول فيه. [سورة النور (24) : الآيات 45 الى 49] وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 628 الإعراب: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) كلام مستأنف مسوق لبيان أصناف الخلق، والله مبتدأ وجملة خلق خبر وكل دابة مفعول به ومن ماء جار ومجرور متعلقان بخلق أي نطفة بحسب الأغلب. (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) الفاء تفريعية ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة يمشي صلة الموصول وعلى بطنه متعلقان بيمشي ومنهم من يمشي على رجلين عطف على ما سبقه. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) عطف، وسيأتي سر ذكر من لغير العاقل في باب البلاغة. (يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يخلق الله ما يشاء فعل مضارع وفاعل ومفعول به وجملة يشاء صلة وإن الله ان واسمها وعلى كل شيء متعلقان بقدير وقدير خبر إن. (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) كلام مستأنف مسوق لذكر آياته سبحانه على طريق الالتفات كما سيأتي في باب البلاغة، واللام جواب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 629 للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأنزلنا فعل وفاعل وآيات مفعول به ومبينات صفة والله مبتدأ وجملة يهدي خبره ومن مفعول به وجملة يشاء صلة والى صراط متعلقان بيهدي ومستقيم صفة. (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان حال المنافقين، ويقولون فعل مضارع مرفوع وفاعل وجملة آمنا مقول القول وآمنا فعل وفاعل وبالله متعلقان بآمنا وبالرسول عطف على بالله وأطعنا عطف على آمنا. (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) ثم حرف عطف ويتولى فعل مضارع مرفوع وفريق فاعل ومنهم صفة ومن بعد ذلك حال، والاشارة الى القول المذكور، والواو حالية وما نافية حجازية وأولئك اسم اشارة في محل رفع اسم ما والباء حرف جر زائد والمؤمنين مجرور لفظا منصوب محلا خبر ما والجملة حالية. (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط ودعوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل والى الله متعلقان بدعوا ورسوله عطف على الله والمراد رسول الله كقولك أعجبني زيد وكرمه تريد كرم زيد، واللام للتعليل ويحكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بدعوا وبينهم ظرف متعلق بيحكم. (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) إذا فجائية وقامت مقام الفاء في ربط الجواب بشرطه وهو إذا الأولى، وفريق مبتدأ ومنهم صفة وهي التي سوغت الابتداء به ومعرضون خبر فريق. (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) الواو عاطفة وإن شرطية ويكن فعل الشرط ولهم خبر يكن المقدم والحق اسمها المؤخر ويأتوا جواب الشرط واليه متعلقان بيأتوا ويجوز أن يتعلق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 630 بمذعنين، قال الزمخشري: «وهذا أحسن لتقدم صلته ودلالته على الاختصاص والمعنى انهم لمعرفتهم انه ليس معك إلا الحق المر والعدل البحت يزورّون عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق لئلا تنتزعه من أحداقهم بقضائك عليهم لخصومهم وإن ثبت لهم حق على خصم أسرعوا إليك ولم يرضوا إلا بحكومتك لتأخذ لهم ما ذاب لهم في ذمة الخصم» ومذعنين حال، قال الزجاج: الإذعان الاسراع مع الطاعة وفي القاموس: «أذعن له خضع وذل وأقر وأسرع في الطاعة» . البلاغة: 1- صحة التفسير: في قوله تعالى «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ» الآية: فيها فن بديع من فنون البلاغة سماه علماؤها «صحة التفسير» وسماه ابن الأثير في المثل السائر «التناسب بين المعاني» وحدّه أن يأتي المتكلم في أول كلامه بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه، إما أن يكون مجملا يحتاج الى تفصيل أو موجها يفتقر الى توجيه أو محتملا يحتاج المراد منه الى ترجيح لا يحصل إلا بتفسيره وتبيينه ووقوع التفسير على أنحاء تارة يأتي بعد الشرط أو بعد ما فيه معنى الشرط وطورا بعد الجار والمجرور وآونة بعد المبتدأ الذي التفسير خبره. والآية التي نحن بصددها مما وقع بعد الجار والمجرور فقد ذكر سبحانه الجنس الأعلى مقدما له حيث قال: «كل دابة» فاستغرق أجناس كل ما دبّ ودرج ثم فسر هذا الجنس الأعلى بالأجناس المتوسطة والأنواع حيث قال «فمنهم» و «ومنهم» مراعيا الترتيب إذ قدم ما يمشي بغير آلة لكونه الآية سيقت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 631 لبيان القدرة والتمدح بها وتعجب السامعين منها، وما يمشي بغير آلة أعجب مما يمشي بآلة فلذلك اقتضت البلاغة تقديمه، ثم ثنى بالأفضل فالأفضل فأتى بما يمشي على رجلين وهو الإنسان والطائر لتمام خلق الإنسان وكمال حسن صورته وهيئته وجمال تقويمه المقتضي تخصيصه بالعقل ولما في الطائر من عجب الطيران في الهواء الدال على غاية الخفة ونهاية اللطف مع ما فيه من كثافة، وثلث بما يمشي على أربع لأنه أحسن الحيوان البهيم وأقواه تغليبا على ما يمشي على أكثر من أربع من الحشرات فاستوعبت جميع الاقسام، وأحسن الترتيب بالاضافة الى الترتيب والاشارة والارداف وحسن النسق. وعرفه صاحب العمدة بأنه أن يستوفي الشاعر شرح ما بدأ به مجملا، وقلما يجيء هذا إلا في أكثر من بيت واحد ومثل له ببيتين للفرزدق وهما: لقد جئت قوما لو لجأت إليهم ... طريد دم أو حاملا ثقل مغرم لألفيت منهم معطيا ومطاعنا ... وراءك شزرا بالوشيح المقوم واشترط صاحب العمدة سلامته من سوء التضمين قال: ومن جيد التفسير قول حاتم الطائي ويروى لعتيبة بن مرداس: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 632 متى ما يجىء يوما الى المال وارثي ... يجد جمع كف غير ملأى ولا صفر يجد فرسا مثل العنان وصارما ... حساما إذا ما هزّ لم يرض لهبر وأسمر خطيا كأن كعوبه ... نوى القسب قد أربى ذراعا على العشر فهذا هو التفسير الصحيح السالم من التضمين لأنه لم يعلق كلامه ب «لو» كما فعل الفرزدق ومثله قول عروة بن الورد: وإن امرأ يرجو تراثي وإن ما ... يصير له منه غدا لقليل ومالي مال غير درع ومغفر ... وأبيض من ماء الحديد صقيل وأسمر خطيّ القناة مثقّف ... وأجرد عريان السراة طويل هكذا أنشدوه بالاقواء ويجوز أن يرفع على القطع والإضمار كأنه قال: هو صقيل، أو قال: ولي أبيض من ماء الحديد يعني سيفه. وقال ذو الرمة في التفسير: وليل كجلباب العروس ادّرعته ... بأربعة والشخص في العين واحد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 633 أحمّ علا فيّ وأبيض صارم ... وأعيس مهري وأروع ماجد ففسر الأربعة ما هي؟ ورفع على شرط ما قدمت من الإضمار كأنه قيل له: ما الأربعة التي شخصها في العين واحد؟ فقال كذا وكذا وكذا. ومضى صاحب العمدة يورد نماذج من التفسير إلى أن قال: «ومن التفسير ما يفسر فيه الأكثر بالأقل وذلك ما أتت فيه الجملة بعد الشرح نحو قول أبي الطيب: من مبلغ الأعراب أني بعدها ... جالست رسطاليس والاسكندرا ومللت نحر عشارها فأضافني ... من ينحر البدر النضار لمن قرى وسمعت بطيلموس دارس كتبه ... متملكا مبتديا متحضرا ولقيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 634 نسقوا لنا نسق الحساب مقدما ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرا فقوله: «نسقوا لنا نسق الحساب مقدما» البيت تفسير مليح قليل النظير في أشعار الناس» هذا وقال الواحدي في شرح البيت الأخير: «جمع لنا الفضلاء في الزمان ومضوا متتابعين متقدمين عليك في الوجود فلما أتيت بعدهم كان فيك من الفضل ما كان فيهم مثل الحساب يذكر تفاصيله ثم تجمع تلك التفاصيل فيكتب في آخر الحساب فذلك كذا وكذا فيجمع في الجملة ما ذكر في التفاصيل، كذلك أنت جمع فيك ما تفرق فيهم من الفضائل والعلم والحكمة» . وقال أبو الطيب أيضا في التفسير المستحسن: إن كوتبوا أو لقوا أو حوربوا وجدوا ... في الخط واللفظ والهيجاء فرسانا ففسر وقابل كل نوع بما يليق به من غير تقديم ولا تأخير، ومن التفسير الحلو قول كشاجم واسمه محمود بن الحسين: في فمها مسك ومشمولة ... صرف ومنظوم من الدّر فالمسك للنكهة والخمر للر ... يقة واللؤلؤ للثغر وجميل قول ابن هانىء الاندلسي: المدنفات من البرية كلها ... جسمي وطرف بابليّ أحور والمشرقات النيرات ثلاثة ... الشمس والقمر المنير وجعفر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 635 2- التنكير: ونكر الماء في قوله «من ماء» وعرفه في قوله «وجعلنا من الماء كل شيء حي» لأن المقصد في الآية هنا اظهار أن شيئا واحدا تكونت منه بالقدرة أشياء مختلفة ذكر تفاصيلها في آية النور والرعد، والمقصد في آية «اقترب» أنه خلق الأشياء المتفقة في جنس الحياة من جنس الماء المختلف الأنواع فذكر معرفا ليشمل أنواعه المختلفة. 3- الاستعارة: الاستعارة في قوله «فمنهم من يمشي على بطنه» فقد سمى الزحف على البطن مشيا على سبيل الاستعارة المكنية كما قالوا في الأمر المستمر: قد مشى هذا الأمر، ويقال فلان لا يتمشى له أمر. 4- التغليب: وفي قوله «من يمشي على بطنه ومن يمشي على أربع» تغلبب للعاقل على غيره وقد مرت له نظائر كثيرة لأنه لما اختلط غير العاقل بالعاقل في الفصل بمن وكل دابة كان التعبير بمن أولى لتوافق اللفظ. وقيل أوقع «من» على غير العاقل لما اختلط بالعاقل ويحتمل أن تكون من نكرة موصوفة بالجملة بعدها والتقدير فمنهم نوع يمشي على بطنه ونوع يمشي على رجلين ونوع يمشي على أربع على حد: ومن الناس من يعبد الله على حرف، قال ابن هشام: ويجوز في من أن تكون نكرة موصوفة بالجملة بعدها والتقدير ومن الناس ناس يعبدون الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 636 [سورة النور (24) : الآيات 50 الى 53] أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) الإعراب: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا) كلام مستأنف مسوق لتقسيم الأمر في صدودهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم بين أن يكونوا مرضى القلوب منافقين أو مرتابين في أمر نبوته أو خائفين أن يحيف عليهم لمعرفتهم بحاله. والهمزة للاستفهام التقريري ويبالغ به تارة في الذم وتارة في المدح وهو هنا من النوع الأول، وفي قلوبهم خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر وأم حرف عطف بمعنى بل فهي منقطعة وارتابوا فعل وفاعل. (أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أم يخافون عطف على ما تقدم وأن يحيف في تأويل مصدر مفعول به يخافون والحيف الميل والجور في القضاء وبل حرف إضراب وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان والظالمون خبر هم والجملة خبر المبتدأ الأول أو خبر أولئك. (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 637 إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) إنما كافة ومكفوفة وكان فعل ماض ناقص وقول خبر كان المقدم والمؤمنين مضاف إليه وانما ترجح نصبه لأنه متى اجتمع معرفتان فالأولى جعل أوغلهما في التعريف ولكن سيبويه لم يفرق بينهما وسيأتي مزيد بحث في باب الفوائد، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة دعوا في محل جر باضافة الظرف إليها والواو نائب فاعل والى الله متعلقان بدعوا ورسوله عطف على الله واللام للتعليل ويحكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وبينهم ظرف متعلق بيحكم وجعل الزمخشري فاعل يحكم عائدا الى المصدر لأن معناه ليفعل الحكم بينهم. (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أن وما حيزها اسم كان وجملة سمعنا مقول القول وأطعنا عطف على سمعنا والواو حرف عطف وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان والمفلحون خبر هم أو خبر أولئك وقد تقدم قريبا. (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويطع فعل الشرط وفاعله ضمير مستتر تقديره هو ورسوله عطف على الله ويتقه عطف على يطع بسكون الهاء وكسرها ومع إشباع وبدونه، والفاء رابطة لجواب الشرط وأولئك هم الفائزون تقدم فيه القول كثيرا. (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) كلام مستأنف لحكاية قول المنافقين لرسول الله أينما كنت نكن معك لئن خرجت خرجنا ولئن أقمت أقمنا ولئن أمرتنا بالجهاد جاهدنا. وأقسموا فعل ماض والواو فاعل وبالله متعلقان بأقسموا وجهد أيمانهم مفعول مطلق، وسيأتي مزيد بحث عنه في باب البلاغة، أو حال تقديره مجتهدين، وقد خلط الزمخشري الوجهين فجعلهما واحدا، ولئن اللام موطئة للقسم وان شرطية أمرتهم فعل وفاعل ومفعول به. (لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 638 بِما تَعْمَلُونَ) اللام واقعة في جواب القسم ويخرجن فعل مضارع مرفوع وحذفت النون لتوالي الأمثال والواو فاعل والنون للتوكيد ولم يبن الفعل لأن النون لم تباشره، وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولا ناهية وتقسموا فعل مضارع مجزوم بلا وطاعة خبر لمبتدأ محذوف تقديره أمركم أي أمركم الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها، ويجوز أن يعرب مبتدأ محذوف الخبر أي طاعة معروفة أولى بكم وأمثل من هذه الأيمان الكاذبة، ومعروفة صفة وجملة إن الله تعليلية لما تقدم وان واسمها وخبير خبر وبما متعلقان بخبير وجملة تعملون صلة. البلاغة: 1- الاستعارة: جهد أيمانكم: لفظ مستعار من جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها، وقد استعاره للايمان وأصله أقسم بالله جهد اليمين جهدا فحذف الفعل وقدم المصدر موضوعا موضعه مضافا الى المفعول كضرب الرقاب وإذا جعلته حالا جعلته مؤولا باسم الفاعل أي جاهدين. 2- صحة التقسيم: وفي قوله تعالى: «أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» الآية فن يقال له صحة التقسيم وقد تقدمت الاشارة اليه فإنها لم تبق قسما يقع في القلوب من الصوارف عن القبول إلا جاءت به، ألا ترى أنه تعالى بعد قوله «أفي قلوبهم مرض» ذكر الريبة لأنه لا بد أن يكون الصارف عن الإجابة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 639 فحكم الله ورسوله إما إبطان الكفر وإظهار الإسلام وهو المرض، أو التشكك والتردد والتذبذب في حكم الله هل هو جار على العدل أو على غيره وذلك هو الريبة، أو يكون الصارف خوف الحيف الذي لا يشعر به رجاء الانصاف فلم يبق قسم من الصوارف حتى ذكر فيها ثم ختمها سبحانه بقوله «بل أولئك هم الظالمون» فيكون مرشحا للايغال الذي جاء في فاصلة الآية فحقق الظلم وصفا لهم في الرد عليهم ليبقي ثبوته فيهم وجوده في حكمه سبحانه فحصل من ذلك الافتتان وهو جمع الكلام بين فنيّ الفخر والهجاء فإن في وصفهم بالظلم وصف ذاته بالعدل ووصف نبيه بالعدل أيضا فاذا أضفت الى ذلك أن الكلام قد أفرغ في قالب من النزاهة والاحتشام واشتمل الهجاء المرير على مالا يوهم الهجاء وهو من أمضى الهجاء وأقذعه فقد أضفت الى ما تقدم فن النزاهة وهو فن مشهور من فنون البلاغة عبر عنه أبو عمرو بن العلاء بقوله: «خير الهجاء ما تنشده العذراء في خدرها فلا يقبح بمثلها» وابن بسام في قوله في الذخيرة: «الهجاء ينقسم الى قسمين: قسم يسمونه هجاء الاشراف وهو ما لم يبلغ أن يكون سبابا أو هجوا مستبشعا والثاني السباب الذي أحدثه جرير وطبقته» فقد اجتمع في الآية حسن التقسيم والإيغال والافتنان والنزاهة. ومما ورد من الهجاء الموجع وليس فيه لفظ فاحش قول أبي تمام: بني لهيعة ما بالي وبالكم ... وفي البلاد مناديح ومضطرب لجاجة لي فيكم ليس يشبهها ... إلا لجاجتكم في أنكم عرب الفوائد: توسط الخبر بين الافعال الناقصة وبين أسمائهن جائز، قال ابن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 640 مالك: «وفي جميعها توسط الخبر أجز» قال الله تعالى «وكان حقا علينا نصر المؤمنين» فحقا خبر كان مقدم ونصر المؤمنين اسمها المؤخر، ويؤخذ من كلام المغني أن رفع الخبر ضعيف كضعف الاخبار بالضمير عما دونه في التعريف إلا ان يمنع مانع من تقدم الخبر كحصر الخبر نحو «وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية» أو كخفاء اعرابهما نحو كان موسى فتاك، وقد يكون التوسط واجبا نحو كان في الدار ساكنها فتحصل ثلاثة أقسام: قسم يجوز وقسم يمتنع وقسم يجب، وسكتوا عن تقديم أسمائهن لعدم تصوره، إذ متى تقدم الاسم صار مبتدأ وتحمل الناسخ ضميره فلا يقال ان الاسم تقدم. [سورة النور (24) : الآيات 54 الى 55] قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) الإعراب: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) كلام مستأنف مسوق لخطاب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 641 المأمورين بالطاعة من جهته تعالى. وجملة أطيعوا مقول القول ولفظ الجلالة مفعول به وأطيعوا الرسول عطف على أطيعوا الله. (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) الفاء عاطفة وإن شرطية وتولوا فعل الشرط وهو مضارع حذفت إحدى تاءيه، فإنما الفاء رابطة للجواب والجواب محذوف أي إن تتولوا عن الطاعة إثر ما أمرتم بها فاعلموا أنما عليه السلام ما حمل أي ما أمر به من التبليغ، وإنما كافة ومكفوفة وعليه خبر مقدم وما حمل مبتدأ مؤخر وجملة حمل صلة وعليكم ما حملتم عطف على ما تقدم. (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الواو عاطفة وان شرطية وتطيعوه فعل الشرط وهو فعل وفاعل ومفعول به وتهتدوا جواب الشرط والواو حالية أو استئنافية وما نافية وعلى الرسول خبر مقدم وإلا أداة حصر والبلاغ مبتدأ مؤخر والمبين صفة. (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لتقرير المصير للمؤمنين الذين يعملون الصالحات والتمكين لهم في الأرض. ووعد الله الذين فعل وفاعل ومفعول به وجملة آمنوا صلة ومنكم حال وعملوا الصالحات عطف على آمنوا ومفعول وعد الثاني محذوف تقديره الاستخلاف لدلالة قوله ليستخلفنهم عليه، واللام جواب قسم مضمر أي أقسم ليستخلفنهم وفي الأرض متعلقان بيستخلفنهم ولك أن تنزل وعد منزلة أقسم فتلقى بما يتلقى به القسم. (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الكاف نعت لمصدر محذوف أي استخلافا كاستخلاف الذين من قبلهم، والذين مفعول استخلف ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صلة الذين. (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) وليمكنن عطف على ليستخلفنهم فهو مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة ولهم متعلقان بيمكنن ودينهم مفعول به والذي صفة وجملة ارتضى صلة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 642 والعائد محذوف أي ارتضاه ولهم متعلقان بارتضى. (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) وليبدلنهم عطف على ما تقدم والهاء مفعول به أول ومن بعد خوفهم حال وأمنا مفعول به ثان. (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) جملة يعبدونني استئنافية على الأرجح فلا محل لها وكأنها جواب لسؤال مقدر أي ما بالهم فقيل يعبدونني واختار بعض المعربين أن تكون حالا من مفعول وعد أي وعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم فمحلها النصب أو حال من مفعول ليستخلفنهم. وجملة لا يشركون بي شيئا بدل منها ولك أن تجعلها حالا من فاعل يعبدونني أي يعبدونني موحدين وهو جيد ولك أن تجعلها استئنافية كسابقتها، وشيئا مفعول مطلق أو مفعول به وقد تقدم مثله كثيرا، ومن كفر الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ وكفر فعل ماض فعل الشرط وبعد ذلك متعلق بكفر، فأولئك هم الفاسقون الجملة جواب الشرط وقد تقدم اعراب نظيرتها. الفوائد: ذكر التاريخ أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين ولما هاجروا كانوا بالمدينة يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى قال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تغبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم الملأ العظيم محتبيا ليس معه حديدة، فأنجز الله وعده وأظهرهم على جزيرة العرب وافتتحوا بلاد المشرق والمغرب ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا، ثم خرج الذين على خلاف سيرتهم فكفروا بتلك الأنعم وفسقوا وذلك قوله صلى الله عليه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 643 وسلم «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يملك الله من يشاء فتصير ملكا ثم تصير بزّيزى قطع سبيل وسفك دماء وأخذ أموال بغير حقها» ومعنى بزيزى قال في الصحاح بزه يبزه بزّا: سلبه والاسم البزيزى مثل الخصّيصى. [سورة النور (24) : الآيات 56 الى 58] وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) الإعراب: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) كلام معطوف على وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول قال الزمخشري: «وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل وإن طال لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه» ولك أن تعطفه على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 644 محذوف يقتضيه السياق وتقديره فآمنوا واعملوا صالحا وأقيموا الصلاة واعراب الجملة واضح كل الوضوح. (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) لا ناهية وتحسبن فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت والذين مفعول تحسبن الأول وجملة كفروا صلة ومعجزين مفعول تحسبن الثاني وفي الأرض متعلقان بمحذوف حال ومتعلق معجزين محذوف أي لنا، ومأواهم عطف على لا تحسبن الذين كفروا عطف خبر إنشاء على رأي بعضهم أو معطوف على مقدر تقديره بل هم مفهورون مدركون ومأواهم ولعله أولى لأنه يكون عطف خبر على خبر، ومأواهم مبتدأ والنار خبره أو بالعكس، ولبئس اللام موطئة للقسم وبئس فعل ماض جامد للذم والمصير فاعل والمخصوص بالذم محذوف أي مصيرهم، يعني النار. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان حكم الاستئذان وسيأتي في باب الفوائد المزيد منها، واللام لام الأمر ويستأذنكم فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والكاف مفعول به والذين فاعل وجملة ملكت أيمانكم صلة. (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) والذين عطف على الذين وجملة لم يبلغوا الحلم صلة ومنكم حال وثلاث مرات نصب على الظرفية أو المفعولية المطلقة فان قدرت بمعنى ثلاثة أوقات فهي ظرف وان قدرت بمعنى ثلاثة استئذانات فهي مفعول مطلق ومن قبل صلاة الفجر بدل من ثلاث مرات ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هل من قبل، وانما وجب الاستئذان في ذلك الوقت لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح الغلائل وما ينام فيه من الثياب. (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) وحين عطف على محل من قبل صلاة الفجر وجملة تضعون مجرورة باضافة الظرف إليها وثيابكم مفعول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 645 به ومن الظهيرة حال أي حين ذلك الوقت الذي هو الظهيرة أو بتضعون فتكون من بمعنى في. (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) ومن بعد صلاة العشاء عطف على ما قبله وثلاث عورات خبر لمبتدأ محذوف مقدر بعده مضاف وقام المضاف اليه مقامه أي هي أوقات ثلاث عورات وسمي كل واحد من هذه الأحوال عورة لأن الناس يختل تسترهم وتحفظهم فيها. والعورة: الخلل، وفي الصحاح: أعور الفارس إذا بدا فيه موضع خلل للضرب، والأعور: المختل العين. (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) جملة ليس عليكم إلخ صفة لثلاث عورات والمعنى هن ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان وعليكم خبر ليس المقدم وجناح اسمها المؤخر وبعدهن ظرف متعلق بمحذوف صفة لجناح وطوافون خبر لمبتدأ محذوف تقديره هم وعليكم متعلقان بطوافون لأنه صيغة مبالغة لاسم الفاعل وبعضكم مبتدأ وعلى بعض خبره أي طائف على بعض بدلالة طوافون ويجوز أن يعرب بدلا من قوله طوافون، ولأبي حيان كلام مطول فيه لا جدوى منه. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الكاف نعت لمصدر محذوف وقد تقدم كثيرا، ويبين الله لكم الآيات فعل مضارع وفاعل ومفعول به والله مبتدأ وعليم خبر أول وحكيم خبر ثان. الفوائد: روي أن مدلج بن عمرو وكان غلاما أنصاريا أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الظهيرة الى عمر ليدعوه فدخل عليه وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه فقال عمر لوددت أن الله عز وجل نهى آباءنا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 646 وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا هذه الساعات إلا بإذن ثم انطلق معه الى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية وهي إحدى الآيات المنزلة بسبب عمر، وقيل نزلت في أسماء بنت أبي مرثد قالت: إنا ندخل على الرجل والمرأة ولعلهما يكونان في لحاف واحد، وقيل: دخل عليها غلام لها كبير في وقت كرهت دخوله فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن أنس رضي الله عنه أن رجلا اطلع من بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقام اليه النبي صلى الله عليه وسلم بمشقص أو مشاقص فكأني أنظر اليه يختل الرجل ليطعنه، رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ولفظه: «ان أعرابيا أتى باب النبي صلى الله عليه وسلم فألقم عينه خصاصة الباب فبصر به النبي صلى الله عليه وسلم فتوخاه بحديدة أو عودة ليفقأ عينه فلما أن أبصره انقمع فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما انك لو ثبت عليك لفقأت عينك» . والمشقص: بكسر الميم بعد شين ساكنة وقاف مفتوحة هو سهم له نصل عريض وقيل طويل، وقيل هو النصل العريض نفسه وقيل الطويل. ويختله: بكسر التاء أي يخدعه ويراوغه. وخصاصة الباب: بفتح الخاء المعجمة وصادين مهملتين هي الثقب فيه والشقوق ومعناه أنه جعل الشق الذي في الباب محاذيا عينه. توخاه: أي قصده بتشديد الخاء المعجمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 647 [سورة النور (24) : الآيات 59 الى 61] وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) اللغة: (وَالْقَواعِدُ) : جمع قاعد بغير تاء وفي المصباح: «وقعدت المرأة عن الحيض أسنت وانقطع حيضها فهي قاعد بغير تاء والجمع قواعد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 648 وقعدت عن الزوج فهي لا تشتهيه» ولولا تخصيصهن بذلك لوجبت التاء نحو ضاربة وقاعدة من القعود المعروف. (مُتَبَرِّجاتٍ) : مظهرات للزينة، وحقيقة التبرج تكلف اظهار ما يجب اخفاؤه من قولهم سفينة بارج لا غطاء عليها والبرج محركة سعه العين يرى بياضها محيطا بسوادها كله لا يغيب منه شيء إلا انه اختص بأن تتكشف المرأة للرجال بابداء زينتها وإظهار محاسنها للرجال وفي المختار: «والتبرج اظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال» فالبرج يعطي معنى الاتساع يقال برج يبرج برجا من باب تعب اتسع أمره في الأكل والشرب ونحوهما، وبرجت عينه اتسعت بحيث يرى بياضها محدقا بالسواد كله، والبرج الركن والحصن والقصر وكل بناء مرتفع على شكل مستدير أو مربع ويكون منفردا أو قسما من بناية عظيمة وجمعه برج بضمتين وأبراج وأبرجة، والبرج أيضا أحد بروج السماء وهي اثنا عشر: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، والبارجة سفينة كبيرة للقتال وتجمع على بوارج، ومن أقوالهم: ما فلان إلا بارجة قد جمع فيه كل الشر أي انه شرير. (صَدِيقِكُمْ) الصديق يكون واحدا أو جمعا وكذلك الخليط والقطين والعدو وهو الصادق في المودة والمخالّة، قال الشاعر: دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا ... بأعين أعداء وهن صديق ومن هنا اختلس أبو نواس معناه في قوله: إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 649 (أَشْتاتاً) : جمع شت بمعنى التفرق وفي المختار: «أمرشت بالفتح أي متفرق، تقول: شت الأمر يشت بالكسر من باب ضرب شتا وشتاتا بفتح الشين فيهما أي تفرق» . الإعراب: (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كلام مستأنف مسوق لتقرير حكم الأطفال الذين خرجوا عن حد الطفولة بأن يحتلموا أو يبلغوا السن التي يحكم فيها بالبلوغ في وجوب الاستئذان وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة بلغ الأطفال مجرورة باضافة إذا إليها ومنكم حال والحلم مفعول به والفاء رابطة لجواب إذا واللام لام الأمر ويستأذنوا مضارع مجزوم باللام وكما نعت لمصدر محذوف وما مصدرية أي استئذانا كاستئذان الذين من قبلهم والذين فاعل ومن قبلهم متعلقان بالصلة. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الكاف نعت لمصدر محذوف ويبين الله فعل مضارع وفاعل ولكم متعلقان بيبين وآياته مفعول به والله مبتدأ وعليم خبر أول وحكيم خبر ثان. (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) الواو استئنافية والقواعد مبتدأ ومن النساء حال واللاتي صفة للقواعد لا للنساء، إذ لا يبقى مسوغ لدخول الفاء في خبر المبتدأ وجملة لا يرجون صلة ويرجون فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة والنون فاعل ونكاحا مفعول به. (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) الفاء واقعة في جواب الموصول لأن الألف واللام في القواعد بمعنى اللاتي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 650 قعدن وجملة ليس خبر القواعد وعليهن خبر ليس المقدم وجناح اسمها المؤخر وأن وما في حيزها في موضع نصب بنزع الخافض أي في أن يضعن ثيابهن بمعنى ينزعن ثيابهن فيجوز النظر الى أيديهن ووجوههن وسيأتي مزيد بسط لهذه الآية في باب البلاغة، وغير متبرجات حال وبزينة متعلقان بمتبرجات واعتبرها بعضهم بمعنى اللام أي غير مظهرات لزينة واعتبر آخرون الباء للتعدية أي غير مظهرات زينة. وفي حاشية الشهاب على البيضاوي «قوله غير مظهرات زينة أشار به الى أن الباء للتعدية ولذا فسر بمتعد مع أن تفسير اللازم بالمتعدي كثير ويؤيده أن أهل اللغة لم يذكروه متعديا بنفسه ولم نر من قال تبرجت المرأة حليها، وليست الزينة مأخوذة في مفهومه حتى يقال: انه تجريد كما توهم فمن قال انه اشارة الى زيادة الباء في المفعول به فقد أخطأ» . (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الواو عاطفة وأن وما في حيزها مبتدأ وخير خبر ولهن متعلقان بخير أي والاستعفاف من الوضع خير لهن، لما ذكر الجائز أعقبه بالمستحب بعثا منه على اختيار أفضل الأعمال وأحسنها كقوله «وأن تعفوا أقرب للتقوى» «وأن تصدقوا خير لكم» والله مبتدأ وسميع خبر أول وعليم خبر ثان. (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) كلام مستأنف مسوق لأمر اختلف العلماء في تأويله، وأقرب ما ذكروه من تلك التأويلات: ان هؤلاء الطوائف الثلاث كانوا يتحرجون عن مؤاكلة الأصحاء فإن الأعمى ربما سبقت يده الى أطيب الطعام فسبقت البصير اليه، والأعرج يتفسح في مجالسه فيأخذ مكانا واسعا فيضيق على السليم، والمريض لا يخلو من حالة مؤذية لقرينه وجليسه، فنزلت هذه الآية وسيأتي في باب الفوائد بقية الأقوال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 651 وليس فعل ماض ناقص وعلى الأعمى خبرها المقدم وحرج اسمها المؤخر ولا على الأعرج حرج عطف على ما سبقه وكذلك ما بعده. (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) الواو استئنافية وما بعدها كلام مستأنف لتقرير إباحة ما حرموه على أنفسهم ففي القرطبي «انه لما أنزل الله «يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل» قال المسلمون: إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل وان الطعام من أفضل الأموال فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد فنزلت» ولا نافية وعلى أنفسكم خبر مقدم وأن وما في حيزها مبتدأ مؤخر ومن بيوتكم متعلقان بتأكلوا. (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ) عطف على ما تقدم وإخوانكم بمعنى إخوتكم. (أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ) عطف أيضا على ما سبق. (أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ) عطف ايضا على ما سبق. (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ) ما عطف على ما سبق وجملة ملكتم صلة ومفاتحه مفعول به والمراد بها أموال الرجل إذا كان له عليها قيم أو وكيل يحفظها له، والمفاتح جمع مفتاح وتجمع على مفاتيح والمراد الخزائن، وأو حرف عطف وصديقكم معطوف على ما سبق. (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) الجملة بدل من الجملة السابقة وأن تأكلوا أن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي في أن تأكلوا وجميعا حال وأشتاتا عطف على جميعا والمعنى أنهم لما تحرجوا في الاجتماع على الطعام والمشاركة فيه لاختلاف الآكلين بيّن أنه لا حرج عليهم أن يأكلوا مجتمعين ومتفرقين وسيأتي مزيد بسط لهذا كله في بابي البلاغة والفوائد. (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة دخلتم في محل جر باضافة الظرف إليها وبيوتا نصب على المفعولية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 652 على السعة، وقد اختلف في المراد بهذه البيوت والصحيح أنها عامة لأنه لا دليل على التخصيص، فسلموا الفاء رابطة وسلموا فعل أمر وفاعل وعلى أنفسكم متعلقان بسلموا وتحية منصوب على المصدر من معنى فسلموا فهو مرادفه كقعدت جلوسا وفرحت جزلا ومن عند الله صفة لتحية أو بنفس التحية ومباركة صفة وطيبة صفة أيضا أي يرجى بها زيادة الخير وتطيب بها نفس المستمع. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الكاف نعت لمصدر محذوف ويبين الله فعل مضارع وفاعل ولكم متعلقان بيبين والآيات مفعول به ولعل واسمها وجملة تعقلون خبر لعل. البلاغة: 1- عكس الظاهر: في قوله تعالى: «غير متبرجات بزينة» فن يطلق عليه بعض علماء البيان اسم عكس الظاهر وبعضهم يسميه نفي الشيء بايجابه وقد سبقت الاشارة اليه في كتابنا وهو من محاسن الكلام فإذا تأملته وجدت باطنه نفيا وظاهره إيجابا، أو أن تذكر كلاما يدل ظاهره على أنه نفي لصفة موصوف وهو نفي للموصوف أصلا ومن أهم أبياته قول امرئ القيس: على لاحب لا يهتدى بمناره ... إذا سافه العود النباطي جرجرا فاللاحب هو الطريق الواضح والمنار هو العلامة توضع على الطريق للهداية وفي الحديث «إن للدين صوى ومنارا كمنار الطريق» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 653 وسافه شمه والعود المسن من الإبل والنباطي: الضخم وجرجر رغا وضج وأخرج جرته فقوله «لا يهتدى بمناره» لم يرد أن له منارا لا يهتدى به ولكن أراد أنه لا منار له فيهتدى بذلك المنار. وكذلك المراد هنا والقواعد من النساء اللاتي لا زينة لهن فيتبرجن بها لأن الكلام فيمن هي بهذه المثابة، وكأن الغرض من ذلك أن هؤلاء استعفافهن عن وضع الثياب خير لهن فما ظنك بذوات الزينة من الثياب، وأبلغ ما في ذلك أنه جعل عدم وضع الثياب في حق القواعد من الاستعفاف إيذانا بأن وضع الثياب لا مدخل له في العفة، هذا في القواعد فكيف بالكواعب؟!. 2- الإيضاح: وفي قوله «ولا على أنفسكم الآية» فن الإيضاح وهو أن يذكر المتكلم كلاما في ظاهره لبس ثم يوضحه في بقية كلامه، والإشكال الذي يحله الإيضاح يكون في معاني البديع من الألفاظ وفي اعرابها ومعاني النفس دون الفنون، وقد سبق ذكره في هذا الكتاب، وهنا في هذه الآية ترد على ظاهرها أسئلة أولها: ما الفائدة في الاخبار برفع الجناح عمن أكل من بيته؟ وكيف يظن أن على من أكل من بيته جناحا؟ وثانيها: لم يذكر بيوت الأولاد كما ذكر بيوت غيرهم من الأقارب القريبة؟ وثالثها: ما فائدة قوله «أو ما ملكتم مفاتحه» وظاهر الحال أن هذا داخل في قوله «من بيوتكم» ؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 654 ورابعها: كيف وقعت التسوية بين الصديق وبين هؤلاء الأقارب؟ والأجوبة التي تتضح بها هذه الإشكالات الأربعة هي: الجواب الأول: أما فائدة الإخبار برفع الجناح عمن أكل من بيته فإنما ذكر ذلك توطئة ليبني عليه ما يعطفه على جملته من البيوت التي قصد إباحة الأكل منها، فإنه إذا علم أن الإنسان لا جناح عليه أن يأكل من بيته فكذلك لا جناح عليه أن يأكل من هذه البيوت ليشير الى أن أموال هذه القرابة كمال الإنسان، وإذا تساوت هذه الأموال سرى ذلك التساوي الى الأزواج، فيكون سبحانه قد أدمج في ذلك الحض على صلة الأرحام ومعاملتهم معاملة الإنسان نفسه. الجواب الثاني: وأما عدم ذكر بيوت الأولاد فإنما ذكر من الأموال ما يظن بأن الأكل منه محظور فاحتاج الى بيان الإباحة، وأما أموال الأولاد فتصرف الوالدين فيها كتصرفهم في أموالهم أنفسهم، لأن ولد الرجل بعضه وحكمه حكم نفسه، ألا ترى أن الشرع يوجب على الولد نفقة الوالدين إذا كانا محتاجين؟ وفي الحديث: «إن طيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه» . الجواب الثالث: وأما زعم القائل بأن الكلام فيه تداخل لأن قوله «أو ما ملكتم مفاتحه» هو ما في بيوتهم فإنه يحتمل أن يراد بما في البيوت المال التليد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 655 العتيد وما ملك الإنسان مفاتحه: المال الطريف المكتسب الذي يتسبّب الإنسان في تحصيله ويتعب في اكتسابه. الجواب الرابع: وأما سر التسوية بين الصديق وبين هؤلاء الأقارب فهو تعريف حق الصديق الذي ساوى باطنه ظاهره في اخلاص المودة، ولا يسمى صديقا حتى يكون كذلك، فإن اشتقاق اسمه من صدق المحبة وصفاء المودة وهو الذي أشار اليه سبحانه بقوله «ولا صديق حميم» فإذا كان الصديق بهذه المثابة وعلى هذه الصفة ساوى هذه القرابة القريبة فليس على الإنسان جناح إذا تصرف في ماله تصرفه في مال نفسه. فنون أخرى في الآية الكريمة: هذا وقد اشتملت هذه الآية الكريمة بعض إيضاح هذه الإشكالات على تسعة أضرب من فنون البديع ندرجها فيما يلي مع التلخيص والاختصار: آ- صحة التقسيم: وذلك لاستيعاب الكلام جميع أقسام الأقارب القريبة بحيث لم يغادر منها شيئا. ب- التهذيب: وذلك في انتقال الكلام على مقتضى البلاغة في هذا المكان، فإن مقتضى البلاغة تقديم الأقرب فالأقرب كما جاء فيها. ج- حسن النسق: وذلك في اختياره «أو» لعطف الجمل وهي تدل على الإباحة. د- الكناية: فقد كنى سبحانه عن الأموال بالبيوت التي هي حرز الأموال ومقرها من باب تسمية الشيء بما جاوره، كقولهم: سال الميزاب وجرى النهر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 656 هـ- المناسبة: وذلك بمناسبة الألفاظ بعضها ببعض في الزنة وهي واضحة في لفظة آبائكم وإخوانكم وأعمامكم وأخوالكم. والمثل: وذلك في قوله: «ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا وأشتاتا» خرج مخرج المثل السائر الذي يصح أن يتمثل به في كل واقعة تشبه واقعته. ز- التذييل: فإن الكلام الذي خرج مخرج المثل جاء تذييلا لمعنى الكلام المتقدم لقصد توكيده وتقريره. ح- المطابقة: وذلك في قوله «جميعا أو أشتاتا» فإن هاتين اللفظتين تضادتا تضادا أوجب لهما وصفها بالمطابقة لأن المعنى جميعا أو متفرقا. ط- المقارنة: وذلك في موضعين: أحدهما اقتران التمثيل بالتذييل كما تقدم بيانه، والثاني اقتران المطابقة بالتمكين فإن فاصلة هذا الكلام في غاية التمكين. الفوائد: ذكرنا في باب الإعراب أقرب الوجوه في تأويل قوله تعالى «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ» الآية ووعدناك بأن نورد بقية الوجوه التي ذكرها المفسرون: فقد كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي العاهات الى بيوت أزواجهم وأولادهم والى بيوت قراباتهم وأصدقائهم فيطعمونهم منها، فخالج قلوب المطعمين والمطعمين ريبة في ذلك وخافوا أن يلحقهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 657 فيه حرج وكرهوا أن يكون أكلا بغير حق لقوله تعالى «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» فقيل لهم ليس على الضعفاء ولا على أنفسكم يعني عليكم وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين حرج في ذلك. وقيل كانوا يخرجون الى الغزو ويخلفون الضعفاء في بيوتهم ويدفعون إليهم المفاتيح ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم فكانوا يتحرجون، حكي عن الحارث بن عمرو أنه خرج غازيا وخلف مالك بن زيد في بيته وماله فلما رجع رآه مجهودا فقال: ما أصابك؟ قال لم يكن عندي شيء ولم يحل لي أن آكل من مالك فقيل لي ليس على هؤلاء الضعفاء حرج فيما تحرجوا منه ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت. وقيل نزلت رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد فعلى هذا تم الكلام قوله «ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج» . [سورة النور (24) : الآيات 62 الى 64] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 658 اللغة: (يَتَسَلَّلُونَ) : ينسلون واحدا بعد واحد أو قليلا قليلا. (لِواذاً) : في القاموس: «اللوذ بالشيء الاستتار والاحتصان به كاللواذ مثلثة واللياذ والملاوذة والإحاطة كالإلاذة وجانب الجبل وما يطيف به ومنعطف الوادي والجمع ألواذ» وكان المنافقون يخرجون متسترين بالناس من غير استئذان حتى لا يروا، والمفاعلة لأن كلا منهما يلوذ بصاحبه فالمشاركة موجودة وانما صحت الواو في لواذا مع انكسار ما قبلها لأنها تصح في الفعل الذي هو لاوذ ولو كان مصدر لاذ لكان لياذ مثل صام صياما وقام قياما. (يُخالِفُونَ) : يقال خالفه الى الأمر إذا ذهب إليه دونه وخالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه. الإعراب: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير حال المنافقين الذين كان يعرض بهم النبي في مجالسه وخطبه. وانما كافة ومكفوفة والمؤمنون مبتدأ والذين خبره وجملة آمنوا بالله ورسوله صلة الموصول أي هؤلاء هم المؤمنون الكاملو الايمان، أما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 659 المنافقون فكانوا إذا جلسوا في مجلسه يرامقون أصحابه فإن بدرت لهم منهم غفلة عنهم تسللوا لواذا وذهبوا خفية من غير استئذان. (وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة كانوا في محل جر باضافة الظرف إليها والواو اسم كان ومعه ظرف متعلق بمحذوف خبر وعلى أمر متعلقان بمحذوف حال ولك أن تعكس الأمر وجامع صفة لأمر كالحروب وصلاة الجمعة والعيدين وسيأتي معنى اسناد الجمع للأمر في باب البلاغة، وجملة لم يذهبوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وحتى حرف غاية وجر ويستأذنوه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ويستأذنوه فعل وفاعل ومفعول به. (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) ان واسمها وجملة يستأذنونك صلة، وأولئك مبتدأ والذين خبره وجملة يؤمنون بالله ورسوله صلة الموصول، والجملة الاسمية خبر إن. (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة استأذنوك مجرورة باضافة الظرف إليها ولبعض شأنهم متعلقان باستأذنوك بمثابة التعليل للاستئذان، فائذن الفاء رابطة لجواب إذا وائذن فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولمن متعلقان به وجملة شئت صلة ومنهم حال وفيه تفويض الأمر لرأي رسول الله. (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) واستغفر عطف على فائذن ولهم جار ومجرور متعلقان باستغفر وجملة ان الله غفور رحيم تعليل للاستغفار فلا محل لها. (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) اضطربت عبارات المفسرين في تفسير هذا التعبير وأقرب ما قيل فيه: لا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم لبعض فتتلكئون وتحجمون كما يتلكأ ويحجم بعضكم عن بعض إذا دعاه لأمر فالمصدر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 660 وهو دعاء مضاف الى الفاعل ويجوز أن يكون مضافا الى المفعول أي دعاءكم الرسول ونداءكم له كدعاء ونداء بعضكم لبعض. ولا ناهية وتجعلوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل ودعاء الرسول مفعول به وبينكم ظرف متعلق بمحذوف حال والكاف بمعنى مثل مفعول به ثان وبعضكم مضاف لدعاء وبعضا مفعول به لدعاء ونصبه بعضهم بنزع الخافض أي لبعض وذلك متحتم عند ما يقدر دعاء مضافا لمفعوله. (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) قد هنا بمعنى ربما وذلك مطرد في دخولها على المضارع وسيأتي مزيد تفصيل عنها في باب الفوائد، ويعلم الله فعل مضارع وفاعل وجملة يتسللون صلة ومنكم متعلقان بيتسللون ولواذا يجوز أن ينصب على المصدر من معنى الفعل إذا كان التقدير يتسللون منكم تسللا أو يلاوذون لواذا، ويجوز أن يكون مصدر في موضع نصب على الحال أي ملاوذين. (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الفاء الفصيحة أو عاطفة على «قد يعلم» لأنها مترتبة عليه واللام لام الأمر ويحذر فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والذين فاعل وجملة يخالفون صلة ومفعول يخالفون محذوف وهو الله تعالى لأنه الآمر وجيء ب «عن» لتضمنه معنى الصد والاعراض وأن يصيبهم مفعول يحذر وفتنة فاعل أو يصيبهم عذاب أليم عطف على أن تصيبهم فتنة. (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) قد للتكثير كما تقدم وكما سيأتي ويعلم فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله تعالى وما مفعول به وأنتم مبتدأ وعليه خبر والجملة صلة. (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ويوم عطف على مفعول يعلم أي ويعلم ما يرجعون وجملة يرجعون صلة ويرجعون بالبناء للمجهول، فينبئهم عطف على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 661 يعلم والهاء مفعول وبما عملوا في موضع المفعول الثاني والله مبتدأ وبكل شيء متعلقان بعليم وعليم خبر. الفوائد: تقدم القول في «قد» ونضيف هنا أنها إذا دخلت على المضارع أفادت التكثير وكانت بمعنى «ربما» ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى: أخي ثقة لا تهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله ف «قد» هنا للتكثير وإلا لم يكن مدحا، والثقة من وثق كالعدة من وعد، وإسناد الإهلاك الى الخمر مجاز عقلي وكذلك إسناده الى النائل أي العطاء، والمراد وصفه بالكرم، ومن أمثلة «ربما» قول ابن عطاء السندي يرثي ابن هبيرة: ألا إن عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود عشية قام النائحات وشققت ... جيوب بأيدي مأتم وخدود فإن تمس مهجور الفناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود وواسط موضع الواقعة التي قتل المنصور فيها ابن هبيرة، والمأتم مكان الإقامة استعمل في جماعة النساء الحزينات مجازا وجمعه مآتم، يقول: إن كل عين لم تبك عليك ذلك اليوم شديدة الجمود. وعشية بدل من يوم، وجيب القميص مخرج الرأس منه أي مزقت الجيوب والخدود بأيدي النساء ثم التفت الى الخطاب، وقوله فإن تمس مهجور الفناء كناية عن الموت، فربما أي كثيرا أقام بفناء بيتك جموع من الناس بعد جموع يستمنحونك، فإن يهجر فناؤك الآن فلا حزن لأنه كثيرا ما اجتمع فيه الناس ومنحوا خيرا.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 662 (25) سورة الفرقان مكيّة وآياتها سبع وسبعون [سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) اللغة: (تَبارَكَ) : البركة زيادة الخير وكثرته، والزيادة تكون حسية ومعنوية أي تزايد خيره وتكاثر أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 663 صفاته وأفعاله، ثم ان تبارك فعل ماض جامد لا يتصرف فلا يأتي منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل وليس له مصدر ولا يستعمل في غير الله تعالى وسيأتي بحث الجامد في باب الفوائد. (الْفُرْقانَ) : القرآن لأنه فرق بين الحق والباطل وقيل لأنه نزل مفرقا في أوقات كثيرة وفي المصباح: «فرقت بين الشيئين فرقا من باب قتل فصلت أبعاضه وفرقت بين الحق والباطل، فصلت أيضا، هذه هي اللغة العالية وبها قرأ السبعة في قوله تعالى: «فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» وفي لغة من باب ضرب وقرأ بها بعض التابعين، وقال ابن الأعرابي: فرقت بين الكلامين فافترقا مخفف، وفرقت بين العبدين فتفرقا مثقل فجعل المخفف في المعاني والمثقل في الأعيان. والذي حكاه غيره أنهما بمعنى والتثقيل مبالغة» ولهذه المادة في اللغة شعاب كثيرة، وسنورد لك منها ما يروق الخاطر: فالفرقان مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بين الشيئين وسمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل أو لأنه لم ينزل جملة واحدة ولكن مفروقا مفصولا بين بعضه وبعض في الإنزال، ألا ترى إلى قوله: «وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا» والأظهر هو المعنى الثاني لأن في السورة بعد آيات: «وقال الذين كفروا لولا نزلوا عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك» . قال الله تعالى كذلك أي أنزلناه مفرقا كذلك لنثبت به فؤادك، فيكون وصفه بالفرقان في أول السورة كالمقدمة والتوطئة لما يأتي بعد، وقد رأت دائرة المعارف الاسلامية كلمة فرقان مجهولة الأصل، وهذا خطأ بيّن، ووهم ظاهر كما رأيت من اشتقاق الكلمة، يقال فرق لي الطريق فروقا وانفرق انفراقا إذا اتجه لك طريقان فاستبان ما يجب سلوكه منهما، وطريق أفرق: بيّن، وضم تفاريق متاعه أي ما تفرق منه، وضرب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 664 الله بالحق على لسان الفاروق، وسطع الفرقان أي الصبح، وهذا أبين من فلق الصبح وفرق الصبح، وتقول سبيل أفرق كأنه الفرق، وهو أسرع من فريق الخيل، وهو سابقها فعيل بمعنى مفاعل لأنه إذا سبقها فارقها، وبانت في قذاله فروق من الشيب أي أوضاح منه، وماله إلا فرق من الغنم وفريقة أي يسير، ورأى أعرابي صبيانا قال: هؤلاء فرق سوء، وما أنت إلا فروقة، وفرق خير من حبّ أي أن تهاب خير من أن تحب، وأفرق المحموم والمجنون، وهو في أفراق من حمّاه، ومن المجاز: وقفته على مفارق الحديث أي على وجوهه الواضحة، وفي اللسان والأساس: «بدا المشيب في مفرقه وفرقه، ورأيت وبيص الطيب في مفارقهم، وفرقت الماشطة رأسها كذا فرقا، ورأس مفروق، وديك أفرق: انفرقت رعثته، وجمل أفرق: ذو ستامين، ورجل أفرق الأسنان: أفلجها، وناقة فارق: ما خض فارقت الإبل نادّة من وجع المخاض، ونوق فرق وفوارق ومفاريق، وقد فرقت فروقة وتشبّه بها السحاب. قال ذو الرمة: أو مزنة فارق يجلو غواربها ... تبوّج البرق والظلماء علجوم الإعراب: (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) تبارك فعل ماض جامد كما تقدم في باب اللغة، والذي فاعله وجملة نزل الفرقان صلة وعلى عبده متعلقان بنزل واللام للتعليل ويكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل واسم يكون مستتر تقديره هو ونذيرا خبر يكون. (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) هذا الموصول يجوز أن يكون بدلا من الموصول الأول أو خبر لمبتدأ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 665 محذوف فيكون محله الرفع ويجوز نصبه على المدح وما بعده تمام الصلة للموصول الأول، وله خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأ مؤخر والجملة صلة الموصول ولم يتخذ ولدا عطف على ما تقدم. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) عطف على ما سبق وله خبر يكن المقدم وشريك اسمها المؤخر وفي الملك متعلقان بشريك وخلق عطف على ما سبق أيضا فهو من تمام العلة لما قبله وكل شيء مفعول خلق، فقدره الفاء عاطفة وقدره فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وتقديرا مفعول مطلق. (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) واتخذوا الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير حال وعبادة الكفار، ومن دونه في محل المفعول الثاني لا تخذوا وآلهة مفعول اتخذوا الاول وجملة لا يخلقون شيئا صفة لآلهة من سبع صفات ستأتي مسرودة متعاقبة، وهم يخلقون الواو عاطفة وهم مبتدأ ويخلقون بالبناء للمجهول خبر وهذه هي الصفة الثانية، ومعنى كونهم مخلوقين أن العابدين ينحتونهم ويصورونهم. (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) الواو عاطفة ولا يملكون جملة معطوفة على ما تقدم وضرا مفعول به وهذه هي الصفة الثالثة، ولا نفعا هي الصفة الرابعة، ولا يملكون موتا هي الصفة الخامسة ولا حياة هي الصفة السادسة ولا نشورا هي الصفة السابعة، والنشور هو بعث الأموات. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ) كلام مستأنف مسوق للشروع في حكاية أباطيلهم وإبطالها ودحضها. والذين فاعل قال وجملة كفروا صلة وإن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وإفك خبر هذا وجملة افتراه صفة لإفك. (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) وأعانه عطف على افتراه وعليه متعلقان بأعانه، والضمير للإفك المفترى، وقوم فاعل وآخرون صفة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 666 قوم، ويريدون بهم أهل الكتاب الذين أمدوه، على زعمهم، بأخبار الأمم الماضية والقرون البائدة، والفاء الفصيحة وقد حرف تحقيق وجاءوا فعل وفاعل وقد تضمن معنى فعل فعدي تعديته، وظلما مفعوله ويجوز أن يكون على بابه فيعرب ظلما منصوبا بنزع الخافض أو نصبا على الحال المؤولة أي ظالمين وزورا عطف على ظلما. (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل وأساطير الأولين خبر لمبتدأ محذوف وجملة اكتتبها حالية ويجوز اعراب أساطير الأولين مبتدأ وجملة اكتتبها خبر، فهي الفاء عاطفة وهي مبتدأ وجملة تملى خبر ونائب الفاعل مستتر وعليه متعلقان بتملى وبكرة ظرف متعلق بتملى وأصيلا عطف على بكرة، ومعنى تملى عليه تقرأ عليه لينتسخها بواسطة من يكتب له، لأنه عليه السلام، كان أميا. (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وجملة أنزله مقول القول والذي مفعول به وجملة يعلم السر صلة الموصول وفي السموات والأرض حال وجملة إنه كان الآية تعليل لما تقدم فلا محل لها وقد تقدم إعرابها كثيرا. البلاغة: في قوله تعالى: «فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً» لف ونشر مرتب وقد تقدم في هذا الكتاب أن اللف والنشر فن يتضمن ذكر متعدد على التفصيل أو الإجمال ثم ذكر ما لكل واحد من المتعدد من غير تعيين ثقة بأن السامع يميز ما لكل واحد منها ويرده الى ما هو له، وقد مثلنا لكل من قسميه بما هو كاف، أما في هذه الآية فإن قوله تعالى: «فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً» فيه جعل الكلام المعجز إفكا مختلقا متلقفا من اليهود أو غيرهم من أهل الكتاب، وزورا بنسبة ما هو بريء منه اليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 667 الفوائد: الفعل الجامد: الفعل الجامد هو ما أشبه الحرف من حيث أداؤه معنى مجردا عن الزمان والحدث المعتبرين في الأفعال، فلزم مثله طريقة واحدة في التعبير فهو لا يقبل التحول من صورة الى صورة بل يلزم صورة واحدة لا يزايلها، وذلك مثل: عسى وليس وهب بمعنى احسب وافرض، ولم يرد من مادته بهذا المعنى إلا الأمر فهو فعل أمر جامد، وأما «هب» المشتق من الهبة فماضيه وهب ومضارعه يهب وكذلك هب المشتق من الهيبة فإنه فعل أمر متصرف فماضيه هاب ومضارعه يهاب، ونعم وبئس وهو إما أن يلازم صيغة الماضي مثل عسى وليس ونعم وبئس وتبارك الله، أو صيغة المضارع مثل يهيط ومعناه يصيح ويفح، يقال ما زال منذ اليوم يهيط هيطا وهو مضارع لا ماضي له كما في لسان العرب وتاج العروس ويقال: ما زال في هيط وميط بفتح أولهما وفي هياط ومياط بكسر أولهما أي ضجاج وشر وجلبة، وقيل في هياط ومياط: في دنو وتباعد، والهياط الإقبال والمياط الإدبار، والهائط: الجائى، والمائط: الذاهب، والمهايطة والهياط: الصياح والجلبة، ويقال بينهما مهايطة وممايطة ومسايطة ومشايطة أي كلام مختلف، ومثل هب وهات وتعال وهلم في لغة تميم لأنه عندهم فعل يقبل علامته فتلحقه الضمائر، أما في لغة الحجاز فهي اسم فعل أمر لأنها ستكون عندهم بلفظ واحد للجميع وسيأتي بحثها في حينه. ومن الأفعال الجامدة «قلّ» بصيغة الماضي للنفي المحض وإذا لحقته ما الزائدة كفته عن العمل فلا يليه حينئذ إلا فعل ولا فاعل له لجريانه مجرى حرف النفي نحو: قلما فعلت هذا وقلما أفعله أي ما فعلت ولا أفعل ومنه قول الشاعر: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 668 قلما يبرح اللبيب إلى ما ... يورث المجد داعيا أو مجيبا أي لا يزال اللبيب داعيا. وقد يليه الاسم في ضرورة الشعر كقوله: صددت فأطولت الصدود وقلما ... وصال على طول الصدود يدوم وقد يراد بقولك قلما أفعل اثبات الفعل القليل كما في الكليات لأبي البقاء، غير أن الكثير استعمالها للنفي الصرف، ومثل قلما في عدم التصرف طالما وكثرما وقصرما وشدما فإن ما فيهن زائدة للتوكيد كافة لهن عن العمل فلا فاعل لهن ولا يليهن إلا فعل، فهن كقلما. ومن الأفعال الجامدة قولهم «سقط في يده» بمعنى ندم وتحير وزل وأخطأ وهو ملازم صورة الماضي المجهول قال تعالى «وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ» وقد تقدم بحثه. [سورة الفرقان (25) : الآيات 7 الى 12] وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 669 الإعراب: (وَقالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان قبائحهم التي أرجفوا بها في شأن الرسول وهي ستة كما سيأتي. وقالوا فعل وفاعل وما اسم استفهام مبتدأ ولهذا خبره والرسول بدل من اسم الاشارة وجملة يأكل الطعام حالية وهي الفرية الاولى، ويأكل الطعام فعل وفاعل مستتر ومفعول به وجملة يمشي في الأسواق عطف عليها وهي الفرية الثانية وسيأتي معنى أكل الطعام والمشي في الأسواق في باب البلاغة. (لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) لولا حرف تحضيض وأنزل فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان بأنزل وملك نائب فاعل والفاء فاء السببية ويكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية لأنها جواب التحضيض واسمها مستتر تقديره هو أي الملك ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف حال ونذيرا خبر يكون أي فهما يتساندان في الإنذار والتخويف وهذه هي الفرية الثالثة. (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) أو حرف عطف ويلقى فعل مضارع مبني للمجهول وكنز نائب فاعل واليه متعلقان بيلقى، أو تكون له جنة عطف على ما تقدم وجملة يأكل منها صفة لجنة وهذان الفعلان معطوفان على أنزل لأنه بمعنى ينزل ولا يجوز أن يعطفا على «فيكون» المنصوب في الجواب لأنهما مندرجان في التحضيض فيعطفان على جوابه، وهاتان هما الفريتان الرابعة والخامسة. (وَقالَ الظَّالِمُونَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً) الواو عاطفة وقال الظالمون فعل وفاعل وإن نافية وتتبعون فعل مضارع وفاعل وإلا أداة حصر ورجلا مفعول به ومسحورا صفة وهذه هي الفرية السادسة والأخيرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 670 (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) انظر فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت وكيف اسم استفهام في محل نصب حال ولك متعلقان بضربوا والأمثال مفعول به، فضلوا الفاء عاطفة وضلوا فعل ماض وفاعل، فلا الفاء عاطفة ويستطيعون سبيلا فعل مضارع وفاعل ومفعول به. (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) كلام مستأنف مسوق لتقرير تساميه سبحانه وتعاليه عما يقولون. وتبارك الذي فعل وفاعل وقدر الزمخشري والجلال وغيرهما مضافا محذوفا أي خير الذي، وان شرطية وشاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وجعل جواب الشرط والجملة الشرطية صلة الموصول ولك مفعول جعل الثاني وخيرا مفعول جعل الأول ومن ذلك متعلقان بخيرا والاشارة الى الذي اقترحوه من الكنز والبستان. (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) جنات بدل من خيرا وجملة تجري صفة لجنات ومن تحتها متعلقان بتجري والأنهار فاعل تجري ويجعل فعل مضارع معطوف على محل جعل الواقع جوابا للشرط وسيأتي بحث هام عن فعل الشرط وجوابه في باب الفوائد ولك مفعول ثان وقصورا مفعول أول. (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) بل حرف للاضراب فقد أضرب عن توبيخهم بحكاية أراجيفهم السابقة الى حكاية تكذيبهم بالساعة، وكذبوا فعل وفاعل وبالساعة متعلقان بكذبوا وأعتدنا فعل وفاعل ولمن متعلقان بأعتدنا وجملة كذب بالساعة صلة من وسعيرا مفعول به، والمعنى: هيأنا لهؤلاء المكذبين نارا عظيمة، ووضع الموصول موضع الضمير ووضع الساعة موضع ضميرها للمبالغة في التوبيخ وقد مرت نظائره في أبواب البلاغة ونون سعيرا للتكثير أي نارا عظيمة كما ذكرنا. (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) هذه الجملة الشرطية في محل نصب صفة لسعيرا لأنه مؤنث بمعنى النار. وإذا ظرف مستقبل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 671 متضمن معنى الشرط وجملة رأتهم في محل جر باضافة إذا إليها ومن مكان متعلقان بمحذوف حال وجملة سمعوا جواب الشرط ولها حال لأنه كان في الأصل صفة وتغيظا مفعول به وزفيرا عطف عليه وسيأتي في باب البلاغة فصل مسهب عن هذا التعبير. البلاغة: 1- كنايتان بديعتان: في قوله تعالى «وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ» كناية عن الحدث لأنه ملازم أكل الطعام، وقد مر تقريره مفصلا في سورة المائدة فجدد به عهدا، وفي يمشي في الأسواق كناية عن طلب المعاش، وانظر بعد هاتين الكنايتين البديعتين إلى حكاية خطراتهم الملتاثة وهواجسهم المحمومة كيف اقترحوا أولا بأن يكون ملكا الى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك حتى يتساندا في الإنذار والتخويف، ثم نزلوا أيضا فقالوا: وان لم يكن مرفودا بملك فليكن مرفودا بكنز يلقى اليه من السماء يستظهر به ولا يحتاج الى تحصيل المعاش، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون رجلا له بستان يأكل منه ويرتزق كما يرتزق المياسير، فانظر كيف صور خطرات النفس الملتاثة وحالات ترددها. 2- وضع الظاهر موضع المضمر: في قوله «وقال الظالمون» وضع الظاهر موضع الضمير وقد تقدمت الاشارة اليه مع أمثلته، فقد أراد بالظالمين إياهم بأعيانهم فهم القائلون الأولون، وإنما وضع المظهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بوصف الظلم وتجاوز الحد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 672 3- الاستعارة: اثبات الرؤية لجهنم والتغيظ المسموع والزفير المتصاعد، أمر شغل العلماء كثيرا، فأما أهل السنة فيجعلون ذلك كله حقيقة ولا يحملونه على المجاز، فإن رؤية جهنم جائزة وقدرة الله تعالى صالحة، وقد تظاهرت الظواهر على وقوع هذا الجائز وعلى أن الله تعالى يخلق لها إدراكا حسيا وعقليا، ألا ترى الى قوله تعالى «سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً» والى محاجتها مع الجنة والى قولها «هل من مزيد» والى اشتكائها الى ربها فأذن لها في نفسين، الى غير ذلك من الظواهر التي لا سبيل الى تأويلها إذ لا محوج اليه، قالوا: «ولو فتح باب التأويل والمجاز في أحوال المعاد لتطوح الذي يسلك ذلك الى وادي الضلالة» أما بصدد سمع التغيظ وهو لا يسمع فقد أجاب عنه أهل السنة بثلاثة أجوبة ندرجها فيما يلي: آ- انه على حذف مضاف أي صوت تغيظها. ب- انه على حذف فعل تقديره سمعوا ورأوا تغيظا وزفيرا فيرجع كل واحد الى ما يليق به أي رأوا تغيظا وسمعوا زفيرا. ج- أن يضمن سمعوا معنى يشمل الشيئين أي أدركوا لها تغيظا وزفيرا. أما بصدد قوله رأتهم فقال بعضهم انه من باب القلب أي رأوها، أو على حذف تقديره رأتهم زبانيتها. أما المعتزلة فهم يحملون ذلك كله على المجاز ويجعلون رؤية جهنم من باب قولهم دور بني فلان تتراءى وتتناظر فتدخل عندئذ في باب الاستعارة المكنية وقد تقدم القول فيها كثيرا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 673 وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله «إذا رأتهم من مكان بعيد» من مسيرة مائة عام، وذلك إذا أتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام يشد بكل زمام سبعون ألف ملك لو تركت لأتت على كل بر وفاجر «سمعوا لها تغيظا وزفيرا» تزفر زفرة لا تبقى قطرة من دمع إلا ندرت ثم تزفر الثانية فتقطع القلوب من أماكنها، تقطع اللهوات والحناجر. 4- حسن الاتباع: هذا وقد رمق الشعراء سماء هذه التعابير البليغة مما يدخل في باب حسن الاتباع، وهو أن يأتي المتكلم الى معنى اخترعه غيره فيحسن اتباعه فيه بحيث يستحقه ويحكم له به دون الاول، وهذا الباب مما يخص كلام المخلوقين ومما أخذ بعضهم من بعض ولا مدخل لشيء من القرآن العزيز فيه فإن القرآن متبع لا مبتع إلا أن الشعراء حين يرمقون سماءه ويحسنون اتباعه صار كأنه داخل في سلك هذا الفن فقال الفرزدق: يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم فأسند أفعال من يعقل الى مالا يعقل وجرى على منواله أبو تمام فقال: لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه ... لخرّ يلثم منه موطىء القدم وحذا البحتري حذو أبي تمام فقال: فلو أن مشتاقا تكلف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 674 واتبع المتنبي البحتري في ذلك فقال: لو تعقل الشجر التي قابلتها ... مدّت محيية إليك الأغصنا وهذا باب واسع سيأتي الكثير من أمثاله. الفوائد: فعل الشرط والجواب: لا يشترط في الشرط والجواب أن يكونا من نوع واحد بل تارة: 1- يكونان مضارعين نحو «وإن تعودوا نعد» 2- يكونان ماضيين نحو «وإن عدتم عدنا» . 3- يكونان مختلفين ماضيا فمضارعا نحو «من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه» وانما حسن ذلك لأن الاعتماد في المعنى على خبر كان وهو مضارع فكأنه قال: من يرد نزد له. 4- يكونان عكسه مضارعا فماضيا وهو قليل، وخصه بعضهم بالشعر وورد منه في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم «من يقم ليلة القدر احتسابا غفر له» رواه البخاري. هذا وإذا وقع فعل الشرط ماضيا جاز في جزائه الجزم والرفع كقول زهير: وإن أتاه خليل يوم مسغبة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 675 برفع يقول، قال ابن مالك «وبعد ماض رفعك الخبر أحسن» والذي حسن ذلك أن الأداة لما لم تعمل في لفظ الشرط لكونه ماضيا مع قربه فلا تعمل في الجزاء مع بعده ولذلك قرىء «ويجعل لك قصورا» برفع يجعل عطفا على جعل وقد أراد بعضهم تخطئة شوقي في قوله: إن رأتني تميل عني كأن لم ... يك بيني وبينها أشياء وفاتتهم القاعدة المتقدمة. [سورة الفرقان (25) : الآيات 13 الى 16] وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16) اللغة: (مُقَرَّنِينَ) : من قرنه بتشديد الراء جمّعه وشدده يقال قرّنت الأسارى في الحبال وفعله الثلاثي قرن يقرن من باب ضرب يضرب قرنا الشيء بالشيء شده به ووصل اليه، وقرن الثورين جعلهما في نير واحد، وقرن البعيرين جمعهما في حبل، وهي في قوله تعالى: «مقرنين» تفيد شيئين: التصفيد أي تقييد الأرجل وجمع الأيدي والأعناق بالسلاسل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 676 (ثُبُوراً) : هلاكا يقال: ثبره الله: أهلكه هلاكا دائما لا ينتعش بعده ومن ثم يدعو أهل النار: وا ثبوراه، وما ثبرك عن حاجتك: ما ثبطك؟ وهذا مشبر فلانة: لمكان ولادتها حيث يثبرها النفاس. الإعراب: (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ألقوا مجرورة باضافة الظرف إليها وهو متعلق بالجواب وهو دعوا، وألقوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل ومنها حال من مكانا لأنه في الأصل صفة له ومكانا ظرف متعلق بألقوا وضيقا صفة لمكانا ومقرنين حال من الواو في ألقوا وجملة دعوا لا محل لها لأنها جواب شرط غبر جازم والواو فاعل دعوا وهنالك اسم اشارة في محل نصب على الظرفية المكانية وهو متعلق بدعوا في ذلك المكان ومعنى دعوا نادوا، وثبورا مفعول به لدعوا ويجوز أن يكون مفعولا مطلقا أي مصدرا من معنى دعوا، وقال الزجاج: وانتصاب ثبورا على المصدرية أي ثبرنا ثبورا، وقيل منتصب على أنه مفعول له، وقيل منادى أي يقولون يا ثبوراه احضر فهذا أوانك فإن الهلاك أخف عليهم مما هم فيه. (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) الجملة مقول قول محذوف تقديره فيقال لهم وهذا المحذوف معطوف على ما قبله. ولا ناهية وتدعوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل تدعوا وثبورا تقدم أنها مفعول به أو مفعول مطلق وادعوا فعل أمر وثبورا تقدم إعرابها وكثيرا صفة لثبورا، وعبر عنه بالكثرة ونفى عنه الوحدة لأنه ألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته أو لأنهم كلما نضجت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 677 جلودهم بدلوا جلودا غيرها فلا غاية ولا نهاية لهلاكهم. (قُلْ: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً) قل فعل أمر وفاعله مستتر وجوبا تقديره أنت والهمزة للاستفهام للتقريع والتهكم وسيأتي مزيد من بحث بلاغة هذه الآية، وذلك مبتدأ وخير خبر وأم حرف عطف وجنة الخلد عطف على ذلك واسم الموصول صفة لجنة الخلد وجملة وعد المتقون جملة فعلية من فعل ونائب فاعل صله وجملة كانت لهم حالية من جنة الخلد ولهم حال لأنه كان في الأصل صفة واسم كانت مستتر تقديره هي وجزاءا خبر كانت ومصيرا عطف على جزاء. (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا) الجملة حال ثانية من جنة الخلد ولهم خبر مقدم وفيها حال وما مبتدأ مؤخر وجملة يشاءون صلة وخالدين حال لازمة من الهاء في لهم أو الواو في يشاءون وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر يعود على الوعد المفهوم من قوله وعد المتقون أو على ما يشاءون وعلى ربك حال لأنه كان صفة لوعدا ومسئولا صفة لوعدا. الفوائد: معنى التفضيل: المفهوم من اسم التفضيل أنه تفاوت بين صفتين مشتركتين، فكيف قال: أذلك خير أم جنة الخلد، ومعلوم أن النار لا خير فيها البتة، وقد سبق مثل هذا السؤال والجواب ما حكاه سيبويه عن العرب: الشقاء أحب إليك أم السعادة، وقد علم أن السعادة أحب اليه، وقبل ليس هو من باب اسم التفضيل وإنما هو كقولك عنده خير. ومما لا مندوحة عن التنبيه اليه هو أن قوله تعالى «لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 678 ظاهره يقتضي عموم الموصول أنه إذا شاء أحد رتبة من فوقه كالأنبياء نالها فلم يبق بين الناقص والكامل تفاوت، ويقتضي أيضا أنه إذا شاء أحدهم الشفاعة لأحد من أهل النار كابنه أو أبيه فإن شفاعته سوف تقبل وذلك يتنافى مع العلم بأن عذاب الكافر مخلد، وقد أجاب القاضي البيضاوي على هذا الإيهام بقوله «ولعله يقصر همم كل طائفة على ما يليق برتبتها وأنه تعالى لا يلقي في خواطرهم أن ينالوا أكثر ما نالوه أو يطلبوا المزيد على ما يسبحون فيه من أمواه النعيم المترقرقة عليهم. والأحاديث مستفيضة في درجات الجنة وتفاوتها، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ان في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض. [سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 19] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) اللغة: (بُوراً) : البور بضم الباء: الفاسد الذي لا خير فيه، يقال امرأة بور وقوم بور يوصف به الواحد والجمع، والبور من الأرض ما لم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 679 يزرع ويجوز أن يكون جمع بائر كعائذ وعوذ، وفي الأساس واللسان والتاج: «فلان له نوره، وعليك بوره أي هلاكه، وقوم بور، وأحلوا دار البوار، ونزلت بوار على الكفار. قال أبو مكعت الأسدي: قتلت فكان تظالما وتباغيا ... إن التظالم في الصديق بوار لو كان أول ما أتيت تهارشت ... أولاد عرج عليك عند وجار جعلها علما للضباع فاجتمع التعريف والتأنيث، ومن المجاز: بارت البياعات أي كسدت، وسوق بائرة، وبارت الأيم إذا لم يرغب فيها» . الإعراب: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق لوصل ما ذكره في أول السورة وهو قوله «واتخذوا من دونه آلهة» . والظرف متعلق باذكر مقدرا معطوفا على قل وجملة يحشرهم بالياء والنون في محل جر بإضافة الظرف إليها والهاء مفعول به وما موصول معطوف على الهاء أو منصوب على المعية وغلب غير العاقل على العاقل فأتى بما دون «من» لأن بين المعبودين عقلاء، وقيل إن كلمة ما موضوعة للكل أو يريد الأصنام لأنها تتكلم بلسان الحال كما قيل في شهادة الأيدي والأرجل. وقال الزمخشري: «فإن قلت: كيف يصح استعمال ما في العقلاء؟ قلت: هو موضوع على العموم للعقلاء وغيرهم بدليل قولك إذا رأيت شبحا من بعيد: ما هو فإذا قيل لك: إنسان قلت حينئذ: من هو» . وجملة يعبدون صلة ما ومن دون الله حال. (فَيَقُولُ: أَأَنْتُمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 680 أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) فيقول عطف على يحشرهم وأنتم الهمزة للاستفهام التقريعي وأنتم مبتدأ وجملة أضللتم خبر وعبادي مفعول به وهؤلاء اسم اشارة صفة لعبادي أي المشار إليهم أو بدل من عبادي وأم حرف عطف وهم مبتدأ وجملة ضلوا خبره والسبيل نصب بنزع الخافض لأن ضل مطاوع أضله وكان القياس ضل عن السبيل إلا أنهم تركوا الجار كما تركوه في هداه الطريق والأصل الى الطريق وللطريق. (قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) سبحانك مفعول مطلق لفعل محذوف أي تنزيها لك عما لا يليق بك وما نافية وكان فعل ماض ناقص وجملة ينبغي خبر كان ولنا متعلقان بينبغي وأن وما في حيزها فاعل ينبغي فيكون اسم كان مستترا وفاعل ينبغي مستتر ومن دونك مفعول نتخذ الثاني ومن حرف جر زائد وأولياء مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول نتخذ الاول أو بالعكس، والصحيح أن قوله من أولياء هو المفعول الأول لأنه الذي يجوز أن تكون من فيه زائدة بخلاف الثاني، تقول: ما اتخذت من أحد وليا ولا يجوز في الأفصح ما اتخذت أحدا من ولي. (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً) الواو عاطفة ولكن مخففة مهملة للاستدراك ومتعتهم فعل وفاعل ومفعول به وآباءهم الواو عاطفة أو للمعية وآباءهم عطف على الهاء أو مفعول معه وحتى حرف غاية وجر ونسوا الذكر فعل وفاعل ومفعول به وكانوا كان واسمها وقوما خبرها وبورا صفة. (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً) الفاء الفصيحة لأنها مرتبة على محذوف ولأنها مفاجأة بالاحتجاج والإلزام وخاصة إذا انضم إليها الالتفات وحذف القول وهذا التعبير بليغ جدا وله نظائر في الكتاب الكريم كقوله تعالى «يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 681 الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير» . وقول الشاعر: قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسانا أي أن هذه البلدة أبعد ما يراد بنا، وغاية سفرنا، ثم يكون القفول والرجوع، وقوله فقد جئنا مرتب على محذوف أي إن صدقوا فقد جئنا خراسان فلم لم نتخلص من السفر، ويجوز أنه عدل الى الخطاب أي فقولوا لهم اقطعوا السفر بنا وارجعوا فقد جئنا الموعد. وقد حرف تحقيق وكذبوكم فعل وفاعل ومفعول به وبما متعلقان بكذبوكم وجملة تقولون صلة والواو واقعة على المعبودين والكاف على العابدين، فما الفاء عاطفة وما نافية وتستطيعون فعل مضارع وفاعل وصرفا أي دفعا للعذاب عنكم مفعول به ولا نصرا عطف على صرفا. (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويظلم فعل الشرط ومنكم حال أي كائنا منكم أيها المكلفون ونذقه جواب الشرط والفعل وجوابه خبر من والهاء مفعول نذقه الأول وعذابا مفعول نذقه الثاني وكبيرا صفة. [سورة الفرقان (25) : الآيات 20 الى 23] وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 682 اللغة: (حِجْراً مَحْجُوراً) : ذكرهما سيبويه في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها نحو معاذ الله وقعدك الله وعمرك الله وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدو موتور أو هجوم نازلة أو نحو ذلك يضعونها موضع الاستعاذة، قال سيبويه: «ويقول الرجل للرجل: أتفعل كذا فيقول حجرا وهي من حجره إذا منعه لأن المستعيذ بالله طالب منه أن يمنع المكروه فلا يلحقه فكأن المعنى اسأل الله أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا» . وقد ساءل الزمخشري فقال: «فإذا قد ثبت أنه من باب المصادر فما معنى وصفه بمحجور؟ قلت: جاءت هذه الصفة لتأكيد معنى الحجر كما قالوا ذيل زائل، والذيل الهوان وموت مائت والحجر العقل لأنه يمنع صاحبه وفي الأساس: «وفي ذلك عبرة لذي حجر وهو اللّب، وهذا حجر عليك: حرام، وحجر عليه القاضي حجرا، واستقينا من الحاجر وهو منهبط يمسك الماء وفلان من أهل الحاجر وهو مكان بطريق مكة، وقعد حجرة أي ناحية، وأحاطوا بحجرتي العسكر وهما جاباه، وحجّر حول العين بكيّة، وعوذ بالله وحجر، وامرأة بيضاء المحاجر، وبدا محجرها من النقاب، واستحجر الطين وتحجّر: صلب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 683 كالحجر، وتحجر ما وسعه الله: ضيقه على نفسه، وقراءة العامة على كسر الحاء وقرىء بالضم وهو لغة فيه وحكى أبو البقاء فيه لغة ثالثة وهي الفتح، قال وقد قرىء بها. (هَباءً) : الهباء قال في القاموس والتاج: الغبار ودقائق التراب ساطعة ومنثورة على وجه الأرض والقليلو العقول من الناس وفعله هبا يهبو هبوّا» وقال الزمخشري: «والهباء ما يخرج من الكوة مع ضوء الشمس شبيه الغبار وفي أمثالهم أقل من الهباء» قال: «ولام الهباء واو بدليل الهبوة» قلت وقال المتنبي: ولا تحسبن المجد زقا وقينة ... فما المجد الا السيف والفتكة البكر وتضريب أعناق الملوك وأن ترى ... لك الهبوات السود والعسكر المجر وقال الخليل والزجاج: «هو مثل الغبار الداخل في الكوة يتراءى مع ضوء الشمس. الإعراب: (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) جملة مستأنفة مسوقة لتسليته صلى الله عليه وسلم، وما نافية وأرسلنا فعل وفاعل وقبلك ظرف متعلق بمحذوف حال ومن المرسلين متعلقان بأرسلنا أو بمحذوف صفة لمفعول أرسلنا، والمعنى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 684 وما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين، ونحوه قوله تعالى «وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ» على معنى وما منا أحد، ولعل هذا أولى، وإلا أداة حصر وجملة انهم حالية ولذلك كسرت همزة إن كما انها كسرت لأجل اللام في الخبر والمعنى إلا وهم يأكلون، فالاستثناء من أعم الأحوال، وان واسمها واللام المزحلقة وهي لام الابتداء زحلقت الى الخبر وجملة يأكلون الطعام خبر انهم وجملة يمشون في الأسواق عطف على ليأكلون الطعام. (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) وجعلنا عطف على ما تقدم أو تجعلها مستأنفة مسوقة لتسليته صلى الله عليه وسلم أيضا، وجعلنا فعل وفاعل وبعضكم مفعول به أول ولبعض حال لأنه كان في الأصل صفة لفتنة وفتنة مفعول به ثان لجعلنا، ومعنى جعل بعضهم فتنة لبعض: أن الغني فتنة للفقير والصحيح فتنة للمريض والشريف فتنة للوضيع والمراد أن الدنيا دار امتحان وبلاء فلا يفلل ذلك في عزمك ولا يضيقن به صدرك ولا تأبه الأراجيفهم. والهمزة للاستفهام ومعنى الاستفهام الأمر أي اصبروا ومثله «أأسلمتم» معناه أسلموا، وكان الواو عاطفة أو استئنافية وكان فعل ماض ناقص وربك اسمها وبصيرا خبرها. (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) الواو عاطفة وقال الذين فعل وفاعل وجملة لا يرجون صلة ولقاءنا مفعول به ولولا أداة تحضيض وأنزل فعل ماض مبني للمجهول وعلينا متعلقان به والملائكة نائب فاعل والجملة مقول قولهم وهم الذين ينكرون البعث وأو حرف عطف وجملة نرى ربنا عطف على جملة أنزل علينا الملائكة فهي من مقول قولهم اقترحوا أن ينزل الله عليهم الملائكة فتخبرهم بصدق محمد حتى يصدقوه أو يروا الله جهرة فيأمرهم بتصديقه واتباعه. (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) الجملة مقول قوله تعالى في درء الشبهتين اللتين أوردوهما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 685 تعنتا ومكابرة بعد قيام الحجة وسطوع الدليل. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق واستكبروا فعل وفاعل، وفي أنفسهم فيه وجهان: أحدهما انه متعلق باستكبروا يعني أنهم لتكبرهم استكبروا أنفسهم أي عدوها كبيرة الشأن وأصله من استكبره إذا عداه كبيرا ونزّله منزلة اللازم، والثاني أنه متعلق بمحذوف حال أي أنهم أضمروا الاستكبار عن الحق في قلوبهم أي كائنا في قلوبهم، وعتوا فعل ماض وفاعل وعتوا مفعول مطلق وكبيرا صفة له. (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) يوم متعلق باذكر مقدرة أو بيعذبون أو بلا يبشرون المفهومة ضمنا من لا بشرى أي يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى أو يعدمونها ولا تعمل فيه البشرى لأن المصدر لا يعمل فيما قبله، ولأن المنفي لا يعمل فيما قبل لا. وجملة يرون مجرورة باضافة الظرف إليها والملائكة مفعول به ولا بشرى لا نافية للجنس وبشرى اسمها وللمجرمين خبرها والجملة مقول قول محذوف أي يقولون لا بشرى وجملة القول حال من الملائكة ويقولون فعل وفاعل وحجرا محجورا تقدم القول في اعرابها مفصلا في باب اللغة (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) الواو استئنافية وقدمنا فعل وفاعل والى ما متعلقان بقدمنا وجملة عملوا صلة ومن عمل حال أي عمل خير كصدقة وصلة رحم أو إغاثة ملهوف، والفاء عاطفة وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به أول وهباء مفعول به ثان ومنثورا صفة. البلاغة: شبه أعمال الكفار الحسنة بالهباء، ووجه الشبه قلّته وحقارته وعنده وانه لا ينتفع به، ثم أي هباء؟ انه قد يكون منتظما مع ضوء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 686 الشمس فإذا حركته الريح تطاير وذهب كل مذهب، ولذلك قال منثورا أي جامعا لحقارة الهباء والتناثر ومثله «كونوا قردة خاسئين» أي جامعين للمسخ والخسء، وأتى بالعامل منكرا ليتناول هذا الوعيد كل من سولت له نفسه البقاء على الكفر وعمل مثل عملهم. وللرماني في كتابه «النكت في إعجاز القرآن» بحث طريف في هذا التشبيه بعد أن يلحقه بباب الاستعارة يقول فيه: «حقيقة قدمنا هنا عمدنا، وقدمنا أبلغ منه لأنه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم من سفر لأنه من إمهاله لهم كمعاملة الغائب عنهم ثم قدم فرآهم على خلاف من أمرهم، وفي هذا تحذير من الاغترار بالافهام والمعنى الذي يجمعهما العدل لأن العمد لإبطال الفاسد عدل والقدوم الى ابطال الفاسد عدل والقدوم أبلغ لما بينّا، وأما هباء منثورا فبيان ما قد أخرج مالا تقع عليه الحاسة الى ما تقع عليه» . فانظر اليه كيف استجمع الصور القرآنية في ذهنه وكيف أوحى اليه لفظ قدمنا المستعار من معان ثم كيف كشف عن خبايا التعبير القرآني في استعارة القدوم للعمد وفضل الاول في بعث الخيال وإثارته ليربط بين المعنى الأول في الآية والمعنى المستعار، وصورة أخرى ربطية تثور في الخيال وهي صورة المسافر الغائب الذي يأتي فيرى القوم على خلاف فيضرب ليعدل ويصلح الفاسد. وقال الواحدي: «معنى قدمنا عمدنا وقصدنا يقال: قدم فلان إلى أمر كذا إذا قصده أو عمده ومنه قول الشاعر: وقدم الخوارج الضلال ... إلى عباد ربهم فقالوا إن دماءكم لنا حلال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 687 [المجلد السابع] [تتمة سورة الفرقان] [سورة الفرقان (25) : الآيات 24 الى 29] أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29) الإعراب: (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا) أصحاب مبتدأ والجنة مضاف ويومئذ ظرف أضيف الى مثله وهو متعلق بخير وخير خبر أصحاب وهو اسم تفضيل، أو لمجرد الوصف ومستقرا تمييز وأحسن مقيلا عطف على خير مستقرا، والمستقر المكان الذين يقضون فيه معظم أوقاتهم والمقيل المكان الذي يأوون اليه للاسترواح الى أزواجهم والتمتع بمغازلتهن وسيأتي في باب البلاغة مزيد من بحث هذه الآية. (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا) الظرف منصوب بتقدير اذكر وجملة تشقق في محل جر باضافة الظرف إليها وأصل تشقق تتشقق فحذف بعض القراء التاء وأدغمها بعضهم، والسماء فاعل، وبالغمام: في هذه الباء وجوه أولها أنها للسببية بمعنى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 أنها تتشقق بسبب طلوعه منها فيتعلق الجار والمجرور بتشقق، وثانيها أنها للملابسة فيكون الجار والمجرور في موضع نصب على الحال، والثالث أنها بمعنى عن أي عن الغمام كقوله: «يوم تشقق الأرض عنهم» فتتعلق بتتشقق أيضا ونزل الملائكة فعل ماض مبني للمجهول والملائكة نائب فاعل وتنزيلا مفعول مطلق. (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) الملك مبتدأ والظرف متعلق به والحق صفة للملك وللرحمن خبر الملك وأجاز بعض المعربين أن يكون الظرف هو الخبر وآخرون أجازوا أن يكون الحق، وما ذكرناه أولى. وكان الواو استئنافية وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره وكان اليوم، ويوما خبرها وعلى الكافرين متعلق بعسيرا وعسيرا صفة ليوما. (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) الظرف منصوب باذكر مقدرا وهو معطوف على قوله يوم يرون الملائكة وكذا قوله السابق يوم تشقق السماء، وجملة يعض مجرورة باضافة الظرف إليها والظالم فاعل يعض وعلى يديه متعلقان ببعض وسيأتي معنى هذا الكلام في باب البلاغة. (يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) الجملة نصب على الحال من فاعل يعض أي قائلا، ويا ليتني: يا حرف نداء والمنادى محذوف أو هي لمجرد التنبيه، وليتني ليت واسمها وجملة اتخذت خبرها ومع الرسول ظرف مكان في موضع المفعول الثاني لاتخذت وسبيلا مفعول اتخذت الأول تمنى أن لو صاحب الرسول وسلك سبيل الحق. (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا) يا حرف نداء وويلتا منادى مضاف الى ياء المتكلم المنقلبة الفاء وأصله يا وليتي، وقد تقدم بحث المنادى المضاف الى ياء المتكلم، ينادي ويلته أي هلكته. وليتني ليت واسمها وجملة لم أتخذ خبرها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 وفلانا مفعول به أول وخليلا مفعول به ثان. (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأضلني فعل وفاعل مستتر وعن الذكر متعلقان بأضلني والجملة تعليلية لتمنيه المذكور وندائه هلكته وبعد ظرف أضيف إلى مثله وهو متعلق بمحذوف حال وجملة جاءني مجرورة باضافة الظرف إليها والواو حالية وكان الشيطان كان واسمها وللإنسان متعلقان بخذولا وخذولا خبر كان. البلاغة: الكناية في قوله «مستقر» و «مقيل» فأما المستقر فهو اسم مكان من الاستقرار وهو المجلس الدائم لأهل الجنة يستقرون فيه ويقضون معظم أوقاتهم متقابلين يتحادثون ويتسامرون، وكنى به عن أحاديث العشايا والبكر التي يتبادلونها، وهي أحاديث كانت في الدنيا تدور بين المترفين وأصحاب النعيم واليسار، وكنى بالمقيل وهو وقت استراحة نصف النهار عن قضائهم وقت الاستجمام والاستراحة مع أزواجهم، وفي هذا المعنى سيأتي قوله «إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون، هم أزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون» قيل في تفسير الشغل انه افتضاض الأبكار. ومن روائع الحديث في وصف غناء الحور العين قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط، إن مما يغنين به: نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام، ينظرون بقرة أعيان وإن مما يغنين به: نحن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 الخالدات فلا نمتنه، نحن الآمنات فلا نخفنه، نحن المقيمات فلا نظعنه» . وفي قوله: «يوم يعض الظالم على يديه» كناية عن الندم والغيظ والحسرة، ومثل هذا التعبير عض الأنامل والسقوط في اليد وحرق الأرم، ففي الصحاح حرقت الشيء حرقا: بروته وحككت بعضه ببعض، ومنه قولهم حرق نابه أي سحقه حتى يسمع له صريف، وفلان يحرق عليك الأرم غيظا من أرم على الشيء أي عض عليه وأرمه أيضا والأرم الأضراس كأنه جمع آرم يقال فلان يحرق عليك الأرم إذا تغيظ فحك أضراسه بعضها ببعض، وقيل هو مجاز عبر به عن التحير والغم والندم والتفجع، ونقل أئمة اللغة أن المتأسف المتحزن المتندم يعضّ على إبهامه ندما، وقال الشاعر: لطمت خدها بحمر لطاف ... نلن منها عذاب بيض عذاب فشكى العناب نور أقاح ... واشتكى الورد ناضر العناب وفلان كناية عن علم من يعقل وفل كناية عن نكرة من يعقل من الذكور وفلانة كناية عن علم من يعقل من الإناث وفلة كناية عن نكرة من يعقل من الإناث والفلان والفلانة بالألف واللام كناية عن غير العاقل ولامه واوية أو يائية. قال أبو حيان: وفلان كناية عن العلم وهو متصرف وفل كناية عن نكرة الإنسان نحو يا رجل وهو مختص بالنداء وفلة يعني يا امرأة كذلك ولام فل ياء أو واو وليس مرخما من فلان، خلافا للفراء، ووهم ابن عصفور وابن مالك وصاحب البسيط في قولهم فل كناية عن العلم كفلان، وفي كتاب سيبويه ما قلناه بالنقل عن العرب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 [سورة الفرقان (25) : الآيات 30 الى 34] وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34) اللغة: (مَهْجُوراً) : متروكا، أي تركوه وصدوا عن الايمان به، وقيل هو من هجر إذا هذى أي جعلوه مهجورا فيه فحذف الجار، وهو يحتمل بهذا المعنى وجهين، أحدهما: أنهم زعموا أنه هذيان وباطل وأساطير الأولين، وثانيهما: أنهم كانوا إذا سمعوه هجروا فيه، فهو إما من الهجر بالفتح أي ضد الوصل وإما من الهجر بالضم وهو الهذيان وفحش القول. ثم المهجور اما اسم مفعول وإما مصدر بمعنى الهجر أطلق على القرآن على طريق التسمية بالمصدر كالمجلود والمعقول والميسور والمعسر. (وَرَتَّلْناهُ) : فرقناه أو أتينا به شيئا بعد شيء بتمهل وتؤدة لنيسر فهمه وحفظه، وأصله الترتيل في الأسنان وهو تفليجها، يقال: ثغر مرتل ورتل بفتحتين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 الإعراب: (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) عطف على قوله وقال الذين لا يرجون لقاءنا، وقال الرسول فعل وفاعل ويا حرف نداء ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم وان واسمها وجملة اتخذوا خبرها وهذا مفعول أول لا تخذوا والقرآن بدل من اسم الاشارة ومهجورا مفعول به ثان. (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم بعد الارتماض الذي يعانيه والذي تدل عليه شكواه المريرة. وكذلك نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الجعل جعلنا ولكل نبي مفعول به ثان لجعلنا وعدوا مفعول به أول ومن المجرمين نعت لعدوا. (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) الواو عاطفة وكفى فعل ماض وبربك الباء حرف جر زائد في الفاعل وربك مجرور لفظا فاعل كفى محلا وهاديا حال ونصيرا عطف عليه. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لحكاية شبهته منهم تتعلق بالقرآن، والحاكون هم قريش أو اليهود وهو اعتراض متهافت ساقط من أساسه لأن إعجاز القرآن ليس منوطا بنزوله جملة أو تفصيلا. وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة ولولا حرف تحضيض ونزل فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان بنزل والقرآن نائب فاعل وجملة حال وواحدة صفة. (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا) الكاف نعت لمصدر محذوف أي نزلناه تنزيلا مثل ذلك التنزيل، ولنثبت تعليل لنزلناه المحذوفة وبه متعلقان بنثبت والفاعل مستتر تقديره نحن وفؤادك مفعول به ورتلناه عطف على نزلناه المحذوفة وهو فعل ماض وفاعل ومفعول به وترتيلا مفعول مطلق، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 ومعنى ترتيله أن قدره آية بعد آية بترسل وتثبت وقيل هو أنزله مع كونه متفرقا على تمكث وتمهل في مدة متباعدة وهي عشرون سنة. (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) الواو عاطفة ولا نافية ويأتونك فعل وفاعل ومفعول به وبمثل متعلقان بيأتونك أي بسؤال عجيب يشبه في استغرابه وبطلانه المثل السائر، وإلا أداة حصر وجئناك فعل وفاعل ومفعول به وبالحق جار ومجرور متعلقان بجئناك والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال فمحل الجملة النصب على الحال أي لا يأتونك بمثل في حال من الأحوال إلا في حال إتياننا إليك بالحق وبما هو أحسن بيانا. وأحسن عطف على الحق وجر بالفتحة لأنه ممنوع من الصرف وتفسيرا تمييز. (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ) الذين رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هم أو نصب على الذم أي أذم الذين، وجملة يحشرون صلة وعلى وجوههم متعلقان بمحذوف حال أي مقلوبين على وجوههم وإلى جهنم متعلقان بيحشرون. (أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا) أولئك مبتدأ وشر خبر ومكانا تمييز وأضل سبيلا عطف على شر مكانا والجملة تفسيرية فلا محل لها ولك أن تعرب الذين مبتدأ والجملة خبره. البلاغة: 1- وصف المكان بالشر، والسبيل بالضلال، من الإسناد المجازي. وقد مرت له نظائر. 2- قوة اللفظ لقوة المعنى: وذلك في قوله تعالى: «ورتلناه ترتيلا» فإن لفظة رتل على وزن لفظة قتّل الرباعية ومع هذا ليست دالة على كثرة القراءة وإنما المراد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 بها أن تكون القراءة على هيئة التأني والتدبر، وسبب ذلك أن هذه اللفظة لا ثلاثي لها حتى تنقل عنه إلى رباعي وإنما هي رباعية موضوعة لهذه الهيئة الحسنة المخصوصة من القراءة، فاللفظة إن كانت منقولة أدت الى الكثرة. خذلك مثالا «كلّم» من قوله تعالى «وكلّم الله موسى تكليما» فإن كلّم على وزن قتّل أيضا ولم يرد بها التكثير بل أريد بها: خاطبه، سواء أكان خطابه إياه طويلا أم قصيرا، قليلا أم كثيرا، وهذه اللفظة رباعية وليس لها ثلاثي نقلت عنه الى الرباعي. لكن قد وردت بعينها ولها ثلاثي ورباعي فكان الرباعي أكثر وأقوى فيما دل عليه من المعنى وذاك أن تكون كلّم من الجرح أي جرّح ولها ثلاثي وهو كلم مخففا أي جرح فإذا وردت مخففة دلت على الجراحة مرة واحدة وإذا وردت مثقلة دلت على التكثير. فتدبر هذا فإنه حسن جدا وقل من يتفطن له. 3- وفي قوله: «ولا يأتونك بمثل» استعارة تصريحية. شبه السؤال بالمثل بجامع البطلان لأن أكثر الأمثال أمور متخيلة. [سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 40] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 اللغة: (الرَّسِّ) : اسم بئر معينة، قال أبو عبيدة: هي البئر المطوية والجمع الرساس، ومنه قول الشاعر: وهم سائرون إلى أرضهم ... تنابلة يحفرون الرساسا وقيل: الرس قرية، وكان أصحاب الرس قوما من عبدة الأصنام أصحاب آبار ومواش فبعث الله إليهم شعيبا فدعاهم الى الإسلام فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه، وقيل هم أصحاب النبي حنظلة بن صفوان كانوا مبتلين بالعنقاء وسيأتي بحثها، فكانت تسكن جبلهم وتنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة ثم انهم قتلوا حنظلة فأهلكوا، وقيل هم أصحاب الأخدود والرس هو الأخدود وقيل الرس بانطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار. والعنقاء هي أعظم ما يكون من الطير سميت لطول عنقها، ويقال لها عنقاء مغرب على الاضافة أو العنقاء المغرب والمغربة على الوصف وهي طائر مجهول الجسم لم يوجد، والداهية، ويقال في الإخبار عن هلاك الشيء وبطلانه: حلقت به عنقاء مغرب، وسميت بالمغرب إما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 لإتيانها بأمر غريب وهو اختطاف الصبيان وقيل: انها اختطفت عروسا أو لغروبها أي غيبتها، ومغرب بضم الميم وفتحها وقيل غير ذلك مما يطول تعداده: وقيل الرس: ماء ونخل لبني أسد وقيل الثلج المتراكم في الجبال والرس اسم واد، قال زهير: بكرن بكورا واستحرنا بسحرة ... فهن ووادي الرس كاليد في الفم (تَبَّرْنا) : فتتنا، ومنه التبر لفتات الذهب والفضة. الإعراب: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد ما مرّ من تسلية محمد صلى الله عليه وسلم بحكاية ما جرى للأنبياء وما كابدوه من أقوامهم. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا موسى فعل وفاعل ومفعول به والكتاب مفعول ثان لآتينا وجعلنا عطف على آتينا ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني لجعلنا وأخاه هو المفعول الأول لجعلنا وهارون بدل من أخاه أو عطف بيان ووزيرا حال، أو تجعل وزيرا هو المفعول الثاني وتعلق الظرف بمحذوف نصب على الحال. (فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) فقلنا عطف على ما تقدم وقلنا فعل وفاعل وجملة اذهبا مقول القول والى القوم جار ومجرور متعلقان باذهبا والذين نعت للقوم وجملة كذبوا صلة وبآياتنا متعلقان بكذبوا والفاء عاطفة على محذوف أي فذهبا إليهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 فكذبوهما فدمرناهم، ودمرناهم فعل وفاعل ومفعول به وتدميرا مفعول مطلق. (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ) وقوم نوح مفعول به لفعل محذوف يفسره ما بعده أي وأغرقنا قوم ولك أن تعطفه على الهاء في دمرناهم أي ودمرنا قوم نوح ولما ظرف بمعنى حين أو رابطة متضمنة معنى الشرط على كل حال وقد تقدم الإلماع إليها، وكذبوا الرسل فعل وفاعل ومفعول به وجملة أغرقناهم جواب شرط غير جازم فلا محل لها. (وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً) وجعلناهم عطف على ما تقدم وللناس مفعول جعلناهم الثاني وآية مفعول جعلناهم الأول وأعتدنا عطف على جعلناهم وللظالمين متعلقان بأعتدنا وهي تحتمل التعيين والتخصيص فتكون من وضع الظاهر موضع الضمير تسجيلا عليهم بوصف الظلم. (وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) وعادا مفعول به لفعل محذوف تقديره أهلكنا أو دمرنا، وثمود وأصحاب الرس وقرونا عطف عليه والمراد بقوله قرونا أقواما وكثيرا صفة لقرونا. (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) كلّا مفعول به لفعل محذوف يلاقي ضربنا في المعنى أي خوفنا وأنذرنا كلّا فهو نصب على الاشتغال وجملة ضربنا مفسرة وهو فعل ماض وفاعل وله متعلقان بضربنا والأمثال مفعول به وكلا مفعول به مقدم لتبرنا لأنه فارغ له لم يشتغل بضميره وتبرنا فعل وفاعل وتتبيرا مفعول مطلق. (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأتوا فعل وفاعل وعلى القرية متعلقان بأتوا والتي صفة للقرية وجملة أمطرت صلة ومطر السوء مفعول مطلق لأمطرت فهي بمعنى أمطار السوء والمراد بمطر السوء الحجارة والمعنى أن قريشا عرجوا مرارا كثيرة بمنازل تلك القرية التي أهلكت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 بالحجارة من السماء أثناء انتجاعهم للتجارة وفي القاموس: «ساء سوءا بالفتح فعل به ما يكره والسوء بالضم اسم منه» ، والقرية هنا اسم جنس لأنها تشمل خمسة قرى كان قوم لوط يسكنونها ما نجت منها إلا واحدة وقيل هي قرية واحدة اسمها سذوم بالذال المعجمة أو سدوم بالدال المهملة وقد تقدم هذا كله. (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) الهمزة للاستفهام التقريري المتضمن معنى الإنكار والتقرير هو حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه، والفاء عاطفة لعطف مدخولها على مقدر يقتضيه المقام أي ألم يكونوا ينظرون إليها فلم يكونوا يرونها مرات أثناء تعريجهم عليها ليعتبروا بمصائر من قبلهم وما جرّ عليهم إمعانهم في الغواية وركوب متن الشطط من عقوبة لا تقدر وجملة يرونها خبر يكونوا، بل حرف إضراب وكان واسمها وجملة لا يرجون خبرها ونشورا مفعول به. البلاغة: 1- في قوله «لا يرجون نشورا» مجاز عن التوقع، وتوقع الشيء يكون في الخير والشر لأنه لما كانت حقيقة الرجاء انتظار الخير وما فيه من سرور وما هو محبب الى النفس احتيج الى توجيه الرجاء بما ذكرناه ولأنه لا يتصور رجاء النشور إلى الكفار. هذا وقد أجرى بعضهم الكلام على الحقيقة فقال: ان الرجاء بمعنى الخوف هنا وهو محض تكلف وفي المجاز عنه مندوحة. 2- وفي قوله «فقلنا اذهبا» الى قوله «فدمرناهم تدميرا» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 الحذف ألا ترى كيف حذف جواب الأمر في هذه الآية فإن تقديره فقلنا اذهبا الى القوم الذين كذبوا بآياتنا فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم تدميرا. [سورة الفرقان (25) : الآيات 41 الى 44] وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) الإعراب: (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) الواو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة رأوك مجرورة بإضافة الظرف إليها وإن نافية ويتخذونك فعل وفاعل ومفعول والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ولم يقترن الجواب بالفاء لأن «إذا» اختصت من بين أدوات الشرط بأن جوابها المنفي لا يقترن بالفاء بخلاف غيرها من الأدوات. وإلا أداة حصر وهزوا مفعول به ثان ليتخذونك. (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) الجملة في محل نصب على الحال من الواو في يتخذونك على تقدير القول أي قائلين والهمزة للاستفهام الانكاري وهذا مبتدأ والذي خبره وجملة بعث صلة والعائد محذوف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 أي بعثه والله فاعل لبعث ورسولا حال ويجوز أن يكون بمعنى مرسل وأن يكون مصدرا حذف منه المضاف، أي ذا رسول وهو الرسالة، وفي الاشارة معنى الاحتقار لأنها للقريب. (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) إن مخففة من الثقيلة والجملة من تتمة مقولهم واسمها محذوف أي انه وجملة كاد خبرها ويجوز إهمالها واسم كاد مستتر تقديره هو واللام الفارقة بين إن النافية وإن المخففة من الثقيلة، وجملة يضلنا خبر كاد وهو فعل مضارع وفاعل مستتر ونا مفعول به وعن آلهتنا متعلقان بيضلنا ولولا حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط وأن وما في حيزها مبتدأ وعليها متعلقان بصبرنا والخبر محذوف أي موجود والجواب محذوف أي لصرفنا عنها. (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق للرد عليهم من الله تعالى وسوف حرف استقبال ويعلمون فعل مضارع وفاعل وحين ظرف زمان متعلق بيعلمون وجملة يرون في محل جر بإضافة الظرف إليها ومن استفهام مبتدأ وأضل خبره وسبيلا تمييز والجملة في محل نصب سدت مسد مفعولي يعلمون التي علقت عن العمل بالاستفهام أي أهم أم المؤمنون؟. (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) الهمزة للاستفهام ورأيت فعل وفاعل أي أخبرني، ومن اسم موصول مفعول رأيت الأول وجملة اتخذ صلة وإلهه مفعول به ثان لاتخذ وهواه مفعول به أول وقدم المفعول الثاني لأنه أهم وللاعتناء به لأنه هو المحور الذي يدور عليه التعجب وستأتي في باب البلاغة مناقشة طريقة حول هذا التقديم. (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) الجملة في محل نصب مفعول به ثان لرأيت والهمزة للاستفهام الانكاري للتيئيس من إيمانهم، والفاء عاطفة على مقدر أي أنت تحرص على إيمانه وأنت مبتدأ وجملة تكون خبره واسم تكون ضمير مستتر تقديره أنت وعليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 متعلقان بوكيلا ووكيلا خبر تكون. (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ) أم حرف عطف مقدرة ببل والهمزة فهي منقطعة والهمزة المقدرة للاستفهام الإنكاري وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تحسب وجملة يسمعون خبر أن وأو حرف عطف ويعقلون عطف على يسمعون. (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) إن نافية وهم مبتدأ وإلا أداة حصر والكاف خبر هم، بل حرف عطف وإضراب وهم مبتدأ وأضل خبره وسبيلا تمييز. البلاغة: 1- التقديم: في قوله تعالى «اتخذ إلهه هواه» التقديم فقد قدم المفعول الثاني، والأصل اتخذ الهوى إلها للعناية به كقولك ظننت منطلقا زيدا إذا كانت عنايتك بالمنطلق، وفيه إلى جانب هذه النكتة نكتة ثانية وهي إفادة الحصر، فإن الكلام قبل دخول أرأيت مبتدأ وخبر، المبتدأ هواه والخبر إلهه، وتقديم الخبر كما علمت يفيد الحصر فكأنه قال أرأيت من لم يتخذ معبوده إلا هواه، فهو أبلغ في ذمه وتوبيخه. هذا وقد زعم بعض المعربين أنه لا تقديم ولا تأخير في الكلام وإنهما مفعولا الاتخاذ من غير تقديم ولا تأخير لاستوائهما في التعريف ولكن هذا مجرد وهم فإنهما وإن تساويا في التعريف فقد غاب عن أصحاب هذا الزعم أن المفعول الثاني هو المتلبس بالحالة الحادثة أي أرأيت من جعل هواه إلها لنفسه من غير أن يلاحظه وبنى عليه أمر دينه معرضا عن استماع الحجة الباهرة والبرهان النير بالكلية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 2- التمثيل: في قوله «إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا» فن التمثيل وقد تقدمت الإشارة إلى هذا الفن الذي يتلخص في أنه هو أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظة الخاص ولا بلفظي الإشارة ولا الإرداف بل بلفظ هو أبعد من لفظ الإرداف قليلا يصلح أن يكون مثلا للفظ الخاص لأن المثل لا يشبه المثل من كل الوجوه، ولو تماثل المثلان من كل الوجوه لاتحدا. ومن التمثيل أيضا نوع آخر ذهب إليه من جاء بعد قدامة وهو أن يذكر الشيء ليكون مثالا للمعنى المراد وإن كان معناه ولفظه غير المعنى المراد ولفظه، كأنهم لثبوتهم على الضلالة بمنزلة الانعام والبهائم بل أضل سبيلا لأن البهائم تنقاد لمن يتعهدها وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها أما هؤلاء فقد أسفوا إلى أبعد من هذا الدرك. هذا وقد استخرج ابن أبي الإصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير أمثال أبي تمام من شعره فوجدها تسعين نصفا وثلاثمائة بيت، واستوعب أمثال أبي الطيب المتنبي فوجدها مائة نصف وأربعمائة بيت وقد ذكرنا فيما سلف من هذا الكتاب عددا من أمثال المتنبي ونذكر هنا طائفة أخرى منها: لعل عتبك محمود عواقبه ... فربما صحت الأجسام بالعلل وقوله: ومكايد السفهاء واقعة بهم ... وعداوة الشعراء بئس المقتنى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 وقوله: لا يعجبن مضيما حسن بزته ... وهل تروق دفينا جودة الكفن وقوله: وانا الذي اجتلب المنية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل وقوله: وما كمد الحساد شيئا قصدته ... ولكنه من يرحم البحر يغرق [سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 49] أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) اللغة: (سُباتاً) : راحة للأبدان بقطع الأعمال وهو من السبت أي القطع سمي بذلك لقطع الأشغال فيه، وفي المصباح: «والسبات وزان غراب النوم الثقيل وأصله الراحة يقال منه سبت يسبت من باب قتل» وفي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 القاموس: إنه من بابي قتل وضرب ثم قال: والسبات النوم أو خفيفه أو ابتداؤه في الرأس حتى يبلغ القلب، وقال الزمخشري: «والسبات: الموت والمسبوت: الميت لأنه مقطوع الحياة وهذا كقوله «وهو الذي يتوفاكم بالليل» فإن قلت: هلا فسرته بالراحة؟ قلت: النشور في مقابلته يأباه إباء العيوف الورد وهو مرنق» والعيوف من الإبل كما في الصحاح: الذي يشم الماء فيدعه وهو عطشان وفيه أيضا: رنقته ترنيقا كدرته» وفي اللسان والأساس: «وجعل الله النوم سباتا: موتا وأصبح فلان مسبوتا: ميتا» وفي القاموس والتاج: «السبات: النوم أو أوله، والدهر، والرجل الداهية، وابنا سبات: الليل والنهار مأخوذ من معنى الدهر، وسبت يسبت من بابي قتل وضرب سبتا دخل في السبت وقام بأمر السبت: استراح، وسبت الشيء قطعه، وسبت الرأس: حلقه والسبت مصدر ويوم من أيام الأسبوع بين الجمعة والأحد وجمعه أسبت وسبوت، والسبت أيضا: النوام والفرس الجواد والرجل الداهية. (الرِّياحَ) : في المصباح: «والريح أربع الشمال وتأتي من ناحية الشام والجنوب تقابلها وهي الريح اليمانية والثالثة الصبا وتأتي من مطلع الشمس وهي القبول أيضا والرابعة الدبور وتأتي من ناحية المغرب، والريح مؤنثة على الأكثر فيقال هي الريح وقد تذكر على معنى الهواء فيقال هو الريح وهب الريح، نقله أبو زيد وقال ابن الأنباري: الريح مؤنثة لا علامة فيها وكذلك سائر أسمائها إلا الإعصار فإنه مذكر. (طَهُوراً) : الطهور على وجهين في العربية: صفة واسم غير صفة فالصفة قولك ماء طهور كقولك طاهر والاسم قولك لما يتطهر به الجزء: 7 ¦ الصفحة: 22 طهور كالوضوء والوقود لما يتوضأ به وتوقد به النار كقولك وضوءا حسنا ذكره سيبويه. (أَناسِيَّ) : الأناسي جمع إنسي أو إنسان ونحوه ظرابي في ظربان على قلب النون ياء والأصل أناسين وظرابين ولعل الثاني هو الأرجح، قال سيبويه: «إن الياء في إنسي للنسب وما هي فيه لا يجمع على فعالي» وقال ابن مالك «واجعل فعالي لغير ذي نسب» وجزم ابن هشام وابن مالك بأنه جمع إنسان لا جمع إنسي، قالا: وشذ قباطي جمع قبطي وبخاتي جمع بختي، وفي الصحاح: القبط أهل مصر ورجل قبطي والقبطية ثياب بيض رقاق من كتان والبخت من الإبل معرب وقيل هو عربي وينشد لابن قيس الرقيات: يهب الخيل والألوف ويسقي ... لبن البخت في قصاع الخلنج الإعراب: (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) كلام مستأنف مسوق للشروع في إيراد أدلة محسوسة على توحيده وستأتي خمسة أدلة أولها امتداد الظل وثانيها جعل الليل لباسا وثالثها إرسال الرياح ورابعها مرج البحرين وخامسها خلق البشر من الماء. والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر أي تنظر فعل مضارع مجزوم بلم وهي هنا بصرية وإلى ربك متعلقان بتنظر على حذف مضاف أي إلى صنيع ربك لأنه ليس المقصود رؤية ذات الله، وكيف اسم استفهام في محل نصب على الحال أي ألم تر إلى صنيع ربك كيف مد الظل، أي على أية حالة، ومعنى مد الظل أن جعله يمتد وينبسط فينتفع به الناس، واختار الزجاج أن تكون الرؤية قلبية والمعنى ألم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 تعلم، قال: وهذا أولى لأن الظل إذا جعلناه من المبصرات فتأثير قدرة الله تعالى في تمديده غير مرئي بالاتفاق ولكنه معلوم من حيث أن كل مبصر فله مؤثر فحمل اللفظ على رؤية القلب أولى وقد علقت كيف تر عن العمل فجملة مد الظل في محل نصب مفعول به على الثاني وعلى الأول مستأنفة. ولو الواو حالية ولو شرطية وشاء فعل ماض وفاعل مستتر واللام واقعة في جواب لو وجملة جعله لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والهاء مفعول جعل الأول وساكنا مفعوله الثاني أي ثابتا بأن يجعل الشمس على وضع واحد أو دائما غير زائل. (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا) ثم هنا للتفاضل بين أوقات الظهور وليست للتراخي الزماني لأنه لا يصح هنا فهي محمولة على المجاز كما سيأتي في باب البلاغة وجعلنا فعل وفاعل والشمس مفعول به وعليه حال ودليلا مفعول به ثان أي لولا الشمس لما عرف الظل. (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) وثم هنا للتفاضل أيضا بين الأمور الثلاثة وهي مد الظل وسكونه وقبضه كأن الثاني أعظم من الأول والثالث أعظم منهما، وقبضناه فعل وفاعل ومفعول به وإلينا متعلقان بقبضناه وقبضا مفعول مطلق ويسيرا صفة ومعنى قبضه قبضا يسيرا أي حسبما ترتفع الشمس لتنتظم بذلك مصالح الكون. (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) الواو عاطفة وهو مبتدأ والذي خبره وجملة جعل صلة ولكم حال لأنه كان في الأصل صفة للباسا والليل مفعول جعل الأول ولباسا مفعوله الثاني والنوم سباتا عطف على ما تقدم وجعل النهار نشورا عطف أيضا أي انتشارا ينشر فيه الناس لتحصيل معاشهم. (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) بشرا حال وبين ظرف متعلق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 24 بمحذوف صفة لبشرا ويدي رحمته مضاف إليه وسيأتي تحقيق ذلك في باب البلاغة. (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) عطف على ما تقدم وفيه إشعار بأن تطهير الظواهر يستلزم تطهير البواطن وفي ذلك منتهى المنة والنعمة. (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) لام التعليل متعلق بأنزلنا لبيان العلة في إنزاله وبه متعلقان بنحيي وبلدة مفعول به وميتا صفة لبلدة يستوي فيه المذكر والمؤنث أو لأنه ذكر على معنى البلد في قوله «فسقناه إلى بلد ميت» ونسقيه عطف على نحيي تبعه في النصب ويقال سقاه وأسقاه وكلاهما يتعدى إلى مفعولين ومما متعلقان بمحذوف خال وأنعاما مفعول به ثان لنسقيه وأناسي كثيرا عطف على أنعاما. وسيأتي سر تقديم الأنعام على الأناسي في باب البلاغة. البلاغة: 1- التقديم والتأخير: في قوله «وأنزلنا من السماء ماء» الى قوله «وأناسي كثيرا» فن التقديم والتأخير وهو فن عجيب دقيق المسلك خفي الدلالة، وهو قسمان: قسم يختص بدلالة الألفاظ على المعاني وقسم يختص بدرجة التقدم في الذكر ومنه الآية التي نحن بصددها، فقد قدم حياة الأرض وإسقاء الأنعام على إسقاء الناس وإن كانوا أشرف محلا لأن حياة الأرض هي سبب لحياة الأنعام والناس، فلما كانت بهذه المثابة جعلت مقدمة في الذكر ولما كانت الأنعام من أسباب التعيش والحياة للناس قدمها في الذكر على الناس لأن حياة الناس بحياة أرضهم وأنعامهم فقدم سقي ما هو سبب نمائهم ومعاشهم على سقيهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 2- في قوله «ثم جعلنا» و «ثم قبضناه» استعارة تصريحية تبعية استعير فيها لفظة المشبه به وهو البعد والتراخي للمشبه وهو تفاضل الأمور. 2- وفي قوله «بين يدي رحمته» استعارة أيضا أي قدام المطر، وسيأتي المزيد من ذلك. [سورة الفرقان (25) : الآيات 50 الى 57] وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) اللغة: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) : جعلهما متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان وفي المصباح: «المرج: أرض ذات نبات ومرعى والجمع مروج مثل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 فلس وفلوس، ومرجت الدابة مرجا من باب قتل: رعت في المرج، ومرجتها مرجا: أرسلتها ترعى في المرج» . وفي المختار: وقوله تعالى: «مرج البحرين» أي خلاهما لا يلتبس أحدهما بالآخر. وفي الأساس: «أمرج الدواب ومرجها: أرسلها في المرج والمروج، ومرج السلطان الناس، ورجل مارج: مرسل غير ممنوع، ولا يزال فلان يمرج علينا مروجا: يأتينا مفاجئا، ومرج الخاتم في الإصبع قلق. ومن المجاز: «مرج الله البحرين، ومرج فلان لسانه في أعراض الناس وأمرجه، وفلان سرّاج مرّاج: كذاب، ومرجت عهودهم وقد مرج أمرهم مرجا ومروجا، وأمر مارج ومريج، وفي الحديث: «كيف أنتم إذا مرج الدين وظهرت الرغبة» قال زهير: مرج الدين فأعددت له ... مشرف الحارك محبوك الثبج يرهب السوط سريعا فإذا ... ونت الخيل من الشد معج وأمرجوا عهودهم ودينهم، وطلع مارج من نار: لهب ساطع» . هذا وقد سمي الماء الكثير بحرا ولم يقصد بحرين معنيين. (فُراتٌ) : الفرات: البليغ العذوبة حتى يضرب إلى الحلاوة والتاء فيه أصلية لام الكلمة ووزنه فعال وبعض العرب يقف عليها هاء ويقال سمي الماء العذب فراتا لأنه يفرت العطش أي يشقه ويقطعه وفي المصباح: «الفرات الماء العذب يقال فرت الماء فروتة وزان سهل سهولة إذا عذب ولا يجمع إلا نادرا على فرتان كغربان» والفرات أيضا نهر عظيم معروف والفرات أيضا البحر. (أُجاجٌ) : الأجاج: البالغ في الملوحة وقيل في الحرارة وقيل في المرارة. وفي الأساس «وماء أجاج: يحرق بملوحته» وفي القاموس: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 «أجّ يؤج الماء: صار أجاجا أي ملحا مرا، وهذه نبذة لغوية في تفصيل كمية الماء وكيفيته: إذا كان الماء دائما لا ينقطع ولا ينزح في عين أو بئر فهو عدّ، فإذا كان إذا حرك منه جانب لم يضطرب جانبه الآخر فهو كر، فإذا كان كثيرا عذبا فهو غدق وقد نطق به القرآن، فإذا كان مغرقا فهو غمر، فإذا كان تحت الأرض فهو غور، فإذا كان جاريا فهو غيل، فإذا كان على ظهر الأرض يستقى بغير آلة فهو سيح، فإذا كان ظاهرا جاريا على وجه الأرض فهو معين وسنم، وفي الحديث: «خير الماء السنم» فإذا كان جاريا بين الشجر فهو غلل، فإذا كان مستنقعا في حفرة أو نقرة فهو ثغب، فإذا أنبط من البئر فهو نبط، فإذا غادر السيل منه قطعة فهو غدير، فإذا كان الى الكعبين أو أنصاف السوق فهو ضحضاح، فإذا كان قريب القعر فهو ضحل، فإذا خاضته الدواب فغيرته فهو طرق، فإذا كان منتنا غير أنه شروب فهو آجن، وإلا فهو آسن، فإذا كان باردا منتنا فهو غساق، أو كان حارا فسخن، فإذا اشتدت حرارته فحميم، فإذا كان ملحا فهو زعاق، أو مرا فهو قعاع، فإذا اجتمعت فيه الملوحة والمرارة فهو أجاج، فإذا كان فيه شيء من العذوبة وقد يشربه الناس على ما فيه فهو شريب، فإذا كان دونه في العذوبة وليس يشربه الناس إلا عند الضرورة وقد تشربه البهائم فهو شروب، فإذا كان عذبا فهو فرات، فإذا زادت عذوبته فهو نقاخ، فإذا كان زاكيا في الماشية فهو نمير، فإذا كان سهلا سائغا متسلسلا في الحلق فهو سلسل وسلسال، فإذا جمع الصفاء والعذوبة والبرد فهو زلال، فإذا كثر عليه الناس حتى نزحوه بشفاههم فهو مشفوه ثم مثمود ثم مضفوف ثم ممكول ثم مجموم ثم منقوص» فما أعجب أمر لغتنا الشريفة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 (بَرْزَخاً) : حاجزا يحول دون اختلاط أحدهما بالآخر دون أن يرى. (وَحِجْراً مَحْجُوراً) : تقدم تفسيرهما، وسيأتي البحث عن موقعهما هنا في باب البلاغة. (وَصِهْراً) : الصهر بالكسر القرابة كما في القاموس والختن وجعمه أصهار وفي المصباح: «الصهر جمعه أصهار، قال الخليل: الصهر أهل بيت المرأة وقال ومن العرب من يجعل الأحماء والأختان جميعا أصهارا، وقال الأزهري: الصهر يشتمل على قرابات النساء ذوي المحارم وذوات المحارم كالأبوين والأخوة وأولادهم والأعمام والأخوال والخالات فهؤلاء أصهار زوج المرأة ومن كان من قبل الزوج من ذوي قرابته المحارم فهم أصهار المرأة أيضا وقال ابن السكيت: كل من كان من قبل الزوج من أبيه أو أخيه أو عمه فهم الأحماء ومن كان من قبل المرأة فهم الأختان ويجمع الصنفين الاصهار وصاهرت إليهم ولهم وفيهم إذا تزوجت منهم» . (ظَهِيراً) : الظهير: المعين فهو فعيل بمعنى مفاعل ويجوز أن يراد بالظهير الجماعة كقوله «والملائكة بعد ذلك ظهير» كما جاء الصديق والخليط. الإعراب: (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) عطف على ما تقدم واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وصرفناه فعل وفاعل ومفعول به والضمير يعود على الماء أو على القول الذي مرّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 فيه ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر بين الناس ليعتبروا فأبوا إلا الكفور، وبينهم متعلقان بصرفناه وليذكروا اللام للتعليل ويذكروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام فأبى أكثر الناس الفاء عاطفة والجملة عطف على ما تقدم وإلا أداة حصر وكفورا مفعول به أو مفعول مطلق. (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) الواو عاطفة ولو شرطية وشئنا فعل وفاعل ومفعول المشيئة محذوف وقد تقدم انه يكثر بعد فعل المشيئة واللام واقعة في جواب لو وجملة بعثنا لا محل لها وفي كل قرية متعلقان ببعثنا ونذيرا مفعول به أي ولكننا قصرنا الأمر عليك وأنطناه بك وحدك ليكون لك فضل إظهاره والتمرس بأعبائه. (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) الفاء الفصيحة ولا ناهية وتطع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت والكافرين مفعول به أي فلا تسايرهم فيما يريدونك عليه ولا تأخذك هوادة أولين، وجاهدهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وبه متعلقان بجاهدهم والضمير للقرآن واتل عليهم دائما زواجره وأوامره ونواذره، وجهادا مفعول مطلق وكبيرا صفة. (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) الواو عاطفة والكلام معطوف على ما تقدم ليتساوق ذكر الدلائل الخمسة على توحيده وهذا هو الدليل الرابع. وهو مبتدأ والذي خبره وجملة مرج البحرين صلة وجملة هذا عذب استئنافية أو مقولا لقول محذوف في موضع الحال أي مقولا فيهما وهذا مبتدأ وعذب خبره وفرات خبر ثان وهذا ملح أجاج عطف على ما تقدم. (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) عطف على مرج داخل في حيز الصلة وجعل فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وبينهما ظرف متعلق بمحذوف في موضع المفعول الثاني لجعل وبرزخا مفعول به الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 أول وحجرا محجورا عطف على برزخا وقيل منصوبين بقول مقدر وسيأتي تقرير ذلك في باب البلاغة. (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) عطف على ما تقدم وقد ذكر فيه الدليل الخامس ومن الماء جار ومجرور متعلقان بخلق وبشرا مفعول به، فجعله الفاء عاطفة وجعله فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول ونسبا مفعول ثان وصهرا عطف على نسبا والواو استئنافية وكان فعل ماض ناقص وربك اسمها وقديرا خبرها. (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ) الواو استئنافية وجملة يعبدون استئنافية مسوقة للشروع في تقبيح جنوح المشركين الى عبادة الأوثان بعد أن أورد الدلائل الخمسة على التوحيد، ومن دون الله حال وما مفعول به وجملة لا ينفعهم صلة وجملة ولا يضرهم عطف على جملة لا ينفعهم. (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) الواو عاطفة وكان الكافر كان واسمها وعلى ربه متعلقان بظهيرا وظهيرا خبر كان أي معينا للشيطان. (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) كلام مستأنف مسوق لتقرير حال رسوله صلى الله عليه وسلم وما نافية وأرسلناك فعل ماض وفاعل ومفعول به وإلا أداة حصر ومبشرا حال فالاستثناء من أعم الأحوال ونذيرا عطف على مبشرا. (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) قل فعل أمر وجملة ما أسألكم مقول القول وعليه حال لأنه كان في الأصل صفة لأجر وتقدم عليه ومن حرف جر زائد وأجر مجرور لفظا في محل نصب مفعول به لأسألكم. (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا) إلا أداة استثناء ومن شاء مستثنى منقطع لأنه من غير الجنس أي لا أطلب منكم أجرا لنفسي لكن من شاء أن ينفق أمواله في سبيل الله ولوجهه خالصا فليفعل، وأن وما في حيزها مفعول المشيئة والى ربه في موضع المفعول الثاني ليتخذ وسبيلا مفعول به أول ليتخذ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 31 البلاغة: الاستعارة التصريحية في قوله «مرج البحرين» فقد شبه بهما الماءين الكثيرين الواسعين، وحجرا محجورا هي كلمة تقال عند التعوذ كما أسلفنا في هذه السورة، ولكنهما هنا تقالان على سبيل المجاز كأن كل واحد من البحرين يتعوذ من الآخر ويقول له حجرا محجورا، فإعراب حجرا محجورا مفعولين للقول المحذوف جيد للغاية من الناحية البيانية. وسيأتي قوله «بينهما برزخ لا يبغيان» في سورة الرحمن فقد شبههما كما قلنا بطائفتين متعاديتين تريد كل منهما الإيقاع بالأخرى وتتربص بها الدوائر وتنتهن السوانح والفرص، ولكنها عند ما تحصل على ما تريد تمتنع من البغي، فجعل المعنى المستعار كاللفظ المقول، وهذا من أبلغ القول وأبينه وأكثره تجسيدا وملاءمة للمعنى المراد. [سورة الفرقان (25) : الآيات 58 الى 60] وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) الإعراب: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) الواو عاطفة على ما تقدم والآية متصلة بقوله «وكان الكافر على ربه ظهيرا» فإنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 لما بيّن أن الكفار متظاهرون على إيذائه أمره أن يتوكل عليه. وتوكل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعلى الحي متعلقان بتوكل والذي صفة وجملة ولا يموت صلة وسبح عطف على توكل وبحمده متعلقان بمحذوف حال أي متلبسا بحمده. (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) الواو حرف عطف وكفى فعل ماض والباء حرف جر زائد والهاء مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل وبذنوب متعلقان بخبيرا وخبيرا تمييز أو حال. (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) الذي نعت أو بدل من قوله «به» أو مبتدأ وجملة خلق السموات والأرض صلة وما بينهما عطف على السموات والظرف متعلق بمحذوف صلة وفي ستة أيام متعلقان بخلق. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) ثم حرف عطف واستوى عطف على خلق وعلى العرش متعلقان به والرحمن خبر الذي أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو الرحمن، فاسأل الفاء الفصيحة واسأل فعل أمر وبه متعلقان بخبيرا وخبيرا مفعول به ويجوز أن تكون الباء بمعنى عن والجار والمجرور متعلقان بقوله فاسأل. ومنه قول الشاعر: فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب وقول عنترة: هلا سألت الخيل يا ابنة مالك ... إن كنت جاهلة بما لم تعلمي (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) الواو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة قيل مجرورة بإضافة الظرف إليها ولهم متعلقان بقيل وجملة اسجدوا للرحمن مقول القول وجملة قالوا جواب شرط غير جازم لا محل لها والواو زائدة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 وما الرحمن ما اسم استفهام خبر مقدم والرحمن مبتدأ مؤخر أو بالعكس ويجوز أن يكون سؤالا عن المسمى به أو عن معناه. (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً) الهمزة للاستفهام الانكاري ونسجد فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ولما متعلقان بنسجد أي كيف سجد لما لا نعرفه، وجملة تأمرنا صلة ويجوز أن تكون ما مصدرية أي للسجد من أجل أمرك وزادهم فعل وفاعل يعود على القول والهاء مفعول به ونفورا مفعول به ثان أو تمييز. البلاغة: في قوله «ثم استوى على العرش» استعارة مكنية ويسميها القدامى تخييلية، فالمستعار الاستواء والمستعار منه كل جسم مستو والمستعار له الحق عز وجلّ ليتخيل السامع عند سماع هذه اللفظة ملكا فرغ من ترتيب ممالكه وتشييد ملكه وجميع ما تحتاج إليه رعاياه وجنده من عمارة بلاده وتدبير أحوال عباده، استوى على سرير ملكه استيلاء عظمة، فيقيس السامع ما غاب عن حسه من أمر الإلهية على ما هو متخيله من أمر المملكة الدنيوية عند سماع هذا الكلام، ولهذا لا يقع ذكر الاستواء على العرش إلا بعد الإخبار بالفراغ من خلق السموات والأرض وما بينهما وإن لم يكن ثم سرير منصوب ولا جلوس محسوس ولا استواء على ما يدل عليه الظاهر من تعريف هيئة مخصوصة. فائدة: في الاستواء مذهبان أحدهما مذهب السلف وهو لا يفسر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 الاستواء بل يقول انه استواء يليق به وثانيهما مذهب الخلف وهو يفسره بالاستيلاء عليه بالتصرف فيه وفي سائر المخلوقات. الفوائد: قوله في ستة أيام: يعني في مقدارها هذه المدة والظاهر أنها من أيام الدنيا وأولها الأحد وآخرها يوم الجمعة وقد كان لها أسماء عندهم وهي: الأحد: أوهل، والأثنين: أوهن، والثلاثاء: جبار، والأربعاء، دبار، والخميس: مؤنس، والجمعة: عروبة، والسبت: شيار. [سورة الفرقان (25) : الآيات 61 الى 66] تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) اللغة: (بُرُوجاً) : أي منازل للكواكب السيارة وهي اثنا عشر، وأصل البروج القصور العالية، سميت هذه المنازل بروجا لأنها للكواكب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 السيارة بمثابة المنازل الرفيعة التي هي القصور لسكانها، هذا ومنطقة البروج هي منطقة سماوية تحتوي على المدارات التي تجتازها الكواكب السيارة حول الشمس، وانحراف هذه المدارات بالنسبة الى بعضها يختلف قلة وكثرة ولا سيما مدارات الكواكب التي لا تشاهد إلا بالآلة العظيمة الفلكية وهذه المنطقة تقسمها الدائرة الكسوفية المسماة بمدار الأرض الى قسمين متساويين عرض كل منهما تقريبا ثماني درجات وينتهيان بدائرتين موازيتين لتلك الدائرة وهي منحرفة عن دائرة الاستواء التي تقسمها الى قسمين يقربان للتساوي، وقد قسمت في سالف الأزمان الى اثني عشر قسما تسمى صورا وكل قسم منها ثلاثون درجة، ومن سير الشمس بحسب الظاهر في هذه الأقسام تحصل الفصول ومددها، وذلك أن هذا الكوكب بتركه النصف الجنوبي من الكرة ودخوله في نصفها الشمالي تفتتح السنة الشمسية، أعني بمجرد دخوله في برج الحمل، وفي ذلك الوقت يبتدىء الربيع الذي يحيا به الكون ويستمر هذا الفصل مدة اجتياز الشمس البرج المذكور وبرج الثور والجوزاء ثم تدخل على التعاقب في السرطان والأسد والسنبلة وهذه تسمى بفصل الصيف فينبعث إلينا مدة إقامتها في تلك البروج أشعة شديدة الحرارة تنضج الحبوب التي تحصد زمن الصيف، ثم بعد بلوغها هذا الارتفاع تنزل من جهة النصف الجنوبي فتجتاز على التوالي الميزان والعقرب والقوس ويقال لهذه البروج الثلاثة فصل الخريف، ثم يدخل الشتاء بثلجه وبرده وتكون الشمس حينئذ أبعد نقطة عنا ولا ينبعث منها إلينا إلا أشعة مائلة فتقطع بروجه الثلاثة أعني الجدي والدلو والحوت ثم ترجع الى محلها الأول لتعيد الحياة والحركة الى كثير من الكائنات التي كانت كأنها خلية عنها بسبب بعدها عنها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 فقد عرفت من ذلك أن الصور الاثني عشرة لمنطقة البروج تنقسم على الفصول الأربعة، فللربيع الحمل والثور والجوزاء، وللصيف السرطان والأسد والسنبلة، وللخريف الميزان والعقرب والقوس، وللشتاء الجدي والساكب والحوت. (سِراجاً) : السراج الشمس كقوله تعالى «وجعل الشمس سراجا» . (خِلْفَةً) : أي يخلف كل واحد منهما الآخر فالخلفة مصدر هيئة. وعبارة القرطبي: قال أبو عبيدة: الخلفة كل شيء بعد شيء فكل واحد من الليل والنهار يخلف صاحبه، ويقال للمبطون: أصابه خلفة أي قيام وقعود يخلف هذا ذاك، ومنه خلفة النبات وهو ورق يخرج بعد الورق الأول في الصعيد. وقال مجاهد: خلفة من الخلاف هذا أبيض وهذا أسود والأول أقوى، وقيل يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان، وقيل هو من باب حذف المضاف أي جعل الليل والنهار ذوي خلفة أي اختلاف لمن أراد أن يذكر أي يتذكر فيعلم أن الله لم يجعلهما كذلك عبثا فيعتبر في مصنوعات الله تعالى ويشكر الله على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم، وقال عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن معناه من فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار ومن فاته بالنهار أدركه بالليل. (هَوْناً) : الهون: الرفق والسكينة، وهو مصدر وضع موضع الصفة للمبالغة وقد مرت له نظائر، ومنه الحديث: «أحبب حبيبك هونا ما» وقوله «المؤمنون هينون لينون» ومن أمثالهم «إذا عز أخوك فهن» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 37 (غَراماً) : هلاكا وخسرانا وعذابا لازما، وفي المختار: «الغرام: الشر الدائم والعذاب» قال بشر بن أبي خازم: ويوم النسار ويوم الفجا .... ركانا عذابا وكان غراما والنسار ماء لبني عامر والفجار ماء لبني تميم، وقد جرت فيهما هاتان الواقعتان وكانتا عذابا على أهلهما وهلاكا دائما. الإعراب: (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) تبارك فعل ماض جامد والذي فاعله وجملة جعل صلة وفي السماء متعلقان بجعل وبروجا مفعول به وما بعده عطف عليه ويجوز أن تجعل جعل متعدية لاثنين بمعنى الجعل أي التصيير. (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) كلام معطوف على ما قبله وهو مبتدأ والذي خبره وجملة جعل الليل والنهار صلة وخلفة مفعول به ثان لجعل إن كانت بمعنى صير أو حال إن كانت بمعنى خلق وأفرد لأن المعنى يخلف أحدهما الآخر فلا يتحقق هذا إلا منهما، قيل ولا بد من تقدير مضاف أي ذوي خلفة كما تقدم في باب اللغة، ولمن صفة لخلفة وجملة أراد صلة من، وأن يذكر مصدر مؤول في محل نصب على المفعولية لأراد ومفعول يذكر محذوف أي ما فاته في أحدهما وأو حرف عطف وأراد شكورا عطف على أراد الأولى. (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) كلام مستأنف مسوق لبيان الأوصاف التي تميز بها عباد الرحمن المخلصون بعد بيان حال المنافقين وقد وصفهم بثمانية موصولات. وعباد مبتدأ والرحمن مضاف إليه وما بعده صفات ويجوز أن تكون الموصولات الثمانية أوصافا، وخبر عباد في آخر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 38 السورة وهو قوله تعالى «أولئك يجزون الغرفة» كأنه قال وعباد الرحمن الموصوفون بهذه الصفات أولئك يجزون ولعل الأول أولى لبعده عن التعسف، والذين خبر عباد أو صفة وجملة يمشون صلة وعلى الأرض متعلقان بيمشون وهونا مصدر وضع في موضع الحال أو نصب على المفعولية المطلقة كأنه وصف للمصدر أو ملاقيه في المعنى أي مشيا هونا. (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) الواو عاطفة والجملة معطوفة على ما قبلها فهي من حيز الصلة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة خاطبهم الجاهلون في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وسلاما مفعول مطلق أي قولا يسلمون فيه من الإثم، وستأتي مناقشة طريفة بين سيبويه والمبرد حول هذا المصدر في باب الفوائد. (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) والذين عطف على الموصول الأول وجملة يبيتون صلة والواو اسم يبيتون ويضعف جعلها تامة أي يدخلون في البيات كما سيأتي في باب الفوائد، ولربهم متعلقان بسجدا وسجدا خبر يبيتون أو حال على جعلها تامة، وقياما عطف على سجدا، وقدم السجود على الفيام وان كان القيام قبله في الفعل لمراعاة الفواصل، وسجدا جمع ساجد وهو اسم فاعل ولذلك تعلق الجار والمجرور به وكذلك قياما جمع قائم. (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ) والذين عطف أيضا وجملة يقولون صلة وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء واصرف فعل أمر معناه الدعاء وعذاب جهنم مفعول اصرف والجملة مقول القول. (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) الجملة تعليلية لا محل لها فهي تعليل لقولهم ربنا اصرف عنا عذاب جهنم، وان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان ضمير مستتر تقديره هو وغراما خبر كان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) الجملة تعليلية أيضا وحذف العاطف بينهما فالجملتان من جملة مقولهم، وان واسمها وجملة ساءت خبرها وفاعل ساءت ضمير مستتر مبهم مفسر بنكرة ومستقرا تمييز ومقاما عطف على مستقرا والمخصوص بالذم محذوف تقديره هي، وقد أجاز المعربون كالزمخشري والسمين أن تكون ساءت بمعنى أحزنت فلا نكون من أفعال الذم بل تكون فعلا متصرفا ناصبا للمفعول به وهو هنا محذوف أي وأحزنت أصحابها وداخليها، عندئذ يجوز في مستقرا أن يكون تمييزا وأن يكون حالا. الفوائد: 1- مناقشة حول «سلاما» : قال القرطبي في تفسيره: «قال النحاس: ولا نعلم لسيبويه كلاما في معنى الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية قال سيبويه: لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على الكفار لكنه على معنى قوله سلمنا منكم ولا خير بيننا وبينكم ولا شر، وقال المبرد كان ينبغي أن يقول: لم يؤمر المسلمون يومئذ بحربهم ثم أمروا بحربهم، وقال أي محمد بن يزيد المبرد: أخطأ سيبويه في هذا وأساء العبارة، وقال ابن العربي: لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ولا نهوا عن ذلك بل أمروا بالصفح والهجر الجميل وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على أنديتهم ويحييهم ويدانيهم ولا يداهنهم» . قلت: ولا حاجة الى ادعاء النسخ لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة وأصون للعرض وأوفر له. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 40 2- فعل بات: قال في القاموس: «وبات يفعل كذا يبيت ويبات بيتا وبياتا ومبيتا وبيتوتة أي يفعله ليلا وليس من النوم» ومعنى قوله: «وليس من النوم» أي وليس الفعل من النوم فإذا نام ليلا لا يصح أن يقال بات ينام، ومنه قول الشريف الرضي: أتبيت ريان الجفون من الكرى ... وأبيت منك بليلة الملسوع ذكر ابن هشام في مغني اللبيب عن رجل كبير من الفقهاء أنه استشكل قول الشريف الرضي الآنف الذكر وقال كيف ضم التاء من تبيت وهي للمخاطب لا للمتكلم وفتحها من أبيت وهو للمتكلم؟ فبينت للحاكي أن الفعلين مضارعان وأن التاء فيهما لام الكلمة وان الخطاب في الأول مستفاد من الهمزة والأول مرفوع لحلوله محل الاسم والثاني منصوب بأن مضمرة بعد واو المصاحبة على حد قول الحطيئة: ألم أك جاركم ويكون بيني ... وبينكم المودة والإخاء هذا ونعود إلى بيت الشريف فنقول: هو من أرق الشعر وأجمله وفيه استعارة تبعية حيث شبه امتلاء جفون المحبوب من النوم بالري وهو امتلاء الجوف بالماء المذهب للأوار بجامع حصول الراحة في كل منهما، واستعير اسم المشبه به للمشبه، واشتق من الري ريان بمعنى ممتلىء الجفون، وفيه أيضا كناية وذلك أنه كنى بليلة الملسوع عن ليلة السهر لأن السهر والأرق من لوازم ذلك، وفيه أيضا طباق بين النوم المستفاد من الصدر صريحا والسهر المستفاد من العجز كناية، فقد استكمل البيت ثلاثة فنون من البيان فإذا أضفت إلى ذلك خروج الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 الاستفهام عن معناه الأصلي إلى البث والشكوى فقد استكمل أربعة فنون يضاف إليها خامس وهو فن حسن النسق وسلاسة الأسلوب. وهو من أبيات نذكر منها الباقة التالية: يا صاحب القلب الصحيح أما اشتفى ... ألم الجوى من قلبي المصدوع هيهات لا تتكلفنّ لي الهوى ... فضح التطبع شيمة المطبوع كم قد نصبت لك الحبائل طامعا ... فنجوت بعد تعرض لوقوع وتركتني ظمآن أشرب غلتي ... أسفا على ذاك اللمي الممنوع كم ليلة جرّ عته في طولها ... غصص الملام ومؤلم التقريع أبكي ويبسم والدجى ما بيننا ... حتى أضاء بثغره ودموعي قمر إذا استعجلته بعتابه ... لبس الغروب ولم يعد لطلوع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 لو حيث يستمع السرار وفقتما ... لعجبتما من عزه وخ ضوعي أهون علي إذا امتلأت من الكرى ... أني أبيت بليلة الملسوع وتكون بات تامة مكتفية بمرفوعها عن منصوبها إذا كانت بمعنى عرس وهو النزول آخر الليل نحو قول ابن عمر رضي الله عنه: «أما رسول الله فقد بات بمنى» أي عرس بها، وقال امرؤ القيس بن عانس بالنون وهو غير امرؤ القيس بن حجر الكندي: وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد أي وعرس، والعائر بالعين المهملة اسم فاعل من العور وهو القذى في العين تدمع له، وقيل الرمد والأرمد صفة له، وقالوا بات بالقوم أي نزل بهم ليلا. [سورة الفرقان (25) : الآيات 67 الى 71] وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 43 اللغة: (يَقْتُرُوا) : في المختار «وقتر على عياله أي ضيق عليهم في النفقة وبابه ضرب ودخل وقتر تقتيرا وأقتر أيضا ثلاث لغات» وقد قرئ بفتح أوله وضمه. (قَواماً) : بفتح القاف وكسرها وقد قرئ بهما والقوام بالفتح العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين، ونظير القوام من الاستقامة السواء من الاستواء، والقوام بالكسر: ما يقام به الشيء يقال أنت قوامنا بمعنى ما تقام به الحاجة لا يزيد عنها ولا ينقص. (أَثاماً) : الأثام كالوبال والنكال وزنا ومعنى: جزاء الإثم الذي هو الذنب نفسه، قال: جزى الله ابن عروة حيث أمسى ... عقوقا والعقوق له أثام وفي المختار: «أثمه الله في كذا بالقصر يأثمه بضم الثاء وكسرها أثاما عده عليه إثما فهو مأثوم، وقال الفراء: أثمه الله يأثمه اثما وأثاما جازاه جزاء الإثم فهو مأثوم أي مجزي جزاء إثمه» . الإعراب: (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) والذين عطف على ما تقدم وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة أنفقوا في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة لم يسرفوا ولم يقتروا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والواو عاطفة أو حالية وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر أي وكان الانفاق، وبين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 44 ظرف متعلق بمحذوف حال لأنه كان صفة لقواما وذلك مضاف إليه وقواما خبر كان. قال الزمخشري: «والمنصوبان أعني بين ذلك قواما جائز أن يكونا خبرين معا، وأن يجعل بين ذلك لغوا وقواما مستقرا، وان يكون الظرف خبرا وقواما حالا مؤكدة» . (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) والذين عطف على ما تقدم أيضا وجملة لا يدعون صلة ومع الله متعلق بيدعون وإله مفعول به وآخر صفة. (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) ولا يقتلون عطف على ولا يدعون والنفس مفعول به والتي صفة وجملة حرم الله صلة وإلا أداة حصر وبالحق متعلقان بيقتلون أو بمحذوف حال فالاستثناء من أعم الأحوال أي إلا مستحقين، ولا يزنون معطوفة. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويفعل فعل الشرط وفاعله ضمير مستتر تقديره هو يعود على من وذلك مفعول به ويلق جواب الشرط وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وأثاما مفعول به ويضاعف بدل من يلق لأنهما في معنى واحد وسيأتي في باب الفوائد بحث إبدال الفعل من الفعل لأن مضاعفة العذاب لقي الآثام، وله متعلقان بيضاعف والعذاب نائب فاعل ويوم القيامة ظرف متعلق بيضاعف أيضا ويخلد عطف على يضاعف وفيه متعلقان بيخلد ومهانا حال من فاعل يخلد. (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً) إلا أداة استثناء ومن استثناء من الجنس في موضع نصب وجملة تاب صلة وآمن عطف على تاب وكذلك عمل وعملا مفعول مطلق أو مفعول به وصالحا صفة. (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) الفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وأولئك مبتدأ والإشارة الى الموصول وهو من، والجمع باعتبار معناها، وجملة يبدل خبر أولئك والله فاعل وسيئاتهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 45 مفعول، وحسنات مفعول ثان ليبدل أو نصب على نزع الخافض وكان الواو استئنافية وكان واسمها وغفورا خبرها الأول ورحيما خبرها الثاني. (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً) الواو عاطفة أو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ وتاب فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وعمل عطف على تاب وصالحا صفة لمفعول مطلق أو لمفعول به محذوف أي عملا صالحا، فإنه الفاء رابطة للجواب لأنه جملة اسمية وان واسمها وجملة يتوب خبر والى الله جار ومجرور متعلقان بيتوب ومتابا مفعول مطلق لأنه مصدر ميمي. الفوائد: إبدال الفعل من الفعل: يبدل كل من الاسم والفعل والجملة من مثله وينطبق عليه أحكام البدل فيكون بدل كل من كل أو بدلا مطابقا كقوله تعالى «ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف» فيضاعف بدل من يلق بدل كل من كل أو بدلا مطابقا، قال الخليل لأن مضاعفة العذاب هي لقي الآثام، وبدل البعض نحو: إن تصل تسجد لله يرحمك، فتسجد بدل من تصل بدل بعض من كل، وبدل الاشتمال كقوله: إن عليّ الله أن تبايعا ... تؤخذ كرها أو تجيء طائعا لأن الأخذ كرها والمجيء طائعا من صفات المبايعة والله منصوب على نزع الخافض أي والله، وأن تبايعا اسم إن والألف في تبايعا للإطلاق وهو من بايع أي عاهد وعلي متعلق بالخبر وتؤخذ وما عطف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 46 عليه بدل اشتمال من حيث المعنى، أما ابدال الجملة فيطرد في البدل المطابق نحو قعدت جلست في دار زيد. وفي بدل البعض من الكل كقوله تعالى: «أمدكم بما تعلمون: أمدكم بأنعام وبنين» فجملة أمدكم الثانية أخص من الأولى باعتبار متعلقيهما فتكون داخلة في الأولى لأن «ما تعلمون» تشمل الأنعام وغيرها، وبدل الاشتمال كقوله: أقول له ارحل لا تقيمنّ عندنا ... وإلا فكن في السر والجهر مسلما ف «لا تقيمن عندنا» بدل اشتمال من «ارحل» لما بينهما من المناسبة اللزومية وليس توكيدا له لاختلاف لفظيهما ولا بدل بعض لعدم دخوله في الأول ولا بدل كل من كل لعدم الاعتداد به كما تقدم. وقد تبدل الجملة من المفرد بدل كل كقول الفرزدق: إلى الله أشكو بالمدينة حاجة ... وبالشام أخرى كيف يلتقيان فقد أبدل جملة كيف يلتقيان من حاجة وأخرى وهما مفردان، أما ابدال المفرد من الجملة فقد صرح أبو حيان في البحر بأن المفرد يبدل من الجملة كقوله تعالى «ولم يجعل له عوجا قيما» فقيما بدل من جملة لم يجعل له عوجا لأنها في معنى المفرد أي جعله مستقيما. [سورة الفرقان (25) : الآيات 72 الى 77] وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 47 الإعراب: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) والذين عطف على الموصولات السابقة وجملة لا يشهدون صلة، والزور: إن كانت يشهدون بمعنى الشهادة المعلومة فيكون الزور منصوبا بنزع الخافض أي بالزور وإن كانت يشهدون بمعنى يحضرون فيكون الزور مفعولا به، وإذا الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة مروا مجرورة بإضافة الظرف إليها ومروا فعل وفاعل وباللغو متعلقان بمروا وجملة مروا الثانية لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وكراما حال أي ربئوا بأنفسهم عن الوقوف عليه والاسهام فيه. (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) جملة لم يخروا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعليها متعلقان بيخروا وسيأتي معنى هذا النفي في باب البلاغة وصما حال وعميانا حال ثانية. (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) عطف على ما تقدم وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وهب فعل أمر فيه معنى الدعاء ولنا متعلقان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 48 بهب ومن أزواجنا حال وسيأتي بحث هذا التجريد في باب البلاغة وقرة أعين مفعول هب وتقدم أن قرة العين سرورها والمراد به ما يحصل به السرور وسيأتي سر تقليل الأعين في باب البلاغة، واجعلنا فعل أمر متضمن معنى الدعاء وفاعله مستتر ومفعول أول وللمتقين حال لأنه كان في الأصل صفة لإماما وإماما مفعول به ثان وفيه أربعة أوجه: 1- انه مصدر مثل قيام وصيام فلم يجمع لذلك والتقدير ذوي امام. 2- انه جمع إمامة مثل قلادة وقلاد. 3- هو جمع آم من أم يؤمّ. 4- انه واحد اكتفى به عن أئمة كما قال تعالى «نخرجكم طفلا» . (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) الجملة حالية من المتقين أو خبر عباد الرحمن على أحد القولين وأولئك مبتدأ وجملة يجزون الغرفة خبره والغرفة مفعول به ثان ليجزون والواو نائب فاعل وهو المفعول الأول، وبما متعلقان بيجزون وما مصدرية والباء للسببية أي بسبب صبرهم على المشاق في الطاعات والابتعاد عن الشهوات ومكابدة المجاهدات ويلقون عطف على يجزون وفيها حال وتحية مفعول به ثان ليلقون لأنه مبني للمجهول والواو نائب فاعل وسلاما عطف على تحية. (خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) خالدين حال وفيها متعلقان بخالدين وحسنت فعل ماض والفاعل مستتر يعود على الغرفة ومستقرا تمييز ومقاما عطف على مستقرا وجملة حسنت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 49 حال ثانية من الغرفة. (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ) ما اسم استفهام في محل نصب مفعول مطلق ويعبأ فعل مضارع وبكم متعلقان بيعبأ وربي فاعل أي انه يكترث بكم ويعبأ بكم ويعلي ذكركم لأجل عبادتكم ولولا عبادتكم لم تكونوا شيئا يؤبه له، ويجوز أن تكون ما نافية ولولا حرف امتناع لوجود ودعاؤكم مبتدأ محذوف الخبر وجوبا وجواب لولا محذوف كما قدرناه سابقا ودعاؤكم مصدر أضيف لفاعله والمفعول محذوف أي إياه. (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) الفاء الفصيحة أي إني إذا أعلمتكم أني لا أعتد بكم ولا أقيم لكم وزنا إلا لأجل عبادتكم فقد خالفتم بتكذيبكم حكمي فسوف تتحملون مسؤولية تكذيبكم. ويكون فعل مضارع ناقص واسمها هو أي التكذيب ولزاما خبرها وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل أي ملازما لكم. البلاغة: 1- النفي والإثبات: في قوله تعالى «لم يخرّوا عليها صما وعميانا» نفي واثبات، فقد أثبت الخرور لأنهم طالما خروا ساجدين خاشعين في هدوء الليل ووسط الدجى ولكنهم إن خروا ساجدين سلمت لهم أبصارهم وآذانهم فلم يبصروا إلا مرائي الهيبة وتعاجيب الألوهية وأنوار السنا الساطعة، ولم يسمعوا إلا الآيات تتردد في آذانهم وتهجس في مخيلاتهم فإذا الورى آي وعبر، وإذا الحوبة لا عين ولا أثر، تقول ما يلقاني زيد ماشيا إنما هو نفي للمشي لا للقاء وعبارة ابن قتيبة: «المعنى لم يتغافلوا عنها كأنهم صم لم يسمعوها وعمي لم يبصروها» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 2- التقريع للكافرين: وفيها أيضا تنديد وتقريع للكافرين لأنهم صم بكم عمي لا ينتفعون بما يقرءون، ولا يعتبرون بما يشاهدون، ولا يتجاوز آذانهم ما يسمعون 3- التنكير والتقليل: وفي قوله تعالى «قرة أعين» نكتتان الأولى التنكير، وإنما جنح إليه لأجل تنكير القرة، والمضاف لا يمكن تنكيره إلا بتنكير المضاف إليه ليكون السرور غير متناه ولا محدود، وإنما قلل الأعين أي جمع جمع القلة لأن أعين المتقين قلة بالإضافة الى غيرهم، يدل على ذلك قوله «وقليل من عبادي الشكور» وهناك وجه آخر لعله أبلغ مما تقدم وهو أن المحكي كلام كل أحد من المتقين فكأنه قال: يقول كل واحد من المتقين اجعل لنا من ذرياتنا قرة أعين، فإن المتقين وإن كانوا بالإضافة إلى غيرهم قليلا إلا أنهم في أنفسهم على كثرة من العدد، والمعتبر في إطلاق جمع القلة أن يكون المجموع قليلا في نفسه لا بالنسبة والإضافة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 51 (26) سورة الشّعراء مكيّة وآياتها سبع وعشرون ومائتان [سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) اللغة: (باخِعٌ) : تقدم تفسير هذه الكلمة، والبخع أن يبلغ بالذبح البخاع بالباء وهو عرق مستبطن الفقار وذلك أقصى حد للذابح، وفي المصباح: «وبخع نفسه بخعا من باب نفع قتلها من وجد أو غيظ وبخع لي بالحق بخوعا انقاد وبذله» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 52 الإعراب: (طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) طسم تقدم إعرابها والحديث عن فواتح السور، وتلك مبتدأ وآيات الكتاب خبر والمبين صفة لكتاب. (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) لعل للاشفاق أي فالترجي هنا بمعنى الأمر أي ارحم نفسك وارفق بها، والكاف اسمها وباخع خبرها ونفسك مفعول به لباخع وأن وما في حيزها مفعول لأجله أي خيفة أن لا يؤمنوا أو لامتناع إيمانهم، ومؤمنين خبر يكونوا. (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) كلام مستأنف مسوق لتعليل الأمر بإشفاقه على نفسه من الاسترسال في التحسّر والغم على عدم إيمانهم، وان شرطية ونشأ فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره نحن ومفعول المشيئة محذوف لأنه مضمون الجواب أي إيمانهم وننزل جواب الشرط وعليهم متعلقان بننزل ومن السماء حال لأنه كان في الأصل صفة لآية والفاء حرف عطف وظلت فعل ماض ناقص معطوف على ننزل فهو مجزوم محلا ويجوز أن تكون الفاء استئنافية وظلت بمعنى المضارع أي تظل تدوم، وإليه جنح الجلال فيكون قد فسره بالمرفوع، وأعناقهم اسم ظلت ولها متعلقين بخاضعين وخاضعين خبر ظلت، وسيأتي سر المخالفة في العطف وسر مجيء خاضعين خبرا عن الأعناق في باب البلاغة. (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) الواو عاطفة وما نافية ويأتيهم فعل مضارع ومفعول به ومن حرف جر زائد وذكر مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه فاعل يأتيهم ومن الرحمن صفة لذكر ومحدث صفة ثانية أي تجدد انزاله وفق مقتضيات الأحوال وإلا أداة حصر وجملة كانوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 53 استثناء من أعم الأحوال فهي حالية وكان واسمها وعنه متعلقان بمعرضين ومعرضين خبر كانوا. (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الفاء الفصيحة كأنه قيل إذا شئت أن تعرف ماذا كان موقفهم من الذكر حين أعرضوا عنه وصدفوا عن التأمل فيه فقد كذبوا. وقد حرف تحقيق وكذبوا فعل ماض وفاعل فسيأتيهم عطف على ما تقدم للوعيد والتهديد ويأتيهم فعل مضارع ومفعول به وأنباء فاعل وما مضاف إليه وجملة كانوا صلة والواو اسم كان وبه متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون خبر كانوا. (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على مقدر وقد تقدم مثل هذا التعبير كثيرا ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل والرؤية هنا بصرية ولذلك تعدت بإلى والى الأرض متعلقان بيروا وكم خبرية في محل نصب مفعول أنبتنا وأنبتنا فعل ماض وفاعل ومن كل زوج تمييز كم الخبرية ويجوز أن يكون حالا كما ذكر أبو البقاء وكريم صفة لزوج، وأراد بالزوج الصنف من النبات والنوع وسيأتي مزيد بحث عنه في باب البلاغة. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآية اسم إن وما الواو حالية وما نافية وكان أكثرهم مؤمنين كان واسمها وخبرها أي سبق ذلك في علم الله، وقال سيبويه كان زائدة وسيأتي مزيد من هذا البحث في باب الفوائد. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) الواو استئنافية وان واسمها واللام المزحلقة وهو ضمير فصل أو مبتدأ والعزيز خبر إن أو خبر هو والجملة خبر إن والرحيم خبر ثان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 54 البلاغة: انطوت هذه الآيات على الكثير من فنون البلاغة ندرجها فيما يلي: 1- المخالفة في العطف: فقد خالف في العطف، فعطف «فظلت» على «ننزل» ولو قيل أنزلنا لكان صحيحا ولعله كان مما يقتضيه السياق ولكنه خولف لأن في عطف الماضي على المستقبل إشعارا بتحقيقه وأنه كائن لا محالة، لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعا، وله في القرآن نظائر سترد في مواضعها. 2- المجاز العقلي: المجاز العقلي في إسناد الخضوع للأعناق، فقد يقال كيف صح مجيء خاضعين خبرا عن الأعناق والخضوع من خصائص العقلاء، وقد كان أصل الكلام «فظلوا لها خاضعين» والسر في ذلك انه لما وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل خاضعين كما تقدم في قوله «لي ساجدين» وهناك أقوال أخرى أوصلها علماء البيان إلى سبعة نلخصها فيما يلي: آ- المراد الرؤساء كما قيل لهم وجوه وصدور. ب- انه على حذف مضاف أي فظل أصحاب الأعناق، ثم حذف وبقي الخبر على ما كان عليه قبل الحذف مراعاة للمحذوف. ج- انه لما أضيف الى العقلاء اكتسب منهم هذا الحكم كما يكتسب التأنيث بالاضافة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 55 د- ان الأعناق جمع عنق من الناس وهم الجماعة يقال جاءنا عنق من الناس أي فوج وليس المراد الجارحة المعلومة. هـ- إقحام الأعناق لبيان موضع الخضوع وترك الكلام على أصله. وما ذكره من أنها عوملت معاملة العقلاء لما أسند إليها ما يكون عادة من أفعال العقلاء على طريق المجاز العقلي. ز- انه لما أضاف الأعناق إلى المذكر وكانت الأعناق متصلة بهم في الخلقة والتكوين أجري عليها حكمهم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية، قال: ستكون لنا عليهم الدولة فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هو ان بعد عزة. 3- التتميم: بقوله «أولم يروا الى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم» فقد كان يكفي أن يقال كم أنبتنا فيها من زوج كريم وما معنى الجمع بين كم وكل والجواب أن كلّا إنما دخلت للإحاطة بأزواج النبات وكم دلت على أن هذا المحاط مفرط بالكثرة، وبذلك تنبيه على تمام القدرة وكمالها، وهذا هو مقتضى التتميم الذي تقدمت الاشارة إليه، وتعريفه: أن تأتي في الكلام كلمة إذا طرحت من الكلام نقص معناه في ذاته أو في صفاته ولفظه تام كما أن المقصود هنا في الآية آحاد الأزواج ويدل عليه أنه لو أسقطت «كل» فقلت: انظروا الى الأرض كم أنبت الله فيها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 56 من الصنف الفلاني لكنت مكنيا عن آحاد ذلك الصنف المشار اليه، فإذا أدخلت كلّا فقد أديت بتكريره آحاد كل صنف لا آحاد صنف معين. 4- التتميم أيضا: وتمم كذلك بوصفه الزوج بالكريم وذلك لأمرين: آ- ان النبات- كما هو معلوم- نوعان نافع وضار فدل بكلمة كريم أنه يقصد النوع النافع فذكر كثرة من أنبت في الأرض من جميع أصناف النبات النافع وخلى ذكر الضار. ب- أنه يقصد كلا النوعين النافع والضار ويصفهما جميعا بالكرم تنبيها على أنه ما خلق شيئا إلا لفائدة وربما خفيت عليكم أسرارها وصعب عليكم اكتناهها ولكنه تعالى عالم بما تجهلون. [سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 17] وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 57 الإعراب: (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى: أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) كلام مستأنف مسوق للشروع في سرد سبع قصص هي على التوالي: قصة موسى وقصة ابراهيم وقصة نوح وقصة هود وقصة صالح وقصة لوط وقصة شعيب. والظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر يا محمد لقومك عساهم يتعظون بها ويعتبرون بما آل اليه مصير أولئك الأقوام الذين جنحوا الى المكابرة والتعنت ولجئوا الى اللجاج والسفسطة التي لا طائل تحتها، وجملة نادى في محل جر بإضافة الظرف إليها وربك فاعل نادى وموسى مفعول به وأن ائت يجوز في «أن» أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية وهي مع مدخولها في موضع نصب بنزع الخافض وائت فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت والقوم مفعول به والظالمين صفة. (قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ) قوم فرعون بدل من القوم الظالمين أو عطف بيان ولعله أولى لأنهما عبارتان تعتقبان على مدلول واحد، ولما كان القوم الظالمين يوهم الاشتراك أتى عطف البيان بإزالته، والهمزة للاستفهام الانكاري ولا نافية ويتقون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة استئنافية والمقصود منها التعجب أي تعجب من عدم تقواهم، ولا بد من تقدير معنى التعجب لأن الاستفهام الإنكاري معناه النفي ولا نافية ودخول النفي على النفي اثبات فيئول المعنى الى أنهم اتقوا الله وذلك فاسد، ويحتمل أن تكون الجملة حالية من الضمير الذي تحمله اسم الفاعل وهو الظالمون أي يظلمون غير متقين، واختار بعض المعربين أن تكون ألا للعرض وآخرون اختاروا أنها للتنبيه. (قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) رب منادى مضاف حذف منه حرف النداء وإني إن واسمها وجملة أخاف خبرها وأن وما في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 58 حيزها مفعول أخاف وحذفت ياء المتكلم من يكذبوني لمراعاة الفواصل (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) الواو عاطفة ويضيق معطوف على خبر إن أي على أخاف فهو مرفوع مثله ويجوز عطفه على يكذبون فهو منصوب مثله وقد قرئ به والفرق بين المعنيين أن الرفع يفيد فيه ثلاث علل أو معاذير وهي: خوف التكذيب، وضيق الصدر، وامتناع انطلاق اللسان، وأما الرفع فيفيد أن خوفه متعلق بهذه الثلاثة، وصدري فاعل ولا ينطلق لساني عطف على ما قبله لحبسة في لسانه، فأرسل الفاء الفصيحة وأرسل فعل أمر معناه الالتماس والى هارون متعلقان بأرسل وليس مراد موسى الامتناع من أداء الرسالة أو التلكؤ فيها بل أراد أن يظهر عجزه عن الاضطلاع بهذا العبء الخطير وطلب المعونة من ربه بأن يعضده بأخيه حتى يتساندا ويتضافرا على تنفيذ الأمر وتبليغ الرسالة. (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) عطف على ما تقدم ولهم خبر مقدم وعلي حال وذنب مبتدأ مؤخر وهو قتله القبطي الذي قيل إنه كان خباز فرعون، والمعنى لهم علي تبعة ذنب وهي قود ذلك القتيل فأخاف أن يقتلوني به فحذف المضاف أو سمى تبعة الذنب ذنبا كما سمى جزاء السيئة سيئة. (قالَ: كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) كلا حرف ردع نابت عن الفعل وهو ارتدع يا موسى ولذلك عطف عليها بالفاء من قوله فاذهبا، واذهبا فعل أمر وألف الاثنين فاعل وبآياتنا متعلقان باذهبا وجملة إنا معكم مستمعون تعليلية للأمر وإن واسمها ومستمعون خبرها والظرف متعلق بمحذوف حال أو خبر ثان أو بمستمعون نفسها ومفعول مستمعون محذوف أي ما يدور بينكما وبين فرعون وقومه، وفي هذا الكلام مجاز سيأتي ذكره في باب البلاغة. َأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) الفاء عاطفة وأتيا فرعون فعل أمر وفاعل ومفعول به فقولا عطف، وإنا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 59 ان واسمها أي إن كلا منا، ليطابق اسم ان خبرها ورسول خبرها ورب العالمين مضاف إليه وسيأتي في باب الفوائد مزيد من هذا التطابق. (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) الأرجح أن تكون أن هنا مصدرية لأنها مسبوقة بجملة فيها معنى القول وحروفه والمصدر المؤول في محل نصب بنزع الخافض، وأصر الزمخشري على أنها تفسيرية بمعنى أي وجعلها غير مسبوقة بقوله فقولا بل بما تضمنه لفظ الرسول من معنى الإرسال، تقول أرسلت إليك أن أفعل كذا لما في الإرسال من معنى القول كما في المناداة والكتابة ونحوهما، والظرف متعلق بأرسل وبني إسرائيل مفعول به. البلاغة: في قوله تعالى «إنا معكم مستمعون» مجاز معناه: إنا معكم نستمع ما يجري بينكم وبينه وأنا الناصر لكما عليه، فالاستماع قرينة للكلام المجازي لأن من سمع محاورة خصمين كان مستطيعا الحكم بينهما ومشايعة أيهما رآه أقرب الى الحق وأدنى من الصواب، فإذا اعترض معترض بأن الله تعالى مستمع حقيقة وسامع ولا يجوز اجراء المجاز عليه تعالى قلنا إن الاستماع يقتضي الإصغاء بالأذن كما الإبصار يتطلب تقليب الحدقتين من العين، وكل ذلك من خواص المحدثين. الفوائد: يجوز أن يكون الرسول بمعنى الرسالة فجازت التسوية فيه إذ وصف به بين الواحد والتثنية والجمع، كما يفعل بالصفة بالمصادر نحو صوم وزور قال أبو ذؤيب: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 60 ألكني إليها وخير الرسو ... ل أعلمهم بنواحي الخبر فجعله للجماعة لأن الرسول في الأصل مصدر فجاز افراده مع تعدد معناه ولذلك عاد إليه ضمير الجمع في أعلمهم، وشبه الخبر بمكان ذي جهات على طريق الاستعارة المكنية، والنواحي تخييل، أو شبه توابع الخبر التي يسأل عنها تبعا له بالنواحي على طريق الاستعارة التصريحية، يعني أنه أعلم من غيره بذلك، وألكني: أرسلني مصحوبا بالرسالة. ومن مجيء الرسول بمعنى الرسالة قول كثير عزة: حلفت برب الراقصات الى منى ... خلال الملا يمددن كلّ جديل لقد كذب الواشون ما فهت عندهم ... بسر ولا أرسلتهم برسول فلا تعجلي يا عزّ أن تتفهمي ... بنصح أتى الواشون أم بحبول والراقصات: المطايا السائرات إلى منى في الحج، وخلال الملا أي في أثناء الناس فيكون مخففا من الملأ أو في الصحراء لأن الملا الصحراء والمتسع من الأرض، والجديل الرسن في عنقها، والواشي الذي يحسن الكلام ويموهه ويخلط الصدق بالكذب ويحرف الكلم عن مواضعه، وما نافية أي ما تفوهت عندهم بسر، ولا أرسلتهم الى أحد برسول أي برسالة فهو في الأصل مصدر وقد يطلق على المرسل، والأصل يا عزة فرخم بحذف التاء، وأن تتفهمي أي في أن تتفهمي أو لأجل أن تتفهمي، وبنصح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 61 أي أبنصح أتى الواشون إليك أم بحبول؟ وهي جمع حبل بالكسر وهي الداهية العظيمة ولا أدهى من الكذب. [سورة الشعراء (26) : الآيات 18 الى 22] قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) الإعراب: (قالَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) لا بد من تقدير مقدر محذوف أي فانطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب إن هاهنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين فقال: ائذن له لعلنا نضحك منه، فأديا إليه الرسالة فعرف موسى لأنه نشأ في بيته فقال له: ألم نربك. والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ونربك فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به وفينا متعلقان بنربك ووليدا حال ولبثت فعل وفاعل وفينا متعلقان بلبثت ومن عمرك حال لأنه كان صفة لسنين وسنين ظرف متعلق بلبثت أيضا. (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) الواو عاطفة وفعلت فعل وفاعل وفعلتك مفعول به أو مفعول مطلق والتي نعت وجملة فعلت صلة والواو حالية وأنت مبتدأ ومن الكافرين خبر أي الجاحدين لنعمتي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 62 والفعلة التي فعلها موسى هي قتل خبازه القبطي. (قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) قال فعل ماض أي موسى وفعلتها فعل وفاعل ومفعول به أو مفعول مطلق أي فعلت الفعلة وإذن حرف جزاء بمثابة الجواب والواو واو الحال وأنا مبتدأ ومن الضالين خبر أي عما آتاني الله بعدها من العلم والرسالة وربأ بمحل النبوة عن تلك الصفة التي أطلقها عليه فروعون وهي قوله له وأنت من الكافرين فقال من الضالين أي المخطئين كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل. (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) الفاء عاطفة وفررت فعل وفاعل ومنكم متعلقان بفررت ولما حينية كما يقول الفارسي ورابطة كما يقول سيبويه، وجملة خفتكم مضاف إليها الظرف، فوهب عطف على ففررت ولي متعلقان بوهب وربي فاعل وحكما مفعول به وجعلني من المرسلين عطف على ما تقدم، دفع قدحه في نبوته بهذا القول أي ان موهبة الحكم والنبوة كانت بعد تلك الحادثة، ثم كرّ على امتنانه عليه بالتربية فدحضه وأبطله من أصله واجتثه من أساسه بقوله: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) كلام مستأنف مسوق لنسف الاتهام الذي وجهه إليه فرعون، وتلك مبتدأ ونعمة خبر وجملة تمنها صفة لنعمة وعلي متعلقان بتمنها وأن وما في حيزها عطف بيان لتلك لأن الإشارة إلى خطة شنعاء وخصلة شوهاء لا تكتنه حقيقتها إلا بتفسيرها فجاء عطف البيان مفسرا ما أبهم فاتحا ما أغلق، ويجوز أن يعرب المصدر المؤول بدلا من نعمة أو يكون في محل نصب على أنه مفعول لأجله، ونمنها فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والهاء منصوب بنزع الخافض لأن منّ فعل لازم يتعدى بالباء أي تمن بها. وأشار الجلال في تفسيره المختصر الى أن بعضهم قدر أول الكلام همزة أي قبل وتلك وأصل الكلام أو تلك؟ أي ليست هذه نعمة حتى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 63 تمن بها علي، والمقدر هو الأخفش، وهذه الهمزة للاستفهام الانكاري المتضمن معنى النفي كما شرحنا. البلاغة: الإبهام: في قوله «وفعلت فعلتك التي فعلت» إبهام من غير تفسير وهو قسمان: إبهام مفسر وإبهام من غير تفسير فإن قوله «التي فعلت» يذهب فيها الوهم كل مذهب وتحمل الكثير من المعاني وهو كثير شائع في القرآن الكريم. [سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 31] قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) الإعراب: (قالَ فِرْعَوْنُ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) قال فرعون فعل وفاعل والواو عاطفة لتعطف القول على قول موسى «إنا رسول رب العالمين» وما اسم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 64 استفهام مبتدأ ورب العالمين خبره وانما أجاب بما لأنه سأل عن صفاته وأفعاله ولو أراد عينه لقال من؟ (قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) قال موسى هو رب فرب خبر لمبتدأ محذوف وما عطف على الجنسين فلا يرد اعتراض على التثنية وهي راجعة على الجمع وبينهما ظرف متعلق بمحذوف صلة وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط وكان واسمها وخبرها وجواب إن محذوف أي إن كنتم ممن يرجى منهم النظر الصحيح والاعتبار السليم نفعكم هذا الجواب، أو تقدره إن كنتم توقنون بشيء فهذا أولى ما توقنون به لسطوعه وإنارة دليله. (قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ) قال فرعون، ولمن متعلقان بقال وحوله ظرف متعلق بمحذوف هو الصلة وهم أشراف قومه والهمزة للاستفهام ولا نافية وتستمعون فعل مضارع وفاعله ومفعوله محذوف أي جوابه الذي لم يطابق السؤال. (قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) قال موسى، وربكم خبر لمبتدأ محذوف أي هو كان داخلا ومنتظما في قوله رب السموات والأرض وما بينهما لإغاظته وتحديه، وسيأتي سر ذكر الخاص بعد العام في باب البلاغة. (قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) قال فرعون، وجملة إن رسولكم مقول القول وان واسمها والذي صفة وجملة أرسل إليكم صلة للموصول واللام المزحلقة ومجنون خبر إن. وهذا شأن المبطلين المتحكمين عند ما يسقط في أيديهم يلجئون إلى نعت صاحب الحق بالجنون أو غيره لأنهم لا يملكون الدليل على معارضته. (قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) قال موسى زيادة في إغاظته والتدليل على إسفافه: هو رب المشرق والمغرب وما بينهما، وسيأتي سر هذا الطباق في باب البلاغة، وإن كنتم تعقلون شرط وجوابه محذوفه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 65 أي إن كان لكم مسكة من عقل علمتم أن لا جواب لكم غير المكابرة والسفه والشطط في القول، قال أولا إن كنتم موقنين لأن المقام مقام تدليل واقناع ثم لما يئس واشتد اللجاج غالظهم وقابل لجاجتهم ونسبتهم إياه الى الجنون بمثلها فنفى عنهم العقل الذي يمكنهم من التمييز بين الأمور. (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) قال فرعون، لئن اللام موطئة للقسم وإن شرطية واتخذت فعل ماض وفاعل وهو في محل جزم فعل الشرط وإلها مفعول به وغيري صفة واللام جواب القسم وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم بناء على القاعدة المشهورة وأجعلنك فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل ضمير مستتر تقديره أنا ومن المسجونين في موضع نصب على أنه المفعول الثاني. (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) قال موسى، والهمزة للاستفهام والواو للحال وكل ما كان على هذا التركيب يكون قد سبقه فعل محذوف أي أتفعل ذلك ولو ... ، ولو شرطية وجئتك فعل ماض وفاعل ومفعول به وبشيء متعلقان بجئتك ومبين صفة لشيء أي ببرهان ساطع على نبوتي. (قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) قال فرعون، فأت الفاء الفصيحة أي إن كنت صادقا في دعواك فأت، وبه متعلقان بقوله فأت وإن شرطية وكنت فعل الشرط وكان واسمها ومن الصادقين خبر كنت وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله. البلاغة: العموم والخصوص: بعد أن ذكر العموم بقوله «رب السموات والأرض وما بينهما» إذ استوعب به الخلائق كلها عاد الى التخصيص بذكرهم وذكر آبائهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 66 والمطابقة بين المشرق والمغرب ليتأملوا في أنفسهم لأن أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه ومن ولد منه وما شاهد وعاين من الدلائل على الصانع والناقل من هيئة الى هيئة ومن حال الى حال من وقت ميلاده الى وقت وفاته، وطابق بين المشرق والمغرب لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبها في الآخر على تقدير مستقيم ونظام ثابت لا خلل فيه في فصول السنة وحساب مستقيم أيضا، من أظهر ما يمكن الاستدلال به. وعمم ثانيا بجعله من المسجونين ولم يقل لأسجننك للاشارة الى أن ذلك ديدنه فقد كان يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في وهذة عميقة الغور وحيدا لا يرى الضوء فيها ولا يسمع الصوت من داخلها فكان ذلك أنكى من القتل، وهو ديدن المعاند المكابر المحجوج حين تواتيه الأيام ويبتسم له الزمان يعتقد حين يملك قطرا في غفلة من الدهر أن على أهله أن يعبدوه، فاللام في قوله من المسجونين للعهد أي ممن عرفت شأنهم وعهدت حالهم في سجوني، فالتعميم هنا أبلغ كما أن التخصيص فيما سبق أبلغ، ولله أسلوب القرآن إنه يتعالى على الأذهان السطحية البدائية ويدق على البداءة الأولى. [سورة الشعراء (26) : الآيات 32 الى 37] فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 67 اللغة: (ثُعْبانٌ) : الثعبان الحية يطلق على الذكر والأنثى ويجمع على ثعابين، واشتقاق الثعبان من ثعب الماء فجره فانثعب، وقد ظهرت هذه الثعبانية على العصا حين ألقاها. وللثاء مع العين خاصة التلون والتحيل والارهان، يقال ثعّ يثع من باب ضرب ثعا قاء ما أكله، وانثعّ الأكل من فمه والدم من أنفه أو جرحه أي انصب، ومن أقوالهم: سالت الثّعبان كما انساب الثعبان جمع ثعب وهو المسيل، قال: وما ثعب باتت تطرّده الصبا ... بسرّاء واد منجد غير اتهما ومن المجاز: صاح به فانثعب اليه إذا وثب يجري إليه، وشدّ أثعوب قال: لها إذا حرّ الحرار واللوب ... قوائم «عوج» وشدّ أثعوب وقال أبو دؤاد: وكل قائمة تهوي لوجهتها ... لها أتي كفرغ الدلو أثعوب وكلاهما من باب الاستعارة إلا أن الطريق مختلف، وثعب عليهم الغارة: شنّها، وثعب البعير شقشقته: أخرجها. وثعلت أسنانه تثعل من باب فتح ثعلا تراكبت احداها على الأخرى فهو أثعل وفيه معنى التلوّن والتحيل، وأثعل الأمر عظم وتفاقم، والثّعل بضم الثاء المشددة دويبة تظهر في السقاء إذا خبثت ريحه، وثعالة علم على أنثى الثعلب لا ينصرف، وثعلب وتثعلب: راغ أو تشبه بالثعلب في روغانه، والثعلب حيوان مشهور بالتحيل والرّوغان يتساقط شعره كل سنة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 68 ومنه داء الثعلب وهو عملية تساقط الشعر ويقال للأنثى ثعلبة وللذكر ثعلبان وكلمة ثعلب تقع على المذكر والمؤنث ويجمع على ثعالب وثعال، والثعلب أيضا طرف الرمح الداخل في جبة السنان، قال بشار: وجيش كجنح الليل يزحف بالحصى ... وبالشوك والخطي حصر ثعالبه والثعلبة أيضا العصعص والاست. وبالجملة فهذه المادة ظاهرة الثعلبة والثعبانية. (أَرْجِهْ) : وأرجئه كما قرئ أيضا بالهمز وبالتخفيف وهما لغتان يقال: أرجأته وأرجيته إذا أخرته ومنه المرجئة. الإعراب: (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) الفاء عاطفة وألقى فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وعصاه مفعول به فإذا الفاء عاطفة وإذا فجائية وهي ظرف أو حرف وقد تقدم بحثها مفصلا وهي مبتدأ وثعبان خبر ومبين صفة. وقد تقدم بحث المسألة الزنبورية وخلاف سيبويه مع الكسائي في حضرة يحيى البرمكي حولها. (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) الجملة معطوفة على سابقتها وهي مماثلة لها في اعرابها. (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) قال فرعون، وللملأ متعلقان بقال وحوله ظرف متعلق بمحذوف حال وللزمخشري تفنن في اعرابها نورده لروعته: «فإن قلت: ما العامل في حوله؟ قلت: هو منصوب نصبين نصب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 69 في اللفظ ونصب في المحل فالعامل في النصب اللفظي ما يقدر في الظرف والعامل في النصب المحلي هو النصب على الحال» . وإن حرف مشبه بالفعل وهذا اسمها واللام المزحلقة وساحر خبر وعليم خبر ثان. (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) الجملة صفة لساحر، وهي بيت كامل من مجزوء الرجز وليس شعرا لانتفاء القصد وقد تقدم بحث ذلك مفصلا. وأن وما في حيزها مفعول يريد ومن أرضكم متعلقان بيخرجكم وبسحره متعلقان بيخرجكم أيضا. (فَماذا تَأْمُرُونَ) الفاء عاطفة وماذا اسم استفهام مفعول به لقوله تأمرون أو مفعول مطلق لكونه في معنى المصدر أو ما اسم استفهام وذا اسم موصول خبر وجملة تأمرون صلة، قال ذلك بعد أن بهره ما شاهد واستولى عليه الدهش والبهر. (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) قالوا فعل وفاعل وأرجه فعل أمر والهاء مفعول به وأخاه مفعول معه أو عطف على الهاء وابعث عطف على أرجه وفي المدائن متعلق بابعث وحاشرين صفة لمفعول به محذوف أي شرطا يحشرون السحرة ويجمعونهم. (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) يأتوك فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر وبكل سحار متعلقان بيأتوك وعليم صفة لسحار. الفوائد: الشّرط: واحده شرطي وهم الطائفة من خيار أعوان الولاة، وفي أيامنا هم رؤساء الضابطة ورجالها سموا بذلك لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها، وفي الصحاح: «الشرط محركة الحرس سموا بذلك لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها» والشرط أيضا أول كتيبة تشهد الحرب وتتهيأ للموت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 70 [سورة الشعراء (26) : الآيات 38 الى 44] فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) الإعراب: (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) الفاء عاطفة على مقدر وجمع فعل ماض مبني للمجهول والسحرة نائب فاعل ولميقات جار ومجرور متعلقان بجمع ويوم مضاف اليه ومعلوم صفة واليوم المعلوم هو يوم الزينة وميقاته هو وقت الضحى، وقد مر ذكره في طه فجدد به عهدا. (وَقِيلَ لِلنَّاسِ: هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ؟) وقيل معطوف على ما تقدم وللناس متعلقان به وهل حرف استفهام وأنتم مبتدأ ومجتمعون خبر والجملة مقول القول وفي الاستفهام معنى الأمر كأنهم يستبطئهم ويستحثهم على الاجتماع ومنه قول تأبط شرا: هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أو عبد رب أخا عوف بن مخراق فهل استفهام استبطائي فيه حث على الفعل ودينار اسم رجل ورب كذلك ونصب لأنه معطوف على محل دينار لأنه مفعول معنى وأخا عوف نعت له وقيل منادى وعوف ومخراق اسمان لرجلين ويروى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 71 عون بالنون. (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) الجملة في محل نصب حال لأن الترجي باعتبار حالة الغلبة المقتضية للاتباع وان كان مقصودهم الأصلي أن لا تتبعوا موسى، والمعنى: راجين أن تكون الغلبة لهم فلا تتبع موسى. ولعل واسمها وجملة تتبع خبرها والسحرة مفعول به وإن شرطية وكانوا فعل الشرط وهو كان واسمها وهم ضمير فصل والغالبين خبر كانوا. (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) الفاء عاطفة ولما حينية ظرفية أو رابطة وجاء السحرة فعل وفاعل وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ولفرعون متعلقان بقالوا والهمزة للاستفهام وإن حرف مشبه بالفعل ولنا خبرها المقدم وأجرا اسمها المؤخر وإن شرطية وكنا كان واسمها وهو فعل الشرط ونحن ضمير فصل والغالبين خبر كنا وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله لأن قوله أئن لنا لأجرا في معنى جواب الشرط لدلالته عليه. (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) قال فرعون، ونعم حرف جواب أي لكم الأجر وزادهم بقوله وإنكم فهو عطف وان واسمها وإذن حرف جواب وجزاء واللام المزحلقة ومن المقربين خبر إن، وعدهم بالأجر وبالقربى والزلفى لديه. (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) قال لهم موسى فعل وفاعل ولهم متعلقان بقال وجملة ألقوا مفول القول وما مفعول به وجملة أنتم ملقون صلة وأنتم مبتدأ وملقون خبر. (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) الفاء عاطفة وألقوا فعل وفاعل وحبالهم مفعول به وعصيهم عطف على حبالهم وقالوا عطف على فألقوا، وبعزة: الباء حرف قسم وجر وعزة مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره نقسم ونحلف بعزة فرعون وإنا إن واسمها وكسرت همزتها وجوبا لوقوعها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 72 بعد القسم كما تقدم واللام المزحلقة ونحن ضمير فصل أو مبتدأ والغالبون خبر إنا أو خبر نحن والجملة خبر إنا. [سورة الشعراء (26) : الآيات 45 الى 51] فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) الإعراب: (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) الفاء عاطفة وألقى موسى عصاه فعل وفاعل ومفعول به فإذا الفاء عاطفة وإذا فجائية وهي مبتدأ وجملة تلقف خبر وما مفعول به وجملة يأفكون صلة ما أي تبتلع ما يقلبونه بتمويههم عن وجهه ويزورونه. (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) الفاء عاطفة وألقي فعل ماض مبني للمجهول والسحرة نائب فاعل، والفاعل الذي ناب عنه المفعول به لو صرح به هو الله عز وجل بما ألهمهم من التوفيق أو إيمانهم أو ما عاينوه من المعجزة الباهرة التي ضؤل أمر السحر عندها، وسيأتي مزيد بحث عن الإلقاء في باب البلاغة، وماجدين حال. (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) جملة آمنا من الفعل والفاعل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 73 مقول القول وبرب العالمين متعلقان بآمنا وجملة القول بدل اشتمال من أنقي أو حالية بتقدير قد. (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) رب بدل من رب العالمين أو عطف بيان وموسى وهارون مضاف اليه. (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) جملة آمنتم مقول القول وله متعلقان بآمنتم والظرف كذلك وأن وما في حيزها في محل جر بالاضافة ولكم متعلقان بآذن. (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) تعليل لانصياعهم لموسى وهارون وللتلبيس على قومه لئلا يعتقدوا أن السحرة آمنوا على بصيرة وظهور حق. وان واسمها واللام المزحلقة وكبيركم خبر إن والذي صفة وجملة علمكم صلة والكاف مفعول به أول والسحر مفعول به ثان، فلسوف: الفاء الفصيحة أي إن استمررتم في فعلكم فلسوف تعلمون وبال ما فعلتموه واللام موطئة للقسم وسوف حرف استقبال وتعلمون فعل مضارع وفاعل والمفعول محذوف كما قدرناه. (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) اللام موطئة للقسم وأقطعن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل ضمير مستتر تقديره أنا والجملة لا محل لها لأنها مفسرة بمثابة بيان لما أبهمه بقوله فلسوف تعلمون وأيديكم مفعول به وأرجلكم عطف على أيديكم ومن خلاف حال أي مضمومة يد كل واحد اليمنى ورجله اليسرى وقد تقدم القول فيها، ولأصلبنكم عطف على لأقطعن وأجمعين تأكيد للكاف. (قالُوا: لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) لا نافية للجنس وضمير اسمها المبني على الفتح وخبرها محذوف أي لا ضمير علينا ولا بأس وجملة إنا تعليل لعدم الضمير وإن واسمها والى ربنا متعلقان بمنقلبون ومنقلبون خبر إنا. (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) إن واسمها وجملة نطمع خبر والفاعل مستتر تقديره نحن وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 74 في غفران خطايانا أو على تضمين نطمع معنى نرجو فتكون إن وما في حيزها في محل نصب على المفعولية وربنا فاعل يغفر وخطايانا مفعول به وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي لأن كنا أو الباء فالتقدير بسبب أن كنا، وكان واسمها وأول المؤمنين خبرها أي أول من آمن من رعية فرعون. البلاغة: في قوله «فألقي السحرة ساجدين» استعارة مكنية كأنهم أخذوا فطرحوا على وجوههم وقد زاد هذه الاستعارة جمالا المشاكلة لأنه عبر بألقي عن الخرور فلم يقل فخروا ساجدين لمشاكلة الالقاءات المتقدمة. [سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 68] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 75 اللغة: (لَشِرْذِمَةٌ) : الشرذمة: الجماعة القليلة من الناس وتجمع على شراذم وشراذيم، وثياب شراذم ممزقة، وشرذ الجمع بالتشديد فرّقه. (حاذِرُونَ) : متيقظون وهي مبالغة اسم الفاعل وقد قرئ حاذرون قال أبو عبيدة: هما بمعنى واحد يقال رجل حذر وحاذر بمعنى وقيل بل بينهما فرق فالحذر المتيقظ والحاذر الخائف وقيل الحذر المخلوق مجبولا على الحذر والحاذر من عرض فيه ذلك، وفي المصباح: «حذر حذرا من باب تعب واحتذر واحترز كلها بمعنى واستعد وتأهب فهو حاذر وحذر والاسم منه الحذر مثل حمل، وحذر الشيء إذا خافه فالشيء محذور أي مخوف، وحذرته الشيء فحذره» وفي قراءة حادرون بالدال المهملة، والحادر السمين القوي قال: أحب الصبي السوء من أجل أمه ... وأبغضه من بغضها وهو حادر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 76 أي أن مدار حب الولد على حب أمه لا على حسن أوصافه، وضمير أبغضه عائد على الصبي بدون وصفه ولكن هذه شيمة المنهمك في حب النساء. (مُشْرِقِينَ) : داخلين في وقت الشروق من شرقت الشمس شروقا إذا طلعت. (فِرْقٍ) : بكسر الفاء أي قطعة. (الطود) : الجبل أو عظيمه كما في القاموس والجمع أطواد وطاد يطود إذا ثبت. (وَأَزْلَفْنا) : قربنا. الإعراب: (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة للشروع في الأمر الموجه الى موسى بأن يسير بقومه الى جهة البحر ليلا وذلك بعد ثلاثين سنة من الحوادث الآنفة الذكر. وأوحينا فعل وفاعل والى موسى جار ومجرور متعلقان بأوحينا وأن مفسرة لأن في الإيحاء معنى القول دون حروفه وأسر فعل أمر من أسرى أي سار ليلا، وفي قراءة بكسر النون ووصل همزة أسر من سرى لغة أسرى، وبعبادي متعلقان بأسر أو حال أي مصحوبا بعبادي وجملة إنكم متبعون تعليل للأمر بالإسراء. (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) الفاء عاطفة وإن كان في الوقت انقطاع لأنهم كما يروى شغلوا بدفن موتاهم من الوباء الذي اجتاح مصر، وأرسل فرعون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 77 فعل وفاعل وفي المدائن حال وحاشرين مفعول به. (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) الجملة مقول قول محذوف منصوب على الحال أي قائلا وإن واسمها واللام المزحلقة وشرذمة خبرها وقليلون صفة لأنهم كانوا أقلية فسئيلة؟؟؟ بالنسبة لقوم فرعون وسيأتي في باب البلاغة سر الجمع بالمذكر السالم لقليل. (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) الواو عاطفة أو حالية وإن واسمها ولنا متعلقان بغائظون واللام المزحلقة وغائظون خبر إن أي فاعلون ما يغيظنا. (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) الواو عاطفة أو حالية وان واسمها واللام المزحلقة وجميع خبر أول وحذرون خبر ثان أي ونحن قوم عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، أراد فرعون أن يغطي الصدع الذي أصاب هيبته فوصف نفسه ورهطه بأبلغ الأوصاف الدالة على أصالة المنزلة وقوة الشكيمة. (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) الفاء استئنافية وأخرجناهم فعل وفاعل ومفعول به ومن جنات وعيون متعلقان بأخرجناهم، وأراد البساتين التي كانت على جانبي النيل والأنهار الصغيرة المتفرعة من النيل والموزعة على الدور، وسيأتي وصف مسهب لمصر في باب الفوائد. (وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) عطف على جنات وعيون، وأراد بالكنوز الأموال التي تحت الأرض وخصها لأن ما فوقها انطمست معالمه أو لأنهم لم ينفقوها فيما يجب إنفاقه من خير. (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) كذلك نعت لمصدر محذوف أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج ويجوز أن تعرب الكاف صفة لمقام كريم أي مقام مثل ذلك المقام الذي كان لهم ويجوز أن تعرب الكاف رفعا على أنها خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك، وأورثناها الواو عاطفة أو اعتراضية ولعله أرجح وأورثناها فعل وفاعل ومفعول به أول وبني إسرائيل مفعول به ثان أي بعد إغراق فرعون وقومه. (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) الفاء عاطفة وأتبعوهم فعل ماض وفاعل ومفعول به ثان أي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 78 لحقوهم ومشرقين حال. (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) الفاء عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة وتراءى الجمعان فعل ماض وفاعل أي تقابلا ورأى كل واحد منهما الآخر وجملة قال لا محل لها لأنها جواب لما وأصحاب فاعل قال، وجملة إنا لمدركون مقول القول. (قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) قال موسى، وكلا حرف ردع وزجر وأراد موسى أن ينحي عليهم باللائمة لخور أعصابهم وفتور عزائمهم أي لن يدركونا وإن معي تعليل لهذا الردع وان حرف مشبه بالفعل والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وربي اسمها المؤخر وجملة سيهدين استئنافية وغلط من أعربها حالا وسيأتي التفصيل في باب الفوائد. (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) الفاء عاطفة وأوحينا فعل وفاعل والى موسى متعلقان بأوحينا وأن مفسرة واضرب بعصاك البحر فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وبعصاك متعلقان باضرب فانفلق الفاء الفصيحة وقد تقدمت كثيرا أي فضرب فانفلق. (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) الفاء عاطفة وكان واسمها والكاف اسم بمعنى مثل خبرها أو هو جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر والعظيم صفة للطود. (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) الواو عاطفة وأزلفنا فعل وفاعل وثم ظرف بمعنى هناك والآخرين مفعول به وأراد بهم قوم فرعون أي قربناهم من قوم موسى. (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ) وأنجينا عطف على ما تقدم وهو فعل وفاعل وموسى مفعول به ومن عطف على موسى ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة من وأجمعين تأكيد لمن. (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) عطف على ما تقدم. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) تعليل لما تقدم أي إنما جعلنا ذلك وقدرناه ليكون آية وموعظة للناس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 79 ولكن ما تنبه إليها أكثرهم، وفي ذلك خبر إن المقدم واللام المزحلقة والواو حرف عطف وما نافية وكان واسمها والباء حرف جر زائد ومؤمنين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر كان وستأتي زيادة الباء في خبر كان في باب الفوائد. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) عطف على ما تقدم وان واسمها واللام المزحلقة وهو ضمير فصل أو مبتدأ والعزيز الرحيم خبران لإن أو لهو والجملة خبر إن. البلاغة: في قوله تعالى: «إن هؤلاء لشرذمة قليلون» الشرذمة هي الطائفة أو الجماعة القليلة كما ذكرنا في باب اللغة وكان يمكن الاكتفاء بها تعبيرا عن القلة ولكنه وصفها بالقلة القليلة زيادة في احتقارهم واستصغار شأنهم ثم جمع وصفهم ليعلم أن كل ضرب منهم قليل واختار جمع المذكر السالم الذي هو للقلة فهذه أربعة أوجه تتساند لتقليلهم وهناك وجه خامس وهو أن جمع الصفة والموصوف منفرد قد يكون مبالغة في لصوق ذلك الوصف بالموصوف وتناهيه فيه بالنسبة الى غيره من الموصوفين. فتأمل هذا فإنه من روائع النكت. الفوائد: 1- شروط وقوع الحال جملة: تقع الحال جملة بشروط ثلاثة: 1- أن تكون الجملة خبرية وهي المحتملة للصدق والكذب، وهذا الشرط مجمع عليه لأن الحال بمثابة النعت وهو لا يكون بجملة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 80 إنشائية، وأما ما ورد في الحديث: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا هاء هاء» فهو على إضمار القول أي إلا قائلين هاء وهاء من جهة البائع والمشتري. وفي شرح التسهيل للمرادي أن الخبرية تتناول الشرطية وأنه يجوز وقوعها حالا، ولكن كلام المغني يخالفه، والتحقيق أن الكلام في الجملة الشرطية إن كان هو الجزاء والشرط قيد له فالجزاء إن كان خبرا فالجملة الشرطية خبرية وإن كان إنشاء فإنشائية وان كان الكلام مجموع الشرط والجزاء فليست خبرية لأن الأداة أخرجتها عن ذلك. هذا وقد غلط من قال في قول أحد المولدين: أطلب ولا تضجر من مطلب ... فآفة الطالب أن يضجرا أما ترى الحبل بتكراره ... في الصخرة الصمّاء قد أثرا أن لا ناهية وان الواو للحال، قال في المغني: وهذا خطأ والصواب في الواو أنها عاطفة، إما مصدرا يسبك من أن والفعل على مصدر متوهم من الأمر السابق أي ليكن منك طلب وعدم ضجر، أو جملة على جملة، وعلى الأول ففتحة تضجر اعراب ولا نافية، وعلى الثاني فالفتحة بناء للتركيب والأصل ولا تضجرن بنون التوكيد الخفيفة فحذفت للضرورة ولا ناهية، والعطف مثل: «واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا» ثم استأنف ابن هشام في المغني كلامه في النوع الثامن من الجهة السادسة فقال «ثم الأصح أن الفتحة يعني فتحة تضجر اعراب مثلها في لا تأكل السمك وتشرب اللبن لا بناء لأجل نون توكيد محذوفة» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 81 2- أن تكون الجملة غير مصدرة بدليل استقبال لأن الغرض من الحال تخصيص وقوع مضمون عاملها بوقت حصول مضمون الحال وذلك ينافي الاستقبال، وغلط من أعرب «سيهدين» من قوله تعالى: «إني ذاهب الى ربي سيهدين» حالا، وبيان غلطه من جهة الصناعة ظاهر، وأما من جهة المعنى فلأنه صير معنى الآية سأذهب مهديا، فصرف التنفيس الى الذهاب وهو في الآية للهداية، وأجيب بأن مهديا وقع بعد الذهاب الذي فيه تنفيس، فيلزم أيضا أن يكون فيه تنفيس كالمقيد. واما قولهم لأضربنه إن ذهب وإن مكث فإنما جاز وقوع الشرطية فيه حالا وإن كانت مصدرة بدليل استقبال وهو إن لأن المعنى لأضربنه على كل حال إذا لا يصح اشتراط وجود الشيء وعدمه لشيء واحد. 3- أن تكون مرتبطة إما بالواو والضمير معا لتقوية الربط نحو «ألم تر الى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت» فجملة هم ألوف حال من الواو في خرجوا وهي مرتبطة بالواو والضمير وهو هم، أو بالضمير فقط دون الواو نحو «اهبطوا بعضكم لبعض عدو» فبعضكم مبتدأ وعدو خبره ولبعض متعلقان بعدو أو حال منه والجملة حال من الواو في اهبطوا أي متعادين يضل بعضكم بعضا وهي مرتبطة بالضمير فقط وهو الكاف والميم، أو مرتبطة بالواو فقط دون الضمير نحو «لئن أكله الذئب ونحن عصبة» فجملة ونحن عصبة حال من الذئب مرتبطة بالواو فقط ولا دخل لنحن في الربط لأنها لم ترجع لصاحب الحال. 2- وصف مصر لعمرو بن العاص: ولما استقر عمرو بن العاص على ولاية مصر كتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ان صف لي مصر فكتب اليه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 82 «ورد كتاب أمير المؤمنين- أطال الله بقاءه- يسألني عن مصر، اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر قرية غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر، يكنفها جبل أغبر، ورمل أغفر، يخطر وسطها نيل مبارك الغدوات، ميمون الروحات، تجري فيه الزيادة والنقصان، كجري الشمس والقمر، له أوان يدرّ حلابه، ويكثر فيه ذبابه، تمده عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا ما اصلخمّ عجّاجه، وتعظّمت أمواجه، فاض على جانبيه، فلم يمكن التخلص من القرى بعضها الى بعض إلا في صغار المراكب، وخفاف القوارب، وزوارق كأنهن في المخايل ورق الاصائل، فإذا تكامل في زيادته نكص على عقبيه كأول ما بدا في جريته، وطما في درّته فعند ذلك تخرج أهل ملّة محقورة، وذمة مخفورة، يحرثون الأرض، ويبذرون بها الحبّ، يرجون بذلك النماء من الرب، لغيرهم ما سعوا من كدهم، فناله منهم بغير جدّهم، فإذا أحدق الزرع وأشرق، سقاه الندى، وغذاه من تحته الثرى، فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء، فإذا هي ديباجة رقشاء فتبارك الله الخالق لما يشاء» الى آخر تلك الرسالة الممتعة. وجاء في خطط المقريزي ما يجلو غوامض هذه الرسالة: «ووصف بعضهم مصر فقال: ثلاثة أشهر لؤلؤة بيضاء، وثلاثة أشهر مسكة سوداء، وثلاثة أشهر زمردة خضراء، وثلاثة أشهر سبيكة ذهب حمراء، فأما اللؤلؤة البيضاء فإن مصر في أشهر أبيب ومسرى وتوت يركبها الماء فترى الدنيا بيضاء وضياعها على روابي وتلال مثل الكواكب قد أحيطت بالمياه من كل وجه فلا سبيل الى قرية من قراها إلا بالزوارق، وأما المسكة السوداء فإن في أشهر بابه وهاتور وكيهك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 83 ينكشف الماء عن الأرض فتصير أرضا سوداء وفي هذه الأشهر تقع الزراعات، وأما الزمردة الخضراء فإن في أشهر طوبة وأمشير وبرمهات يكثر نبات الأرض وربيعها فتصير خضراء كأنها الزمردة، وأما السبيكة الحمراء فإن في أشهر برمودة وبشنس وبئوئة يتورّد العشب ويبلغ الزرع الحصاد فيكون كالسبيكة التي من الذهب منظرا ومنفعة» . 3- زيادة الباء في خبر كان: تختص ليس وكان بجواز زيادة الباء في خبريهما وتكثر زيادتها في خبر ليس وما الحجازية، أما كان فلا تزاد إلا إذا سبقها نفي أو نهي كما في الآية، وكقول الشنفري: وإن مدّت الأيدي الى الزاد لم أكن ... بأعجلهم إذا أجشع القوم أعجل [سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 89] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 84 الإعراب: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ) الواو عاطفة واتل معطوف على اذكر المقدرة عاملا في قوله: «وإذ نادى ربك موسى» للشروع في القصة الثانية وعليهم متعلقان باتل ونبأ ابراهيم مفعول به. (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ) إذ ظرف لما مضى من الزمن وهو بدل من نبأ بدل اشتمال فيكون العامل فيه اتل، وقيل منصوب بنبإ ابراهيم أي وقت فوله لأبيه وقومه: ما تعبدون، وجملة قال في محل جر بإضافة الظرف إليها ولأبيه متعلقان بقال ولقومه معطوفة، وما اسم استفهام في محل نصب مفعول به مقدم لتعبدون وجملة ما تعبدون مقول القول. (قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) جملة نعبد أصناما في محل نصب مقول القول، فنظل الفاء عاطفة ونظل فعل مضارع ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره نحن ولها متعلقان بعاكفين وعاكفين خبر نظل، وفي الكلام اطناب سيأتي في باب البلاغة. (قالَ: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ) هل حرف استفهام ويسمعونكم فعل مضارع وفاعل والكاف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 85 مفعول به ولا بد من تقدير محذوف أي يسمعون دعاءكم فتكون متعدية لواحد أو يسمعونكم تدعون فتكون متعدية لاثنين وقد قامت الجملة المقدرة مقام المفعول الثاني، وإذ ظرف متعلق بيسمعونكم وهو كما يقول الزمخشري، لحكاية الحال الماضية ومعناه استحضروا الأحوال التي كنتم تدعونها فيها هل سمعوكم إذ دعوتم، وهو أبلغ في التبكيت، وجملة تدعون مجرورة بإضافة الظرف إليها. (أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) عطف على يسمعونكم. (قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) بل إضراب انتقالي تفادوا به الاجابة عن استفهامه وكأنهم وجدوا أنفسهم حقيقة في معزل عن التفكير والمساءلة وانهم لم يرجعوا الى عقولهم فيناقشوا ما يعبدون، هل يسمع؟ هل ينفع؟ هل يضر؟ وإنما هو مجرد تقليد درجوا عليه دون التأمل في مغابّه أو النظر الى عواقبه ونتائجه. ووجدنا فعل وفاعل وآباءنا مفعول أول لوجدنا وجملة يفعلون هي المفعول الثاني، وكذلك نعت لمصدر محذوف أي يفعلون فعلا مثل ذلك أو تجعل الكاف مفعولا به مقدما ليفعلون ولعله أولى. (قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري المتضمن معنى الاستهزاء والسخرية، وقد تقدم أن «رأيتم» في مثل هذا التعبير إما أن تكون بمعنى أخبروني فتكون متعدية لمفعولين أولهما اسم الموصول وثانيهما محذوف وهو جملة تقديرها هل هو جدير بالعبادة، وإما أن تكون رأى بمعنى عرف وهي تنصب مفعولا واحدا والمعنى هل تأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدون، والفاء عاطفة على محذوف كما قدرناه، وقد تقدمت نظائر كثيرة له في مثل هذا التركيب، وجملة كنتم صلة ما وجملة تعبدون خبر كنتم. (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) أنتم تأكيد للضمير في تعبدون وآباؤكم عطف على أنتم والأقدمون صفة لآباؤكم. (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) الفاء تعليلية وإن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 86 واسمها وعدو خبرها ولي صفة لعدو والعدو والصديق يجيئان في معنى الوحدة والجماعة، قال: وقوم عليّ ذوي مئرة ... أراهم عدوّا وكانوا صديقا ويروى مرة بالكسر وهي القوه وشدة الجدال والمئرة العداوة. يقول: رب قوم أصحاب قوة عليّ أراهم اليوم أعداء وكانوا أصدقاء. وإلا أداة استثناء ورب نصب على الاستثناء والاستثناء منقطع ولذلك تقدر إلا بمعنى لكن، وفي الآية فن التعريض وسيأتي في باب البلاغة. (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) الذي يجوز فيه النصب على النعت لرب العالمين أو البدل أو عطف البيان، أو الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هو الذي خلقني، وغلط أبو البقاء فأعرب الذي مبتدأ وخبره جملة هو يهدين ولم يتكلم عن الفاء وهذا مردود لأن الموصول معين ليس عاما ولأن الصلة لا يمكن فيها التجدد فلم يشبه الشرط، والصحيح أنها استئنافية وهو مبتدأ وجملة يهديني خبره وحذفت الياء لمراعاة الفواصل. (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) عطف على ما سبق وهو مبتدأ وجملة يطعمني خبر. (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) الواو عاطفة ومرضت فعل وفاعل أضاف المرض إلى نفسه وإن كان المرض والشفاء من الله تعالى تأدبا، كما قال الخضر «فأردت أن أعيبها» وقال «فأراد ربك أن يبلغا أشدهما» وسيأتي مزيد بحث في هذا الصدد في باب البلاغة. (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) عطف على ما تقدم وعطف يحيين على يميتني بثم خلاف ما تقدم لتراخي المدة واتساع الأمر بين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 87 الإماتة والإحياء في الآخرة. (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) والذي عطف على ما قبله وجملة أطمع صلة وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي في أن يغفر ولي متعلقان بيغفر وخطيئتي مفعول يغفر ويوم الدين ظرف متعلق بيغفر أيضا. (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) رب منادى مضاف لياء المتكلم حذف منه حرف النداء وهب فعل أمر أراد به الدعاء ولي متعلقان بهب وحكما مفعول به وألحقني عطف على هب وبالصالحين متعلقان بألحقني. (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) واجعل عطف على ما تقدم ولي مفعول اجعل الثاني ولسان صدق مفعول اجعل الأول والاضافة من اضافة الموصوف إلى صفته وفي الآخرين حال أي الذين يأتون بعدي الى يوم القيامة. (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) من ورثة مفعول اجعلني الثاني وجنة النعيم مضاف الى ورثة. (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) لأبي متعلقان باغفر وجملة إنه تعليل لطلب الغفران له وان واسمها وجملة كان خبرها ومن الضالين خبر كان. (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) الظرف متعلق بتخزني وجملة يبعثون في محل جر بإضافة الظرف إليها. (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) يوم ظرف في محل نصب بدل من يوم الأول وهذا يؤكد أنه من كلام ابراهيم، ويجوز أن يكون من كلام الله تعالى في هذا اليوم ولا مانع من إعرابه بدلا أيضا أي متعلق بما تعلق به الظرف الأول وجملة لا ينفع مال في محل جر بإضافة الظرف إليها ولا بنون عطف على مال. (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) يجوز في هذا الاستثناء أن يكون منقطعا أي من غير الجنس ومعناه لكن من أتى الله، ويجوز أن يكون متصلا وفيه وجهان أحدهما أن يكون بدلا من المحذوف أو استثناء منه فهو في محل نصب على الوجهين والتقدير لا ينفع مال ولا بنون أحدا إلا من أتى، ويجوز أيضا أن يكون بدلا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 88 من فاعل فهو في محل رفع وغلب من يعقل ويكون التقدير إلا مال من وبنو من فإنه ينفع نفسه أو غيره، وجعل الزمخشري من مفعول ينفع أي لا ينفع ذلك إلا رجلا أتى الله. وبقلب متعلقان بأتى أو بمحذوف حال أي مصحوبا وسليم صفة لقلب. البلاغة: في هذه الآيات سمو منقطع النظير من حيث البلاغة البيانية تتقطع دونه الأعناق وتخرس الألسن، وسنجنح الى اختصار الكلام لأن فيه متسعا من القول يضيق به صدر هذا الكتاب. 1- الاطناب: - في قوله: «قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين» وكان مقتضى جواب السؤال وهو: «ما تعبدون» أن يقولوا: أصناما، لأنه سؤال عن المعبود وحسب كقوله تعالى: «ويسألونك ماذا ينفقون؟ قل العفو» و «ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق» ولكنهم أضافوا الى الجواب زيادة شرحوا بها قصتهم كاملة لأنهم قصدوا إظهار ابتهاجهم، وإعلان افتخارهم، وذلك شائع في الكلام تقول لبعضهم ماذا تلبس؟ فيقول: ألبس البرد الأتحمي فأجر أذياله بين جواري الحي الحسان. وقالوا نظل لأنهم كانوا يعكفون على عبادتها في النهار دون الليل، وهذه هي مزية الاطناب تزيد في اللفظ عن المعنى لفائدة مقصودة أو غاية متوخاة فإذا لم تكن ثمة فائدة في زيادة اللفظ فإنه يكون تطويلا مملا بادي الغثاثة ظاهر الركاكة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 89 2- التعريض: وذلك في قوله «فإنهم عدو لي إلا رب العالمين» فإنه صور المسألة في نفسه، والعداوة مستهدفة شخصه، كأنه يعرض بهم قائلا: لقد فكرت في المسألة مليا وأمعنت النظر فيها طويلا فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو الذي يتربص به الدوائر للايقاع، فاذا بلغ المرء من الاسفاف مدى يحب فيه عدوا ويؤثره بالعبادة فذلك هو الارتطام في مزالق الغيّ ومهاوي الضلال، وقد يبلغ التعريض للمنصوح ما لا يبلغه التصريح لأنه يلفت انتباهه ويسترعي أنظاره فيتأمل فيه فربما قاده التأمل إلى التقبل، ومنه ما يحكى عن الشافعي: أن رجلا واجهه بشيء فقال له: لو كنت بحيث أنت لاحتجت الى أدب. 3- أسرار حروف العطف: وهنا موضع دقيق المسلك لطيف المرمى قلما ينتبه إليه أحد أو بتفطن إليه كاتب، فإن أكثر الناس يضعون حروف العطف في غير مواضعها فيجعلون ما ينبغي أن يجر ب «على» ب «في» في حروف الجر، كما أنهم يعطفون دون أن يتفطنوا الى سر الحرف الذي عطف به الكلام فقد قال تعالى «والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين» فالأول عطفه بالواو التي هي لمطلق الجمع وتقديم الإطعام على الإسقاء، والإسقاء على الإطعام جائز لولا مراعاة حسن النظم، ثم عطف الثاني بالفاء لأن الشفاء يعقب المرض بلا زمان خال من أحدهما، ثم عطف الثالث بثم لأن الإحياء يكون بعد الموت بزمان ولهذا جيء في عطفه بثم التي هي للتراخي. وهذا من الأسرار التي يجدر بالكاتب الإلمام بها حتى يقيس عليها ويعطف على كل بما يناسبه ويقع موقع السداد منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 90 4- التفويف: ولم يسبق أن تحدثنا فيما غبر من كتابنا عن هذا الفن وهو إتيان المتكلم بمعان شتى من المدح والوصف والنسيب وغير ذلك من الفنون، كل فن في جملة منفصلة من أختها بالسجع غالبا مع تساوى الجمل في الرنّة، ويكون بالجمل الطويلة والجمل المتوسطة والجمل القصيرة، فمثال المركب من الجمل الطويلة: «الذي خلقني فهو يهدين» إلى قوله «وألحقني بالصالحين» ففي هذه الآيات فنون شتى منها: آ- المناسبة: في قوله: «خلقني» و «يطعمني» . ب- التنكيت: في قوله: «وإذا مرضت فهو يشفين» فإن النكتة التي أوجبت على الخليل إسناد فعل المرض الى نفسه دون بقية الأفعال حسن الأدب مع ربه عز وجل إذ أسند إليه أفعال الخير كلها وأسند فعل الشر الى نفسه وللاشارة الى أن كثيرا من الأمراض تحدث بتفريط الإنسان في مأكله ومشربه وغير ذلك. ج- حسن النسق: فإنه قدم الخلق الذي يجب تقديم الاعتداد به من الخالق على المخلوق واعتراف المخلوق بنعمته، فإنه أول نعمة، وفي إقرار المخلوق بنعمة الإيجاد من العدم إقراره بقدرة الخالق على الإيجاد والاختراع وحكمته، ثم ثنى بنعمة الهداية التي هي أولى بالتقديم بعد نعمة الإيجاد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 91 من سائر النعم، ثم تلّث بالاطعام والاسقاء اللذين هما مادة الحياة وبهما من الله استمرار البقاء إلى الأجل المحتوم، وذكر المرض وأسنده إلى نفسه أدبا، كما قلنا، مع ربه، ثم أعقب ذكر المرض بذكر الشفاء مسندا ذلك الى ربه، ثم ذكر الإماتة مسندا فعلها الى ربه لتكميل المدح بالقدرة المطلقة على كل شيء من الإيجاد والإعدام، ثم أردف ذكر الموت بذكر الإحياء بعد الموت وفيه مع الإقرار بهذه النعمة والاعتراف بالقدرة والايمان بالبعث، وكل هذه المعاني جمل ألفاظها معطوف بعضها على بعض بحروف ملائمة لمعاني الجمل المعطوفة كما تقدم. د- صحة التقسيم: فقد استوعبت هذه الآيات أقسام النعم الدنيوية والأخروية من الخلق والهداية والإطعام والاسقاء والمرض والشفاء والموت والحياة والايمان بالبعث وغفران الذنب. 5- التخلص: وهو فن عجيب يأخذ مؤلف الكلام في معنى من المعاني فبينا هو فيه إذ أخذ في معنى غيره آخر وجعل الأول سببا اليه فيكون بعضه آخذا برقاب بعض من غير أن يقطع كلامه بل يكون جميع كلامه كأنما أفرغ إفراغا، فمما جاء من التخليص هذه الآية التي تسكر العقول وتسحر الألباب، ألا ترى ما أحسن ما رتب إبراهيم كلامه مع المشركين حين سألهم أولا عما يعبدون، سؤال مقرر لا سؤال مستفهم، ثم أنحى على آلهتهم باللائمة فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تعي ولا تسمع، وعلى تقليد آبائهم الأقدمين فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة فضلا عن أن يكون حجة، ثم أراد الخروج من ذلك الى ذكر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 92 الإله الذي لا تجب العبادة إلا له ولا ينبغي الرجوع والإنابة إلا إليه، فصور المسألة في نفسه دونهم «فإنهم عدو لي» على معنى: إني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو وهو الشيطان فاجتنبتها، وآثرت عبادة من بيده الخير كله، وأراهم بذلك أنها نصيحة ينصح بها نفسه لينظروا فيقولوا: ما نصحنا ابراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون ذلك أدعى الى القبول لقوله وأبعث على الاستماع منه، ولو قال انهم عدو لكم لم يكن بهذه المثابة فتخلص عند تصويره المسألة في نفسه الى ذكر الله تعالى فأجرى عليه تلك الصفات العظام، فعظم شأنه وعدد نعمته من لدن خلقه وأنشأه إلى حين يتوفاه مع ما يرجى في الآخرة من رحمته ليعلم من ذلك أن من هذه صفاته حقيق بالعبادة واجب على الخلق الخضوع له والاستكانة لعظمته، ثم تخلص من ذلك إلى ما يلائمه ويناسبه فدعا الله بدعوات المخلصين وابتهل اليه ابتهال الأوابين لأن الطالب من مولاه إذا قدم قبل سؤاله وتضرعه الاعتراف بالنعمة كان ذلك أسرع للاجابة وأنجح لحصول الطلبة، ثم أدرج في ضمن دعائه ذكر البعث ويوم القيامة ومجازاة الله من آمن به واتقاه بالجنة ومن ضل عن عبادته بالنار.. فتدبر هذه التخلصات البديعة المودعة في أثناء هذا الكلام. 6- التقديم: وفي قوله: «رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين» التقديم فقد استوهب الحكم أولا ثم طلب الإلحاق بالصالحين، والسر فيه دقيق جدا، ذلك أن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية لأنه يمكنه أن يعلم الحق وإن لم يعمل به وعكسه غير ممكن لأن العلم صفة الروح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 93 والعمل صفة البدن وكما أن الروح أشرف من البدن كذلك العلم أفضل من الإصلاح. 7- المجاز المرسل: وفي قوله «واجعل لي لسان صدق» مجاز مرسل إذا المراد باللسان هنا الثناء وذكر اللسان مجاز لأنه سببه فالعلاقة هي السببية وقد تقدم ذلك مرارا، وقيل هو مجاز من اطلاق الجزء على الكل لأن الدعوة باللسان. [سورة الشعراء (26) : الآيات 90 الى 104] وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 94 الإعراب: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) الواو عاطفة والجملة معطوفة على لا ينفع وإنما أورده بصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع عند ما تدنو الجنة من موقف السعداء ينظرون إليها ويغتبطون بما ينتظرهم فيها من نعيم وعند ما تدنو النار من موقف الأشقياء ينظرون إليها ويتحسرون على أنهم مسوقون إليها. وأزلفت فعل ماض مبني للمجهول أي قربت والجنة نائب فاعل وللمتقين متعلقان بأزلفت. (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) عطف على الجملة المتقدمة. (وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟) الواو عاطفة وقيل فعل ماض مبني للمجهول ولهم متعلقان بقيل أي على سبيل التوبيخ، وأين اسم استفهام في محل نصب على الظرفية المكانية وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم وما اسم موصول مبتدأ مؤخر وجملة كنتم صلة وجملة تعبدون خبر كنتم. (مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ) من دون الله حال وهل حرف استفهام وينصرونكم فعل مضارع وفاعل ومفعول به وأو حرف عطف وينتصرون فعل مضارع وفاعل. (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ) الفاء حرف عطف وكبكبوا فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وهم ضمير فصل والغاوون عطف على الواو في كبكبوا وسوغه الفصل بالجار والمجرور ضمير الفصل. (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) وجنود عطف على الواو أيضا وإبليس مضاف اليه وأجمعون تأكيد للواو وما عطف عليها. (قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ) قالوا فعل وفاعل والواو حالية وهم مبتدأ وفيها متعلقان بيختصمون وجملة يختصمون خبرهم، والتخاصم بين الشياطين ومتبعيهم فالضمير يعود على الغاوون. (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 95 تقديره نقسم وهو متعلق بقالوا وإن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن المحذوف أي إنه وجملة كنا خبر إن وكان واسمها واللام الفارقة وفي ضلال خبر كنا ومبين صفة. (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) إذ ظرف لما مضى من الزمن وهو متعلق بمبين أو بفعل محذوف دل عليه ضلال ولا يجوز أن يتعلق بضلال لأن المصدر الموصوف لا يعمل بعد الوصف وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الماضية والمعنى تالله لقد كنا في غاية الضلال المبين وقت تسويتنا إياكم يا هذه الأصنام برب العالمين في استحقاق العبادة وأنتم أذل المخلوقات وأعجزهم. (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) الواو عاطفة أو حالية وما نافية وأضلنا فعل ومفعول به مقدم وإلا أداة حصر والمجرمون فاعل أضلنا وهم رؤساؤهم وكبراؤهم كما قال تعالى «ربنا إننا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا» . (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) الفاء الفصيحة وما نافية ولنا خبر مقدم ومن حرف جر زائد وشافعين مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه خبر مقدم. (وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) عطف على شافعين وحميم صفة لصديق. (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الفاء استئنافية ولو حرف للتمني في مثل هذا الموضع كأنه قيل فليت لنا كرة لما بين معنى «لو» و «ليت» من التلاقي في التقدير، ويجوز أن تكون على أصلها للشرط، والجواب محذوف تقديره لفعلنا كيت وكيت، وأن حرف مشبه بالفعل وهي وما في حيزها مفعول لفعل محذوف تقديره نتمنى وقد نابت عنه لو، أو فاعل لفعل محذوف إن كانت لو للشرط، ولنا خبر أن المقدم وكرة اسم أن المؤخر، فنكون الفاء للسبية ونكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء واسم نكون ضمير مستتر تقديره نحن ومن المؤمنين خبر نكون. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) إن وخبرها المقدم واسمها المؤخر وما نافية وكان واسمها وخبرها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 96 (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) الواو استئنافية وان واسمها واللام المزحلقة وهو ضمير فصل أو مبتدأ والعزيز خبر إن أو خبر هو والرحيم خبر ثان. البلاغة: 1- في قوله «فكبكبوا فيها هم والغاوون» قوة اللفظ لقوة المعنى، وهذا مما انفرد في التنبيه إليه ابن جني في كتاب «الخصائص» فإن الكبكبة تكرير الكب، جعل التكرير في اللفظ دليلا على التكرير في المعنى كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها وليست الزيادة في اللفظ دالة على قوة المعنى بصورة مطردة بل ان المدار في ذلك على الذوق، خذ لك مثالا زيادة التصغير فهي زيادة نفص فرجيل أنقص من رجل في المعنى ولكنه أكثر حروفا منه. 2- الإيضاح: وقد تقدم ذكره كثيرا وهو أن يذكر المتكلم كلاما في ظاهره لبس ثم يوضحه في بقية كلامه، والاشكال الذي يحله الإيضاح يكون في معاني البديع من الألفاظ وفي إعرابها ومعاني النفس دون الفنون وهو هنا في قوله: «ولا صديق حميم» فإن الصديق الموصوف بصفة حميم هو الذي يفوق القرابة ويربو عليه وهو أن يكون حميما، فالحميم من الاحتمام وهو الاهتمام أي يهمه أمرنا ويهمنا أمره وقيل من الحامة وهي الخاصة من قولهم حامة فلان أي خاصته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 97 [سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 122] كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) الإعراب: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) كلام مستأنف مسوق للشروع في حكاية القصة الثالثة وكذبت قوم نوح المرسلين فعل وفاعل ومفعول، وأنث الفعل باعتبار معنى القوم وهو الأمة والجماعة وفي المصباح: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 98 «القوم يذكر ويؤنث فيقال قام القوم وقامت القوم وكذا كل اسم جمع لا واحد له من لفظه نحو رهط ونفر» وفي الزمخشري والبيضاوي: «القوم مؤنث ولذلك يصغر على قويمة» وهذا محمول على الأغلب فإن قلت: كيف قال كذبت قوم نوح المرسلين وهم لم يكذبوا إلا نوحا وحده قلت هو كقولهم فلان يركب الدواب ويلبس البرود وما له إلا دابة وبرد. (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ) الظرف متعلق بكذبت وجملة قال في محل جر بإضافة الظرف إليها ولهم متعلقان بقال وأخوهم فاعل قال ونوح بدل وانما جعله أخاهم جريا على أسلوبهم في قولهم: يا أخا العرب ويا أخا تميم يريدون يا واحدا منهم ومنه بيت الحماسة: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا وألا أداة عرض وتتقون فعل مضارع وفاعل. (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) تعليل لعرضه عليهم الجنوح الى التقوى وان واسمها ولكم متعلقان بمحذوف حال أو برسول ورسول خبر وأمين صفة. (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) الفاء الفصيحة واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وأطيعون الفاء عاطفة وأطيعون فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء المحذوفة لمراعاة الفواصل مفعول به. (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) الواو عاطفة وما نافية وأسألكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وعليه متعلقان بمحذوف حال ومن حرف جر زائد وأجر مجرور لفظا منصوب محلا لأنه مفعول به وإن نافية وأجري مبتدأ وإلا أداة حصر وعلى رب العالمين خبر. (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) تقدم إعرابها قريبا وقد صدرت القصص الخمس بالأمر بالتقوى للدلالة على اتفاق الأديان السماوية على وجوب معرفة الحق واتباعه وكررت الجملة نفسها تأكيدا لهذه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 99 الغاية السامية. (قالُوا: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري ونؤمن فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ولك متعلقان بنؤمن والواو للحال واتبعك الأرذلون فعل ومفعول به وفاعل، وحق واو الحال هنا أن يضمر بعدها قد وهذا ضرب من السخافة يقيسون كفاءة الاتباع بمقدار ما يتمتعون به من مال وحطام أو بما يتميزون به من حسب وجاه ولكن الإسلام سوى بين المسلمين كافة. (قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) الواو استئنافية وما يحتمل أن تكون استفهامية وأن تكون نافية فعلى الأول تكون في محل رفع بالابتداء وعلمي خبرها وبما متعلقان بعلمي على كل حال وعلى جعلها نافية يكون الخبر محذوفا ليصير الكلام به جملة، وجملة كانوا صلة ما وجملة يعملون خبر كانوا. (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) إن نافية وحسابهم مبتدأ وإلا أداة حصر وعلى ربي خبر حسابهم ولو امتناعية وتشعرون فعل مضارع مرفوع وجواب لو محذوف كما أن مفعول تشعرون محذوف تقديره ذلك وتقدير الجواب ما عبتموهم وما نسبتم إليهم أي نقص. (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة وما حجازية وأنا اسمها والباء حرف جر زائد وطارد مجرور لفظا خبر ما محلا والمؤمنين مضاف إليه. (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) إن نافية وأنا مبتدأ وإلا أداة حصر ونذير خبر ومبين صفة. (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) اللام موطئة للقسم وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتنته فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت ولتكونن اللام جواب القسم وجواب الشرط محذوف على حسب القاعدة المشهورة: واحذف لدى اجتماع شرط وقسم ... جواب ما أخرت فهو ملتزم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 100 وتكونن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة واسم تكونن ضمير مستتر تقديره أنت ومن المرجومين خبر. (قالَ: رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ) رب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وحرف النداء محذوف وان واسمها وجملة كذبون خبرها وكذبون فعل ماض وفاعل ومفعول به وقد حذفت ياء المتكلم لمراعاة الفواصل. (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الفاء الفصيحة وافتح فعل أمر معناه الدعاء وفاعله مستتر تقديره أنت وبيني ظرف متعلق بافتح وبينهم عطف على بيني وفتحا يجوز أن يكون مفعولا مطلقا ويجوز أن يكون مفعولا به والفتح هنا من الفتاحة بمعنى الحكومة، والفتاح الحاكم سمي بذلك لفتحه مغالق الأمور وفي القاموس: «الفتاحة بالضم والكسر ويقال بينهما فتاحات أي خصومات» والمعنى احكم بيننا بما يستحقه كل منا والمراد أنزل العقوبة بهم ولذلك قال ونجني. ونجني الواو عاطفة ونجني عطف على احكم ومن الواو عاطفة أو للمعية ومن عطف على الياء أو مفعول معه ومعي ظرف متعلق بمحذوف صلة من ومن المؤمنين حال. (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) الفاء استئنافية وهو من كلامه تعالى وأنجيناه فعل ماض وفاعل ومفعول به ومن مفعول معه أو عطف على الهاء ومعه ظرف متعلق بمحذوف صلة وفي الفلك متعلقان بالاستقرار الذي تعلق به الظرف والمشحون صفة للفلك والمشحون المملوء. (ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ) ثم حرف عطف للتراخي وأغرقنا فعل وفاعل وبعد ظرف زمان مبني على الضم لانقطاعه عن الاضافة لفظا لا معنى والمراد بعد انجائهم، والباقين مفعول أغرقنا. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) كلام مستأنف لبيان العبرة من هذه القصة وان حرف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 101 مشبه بالفعل وفي ذلك خبر مقدم واللام المزحلقة وآية اسم إن المؤخر والواو عاطفة أو حالية وما نافية وكان واسمها ومؤمنين خبرها يعني أن أكثريتهم الساحقة لم تؤمن ولذلك أخذوا ولو كان نصفهم مؤمنين على الأقل لنجوا. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وهو ضمير فصل أو مبتدأ والعزيز خبر إن أو هو والرحيم خبر ثان وقد تقدم إعراب نظائرها مرارا. البلاغة: التكرير في قوله: «فاتقوا الله وأطيعون» للتأكيد والتقرير في النفوس مع كونه علق على كل واحد منهما بسبب وهو الأمانة في الأول، وقطع الطمع في الثاني، ونظيره قولك: ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيرا؟ ألا تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيرا؟. وفيه أيضا التقديم، قدم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته لأن تقوى الله علة لطاعته. [سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 140] كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 102 اللغة: (رِيعٍ) : الريع بكسر الراء وفتحها قال في الأساس واللسان: «ونزلوا بريع وريع رفيع وريعة وريعة رفيعة وهي المرتفع من الأرض وتقول: يبنون بكل ريعة وملكهم كسراب بقيعة» وقال في القاموس: «والريع بالكسر والفتح المرتفع من الأرض أو كل فج أو كل طريق أو الطريق المنفرج في الجبل والجبل المرتفع الواحدة بهاء ... وبالكسر الصومعة وبرج الحمام والتلّ العالي ... وبالفتح فضل كل شيء كريع العجين والدقيق والبذر» قلت واستعمال بمعنى استغلال الريع صحيح يقال طعام كثير الريع، وأراعت الحنطة وراعت زكت، وأراعها الله تعالى وأراع الناس هذا العام: زكت زروعهم ويقولون كم ريع أرضك وهو ارتفاعها قال المسيب بن علس: في الآل يرفعها ويخفضها ... ريع يلوح كأنه سحل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 103 والضمير في البيت للظعائن أي هي في الآل وهو السراب يرفعها تارة ويخفضها أخرى ريع أي طريق مرتفع تارة ومنخفض أخرى أو مكان عال ترتفع بصعوده وتنخفض بالهبوط منه. ويقال ليس له ريع أي مرجوع وغلة. (آيَةً) : الآية: العلم يهتدي به المارة وكان بناؤها للعبث واللهو لأنهم كانوا يهتدون بالنجوم في أسفارهم فلا يحتاجون إليها وقيل المراد بها القصور المشيدة ترفعون بناءها وتجتمعون فيها فتعبثون بمن يمربكم. (تَعْبَثُونَ) : في المصباح: «عبث عبثا من باب تعب لعب وعمل مالا فائدة فيه فهو عابث» . (مَصانِعَ) : جمع مصنعة بفتح الميم مع فتح النون أو ضمها وهي الحوض أو البركة فقوله مصانع أي حيضانا وبركا تجمعون فيها الماء فهي من قبيل الصهاريج، وفي المختار: «المصنعة بفتح الميم وضم النون أو فتحها كالحوض يجمع فيه ماء المطر والمصانع الحصون» وفي القاموس وشرحه التاج: «المصنعة والمصنعة بفتح الميم وفتح النون وضمها ما يجمع فيه ماء المطر كالحوض والجمع مصانع والمصانع أيضا: الفري والحصون والقصور والمصنعة أيضا الدعوة للأكل يقال كنا في مصنعة فلان وموضع يعزل للنحل بعيدا عن البيوت» وجميع هذه المعاني صالحة للتفسير. (بَطَشْتُمْ) : البطش: السطوة والأخذ بعنف وللباء مع الطاء فاء وعينا للكلمة خاصة غريبة فهي تدل على السطوة والقوة وعدم المبالاة بالآخرين يقال: أبطأ علي فلان وبطؤ في مشيته وتباطأ في أمره وتباطأ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 104 عني وفيه بطء وما كنت بطيئا ولقد بطؤت وفرس بطيء من خيل بطاء وما أبطأ بك عنا؟ وما بطأ بك؟ وما بطّأك؟ قال عمر بن ربيعة: فقمت أمشي فقامت وهي فاترة ... كشارب الرّاح بطّا مشيه السكر ولا يخفى ما في ذلك كله من الإدلال بالنفس والزهو بها وعدم المبالاة بالآخرين، ويقال بطحه على وجهه فانبطح وفيه كل الاذلال والصّغار والمهانة ونظر حويص الى قبر عامر بن الطفيل فقال: هو في طول بطحتي أراد في طول قدي منبطحا على الأرض وبطاح بطح واسعة عريضة وتبطّح السيل اتسع مجراه، قال ذو الرمة: ولا زال من نوء السماك عليكما ... ونوء الثريا وابل متبطّح وتبطّح فلان تبوّأ الأبطح قال: هلّا سألت عن الذين تبطحوا ... كرم البطاح وخير سرّة وادي وأبطخ القوم وأقثئوا كثر عندهم البطيخ والقثاء ونظر الليث الى قوم يأكلون بطيخا فقال: لما رأيت المبطخين أبطخوا ... فأكلوا منه ومنه لطخوا ورأيته يدور بين المطابخ والمباطخ ولا يفعل ذلك إلا تياه مفتخر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 105 بعناه وثرائه، وبطر فلان تجاوز الحد في الزهو والمرح ورجل أشر بطر وأبطره الغنى ومن أقوالهم: «وما أمطرت حتى أبطرت» يعني السماء وان الخصب يبطر الناس كما قال: قوم إذا اخضرّت نعالهم ... يتناهقون تناهق الحمر وامرأة بطيرة شديدة البطر وبيطر الدابة بيطره و «أشهر من راية البيطار» والدنيا قحبة يوما عند عطار ويوما عند بيطار ومن أقولهم أيضا: «وعهدي به وهو لدوابنا مبيطر فهو اليوم علينا مسيطر» ومن حكمهم المأثورة: «لا تبطرنّ صاحبك ذرعه» أي لا تقلق إمكانه ولا تستفزه بأن تكلفه غير المطاق وذرعه من بدل الاشتمال وبطر فلان نعمة الله استخفها فكفرها ولم يسترجحها فيشكرها ومنه «بطرت معيشتها» وذهب دمه بطرا أي مبطورا مستخفا حيث لم يقتصّ به وهو بهذا الأمر عالم بيطار، قال عمر بن أبي ربيعة: ودعاني ما قال فيها عتيق ... وهو بالحسن عالم بيطار والبطش معروف وقد تقدم ومن مجازه: فلان يبطش في العلم بباع بسيط، وبطشت بهم أهوال الدنيا، ومن أقوالهم: «وسلكوا أرضا بعيدة المسالك قريبة المهالك، وقذوا بمباطشها، وما أنقذوا من معاطشها» وجاءت الركاب تبطش بالأحمال أي ترجف بها، وبطّ القرحة بالمبط وهو المضع وعنده بطة من السليط والبط والواحدة بطة للمذكر والمؤنث وهو طير مائي قصير العنق والرجلين وهو غير الإوز وجمعه بطوط وبطاط والبطة أيضا إناء كالقارورة أبطح، وهو باطل بين البطلان وبطّال بيّن البطالة بكسر الباء وقد بطل بفتح الطاء وبطل بيّن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 106 البطالة بفتح الباء وقد بطل بضم الطاء وقد بطل بضم الطاء أيضا يبطل بالضم بطالة وبطولة صار شجاعا فهو بطل وجمعه أبطال ومؤنثه بطلة وجمعها بطلات، والبطن معروف وألقت الدجاجة ذات بطنها ونثرت المرأة للزوج بطنها إذا أكثرت الولد وبطنه وظهره أي ضربهما منه وقد بطن فلان بالبناء للمجهول إذا اعتل بطنه وهو مبطون وبطين ومبطان ومبطن أي عليل البطن وعظيمه وأبطن البعير شدّ بطانة وباطنت صاحبي شددته معه وبطّن ثوبه بطانة حسنة واستبطن أمره عرف باطنه وتبطّن الكلأ: جوّل فيه وتوسطه، قالت الخنساء: فجاء يبشّر أصحابه: تبطّنت يا قوم غيثا خصيبا وتبطّن الجارية جعلها بطانة له، قال امرؤ القيس: كأني لم أركب جوادا للذّة ... ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال ويقال أنت أبطن بهذا الأمر خبره وأطول له عشره، وهو بطانتي وهم بطانتي وفلان عريض البطان أي غني، وشأو بطين أي بعيد، قال زهير: فبصبص بين أداني الغضى ... وبين عنيزة شأوا بطينا الإعراب: (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) فعل وفاعل ومفعول به والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في القصة الرابعة. (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ) الظرف متعلق بكذبت وقال لهم أخوهم فعل وفاعل وهود بدل من أخوهم وألا أداة عرض وتتقون فعل مضارع وفاعل والجملة مقول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 107 القول. (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) الجملة تعليل لعرضه عليهم الجنوح إلى التقوى وإن واسمها ولكم متعلقان بمحذوف حال أو برسول ورسول خبر إن وأمين صفة لرسول. (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) تقدم إعرابها كثيرا. (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) وهذه تقدم إعرابها بحروفها قريبا. (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) الاستفهام للتقريع والتوبيخ وتبنون فعل مضارع وفاعل وبكل ريع متعلقان بتبنون وآية مفعول به وجملة تعبثون في محل نصب على الحال. (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) وتتخذون عطف على تبنون وتتخذون فعل مضارع وفاعل ومصانع مفعول به ولعلكم تخلدون لعل واسمها والجملة خبرها وجملة الرجاء في محل نصب على الحال أي راجين ومؤملين أن تخلدوا في الدنيا. (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) الواو عاطفة وإذا ظرف متعلق بالجواب وهو بطشتم الثانية، وجملة بطشتم الأولى في محل جر بإضافة إذا إليها وجبارين حال أي غير مبالين بالنتائج والعواقب وإنما أنكر عليهم ذلك لأنه ظلم وأما في الحق فالبطش بالسيف والسوط جائز (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) الفاء الفصيحة واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وأطيعون عطف على اتقوا. (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) واتقوا فعل أمر وفاعل والذي مفعول به وجملة أمدكم صلة وبما متعلقان بأمدكم وجملة تعلمون صلة. (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) جملة أمدكم الثانية بدل من جملة أمدكم الأولى بدل بعض من كل لأنها أخص من الأولى باعتبار متعلقيهما فتكون داخلة في الأولى لأن ما تعلمون يشمل الانعام وغيرها وقيل هي مفسرة للجملة الأولى فتكون لا محل لها وسيأتي بحث بدل الجملة من الجملة في باب الفوائد. (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ان واسمها وجملة أخاف خبرها وعليكم متعلقان بأخاف وعذاب مفعول به الجزء: 7 ¦ الصفحة: 108 ويوم مضاف إليه وعظيم صفة. (قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) سواء خبر مقدم وعلينا متعلقان بسواء والهمزة للاستفهام ووعظت فعل ماض وفاعل وأم لم تكن من الواعظين معادل لقوله أوعظت وهمزة التسوية وما في حيزها في تأويل مصدر مبتدأ مؤخر أي سواء علينا وعظك، وأتى بالمعادل هكذا دون قوله أم لم تعظ لتواخي القوافي وقال الزمخشري: «وبينهما فرق لأن المعنى سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلا من أهله ومباشريه فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه من قولك أم لم تعظ» . (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) إن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وخلق خبر هذا والأولين مضاف إليه والمعنى ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا خلق الأولين وعادتهم كانوا يدينونه ونحن بهم مقتدون. (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) الواو عاطفة وما نافية حجازية ونحن اسمها والباء حرف جر زائد ومعذبين مجرور لفظا بالباء منصوب محلا على أنه خبر ما. (فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) الفاء الفصيحة وكذبوه فعل ماض وفاعل ومفعول به، فأهلكناهم عطف على فكذبوه وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبر إن واللام المزحلقة وآية اسم ان والواو حرف عطف وما نافية وكان فعل ماض ناقص وأكثرهم اسمها ومؤمنين خبرها. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) تكرر إعرابها كثيرا. الفوائد: تبدل الجملة من الجملة بشرط أن تكون الجملة الثانية أوفى من الأولى بتأدية المراد ولذلك لا يقع البدل المطابق في الجمل وإنما يقع بدل البعض من الكل كما تقدم في الآية أو بدل الاشتمال كقوله: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 109 أقول له ارحل لا تقيمنّ عندنا ... وإلّا فكن في السرّ والجهر مسلما فلا تقيمنّ عندنا بدل اشتمال من ارحل لما بينهما من المناسبة اللزومية وليس توكيدا له لاختلاف لفظيهما، لا بدل بعض من كل لعدم دخوله في الأول، ولا بدل بدلا مطابقا لعدم الاعتداد به، ولم يشترط النحاة الضمير في بدل البعض والاشتمال في الأفعال والجمل لتعذر عود الضمير عليها، وقد تبدل الجملة من المفرد بدلا مطابقا كقول الفرزدق: إلى الله أشكو بالمدينة حاجة ... وبالشام أخرى كيف يلتقيان أبدل جملة كيف يلتقيان من حاجة وأخرى وهما مفردان وانما صح ذلك لرجوع الجملة الى التقدير بمفرد أي الى الله أشكو هاتين الحاجتين تعذر التقائهما، فتعذر مصدر مضاف الى فاعله وهو بدل من هاتين، ولم يسلم بعض النحاة بذلك لاحتمال أن تكون جملة كيف يلتقيان مستأنفة نبه بها على سبب الشكوى وهو استبعاد اجتماع هاتين الحاجتين. قال بعضهم: وهل يجوز عكسه؟ أعني ابدال المفرد من الجملة أو لا، وصرح أبو حيان في البحر بأن المفرد يبدل من الجملة كقوله تعالى «ولم يجعل له عوجا قيما» فقيما عنده بدل من جملة لم يجعل له عوجا لأنها في معنى المفرد أي جعله مستقيما، وقال ابن هشام في مغني اللبيب: «ان جملة «كيف خلقت» بدل من الإبل بدل اشتمال والمعنى الى الإبل كيفية خلقها ومثله «ألم تر الى ربك كيف مد الظل» وكل جملة فيها كيف من اسم مفرد» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 110 فائدة هامة: إذا أبدل اسم من اسم استفهام أو اسم شرط وجب ذكر همزة الاستفهام أو «إن» الشرطية مع البدل ليوافق المبدل منه في المعنى نحو: كم مالك؟ أعشرون أم ثلاثون فكم اسم استفهام في محل رفع خبر مقدم ومالك مبتدأ مؤخر وعشرون بدل من كم ويسميه النحاة بدل تفصيل وهو ينحصر في المطابق، ومن جاءك أعلي أم خالد؟ فمن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة جاءك خبره وعليّ بدل من «من» الاستفهامية بدل تفصيل، ونحو: من يجتهد إن علي أو خالد فأكرمه: فمن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ والجملة بعده خبره وإن حرف شرط لا عمل له هنا لأنه جيء به لبيان المعنى لا للعمل وعليّ بدل من الضمير المستتر في يجتهد وخالد معطوف على عليّ وجملة فأكرمه في محل جزم جواب الشرط، ونحو: حيثما تنتظرني في المدرسة وإن في الدار أوافك، فحيثما اسم شرط جازم في محل نصب مفعول فيه متعلق بتنتظرني وفي المدرسة جار ومجرور في موضع النصب على البدلية من محل حيثما. [سورة الشعراء (26) : الآيات 141 الى 159] كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 111 اللغة: (نَخْلٍ) : النخل والنخيل شجر التمر المعروف له ساق مستقيم طويل ذو عقد واحدته نخلة ونخيلة وفي المصباح ما ملخصه: النخل اسم جمع الواحدة نخلة وكل اسم جمع كذلك يؤنث ويذكر وأما النخيل بالياء فمؤنثة اتفاقا. (طَلْعُها هَضِيمٌ) ما يطلع منها كنصل السيف في جوفها شماريخ القنو، وتشبيهه بنصل السيف من حيث الهيئة والشكل وفي المختار: «ويقال للطلع هضيم ما لم يخرج لدخول بعضه في بعض» من قولهم كشح هضيم، وفي القاموس والتاج: «الطلع: المقدار، تقول: الجيش طلع ألف ومن النخل شيء يخرج كأنه نعلان مطبقان والحمل بينهما منضود والطرف محدد أو ما يبدو من ثمرته في أول ظهورها» والهضيم النضيج الرخص اللين اللطيف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 112 (فارِهِينَ) : وقرئ فرهين: بطرين حاذقين في العمل من الفره وهو شدة الفرح، وقال في الكشاف: «والفراهة الكيس والنشاط ومنه خيل فرهة» . (شِرْبٌ) : بكسر الشين أي نصيب. (فَعَقَرُوها) : أي ضربها بعضهم بالسيف في ساقيها وكان اسمه قدار وسنورد القصة التي نسجت حول هذه القصة لتكون حافزا للأقلام على صوغ قصة فنية منها. الإعراب: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ) جملة مستأنفة مسوقة للشروع في القصة الخامسة وهي فعل وفاعل ومفعول وثمود اسم قبيلة صالح سميت باسم أبيها وهو ثمود جد صالح وفي التعبير عن صالح بالجمع ما تقدم. (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ) الظرف متعلق بكذبت والجملة تقدم إعرابها. (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) تقدم إعرابها أيضا. (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) تقدم إعرابها أيضا. (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) تقدم إعرابها أيضا. (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وتتركون فعل مضارع مبني للمجهول وفيما متعلقان بتتركون وها حرف تنبيه وهنا اسم إشارة في محل نصب ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة للموصول وآمنين حال من الواو في تتركون أي في الذي استقر في هذا المكان من النعيم ثم فسره بقوله: (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) في جنات بدل من قوله فيما هاهنا بإعادة الجار، وما بعده الجزء: 7 ¦ الصفحة: 113 عطف على جنات وطلعها مبتدأ وهضيم خبر والجملة صفة لنخل. (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) الواو حرف عطف وتنحتون عطف على تتركون فهو في حيز الاستفهام الانكاري التوبيخي ومحل جملة الاستفهام التوبيخية نصب على الحال ومن الجبال جار ومجرور متعلقان بتنحتون وبيوتا مفعول به وفارهين حال وقد مرت جملة مماثلة فيها النحت الذي هو النحر والبري. (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) تقدم إعرابها. (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) الواو للحال ولا ناهية وتطيعوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل وأمر المسرفين مفعول وسيأتي معنى إطاعة الأمر في باب البلاغة. (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) الذين صفة للمسرفين وجملة يفسدون صلة وفي الأرض متعلقان بيفسدون ولا يصلحون عطف على قوله يفسدون وسيأتي سر العطف في باب البلاغة. (قالُوا: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) إنما كافة ومكفوفة وأنت مبتدأ ومن المسحرين خبر أي الذين سحروا كثيرا حتى غلب السحر على عقولهم والجملة مقول القول. وقيل المسحر هو المعلّل بالطعام والشراب فيكون المسحر الذي له سحر وهو الرئة فكأنهم قالوا: إنما أنت بشر مثلنا تأكل وتشرب. (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ما نافية وأنت مبتدأ وإلا أداة حصر وبشر خبر ومثلنا صفة، فأت الفاء الفصيحة أي إن كنت صادقا كما تزعم فأت، وبآية متعلقان بقوله فأت وإن شرطية وكنت كان واسمها وهو في محل جزم فعل الشرط ومن الصادقين خبر كنت وجواب إن محذوف دل عليه ما قبله أي فأت بآية. (قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) هذه مبتدأ وناقة خبر والجملة مقول القول ولها خبر مقدم وشرب مبتدأ مؤخر والجملة صفة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 114 لناقة ولكم خبر مقدم وشرب يوم مبتدأ مؤخر ومعلوم صفة ليوم. (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) الواو عاطفة ولا ناهية وتمسوها فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والهاء مفعول به وبسوء متعلقان بتمسوها فيأخذكم الفاء هي السببية ويأخذكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء والكاف مفعول به وعذاب فاعل ويوم مضاف اليه وعظيم صفة يوم. (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) الفاء عاطفة وعقروها فعل وفاعل ومفعول به، فأصبحوا الفاء عاطفة وأصبحوا نادمين فعل ماض ناقص والواو اسمها ونادمين خبرها، ولك أن تجعل أصبحوا تامة والواو فاعل ونادمين حال وسيأتي في قصة صالح ما يرجح أنها تامة. (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) الفاء عاطفة وأخذهم فعل ماض ومفعول به مقدم والعذاب فاعل مؤخر وجملة إن في ذلك لآية تعليل للأخذ والواو حالية أو عاطفة وما نافية وكان واسمها وخبرها. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) تقدم إعرابها كثيرا. البلاغة: 1- في قوله «ولا تطيعوا أمر المسرفين» مجاز عقلي لأن الأمر لا يطاع وإنما هو صاحبه أي ولا تطيعوا المسرفين في أمرهم. 2- الارداف: فقد كان يكفي أن يقول «الذين يفسدون في الأرض» ولكنه لما كان قوله يفسدون لا ينفي صلاحهم أحيانا أردفه بقوله «ولا يصلحون» لبيان كمال افسادهم وإسرافهم فيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 115 الفوائد: قصة صالح: في القرطبي: «أوحى الله إلى صالح أن قومك سيعقرون ناقتك فقال لهم ذلك، فقالوا: ما كنا لنفعل، فقال لهم صالح: انه سيولد في شهركم هذا غلام يعقرها ويكون هلاككم على يديه، فقالوا: لا يولد في هذا الشهر ذكر إلا قتلناه، فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر فذبحوا أبناءهم ثم للعاشر فأبى أن يذبح أبنه وكان لم يولد له قبل ذلك، فكان ابن العاشر أزرق أحمر فنبت نباتا سريعا فكان إذا مر بالتسعة فرأوه قالوا: لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا، وغضب التسعة على صالح لأنه كان سببا لقتلهم أبناءهم فتعصبوا وتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله فقالوا: نخرج الى سفر فيرى الناس سفرنا فنكون في غار حتى إذا كان الليل وخرج صالح الى مسجده أتيناه فقتلناه ثم قلنا ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون فيصدقونا ويعلمون أنا قد خرجنا الى سفر، وكان صالح لاينام معهم في القرية بل كان ينام في المسجد فإذا أصبح أتاهم فوعظهم فلما دخلوا الغار أرادوا أن يخرجوا فسقط عليهم الغار فقتلهم فرأى ذلك الناس ممن كان قد اطلع على ذلك فصاحوا في القرية: يا عباد الله أما رضي صالح أن أمر بقتلهم أولادهم حتى قتلهم فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة. رواية عقر الناقة: وروي أن مسطعا ألجأ الناقة الى مضيق في شعب فرماها بسهم فأصاب رجلها فسقطت ثم ضربها قدار وقيل انه قال لا أعقرها حتى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 116 ترضوا أجمعين فكانوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون: أترضين؟ فتقول: نعم وكذلك صبيانهم. هذا وقد ضرب بقدار المثل في الشؤم فقال زهير مشيرا إليه وقد غلط فجعله أحمر عاد مع أنه أحمر ثمود وذلك في أبيات له يصف الحرب ويحذر قومه من مغابها ونوردها هنا جملة لأهميتها: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... وتضر إذا ضرّيتموها فتضرم فتعرككم عرك الرحى بثفالها ... وتلقح كشافا ثم تنتج فتئثم فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم أي أنها تلد لكم أبناء كل واحد منهم يضاهي في الشؤم عاقر الناقة وهو قدار بن سالف. [سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 175] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 117 اللغة: (الذُّكْرانَ) : أحد جموع الذكر والذكر خلاف الأنثى وفي المختار: الذكر ضد الأنثى وجمعه ذكور وذكران وذكارة كحجارة» وأورد له في القاموس جموعا عديدة فقال «وجمعه ذكور وذكورة وذكران وذكار وذكارة وذكرة» . (الْقالِينَ) : المبغضين والقلى البغض الشديد كأنه بغض يقلي الفؤاد والكبد وفي المصباح: «وقليت الرجل أقليه من باب رمى قلى بالكسر والقصر وقد يمد إذا أبغضته ومن باب تعب لغة» وعبارة القاموس: «قلاه كرماه ورضيه قلى وقلاء ومقلية أبغضه وكرهه غاية الكراهة فتركه أو قلاه في الهجر وقليه في البغض» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 118 (الْغابِرِينَ) : قال في الكشاف «ومعنى الغابرين في العذاب والهلاك: غير الناجين» وفي المصباح: «غبر غبورا من باب قعد بقي وقد يستعمل فيما مضى أيضا فيكون من الأضداد، وقال الزبيدي: غبر غبورا مكث وفي لغة بالمهملة للماضي وبالمعجمة للباقي وغبّر الشيء وزان سكر بقيته» وفي القاموس: «غبر غبورا مكث وذهب ضد، وهو غابر من غبّر كركّع وغبر الشيء بالضم بقيته» . الإعراب: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ) جملة مستأنفة مسوقة للشروع في القصة السادسة. (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ) لم يكن لوط أخاهم في النسب وانما جعله أخاهم جريا على أساليبهم كما تقدم أو باعتبار انه كان ساكنا ومجاورا لهم في قريتهم. (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) صدّر كل قصة بهذه الآيات وقد تقدم إعرابها فجدد به عهدا. (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وتأتون الذكران فعل مضارع وفاعل ومفعول به ومحل جملة الاستفهام التوبيخية النصب على الحال ومن العالمين حال. (وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) وتذرون عطف على تأتون داخل في حيز الاستفهام التوبيخي وهو فعل مضارع وفاعل وما مفعول به وجملة خلق لكم ربكم صلة ومن أزواجكم حال على أن «من» للتبيين ويجوز أن تكون للتبعيض وسيأتي تفصيل هذا كله في باب البلاغة، وبل حرف إضراب انتقالي وأنتم مبتدأ وقوم خبر وعادون صفة أي متجاوزون الحلال الى الحرام لأن معنى العادي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 119 المتعدي في ظلمه المتجاوز فيه الحد. (قالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) قالوا فعل ماض وفاعل ولئن اللام موطئة للقسم وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتنته فعل مضارع مجزوم بلم ولتكونن اللام واقعة في جواب القسم وتكونن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والواو اسم تكونن ومن المخرجين خبر أي من جملة من أخرجناهم وسيأتي تفصيل مسهب عن هذا التعبير في باب البلاغة. (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) إن واسمها ولعملكم متعلقان بالقالين ومن القالين خبر إن والجملة مقول القول وتشدد بعضهم فقال في حواشي البيضاوي ما يلي: «من القالين» متعلقان بمحذوف أي لقال من القالين وذلك المحذوف خبر إن ومن القالين صفة ولعملكم متعلقان بالخبر المحذوف ولو جعل من القالين خبر إن لعمل القالين في لعملكم فيفضي الى تقديم معمول الصلة على الموصول وهو أل مع أنه لا يجوز. قلت: وهذا على دقته وملاءمته للقواعد فيه تكلف شديد يخرجه الى الإحالة ولا داعي لهذا التشدد مع أن استعمال أل موصولا يكاد يكون نادرا. (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) رب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وقد حذف منه حرف النداء ونجني فعل أمر للدعاء والياء مفعول به وأهلي مفعول معه أو معطوف على الياء ومما متعلقان بنجني وجملة يعملون صلة ما. (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) الفاء عاطفة على محذوف مقدر لتتساوق القصة ونجيناه فعل ماض وفاعل ومفعول به وأهله مفعول معه أو معطوف على الهاء وأجمعين تأكيد. (إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) إلا أداة استثناء وعجوزا مستثنى بإلا وهي امرأته وفي الغابرين صفة لعجوزا كأنه قيل إلا عجوزا غابرة. (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) عطف على ما تقدم. (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 120 وأمطرنا عطف على دمرنا وعليهم متعلقان بأمطرنا ومطرا مفعول به، فساء الفاء حرف عطف وساء فعل للذم ومطر المنذرين فاعل ساء والمخصوص بالذم محذوف وهو مطرهم والمراد بالمطر الحجارة التي انثالت عليهم. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) إن وخبرها المقدم واسمها المؤخر والواو حالية وما نافية وكان واسمها وخبرها. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) تقدم إعرابها كثيرا. البلاغة: 1- قوله تعالى «وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم» في هذه الآية الإبهام بقوله «ما خلق لكم» وقد أراد به إقبالهنّ، وفي ذلك مراعاة للحشمة والتصون و «من» تحتمل البيان وتحتمل التبعيض. 2- العدول الى الصفة: في قوله «لتكونن من المخرجين» وقوله «من القالين» عدول عن الجملة الفعلية الى الصفة، وكثيرا ما ورد في القرآن خصوصا في هذه الصورة العدول عن التعبير بالفعل الى التعبير بالصفة المشتقة ثم جعل الموصوف بها واحدا من جمع كقول فرعون «لأجعلنك من المسجونين» وأمثاله كثيرة، والسر في ذلك أن التعبير بالفعل إنما يفهم وقوعه خاصة، وأما التعبير بالصفة ثم جعل الموصوف بها واحدا من جمع فانه يفهم أمرا زائدا على وقوعه وهو أن الصفة المذكورة كالسمة للموصوف ثابتة العلوق به كأنها لقب وكأنه من طائفة صارت من هذا النوع المخصوص المشهور ببعض السمات الرديئة، استمع الى قوله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 121 تعالى «رضوا بأن يكونوا مع الخوالف» كيف ألحقهم لقبا رديئا وصيّرهم من نوع رذل مشهور بسمة التخلف حتى صارت له لقبا لاصقا به، وهذا عام في كل ما يرد عليك وورد فيما مضى من أمثال ذلك فتدبره واقدره قدره. [سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 191] كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 122 اللغة: (الْأَيْكَةِ) : في اللغة الشجرة الكثيفة وجمعها أيك، قال في القاموس «أيك يأيك من باب تعب أيكا واستأيك الشجر: التف وصار أيكة والأيك الشجر الكثيف الملتف الواحدة أيكة» فتطان الأيكة على الواحدة من الأيك وعلى غيضة شجر ملتفة قرب مدين، قالوا: وكان شجرهم الدوم وهي قرية شعيب سميت باسم بانيها مدين بن ابراهيم بينها وبين مصر مسيرة ثمانية أيام، وقد اختلف المفسرون واللغويون فيها وسننقل لك بعض ما قالوه. قال الزمخشري: «قرئ أصحاب الأيكة بالهمزة وبتخفيفها وبالجر على الاضافة وهو الوجه، ومن قرأ بالنصب وزعم أن ليكة بوزن ليلة اسم بلد فتوهم قاد إليه خط المصحف حيث وجدت مكتوبة في هذه السورة وفي سورة (ص) بغير ألف، وفي المصحف أشياء كتبت على خلاف قياس الخط المصطلح عليه وإنما كتبت في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ كما يكتب أصحاب النحو لان ولولا على هذه الصورة لبيان لفظ المخفّف وقد كتبت في سائر القران على الأصل والقصة واحدة على أن ليكة اسم لا يعرف وروي أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتف وكان شجرهم الدوم» . وقال الجلال السيوطي: «وفي قراءة بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وفتح الهاء وهي غيضة شجر قرب مدين» وهذا الصنيع يقتضي أن اللام الموجودة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 123 لام التعريف وحينئذ لا يصح قوله وفتح الهاء إذ الاسم المقرون بأل سواء كانت معرفة أو غيرها يجر بالكسرة سواء وقع فيه نقل أم لا، ووجه بعضهم فتح الهاء بأن الاسم بوزن ليلة فاللام من بنية الكلمة ولا نقل بل حركة اللام أصلية فجره بالفتحة حينئذ ظاهر. وقال الشهاب الخفاجي: «وقد استشكل هذه القراءة أبو علي الفارسي وغيره بأنه لا وجه للفتح لأن نقل حركة الهمزة لا يقتضي تغيير الاعراب من الكسر الى الفتح وأجيب بأن ليكة على هذه القراءة اسم البلدة وهي غير مصروفة للعلمية والتأنيث واللام فيها جزء من الكلمة لا المعرفة لأنها توجب الصرف فقول القائل انها على النقل غير صحيح وبهذا اندفع ما قاله النحاة فانهم نسبوا هذه القراءة الى التحريف» . وقد أطال السمين الحلبي في توجيه هذه القراءة جدا ونصه: قرأ نافع وابن كثير وابن عامر ليكة بلام واحدة وفتح التاء جعلوه اسما غير معرف بأل مضافا إليه أصحاب هنا وفي «ص» خاصة، والباقون الأيكة معرفا بأل موافقة لما أجمع عليه في «الحجر» وفي «ق» وقد اضطربت أقوال الناس في القراءة الأولى وتجرأ بعضهم على قارئها وسأذكر لك من ذلك طرفا: فوجهها على ما قال أبو عبيدة أن ليكة اسم للقرية التي كانوا فيها والأيكة اسم للبلاد كلها فصار الفرق بينهما شبيها بما بين مكة وبكة» . وقال صاحب القاموس: «ومن قرأ الأيكة فهي الغيضة ومن قرأ ليكة فهي اسم القرية وموضعه اللام ووقع في البخاري اللائكة جمع أيكة وكأنه وهم» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 124 وقال شارحه في التاج: «قوله وكأنه وهم لأنه ليس له وجه ولم يتكلم به أحد من الأئمة ولكنه رضي الله عنه ثقة فيما ينقل فينبغي أن يحسن الظن به وقد أجاب عنه شراحة وصححوه» . وقال أبو البقاء: «أصحاب الأيكة يقرأ بكسر التاء مع تحقيق الهمزة وتخفيفها بالإلقاء وهو مثل الأنثى والأنثى قرئ ليكة بياء بعد اللام وفتح التاء وهذا لا يستقيم إذ ليس في الكلام ليكة حتى يجعل علما فإن أدعي قلب الهمزة لا ما فهو في غاية البعد» . الأيك والحمام في الشعر: هذا وقد استهوى الأيك وحمامه الشعراء فكثرت أشعارهم فيه، أنشد أبو حاتم لرجل من بني نهشل: ألام على فيض الدموع وإنني ... بفيض الدموع الجاريات جدير أيبكي حمام الأيك من فقد إلفه ... وأصبر عنها إنني لصبور وأنشد الرياشي عن الأصمعي، قال: أنشدني منتجع بن نبهان لرجل من بني الصيّداء: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 125 دعت فوق أفنان من الأيك موهنا ... مطوقة ورقاء في إثر آلف فهاجت عقابيل الهوى إذ ترنمت ... وشبت ضرام الشوق تحت الشراسف بكت بجفون دمعها غير ذارف ... وأغرت جفوني بالدموع الذّوارف والطريف في هذا الباب قول عوف بن محلّم: ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك ميّاد ففيم تنوح أفق لا تنح من غير شيء فإنني ... بكيت زمانا والفؤاد صحيح ولوعا فشطّت غربه دار زينب ... فها أنا أبكي والفؤاد جريح (القسطاس) : بكسر القاف وضمها وقد قرئ بهما: الميزان السوي فإن كان من القسط وهو العدل وجعلت العين مكررة فوزنه فعلاس وإلا فهو رباعي وقيل هو بالرومية العدل. (وَلا تَعْثَوْا) : ولا تفسدوا يقال عثا في الأرض وعثي وذلك نحو قطع الطريق والغارة وإهلاك الزروع وفي المختار: «عثا في الأرض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 126 أفسد وبابه سما وعثي بالكسر عثوا أيضا وعثى بفتحتين بوزن فتى قال الله تعالى: «ولا تعثوا في الأرض مفسدين» قلت قال الأزهري: القراء كلهم متفقون على فتح الثاء دل على أن القرآن نزل باللغة الثانية» . (وَالْجِبِلَّةَ) : بكسر الجيم والباء وتشديد اللام المفتوحة: الخلق المتحد الغليظ وفي القاموس «الجبلة والجبلة والجبلة والجبلّة وهي التي قرئ بها: الوجه وما استقبلك منه والخلقة والطبيعة والأصل والقوة وصلابة الأرض» والجبل بفتح الجيم مع سكون الباء مصدر جبله الله على كذا أي طبعه وخلقه واسم الطبيعة جبلة، ولهذه الكلمة بهذا المعنى ألفاظ كثيرة وهي الجبلة والخيم والطبع والنحيزة والطبيعة والنبيتة والضريبة والسجية والشنشنة والخليقة والسليقة والسليقة والشيمة والغريزة والنجار وقد نظم بعضهم معاني الجبل فقال: قد جبل الله الطباع جبلا ... وسمي المال الكثير جبلا وعدد الناس الكثير جبلا ... بالضم إن أردت أو بالكسر وجه وقوة وغيث جبلة ... وامرأة غليظة والجبلة جماعة أو كثرة كالجبله ... لقدح من خشب ذي كبر (كِسَفاً) : بكسر الكاف وفتح السين وقرئ كسفا بسكون السين وكلاهما جمع كسفة نحو قطع وسدر وقال أبو عبيدة: «الكسف جمع كسفة مثل سدر وسدرة وقرأ السلمي وحفص كسفا جمع كسفة أيضا وهي القطعة والجانب مثل كسرة وكسر» وفي الصحاح: «الكسفة من الشيء يقال أعطني كسفة من ثوبك أي قطعة ويقال الكسف والكسفة واحد» وقال الأخفش «من قرأ كسفا من السماء جعله واحد ومن قرأ كسفا جعله جمعا» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 127 (الظُّلَّةِ) : المظلة الضيقة وما يستظل به من الحر أو البرد وما أظلك كالشجر والجمع ظلل وظلال ويوم الظلة اشتهر بعذابهم فقد رنقت فوقهم سحابة أظلتهم بعد جر شديد أصابهم فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا. الإعراب: (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) كلام مستأنف مسوق لذكر القصة السابعة والأخيرة في هذه السورة. (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ) تقدمت هذه الآية وما بعدها في جميع القصص السبع وسيأتي سر ذلك في باب البلاغة. ولم يقل أخوهم كما قال في الأنبياء قبله لأنه لم يكن من أصحاب الأيكة في النسب، فلما ذكر مدين قال أخاهم شعيبا لأنه كان منهم. (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) آيات تقدمت في القصص السبع. (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) أوفوا فعل أمر وفاعل والكيل مفعول به والواو حرف عطف ولا ناهية وتكونوا فعل مضارع ناقص مجزوم بلا والواو اسمها ومن المخسرين خبر تكونوا، قال الزمخشري: «الكيل على ثلاثة أضرب: واف وطفيف وزائد، فأمر بالواجب الذي هو الإيفاء ونهى عن المحرم الذي هو التطفيف ولم يذكر الزائد وكأن تركه عن الأمر والنهي دليل على أنه إن فعله فقد أحسن وإن لم يفعله فلا عليه» . (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) اعرابها واضح. (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتبخسوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والناس مفعول به أول وأشياعهم مفعول به ثان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 128 وفي أقوالهم «لا تبخس أخاك حقه» . ولا تعثوا عطف على ولا تبخسوا وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بتعثوا ومفسدين حال مؤكدة لمعنى عاملها وأما لفظهما فمختلف. (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) الواو عاطفة واتقوا فعل أمر وفاعل والذي مفعول به وجملة خلقكم صلة والجبلة عطف على الذي والأولين صفة للجبلة. (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) إنما كافة ومكفوفة وأنت مبتدأ ومن المسحرين خبر والجملة مقول القول. (وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) الواو عاطفة وما نافية وأنت مبتدأ وإلا أداة حصر وبشر خبر ومثلنا نعت لبشر والواو حرف عطف وإن مخففة من الثقيلة واسمها محذوف ونظنك فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به واللام الفارقة ومن الكاذبين خبر قال الزمخشري: «فإن قلت إن المخففة من الثقيلة ولامها كيف تفرقتا على فعل الظن وثاني مفعوليه؟ قلت: أصلهما أن تتفرقا على المبتدأ والخبر كقولك إن زيد لمنطلق فلما كان البابان أعني باب كان وباب ظننت من جنس باب المبتدأ والخبر فعل ذلك في البابين فقيل إن كان زيد لمنطلقا وإن ظننته لمنطلقا» . (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) الفاء الفصيحة وأسقط فعل أمر وعلينا متعلقان بأسقط وكسفا مفعول به ومن السماء صفة لكسفا وإن شرطية وكنت فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها ومن الصادقين خبر كنت وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فأسقط علينا. (قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) ربي مبتدأ وأعلم خبر والجملة مقول القول وبما متعلقان بأعلم وجملة تعملون لا محل لها لأنها صلة الموصول. (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) الفاء عاطفة وكذبوه فعل وفاعل ومفعول به فأخذهم فعل ومفعول به وعذاب يوم الظلة فاعل وان واسمها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 129 وجملة كان خبرها، واسم كان ضمير مستتر تقديره هو وعذاب خبر كان ويوم مضاف اليه وعظيم صفة. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) تقدم اعرابها. البلاغة: فن التكرير: في هذه القصص السبع كرر في أول كل قصة وفي آخرها ما كرر مما أشرنا اليه لأن في التكرير تقريرا للمعاني في الأنفس وترسيخا لها في الصدور مع تعليق كل واحدة بعلة، وفن التكرير فن دقيق المأخذ وربما اشتبه على أكثر الناس بالاطناب مرة وبالتطويل مرة أخرى، وهو ينقسم الى قسمين: القسم الاول من التكرير: يوجد في اللفظ والمعنى كقولك لمن تستدعيه: أسرع أسرع ومنه قول أبي الطيب المتنبي: ولم أر مثل جيراني ومثلي ... لمثلي عند مثلهم مقام القسم الثاني من التكرير: يوجد في المعنى دون اللفظ كقولك: أطعني ولا تعص أوامري، فإن الأمر بالطاعة نهي عن المعصية. وعلى كل حال ليس في القرآن مكرر لا فائدة في تكريره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 130 وزعم قوم أن أبا الطيب المتنبي أتى بتكرير لا حاجة به إليه في قوله: العارض الهتن بن العارض الهتن بن العا ... رض الهتن بن العارض الهتن وليس في هذا البيت من تكرير فإنه كقولك الموصوف بكذا وكذا ابن الموصوف بكذا وكذا أي انه عريق النسب في هذا الوصف، وقد ورد في الحديث النبوي مثله كقوله صلى الله عليه وسلم في وصف يوسف النبي: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم» فالبيت كالحديث النبوي من جهة المعنى لكنه انحط عن الحديث من جهة ألفاظه، وهي ألفاظ إذا استعملت مفردة كانت حسنة ولكن إيرادها على هذا الوجه المتداخل هو الذي شوه جمالها وأحالها الى ضرب من المغالطة اللفظية غضت منها وهذا أمر مرده الى الذوق وحده فهو الفيصل الذي يحكم في هذه الأمور وما أحسن ما قال الفيلسوف الفرنسي فولتير «ذوقك أستاذك» . التكرير غير المفيد: أما إذا كان التكرير غير مفيد فهو العي الفاحش، ومن العجيب أن يتورط شاعر كأبي الطيب المتنبي فيورد البيت الذي أوردناه في مستهل هذا البحث وهو: ولم أر مثل جيراني ومثلي ... لمثلي عند مثلهم مقام ألا ترى أنه يقول لم أر مثل جيراني في سوء الجوار ولا مثلي في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 131 مسايرتهم ومقامي عندهم إلا أنه قد كرر هذا المعنى في البيت مرتين، ومثله قوله: وقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل دهر كلهن قلاقل وكذلك قوله: عظمت فلما لم تكلم مهابة ... تواضعت وهو العظم عظما على عظم قال أحد النقاد القدامى فيه: «ولو سمي هذا البيت جبانة لكان لائقا به» والظاهر أن هذا الناقد يكره التكرير وقد صور له كرهه إياه قصيدة ابن الرومي في المرأة التي أولها: أجنت لك الوجد أغصان وكثبان ... فيهنّ نوعان تفّاح ورمان غير جميلة أو من هذا الضرب فقال: «هذه دار البطيخ فاقرءوا نسيبها تعلموا ذلك» . ولسنا ننكر أن ابن الرومي قد بالغ في غزلها وأكثر من ذكر العناب والبان والنرجس ولكنه واقع موقعه ولا سبيل الى النيل منه. ونعود الى أبي الطيب فقد أكثر من التكرير حتى أسف في كثير من أبياته مع أنه شاعر العربية الأول فقال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 132 أسد فرائسها الأسود يقودها ... أسد تصير له الأسود ثعالبا قال ابن رشيق: «ما أدري كيف تخلص من هذه الغابة المملوءة أسودا» وقال الاصمعي لمن أنشده قوله: فما للنوى جذ النوى قطع النوى ... كذاك النوى قطّاعة لوصال «لو سلط الله على هذا النوى شاة لأكلته كله» . وأما قول أبي نواس: أقمنا بها يوما ويوما وثالثا ... ويوما له يوم الترحل خامس فقال ابن الأثير في المثل السائر: «مراده أنهم أقاموا أربعة أيام ويا عجبا له يأتي بمثل هذا البيت السخيف الدال على العي الفاحش في ضمن تلك الأبيات العجيبة الحسن وهي: ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس مساحب من جر الزقاق على الثرى ... وأضغاث ريحان جنيّ ويابس حبست بها صحبي فجددت عهدهم ... وإني على أمثال تلك لحابس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 133 تدار علينا الراح في عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارس قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مها تدريها بالقسيّ الف وارس فللرّاح ما زرّت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس وقد أخطأ ابن الأثير وفهم البيت خطأ ولم يمعن النظر فيه فنقده ولو أنه أمعن النظر لما قال فيه هذا القول، والمعنى الصحيح: ان المقام سبة أيام لأنه قال وثالثا ويوما آخر له اليوم الذي رحلنا فيه خامس. وأبو نواس أجل قدرا من أن يسف ويأتي بهذه العبارة لغير معنى طائل وله في الخمر أبيات منقطعة النظير وقد تدق على الافهام، حكي عنه أنه ذكر عند الرشيد قوله: فاسقني البكر التي اعتجرت ... بخمار الشيب في الرحم فقال الرشيد لمن حضر: ما معناه؟ فقال أحدهم: إن الخمر إذا كانت في دنّها كان عليها شيء مثل الزبد فهو الشيب الذي أراده، وكان الاصمعي حاضرا فقال: يا أمير المؤمنين إن أبا علي أجل خطرا وان معانيه لخفية فاسألوه عن ذلك فأحضر وسئل فقال: إن الكرم أول ما يخرج العنقود في الزرجون يكون عليه شيء يشبه القطن فقال الأصمعي: ألم أقل لكم إن أبا نواس أدق نظرا مما قلتم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 134 عود الى الآيات: ونعود فنقول إنما كرر القرآن هذه الآيات في أول كل قصة وآخرها لأن هذه القصص قرعت بها آذان أصابها وقر وقلوب غلف، فلم يكن بد من مراجعتها بالترديد والتكرير لعل ذلك يفتح مغالقها ويجلو ما تحيفها من صدأ. وسيأتي من التكرير في القرآن ما يسكر النفوس ويخلب الألباب. [سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 203] وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) اللغة: (الْأَعْجَمِينَ) : قال الزمخشري: الأعجم الذي لا يفصح وفي نسانه عجمة واستعجام والاعجمي مثله إلا أن فيه لزيادة ياء النسبة زيادة تأكيد، وقرأ الحسن: الأعجميين، ولما كان من يتكلم بلسان غير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 135 لسانهم لا يفقهون كلامه قالوا له أعجم وأعجمي شبهوه بمن لا يفصح ولا يبين، وقالوا لكل ذي صوت من البهائم والطيور وغيرها أعجم قال حميد: ولا عربيا شاقه صوت أعجما قلت: وهذا عجز بيت وصدره: «ولم أر مثلي شاقه صوت مثلها» والبيت من أبيات لحميد بن ثور وقد رحلت صاحبته ومنها: وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... دعت ساق حر ترحة وتندما عجبت لها أنّى يكون غناؤها ... فصيحا ولم تفغر بسنطقها فما ولم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربيا شاقه صوت أعجما وساق حر مركب إضافي وهو ذكر الحمام مطلقا يقول: وما حرك هذا الشوق وبعثه فتوقد في قلبي إلا حمامة دعت ذكرها، والترحة: الحزن ضد الفرحة، والتندم: التأسف على ما فات، ويروى وترنما وهو تحسين الصوت وهما نصب على الحالية أي حزينة ومتأسفة أو ذات ترحة وذات تندم، وأنى اسم استفهام بمعنى كيف والاستفهام معناه هنا التعجب وفغر فاه يفغره من باب نفع فتحه أي والحال أنها لم تفتح فمها بنطقها وانما يخرج صوتها من صدرها، وشاقه تسبب له في الشوق، والعربي المفصح والأعجم الذي لا يفصح من الحيوان نقلته العرب لمن لا يفهمون كلامه ولا يفقهون مراده وربما ألحقوه ياء النسب للمبالغة في شدة العجمة، وبينه وبين عربي طباق التضاد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 136 واستشكل كيف يجمع الأعجم جمع المذكر السالم وهو وصف على وزن أفعل في المذكر وعلى وزن فعلاء في المؤنث وشرط الجمع بالياء والنون أو بالواو والنون أن لا يكون الوصف كذلك، وأجيب بأنه جمع أعجمي بياء النسب وحذفت للتخفيف كأشعرين في أشعري، والكوفيون يجيزون جمع أفعل فعلاء جمع المذكر السالم وقال صاحب التحرير: «قوله على بعض الأعجمين جمع أعجمي ولولا هذا التقدير لم يجز أن يجمع جمع سلامة» . وعبارة القاموس: «العجم بالضم وبالتحريك خلاف العرب رجل وقوم أعجم والأعجم من لا يفصح كالأعجمي والأخرس وزياد الشاعر والموج لا يتنفس فلا ينضح ماء ولا يسمع له صوت والعجمي من جنسه العجم وان أفصح وجمعه عجم» . الإعراب: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير حقيقة تلك القصص وتأكيد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإن إخباره عن الأمم المتقدمة وهو الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب لا يكون إلا عن طريق الوحي والضمير يعود على القرآن لأن هذه القصص جزء منه. وان واسمها واللام المزحلقة وتنزيل رب العالمين خبرها. (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) الجملة صفة لتنزيل وبه في موضع الحال أي ملتبسا به فالباء للملابسة والروح فاعل والأمين صفة وعلى قلبك متعلقان بنزل واللام للتعليل وتكون فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد اللام ومن المؤمنين خبر تكون. (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) بلسان جار ومجرور متعلقان بالمنذرين لأنه اسم مفعول أي من الذين أنذروا بهذا اللسان العربي وهم هود وصالح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 137 وشعيب وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام، أو انه بدل من قوله به بإعادة العامل أي نزل بلسان عربي أي باللغة العربية. (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) عطف على ما تقدم وان واسمها واللام المزحلقة وفي زبر الأولين خبر إن يعني أن ذكره مثبت في الكتب السماوية. (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي التقريعي والواو عاطفة على مقدر ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم ولهم متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لآية وتقدم عليها وآية خبر يكن المقدم وأن يعلمه في تأويل مصدر اسم يكن وعلماء بني إسرائيل فاعل بعلمه. وهؤلاء العلماء هم خمسة قد أخبروا بالقرآن وهم عبد الله بن سلام وأسد وأسيد وثعلبة وابن يامين وقد أسلموا وحسن إسلامهم. (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) الواو عاطفة ولو شرطية امتناعية ونزلناه فعل ماض وفاعل ومفعول به وعلى بعض الأعجمين متعلقان بنزلناه. (فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) الفاء عاطفة وقرأه فعل ماض وفاعل مستتر يعود على بعض الأعجمين ومفعول به وعليهم متعلقان بقرأه وجملة ما كانوا مؤمنين لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وبه متعلقان بمؤمنين ومؤمنين خبر كانوا. (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) الكاف نعت لمصدر محذوف مقدم أي مثل هذا السلك سلكناه في قلوبهم وقررناه فيها وسلكناه فعل وفاعل ومفعول به وفي قلوب المجرمين متعلقان بسلكناه. (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) الجملة مستأنفة أو حالية من الهاء في سلكناه أو من المجرمين فعلى الأول تكون الجملة بمثابة الإيضاح والتلخيص لما تقدم وعلى الثاني يكون التقدير سلكناه حالة كونه غير مؤمن به، ولا نافية ويؤمنون فعل مضارع مرفوع وفاعل وبه متعلقان بيؤمنون وحتى حرف غايه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 138 وجر ويروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والواو فاعل والعذاب مفعول به والأليم صفة. (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) الفاء حرف للتعقيب قال الزمخشري: «فإن قلت: ما معنى التعقيب في قوله فيأتيهم بغتة فيقولوا ... ؟ قلت: ليس المعنى ترادف رؤية العذاب ومفاجأته وسؤال النظرة فيه في الوجود، وانما المعنى ترتبها في الشدة كأنه قيل لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم للعذاب فما هو أشد منها وهو لحوقه بهم مفاجأة فما هو أشد منه وهو سؤالهم النظرة مع القطع بامتناعها ومثال ذلك أن تقول لمن تعظه، إن أسأت مقتك الصالحون فمقتك الله فإنك لا تقصد بهذا الترتيب أن مقت الله عقيب مقت الصالحين، وإنما قصدك إلى ترتيب شدة الأمر على المسيء» وهكذا سبر الزمخشري أغوار القرآن الكريم وألمّ بخفاياه إلمام الخبير بمواقع الأسرار. ويأتيهم معطوف على يروا والفاعل مستتر تقديره هو والهاء مفعول به وبغتة حال والواو واو الحال وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر. (فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) الفاء عاطفة كما تقدم والكلام كله مقدم من تأخير ويقولوا عطف على يأتيهم وهل حرف استفهام ونحن مبتدأ ومنظرون خبر والجملة مقول القول ومعنى الاستفهام هنا التحسر والاستبعاد لما هو محال وهو إمهالهم بعد حلول العذاب بهم. الفوائد: شروط جمع المذكر السالم: يشترط في كل ما يجمع جمع المذكر السالم من اسم أو صفة ثلاثة شروط: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 139 آ- الخلو من تاء التأنيث فلا يجمع هذا الجمع من الأسماء نحو طلحة، ولا من الصفات نحو علّامة بتشديد اللام لئلا يجتمع فيهما علامتا التأنيث والتذكير. ب- أن يكون لمذكر فلا يجمع هذا الجمع علم المؤنث نحو زينب ولا صفة المؤنث نحو حائض. ج- أن يكون لعاقل لأن هذا الجمع مخصوص بالعقلاء فلا يجمع نحو وأشق علما لكلب وسابق صفة لفرس، ثم يشترط أن يكون إما علما غير مركب تركيبا مزجيا ولا استناديا فلا يجمع المركب المزجي نحو معدي كرب وسيبويه، وقيل إن المختوم بويه يجمع هذا الجمع فيقال سيبويهون ومنهم من يحذف وبه فيقول سيبون، أما المركب الاضافي فيجمع أول المتضايفين ويضاف للثاني فيقال غلامو زيد وغلامي زيد، والكوفيون يجمعونهما معا، وأما صفة تقبل التاء المقصود بها معنى التأنيث فلا يجمع هذا الجمع نحو علامة ونسابة لأن التاء فيهما لتأكيد المبالغة لا لقصد معنى التأنيث، أو صفة لا تقبل التاء ولكنها تدل على التفضيل فالصفة التي لا تقبل التاء نحو قائم ومذنب تقول قائمة ومذنبة والصفة التي تدل على التفضيل نحو أفضل فهذه الصفات الثلاث تجمع هذا الجمع كما تجمع بالألف والتاء فيقال قائمون ومذنبون وأفضلون كما يقال قائمات ومذنبات وفضليات، فلا يجمع هذا الجمع نحو جريح بمعنى مجروح وصبور بمعنى صابر وسكران وأحمر وأعجم فإنها لا تقبل التاء ولا تدل على تفضيل لأن جريحا وصبورا مما يستوي فيه المذكر والمؤنث وسكران مؤنثه سكرى وأحمر مؤنثه حمراء وأعجم مؤنثة عجماء فلا يقال جريحون وصبورون وسكرانون وأحمرون كما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 140 لا يقال جريحات وصبورات وسكرانات وحمراوات وعجماوات فلو جعلت أعلاما جاز الجمعان. [سورة الشعراء (26) : الآيات 204 الى 220] أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) الإعراب: (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) الهمزة للاستفهام التوبيخي والتهكمي والإنكاري والفاء عاطفة على مقدر يقتضيه المقام وقد سبق تقريره والتقدير: أيكون حالهم كما ذكر من طلب الإنظار عند نزول العذاب الأليم فيستعجلون، هكذا قدره بعض المعربين ولكنه لا يخلو من إيهام، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 141 فالأولى أن يقدر: أيغفلون عن ذلك مع تحققه وتقرره فيستعجلون، وقدم الجار والمجرور لأمرين: لفظي وهو مراعاة الفواصل ومعنوي وهو الإيذان بأن مصب الإنكار والتوبيخ كون المستعجل به العذاب، والجار والمجرور متعلقان بيستعجلون. (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ) الهمزة للاستفهام والفاء حرف عطف ورأيت معطوف على فيقولوا وما بينهما اعتراض والتاء فاعل رأيت ورأيت بمعنى أخبرني فتتعدى الى مفعولين أحدهما مفرد والآخر جملة استفهامية غالبا وإن شرطية ومتعناهم فعل ماض وفاعل ومفعول به وسنين ظرف متعلق بمتعناهم. (ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ) ثم حرف عطف وجاءهم فعل ومفعول به وما فاعل جاءهم وجملة كانوا صلة والواو اسم كان وجملة يوعدون خبرها. ثم: تنازع أفرأيت وجاءهم في قوله «ما كانوا يوعدون» فإن أعملت الثاني وهو جاءهم كما تقدم في الاعراب رفعت به «ما كانوا» فاعلا به، ومفعول أرأيت الأول ضميره ولكنه حذف والمفعول الثاني هو الجملة الاستفهامية في قوله «ما أغنى عنهم» ولا بد من رابط بين هذه الجملة وبين المفعول الاول المحذوف وهو مقدر تقديره: أفرأيت ما كانوا يوعدونه، وإن أعملت الاول نصبت به «ما كانوا» مفعولا به وأضمرت في جاءهم فاعلا به والجملة الاستفهامية مفعول ثان أيضا والعائد مقدر على ما تقرر في للوجه قبله والشرط معترض وجوابه محذوف. وقد تقدم البحث مستوفى في هذا التعبير في سورة الأنعام وهذا كله إنما يتأتى على قولنا إن «ما» استفهامية ولا يضيرنا تفسيرهم لها بالنفي فإن الاستفهام قد يرد للنفي، وأما إذا جعلتها نافية، فتكون حرفا، ولا يتأتى ذلك لأن مفعول أرأيت الثاني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 142 لا يكون إلا جملة استفهامية وقد ذكر هذا مفصلا كما ذكرت أقوال المعربين في سورة الانعام فجدد به عهدا. (ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) ما استفهامية كما تقدم مفعول مقدم لأغنى وأغنى فعل ماض وعنهم متعلقان بأغنى وما مصدرية أو موصولة وعلى كل حال هي ومدخولها أو هي وحدها فاعل أغنى والتقدير ما أغنى عنهم تمتعهم أو ما كانوا يمتعون به من متاع الحياة الدنيا، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي وقيل ما نافية ولا فرق بينهما كما تقدم. (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) الواو عاطفة أو استئنافية وما نافية وأهلكنا فعل وفاعل ومن حرف جر زائد وقرية مجرور بمن لفظا منصوب محلا على أنه مفعول أهلكنا وإلا أداة حصر ولها خبر مقدم ومنذرون مبتدأ مؤخر والجملة صفة لقرية أو حال منه وسوغ ذلك سبق النفي وقد تقدم الزمخشري رأي جميل في مثل هذا التعبير ونعيده هنا قال: «فإن قلت كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا ولم تعزل عنها في قوله: وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم؟ قلت: الأصل عزل الواو لأن الجملة صفة لقرية وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف كما في قوله: سبعة وثامنهم كلبهم» . (ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ) مفعول لأجله على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة، وجوز أبو البقاء أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف أي هذه ذكرى والجملة اعتراضية، وأعربها الكسائي حالا أي مذكرين، وأعربها الزجاج مصدر والعامل منذرون لأنه في معنى مذكرون ذكرى أي هذه ذكرى والجملة اعتراضية، وأعرابها الكسائي حالا أي مذكرين، (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) الواو عاطفة وما نافية وتنزلت فعل ماض وبه جار ومجرور متعلقان بتنزلت والضمير للقرآن والشياطين فاعل تنزلت (وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ) الواو عاطفة وما نافية وينبغي فعل مضارع وفاعله مستتر يعود على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 143 القرآن ولهم متعلقان بينبغي وما يستطيعون عطف على ما ينبغي ومفعول يستطيعون محذوف تقديره ذلك. (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) الجملة تعليل لعدم استطاعتهم أن يتنزلوا به وان واسمها وعن السمع متعلقان بمعزولون واللام المزحلقة ومعزولون خبر إن. (فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) الفاء الفصيحة والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود غيره، ولا ناهية وتدع فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت ومع ظرف متعلق بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لإلها وتقدم عليه وإلها مفعول به وآخر صفة لإلها، فتكون الفاء فاء السببية وتكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء واسم تكون مستتر تقديره أنت ومن المعذبين خبر تكون. (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) الواو عاطفة وأنذر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعشيرتك مفعول به والأقربين صفة، وسيأتي بحث واف عن هذا الانذار في باب الفوائد. (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) عطف أيضا واخفض جناحك فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به ولمن متعلقان بأخفض وجملة اتبعك صلة من ومن المؤمنين حال. (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) الفاء عاطفة وإن شرطية وعصوك فعل ماض وفاعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط، فقل الفاء رابطة للجواب وان واسمها وبريء خبرها ومما متعلقان ببريء وجملة تعملون صلة وجملة اني بريء مقول القول ولذلك كسرت همزة إن. (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) عطف على ما تقدم وعلى العزيز متعلقان بتوكل. (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) الذي صفة للعزيز الرحيم وجملة يراك صلة وحين ظرف متعلق بيراك وجملة تقوم مجرورة بإضافة الظرف إليها ومتعلق تقوم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 144 محذوف أي الى الصلاة (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) عطف على الكاف في يراك وفي الساجدين حال وفي بمعنى مع أي مصليا مع الجماعة، وعن مقاتل أنه سأل أبا حنيفة رضي الله عنه: هل تجد الصلاة في الجماعة في القرآن؟ فتلا هذه الآية، وقال بعضهم المراد بالساجدين المؤمنون أي يراك متقلبا في أصلاب وأرحام المؤمنين منذ زمن آدم وحواء الى عبد الله وآمنة (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ان واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والسميع العليم خبران لإن أو للضمير والجملة الاسمية خبر إن. الفوائد: أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر الأقرب فالأقرب، فلما أنزل الله تعالى «وأنذر عشيرتك الأقربين» دعاهم الى دار عمه أبي طالب وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه وفيهم أعمامه، فأنذرهم فقال يا بني عبد المطلب: لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. وروي انه قال: يا بني عبد المطلب، يا بني هاشم، يا بني عبد مناف افتدوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم شيئا، ثم قال: يا عائشة بنت أبي بكر، ويا حفصة بنت عمر، ويا فاطمة بنت محمد، ويا صفية عمة محمد اشترين أنفسكن من النار فإني لا أغني عنكن شيئا. وهناك روايات أخرى لا تخرج عن هذا المعنى نجتزىء بما تقدم منها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 145 [سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 227] هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) الإعراب: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) كلام مستأنف مسوق لإبطال كونه كاهنا يتلقى من الشياطين، وهل حرف استفهام وأنبئكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول وعلى من جار ومجرور متعلقان بتنزل وقدم للاهتمام به ولأن للاستفهام صدر الكلام، وهو معلق لفعل التنبئة عن العمل والجملة سدت مسد المفعولين الثاني والثالث وتنزل فعل مضارع حذفت إحدى تاءيه والأصل تتنزل، والشياطين فاعل تنزل. (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) الجار والمجرور متعلقان بتنزل، وهو بدل من الجار والمجرور قبله وأفاك مضاف الى كل وأثيم صفة وهم الكهنة والمتنبئة كشق وسطيح ومسيلمة وطلحة. (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) يلقون فعل مضارع والواو فاعل وهو يعود على الشياطين فتكون الجملة حالية أو يعود على كل أفاك أثيم من حيث أنه جمع في المعنى فتكون الجملة مستأنفة أو صفة لكل أفاك أثيم، ومعنى إلقائهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 146 السمع إنصاتهم الى الملأ الأعلى ليسترقو شيئا أو إلقاء الشيء المسموع الى الكهنة، والسمع مفعول به والواو حالية وأكثرهم مبتدأ وكاذبون خبر والجملة حالية. (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) كلام مستأنف أيضا مسوق لإبطال كونه شاعرا كما زعموا وسيأتي بحث ضاف عن الشعر ومن هم الشعراء الذين يتبعهم الغاوون في باب الفوائد والشعراء مبتدأ وجملة يتبعهم خبر ويتبعهم فعل مضارع ومفعول به مقدم والغاوون فاعل مؤخر. (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) الجملة مفسرة والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي تر وفي كل واد متعلقان بيهيمون ويهيمون فعل مضارع وفاعل والجملة خبر أنهم، ويجوز أن تعلق الجار والمجرور بمحذوف هو الخبر وجملة يهيمون حالية، وتمثيل ذهابهم في كل شعب من القول بالوادي سيأتي بحثه في باب البلاغة. (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) جملة معطوفة. (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً) إلا أداة استثناء والذين مستثنى من الشعراء المذمومين وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا داخل في حيز الصلة وذكروا الله عطف أيضا وكثيرا صفة لمفعول مطلق محذوف أي ذكروا الله ذكرا كثيرا أو صفة لظرف زمان محذوف أي وقتا كثيرا. (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) عطف على ما تقدم وما مصدرية أي من بعد ظلمهم من إضافة المصدر لمفعوله. (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) الواو استئنافية والسين حرف استقبال ويعلم فعل مضارع والذين فاعله وجملة ظلموا صلة وأي منقلب منصوب على المفعولية المطلقة لأن أيا تعرب بحسب ما تضاف إليه وقد علقت يعلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 147 عن العمل، هذا والعامل في أي هو ينقلبون لا يعلم لأن أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها، قال النحاس: «وحقيقة القول في ذلك أن الاستفهام معنى وما قبله معنى آخر فلو عمل فيه لدخل بعض المعاني في بعض» . البلاغة: في قوله تعالى: «ألم تر أنهم في كل واد يهيمون» استعارة تمثيلية لطيفة وليس ثمة واد ولا شعاب ولا هيام وانما هو تغلغل الى مناحي القول، واعتساف في الأوصاف والتغزل والتشبيب والنسيب وقلة مبالاة بما يهتكونه من أعراض، ويرجفون به من أقوال، وسيأتي تفصيل ذلك عند الكلام على الشعر في باب الفوائد، وعن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله: فبتن بجانبي مصرعات ... وبت أفض إغلاق الختام فقال قد وجب عليك الحد، فقال يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد بقوله «وأنهم يقولون ما لا يفعلون» . الفوائد: 1- فضل الشعر: واستثناء الشعراء الصالحين الذين ينافحون دون الأوطان، ويدعون الى الفضائل والإصلاح، ويصورون عيوب المجتمع وسيئاته لرأب صدوعه، يدل على ما للشعر من مكانة سامية ومنزلة عالية، وقد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 148 روى البخاري عن أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن من الشعر حكمة، وعن ابن عباس قال: جاء أعرابي الى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يتكلم بكلام فقال: إن من البيان سحرا وان من الشعر حكمة. أخرجه أبو داود، وقالت عائشة رضي الله عنها: الشعر كلام منه حسن ومنه قبيح فخذ الحسن ودع القبيح، وقال الشعبي: كان أبو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر وكان عثمان يقول الشعر وكان علي أشعر من الثلاثة رضي الله عنهم أجمعين. بين النظم والنثر: وقال صاحب العمدة: «وكلام العرب نوعان: منظوم ومنثور، ولكل منهما ثلاث طبقات: جيدة ومتوسطة ورديئة، فإذا اتفق الطبقتان في القدر وتساوتا في القيمة ولم يكن لإحداهما فضل على الأخرى كان الحكم للشعر ظاهرا في التسمية لأن كل منظوم أحسن من كل منثور من جنسه في معترف العادة، ألا ترى أن الدر، وهو أخو اللفظ ونسيبه، إليه يقاس وبه يشبه، إذا كان منثورا لم يؤمن عليه ولم ينتفع به في الباب الذي له كسب ومن أجله انتخب، وإن كان أعلى قدرا وأغلى ثمنا، فإذا نظم كان أصون له من الابتذال، وأظهر لحسنه مع كثرة الاستعمال، وكذلك اللفظ إذا كان منثورا تبدد في الأسماع وتدحرج عن الطباع. الكذب مذموم إلا من الشعراء: ومن فضائله أن الكذب الذي اجتمع الناس على قبحه حسن فيه، وحسبك ما حسّن الكذب واغتفر له قبحه، فقد أوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن زهير لما أرسل الى أخيه بجير ينهاه عن الإسلام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 149 وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بما أحفظه فأرسل اليه أخوه: ويحك ان النبي أوعدك لما بلغه عنك وقد كان أوعد رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه فقتلهم يعني ابن خطل وابن حبابة وان من بقي من شعراء قريش كابن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر الى رسول الله فإنه لا يقتل من جاء تائبا وإلا فانج الى نجائك فإنه والله قاتلك، فضاقت به الأرض فجاء الى رسول الله متنكرا فما صلى البني صلاة الفجر وضع كعب يده في يد رسول الله ثم قال: يا رسول الله إن كعب بن زهير قد أتى مسنأمنا تائبا أفتؤمنه فآتيك به؟ قال: هو آمن فحسر كعب عن وجهه وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله هذا مكان العائذ بك أنا كعب بن زهير فأمنه رسول الله وأنشد كعب قصيدته التي أولها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيّم إثرها لم يفد مكبول يقول فيها بعد تغزله وذكر شدة خوفه ووجله: أنبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول مهلا هداك الذي أعطاك نافلة الق ... سر آن فيها مواعيظ وتفصيل لا تأخذنّي بأقوال الوشاة فلم ... أذنب وقد كثرت فيّ الأقاويل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 150 فلم ينكر عليه النبي قوله، وما كان ليوعده على باطل، بل تجاوز عنه ووهب له بردته فاشتراها منه معاوية بثلاثين ألف درهم وقال العتبي بعشرين ألفا وهي التي توارثها الخلفاء يلبسونها في الجمع والأعياد. ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ بحسّان وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أرغاء كرغاء البعير، فقال حسان: دعني عنك يا عمر فو الله انك لتعلم لقد كنت أنشد في هذا المسجد لمن هو خير منك فما يغير عليّ ذلك فقال عمر: صدقت. وقال صاحب العمدة: «فأما احتجاج من لا يفهم وجه الكلام بقوله تعالى «والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وانهم يقولون ما لا يفعلون» فهو غلط وسوء تأول لأن المقصود بهذا النص شعراء المشركين الذين تناولوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجاء ومسّوه بالأذى فأما من سواهم من المؤمنين فغير داخل في شيء من ذلك، ألا تسمع كيف استثناهم الله عز وجل ونبه عليهم فقال: «إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا» يريد شعراء النبي الذين ينتصرون له ويجيبون المشركين عنه كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وقد قال فيهم النبي صلى الله عليهم وسلم «هؤلاء النفر أشدّ على قريش من نصح النبل» وقال لحسان بن ثابت: «اهجهم- يعني قريشا- وروح القدس معك فو الله لهجاؤك عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام والق أبا بكر يعلمك تلك الهنات» فلو أن الشعر حرام أو مكروه ما اتخذ النبي شعراء يثيبهم على الشعر ويأمرهم بعمله ويسمعه منهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 151 وأما قوله صلى الله عليه وسلم «لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلىء شعرا» فإنما هو من غلب الشعراء على قلبه وملك نفسه حتى شغله عن دينه وإقامة فرضه ومنعه من ذكر الله تعالى. وقد قال الشعر كثير من الخلفاء الراشدين والجلّة من الصحابة والتابعين والفقهاء المشهورين: فمن ذلك قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه قالوا: واسمه عبد الله بن عثمان ويقال: عتيق لقب له قال في غزوة عبيدة ابن الحارث: أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث ... أرقت أوامر في العشيرة حادث ترى من لؤي فرقة لا يصدّها ... عن الكفر تذكير ولا بعث باعث رسول أتاهم صادق فتكذّبوا ... عليه وقالوا: لست فينا بماكث إذا ما دعوناهم الى الحق أدبروا ... وهرّوا هرير المجمرات اللواهث فكم قد متتنا فيهم بقرابة ... وترك التقى شيء لهم غير كارث الجزء: 7 ¦ الصفحة: 152 فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم ... فما طيبات الحلّ مثل الخ بائث وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم ... فليس عذاب الله عنهم بلابث فأولى برب الراقصات عشية ... حراجيح تخدي في السريح الر ثائث كأدم ظباء حول مكة عكف ... يردن حياض البئر ذات الن بائث لئن لم يفيقوا عاجلا من ضلالهم ... ولست إذا آليت قولا ب حانث لتبتدرنهم غارة ذات مصدق ... تحرم أطهار النساء الط وامث تغادر قتلى تعصب الطير حولهم ... ولا يرأف الكفار رأف ابن حارث فأبلغ بني سهم لديك رسالة ... وكل كفور يبتغي الشر باحث الجزء: 7 ¦ الصفحة: 153 فإن شتموا عرضي على سوء رأيهم ... فإني من أعراضهم غير شاعث هذا ولا بد من الإلماع الى أن ابن هشام قال في سيرته: «وأكثر أهل العلم ينكر هذه القصيدة لأبي بكر» . ومن شعر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان من أنقد أهل زمانه للشعر وأنفذهم فيه معرفة: هوّن عليك فإن الأمو ... ر بكف الإله مقاديرها فليس يأتيك منهيها ... ولا قاصر عنك مأمورها ومن شعره أيضا وقد لبس بردا جديدا فنظر الناس إليه: لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويفنى المال والولد لم تغن عن هرمز يوما خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجري الرياح له ... والجنّ والإنس فيما بينها ترد حوض هنالك مورود بلا كذب ... لا بد من ورده يوما كما وردوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 154 ومن شعر عثمان بن عفان رضي الله عنه: غنى النفس يغني النفس حتى يكفّها ... وإن عضّها حتى يضر بها الفقر وما عمرة- فاصبر لها إن لقيتها- بكائنة إلا سيتبعها يسر ومن شعر علي بن أبي طالب ما قاله يوم صفين يذكر همدان ونصرهم إياه: ولما رأيت الخيل ترجم بالقنا ... نواصيّها حمر النحور دوامي وأعرض نقع في السماء كأنه ... عجاجة دجن ملبس بقتام ونادى ابن هند في الكلاع وحمير ... وكندة في لخم وحيّ جذام تيمّمت همدان الذين هم هم ... - إذا ناب دهر- جنتي وسهامي فجاوبني من خيل همدان عصبة ... فوارس من همدان غير لئام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 155 فخاضوا لظاها واستطاروا شرارها ... وكانوا لدى الهيجا كشرب مدام فلو كنت بوّابا على باب جنة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام ومن شعر الحسن بن علي وقد خرج على أصحابه مختضبا، رواه المبرد: تسوّد أعلاها وتأبى أصولها ... فليت الذي يسودّ منها هو الأصل ومن شعر الحسين بن علي وقد عاتبه أخوه الحسن في امرأته: لعمرك انني لأحب دارا ... تحل بها سكينته والرباب أحبهما وأبذل جلّ مالي ... وليس للائمي عندي عتاب ومن الخلفاء كثيرون قالوا الشعر فمن شعر عمر بن عبد العزيز: أيقظان أنت اليوم أم أنت حالم ... وكيف يطيق النوم حيران هائم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 156 فلو كنت يقظان الغداة لحرقت ... جفونا لعينيك الدموع الس واجم نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم وتشغل فيما سوف تكره غبّه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم واشتهر من الفقهاء محمد بن إدريس الشافعي بالشعر فكان من أحسن الناس افتنانا بالشعر، وهو القائل: ومتعب العيس مرتاحا إلى بلد ... والموت يطلبه في ذلك البلد وضاحك والمنايا فوق مفرقه ... لو كان يعلم غيبا مات من كمد من كان لم يؤت علما في بقاء غد ... ماذا تفكره في رزق بعد غد ومن روائعه المشهورة قوله في الحظ: الجدّ يدني كلّ شيء شاسع ... والجدّ يفتح كل باب مغلق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 157 فإذا سمعت بأن مجدورا حوى ... عودا فأورق في يديه فصدق وإذا سمعت بأن محروما أتى ... ماء ليشربه فجفّ فحقق وأحقّ خلق الله بالهم امرؤ ... ذو همة يبلى برزق ضيق ولربّما عرضت لنفسي فكرة ... فأودّ منها أنني لم أخلق وحسبنا ما تقدم من الاستشهاد فذلك قد يخرج بنا عن الغرض. نصائح بوالو للشاعر: هذا ونختم المبحث بالنصائح القيمة التي أوردها الكاتب الفرنسي بوالو للشاعر وخلاصتها: انه على الشاعر أن يتنزه عن الإباحية، صحيح ان تصوير الحب مباح ولكن بحيث لا يكون في هذا التصوير أي نوع من أنواع التبذّل، وينبغي أن يتجرد من الغيرة، إنها آفة من آفات رجال الأدب وهي رذيلة إن وجدت في أحدهم دلت على ضعف مواهبه. ثم ينبغي عليه أن يكون طيب الصحبة ممتع الحديث، ثم إن مما يشين شاعرا من الشعراء أن يوجه همه الى كسب المال، كما يجدر به- على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 158 العكس- أن يسعى لبلوغ المجد، وعليه أن لا يحطّ من قدر الشعر ذلك الفن الإلهي الذي هذب فيما مضى النفوس وألهب فيها الوطنية وعلم الحكمة والفضيلة. 2- من هو سطيح الكاهن: روى التاريخ أن سطحيا الغساني كان أكهن الناس وقد أنذر بسيل العرم وكان جسده يدرج كما يدرج الثوب خلا جمجمة رأسه وإذا مست باليد أثرت فيه للين عظمها وكان أبدا منسطحا على الأرض عاش 150 سنة على ما قيل، ومات في الليلة التي ولد فيها محمد صلى الله عليه وسلم، ومن كهانته انه لما كان ليلة ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتج إيوان كسرى فسقطت منه أربع عشرة شرفة فأعظم ذلك أهل المملكة وكتب الى كسرى صاحب الشام أن وادي السماوة قد انقطع في تلك الليلة وكتب إليه صاحب اليمن أن بحيرة ساوة غاضت تلك الليلة وكتب إليه صاحب طبرية أن الماء لم يجر تلك الليلة في بحيرة طبرية وكتب إليه صاحب فارس أن النار خمدت تلك الليلة فلما تواترت عليه الكتب أظهر سريره وبرز الى أهل مملكته فأخبرهم الخبر فقال الموبذان: أيها الملك إني رأيت تلك الليلة رؤيا هالتني، رأيت إبلا صعابا تقود خيلا عرابا، حتى اقتحمت دجلة وانتشرت في بلادنا قال فما عندك في تأويلها؟ قال: ما عندي شيء ولكن أرسل الى عاملك في الحيرة يوجه إليك رجلا من علمائهم فإنهم أصحاب علم بالحدثان فوجه اليه عبد المسيح بن نفيلة الغساني فأخبره كسرى بالخبر فقال: أيها الملك ما عندي فيها من شيء ولكن جهزني الى خالي سطيح فجهزه فلما قدم عليه وجده قد احتضر فناداه فلم يجبه فقال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 159 أصمّ أم يسمع غطريف اليمن ... أتاك شيخ الحيّ من آل سنن أبيض فضفاض الرداء والرسن فرفع اليه سطيح رأسه وقال: عبد المسيح، على جمل مشيح، أقبل الى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاج الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا، حتى اقتحمت الواد وانتشرت في البلاد، يا عبد المسيح إذا ظهرت التلاوة، وفاض وادي السماوة، وظهر صاحب الهراوة، فليست الشام لسطيح بشام يملك منهم ملوك وملكات، بعدد ما سقط من الشرفات، وكل ما هو آت آت ثم قال: إن كان ملك بني ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوار دهارير منهم بنو الصرح بهرام وأخوته ... والهرمزان وسابور وسابور فربما أصبحوا منهم بمنزلة ... يهاب صولهم الأسد المهاصير حثوا المطي وجدوا في رحيلهم ... فما يقوم لهم سرج ولا كور الجزء: 7 ¦ الصفحة: 160 والناس أبناء علات فمن علموا ... أن قد أقل فمحقور وم هجور والخير والشر مقرونان في قرن ... والخير متبع والشر محذور فأتى كسرى فأخبره فغمّه ذلك فقال: الى أن يملك منا أربعة عشر ملكا يدور الزمان فملكوا كلهم في أربعين سنة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 161 (27) سورة النمل مكيّة وآياتها ثلاث وتسعون [سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) الإعراب: (طس. تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) طس تقدم الكلام على اعرابها ومعناها في بحث فواتح السور. وتلك مبتدأ وآيات القرآن خبر وكتاب مبين عطف على القرآن ومبين صفة، وسيأتي سر التنكير والعطف في باب البلاغة. (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) يجوز في هدى النصب على الحال والعامل فيها ما في تلك من معنى الاشارة أي هاديه ومبشرة ويجوز فيها الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف أي هي هدى وبشرى، ومعنى هداها للمؤمنين وهم مهديون زيادتها في هداهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 162 (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) الذين نعت للمؤمنين ولك أن تقطعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هم الذين وجملة يقيمون الصلاة صلة الذين وجملة يؤتون الزكاة عطف على يقيمون الصلاة وهم الواو للحال وهم مبتدأ أو للعطف وجملة يوقنون خبره وبالآخرة متعلقان بيوقنون وهم مبتدأ جيء للفصل بين المبتدأ وخبره ليتصل بالخبر في الصورة وسيأتي سر التغيير في النظم في باب البلاغة. (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان السبب في عدم إيمانهم وتحيرهم وتردّدهم في أعمالهم، وان واسمها وجملة لا يؤمنون صلة الذين وبالآخرة جار ومجرور متعلقان بيؤمنون وجملة زينا خبر إن وزينا فعل وفاعل ولهم متعلقان بزينا وأعمالهم مفعول به والفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة يعمهون خبره أي يتحيرون ويترددون بين تركها لأنها واضحة البطلان ظاهرة السوء وبين الاستمرار عليها، وقيل معنى يعمهون يستمرون من غير تردد إذ لم يدر في خلدهم لحظة الإقلاع عنها وهو جميل وقوي ولكن العمه هو كما يقول الزمخشري وغيره من أئمة اللغة التردد والتحير كما يكون حال الضالّ عن الطريق، وعن بعض الأعراب أنه دخل السوق وما أبصرها قط فقال: رأيت الناس عمهين أراد مترددين في أعمالهم وأشغالهم، وتكاد تجمع معاجم اللغة على أن العمه مصدر عمه يعمه ويعمه من باب ضرب وفتح عمها وعموها وعموهية وعمهانا أي تحير في طريقه أو أمره وتردد في الضلال فهو عمه وجمعه عمهون وعامه وجمعه عامهون وعمّه. (أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أولئك مبتدأ والذين خبره ولهم خبر مقدم وسوء العذاب مبتدأ مؤخر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 163 والجملة صلة وهم مبتدأ وفي الآخرة متعلقان بالأخسرون والأخسرون خبره وهم مبتدأ جيء به للفصل بين المبتدأ وخبره ليتصل بالخبر في الصورة وقد تقدم بحثه، هذا ولا بد من الاشارة الى أن قوله «الأخسرون» يحتمل أنها على بابها من التفضيل وذلك بالنسبة للكفار ويحتمل أنها للمبالغة لا للتشريك لأن المؤمن لا خسران له في الآخرة البتة. (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) الواو استئنافية وان واسمها واللام المزحلقة وجملة تلقى خبرها ونائب الفاعل مستتر تقديره أنت والقرآن مفعول به ثان ومن لدن الجار والمجرور متعلقان بتلقى وحكيم مضاف اليه وعليم صفة. البلاغة: 1- التنكير: التنكير فقد نكر الكتاب المبين ليبهم بالتنكير فيكون أفخم له، ومثله في «مقعد صدق عند مليك مقتدر» أما عطفه على القرآن مع أنه هو القرآن نفسه فهو من قبيل عطف إحدى الصفتين على الأخرى كقولك: هذا فعل السخي والجواد الكريم ولأن المعطوف فيه صفة زائدة على مفهوم المعطوف عليه. 2- تكرير الضمير: وفي قوله «وهم بالآخرة هم يوقنون» كرر الضمير حتى صار معنى الكلام ولا يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الايمان والعمل الصالح لأن خوف الآخرة يحملهم على تحمل المشاق، وقد سبق لنا أن ذكرنا أن إيقاع الضمير مبتدأ يفيد الحصر كما مر في قوله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 164 تعالى: «هم ينشرون» ان معناه لا ينشر إلا هم، وأما وجه تكراره هنا فهو انه كان أصل الكلام هم يوقنون بالآخرة ثم قدم المجرور على عامله عناية به فوقع فاصلا بين المبتدأ والخبر فأريد أن يلي المبتدأ خبره وقد حال المجرور بينهما فطري ذكره ليلية الخبر ولم يفت مقصود العناية بالجار والمجرور حيث بقي على حاله مقدما ولا يستنكر أن تعاد الكلمة مفصولة له وحدها بعد ما يوجب التطرية. 3- التعبير بالاسمية والفعلية: قلنا في مواطن من هذا الكتاب إن التعبير يكون أحيانا بالجملة الاسمية وأحيانا بالجملة الفعلية على أن ذلك ليس متروكا الى الاعتباط وإنما يعدل عن أحد التعبيرين لضرب من التأكيد والمبالغة والاستمرار والانقطاع، فإن الايمان والإيقان بالآخرة أمر ثابت مطلوب دوامه ولذلك أتى به جملة اسمية وجعل خبرها فعلا مضارعا فقال «وهم بالآخرة هم يوقنون» للدلالة على أن إيقانهم يستمر على سبيل التجدد أما إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مما يتكرر ويتجدد في أوقاتهما المعينة ولذلك أتى بهما فعلين فقال «الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة» . الفوائد: أورد الامام الزمخشري سؤالا في هذا الصدد بناء على قاعدته الاعتزالية وهو «فإن قلت: كيف أسند تزيين أعمالهم الى ذاته وقد أسنده الى الشيطان في قوله وزين لهم الشيطان أعمالهم. وقد أجاب بقوله: «قلت: بين الاسنادين فرق وذلك أن إسناده الى الشيطان حقيقة وإسناده الى الله عز وجل مجاز، وله طريقان في علم البيان أحدهما: أن يكون من المجاز الذي يسمى الاستعارة، والثاني أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 165 يكون من المجاز الحكمي، فالطريق الاول انه لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق وجعلوا إنعام الله بذلك عليهم وإحسانه إليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم وبطرهم وإيثارهم الروح والترفه ونفارهم عما يلزمهم فيه من التكاليف الصعبة والمشاق المتعبة فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم، واليه أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قوله «ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر» والطريق الثاني أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين فأسند اليه لأن المجاز الحكمي يصححه بعض الملابسات. وقيل هي أعمال الخير التي وجب عليهم أن يعملوها زينها الله لهم فعمهوا عنها وضلوا، ويعزى الى الحسن. وقد أجاب أهل السنة بأن هذا الجواب مبني على القاعدة الفاسدة في إيجاب رعاية الصلاح والأصلح وامتناع أن يخلق الله تعالى للعبد إلا ما هو مصلحة، فمن ثم جعل التزيين الى الله تعالى مجازا والى الشيطان حقيقة ولو عكس الجواب لفاز بالصواب، وتأمل ميله الى التأويل الآخر من أن المراد أعمال البر على بعده لأنه لا يعرض لقاعدته بالنقض، على أن التزيين قد ورد في الخير في قوله تعالى: «ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم» على أن غالب وروده في غير البر كقوله: «زين للناس حب الشهوات» ، «زين للذين كفروا الحياة الدنيا» و «كذلك زين للمسرفين» ومما يبعد حمله على أعمال البر إضافة الأعمال إليهم في قوله: أعمالهم، وأعمال البر ليست مضافة إليهم لأنهم لم يعملوها قط فظاهر الاضافة يعطي ذلك، ألا ترى الى قوله تعالى: «ولما يدخل الايمان في قلوبكم» وقوله: «قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان» فأطلق الايمان في المكانين عن إضافته إليهم لأنه لم يصدر منهم، وأضاف الإسلام الظاهر إليهم لأنه صدر منهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 166 [سورة النمل (27) : الآيات 7 الى 14] إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) اللغة: (آنَسْتُ) أبصرت من بعيد، ويقال آنست نارا وآنست فزعا وآنست منه رشدا، فهو يطلق على المادي والمعنوي. (بِشِهابٍ قَبَسٍ) يقرأ بالاضافة وتركها كما سيأتي في الاعراب، والشهاب كل مضيء متولد من النار، وما يرى كأنه كوكب انقض، والكوكب عموما، والسنان لما فيه من البريق، وجمعه شهب وشهبان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 167 وشهبان وأشهب، ويقال فلان شهاب حرب إذا كان ماضيا فيها، والقبس بفتحتين النار المقبوسة تقول خذ لي قبسا من النار ومقبسا ومقباسا واقبس لي نارا واقتبس، ومنه ما أنت إلا كالقابس العجلان أي المقتبس وما زورتك إلا كقبسة العجلان، وتقول ما أنا إلا قبسة من نارك، وقبضة من آثارك، وقبسته نارا وأقبسته كقولك بغيته الشيء وأبغيته ومن المجاز قبسته علما وخبرا وأقبست. (تَصْطَلُونَ) : فيه الابدال لأن أصله تصتلون فلما وقعت تاء الافتعال بعد حرف الاطباق وهو الصاد قلبت طاء على القاعدة وهو من صلي بالنار بكسر اللام وفي المصباح «صلي بالنار وصليها صلى من باب تعب وجد حرها والصلاء بوزن كتاب حر النار وصليت اللحم أصليه من باب رمى: شويته» وفي الأساس: «وصلي النار وصلي بها» «يصلى النار الكبرى» وتصلّاها وتصلّى بها وأصلاه وصلّاه، وشاة مصليّة: مشوية وقد صليتها» . (جَانٌّ) : حية خفيفة الحركة، وقال في القاموس والتاج: «والجانّ اسم جمع للجن، وحية أكحل العين لا تؤذي كثيرة في الدور» قالوا وهي كبيرة جدا وإن كانت خفيفة في سرعة الحركة. (وَلَمْ يُعَقِّبْ) : ولم يرجع، يقال عقب المقاتل إذا كر بعد الفرار قال: فما عقبوا إذ قيل هل من معقب ... ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا يصف قوما بالجبن وانهم إن قيل: هل من معقب وراجع على عقبه للحرب لم يرجعوا إليها، ولا نزلوا يوم الحرب منزلا من منازلها، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 168 وفي المختار: «وتقول: ولى مدبرا ولم يعقب بتشديد القاف وكسرها أي لم يعطف ولم ينتظر» . (جَيْبِكَ) : طوق قميصك وسمي جيبا لأنه يجاب أي يقطع ليدخل فيه الرأس. (وَاسْتَيْقَنَتْها) : الاستيقان أبلغ من الإيقان فلا معنى لقول بعض المفسرين أن السين لمجرد الزيادة. الإعراب: (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ: إِنِّي آنَسْتُ ناراً) كلام مستأنف مسوق لذكر قصص خمس من قصص الأولين الأولى قصة موسى وتليها قصة النمل وتليها قصة بلقيس وتليها قصة صالح وتليها قصة لوط. والظرف متعلق بفعل محذوف تقديره اذكر وقد تقدم كثيرا تقرير ذلك وجملة قال في محل جر بإضافة الظرف إليها وموسى فاعل ولأهله متعلقان بقال وجملة إني آنست نارا مقول القول وان واسمها وجملة آنست خبرها ونارا مفعول به. وأهله عبارة عن زوجه بنت شعيب وولده وخادمه وذلك عند فقوله من مدين الى مصر ليجتمع بأمه وأخيه في مصر وقيل لم يكن معه غير امرأته وقد كنى الله عنها بالأهل وتبعا لذلك أورد الخطاب بالجمع. (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) الجملة استئنافية وآتيكم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وجاء بسين التسويف للاشارة إلى أنه عائد وإن أبطأ فربما كانت المسافة بعيدة، ومنها متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لخبر وبخبر متعلقان بآتيكم، وأو حرف عطف، وللعدول عن الواو الى أو سر سيأتي في باب البلاغة، وآتيكم عطف على آتيكم الأولى وبشهاب متعلقان بآتيكم وقبس بدل من شهاب أو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 169 نعت له على تأويله بالمفعول أي شهاب مقتبس من نار وقرئ بالاضافة لأن الشهاب يكون قبسا وغيره كالكوكب فهو من إضافة النوع الى جنسه كخاتم فضة وثوب خز وهي بمعنى من، ولعلكم تصطلون جملة الرجاء حالية ولعل واسمها وخبرها أي راجيا تأمين الدفء لكم وتوفيره. (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) الفاء عاطفة على محذوف للاختصار ولما ظرفية حينية أو رابطة وجاءها فعل وفاعل مستتر ومفعول به وجملة نودي لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ونائب فاعل نودي ضمير مستتر تقديره هو يعود على موسى، وأن هي المفسرة لأن في النداء معنى القول دون حروفه والمعنى قيل له بورك ويجوز أن تكون على حالها أي ناصبة للفعل المضارع وقد دخلت على الماضي، أو مخففة من الثقيلة، وأن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي بأن بورك، وهناك أعاريب أخرى ضربنا عنها صفحا لأنها واهنة، وبورك فعل ماض مبني للمجهول ومن نائب فاعل وفي النار جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة من أي في مكان النار، ومن حولها عطف على من في النار والمراد بمن إما الله تعالى على حذف أي قدرته وسلطانه وقيل المراد موسى وقيل المراد بمن غير العقلاء وهو النور والأمكنة التي حولها. (وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الواو استئنافية وسبحان مفعول مطلق لفعل محذوف والله مضاف اليه ورب العالمين بدل أو نعت. (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) يا حرف نداء وموسى منادى مفرد علم وان واسمها والهاء إما ضمير الشأن أو راجعة الى ما دل عليه ما قبلها يعني ان مكلمك، وأنا مبتدأ الله خبر والجملة خبر إن والعزيز الحكيم صفتان. (وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) الواو حرف عطف وألق فعل أمر مبني على حذف حرف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 170 العلة والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت والكلام معطوف على بورك لأن المعنى نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك وهذا ما يرجح كون أن مفسرة كما تقدم وعصاك مفعول، فلما الفاء عاطفة على محذوف أي فألقاها فاستحالت حية فلما، ولما ظرف بمعنى حين أو رابطة وجملة رآها في محل جر بإضافة الظرف اليه ورآها فعل وفاعل ومفعول به وجملة تهتز في محل نصب على الحال لأن الرؤية هنا بصرية، وكأنها جان كأن واسمها وخبرها والجملة في محل نصب حال ثانية أو هي حال من ضمير تهتز فهي حال متداخلة وجملة ولى لا محل لها ومدبرا حال من فاعل ولى والواو حرف عطف ولم حرف نفي وقلب وجزم ويعقب فعل مضارع مجزوم بلم. (يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) الجملة مقول قول محذوف لا بد من تقديره أي قال تعالى ويا موسى منادى مفرد علم ولا ناهية وتخف فعل مضارع مجزوم بلا وان واسمها وجملة لا يخاف خبرها والجملة تعليلية للنهي عن الخوف ولدي ظرف متعلق بيخاف والمرسلون فاعل. (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) إلا أداة استثناء بمعنى لكن لأن الاستثناء منقطع ومن اسم موصول مستثنى في موضع نصب ويجوز أن تكون شرطية فتكون مبتدأ والجملة مستثناة من أعم الأحوال وظلم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ثم بدل عطف على ظلم وحسنا مفعول به وبعد سوء ظرف متعلق بمحذوف صفة لحسنا. (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) الفاء واقعة في جواب «من» على الوجهين وان واسمها وخبراها. (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) الواو عاطفة وأدخل عطف على وألق عصاك ويدك مفعول به وفي جيبك متعلقان بأدخل وتخرج فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر وفاعل تخرج ضمير مستتر تقديره هي وبيضاء حال من فاعل تخرج ومن غير سوء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 171 متعلقان ببيضاء لما فيها من معنى الفعل وقد تقدم هذا في «طه» واختار أبو البقاء أن يكون الجار والمجرور حالا أخرى واختار السمين أن يكون صفة لبيضاء. (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) كلام مستأنف وحرف الجر يتعلق بالفعل المحذوف أي اذهب في تسع آيات الى فرعون، وقدره بعضهم بمحذوف أي مرسلا فيكون محله النصب على الحال والأول أولى وله نظائر قال: فقلت الى الطعام فقال منهم ... فريق يحسد الإنس الطعاما وهناك أقوال متشعبة للمعربين سنوردها في باب الفوائد لصقل الأذهان. وقومه عطف على فرعون وجملة انهم تعليل للأمر بالذهاب وجملة كانوا خبر إن وقوما خبر كانوا وفاسقين صفة وقد تقدمت الآيات التسع. (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) الفاء عاطفة على محذوف وقد تقدم ذلك كثيرا ومبصرة حال وسيأتي معناها في باب البلاغة وجملة قالوا لا محل لها وهذا مبتدأ وسحر خبر ومبين صفة والجملة مقول القول. (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) وجحدوا عطف على قالوا وبها متعلقان بجحدوا والواو للحال وقد بعدها مضمرة واستيقنتها أنفسهم فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وظلما مفعول لأجله لأنه علة للجحد أو حال من فاعل جحدوا أي ظالمين مستكبرين. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) الفاء الفصيحة وأنظر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر مقدم لكان وعاقبة المفسدين اسم كان والجملة معلقة لا نظر عن العمل فهي محل نصب بنزع الخافض لأن انظر بمعنى تفكر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 172 البلاغة: 1- استعمال «أو» بدل الواو: في قوله: «آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون» آثر «أو» على الواو لنكتة بلاغية رائعة فإن أو تفيد التخيير وقد بنى رجاءه على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعا فلن يعدم واحدة منهما وهما إما هداية الطريق وإما اقتباس النار هضما لنفسه واعترافا بقصوره نحو ربه، وقد كانت الليلة شاتية مظلمة وقد ضل الطريق وأخذ زوجته المخاض، وهذا موطن تزلق فيه أقلام الكتاب الذين لا يدركون أسرار البيان وخاصة في استعمال الحروف العاطفة والجارة وقد تقدمت الاشارة الى هذا الفن. 2- المجاز العقلي: في إسناد الإبصار الى الآيات في قوله «فلما جاءتهم آياتنا مبصرة» ويجوز أن يكون المجاز مرسلا والعلاقة السببية لأنها سبب الإبصار وهذا أولى من قول بعضهم إن «مبصرة» اسم فاعل والمراد به المفعول أطلق اسم الفاعل على المفعول إشعارا بأنها لفرط وضوحها وإنارتها كأنها تبصر نفسها لو كانت مما يبصر. الفوائد: أقوال المعربين في «في تسع آيات» : تشعبت أقوال المعربين في إعراب هذه الآية وهي «في تسع آيات الى فرعون وقومه» وقد اخترنا لك في الاعراب أمثلها وأسهلها، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 173 وسنورد بقية الوجوه لأنها واردة ومعقولة لتشحذ ذهنك وتختار منها ما تراه أدنى الى المنطق فالاعراب منطق قبل كل شيء. أما الزمخشري فقد اكتفى بالوجه الذي اخترناه في الاعراب قال: «في تسع آيات كلام مستأنف وحرف الجر فيه يتعلق بمحذوف والمعنى اذهب في تسع آيات أي في جملة تسع آيات وعدادهن، ولقائل أن يقول: كانت الآيات احدى عشرة اثنتان منها اليد والعصا، والتسع: الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم» . وقال أبو البقاء: «في تسع» حال ثالثة، وأراد بالحالين الأولى والثانية قوله بيضاء وقوله من غير سوء، والى فرعون متعلقة بمحذوف تقديره مرسلا الى فرعون ويجوز أن يكون صفة لتسع أو لآيات أي واصلة الى فرعون. وجعل الزجاج «في» بمعنى «من» وعلقها بألق قال: كما تقول خد لي من الإبل عشرا فيها فحلان أي منها فحلان. وأما ابن عطية فقد أيّد الزجاج في تعليقها بألق وجعل «في» بمعنى «مع» لأن اليد والعصا حينئذ داخلتان في الآيات التسع وقال: تقديره يمهد لك ذلك وينشره في تسع. وقال آخرون هو كما قال ابن عطية وتكون اليد والعصا خارجتين من التسع. واختار الجلال أن تتعلق بمحذوف حال أخرى من ضمير تخرج، وقد صرح بهذا المحذوف في سورة «طه» حيث قال هناك: «تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى» فالمعنى هنا حال كونها آية مندرجة في جملة الآيات التسع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 174 [سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 19] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) اللغة: (مَنْطِقَ الطَّيْرِ) المنطق مصدر نطق ينطق من باب ضرب نطقا ومنطقا ونطوقا أي تكلم بصوت وحروف تعرف بها المعاني، والمنطق الكلام وقد يستعمل في غير الإنسان يقال: سمعت منطق الطير، وقال البيضاوي: «والنطق والمنطق في المتعارف كل لفظ يعبر به عما في الضمير مفردا كان أو مركبا مفيدا كان أو غير مفيد وقد يطلق على كل ما يصوت به على التشبيه أو التبع كقولهم نطقت الحمامة ومنه الناطق والصامت للحيوان والجماد فإن الأصوات الحيوانية من حيث الجزء: 7 ¦ الصفحة: 175 أنها تابعة للتخيلات منزلة منزلة العبارات لا سيما وفيها ما يتفاوت بتفاوت الأغراض بحيث يفهمها ما هو من جنسه» . وزاد الزمخشري على ما قاله البيضاوي: «وقد ترجم يعقوب بن السكيت كتابه بإصلاح المنطق وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم» . هذا ويبدو أن الأصل الاشتقاقي لكلمة المنطق يظهرنا على الصلة الوثيقة بين الفكر واللغة فإن الحيوان المفكر هو وحده الحيوان المتكلم وليست اللغة مجرد أداة اصطنعها العقل البشري للتعبير عن أغراضه ومراميه بل هي أيضا وسيلة الى التجرد عن الأعراض الحسية واصطناع بعض الرموز أو الدلالات المعنوية. وعلم المنطق هو علم يبحث في صحيح الفكر وفاسده فهو يضع القواعد التي تعصم الذهن من الوقوع في الأخطاء وفي الأحكام كما انه يهتم بالتعرف على المناهج المختلفة في دراساتهم المتعددة وأبحاثهم المتباينة، حقا ان موضوع المنطق هو التفكير الانساني بصفة عامة ولكن المنطق لا يقتصر على وصف العمليات الذهنية التي نقوم بها حين نفكر أو نحكم أو نجرد أو تتذكر أو نحل مشكلة بل هو يريد أيضا أن يعيننا على التمييز بين الحكم الصحيح والحكم الخاطئ، بين الاستدلال السليم والاستدلال الفاسد. وقد اهتم فلاسفة اليونان الأقدمون بدراسة العلاقة بين صورة الفكر ومادته أي بين الناحية الشكلية للأحكام أو القضايا ومضمون التفكير نفسه فنشأت من ذلك مباحث جدلية كانت هي النواة الأولى لعلم المنطق، وهكذا اهتم سقراط وأفلاطون بالبحث في مغالطات السوفسطائيين فوضعا للرد عليهم أصول التفكير الجدلي السليم، ثم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 176 جاء أرسطو فاستفاد من دراسات السابقين عليه في تكوين التصورات والقسمة المنطقية وطرق إيراد البرهنة ووضع هذا كله في كتاب مشهور أطلق عليه اسم «التحليلات الأولى» وان كان أرسطو لم يستعمل كلمة المنطق فإن المؤرخين قد أجمعوا على مبايعته بأمارة المنطق. أما في العصور الحديثة فقد ثار كل من بيكون وديكارت على منطق أرسطو بدعوى أنه منطق صوري مجدب، ثم فطن المناطقة أخيرا الى ضرورة تخليص الفكر من سحر الألفاظ وتحريره من سلطان اللغة فحاولوا أن يجعلوا من المنطق علما رياضيا يصوغ العمليات الذهنية في رموز جبرية. (يُوزَعُونَ) : يحبس أولهم على آخرهم أي توقف سلاف العسكر حتى تلحقهم التوالي وسلاف العسكر يعني متقدميهم كما في الصحاح، وفي المختار: «وزعه يزعه وزعا مثل وضعه يضعه وضعا أي كفه فاتزع هو أي كفّ، وأوزعه بالشيء أغراه به واستوزعت الله شكره فأوزعني أي استلهمته فألهمني والوازع الذي يتقدم الصف فيصلحه ويقدم ويؤخر وجمعه وزعة، وقال الحسن: لا بد للناس من وازع أي من سلطان يكفهم، يقال وزعت الجيش إذا حبست أولهم على آخرهم» . (نَمْلَةٌ) : النمل والنمل بضم الميم: حيوان حريص على جمع الغذاء يتخذ قرى تحت الأرض فيها منازل ودهاليز وغرف وطبقات منعطفة يملؤها حبوبا وذخائر للشتاء، الواحدة نملة ونملة للذكر والأنثى والجمع نمال. وحكى الزمخشري عن أبي حنيفة أنه وقف على قتادة وهو يقول: سلوني فأمر أبو حنيفة شخصا سأل قتادة عن نملة سليمان هل كانت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 177 ذكرا أم أنثى فلم يجب فقيل لأبي حنيفة في ذلك فقال كانت أنثى واستدل بلحاق العلامة، قال الزمخشري: «وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على المذكر والمؤنث فيميز بينهما بعلامة نحو حمامة ذكر وحمامة أنثى» . ولا أدري أأعجب منه أم من أبي حنيفة ان يثبت ذلك عنه. وذلك أن النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر وعلى الأنثى لأنه اسم جنس يقال نملة ذكر ونملة أنثى كما يقال حمامة ذكر وحمامة أنثى وشاة ذكر وشاة أنثى فلفظها مؤنث ومعناه محتمل فيمكن أن تؤنث لأجل لفظها وان كانت واقعة على ذكر بل هذا هو الفصيح المستعمل، ألا ترى الى قوله عليه الصلاة والسلام لا تضحى بعوراء ولا عجفاء ولا عمياء، كيف أخرج هذه الصفات على اللفظ مؤنثة ولا يعني الإناث من الأنعام خاصة، فحينئذ قوله تعالى «نملة» روعي فيه تأنيث اللفظ وأما المعنى فيحتمل على حد سواء. وسيأتي في باب الفوائد مزيد من هذا البحث. (أَوْزِعْنِي) : ألهمني، وحقيقته اجعلني أزع شكر نعمتك عندي واكفه وارتبطه لا ينفلت عني حتى لا أنفك شاكرا لك. وقد تقدم شرح هذه المادة. الإعراب: (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) الواو استئنافية والكلام مستأنف للشروع في القصة الثانية وهي قصة داود وسليمان، واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل وداود مفعول به وسليمان عطف على داود وعلما مفعول به ثان. (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 178 فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) الواو حرف عطف وقالا معطوف على مقدر تقديره فعملا بما أعطيا بالقلب بالعزم وعملا به بالجوارح بالمباشرة وعملا به باللسان فقالا. والحمد مبتدأ ولله خبر والجملة مقول القول والذي اسم موصول صفة لله وجملة فضلنا صلة وعلى كثير متعلقان بفضلنا ومن عباده صفة لكثير والمؤمنين صفة لعباده. (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) الواو استئنافية وورث سليمان داود فعل وفاعل ومفعول به وقال عطف على ورث ويا أيها الناس تقدم اعرابها وعلمنا فعل ماض مبني للمجهول ونا نائب فاعل ومنطق الطير مفعول به ثان. (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) وأوتينا عطف على علمنا ومن كل شيء متعلقان بأوتينا وإن هذا ان واسمها وهو كلام مستأنف مسوق على سبيل إيراد الشكر والمحمدة واللام المزحلقة وهو ضمير فصل أو مبتدأ والفضل خبر إن أو خبر هو والجملة خبر إن والمبين صفة للفضل. (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) الواو استئنافية وحشر فعل ماض مبني للمجهول ولسليمان متعلقان بحشر وجنوده نائب فاعل ومن الجن والانس والطير حال من جنوده والفاء الفصيحة وهم مبتدأ وجملة يوزعون خبر وسيأتي في باب البلاغة ما يرويه التاريخ عن معسكر سليمان. (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) حتى حرف غاية لمحذوف تقديره فساروا حتى إذا أتوا، ويجوز أن يكون غاية ليوزعون لأنه مضمن معنى فهم يسيرون ممنوعا بعضهم من مفارقة بعض حتى إذا أتوا، وعلى وادي النمل جار ومجرور متعلقان بأتوا وسيأتي سر تعليقه بأتوا في باب البلاغة، وجملة قالت نملة لا محل لها ويا أيها النمل تقدم اعرابها وادخلوا مساكنكم فعل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 179 وفاعل ومفعول به على السعة وسيأتي ما قاله السيوطي في الإتقان عن قول النملة. (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) نهي مستأنف لا تعلق له بما قبله أي لا تكونوا بحيث يحطمونكم ويجوز أن يكون الكلام بدلا من جملة الأمر مثله وهو ادخلوا مساكنكم. وقد تصدى الزمخشري لهذا التعبير فقال «فإن قلت لا يحطمنكم ما هو؟ قلت يحتمل أن يكون جوابا للأمر وان يكون نهيا بدلا من الأمر والذي جوز أن يكون بدلا منه أنه في معنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم على طريقه لا أرينك هاهنا» ولا ناهية ويحطمنكم فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم بلا والكاف مفعول به وسليمان فاعل وجنوده عطف على سليمان وهم الواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر والجملة حالية. (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) الفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق أي فسمع قولها المذكور فتبسم، وضاحكا حال مؤكدة وسيأتي سر ما أضحكه في باب الفوائد ومن قولها متعلقان بضاحكا. (وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) وقال عطف على فتبسم ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وحرف النداء محذوف وأوزعني فعل دعاء وفاعل مستتر ومفعول به وأن وما في حيزها مفعول ثان لأوزعني لأنه مضمن معنى الإلهام أو نصب بنزع الخافض أي بأن أشكر نعمتك، والتي صفة لنعمتك وجملة أنعمت صلة وعليّ متعلقان بأنعمت وعلى والدي عطف على عليّ. (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) جملة معطوفة. (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) الواو حرف عطف وأدخلني فعل دعاء وفاعل ومفعول به وبرحمتك متعلقان بمحذوف حال والباء للسببية وفي عبادك متعلقان بأدخلني والصالحين نعت لعبادك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 180 البلاغة: اشتملت هذه الآيات على فنون شتى ندرجها فيما يلي: 1- التنكير وأسراره: ففي قوله: «وقد آتينا داود وسليمان علما» التنكير وفائدته إفادة التبعيض والتقليل أو إفادة التعظيم والتكثير، والثاني هو المراد هنا فظاهر قوله في ولقد آتينا داود وسليمان علما في سياق الامتنان تعظيم العلم الذي أوتياه كأنه قال علما أي علم وهو كذلك فإن علمهما كان مما يستغرب ويستعظم ومن ذلك علم منطق الطير وسائر الحيوانات، على أن كل علم بالاضافة الى علم الله قليل ضئيل. قصة رائعة: ونورد هنا قصة مروية جريا على عادتنا في إدراج القصص المروية لتكون مصدر إلهام للكتاب ومعالم صبح لهم، قال مقاتل: كان سليمان جالسا في معسكره، وكانت مساحته مائة فرسخ في مائة، خمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للإنس وخمسة وعشرون للطير وخمسة وعشرون للوحش، وقد نسجت له الجن بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ، فمر به طائر يطوف وفي رواية رأى بلبلا على شجرة فقال لجلسائه: أتدرون ما يقول هذا الطائر؟ قالوا: الله ونبيه أعلم قال: يقول: أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء، ومر بهدهد فوق شجرة فقال: استغفروا الله يا مذنبون، وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وصاح طاوس فقال يقول: كما تدين تدان، وصاح طيطوى فقال يقول: كل حي ميت وكل جديد بال، وصاح خطاف فقال يقول: قدموا خيرا تجدوه، وصاح قمري الجزء: 7 ¦ الصفحة: 181 فأخبر أنه يقول: سبحان ربي الأعلى، وقال الحدأ يقول: كل شيء هالك إلا وجهه، والقطاة تقول: من سكت سلم، والببغاء تقول: ويل لمن الدنيا همه، والديك يقول: اذكروا الله يا غافلون، والنسر يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت، والعقاب يقول في البعد من الناس أنس، والضفدع يقول: سبحان ربي الأعلى. 2- استعمال حرف الجر: وقال «حتى إذا أتوا على وادي النمل» فعدّى أتوا بعلى لأن الإتيان كان من فوق فأتى بحرف الاستعلاء وقد رمق أبو الطيب المتنبي هذه السماء العالية فقال: فلشد ما جاوزت قدرك صاعد ... ولشدّ ما قربت عليك الأنجم فقد عنى بالأنجم أبيات شعره ويقول: ما أشد ما تجاوزت قدرك حتى بعثت تسألني المديح ومسألتك إياي مدحك تجاوز منك لقدرك حين طلبت أن تهبط الأنجم من سمواتها لتكون قريبة منك، وهذا البيت من أمض الهجاء وأقذعه وهو من قصيدة لأبي الطيب المتبني فقد سافر من الرملة يريد أنطاكية فنزل بطرابلس وبها اسحق بن ابراهيم الأعور بن كيغلغ وكان جاهلا يجالسه ثلاثة نفر من بني حيدرة، وكان بينه وبين أبي الطيب عداوة قديمة فقالوا له أتحب أن يتجاوزك ولا يمدحك، وجعلوا يغرونه فراسله أن يمدحه فاحتج عليه بيمين لحقته لا يمدح أحدا الى مدة، فعاقه عن طريقه ينتظر المدة، وأخذ عليه الطريق وضبطها، ومات النفر الثلاثة الذين كانوا يغرونه في مدة أربعين يوما فهجاه أبو الطيب المتنبي وأملاها على من يثق به، فلما ذاب الثلج الجزء: 7 ¦ الصفحة: 182 خرج كأنه يسير فرسه وسار الى دمشق فأتبعه ابن كيغلغ خيلا ورجلا فأعجزهم وظهرت القصيدة وأولها: لهوى النفوس سريرة لا تعلم ... عرضا نظرت وخلت أني أسلم ومن أبياته الحكيمة فيها: ولقد رأيت الحادثات فلا أرى ... يققا يميت ولا سوادا يعصم والهم يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبيّ ويهرم ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم والناس قد نبذوا الحفاظ فمطلق ... ينسى الذي يولى وعاف يندم لا يخدعنّك من عدوّ دمعه ... وارحم شبابك من عدوّ ترحم لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتّى يراق على جوانبه الدّم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 183 والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... داعفة فلعلّة لا يظلم ثم تطرق الى هجاء ابن كيغلغ فقال وأقذع: يحمي ابن كيغلغ الطريق وعرسه ... ما بين رجليها الطريق الأعظم أقم المسالح وق شفر سكينة ... إن المنيّ بحلقتيها خضرم وارفق بنفسك إنّ خلقك ناقص ... واستر أباك فإنّ أصلك مظلم واحذر مناوأة الرجال فإنما ... تقوى على كسر العبيد وتقدم وغناك مسألة وطيشك نفخة ... ورضاك فيشلة وربك درهم ثم يعود الى الحكمة الملائمة فيقول: ومن البلية عذل من لا يرعوي ... عن غيّه وخطاب من لا يفهم يمشي بأربعة على أعقابه ... تحت العلوج ومن وراء يلجم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 184 وجفونه ما تستقر كأنها ... مطروفة أو فتّ فيها حصرم وإذا أشار محدثا فكأنه ... قرد يقهقه أو عجوز تلصم يقلى مفارقة الأكفّ قذاله ... حتى يكاد على يد يت عمّم وتراه أصغر ما تراه ناطقا ... ويكون أكذب ما يكون ويقسم والذل يظهر في الذليل مودة ... وأودّ منه لمن يودّ ال أرقم ومن العداوة ما ينالك نفعه ... ومن الصداقة ما يضر ويؤلم والقصيدة كلها من هذا النمط البديع فحسبنا ما أوردناه منها، ونعود الى ما نحن بصدده فنقول: ويجوز أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم أتى على الشيء إذا بلغ آخره. 3- التوليد: وقد اشتملت الآية «قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 185 لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون» على أحد عشر نوعا من البلاغة يتولد بعضها من بعض وقد ذكرها السيوطي في كتابه «الإتقان» أي قالت قولا مشتملا على حروف وأصوات والمراد قالته على وجه النصيحة وقد اشتمل هذا القول منها على أحد عشر نوعا من البلاغة: أولها: النداء بيا. وثانيها: كنّت بأي. وثالثها: نبّهت بها التنبيه. ورابعها: سمّت بقولها النمل. وخامسها: أمرت بقولها ادخلوا. وسادسها: نصّت بقولها مساكنهم. وسابعها: حذرت بقولها لا يحطمنكم. وثامنها: خصّصت بقولها سليمان. وتاسعها: عمّمت بقولها وجنوده. وعاشرها: أشارت بقولها وهم. وحادي عشرها: عذرت بقولها لا يشعرون. هذا وقد أنشدوا ملغزين في نملة سليمان وبقرة بني إسرائيل: فما ميت أحيا له الله ميتا ... ليخبر قوما أنذروا ببيان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 186 وعجفاء قد قامت لتنذر قومها ... واهل قراها رهبة الحدثان الفوائد: 1- ما الذي أضحك سليمان؟ وانما ضحك سليمان من قول النملة لشيئين: أولهما: ما دل على ظهور رحمته ورحمة جنوده وشفقتهم وذلك قولها وهم لا يشعرون يعني أنهم لو شعروا لم يفعلوا. وثانيهما: سروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحدا من إدراك سمعه ما قالته النملة وهي مثل في الضآلة والقماءة، والإنسان إذا رأى أو سمع ما لا عهد له به ضحك. 2- الحال المبنية والمؤكدة: الحال ضربان مؤسسة وتسمى أيضا مبينة وهي التي لا يستفاد معناها بدونها كجاء زيد راكبا فلا يستفاد معنى الركوب إلا بذكر راكبا، ومؤكدة وهي التي يستفاد معناها بدون ذكرها، وهذه تنقسم الى ثلاثة أقسام: آ- مؤكدة لعاملها لفظا ومعنى نحو «وأرسلناك للناس رسولا» فرسولا حال من الكاف وهي مؤكدة لعاملها وهو أرسلنا لفظا ومعنى. ب- مؤكدة لعاملها معنى فقط واللفظ مختلف نحو «فتبسم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 187 ضاحكا» فضاحكا حال من فاعل تبسم وهي مؤكدة لعاملها معنى فقط لأن التبسم نوع من الضحك واللفظ مختلف. ح- مؤكدة لصاحبها نحو «لآمن من في الأرض كلهم جميعا» فجميعا حال من فاعل آمن وهو من الموصولة مؤكدة لها. وهناك أقسام أخرى للحال المؤكدة يرجع إليها في المطولات. [سورة النمل (27) : الآيات 20 الى 26] وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) اللغة: (الْهُدْهُدَ) والهدهد والهدهد طائر ذو خطوط وألوان كثيرة الواحدة هدهدة وهدهدة وهداهدة والجمع هداهد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 188 وهداهيد، ويقولون أبصر من هدهد لأنهم يزعمون أنه يرى الماء تحت الأرض، والهدهد أيضا كل ما يقرقر من الطير والحمام الكثير وستأتي قصته مع سليمان في باب الفوائد. (فَمَكَثَ) : بضم الكاف وفتحها والأول من باب قرب والثاني من باب نصر وفي القاموس وغيره: مكث يمكث من باب نصر مكثا ومكثا ومكوثا ومكثانا ومكّيثى ومكّيثاء بالمكان أقام ولبث فهو ماكث والاسم المكث والمكث ومكث يمكث من باب قرب مكاثة: لبث ورزن. (سَبَإٍ) : بلاد واقعة جنوب غربي الجزيرة العربية في اليمن ذكرت في كتب العهد القديم وفي مؤلفات العرب واليونان والرومان كانت على جانب عظيم من الحضارة، كان يتعاطى سكانها تجارة الذهب والفضة والأحجار الكريمة. وقال الزمخشري في الكشاف: «سبأ قرئ بالصرف ومنعه وقد روي بسكون الباء، وعن ابن كثير في رواية سبأ بالألف كقولهم ذهبوا أيدي سبا وهو سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فمن جعله اسما للقبيلة لم يصرف، ومن جعله اسما للحي أو الأدب الأكبر صرف قال: من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما وقال: الواردون وتيم في ذرا سبأ ... قد عض أعناقهم جلد الجواميس ثم سميت مدينة مأرب بسبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث كما سميت معافر بمعافر بن أد ويحتمل أن يراد المدينة والقوم» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 189 معنى ذهبوا أيدي سبا: هذا ويقال ذهبوا أيدي سبا وفيه لغتان أيدي سبا وأيادي سبا وله حالتان: إما أن تركب الاسمين اسما واحدا وتبنيهما لتضمن حرف العطف كما فعلوا بخمسة عشر والثانية أن تضيف الأول الى الثاني وموضعهما النصب على الحال والمراد ذهبوا متفرقين ومتبددين ونحوهما، وإذا اعترض بأن سبا معرفة قيل بأن تركيبهما طاح بمعنى العلمية وصارا اسما واحدا، وأصل هذا المثل أن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان لما أنذروا بسيل العرم خرجوا من اليمن متفرقين في البلاد فقيل لكل جماعة تفرقت ذهبوا أيدي سبا، والمراد بالأيدي الأبناء والأسرة لا نفس الجارحة لأن التفرق وقع بهم واستعير اسم الأيدي لأنهم في التقوى والبطش بهم بمنزلة الأيدي. (الْخَبْءَ) : مصدر بمعنى المخبوء يقال خبأت الشيء أخبؤه خبئا من باب نفع أي سترته، والخبء في السموات المطر وفي الأرض النبات. الإعراب: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) كلام مستأنف للشروع في سرد أمر آخر حدث لسليمان أثناء مسيره الذي كانت فيه قصة النمل. وتفقد فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو أي سليمان والطير مفعول به فقال عطف على تفقد وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ ولي خبره وجملة لا أرى الهدهد حال وأم منقطعة وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر يعود على الهدهد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 190 ومن الغائبين خبر كان. (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) اللام موطئة للقسم وأعذبنه فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل ضمير مستتر تقديره أنا والهاء مفعول به وعذابا مفعول مطلق وشديدا صفة أو لأذبحنه عطف على لأعذبنه أو ليأتيني عطف عليه أيضا وبسلطان متعلقان بيأتيني ومبين صفة. (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) الفاء استئنافية ومكث فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الهدهد أو على سليمان وغير بعيد ظرف زمان متعلق بمكث أو على الأصح صفة لظرف محذوف نابت عنه أي وقت غير بعيد أو مكانا غير بعيد فهو ظرف مكان، فقال عطف على مكث وهذا يؤيد عودة الضمير الى الهدهد وجملة أحطت مقول القول وبما متعلقان بأحطت وجملة لم نحط صلة وبه متعلقان بتحط وجئتك عطف على أحطت ومن سبأ متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لنبأ وبنبإ متعلقان بجئتك ويقين صفة لنبأ. (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) ان واسمها وجملة وجدت امرأة خبر إني وجملة تملكهم صفة لامرأة وأوتيت الواو عاطفة أو حالية وجملة أوتيت إما معطوفة على جملة تملكهم وساغ عطف الماضي على المضارع لأن المضارع بمعنى الماضي أي ملكتهم وإما حالية من فاعل تملكهم وقد مقدرة ومن كل شيء متعلقان بأوتيت أو بمحذوف هو مفعول أوتيت الثاني والتقدير أيضا من كل شيء ولها خبر مقدم وعرش مبتدأ مؤخر وعظيم صفة. (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) جملة وجدتها بدل من وجدت امرأة فهي داخلة في حيز الخبر ووجدتها هنا تتعدى لواحد لأنها بمعنى لقيتها والهاء مفعول به وقومها عطف على الهاء أو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 191 مفعول معه وجملة يسجدون حال من مفعولها وما عطف عليه وللشمس متعلقان بيسجدون ومن دون الله حال. (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) الواو حرف عطف وزين فعل ماض ولهم متعلقان به والشيطان فاعله وأعمالهم مفعوله فصدهم عطف على زين وعن السبيل متعلقان بصدهم، فهم الفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة لا يهتدون خبر. (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يجب حذف النون في الرسم اتباعا لسنة المصحف وأن هي حرف مصدري ونصب ولا زائدة والمعنى أن يسجدوا، وهذا المصدر المؤول معمول لقوله لا يهتدون لكن بنزع الخافض وهو الى والمعنى فهم لا يهتدون الى السجود وعلى هذا الإعراب لا يصح الوقوف على يهتدون، ويجوز أن يكون المصدر بدلا من أعمالهم والتقدير وزين لهم الشيطان أعمالهم عدم السجود، ويجوز أن يكون بدلا من السبيل، وقرئ بتخفيف ألا فهي حرف تنبيه واستفتاح ويا حرف نداء والمنادى محذوف واسجدوا فعل أمر فكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون يا اسجدوا ولكن الصحابة أسقطوا ألف يا وهمزة الوصل من اسجدوا خطا لما سقطت لفظا ووصلوا يا بسين اسجدوا فصارت صورته يسجدوا كما ترى فاتحدت القراءتان لفظا وخطا واختلفتا تقديرا وسيأتي بحث اختلاف النحويين في «يا» الداخلة على فعل أو حرف في باب الفوائد. ولله متعلقان بيسجدوا والذي موصول نعت لله وجملة يخرج الخبء صلة وفي السموات والأرض متعلقان بالخبء أي المخبوء في السموات أو بيخرج على أن «في» بمعنى «من» أي يخرجه من السموات والأرض. (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) ويعلم عطف على يخرج فهو داخل في حيز الصلة وفاعل يعلم ضمير مستتر يعود على الله وما موصول مفعول به وجملة تخفون صلة وما تعلنون عطف على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 192 ما تخفون. (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) كلام مستأنف مسوق للثناء على عرش الله العظيم بعد الالماع الى عرش بلقيس وبينهما بون عظيم. البلاغة: جناس التصريف: في قوله «وجئتك من سبأ بنبإ يقين» جناس التصريف وهو اختلاف صيغة الكلمتين بابدال حرف من حرف إما من مخرجه أو من قريب من مخرجه وهو من محاسن الكلام المتعلقة باللفظ شريطة أن يأتي جاريا مع الطبع بعيدا عن التكلف محتفظا بصحة المعنى، ولقد جاء هنا زائدا على الصحة فحسن ورقّ، ألا ترى أنه لو قال بخبر بدلا من بنبإ لصح المعنى واستقام، ولكنه جاء منغوما عذب الجرس لاتفاق سبأ ونبأ وقد تقدم مثله في قوله بسورة الانعام «وهم ينهون عنه وينأون عنه» . الفوائد: 1- قصة سليمان والهدهد: وجريا على عادتنا نورد إحدى الروايات المذكورة عن قصة سليمان والهدهد لما فيها من جذور قصصية وتمهيدا للنابغين الملهمين من كتاب القصص: روي أن سليمان حين فرغ من بناء بيت المقدس تجهز للحج الجزء: 7 ¦ الصفحة: 193 بحشره فوافى الحرم وأقام به ما شاء وكان يقرب كلّ يوم طول مقامه خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة، ثم عزم على السير الى اليمن فخرج من مكة صباحا يؤم سهيلا فوافى صنعاء وقت الزوال فرأى أرضا حسناء تزهو خضرتها فنزل ليتغدى ويصلي فلم يجدوا الماء وكان الهدهد قناقنه أي دليله الهادي وكان يرى الماء تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة فتفقده لذلك، وحين نزل سليمان حلق الهدهد فرأى هدهدا آخر واقعا فانحط اليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء وذكر له صاحبه ملك بلقيس وأن تحت يدها اثني عشر ألف قائد وتحت كل قائد مائة ألف وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر وذكر أنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فلم يجد عنده علمه ثم قال لسيد الطير وهو العقاب عليّ به فارتفع العقاب في الهواء حتى نظر الى الدنيا كالقصعة ثم التفت يمينا وشمالا فرأى الهدهد مقبلا فانقضّ العقاب يريده وعلم الهدهد أن العقاب يقصده بسوء فقال بحق الذي قواك وأقدرك إلا ما رحمتني فتركه وقال ويلك ثكلتك أمك، إن نبيّ الله قد حلف ليعذبنك قال: وما استثنى نبي الله؟ قال بلى قال: أو ليأتيني بسلطان مبين فقال: نجوت إذن، فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرها على الأرض متواضعا لسليمان فلما دنا منه أخذ برأسه فمدّه اليه فقال: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله فارتعد سليمان وعفا عنه ثم سأله ما الذي أبطأك عني فقال الهدهد: أحطت بما لم تحط به إلخ ... نكتة بيانية: قال الزمخشري: «فإن قلت قد حلف على أحد ثلاثة أشياء فحلفه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 194 على فعليه لا مقال فيه ولكن كيف صح حلفه على فعل الهدهد ومن أين درى أنه يأتي بسلطان حتى يقول والله ليأتيني بسلطان؟ قلت: لما نظم الثلاثة بأو في الحكم الذي هو الحلف آل كلامه الى قولك ليكونن أحد الأمور، يعني إن كان الإتيان بسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح وإن لم يكن كان أحدهما وليس في هذا ادعاء دراية» . 2- من هي بلقيس؟: أما بلقيس فهي ابنة شراحيل بن أبي سرح بن الحارث بن قيس ابن صيغي بن سبأ وقال ابن الكلبي: كان أبوها من عظماء الملوك وستأتي قصتها وذكر الحريري في درة الغواص: ان صواب لفظ بلقيس أن تكسر باؤه لأن كل أعجمي يعرب فقياسه أن يلحق بأمثلة كلام العرب وعلى ذلك بلقيس، وفي أخبار سيف الدولة ان الخالديين مدحاه فبعث إليهما وصيفا ووصيفة مع كل واحد منهما بدرة وتخت من ثياب مصر والشام فكتبا اليه: لم يغد شكرك في الخلائق مطلقا ... إلا ومالك في النوال حبيس خولتنا شمسا وبدرا أشرقت ... بهما لدينا الظلمة الحنديس رشنأ أتانا، وهو حسنا يوسف ... وغزالة هي بهجة، بلقيس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 195 هذا ولم تقنع بذاك وهذه ... حتى بعثت المال وهو نفيس أتت الوصيفة وهي تحمل بدرة ... وأتى على ظهر الوصيف ا لكيس وكسوتنا مما أجادت حوكه ... مصر وزادت حسنه تنيس فغدا لنا من جودك المأكول وال ... مشروب والمنكوح والملبوس فلما قرأها سيف الدولة قال: أحسنا إلا في لفظ المنكوح إذ لبست مما يخاطب بها الملوك. هذا وقد كانت قصة بلقيس وصرحها الممرد مصدر إلهام للشعراء، فقد أورد البحتري ذلك كله في قصيدة له يمدح بها المتوكل ويذكر بناء البركة المشهورة ومنها: يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها ... والآنسات إذا لاحت مغانيها بحسبها أنها في فضل رتبتها ... تعدّ واحدة والبحر ثانيها كأن جن سليمان الذين ولوا ... إبداعها فأدقوا في معانيها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 196 فلو تمر بها بلقيس عن عرض ... قالت هي الصرح تمثيلا وتشبيها 3- سجدات القرآن: وعلى ذكر قوله «ألّا يسجدوا لله» أن أبا حنيفة والشافعي اتفقا على أن سجدات القرآن أربع عشرة وانما اختلفا في سجدة «ص» فهي عند أبي حنيفة سجدة تلاوة وعند الشافعي سجدة شكر وفي سجدتي سورة الحج. 4- قصة سيل العرم وتفرق العرب أيادي سبا: ونورد هنا بعض الأساطير المروية للطرافة والفائدة: وسبأ هو أبو قبائل اليمن المتفرقة من سد مأرب الذين مزقهم الله كلّ ممزّق وسمي سبأ لأنه أول من سبى السبي وقيل سبأ اسم أمهم ومأرب اسم بلدهم، وكانت سبأ من أحسن بلاد الله وأخصبها وأكثرها شجرا وماء وقد ذكر الله أنها كانت جنتين عن يمين وشمال وكانت مسيرة شهر في شهر للمجدّ الراكب يسير في جنان من أولها إلى آخرها لا تواجهه الشمس ولا يفارقه الظل مع تدفق الماء وصفاء الهواء واتساع الفضاء، فمكثوا ما شاء الله لا يعاندهم ملك إلا قصموه، وكانت في بدء الزمان تركبها السيول فجمع ملك حمير أهل مملكته فشاورهم في دفع السيل فأجمعوا على حفر مسارب له حتى تؤديه الى البحر فحشد أهل مملكته حتى صرف الماء واتخذ سدا في موضع جريان الماء من الجبال ورصفه بالحجارة والحديد وجعل فيه مجاري للماء في استدارة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 197 الذراع فإذا جاء السيل تصرف في المجاري الى جناتهم ومزروعاتهم بتقدير يعمهم نفعه، وذكر الأعشى في شعره أن حميرا بنته فقال: رخام بنته لهم حمير ... إذا جاء ماؤهم لم يرم وأروى الزروع وأعنابهم ... على سعة ماؤهم قد قسم فعاشوا بذلك في غبطة ... فحاق بهم جارف منهدم ولما انتهى الملك الى عمرو بن عامر مزيقياء وسمي بذلك لأنه كان يمزق كل ليلة حلة كبرا من أن تعاد عليه أو يلبسها غيره وقيل سمي بذلك لأنه مزق الأزد في البلاد، وكان أخوه عمران كاهنا فأتته كاهنة تدعى ظريفة فأخبرته بدنو فساد السد وفيض السيل وأنذرته، فجمع أهل مأرب وعمل لهم طعاما فأخبرهم بشأن السيل فأجمعوا على الجلاء فقال لهم عمران أخوه إني أصف لكم بلدانا فاختاروا أيتها شئتم فمن كان منكم ذا هم بعيد وجمل غير شرود فليلحق بالشعب من كرود فلحق به همدان ثم قال ومن كان منكم ذا سياسة، وصبر على أزمات الدهر فليلحق ببطن مر فلحقت به خزاعة ثم قال: ومن كان منكم يريد الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل فنزلها الأوس والخزرج ثم قال ومن كان منكم يريد الخمر والخمير والأمر والتأمير فليلحق ببصرى وسدير وهي من أرض الشام فنزلها غسان ثم قال ومن كان منكم يريد الثياب الرقاق والخيل العتاق والذهب والأوراق فليلحق بالعراق فلحق بها مالك بن فهم بن الأزد وتخلف مالك بن اليمان في قومه حتى أخرجهم السيل فنزلوا نجران وانتسبوا الى مذحج ودخلت جماعة منهم الى معد فأخرجتهم معد بعد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 198 حروب فنزلوا بجبال الشراة على تخوم الشام فلما تفرقت البلاد هذا التفرق ضربت العرب بهم المثل فقالوا ذهبوا أيدي سبا وأيادي سبا. [سورة النمل (27) : الآيات 27 الى 33] قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33) اللغة: (أَفْتُونِي) : أشيروا عليّ والفتوى الجواب في الحادثة اشتقت على طريق الاستعارة من الفتا في السنّ والمراد بالفتوى هاهنا الاشارة عليها بما عندهم كما ذكرنا فيما حدث لها من الرأي والتدبير. وفي الأساس: «وفلان من أهل الفتوى والفتيا وتعالوا ففاتونا، وتفاتوا إليه: تحاكموا، قال الطرماح: هلمّ إلى قضاة الغوث فاسأل ... برهطك والبيان لدى القضاة أنخ بفناء أشدق من عديّ ... ومن جرم وهم أهل التفاتي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 199 وقال عمر بن أبي ربيعة: فبتّ أفاتيها فلا هي ترعوي ... بجود ولا تبدي إباء فتبخلا أي أسائلها» . هذا ويجوز ضم الفاء وفتحها كما جاء في أدب الكاتب لابن قتيبة قال: «قالوا: فتوى وفتيا وبقوى وبقيا وثنوى وثنيا ورعوى ورعيا» . (أُولُوا قُوَّةٍ) : اسم جمع بمعنى أصحاب، والواحد ذو بمعنى صاحب وقيل جمع ذو على غير لفظه وقد تقدم أنها من الملحقات بجمع المذكر السالم والمؤنث أولات وواحدتها ذات تقول: جاء أولو العلم وأولات الفضل. الإعراب: (قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) كلام مستأنف مسوق للإجابة عن سؤال نشأ عن حكاية الهدهد وجملة سننظر مقول القول والهمزة للاستفهام وصدقت فعل وفاعل وأم متصلة معادلة للهمزة وكان واسمها ومن الكاذبين خبرها وعدل عن الفعل المطابق لما قبله الى الاسم لنكتة بلاغية تقدمت الاشارة إليها أكثر من مرة. وهي جعله واحد من الفئة الموسومة بالكذب. (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ) لا بد من تقدير كلام محذوف لتتناسق حوادث القصة أي ثم دلهم على الماء فاستخرجوه وارتووا وتوضئوا وصلوا، ثم كتب سليمان كتابا هذه صورته: من عبد الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 200 سليمان الى بلقيس ملكة سبأ، بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى أما بعد فلا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين ثم ختمه بخاتمه، ثم قال للهدهد: اذهب، فالجملة مقول قول محذوف، واذهب فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وبكتابي متعلقان باذهب وهذا نعت لكتابي أو بدل منه، فألقه الفاء عاطفة وألقه فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وأنهم متعلقان بألفه ثم حرف عطف وتول فعل أمر على حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت وعنهم متعلقان بمحذوف حال أي متجاوزا إياهم الى مكان قريب تتوارى فيه ليكون ما يقولونه بمسمع منك، فانظر عطف على تول، وماذا يرجعون: في هذا التعبير وجهان: أولهما: أن تكون انظر بمعنى تأمل وتفكر فتكون ماذا اسم استفهام في محل نصب مفعول مقدم ليرجعون تقديره أي شيء يرجعون، أو تجعل ما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول بمعنى الذي خبر ما وجملة يرجعون صلة ذا والعائد محذوف تقديره أي شيء الذي يرجعونه، وعلى كلا التقديرين فالجملة الاستفهامية قد علق عنها العامل وهو انظر بالاستفهام فمحلها النصب على نزع الخافض أي انظر في كذا وفكر فيه. وثانيهما: أن تكون انظر بمعنى انتظر من قوله تعالى: «انظرونا نقتبس من نوركم» فتكون ماذا كلها اسم موصول وهو أحد أوجه ماذا التي ستأتي في باب الفوائد وهي مفعول به أي انتظر الذي يرجعونه وجملة يرجعون صلة والعائد محذوف كما تقدم والمعنى ماذا يردون من الجواب أو ماذا يرجع بعضهم الى بعض من القول. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 201 (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) لا بد من تقدير كلام محذوف روعي في حذفه الإيجاز وتقديره كما قال مقاتل: «حمل الهدهد الكتاب بمنقاره وطار حتى وقف على رأس المرأة وحولها الجنود والعساكر فرفرف ساعة والناس ينظرون فرفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها وسيأتي مزيد من الروايات في تقدير هذا المحذوف. وإني إن واسمها وجملة ألقى خبرها وإليّ متعلقان بألقي وكتاب نائب فاعل وكريم صفة وسيأتي سر هذا الوصف في باب البلاغة. (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) الجملة مستأنفة مسوقة للرد على سؤال مقدر كأنهم قالوا ممن هو؟ وما هي منطوياته؟ فقالت أنه من سليمان وان واسمها ومن سليمان خبرها وانه الواو عاطفة وان واسمها وجملة البسملة خبرها وقد تقدم اعراب البسملة في صدر هذا الكتاب. (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أن مفسرة والمفسر كتاب لتضمنه معنى القول دون حروفه ولا ناهية وتعلوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وعليّ متعلقان بتعلوا ويجوز أن تكون أن مصدرية ناصبة للفعل ولا نافية وأن وما في حيزها مصدر مؤول في محل رفع بدل من كتاب أو خبر لمبتدأ محذوف أي مضمونه أن لا تعلوا أو في محل نصب بنزع الخافض أي بأن لا تعلوا، وأتوني الواو عاطفة وائتوني فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به ومسلمين حال. (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) أفتوني فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 202 والياء مفعول به وفي أمري متعلقان بأفتوني. (ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) ما نافية وكنت قاطعة كان واسمها وخبرها وأمرا مفعول به وحتى حرف غاية وجر وتشهدون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى وعلامة نصب حذف النون والنون الموجودة نون الوقاية وياء المتكلم المحذوفة مفعول به. (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) جملة نحن مقول القول ونحن مبتدأ وأولو خبر وعلامة رفعه الواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم وقوة مضاف اليه وأولو بأس شديد عطف على ما تقدم. (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ) الواو حرف عطف والأمر مبتدأ وإليك خبر أي موكول إليك ونحن مطيعون لك، فانظري الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن مقدر كأنما تصوروا أنها قد تكون راغبة في القتال أو أنهم راغبون فيه فإن أردت ذلك وعزمت على خوض الحرب فنحن أبناء بجدتها وانظري أي فكري وماذا اسم استفهام وقد تقدم اعرابها وستأتي وجوهها وهي هنا في محل نصب مفعول مقدم لتأمرين والاستفهام معلق للنظر. البلاغة: في هذه المحاورة التي جرت بين بلقيس وبين الملأ من قومها وفي الوصف لكتاب سليمان بعد ذكر العنوان والتسمية فنون عديدة نورد أهمها فيما يلي: 1- الاشارة: وهذا الفن سبقت إليه الاشارة في هذا الكتاب وقد فرعه قدامة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 203 من ائتلاف اللفظ مع المعنى وشرحه فقال: هو أن يكون اللفظ القليل دالا على المعنى الكثير حتى تكون دلالة اللفظ كالإشارة باليد فإنها تشير بحركة واحدة الى أشياء كثيرة، والفرق بينه وبين الإيجاز أن الإيجاز بألفاظ المعنى الموضوعة له وألفاظ الإشارة لمحة خاطفة دالة، فدلالة اللفظ بالإيجاز دلالة مطابقة ودلالة اللفظ في الاشارة إما دلالة تضمن أو دلالة التزام، والدلالة هنا دلالة تضمن، فقد وصفت كتاب سليمان بالكرم لأنه من عند ملك كريم أو لأنه مختوم، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كرم الكتاب ختمه» وعن ابن المقفع من كتب الى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به. وروي أنها كانت راقدة وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها فدخل الهدهد من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية وقيل نقرها فانتبهت فزعة، فلما رأت الخاتم ارتعدت وقالت لقومها ما قالت. 2- الإيجاز: في قولهم: «قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين» إيجاز عجيب فهو أولا يدل على تعظيم المشورة وتعظيم بلقيس أمر المستشار، وهو ثانيا يدل على تعظيمهم أمرها وطاعتها وفي قولهم «والأمر إليك» وقولهم «فانظري ماذا تأمرين» إيجاز يسكر الألباب، قال أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 204 في كتابه إعجاز القرآن: «فإن الكلام قد يفسده الاختصار ويعميه التخفيف منه والإيجاز، وهذا مما يزيده الاختصار بسطا لتمكنه ووقوعه موقعه ويتضمن الإيجاز منه تصرفا يتجاوز محله وموضعه» الى أن يقول: «وأنت لا تجد في جميع ما تلونا عليك إلا ما إذا بسط أفاد وإذا اختصر كمل في بابه وجاد وإذا سرح الحكيم في جوانبه طرف خاطره وبعث العليم في أطرافه عيون مباحثه لم يقع إلا على محاسن تتوالى وبدائع تترى» . الفوائد: عقد ابن هشام في المغني فصلا ل «ماذا» نلخصه فيما يلي ونعرب أمثلته: تأتي ماذا في العربية على أوجه: 1- أن تكون ما استفهامية وذا اشارة نحو ماذا التواني؟ ماذا الوقوف؟ فما اسم استفهام مبتدأ وذا خبر والتواني بدل أو عطف بيان أي: أي شيء هذا التواني؟ 2- أن تكون ما استفهامية وذا موصولة كقول لبيد: ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضي أم ضلال وباطل فما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبره وجملة يحاول صلة والهمزة للاستفهام ونحب بدل من ما. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 205 3- أن يكون ماذا كله استفهاما على التركيب كقولك لماذا جئت وقوله: يا خزر تغلب ماذا بال نسوتكم ... لا يستفقن الى الديرين تحنانا فماذا اسم استفهام مركب مبتدأ وبال نسوتكم خبر. 4- أن يكون ماذا كله اسم جنس بمعنى شيء أو موصولا بمعنى الذي على خلاف تخريج قول الشاعر: دعي ماذا علمت سأتقيه ... ولكن بالمغيّب نبئيني فالجمهور على أن ماذا كله مفعول دعي ثم اختلف فقيل موصول بمعنى الذي وقيل نكرة بمعنى شيء وهناك وجهان ذكرهما ابن هشام ولم نر حاجة إليهما لأنهما لا يقعان في فصيح الكلام. [سورة النمل (27) : الآيات 34 الى 37] قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 206 الإعراب: (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها) كلام مستأنف مسوق للرد على مستشاريها أي لم ترض بما أشاروا به وهو خوض الحرب بل مالت للسلام وعقد الصلح وعللت ذلك بقولها إن الملوك ... وكأنها تلمع لهم بسوء مغبة الحرب وعواقبها المخيفة وآثارها الكثيرة. فإن واسمها وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة دخلوا في محل جر بإضافة الظرف إليها وقرية مفعول به على السعة وجملة أفسدوها جواب شرط غير جازم لا محل لها وجملة الشرط وجوابه خبر ان. (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) الواو عاطفة وجعلوا فعل وفاعل وأعزة أهلها مفعول جعلوا الأول وأذلة مفعول جعلوا الثاني وكذلك الواو عاطفة لأن ذلك من جملة كلامها وكذلك نعت لمصدر محذوف تقدمت له نظائر، أرادت هذه عاداتهم المستمرة وديدنهم الثابت. (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) ان واسمها ومرسلة خبرها وإليهم متعلقان بمرسلة وبهدية متعلقان بمرسلة أيضا فناظرة عطف على مرسلة وبم الباء حرف جر وما الاستفهامية المحذوف ألفها في محل جر بالباء والجار والمجرور بيرجع ولا يجوز تعلقها بناظرة كما أعربها الحوفي لأن الاستفهام له الصدر، فلا يعمل ما قبله فيه وإلا خرج عما ثبت له، وللمفسرين كلام طويل في هذه الهدية لا يحتمل ذكرها صدر هذا الكتاب، ويرجع المرسلون فعل وفاعل والجملة مفعول به لناظرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 207 (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) الفاء عاطفة على محذوف لا بد من تقديره فأعدت الهدية مع رسول بكتاب وسيأتي مزيد بحث عنها في باب البلاغة. ولما ظرفية حينية أو رابطة متضمنة معنى الشرط وجاء سليمان فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو أي الرسول وسليمان مفعول به وجملة قال لا محل لها والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وتمدونن فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء المحذوفة مفعول به وبمال متعلقان بتمدونن أي تعاونونني بالمال. (فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) الفاء حرف تعليل لما تقدم من إنكاره عليهم وتوبيخه إياهم وما اسم موصول مبتدأ وجملة آتاني صلة وآتاني الله فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وخير خبر ما وبل حرف إضراب انتقالي لبيان السبب الذي حداهم الى إمداده بالمال وأنتم مبتدأ وبهديتكم متعلقان بتفرحون وجملة تفرحون خبر. (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) الخطاب لأمير الوفد وارجع فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وإليهم متعلقان بارجع وقيل الخطاب للهدهد محملا إياه رسالة أخرى والفاء استئنافية واللام موطئة للقسم ونأتينهم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به والميم علامة جمع الذكور وبجنود متعلقان بنأتينهم ولا نافية للجنس وقبل اسمها المبني ولهم خبر وبها متعلقان بقبل لتضمنه معنى المصدر لأن حقيقته المقابلة والمقاومة، يقال: مالي به قبل أي طاقة ويقال لي قبل فلان دين أي عنده، وأتاني من قبله أي من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 208 عنده، فتكون بمعنى المصدر وبمعنى الظرف. (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) ولنخرجنهم عطف على فلنأتينهم ومنها متعلقان بنخرجنهم والضمير يعود الى سبأ أي بلادهم وأذلة حال وهم الواو حالية وهم مبتدأ وصاغرون خبر والجملة حال ثانية من الهاء في لنخرجنهم. البلاغة: الإيجاز: في هذه الآيات إيجاز بليغ يحسن بنا أن تتدبره لأن المدار فيه على المعاني دون الألفاظ فرب لفظ قليل ينطوي على معنى كثير وقد تقدم معنا أن الإيجاز قسمان أحدهما إيجاز بالحذف وهو ما يحذف منه المفرد وإيجاز بالقصر، وفي هذه الآيات إيجاز بالحذف وهو قوله «بم يرجع المرسلون» ثم قوله «فلما جاء سليمان» فقد حذف هنا ما لو أظهر لظهر الكلام غثا لا يناسب ما كان عليه أولا من الطلاوة والحسن، لأن الخاطر قد يذهب كل مذهب، وقد يترك العنان للخيال ليجول في آفاق لا نهاية لها ليتصور الهدية التي أعدتها مما يتولى الشرح إظهاره. فقد روي أن بلقيس كانت امرأة عاقلة لبيبة قد ساست الأمور، وسبرت أغوار الناس وكانت تعرف أن سليمان لو كان نبيا لترفع عن أخذ الهدية ولو كان ملكا لأخذها، فأحبت أن تتأكد من هذه المسألة، وروي أيضا أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري وحليهن الأساور والأطواق والقرطة راكبي خيل مغشاة بالديباج ومحلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجواهر وخمسمائة جارية على رماك أي إناث الخيل في زي الغلمان وألف لبنة من ذهب وفضة وتاجا مكللا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 209 بالدر والياقوت المرتفع والمسك والعنبر وحقا فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب وبعثت رجلين من أشراف قومها وهما المنذر بن عمرو وآخر ذا عقل ورأي ثم قالت للمنذر: إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولنّك أمره وان رأيته بشا لطيفا فهو نبي، فأقبل الهدهد فأخبر سليمان بما تم فأمر سليمان الجن فضربوا لبن الذهب والفضة وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ وجعلوا حول الميدان حائطا شرفه من الذهب والفضة وأمر بأحسن الدواب فربطوها عن يمين الميدان ويساره وأمر أولاد الجن وهم خلق كثير فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله فلما دنا القوم ونظروا بهتوا ثم رد الهدية وقال للمنذر ارجع إليهم، فقالت هو نبي وما لنا به من طاقة وتجهزت الى المسير الى سليمان لتنظر ما يأمرها به فارتحلت في اثنى عشر ألف قيل أي ملك وهو بفتح القاف سمي قيلا لأنه ينفد كل ما يقول، الى أن قربت منه على فرسخ فشعر بها. هذا والهدية اسم المهدى كما أن العطية اسم المعطى فتضاف الى المهدي والمهدى اليه، تقول هذه هدية فلان تريد هي التي أهداها أو أهديت اليه والمضاف اليه في قوله «بل أنتم بهديتكم» هو المهدى اليه. [سورة النمل (27) : الآيات 38 الى 44] قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 210 اللغة: (عِفْرِيتٌ) : العفريت: الخبيث المنكر والنافذ في الأمر مع دهاء وذلك من الانس والجن والشياطين وجمعه عفاريت ومؤنثه عفريتة والعفرية مثله وقد قرئ به ويقال رجل عفرية وعفر وعفير إذا كان صحيحا شديدا مونق الخلق أخذ من عفر الأرض وهو التراب أي من علق به من عفره بالأرض، ومنه ليث عفرين أي ليث ليوث معفر لفريسته، قال الخليل، رجل عفار بين العفارة إذا وصف بالشيطنة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 211 والعفير أيضا الظريف الكيس، ويقال للشيطان عفريت وعفرية وفي الحديث «إن الله ليبغض العفريت النفريت» قيل هو الجموع المنوع وقال أبو عثمان النهدي دخل رجل عظيم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: متى عهدك بالحمى قال: ما أعرفها قال فبالصداع قال: ما أدري ما هو قال: أفأصبت بمالك قال لا قال: أفرزئت بولدك قال لا فقال النبي صلى الله عليه وسلم ان الله ليبغض العفريت النفريت وهو الذي لا يرزأ. لصَّرْحَ) : قال في الكشاف: الصرح: «القصر وقيل صحن الدار» وأصله من التصريح وهو الكشف، وكذب صراح أي ظاهر مكشوف، ولؤم صراح، ولبن صريح أي ذهبت رغوته وخلص، وعربي صريح من عرب صرحاء: غير هجناء، وكأس صراح: لم تمزج، وصرحت الخمرة: ذهب عنها الزبد، ولقيته مصارحة: مجاهرة، وصرح النهار: ذهب سحابه وأضاءت شمسه، قال الطرماح في وصف ذئب: إذا امتلّ يعدو قلت ظلّ طخاءة ... ذرى الريح في أعقاب يوم مصرح ُمَرَّدٌ) : الممرّد: المملّس وسيأتي سر بنائه في باب الفوائد ومنه الأمرد لملاسة وجهه أي نعومته لعدم وجود الشعر به وفي القاموس: «التمريد في البناء التمليس والتسوية وبناء ممرد: مطول والمارد المرتفع والعاتي» . َوارِيرَ) : في المصباح: «القارورة إناء من زجاج والجمع القوارير والقارورة أيضا وعاء الرطب والتمر وهي القوصرة وتطلق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 212 القارورة على المرأة لأن الولد أو المني يقر في رحمها كما يقر الشيء في الإناء أو تشبيها بآنية الزجاج لضعفها، قال الأزهري: والعرب تكنى عن المرأة بالقارورة والقوصرة» وفي القاموس «والقارورة حدقة العين وما قر فيه الشراب أو نحوه أو يخصّ بالزجاج، وقوارير من فضة أي من زجاج في بياض الفضة وصفاء الزجاج» . الإعراب: (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) فاعل قال سليمان والخطاب لكل من هو عنده من الجن والانس وغيرهما، وأيكم مبتدأ وجملة يأتيني بعرشها خبر والظرف متعلق بيأتيني أيضا وأن وما في حيزها مصدر مؤول مضاف اليه ومسلمين حال. (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) قال فعل ماض وعفريت فاعل ومن الجن صفة وأنا مبتدأ وجملة آتيك به خبر والظرف متعلق بآتيك ومن مقامك متعلق بتقوم أي قبل أن تبارح مجلسك الذي تجلس فيه للقضاء من الغداة الى منتصف النهار. (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) الواو عاطفة وان واسمها وعليه متعلقان بقوي واللام المزحلقة وقوي خبر وأمين خبر ثان أي قوي على حمله أمين به لا أختلس منه شيئا ولا أعبث به. (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) لا بد من تقدير محذوف على طريق الإيجاز كما تقدم وهو قال سليمان أريد أن يتم ذلك في أسرع وقت. وقال فعل ماض والذي فاعل والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وعلم مبتدأ مؤخر ومن الكتاب صفة لعلم والجملة صلة الموصول وأنا مبتدأ وجملة آتيك به خبر والجملة مقول القول وتقدم اعراب الباقي وسيأتي معنى ارتداد الطرف في باب البلاغة. (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 213 عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) الفاء عاطفة على محذوف يقدر بحسب المقام ويروى أن آصف بن برخيا وهو الذي عنده علم من الكتاب المنزل قال لسليمان مدّ عينيك حتى ينتهي طرفك فمد سليمان عينيه ونظر نحو اليمين ودعا آصف بالعلم الذي لديه فغار العرش في مكانه بمأرب ثم نبغ بمجلس سليمان، ولما ظرف بمعنى حين أو رابطة ورآه فعل وفاعل مستتر ومفعول به ومستقرا حال لأن الرؤية بصرية أي ثابتا والظرف متعلق بمستقرا وجملة قال لا محل لها من الإعراب وهذا مبتدأ ومن فضل ربي خبر. (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) اللام للتعليل ويبلوني فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وفاعل يبلوني يعود على ربي والياء مفعول وأ أشكر الهمزة للاستفهام وأشكر فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا وجملة أأشكر بدل من الياء في يبلوني فهو بمثابة المفعول به وأم أكفر عطف على أأشكر. (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ وشكر فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة لأن الجواب جملة اسمية وان حرف مشبه بالفعل وما مصدرية وهي وما بعدها في تأويل مصدر اسم ان أي فإن ثواب شكره، ولنفسه هو الخبر وفعل الشرط وجوابه خبر من ومن كفر فإن ربي غني كريم جملة معطوفة على الجملة السابقة مماثلة لها في الاعراب. (قالَ: نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) نكروا فعل أمر والواو فاعل ولها متعلقان ينكروا وعرشها مفعول به أي غيّروه، وننظر فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر وقرئ بالرفع على الاستئناف وجملة أتهتدي في محل نصب على المفعولية لأن الاستفهام علق ننظر عن العمل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 214 وأم حرف عطف معادلة للهمزة وتكون فعل مضارع ناقص معطوف على أتهتدي واسمها مستتر تقديره هي ومن الذين خبر تكون وجملة لا يهتدون صلة الذين. (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) الفاء عاطفة على محذوف اقتضاه الإيجاز كما تقدم، أهكذا: الهمزة للاستفهام والهاء للتنبيه والكاف حرف جر للتشبيه وذا اسم اشارة في محل جر بالكاف والجار والمجرور خبر مقدم وعرشك مبتدأ مؤخر، والأصل اتصال هاء التنبيه باسم الاشارة فكان مقتضاه أن يقال أكهذا عرشك؟ وهذا الفصل جائز إذا كان حرف الجر كافا، فلو قلت أبهذا أمرت أو ألهذا فعلت؟ لم يجز فيه ذلك الفصل، فلا يجوز أن تقول أها بذا أمرت، وأ ها لذا فعلت؟ وسيأتي السر في الإتيان بكاف التشبيه وعدم الاكتفاء بالقول أهذا عرشك في باب البلاغة. قالت: فعل وفاعل مستتر تقديره هي يعود على بلقيس وكأنه هو وكأن واسمها والضمير هو خبرها وسيأتي السر في عدولها عن مطابقة الجواب للسؤال في باب البلاغة أيضا. (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) الواو عاطفة على كلام محذوف للايجاز أي لما سمعوا قولها كأنه هو قالوا أصابت في الجواب فقال سليمان: وأوتينا وهو فعل ماض مبني للمجهول ونا نائب الفاعل والعلم مفعول أوتينا الثاني ومن قبلها متعلقان بأوتينا وكنا الواو عاطفة وكان واسمها ومسلمين خبرها، ويحتمل أن يكون وأوتينا من كلام بلقيس فالضمير في قبلها راجع للمعجزة والحالة التي دل عليها سياق الكلام والمعنى وأوتينا العلم بنبوة سليمان من قبل ظهور هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة والأول أرجح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 215 (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) من جملة كلام سليمان أو من كلام الله، وصدها فعل ماض ومفعول به وما موصول فاعل وجملة كانت صلة واسم كانت مستتر تقديره هي وجملة تعبد خبر ومن دون الله حال ويجوز أن تكون ما مصدرية أي وصدّها عبادة الشمس عن الإسلام وجملة إنها تعليل للصد عن الإسلام وعبادة غير الله، وان واسمها وجملة كانت خبرها واسم كانت هي ومن قوم خبرها وكافرين صفة وقرئ أنها بالفتح على انه بدل من فاعل صدها أو نصب بنزع الخافض. ِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ) قيل فعل ماض مبني للمجهول والجملة مستأنفة وجملة ادخلي الصرح مقول القول والصرح مفعول به على السعة وستأتي قصة الصرح في باب الفوائد. َلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) الفاء عاطفة على محذوف للايجاز أي فدخلته، لما حينية أو رابطة وجملة حسبته لا محل لها والهاء مفعول به أول ولجة مفعول به ثان وكشفت عن ساقيها عطف على حسبته. الَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) إن واسمها وصرح خبرها وممرد صفة ومن قوارير صفة ثانية أي إن الذي ظننته ماء فوقه هو صرح ممرد أي مسقف بسطح فمن أراد مجاوزته لم يحتج الى تشمير ثيابه. الَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) رب منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وان واسمها وجملة ظلمت نفسي خبرها وأسلمت عطف على ظلمت ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف حال أي كائنة مع سليمان وإنما قدر حالا لأن تعليقه بأسلمت يوهم اتحاد اسلاميهما في الزمان، ولله متعلقان بأسلمت ورب العالمين بدل من الله أو صفة له. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 216 البلاغة: 1- الكناية في ارتداد الطرف: في قوله: «قبل أن يرتد إليك طرفك» كناية عن الاسراع، والطرف هو تحريك أجفانك إذا نظرت، فوضع موضع النظر، ولما كان الناظر موصوفا بإرسال الطرف وصف برد الطرف ووصف الطرف بالارتداد وعليه قوله: وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا ... لقبلك يوما أتعبتك المناظر رأيت الذي لاكله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر وهذان البيتان لأعرابية نظرها أعرابي فخاطبها بشعر يسألها عن أحوالها ومحاسنها كأنه يراودها عن نفسها فأجابته بذلك وقيل هو لشاعر حماسي، وشبه إطلاق البصر نحو المناظر الجميلة بإرسال الرائد أمام الركب يتعرف لهم مكان الخصب على طريق الاستعارة التصريحية ورائدا ترشيح للاستعارة ويوما ظرف له. 2- السر في التشبيه: وفي قوله «كأنه هو» تشبيه مرسل عدلت إليه عن مقتضى السؤال، ومقتضاه أن تقول: هو هو لسر دقيق جدا وذلك ان «كأنه» عبارة من قرب الشبه عنده حتى شكك نفسه في التغاير بين الأمرين فكاد يقول هو هو، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 217 وتلك حال بلقيس ولما كانت هكذا هو عبارة جازم بتغاير الامرين حاكم بوقوع الشبه بينهما لا غير فلهذا عدلت الى العبارة المذكورة في التلاوة لمطابقتها لحالها. 3- التجنيس: وهو تآلف الكلمتين في تأليف حروفهما وهو هنا في قوله «وأسلمت مع سليمان» . الفوائد: 1- قصة الصرح: هذا ونلخص ما يروى من قصة الصرح لانها قصة شعرية مجنحة الخيال فقد روي أن سليمان أمر قبل قدومها فبني له على طريقها قصر من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه من دواب البحر السمك وغيره ووضع سريره في صدره فجلس عليه، فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنه قصد إغراقها وتعجبت من كون كرسيه على الماء ولم يكن لها بد من امتثال الأمر فكشفت عن ساقيها والمقصود من ذلك كله اختبار عقلها وارهاصها بالمعاجز لا ما يروى انه قيل له انها شعراء الساقين ورجلها كحافر الحمار مما لا يتلاءم ووقار النبوة وترفعها عن الصغائر. 2- هل تزوج سليمان بلقيس؟: قيل تزوجها بعد ذلك وأقرها على ملكها وكان يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له، وقيل بل زوجها ذاتبع من ملوك اليمن ويقال لهم الأذواء لأن أعلامهم تصدر بكلمة (ذو) والمراد صاحب هذا الاسم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 218 [سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 53] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) اللغة: (اطَّيَّرْنا) : وتطيرنا: تشاءمنا والطائر هنا: ما تيمنت به أو نشاءمت والمقصود هنا الثاني، كان الرجل يخرج مسافرا فيمر بطائر فيزجره فإن مر سانحا تيمن وإن مر بارحا تشاءم فلما نسبوا الخير أو الشر الى الطائر استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته أو من عمل العبد، وقد مر هذا في سورة الأعراف فجدد به عهدا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 219 (الْمَدِينَةِ) : البلد من أخذها من مدن بالمكان يمدن إذا قام فيه فهي فعلية والجمع مدائن بالهمز والميم أصلية والياء زائدة، ومن أخذها من دان يدين فالميم زائدة والياء أصلية وهي مفعولة ويقال دنت الرجل ملكته ودنت له خضعت له وأطعت ويقال للأمة مدينة لأنها مملوكة، قال الشاعر: ثوت وثوى في كرمها ابن مدينة ... يظل على مسحاته يتوكل وفي معاجم اللغة: مدن بالمكان يمدن من باب نصر مدونا أقام وهو فعل ممات ومدن المدينة أتاها ومدّن المدائن بالتشديد بناها ومصرها، وتمدّن تخلق بأخلاق أهل المدن وانتقل من الهمجية الى حالة الانس والظرف، وتجمع المدينة على مدن بسكون الدال ومدن بضمها ومدائن، والمدينة علم أطلق على يثرب ومدينة السلام بغداد والمدائن مدينة قرب بغداد كان فيها ايوان كسرى وسميت بالجمع لكبرها والنسبة إليها مدائني. (رَهْطٍ) : الرهط قوم الرجل وقبيلته وعدد يجمع من الثلاثة الى العشرة وليس فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه وجمعه أرهط وأرهاط وجمع الجمع أراهط وأراهيط، وإذا أضيف الى الرهط عدد كان المراد به الشخص والنفس نحو عشرون رهطا، أي شخصا، ويقال نحن ذوو رهط أي مجتمعون وفي المصباح «الرهط ما دون العشرة من الرجال ليس فيهم امرأة وسكون الهاء أفصح من فتحها وهو جمع لا واحد له من لفظه وقيل الرهط من سبعة الى عشرة وما دون السبعة الى الثلاثة نفر وقال أبو زيد: الرهط والنفر ما دون العشرة من الرجال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 220 وقال ثعلب أيضا: الرهط النفر والقوم والمعشر والعشيرة معناهم الجمع لا واحد لهم من لفظهم وهو للرجال دون النساء وقال ابن السكيت: الرهط والعترة بمعنى ويقال: الرهط ما فوق العشرة الى الأربعين قاله الأصمعي ونقله ابن فارس أيضا ورهط الرجل قومه وقبيلته الأقربون» وسيأتي مزيد بحث عنه في باب الإعراب. الإعراب: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) كلام مستأنف مسوق لتقرير القصة الثالثة أو الرابعة إذا استقلت قصة النمل عن قصة سليمان وبلقيس، وهي قصة صالح. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل ماض وفاعل والى ثمود متعلقان بأرسلنا وأخاهم مفعول به وصالحا بدل من أخاهم أو عطف بيان وأن مصدرية وهي ومدخولها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض ويصح كونها مفسرة لأن الإرسال يتضمن معنى القول واعبدوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به. (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) الفاء عاطفة وإذا فجائية تقدم القول فيها وهم مبتدأ وفريقان خبر وجملة يختصمون نعت لفريقان على المعنى نحو قوله تعالى «وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا» لأن كل فريق يضم جماعة. (قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) يا حرف نداء وقوم منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة ولم اللام حرف جر وما اسم استفهام حذفت ألفه لدخول الجار، والجار والمجرور متعلقان بتستعجلون وبالسيئة متعلقان بتستعجلون وقبل الحسنة ظرف متعلق بمحذوف حال والمراد بالسيئة العذاب وبالحسنة الرحمة كما سيأتي. (لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 221 تُرْحَمُونَ) لولا حرف تحضيض بمعنى هلا وتستغفرون الله فعل مضارع مرفوع والواو فاعل ولفظ الجلالة مفعوله ولعلكم ترحمون لعل واسمها والجملة خبرها. (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) اطيرنا فعل ماض وفاعل وأصله تطيرنا أدغمت التاء في الطاء واجتلبت همزة الوصل للتوصل الى النطق بالساكن لأن المدغم ساكن دائما، وبك متعلقان باطيرنا وبمن عطف على بك ومعك ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة من والجملة مقول قولهم. (قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) طائركم مبتدأ وعند الله ظرف متعلق بمحذوف هو الخبر والجملة مقول قوله وبل حرف إضراب فقد أضرب عن بيان طائرهم الذي هو مبدأ ما يحيق بهم الى ذكر ما هو الداعي اليه وأنتم مبتدأ وقوم خبر وجملة تفتنون نعت لقوم. (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) الواو استئنافية وكان فعل ماض ناقص وفي المدينة جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كان المقدم وتسعة اسمها المتأخر ورهط مضاف اليه وسيأتي بحث تمييز العدد مفصلا في باب الفوائد وجملة يفسدون صفة لتسعة ولا يصلحون عطف على يفسدون، وسيأتي سر قوله ولا يصلحون في باب البلاغة. (قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) تقاسموا فعل أمر أي احلفوا، ويجوز أن يكون فعلا ماضيا وحينئذ يجوز أن يكون مفسرا كأنه قيل: ما قالوا؟ فقيل: تقاسموا، ويجوز أن يكون مع فاعله جملة في محل نصب على الحال أي قالوا متقاسمين بإضمار قد والتقاسم والتقسم كالتظاهر والتظهر التحالف، لنبيتنه: اللام واقعة في جواب القسم ونبيتنه من البيات، وقد تقدم معناه في مكان آخر، فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 222 تقديره نحن والهاء مفعول به أي لنباغتنه ليلا، وأهله الواو عاطفة وأهله معطوف على الهاء ويجوز أن يعرب مفعولا معه فتكون الواو للمعية. (ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) ثم حرف عطف للتراخي واللام موطئة للقسم ونقولن تقدم اعراب مثيلتها ولوليه متعلقان بنقولن أي الذين لهم ولاية دمه، ومهلك مفعول به وهو إما مصدر ميمي أو اسم زمان أو اسم مكان وقرئ بضم الميم وفتح اللام على أنه من الرباعي وأهله مضاف اليه وإنا الواو عاطفة أو حالية وإنا ان واسمها واللام المزحلقة وصادقون خبر إن. (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) الواو عاطفة ومكروا فعل وفاعل ومكرا مفعول مطلق ومكرنا مكرا عطف على الجملة السابقة والواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) الفاء استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبيان ما يترتب على مكرهم المبيت وتآمرهم الدنيء فإن البيات مما يستكره، ويروى عن الإسكندر أنه أشير عليه بالبيات فقال ليس من آيين الملوك استراق الظفر أي من عادته وطرائقه. وكيف خبر كان المقدم وعاقبة اسم كان المؤخر والجملة في محل نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بانظر المعلقة عن العمل بالاستفهام وإنا جملة مستأنفة ولذلك كسرت همزة إنا وقرئ بفتحها على أن المصدر بدل من العاقبة أو خبر لمبتدأ محذوف وان واسمها وجملة دمرناهم خبرها وأجمعين تأكيد لكل من المعطوف والمعطوف عليه أي صالح وأهله المؤمنين به وكانوا كما يروى أربعة آلاف. (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الفاء عاطفة والجملة معطوفة على ما قبلها مقررة لها وتلك مبتدأ وبيوتهم خبر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 223 وخاوية حال من بيوتهم والعامل فيها معنى الاشارة وبما ظلموا متعلقان بخاوية وما مصدرية والباء للسببية أي بسبب ظلمهم وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآية اسمها ولقوم صفة لآية وجملة يعلمون صفة لقوم. (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) فعل وفاعل ومفعول به وجملة آمنوا صلة وكانوا يتقون عطف على آمنوا فهو في حيز الصلة وكان واسمها وخبرها. البلاغة: 1- التمام أو التتميم: في قوله «ولا يصلحون» فن التمام كما سماه قدامة في نقد الشعر وابن رشيق في العمدة وابن عساكر في الصناعتين، أو التتميم كما سماه الحاتمي، وقد تقدم ذكره في البقرة والنحل، ونعيد تعريفه مختصرا هنا وهو أن تأتي في الكلام كلمة إذا طرحت منه نقص معناه في ذاته أو في صفاته ولفظه تام فإن قوله «وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض» شأنهم الإفساد البحت وقد كانوا كما يروى عتاة غلاظا وهم الذين أشاروا بعقر الناقة لمراغمة صالح وإثارة حفيظته ومنهم قدار بن سالف المشهور بالشؤم وقد تقدم ذكره، ولكن قوله يفسدون في الأرض لا يدفع أن يندر منهم أو من أحدهم بعض الصلاح فتمم الكلام بقوله «ولا يصلحون» دفعا لتلك العذرة أن تقع أو أن يخالج بعض الأذهان شك في أنها ستقع وبذلك قطع كل رجاء في إصلاح أمرهم وحسن حالهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 224 2- المشاكلة: في قوله «ومكروا مكرا ومكرنا مكرا» فن المشاكلة وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته لأن الله تقدس عن أن يستعمل في حقه المكر، إلا أنه استعمل هنا مشاكلة وهو كثير في القرآن ومنه «تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك» والله تعالى وتقدس لا تستعمل في حقه لفظة النفس، أما مكرهم فهو ما بيتوه لصالح وما انتووه من إهلاكه وأهله، وأما مكر الله فهو إهلاكهم من حيث لا يشعرون على سبيل الاستعارة المنضمة الى المشاكلة، فقد شبه الإهلاك بالمكر في كونه إضرارا في الخفاء لأن حقيقة المكر هو الإيقاع بالآخرين قصدا وعن طريق الغدر والحيلة، وقد تقدمت قصة إهلاكهم في الشعب. الفوائد: 1- تمييز العدد: مميز الثلاثة والعشرة وما بينهما إن كان اسم جنس وهو ما يفرق بينه وبين مفرده بالتاء كشجر وتمر، أو اسم جمع وهو ما دل على الجمع وليس له مفرد من لفظه كقوم ورهط جرّ بمن، تقول ثلاثة من التمر أكلتها وعشرة من القوم لقيتهم وتسعة من الرهط صحبتهم، قال تعالى: «فخذ أربعة من الطير» وقد يجر بإضافة العدد إليه فاسم الجمع نحو الآية المتقدمة «وكان في المدينة تسعة رهط» وفي الحديث: «ليس فيما دون خمس ذود صدقة» وقال الشاعر: ثلاثة أنفس وثلاث ذود ... لقد جار الزمان على عيالي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 225 والذود من الإبل ما بين الثلاث الى العشرة وهي مؤنثة ولا واحد لها من لفظها كما في الصحاح، والأنفس جمع نفس وهي مؤنثة وإنما أنّث عددها وكان القياس تذكيره لأن النفس كثر استعمالها مقصودا بها الإنسان، أما اسم الجنس فكقول جندل بن المثنى: كأن خصييه من التدلدل ... ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل فحنظل اسم جنس مجرور بالاضافة على حد تسعة رهط، هذا ويروي بدل التدلدل التهدل وهو أولى ويروى سحق جراب وخص العجوز لأنها لا تستعمل الطيب حتى يكون في ظرفها ما تتزين به والبيت من أقذع الهجاء. وان كان مميز الثلاثة والعشرة وما بينهما جمعا جر باضافة العدد اليه نحو ثلاثة رجال وثلاث إماء، ويعتبر التذكير والتأنيث مع اسمي الجمع والجنس بحسب حالهما باعتبار عود الضمير عليهما تذكيرا وتأنيثا فيعطى العدد عكس ما يستحقه ضميرهما، فإن كان ضميرهما مذكرا أنث العدد وإن كان مؤنثا ذكر، فتقول في اسم الجنس ثلاثة من الغنم عندي بالتاء في ثلاثة لانك تقول غنم كثير بالتذكير للضمير المستتر في كثير، وروى صاحب المصباح أنه يجوز في غنم تذكير ضميره وتأنيثه، وثلاث من البط بترك التاء من ثلاث لأنك تقول بط كثيرة بالتأنيث للضمير المستتر في كثير، وثلاثة أو ثلاث من البقر لأن ضمير البقر يجوز فيه التذكير والتأنيث وذلك أن في البقر لغتين التذكير والتأنيث، قال الله تعالى: «إن البقر تشابه علينا» بتذكير الضمير وقرئ تشابهت بتأنيثه، وأما اسم الجمع فحكمه حكم المذكر إن كان لمن يعقل كالقوم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 226 والرهط والنفر وان كان لما لا يعقل فحكمه حكم المؤنث كالجامل والباقر. هذا ما ذكره النحاة ولكن فيه نظرا لأن نسوة اسم جمع وحكمه حكم المؤنث باتفاق فيقال ثلاث نسوة، والتذكير والتأنيث مع الجمع يعتبران بحال مفرده فان كان مفرده مذكرا أنث عدده وإن كان مؤنثا ذكر عدده فلذلك تقول ثلاثة اصطبلات جمع إصطبل بقطع الهمزة المكسورة وثلاثة حمامات لأن الاصطبل والحمام مذكران، وتقول ثلاث سحابات بترك التاء اعتبارا بالسحابة فهي مؤنثة ولا يعتبر من حال الواحد حال لفظه حتى يقال ثلاث طلحات بترك التاء، ولا يعتبر حال معناه حتى يقال ثلاث أشخص بتركها أيضا يريد نسوة لأن الشخص يقع على المذكر والمؤنث، بل ينظر الى ما يستحقه المفرد باعتبار ضميره فيعكس حكمه في العدد فأما قول عمر بن أبي ربيعة: فكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر فضرورة وكان القياس فيه ثلاثة شخوص بالتاء ولكنه كنى بالشخوص عن النساء والذي سهل ذلك قوله: «كاعبان ومعصر» فاتصل اللفظ بما يعضد المعنى المراد وهو التأنيث، والكاعب الجارية حين يبدو ثديها للنهود، والمعصر بضم الميم وكسر الصاد الجارية أول ما أدركت سميت بذلك لكونها دخلت في عصر الشباب كما قال الخليل. هذا وقد جمح بنا عنان القول فحسبنا ما تقدم أوردناه لاهميته وفائدته ولا بد من الرجوع الى المطولات لمن أراد المزيد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 227 2- اعلم أنهم قد كسروا شيئا من الأسماء لا على الواحد المستعمل بل نحملوا لفظا آخر مرادفا له فكسروه على ما لم يستعمل فمن ذلك رهط وأراهط قال الشاعر: يا بؤس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا وليس القياس في رهط أن يجمع على أراهط لأن هذا البناء من جموع الرباعي وما كان على عدته نحو جعفر وجعافر وجدول وجداول وأرنب وأرانب. وليس أرهط بجمع رهط إذ لو كان كذلك لم يكن شاذا ويدل على ذلك أن الشاعر قد جاء به لما احتاج اليه قال: وفاضح مفتضح في أرهطه ... من أرفع الوادي ولا من بعثطه والبعثط والبعثوط: سرّة الوادي وخير موضع فيه. هذا وقد اختلف النحويون في أراهط، فزعم قوم منهم أنه جمع أرهط الذي هو جمع رهط وهو النفر من ثلاثة الى عشرة، وزعم أكثر النحويين أن أراهط جمع رهط على خلاف القياس. والبيت مطلع قصيدة لسعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة جد طرفة بن العبد الشاعر وبعده: والحرب لا يبقى لجا ... حمها التخيل والمراح إلا الفتى الصبار في النّ ... نجدات والفرس الوقاح والنثرة الحصداء وال ... ... بيض المكلّل والرماح وتساقط الأوشاظ والذّ ... نبات إذ جهد الفضاح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 228 والكر بعد الفر إذ ... كره التقدم وال نطاح كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشر الصراح لفظ الآيين في شعر أبي نواس: وردت في باب الإعراب كلمة الإسكندر وفيها يقول: ليس من آيين الملوك استراق الظفر، ونحب أن نورد أبياتا لأبي نواس استعمل فيها كلمة الآيين فجاءت خفيفة ظريفة رغم غرابتها، قال أبو نواس يصف ما جرى له في دير نهراذان: بدير نهراذان لي مجلس ... وملعب وسط بساتينه رحت إليه ومعي قينة ... نزوره يوم سعانينه بكلّ طلاب الهوى فاتك ... قد آثر الدنيا على دينه حتى توافينا الى مجلس ... تضحك ألوان رياحينه والنرجس الغض لدى ورده ... والورد قد خفّ بنسرينه وجيء بالدن على مرفع ... وخاتم العلج على طينه وطاف بالكأس لنا شادن ... يدميه مس الكف من لينه يكاد من اشراق خديه أن ... يختطف الابصار من دونه فلم يزل يسقي ونلهو به ... ونأخذ القصف بآيينه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 229 حتى غدا السكران من سكره ... كالميت في بعض أحايينه فقوله نأخذ القصف بآيينه أي برسومه وقوانينه وشروطه. [سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 58] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) الإعراب: (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لذكر القصة الخامسة والأخيرة من قصص السورة، ولوطا مفعول به لفعل محذوف تقديره اذكر أو أرسلنا، فإن جعلته اذكر كانت إذ ظرفا لما مضى من الزمان متعلقا باذكر، وان جعلته أرسلنا كانت إذ بدل اشتمال من لوطا وجملة قال مجرورة بإضافة الظرف إليها، ولقومه جار ومجرور متعلقان بقال، والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وتأتون فعل مضارع والواو فاعل والفاحشة مفعول به والجملة مقول القول، وأنتم الواو حالية وأنتم مبتدأ وجملة تبصرون خبر أنتم والمراد بصر القلب أي تعلمون أنها فاحشة ومع ذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 230 تفعلونها. (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وكرر التوبيخ زيادة في التقبيح واستسماج هذه الفعلة الشنعاء المخالفة لنواميس الطبيعة، وسيرد في باب الفوائد بحث عن هذه الميول الجنسية الشاذة التي لا يبلغ كنه قبحها، وان واسمها واللام المزحلقة وجملة تأتون الرجال خبرها وشهوة مفعول لأجله أو حال من الفاعل أو المفعول ومن دون النساء متعلقان بمحذوف حال من الفاعل. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) بل حرف إضراب وأنتم مبتدأ وقوم خبر وتجهلون صفة لقوم. (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) الفاء عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص وجواب قومه خبر كان المقدم وإلا أداة حصر وأن قالوا مصدر مؤول في موضع الرفع اسم كان المؤخر وجملة أخرجوا مقول القول وهو فعل أمر وفاعل وآل لوط مفعول به ومن قريتكم متعلقان بأخرجوا وإنهم تعليل لإخراجهم وان واسمها وأناس خبرها وجملة يتطهرون صفة أي يتنزهون عن هذا العمل القذر. (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) الفاء عاطفة على مقدر محذوف يفهم من السياق أي فخرج لوط بأهله من أرضهم بعد أن أحس بمكرهم وكيدهم وتربصهم الدوائر. وأنجيناه فعل ماض وفاعل ومفعول به وأهله عطف على الهاء أو مفعول معه وإلا أداة استثناء وامرأته مستثنى وجملة قدرناها حال وقدرناها فعل ماض وفاعل ومفعول به ومن الغابرين متعلقان بقدرناها أي الباقين في العذاب. (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) الواو عاطفة وأمطرنا فعل وفاعل وعليهم متعلقان بأمطرنا ومطرا مفعول به، فساء الفاء عاطفة وساء فعل ماض للذم ومطر المنذرين فاعل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 231 الفوائد: النرجسية والشذوذ الجنسي: يرجع الفلاسفة المحدثون ظواهر الشذوذ في غرائز الجنس الى النرجسية، ولهذا كان لا بد من أن نشرح هذه النرجسية كما يفهمها المحللون النفسيون: كان اليونانيون الأقدمون يطلقون اسم نرجس على فتى من فتيان الأساطير بارع الحسن ساحر الشمائل يفتن من يراه ويشقي بجماله وتيهه قلوب العذارى الخفرات، فلا يلتفت إليهن ولا يستجيب لضراعتهن، ولم يزل كذلك حتى ضجت السماء بدعاء عاشقاته وصلواتهن الى الأرباب أن يصرفوهن عنه أو يصرفوه عنهن واستجابت «نمسي» ربة القصاص والجزاء الى هذا الدعاء فقضت عليه أن يهيم بحب نفسه ويلقى منها الشقاء الذي تلقاه منه عاشقاته، قال رواة الأساطير: فما هو إلا أن ذهب يشرب من ينبوع صاف حتى لمح بصورته في مائه فوقف عندها يعجب من جمالها وأذهلته الفتنة عن شأنه فلم يبرح مكانه مطرقا الى الماء ليتملّى تلك الصورة ويرتوي من النظر إليها فلا يزيده النظر إلا لهفة وشوقا ولا تزيده اللهفة إلا هزالا وذبولا حتى فني، وذهبت عرائس الماء تطلب رفاته فلم تجد في مكانه غير نرجسة مطرقة ترنو الى الماء ولا ترفع بصرها الى السماء، فالنرجس أبدا مطرق مفتوح العين لا يشبع من النظر الى خياله على حوافي الجداول والغدران. وهناك روايات أخرى حول هذه الأسطورة تمثل الصدى والحذر والسبات لا تخرج عن هذا الفحوى وتلحق بما تنطوي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 232 عليه آفة النرجسية من الغرائز أو من الميول والأحاسيس ولهذا وقع عليها اختيار المحللين النفسيين فلم يجدوا اصطلاحا أوفق منها لأعراض تلك الظاهرة النفسية مع عراقة الاصطلاح في اللغة اليونانية التي يختارونها لابتداع الأسماء الجديدة في العلوم، وأول من أدخل هذا المصطلح في الطب النفسي الدكتور هافلوك أليس رائد المباحث الجنسية المشهور، ثم توسّع الأطباء النفسيون في دراسة هذه الآفة وتتبعوا أعراضها ولوازمها واستقصوا ما هو من لوازمها الأولية وما هو من لوازمها الثانوية أو التبعية، وتعنينا هنا من شعابها التي تتصل بدراسة المنحرفين شعبتان: 1- تسمى إحداهما الاشتهاء الذاتي. 2- تسمى ثانيتهما التوثين الذاتي. فالاشتهاء الذاتي يغلب على الحالات الجسدية التي تقترن باختلال وظائف الجنس في صاحبها ويبلغ من اختلال هذه الوظائف أن المصاب به يمني إذا أطال النظر الى بدنه عاريا في المرآة وما إليها وأنه يشتهي بدنه كأنه بدن إنسان غريب عنه ولكنها شهوة يبالغ فيها المريض. والتوثين الذاتي يغلب على الحالات العاطفية والفكرية، فيتخذ المصاب به من نفسه وثنا يعبده ويعزه ويدلله، فلازمة التلبيس والتشخيص لاغنى في الشذوذ الجنسي، وهو عشق الإنسان لذاته من الناحية الشهوية، فالشاذ في حب جنسه أو حب الجنس الآخر يجد طلبته ويقضي مأربه، أما الذي يشتهي بدنه فليس في وسعه أن يقضي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 233 مأربه منه بغير الاحتيال لذلك بالتلبيس والتشخيص، فهو يلبس شخصيته شخصا آخر يتوهم أنه هو ذاته أو يحل محلّ ذاته وكما يفعل جالد عميرة حين يضع أمامه صورة. هذا ومن المفيد أن يرجع الذي يتوق الى معرفة تطور النظريات في مسائل الجنس الى الكتب المؤلفة في هذا الصدد فهي تلقي أضواء على المشكلة ولكنها لا تحلها، لأنها كلها لم تنته الى تهوين الفوارق بين الجنسين ولا إلى زعم الزاعمين أن الإنسان مزدوج الجنسين مختلط الذكورة والأنوثة بطبيعته، وأن الشذوذ الجنسي فيه فطرة عامة تتخذ أطوارها على حسب العمر من الطفولة الى تمام النمو في الجنسين كما يقول فرويد ومتبعوه. وقد صور أبو نواس وهو قطب من أقطاب النرجسيين هذه الأطوار خير تمثيل وهو يغشى معاهد الدرس على هذا المثال في عرفه بقوله: إذا ما وطئ الأمر ... د للعلم حصى المسجد فقل حلّ لنا عقدا ... من الفقه واستفسد فإن كان عروضيا ... فقولوا سجد الهدهد وإن أعجبه النحو ... فها ذاك له أجود وإن مال الى الفقه ... فللفقه له أفسد وان كان كلاميا ... فحرّك طرف المقود وميله الى الخير ... فقيه قرب ما يبعد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 234 وخذه كيفما شئت- اقتضابا أو على موعد وقل: هذا قضاء الله هل يدفع أو يجحد وانتهى مصرحا: فيا من وطئ المسجد ... من ذي بهجة أغيد أنا قست على نفسي ... فهذا الأمر لا أجحد وننتهي من هذا البحث وقد كان أمرا لا بد منه وإن لم يكن هذا موضعه. تصحيح رواية بيت في الكشاف لأبي نواس: ذكر الزمخشري في كشافه بصدد الحديث عن قوم لوط قال: « ... كانوا في ناديهم يرتكبونها معالنين بها لا يتستر بعضهم من بعض خلاعة ومجانة وانهماكا في المعصية وكأن أبا نواس بنى على مذهبهم قوله: وبح باسم ما تأتي وذرني من الكنى ... فلا خير في اللذات من دونها ستر وصواب الرواية «وبح باسم من تهوى ودعني من الكنى» البيت وهو من قصيدة رائعة أولها: ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 235 وبعد البيت: فعيش الفتى في سكرة بعد سكرة ... فإن طال هذا عنده قصر العمر وبعده: وما الغرم إلا أن تراني صاحيا ... وما الغرم إلا أن يتعتعني السكر ولا نمرّ بك دون أن نقف عند البيت الأول فقد قال «وقل لي هي الخمر» وقد يبدو هذا حشوا للوهلة الأولى ولكن القارئ إذا ذكر أن للانسان خمس حواس علم أن أبا نواس قصد أن يشرك حاسة السمع التي تظل محرومة من لذة الخمر حال شربها فطالب ندمانه أن يخاطبه باسمها ليشرك حاسة سمعه وهذا من أعاجيب فطنته. [سورة النمل (27) : الآيات 59 الى 64] قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 236 اللغة: (حَدائِقَ) : جمع حديقة أي بستان من أحدق بالشيء أحاط به، ولما كان البستان محوطا بالحيطان سمي حديقة وإلا فلا يسمى بها، وفي المصباح: «والحديقة البستان يكون عليه حائط فعيلة بمعنى مفعولة لأن الحائط أحدق بها أي أحاط، ثم توسعوا حتى أطلقوا الحديقة على البستان وإن كان بغير حائط والجمع الحدائق» وفي الصحاح: «الحديقة: كل بستان عليه حائط» ومن أقوالهم: «ورد عليّ كتابك فتنزهت في آنق رياضه، وبهجة حدائقه» . الإعراب: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) كلام مستأنف مسوق لأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بحمده تعالى وبالسلام على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 237 المصطفين الأخيار من خلقه وكأن هذا الحمد براعة استهلال لما سيلقيه من البراهين والدلائل على الوحدانية والعلم والقدرة التي سيرد ذكرها وذلك بعد أن فرغ من قصص هذه السور الخمس. وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت أي يا محمد ليكون نموذجا يتأسى به كل كاتب وخطيب ويحتذى على مثاله في كل علم مفاد، والحمد مبتدأ ولله خبره وسلام مبتدأ سوغ الابتداء به ما فيه من معنى الدعاء وعلى عباده خبر والذين صفة لعباده وجملة اصطفى صلة والعائد محذوف أي اصطفاهم وهم المؤمنون المتأهلون للدنيا والآخرة. (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) الهمزة للاستفهام والله مبتدأ وخير خبر وأم عاطفة وما اسم موصول واقع على آلهتهم وجملة يشركون صلة. (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) أم منقطعة لفقدان شرطها وهو تقدم همزة الاستفهام وهي بمعنى بل والإضراب بمعنى التبكيت والتوبيخ ومن مبتدأ وجملة خلق السموات والأرض صلة وخبر من محذوف تقديره خير أم ما يشركون فيقدر ما أثبت في الاستفهام الأول تعويلا عليه وهذا ما اختاره الزمخشري وهو جميل متناسب مع الكلام، وقال أبو الفضل الرازي: «لا بد من إضمار جملة معادلة وصار ذلك المضمر كالمنطوق لدلالة الفحوى عليه وتقدير تلك الجملة: أمن خلق السموات والأرض كمن لم يخلق وكذلك أخواتها وقد أظهر في غير هذه المواضع ما أضمر فيها كقوله تعالى: أفمن يخلق كمن لا يخلق» ولا نرى خلافا بينا بين الوجهين. وأنزل عطف على خلق ولكم حال ومن السماء متعلقان بأنزل وماء مفعول به والفاء عاطفة وأنبتنا عطف على ما تقدم على طريق الالتفات، وسيأتي في باب البلاغة، وبه متعلقان بأنبتنا وحدائق مفعول به وذات بهجة صفة لحدائق وسوغ إفراده أن المنعوت جمع كثرة لما لا يعقل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 238 (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) الجملة نعت ثان لحدائق أو حال منها لتخصصها بالصفة، وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولكم خبر كان المقدم وأن وما في حيزها اسمها المؤخر وتنبتوا فعل مضارع منصوب بأن والواو فاعل وشجرها مفعول. (أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري المتضمن معنى النفي وإله مبتدأ وساغ الابتداء به لإفادته بسبب الاستفهام ومع الله ظرف متعلق بمحذوف خبر وبل حرف إضراب معناه التبكيت، وقد تكرر هذا التعبير خمس مرات كما سترى، وهم مبتدأ وقوم خبر وجملة يعدلون صفة. (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) تقدم إعراب هذا التركيب فقس عليه، وقرارا مفعول جعل الثاني، وجعل خلالها أنهارا عطف على الجملة الأولى، وخلالها يجوز أن يكون ظرفا لجعل بمعنى خلق المتعدية لواحد وأن يكون في محل المفعول الثاني على أنها بمعنى صيّر وعلى الوجه الأول يكون قرارا حالا. (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) جملة معطوفة. (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الجملة معطوفة على ما تقدم وقد تقدم إعرابها. (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) تقدم إعرابها وجملة دعاه في محل جر بإضافة الظرف إليها والمضطر اسم مفعول، وطاؤه أصلها تاء الافتعال. (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ) تقدم إعرابها، وقليلا نعت لمصدر محذوف أو لوقت محذوف وما زائدة لتقليل القليل وتذكرون فعل مضارع حذفت إحدى تاءيه والواو فاعل. (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) تقدم إعرابها. (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تقدم اعرابها أيضا. (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) تقدم اعرابها أيضا. (أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 239 قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إن شرطية وجوابها محذوف تقديره فهاتوا برهانكم، وقد قدمنا أن قوله أإله ذكر خمس مرات وختم الأول بقوله «بل هم يعدلون» وختم الثاني بقوله «بل أكثرهم لا يعلمون» والثالث بقوله: «قليلا ما يذكرون» والرابع بقوله: «تعالى الله عما يشركون» والخامس بقوله «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين» . البلاغة: الالتفات في قوله: «فأنبتنا به حدائق ذات بهجة» بعد قوله «أم من خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء» فقد انتقل في نقل الإخبار من الغيبة الى التكلم عن ذاته في قوله فأنبتنا، والسر فيه تأكيد اختصاص فعل الإنبات بذاته تعالى وللإيذان بأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف وما يبدو فيها من تزاويق الألوان وتحاسين الصور، ومتباين الطعوم، ومختلف الروائح المتفاوتة في طيب العرف والأريج كل ذلك لا يقدر عليه إلا قادر خالق وهو الله وحده، ولذلك رشح هذا الاختصاص بقوله بعد ذلك «ما كان لكم أن تنبتوا شجرها» وقد أدرك أبو نواس هذه الحقيقة فقال: تأمل في رياض الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين شاخصات ... بأنظار هي الذهب السبيك على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 240 هل تاب أبو نواس؟: هذا ولعلك تعجب من هذه الأبيات تنضح بالإيمان العميق وتصدر عن رجل كأبي نواس لم يظلمه الذين اتهموه ولم تعوزهم الأدلة على اتهامه بالفساد ولكنهم ظلموا الفلسفة فظنوها مدرجة المطلعين عليها الى الزندقة ومذاهبها، ولا زندقة هنا عند أبي نواس ولا مذهب غير المجون وحب الظهور، ولقد كان ابراهيم النظام من أعلم أهل زمانه بما يسمونه علوم الأوائل وكان أبو نواس يحضر عليه فينهاه عن التبذل ويذكره بالوعيد ويقول له: إن من ترقب وعد الله فعليه أن يحذر وعيده، فلا يرعوي عن لغوه ومجونه حتى يئس منه فطرده من مجلسه، فنظم فيه قصيدته التي اشتهرت بالابراهيمية ومطلعها مشهور متداول: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء وفيها يسخر من النظام: فقل لمن يدعي في العلم فلسفة ... حفظت شيئا وغابت عنك أشياء لا تخطر العفو إن كنت امرأ حرجا ... فإن خطرك بالدين إزراء فأبو نواس لم يكن سوى ماجن مستهتر وقد كان المجون في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 241 عرف بيئته هو الظرف، نصح له الأمير أبو العباس محمد أن يتوب عن المجون، فقال له: أما المجون فما كل أحد يقدر أن يمجن وإنما المجون ظرف ولست أبعد فيه عن حد الأدب أو أتجاوز مقداره، أما المعاصي فإني أثق فيها بعفو الله عز وجل وقوله تعالى: «يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا» وقد تلقف أبو نواس أضاليل المرجئة وقولهم: «لا يضر مع الإيمان سيئة جلت أو قلت أصلا ولا ينفع مع الشرك حسنة أصلا» فنادى بذلك ويظهر أنه استهواه: ترى عندنا ما يسخط الله كله ... من العمل المردي الفتى ما خلا الشركا ثم عدل نظريته بعض الشيء فاكتفى بالقول إن الكبائر لا تسلك صاحبها مع الكفار ولا تحرمه الرجاء بعفو الله وقوله مشهور في ذلك: تكثر ما استطعت من الخطايا ... فإنك بالغ ربا غفورا تعض ندامة كفيك مما ... تركت مخافة النار السرورا ومن ذلك قوله: يا كبير الذنب عفو الله من ذنبك أكبر على أنه تاب في أخريات عمره، وقد نستشف من أشعاره التي نظمها في تلك السن المشارفة على النهاية صدق توبته، فقال معترفا بتأخيرها بعد فوات حينها: دبّ فيّ الفناء سفلا وعلوا ... وأراني أموت عضوا فعضوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 242 ذهبت شرّتي وجدة نفسي ... وتذكرت طاعة الله نضوا ليس من ساعة مضت بي إلا ... نقصتني بمرها لي جزوا لهف نفسي على ليال وأيا ... م سلكتهن لعبا ولهوا قد أسأنا كل الإساءة يا ... رب فصفحا عنا إلهي وعفوا [سورة النمل (27) : الآيات 65 الى 70] قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) الإعراب: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) شغلت هذه الآية المفسرين والمعربين والنحاة وخاضوا فيها كثيرا وسنختار هنا أسهل أقوالهم على أن نورد في باب الفوائد جميع ما قيل حولها لما في ذلك من رياضة ممتعة للذهن. والجملة مستأنفة مسوقة للرد عليهم وقد سألوه عن وقت قيام الساعة، ف «لا» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 243 نافية ويعلم فعل مضارع ومن اسم موصول فاعل يعلم وفي السموات والأرض صلة من، أي لا يعلم الذي ثبت واستقر وسكن في السموات والأرض والغيب مفعول به وإلا أداة استثناء بمعنى لكن اشارة الى أن الاستثناء منقطع والله مبتدأ خبره محذوف تقديره يعلم ويصح أن تكون من في محل نصب مفعول به والغيب بدل اشتمال منها والله فاعل يعلم والمعنى قل لا يعلم الأشياء التي تحدث في السموات والأرض الغائبة عنا إلا الله تعالى والواو عاطفة وما نافية ويشعرون فعل مضارع وفاعل وأيان اسم استفهام بمعنى متى وهي منصوبة بيبعثون ومعلقة ليشعرون عن العمل فالجملة المؤلفة منها ومما بعدها في محل نصب بنزع الخافض أي ما يشعرون بذلك. (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) بل حرف إضراب انتقالي وقال الجلال هي بمعنى هل وهو غريب بالرغم من أن شراح الجلال قالوا ان طريقة الجلال أسهل من الطرق التي سلكها غيره، وادارك فعل ماض أي لحق وتتابع، وأورد الزمخشري اثنتي عشرة قراءة لها، وعلمهم فاعل وفي الآخرة متعلقان بادارك أو بعلمهم وادارك وإن كان ماضيا لفظا فهو مستقبل معنى لأنه كان حتما كقوله «أتى أمر الله» ، بل حرف إضراب انتقالي أيضا وهم مبتدأ وفي شك خبر ومنها صفة لشك وبل حرف إضراب انتقالي أيضا وهم مبتدأ ومنها متعلقان بعمون وعمون خبر هم، والعمى هنا عمى القلب، والأصل عميون استثقلت الضمة على الياء فنقلت الى الميم بعد حذف كسرتها. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) الواو للعطف وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة الذين والهمزة للاستفهام الانكاري وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 244 كنا في محل جر بإضافة الظرف إليها وكان واسمها وترابا خبرها وآباؤنا عطف على اسم كان وسوغ العطف عليه الفصل بالخبر والهمزة للاستفهام الإنكاري أيضا وإن واسمها واللام المزحلقة ومخرجون خبر إن والجملة تأكيد للجملة الأولى. (لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) الجملة تأكيد ثان للجملة السابقة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ووعدنا فعل ماض مبني للمجهول ونا نائب فاعل وهذا مفعول به ثان لوعدنا ونحن تأكيد لنا وآباؤنا عطف على الضمير البارز في وعدنا وسوغ العطف تأكيده بالضمير المنفصل والفصل بالمفعول الثاني ومن قبل متعلقان بوعدنا والظرف مبني على الضم لانقطاعه على الإضافة لفظا لا معنى أي من قبل مجيء محمد من الرسل السابقين، وهنا لا بد من تقدير حذف اقتضاه الإيجاز فلو كان الموعود به حقا لحصل وإن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وأساطير خبر هذا والأولين مضاف إليه. (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) سيروا فعل أمر معناه التهديد لهم على التكذيب والتحذير من أن ينزل بهم ما حاق بالمكذبين من قبلهم وفي الأرض متعلقان بسيروا، فانظروا عطف على سيروا وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وعاقبة المجرمين اسم كان المؤخر. (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) الواو عاطفة على قل ولا ناهية وتحزن فعل مضارع مجزوم بلا وفاعله مستتر تقديره أنت وعليهم متعلقان بتحزن ولا تكن عطف على لا تحزن واسم تكن مستتر تقديره أنت وفي ضيق خبر ومما صفة لضيق وجملة يمكرون صلة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 245 الفوائد: منشأ الاضطراب في هذه الآية أنهم- أي النحاة- أعربوا لفظ الجلالة بدلا من «من» وفي ذلك إبدال المستثنى المنقطع وهي لغة مرجوحة لتميم، ولما كانت القراءة مما اتفق عليه السبعة بالرفع حصل ذلك الاشكال، وفيما ذكرناه أي إعراب لفظ الجلالة مبتدأ مخلص من هذا كله قالوا: «والله مرفوع على البدلية من «من» لأنه تعالى لا يحويه مكان» . وجوز الصفاقسي أن يكون الاستثناء متصلا والظرفية في حقه تعالى مجازية وفيه جمع بين الحقيقة والمجاز في الظرفية وعلى هذا فيرتفع على البدل أو عطف البيان. وقد سبق لنا تقرير الجمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة وأرجحنا جواز اجتماعهما وعلى ذلك قولهم «القلم أحد اللسانين» وجميع أهل الأصول من أتباع الإمام الشافعي لا يشترطون في المجاز القرنية المانعة من إرادة المعنى الحقيقي. وفي الجمع بين الحقيقة والمجاز إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر وهو نوع من البديع يسمى التنويع، وهو ادعاء أن مسمّى اللفظ نوعان: متعارف وغير متعارف على طريق التخيل وهو نوع واسع يجري في أبواب كثيرة، منه أن ينزل ما يقع في موقع شيء بدلا عنه منزلته بدون تشبيه ولا استعارة كقولهم «تحية بينهم ضرب وجيع» وقولهم عقابه السيف. وقال ابن الكمال: فإن قلت: كيف استثني الله وانه تعالى منزه ومتعال عن أن يكون في السموات والأرض؟ قلت كما استثني «غير أن سيوفهم» من قوله أي النابغة الذبياني: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 246 ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب يعني إن كان الله تعالى ممن في السموات والأرض كان فيهم من يعلم الغيب، والغرض المبالغة في نفي العلم بالغيب عنهم وسد الطريق الى ذلك الاحتمال، فالاستثناء متصل كما في قوله تعالى: «ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف» فإن شراح الكشاف قاطبة صرحوا بأن الاستثناء فيه متصل. والعجب أن البيضاوي جوّز اتصال الاستثناء في آية النكاح على الوجه المذكور وجزم هنا بانقطاعه، والظاهر من كلام الزمخشري أيضا القطع بالانقطاع حيث قال: «جاز رفع اسم الله تعالى على لغة بني تميم حيث يقولون: ما في الدار أحد إلا حمار، كأن أحدا لم يذكر فإنه على تقدير الكلام على النسق المذكور يصح رفع اسم الله على لغة أهل الحجاز أيضا. واعترض بعضهم على الاعراب الثاني أي نصب «من» واعراب الغيب بدلا من «من» بدل اشتمال فقال إن بدل الاشتمال يحتاج الى ضمير يكون رابطا ولا ضمير هنا وليس البدل بعد أداة الاستثناء ليقال إن قوة المستثنى بالمستثنى منه تغني عنه، وعلى هذا فالوجه الأول خال من كل محذور. [سورة النمل (27) : الآيات 71 الى 78] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 247 اللغة: (رَدِفَ) : في القاموس: «ردفه كسمع ونصر تبعه» ولكنه ضمن هنا معنى دنا أو قرب ولذلك عدي باللام أو أن اللام زائدة كما سيأتي في الاعراب وقد عدي بمن أيضا قال: فلما ردفنا من عمير وصحبه ... تولوا سراعا والمنية تعنق ردف كتبع يتعدى بنفسه وضمن هنا معنى الدفو فعدي بمن، وأعنق الفرس سار سيرا سريعا سهلا والعنق اسم منه، يقول الشاعر فلما دنونا من عمير وأصحابه للحرب أدبروا مسرعين والحال أن الموت يسرع خلفهم من جهتنا، شبه المنية بالأسد على طريق الاستعارة المكنية فأثبت لها العنق تخييلا كأنهم كانوا تبعوهم برمي النبال. ويجوز أنه استعار المنية لنفسه وقومه على طريق التصريح أي ونحن نسرع خلفهم فذكر العنق تجريد لأنه يلائم المشبه والعنق ضرب من سير الدواب كما في الصحاح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 248 وقال ابن الشجري: معنى ردف لكم تبعكم ومنه ردف المرأة لأنه تبع لها من خلفها ومنه قول أبي ذؤيب. عاد السواد بياضا في مفارقه ... لا مرحبا ببياض الشيب إذ ردفا قال الجوهري: وأردفه لغة في ردفه مثل تبعه وأتبعه بمعنى قال خزيمة بن مالك بن نهد: إذا الجوزاء أردفت الثريا ... ظننت بآل فاطمة الظنونا الإعراب: (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الواو استئنافية والخطاب للنبي ويقولون فعل مضارع وفاعل ومتى اسم استفهام في محل نصب على الظرفية الزمانية وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر والوعد بدل وإن شرطية وكنتم فعل الشرط وكان واسمها وصادقين خبرها وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله. (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) عسى ولعل وسوف إذا خوطب بها من هو أكبر منك قدرا فهي بمثابة الجزم بمدخولها وإنما يطلقونها للوقار وعسى فعل ماض جامد من أفعال الرجاء واسمها مستتر تقديره هو وان يكون مصدر مؤول خبرها واسم يكون مستتر تقديره هو وردف فعل ماض ضمن فعل يتعدى باللام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 249 وبعض فاعل والذي مضاف اليه وجملة تستعجلون صلة وجملة ردف خبر يكون وقيل إن ردف على بابها بمع تبع واللام زائدة. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) الواو استئنافية وان واسمها واللام المزحلقة وذو فضل خبرها وعلى الناس متعلقان بفضل أو صفة له والواو حالية ولكن حرف استدراك ونصب وأكثرهم اسمها وجملة لا يشكرون خبرها. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وجملة يعلم خبر إن وما مفعول به وجملة تكن صدورهم صلة والعائد محذوف وما يعلنون عطف على ما تكنّ. (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) الواو عاطفة وما نافية ومن حرف جر زائد وغائبة مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ وساغ الابتداء بالنكرة لدخول النفي عليها، والغائبة كل ما يخفى، سمي الشيء الذي يغيب ويخفى غائبة وخافية فكانت التاء فيهما بمنزلتهما في العافية والعاقبة والنصيحة والرمية والذبيحة في أنها أسماء غير صفات ويجوز أن تكون هذه صفات والتاء فيها للمبالغة كراوية وعلامة ونسابة. وفي السماء والأرض صفة لغائبة وإلا أداة حصر وفي كتاب خبر غائبة ومبين صفة. (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) الجملة مستأنفة لبيان نوع آخر من ميزات القرآن وان واسمها والقرآن بدل من اسم الاشارة وجملة يقص خبر إن وعلى بني إسرائيل جار ومجرور متعلقان بيقص وأكثر مفعول به والذي مضاف اليه وفيه متعلقان بيختلفون وجملة يختلفون صلة الذي. (وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) عطف على ما تقدم وان واسمها واللام المزحلقة وهدى خبرها ورحمة عطف على هدى وللمؤمنين صفة. (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 250 الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) إن واسمها وجملة يقضي خبرها والظرف متعلق بمحذوف حال وبحكمه متعلقان بيقضي وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والعليم خبر ثان. الفوائد: أحكام التاء المتحركة اللاحقة بالأسماء والصفات: هذه التاء إحدى علامات التأنيث المختصة بالأسماء لأنه لما كان التأنيث فرعا للتذكير احتاج لعلامة تميزه، على أن العرب قد أنثوا أسماء كثيرة بتاء مقدرة ويستدل على ذلك التقدير بالضمير العائد عليها نحو: «النار وعدها الله الذين كفروا» و «حتى تضع الحرب أوزارها» و «إن جنحوا للسلم فاجنح لها» وبالإشارة إليها نحو: «هذه جهنم» وبثبوتها في تصغير الاسم نحو عيينة وأذينة مصغر عين وأذن من الأعضاء المزدوجة فإن التصغير يرد الأشياء الى أصولها، فإن القاعدة المشهورة هي: أن ما كان من الأعضاء مزدوجا فالغالب عليه التأنيث إلا الحاجبين والمنخرين والخدين فإنها مذكرة، على أن المرجع السماع فإن من المزدوج الكف وهي مؤنثة، وزعم المبرد أنها قد تذكر وأنشد: ولو كفي اليمين تقيك خوفا ... لأفردت اليمين عن الشمال ولكن هذا وهم من المبرد فإن اليمين بمنزلة اليمنى فهي مؤنثة. وقال ابن يسعون: على انه رجع الى التأنيث فقال تقيك. ونعود الى طرق الاستدلال فنقول ويستدل على التقدير أيضا بثبوتها في فعله نحو: «ولما فصلت العير» وبسقوطها من عدده كقول حميد الأرقط يصف قوسا عربية: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 251 أرمي عليها وهي فرع أجمع ... وهي ثلاث أذرع وأصبع فأذرع جمع ذراع وهي مؤنثة بدليل سقوط التاء من عددها وهو ثلاث والواو في قوله «وهي» فرع للحال يقال قوس فرع إذا عملت من رأس القضيب ولم يرد بقوله وإصبع حقيقة مقدار الإصبع ولكنه أشار بذلك الى كمال القوس كما تقول: الثوب سبع أذرع وزائد تريد أنها موفاة هذا العدد. والغالب في هذه التاء أن تكون لفصل صفة المؤنث من صفة المذكر كقائمة وقائم، ومن غير الغالب في الأسماء غير الصفات نحو رجل ورجلة وغلام وغلامة وفي الصفات التي تنزل على مقصدين وهي الصفات المختصة بالمؤنث كحائض وطامث فإن قصد بها الحدوث في أحد الأزمنة لحقتها التاء فقيل حائضة وطامثة وإن لم يقصد بها ذلك لم تلحقها فيقال حائض وطامث بمعنى ذات أهلية للحيض والطمث. وقال في المفصّل: «للبصريين في نحو حائض وطامث مذهبان: فعند الخليل انه على النسب كلابن وتامر كأنه قيل ذات حيض وذات طمث، وعند سيبويه أنه مؤول بانسان أو شيء حائض كقولهم غلام ربعة على تأويل النفس وانما يكون ذلك في الصفة الثابتة وأما الحادثة فلا بد لها من علامة التأنيث فتقول حائضة وطالقة الآن أو غدا» وقد أوضحنا الفرق بين الصفة الحادثة والثابتة في الكلام عن قوله تعالى «يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت» بأن المرضع هي التي من شأنها الإرضاع والمرضعة هي التي في حالة الإرضاع ملقمة ثديها للصبي فانظره هناك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 252 وقال في المفصل: «إن مذهب الكوفيين ان حذف التاء في حائض للاستغناء عنها» وهذا يوجب اثبات التاء في محل الالتباس كضامر وعاشق وأيم وثيّب وعانس وهذا الاعتراض بيّن، وأما الاعتراض بإثبات التاء في الصفات المختصة بالإناث من امرأة مصيبة وكلبة مجرية على ما في الصحاح فليس بسديد لأن ما ذكروه مجوز لا موجب لأنهم يقولون الإتيان بالتاء في صورة الاستغناء عن الأصل كحاملة في المرأة، قال الجوهري في الصحاح: يقال امرأة حامل وحاملة إذا كانت حبلى، فمن قال حامل قال هذا نعت لا يكون إلا للإناث، ومن قال حاملة بناء على حملت فهي حاملة، وأنشد لعمرو بن حسان: تمخضت المنون له بيوم ... أتى ولكل حاملة تمام فإذا حملت شيئا على ظهرها أو على رأسها فهي حاملة لا غير. هذا ولا تدخل هذه التاء في خمسة أوزان: 1- فعول بفتح الفاء بمعنى فاعل كرجل جسور وامرأة جسور «وما كانت أمك بغيّا» وقد سبق ذكرها في سورة مريم. 2- فعيل بمعنى مفعول نحو رجل جريح وامرأة جريح، فإن قلت مررت بقتيلة بني فلان ألحقت التاء خشية الالتباس بالمذكر لأنك لم تذكر الموصوف. 3- مفعال بكسر الميم نحو منحار يقال رجل منحار وامرأة منحار. 4- مفعيل بكسر الميم كمعطير من العطر وشذّ امرأة مسكينة وسمع امرأة مسكين على القياس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 253 5- مفعل كمغشم وهو الذي لا ينتهي عما يريده ويهواه من شجاعته. تاء الفصل: وتأتي التاء لفصل واحد من الجنس كتمرة وتمر، أو فصل الجنس من الواحد نحو كماة وليس منه سيارة في قوله تعالى «وجاءت سيارة» فإنها جمع سيار لا من أسماء الأجناس. تاء العوض: وتاء العوض وهي التي تأتي عوضا من فاء كعدة، أو عين كإقامة، أو لام كسنة، أو من حرف زائد لغير معنى كزنديق وزنادقة فالتاء عوض من ياء زناديق. تاء التعريب: وتاء التعريب وهي التي تأتي لتعريب الأسماء الأعجمية كموازجة جمع موزج بفتح الميم وسكون الواو وفتح الزاي بعدها جيم وهو الخف أو الجورب والقياس موازج فدخلت التاء في جمعه لتدل على أن أصله أعجمي فعرب. تاء المبالغة: وتاء المبالغة في الوصف كراوية لكثير الرواية ونسّابة لكثير العلم بالأنساب. [سورة النمل (27) : الآيات 79 الى 82] فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 254 الإعراب: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) الفاء الفصيحة لأنها تفريع على قوله العزيز العليم أي ان عرفت هذه الصفات لله تعالى وآمنت بها فتوكل. وتوكل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعلى الله جار ومجرور متعلقان بتوكل وجملة انك على الحق المبين لا محل لها لأنها تعليل للتوكيل وإن واسمها وخبرها والمبين صفة. (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) تعليل ثان للأمر بالتوكل، يقطع طمعه عن متابعتهم. وان واسمها وجملة لا تسمع خبر والموتى مفعول به ولا تسمع الصم عطف على سابقتها والصم مفعول به أول والدعاء مفعول به ثان وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ولوا مجرورة باضافة الظرف إليها ومدبرين حال. (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) الواو عاطفة وما نافية حجازية تعمل عمل ليس وأنت اسمها والباء حرف جر زائد وهادي مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما والعمي مضاف اليه وعن ضلالتهم متعلقان بهادي وعدي بعن لتضمنه معنى تصرفهم، وأجاز أبو البقاء وجها آخر وهو أن يتعلق بالعمى لأنك تقول عمي عن كذا وهو وجه سائغ مقبول، ومثل الزمخشري للوجه الأول بقولهم: سقاه عن العيمة أي أبعده عنها بالسقي، والعيمة شهوة اللبن كما في الصحاح. (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) إن نافية وتسمع فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنت وإلا أداة حصر ومن مفعول به وجملة يؤمن صلة وبآياتنا متعلقان بيؤمن والفاء الفصيحة وهم مبتدأ ومسلمون خبر. (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبيان بعض أمائر الساعة الدالة عليها والمراد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 255 بالقول ما نطق به القرآن من الآيات التي تنبيء عن الساعة والمراد بوقوعه وهو لم يقع قرب حصوله. وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة وقع القول في محل جر بإضافة الظرف إليها والقول فاعل وقع وعليهم متعلقان بوقع وجملة أخرجنا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ولهم متعلقان بأخرجنا ودابة مفعول به ومن الأرض صفة لدابة وسيأتي ما قيل في دابة الأرض في باب الفوائد. (تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) جملة تكلمهم صفة ثانية لدابة أو حال منها لأنها وصفت، وأن بفتح الهمزة على تقدير الباء أي بأن الناس والجار والمجرور متعلقان بتكلمهم وقرئ بكسرها على الاستئناف، وان واسمها وجملة كانوا خبر ان وكان واسمها وبآياتنا متعلقان بيوقنون ولا نافية وجملة لا يوقنون خبر كانوا والكلام إما من الله تعالى وإما من كلام الدابة، وقد اختار الزمخشري هذا الوجه وردّ على المعترضين بأن قوله بآياتنا يعكر على ذلك بأن قولها حكاية لقول الله تعالى أو على معنى بآيات ربنا أو لاختصاصها بالله وأثرتها عنده وانها من خواص خلقه أضافت آيات الله الى نفسها كما يقول بعض خاصة الملك خيلنا وبلادنا وانما هي خيل مولاه وبلاده. البلاغة: في قوله «ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين» فن الإيغال وهو أن يستكمل المتكلم معنى كلامه قبل أن يأتي بمقطعه، فإذا أريد الإتيان به أتى بما يفيد معنى زائدا على معنى ذلك الكلام، فقد انتهى الكلام عند قوله ولا تسمع الصم الدعاء فما معنى قوله ولوا مدبرين؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 256 والجواب أنه أتى بها وقد أغنى عنها ذكر التولي في الظاهر أما في الحقيقة فهو لم يغن عنها لأن التولي قد يكون بجانب دون جانب كما يكون الاعراض، ولما أخبر سبحانه بذكر توليهم متمما للمعنى في حال الخطاب لينفي عنهم الفهم الذي يحصل من الاشارة، فإن الأصم يفهم من الاشارة ما يفهمه السامع من العبارة، ثم علم سبحانه أن التولي قد يكون بجانب دون جانب كما قدمنا فيجوز أن يلحظ بالجانب الذي لم يتول به فيدرك بعض الاشارة والمراد نفي كل الاشارة فجاءت الفاصلة «مدبرين» ليعلم أن التولي كان بجميع الجوانب بحيث صار ما كان مستقبلا مستدبرا فاحتجب المخاطب عن المخاطب إذ صار من ورائه فخفيت من غيبه الاشارة كما صمّت أذناه عن العبارة فحصلت المبالغة الكلية في عدم الاسماع البتة، وهذا تمثيل مثلت به حال هؤلاء القوم أتى مدمجا في الإيغال وهذا الضرب من الإيغال يسمى ايغال الاحتياط. وهناك ضرب آخر وهو ايغال التخيير وقد مضى شاهده في سورة المائدة، وقد قدمنا في المائدة ما فيه الكفاية من أمثلة الإيغال، ونورد هنا نماذج منه: يحكى أن أخوة ليلى لما علموا بحب توبة بن الحميّر العقيلي لها نذروا دمه وارتحلوا بها، فقال توبة: وان يمنعوا ليلى وحسن حديثها ... فلن يمنعوا عني البكا والقوافيا فهلا منعتم إذ منعتم حديثها ... خيالا يوافيني مع الليل هاديا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 257 فقد تم المعنى بقوله مع الليل، ولما أتى بالقافية زاد على ذلك. ولأبي تمام: إن المنازل ساورتها فرقة ... أخلت من الآرام كل كناس من كل ضاحكة الترائب أرهفت ... إرهاف خوط البانة المياس فإن المعنى قد تمّ قبل إتيانه بالقافية في البيت الثاني فلما أتى بها زاد عليه، وعلى هذا النحو الجميل يطرد له ذلك فيقول: فتوح أمير المؤمنين تفتحت ... لهن أزاهير الربا والخمائل لقد ألبس الله الإمام فضائلا ... وتابع فيها باللها والفواضل فأضحت عطاياه نوازع شردا ... تسائل في الآفاق عن كل سائل مواهب جدن الأرض حتى كأنما ... أخذن بآداب السحاب الهواطل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 258 الفوائد: دابة الأرض: دابة الأرض هي الجسّاسة وتنوينها وتنكيرها لإبهام تفخيمها، لتسترعي الانتباه إليها وتلفت الأنظار الى ترقب خروجها وقد كثر الحديث عنها في المطولات وهي من الأمور المغيبة التي نؤمن بها ولا يعنينا كنهها ولا حقيقتها. [سورة النمل (27) : الآيات 83 الى 88] وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) اللغة: (فَوْجاً) : الفوج: الجماعة والطائفة وجمعه أفواج وفئوج الجزء: 7 ¦ الصفحة: 259 وجمع الجمع أفاوج وأفايج وأفاويج، والفائجة: الجماعة ومتسع ما بين كل مرتفعين من رمل أو غلط، وقال الراغب في مفرداته: «الفوج الجماعة المارة المسرعة وكأن هذا هو الأصل ثم أطلق وإن لم يكن مرور ولا إسراع والجمع أفواج وفئوج» . (يُوزَعُونَ) : تقدم قريبا في سورة النحل فجدد به عهدا، أي يحبس أولهم على آخرهم لأجل تلاحقهم. (داخِرِينَ) : صاغرين، وفي القاموس: دخر الشخص كمنع وفرح دخرا ودخورا صغر وذلّ، وأدخرته بالألف للتعدية. والدال مع الخاء فاء وعينا تفيدان معنا خاصا يدل على التضاؤل والتصاغر وما تنبو عنه النفس وتغثى الطباع، فالدّخ والدّخ الدخان وهو معروف يعمي العيون ويقذيها وقالت اعرابية لزوجها وكان قد كبر وأسنّ: لاخير في الشيخ إذا ما اجلخّا ... وسال غرب عينيه ولخّا وكان أكلا قاعدا وشخّا ... تحت رواق البيت يغشى الدّخا وانثنت الرجل فصارت فخّا ... وصار وصل الغانيات أخّا ومعنى يغشى الدخ انه يكثر التردد على النساء عند التنور يقول اطعمنني، ومعنى اجلخ سقط ولم يتحرك وقيل معناه اعوج، وأخ بفتح الهمزة كلمة تقال عند التأوه كذا قال ابن دريد ثم قال وأحسبها محدثة وقال الصاغاني: يقال للصبي إذا نهي عن فعل شيء قذر إخ بكسر الهمزة بمنزلة قول العجم كخ كأنه زجر وقد تفتح همزته، ودخدخ الرجل قارب الخطو مسرعا وتدخدخ الرجل انقبض، ودخس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 260 الشيء في الرماد أدخله ودسه ودخس الحافر أصابه داء الدخس وهو ورم في حافر الدابة والدخس بضم الدال دابة في البحر، ودخل معروف وهو يفيد التواري والتضاؤل ودخل في عقله بالبناء للمجهول أو جسده ودخل بكسر الخاء دخلا بفتحتين داخله الفساد فهو مدخول عليه والدخل بفتح الدال وسكون الخاء ما دخل عليك من مالك لتختزنه وتواريه عن العيون والداء والعيب والدخل بفتحتين ما داخل الإنسان من فساد في العقل والجسم والخديعة العيب في الحسب والدخيل من دخل في قوم وانتسب إليهم وليس منهم والجمع دخلاء وكل كلمة أعجمية ويقال داء دخيل أي داخل في أعماق البدن ويقال: إنه لخبيث الدّخلة بكسر الدال المشددة وهي باطن أمره، ودخمه دخما دفعه بإزعاج، ودخن الطعام واللحم من باب تعب أصابهما الدخان في حال الطبخ ولا شيء أخبث من طعمه آنذاك، وكم لهذه اللغة من عجائب. الإعراب: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) الواو استئنافية والظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر وهو كلام مستأنف مسوق لبيان أحوال الكذابين بصورة اجمالية وجملة نحشر مجرورة بإضافة الظرف إليها ومن كل أمة متعلقان بنحشر و «من» هنا للتبعيض وفوجا مفعول به وممن صفة لفوجا و «من» هنا للتبيين وجملة يكذب صلة من والفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة يوزعون خبر. (حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) حرف غاية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 261 جاءوا في محل جر بإضافة الظرف إليها ومتعلق جاءوا محذوف أي الى مكان الحساب، وقال فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله تعالى، أكذبتم: الهمزة للاستفهام التوبيخي التقريعي وكذبتم فعل وفاعل، وبآياتي متعلقان بكذبتم ولم الواو حالية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتحيطوا فعل مضارع مجزوم بلم وبها متعلقان بتحيطوا وعلما تمييز والجملة حالية مؤكدة للإنكار والتوبيخ وإظهار بشاعة التكذيب القائم على الارتجال وعدم التمعن والتبصر والتحقيق، وأم حرف عطف وهي هنا منقطعة فهي بمعنى بل وما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبر أو ماذا كلها اسم استفهام في محل نصب مفعول مقدم لتعملون وكنتم كان واسمها وجملة تعملون خبرها. (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) الواو عاطفة ووقع القول فعل وفاعل وعليهم متعلقان بوقع وبما ظلموا متعلقان بوقع أيضا أي بسبب ظلمهم وما مصدرية والفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة لا ينطقون خبر. (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) الهمزة للاستفهام التقريري والإنكاري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم والرؤية هنا قلبية لا بصرية وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي يروا وأن واسمها وجملة جعلنا خبرها والجعل هنا إن كان بمعنى الخلق لا بمعنى التصيير فتتعدى لواحد والليل مفعول جعلنا واللام للتعليل ويسكنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل والجار والمجرور متعلقان بجعلنا على أنه علة له فهو بمثابة المفعول من أجله، ولكن لا يجوز النصب لاختلاف الفاعل، وفيه متعلقان بيسكنوا والنهار عطف على الليل ومبصرا حال أو مفعول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 262 به ثان وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها المؤخر ولقوم صفة وجملة يؤمنون صفة لقوم. (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ويوم معطوف على ويوم نحشر منتظم في حكمه وهو الأمر بذكره وجملة ينفخ في محل جر بإضافة الظرف إليها ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وفي الصور متعلقان بينفخ، ففزع عطف على ينفخ وسيأتي سر التعبير بالماضي في باب البلاغة، ومن فاعل فزع وفي السموات صلة ومن في الأرض عطف على من في السموات. (إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) إلا أداة استثناء ومن مستثنى وجملة شاء الله صلة، وكلّ: الواو للحال أو هي عاطفة وكل مبتدأ وساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم ولأن تنوينه عوض عن المضاف اليه أي وكلهم بعد احيائهم يوم القيامة، وجملة أتوه خبر وعبر بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه كأنه وقع فعلا وداخرين حال. (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) الواو حرف عطف وترى الجبال فعل مضارع مرفوع وفاعل مستتر تقديره أنت ومفعول به والرؤية بصرية وجملة تحسبها حال من الجبال والهاء مفعول تحسبها الأول وجامدة مفعول تحسبها الثاني وهي الواو حالية وهي مبتدأ وجملة تمر خبر والجملة حال من جامدة. (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) صنع مفعول مطلق مؤكد لمضمون الجملة قبله وأضيف المصدر الى فاعله والذي صفة لله وجملة أتقن صلة وكل شيء مفعول أتقن وان واسمها وخبرها وبما متعلقان بخبير وجملة تفعلون صلة ما. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 263 البلاغة: في هذه الآيات فنون متعددة نوجزها فيما يلي: 1- المجاز العقلي: في قوله «والنهار مبصرا» فقد أسند الإبصار الى الزمان وهو لا يعقل ولم يأت بالكلام مقابلا لما قبله وهو «ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه» بل جعله أحدهما علة والثاني حالا لأن التقابل قد روعي من جهة المعنى لأن معنى مبصرا ليبصروا فيه طرق التقلب والمكاسب، وهذا هو النظم المطبوع غير المتكلف. 2- الاخبار بالماضي عن المستقبل: وأخبر بالماضي عن المستقبل في قوله «ففزع من في السموات ومن في الأرض» وكان السياق يقضي بأن يأتي بالمستقبل أيضا ولكنه عدل الى الماضي للإشعار بتحقيق الفزع وانه كائن لا محالة لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعا به. 3- الطباق: وفي قوله «وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب» طباق عجيب بين الجمود والحركة السريعة فجعل ما يبدو لعين الناظر كالجبل في جموده ورسوخه ولكنه سريع يمر مرورا حثيثا كما يمر السحاب وهذا شأن الأجرام العظام المتكاثرة العدد إذا تحركت لا تكاد تتبين حركتها كما قال النابغة في وصف جيش: بأرعن مثل الطود تحسب أنهم ... وقوف لحاج والركاب تهملج الجزء: 7 ¦ الصفحة: 264 وهذا بيت رائع فالأرعن الجبل العالي وقد استعاره للجيش ثم شبهه بالطود وهو الجبل العظيم ليفيد المبالغة في الكثرة والحاج اسم جمع واحده حاجة والركاب المطي لا واحد له من لفظه والهملجة السير الرهو السريع فارسي معرب وفي الصحاح: «الهملاج من البراذين واحده الهماليج ومشيها الهملجة فارسي معرب» يقول: حاربنا العدو بجيش عظيم تظنهم واقفين لحاج لكثرتهم والحال أن ركابهم تسرع السير. وللزمخشري وصف بليغ لهذه الآيات نورده فيما يلي: «فانظر الى بلاغة هذا الكلام وحسن نظمه وترتيبه ومكانة إضماده ورصانة تفسيره وأخذ بعضه بحجزة بعض كأنما أفرغ إفراغا واحدا، ولأمر ما أعجز القوى وأخرس الشقاشق ونحو هذا المصدر «أي صنع الله» إذا جاء عقيب كلام جاء كالشاهد بصحته والمنادي على سداده وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا كما قد كان، ألا ترى الى قوله صنع الله، ووعد الله، وفطرة الله، بعد ما وسمها بإضافتها اليه بسمة التعظيم كيف تلاها بقوله: الذي أتقن كل شيء، ومن أحسن من الله صبغة، ولا يخلف الله الميعاد، لا تبديل لخلق الله» . [سورة النمل (27) : الآيات 89 الى 93] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 265 الإعراب: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) كلام مستأنف مسوق للتمهيد لختام السورة بإجمال مصير المحسن والمسيء. ومن اسم شرط جازم مبتدأ وبالحسنة جار ومجرور متعلقان بجاء أو بمحذوف حال فالباء للملابسة أي جاء ملتبسا بها والفاء رابطة وله خبر مقدم وخير مبتدأ مؤخر ومنها صفة لخير أو متعلق به على أنه اسم تفضيل. وهم مبتدأ ومن فزع متعلقان بآمنون وآمنون خبر ويوم ظرف أضيف الى مثله وهو متعلق بمحذوف صفة لفزع أي كائن في ذلك اليوم، وقرئ بإضافة فزع الى يومئذ. (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة ومن شرطية وجاء بالسيئة فعل الشرط والفاء رابطة داخلة على «قد» محذوفة أي كبت ليصح اقتران الجواب بها، وكبت فعل ماض مبني للمجهول ووجوههم نائب فاعل وفي النار متعلقان بكبت وجملة فكبت في محل جزم جواب الشرط وهل حرف استفهام وتجزون فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع بثبوت النون على طريق الالتفات والواو نائب فاعل والجملة حال أي فكبت وجوههم مقولا لهم هل تجزون، وإلا أداة حصر وما مفعول به ثان لتجزون وجملة كنتم صلة وكان واسمها وجملة تعملون خبرها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 266 (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها) الجملة مقول قول محذوف أي قل لهم إنما أمرت، وإنما كافة ومكفوفة وأمرت فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل وأن أعبد في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بأمرت ورب مفعول به وهذه مضاف لرب والبلدة بدل من اسم الاشارة والمراد بها مكة حرسها الله والذي نعت لرب هذه البلدة وجملة حرّمها صلة. (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الواو للحال وله خبر مقدم وكل شيء مبتدأ مؤخر وسيأتي سر هذا الحال في باب البلاغة، وأمرت عطف على أمرت الأولى وأن أكون من المسلمين عطف أيضا على ما تقدم. (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) وأن أتلو عطف على أن أكون أي وأمرت بأن أتلو والقرآن مفعول به، فمن الفاء تفريعية ومن شرطية مبتدأ واهتدى فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة وإنما كافة ومكفوفة ويهتدي فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو والفاء رابطة وإنما كافة ومكفوفة ويهتدي فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو ولنفسه متعلقان بيهتدي. (وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) عطف على الجملة السابقة وهي مماثلة لها في اعرابها ولا بد من تقدير فعل طلبي بعد الفاء أي فقل له إنما أنا من المنذرين. (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة وقل فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت والحمد مبتدأ ولله خبر والجملة مقول القول، وسيريكم السين حرف استقبال ويريكم فعل مضارع والكاف مفعول به أول وآياته مفعول به ثان، والجملة من تتمة مقول القول منتظمة في سلكه، فتعرفونها الفاء عاطفة وتعرفونها فعل مضارع وفاعل ومفعول به والواو حرف عطف وما نافية حجازية وربك اسمها وبغافل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 267 الباء حرف جر زائد وغافل مجرور لفظا منصوب محلا لأنها خبر ما وعما متعلقان بغافل وجملة تعملون صلة. البلاغة: الاحتراس: في قوله تعالى «وله كل شيء» احتراس بديع وقد تقدم ذكر هذا الفن وأنه يؤتى به دفعا لتوهم يتوجه على الكلام، فقد أضاف سبحانه اسمه الى مكة تشريفا لها وذكرا لتحريمها، ولما أضاف اسمه الى البلدة والمخصوصة بهذا التشريف أتبع ذلك اضافة كل شيء سواها الى ملكه قطعا لتوهم اختصاص ملكه بالبلدة المشار إليها وتنبيها على أن الاضافة الأولى إنما قصد بها التشريف لا لأنها ملك الله تعالى خاصة. الباقلاني يحلل سورة النمل: هذا ونحب في ختام هذه السورة أن نشير إشارة سريعة تحليلية الى كتاب «إعجاز القرآن» لأبي بكر الباقلاني الذي سار ذكره في الناس وهو يجمع الى روحه الكلامية طابعا أديبا إذ لم يقتصر في الإعجاز على دراسته من الوجهة الكلامية بل تعرض للناحية البيانية والاسلوبية فقد نشأ الخطيب الباقلاني بارعا في الجدل، عالي القدر في علوم القرآن والسنة والكلام وتعرض لكثير من المعارضين والمخالفين وقارعهم الحجج، وجادل علماء الروم مما أثار إعجاب معاصريه به. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 268 فقد أرسله الملك عضد الدولة الى ملك الروم عام 371 هـ في سفارة رسمية وأدخلوه مرة وهو في عاصمة الروم على بعض القسس فقال القاضي للقسيس: كيف أنت والأهل والأولاد؟ فتعجب الرومي وقال له: ذكر من أرسلك في كتاب الرسالة أنك لسان الأمة ومتقدم على علماء الملة، أما علمت أن المطارنة والرهبان منزهون عن الأهل والأولاد؟ فأجابه القاضي أبو بكر: رأيناكم لا تنزهون الله سبحانه عن الأهل والأولاد فهل المطارنة عندكم أقدس وأجل وأعلى من الله سبحانه، وأراد كبير الروم أن يخزي القاضي فقال له: أخبرني عن قصة عائشة زوج نبيكم وما قيل فيها؟ فأجابه هما اثنتان قيل فيهما ما قيل: زوج نبينا ومريم أم المسيح فأما زوج نبينا فلم تلد وأما مريم فجاءت بولد تحمله على كتفيها وقد برأهما الله مما رميتا به، فانقطع الرومي ولم يحر جوابا. خلاصة نظرية الباقلاني في الإعجاز: 1- يبدأ بعرض الفكرة عرضا بسيطا فيثبت صحة ما بين أيدينا من نصّ القرآن وأنه هو حقا كتاب الله المنزّل على نبيه وأنه آية محمد ومعجزته الخالدة. 2- يثبت عجز العرب عن الإتيان بمثله على رغم تحديه لهم مرارا. 3- وينتهي من المقدمات السالفة إلى نتيجة عامة هي خلاصة نظريته في الإعجاز وهي «خروج نظم القرآن عن سائر كلام العرب ونظومهم» ثم يشرح هذه النظرية في كتاب الإعجاز فيقول: «والوجه الثالث انه بديع النظم عجيب التأليف، متناه في البلاغة على تصرف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 269 وجوهه، واختلاف مذاهبه، خارج عن المعهود من نظم جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم وله أسلوب خاص به ويتميز في فصوله عن أساليب الكلام المعتاد» . وقبل أن يلج الى نظم القرآن وتحليل سوره يتناول قصيدة لامرىء القيس وأخرى للبحتري ليرسم طريقته في النقد وتطبيق منهجه وينتقل في كلتا القصيدتين من المطلع الى النهاية منبها الى وجوه الجمال ومواطن الضعف، وفي تحليله لقصيدة امرئ القيس أو معلقته- على الأصح- يوازن بين ما جاء من فنون التعبير والتصرف في القول ونظم الكلام فيها وما جاء شبيها أو مقاربا لها في القرآن منبها إلى تفوق القرآن دائما، وكثيرا ما تدخل النقد الشخصي في رأي الباقلاني في تحليل معلقة امرئ القيس وإن خالف ذلك الرأي آراء جميع النقاد، انظر اليه كيف يخطىء الشاعر في قوله: إذا قامتا تضوع المسك منهما ... يقول: «فوجه التكلف فيه بقوله: إذا قامتا تضوع المسك منهما، ولو أراد أن يجود أفاد أن بهما طيبا على كل حال فأما في حال القيام فقط فذلك تقصير» وهذا تحامل ظاهر من أبي بكر على الشاعر وعلى المعنى الذي تناوله إذ لا شك أن في هذا التعبير لمسة فنية دقيقة ترتكز على كلمة «قامتا» لأنها مبعث الحركة والحياة في الصورة كلها تريك الفتاتين غاديتين أو رائحتين وغلائلهما تبعث الأرج فيسري في الأعطاف ويعبق الجو بشذاه لما تبعثه الحركة في الهواء فيحمل العطر الى الأنوف لتستافه ولا يتسنى ذلك في القعود والسكون، ومع هذا لا ننكر بعض ما نبه اليه الباقلاني من هنات في العقيدة بل ونأخذ برأيه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 270 ونقدر له عمقه وحسن استنباطه، اسمع الى هذا النقد العجيب الذي يخرس الألسن فقد تناول مطلع المعلقة في البيتين الأولين وهما: فقا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجتها من خبوب وشمائل فقال: «لم يقنع بذكر حد حتى حدده بأربعة حدود كأنه يريد بيع المنزل فيخشى ان أخلّ بحد أن يكون بيعه فاسدا أو شرطه باطلا» . وفي تحليله لقصيدة البحتري بعض الطرائف الفنية في النقد نلخصها فيما يلي: 1- الرؤيا الشعرية: فقد أشار الى اختلالها عند البحتري في في تشبيبه الخيال بالبرق وذلك في قول البحتري: أهلا بذلكم الخيال المقبل ... فعل الذي نهواه أم لم يفعل برق سرى من بطن وجرة فاهتدت ... بسناه أعناق الركاب الضلل فقال: «إنه جعل الخيال كالبرق لإشراق مسراه» والخيال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 271 لا يشبه عنده بالبرق لأن البرق سريع خاطف والخيال يسري مسرى النسيم. 2- الحشو: وهو زيادة اللفظ على المعنى المطلوب وهو عيب في النظم. 3- الابتذال في الصورة البيانية كالتشبيه أو الاستعارة أو الكناية. 4- الرونق اللفظي: إذ يرى في بعض أبيات البحتري رونقا وطلاوة ويرى في بعضها الآخر قلة ماء ورونق. 5- الاختلال في المعنى: ومن هذا قوله في نقد بعض الأبيات «وانما جرى ذكر العذال على وجه لا يتصل هذا البيت به ويلائمه ثم الذي ذكره من الانتظار وإن كان مليحا في اللفظ فهو في المعنى متكلف لأن الواقف في الدار لا ينتظر أمرا وانما يقف تحسرا وتذللا وتخيرا» وهذه الأبيات التي تناولها النقد: ما الحسن عندك يا سعاد بمحسن ... فيما أتاه ولا الجمال بمجمل عذل المشوق وإن من سيما الهوى ... في حيث تجهله لجاج العاذل ماذا عليك من انتظار متيم ... بل ما يضرك وفقة في منزل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 272 إن سيل عيّ عن الجواب فلم يطق ... رجعا فكيف يكون إن لم يسأل 6- التضمين: وهو عيب معروف عند النقاد العرب. 7- مخالفة بناء القصيدة العربية القديمة. 8- التعقيد وعدم السلاسة في رصف الألفاظ وسبكها وهو عيب في الصياغة والنظم. 9- الاستهلال وصلته بالفصل والوصل. 10- الاشتراك في المعاني بينه وبين غيره من الشعراء مع تفاوت في الحسن. 11- بناء العبارة وتأليفها واختلافها بين النظم السوي والمضطرب. تحليل سورة النمل: يتناول الباقلاني السورة جملة: يفسر غريبها ويبين ما فيها من جمال اللفظ والمعنى ويأخذ في تحليلها من أولها فيقول: «بدأ بذكر السورة إلى أن بين أن القرآن من عنده» ثم وصل بذلك قصة موسى وانه رأى نارا فقال لأهله «امكثوا إني آنست نارا سآتيكم منها بشهاب قبس لعلكم تصطلون» وقال في سورة طه في هذه القصة: «لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى» ثم قال: فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين» فانظر الى ما أجرى له الكلام الأول وكيف اتصل بتلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 273 المقدمة وكيف وصل بها ما بعدها من الأخبار عن الربوبية وما دلّ عليها من قلب الفصاحة وجعله دليلا يدله عليه ومعجزة تهديه إليه وانظر الكلمات المفردة القائمة بنفسها في الحسن وفيما تتضمنه من المعاني الشريفة ثم ما شفع به هذه الآية وقرن به هذه الدلالة من اليد البيضاء عن نور البرهان من غير سوء ثم انظر في آية آية وكلمة كلمة هل تجدها كما وصفنا من عجيب النظم وبديع الوصف، فكل كلمة لو أفردت كانت في الجمال غاية وفي الدلالة آية فكيف إذا قارنتها أخواتها وضامتها ذواتها تجري في الحسن مجراها وتأخذ في معناها ثم من قصة الى قصة ومن باب الى باب من غير خلل يقع في نظم الفصل الى الفصل وحتى يصور لك الفصل وصلا ببديع التأليف وبليغ التنزيل» . ويبين الباقلاني فضل نظم القرآن على الكلام العادي فيدعو واحدا الى التقليد فلا يصل الى شيء ويقر بالعجز أمام لفظ القرآن ونظمه ويستطرد في تحليل السورة فيقول «متى تهيأ للآدمي أن يقول في وصف كتاب سليمان عليه السلام بعد ذكر العنوان والتسمية هذه الكلمة العالية الشريفة «ألّا تعلوا علي وأتوني مسلمين» والخلوص من ذلك إلى ما صارت اليه من التدبير واشتغلت به من المشورة ومن تعظيمها أمر المستشار ومن تعظيمهم أمرها وطاعتها بتلك الألفاظ البديعة والكلمات العجيبة ثم كلامها بعد ذلك لتعلم تمكن قولها: «يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون» وذكر قولهم: «قالوا نحن أولو قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين» لا تجد في صفتهم أنفسهم أبدع مما وصفهم به وقوله «الأمر إليك» تعلم براعته بنفسه وعجيب معناه وموضع إتقانه في هذا الكلام، وتمكن الفاصلة وملاءمتها لما قبلها وذلك قوله: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 274 «فانظري ماذا تأمرين» ثم الى هذا الاختصار والى البيان مع الإعجاز فإن الكلام قد يفسده الاختصار ويعميه التخفيف منه والإيجاز وهذا مما يزيده الاختصار بسطا لتمكنه ووقوعه موقعه» الى أن يقول: «وإن شرحت لك ما في كل آية طال عليك الأمر ولكني قد بينت بما فسرت وقررت بما فصلت الوجه الذي سلكت والنحو الذي قصدت والغرض الذي إليه رميت والسمت الذي إليه دعوت» . ونحسبك بعد هذا قد ألممت بكتاب الاعجاز فقد أوردنا لك خير ما فيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 275 (28) سورة القصص مكيّة وآياتها ثمان وثمانون [سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) اللغة: (شِيَعاً) في القاموس والتاج وغيرهما من كتب اللغة: «شيعة الرجل أتباعه وأنصاره والجمع شيع وأشياع، والشيعة: الفرقة وتقع على الواحد والاثنين والجمع مذكرا ومؤنثا وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى عليا وأهل بيته حتى صار لهم اسما خاصا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 276 الواحد شيعي» وقال الزمخشري: «شيعا: فرقا يشيعونه على ما يريد ويطيعونه لا يملك أحد منهم أن يلوي عنقه، قال الأعشى: وبلدة يرهب الجواب دلجتها ... حتى تراه عليها يبتغي الشيعا أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته أو أصنافا في استخدامه يتسخر صنفا في بناء وصنفا في حرث وصنفا في حفر، ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية أو فرقا مختلفة، قد أغرى بينهم العداوة» ومعنى البيت الذي أورده الزمخشري للأعشى: ربّ مفازة يخاف الجواب أي كثير السفر من جبت الأرض إذا قطعتها بالسير والدلجة من دلج وأدلج وادّلج إذا سار ليلا والدلجة ساعة من الليل أي يخاف المعتاد على السير من سيرها ليلا حتى يطلب الجماعات المساعدين له على سيرها وبعد البيت قوله: كلفت مجهولها نفسي وشايعني ... همّي عليها إذا ما آلها لمعا بذات لوث عفرناة إذا عثرت ... فالتعس أولى لها من أن يقال لعا يقول: كلفت نفسي سير المجهول منها وعاودني عزمي على سيرها وقت لمعان آلها وهو السراب الذي يرى عند شدة الحر كأنه ماء مع أن سير الهاجرة أشد من سير الليل ثم قال مع ناقة صاحبة قوة ويطلق اللوث على الضعف أيضا فهو من الأضداد، وعفرناة: غليظة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 277 ويقال للعاثر: لعا لك دعاء له بالانتعاش وتعسا له دعاء عليه بالسقوط يريد أنها لا تعثر ولو عثرت فالدعاء عليها أحق بها من الدعاء لها. (وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) : يبقيهن أحياء لقول بعض الكهنة له إن مولودا يولد في بني إسرائيل يكون سبب زوال ملكك. (هامانَ) : وزير فرعون المذكور هنا وهامان عدو اليهود وزير احشويروش الفارسي ذكر في سفر استير من كتب العهد القديم. الإعراب: (طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) تقدم القول فيها وتلك مبتدأ وآيات الكتاب المبين خبرها. (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) نتلو فعل مضارع مرفوع وفاعل مستتر تقديره نحن وعليك متعلقان بنتلو ومن نبأ صفة لمفعول به محذوف أي شيئا من قصة موسى وفرعون وفيه حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه وبالحق حال من فاعل نتلو أي حال كوننا ملتبسين بالحق والصدق أو من المفعول أي حال كونه ملتبسا بالحق والصدق ولقوم متعلقان بنتلو فهو بمثابة التعليل له أي لأجل قوم وجملة يؤمنون صفة لقوم. (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) كلام مستأنف مسوق لبيان قصة فرعون أو جملة تفسيرية لنبأ موسى وكلتاهما لا محل لهما من الاعراب وإن واسمها وجملة علا خبرها وفاعل علا ضمير مستتر جوازا تقديره هو أي فرعون وفي الأرض متعلقان بعلا وجعل أهلها فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول وشيعا مفعول به ثان. (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) جملة يستضعف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 278 حالية من فاعل جعل أو صفة لشيعا ولك أن تجعله كلاما مستأنفا وفاعل يستضعف هو وطائفة مفعول به ومنهم صفة لطائفة ويذبح بدل اشتمال من يستضعف لأن الاستضعاف مشتمل على الذبح والاستحياء معا وأبناءهم مفعول يذبح ويستحيي نساءهم عطف على يذبح أبناءهم وجملة إنه تعليل لهذه الأعمال وان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو ومن المفسدين خبر كان. وإنما كان فرعون يذبح أبناءهم ويترك النساء لأن المنجمين في ذلك العصر أخبروه أنه يذهب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل. قال الزجاج: «والعجب من حمق فرعون، فإن الكاهن الذي أخبره بذلك إن كان صادقا عنده فما ينفع القتل وان كان كاذبا فلا معنى للقتل» . (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) الواو عاطفة أو حالية فإن جعلتها عاطفة عطفت الكلام على قوله إن فرعون علا في الأرض لأنها نظيرة تلك في وقوعها تفسيرا لنبأ موسى وفرعون وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية، وإن جعلتها حالية فالجملة حال من يستضعف أي يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمن عليهم. وأن وما في حيزها مفعول نريد وعلى الذين متعلقان بنمن وجملة استضعفوا صلة وفي الأرض متعلقان باستضعفوا أو بمحذوف حال أي حالة كونهم على الأرض ولعله أولى. (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) ونجعلهم عطف على نمنّ والهاء مفعول به أول وأئمة مفعول به ثان ونجعلهم الوارثين عطف على نجعلهم أئمة. (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) ونمكن عطف على نجعل وفاعله مستتر تقديره نحن ولهم متعلقان بنمكن وفي الأرض حال ونري عطف أيضا وفرعون مفعول به وهامان عطف على فرعون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 279 وجنودهما عطف على فرعون وهامان ومنهم متعلقان بنري أي ونري فرعون وهامان وجنودهما من بني إسرائيل ما كانوا يحذرون أي يخافونه منهم وقد وقع على يد مولود منهم، وما مفعول به ثان لنري وجملة كانوا صلة وكان واسمها وجملة يحذرون خبر كانوا. [سورة القصص (28) : الآيات 7 الى 13] وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 280 اللغة: (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) : الخوف هو غم يلحق الإنسان لأمر مكروه متوقع والحزن غم يلحقه لأمر مكروه واقع وسيأتي تقرير ذلك في باب البلاغة وما ورد من الاعتراض على هذا العطف. (قُصِّيهِ) : اتبعي أثره وتتبعي خبره وبابه نصر. وسيأتي المزيد من شرح هذه المادة. (جُنُبٍ) بضمتين: مكان بعيد، يقال بصرت به عن جنب وعن جنابة بمعنى عن بعد. الإعراب: (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) الواو عاطفة وجملة أوحينا عطف على قوله ان فرعون علا في الأرض وكلتا الجملتين داخلة في حكم تفسير النبأ وأوحينا فعل وفاعل والى أم موسى متعلقان بأوحينا وأن مفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول دون حروفه ويجوز أن تكون مصدرية على بابها وهي مع مدخولها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بأوحينا وأرضعيه فعل أمر وفاعل ومفعول به. (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) الفاء عاطفة وخفت فعل وفاعل وعليه متعلقان بخفت، فألقيه الفاء رابطة وألقيه فعل أمر مبني على حذف النون والياء فاعل والهاء مفعول به وفي اليم جار ومجرور متعلقان بألقيه وأراد باليم النيل. (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتخافي فعل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 281 مضارع مجزوم بلا ولا تحزني عطف على لا تخافي وجملة إنا رادوه تعليل للأمر والنهي وان واسمها ورادوه خبرها وإليك متعلقان برادوه وجاعلوه عطف على رادوه وقد أضيف اسم الفاعل الى مفعوله الأول ومن المرسلين في محل نصب مفعوله الثاني. (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) الفاء عاطفة على محذوف للايجاز تقديره فأرضعته وألقته في نهر النيل في تابوت أعدته له وجرى به النيل الى قبالة قصر فرعون المطل عليه فالتقطه آل فرعون، ويعبرون عنها بالفصيحة أيضا. وهو فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وليكون اللام قيل للتعليل وقيل للعاقبة وسيأتي تفصيل ذلك وبحث هذه اللام في باب الفوائد، ويكون على كل حال فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد اللام واسم يكون مستتر تقديره هو وعدوا خبر يكون وحزنا عطف على عدوا. (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) كلام لا محل له من الإعراب لأنه تعليل لما سبق من أمور وقيل هو كلام معترض بين معطوف عليه وهو فالتقطه آل فرعون ومعطوف وهو وقالت امرأة فرعون. وان واسمها وهامان وجنودهما عطف على فرعون وجملة كانوا خبر إن وكان واسمها وخاطئين خبرها. (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) الواو عاطفة وقالت عطف على فالتقطه آل فرعون وامرأة فرعون فاعل قالت وهي آسية بنت مزاحم وسيأتي ذكرها في قصة موسى وفرعون، وقرة عين خبر لمبتدأ محذوف أي هو قرة عين ولي ولك صفتان للقرة وقد خبط بعض المعربين خبطا عجيبا في إعراب هذه الآية سنلمع إليه في باب الفوائد. (لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) لا ناهية وتقتلوه فعل مضارع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 282 مجزوم بلا والواو فاعل والهاء مفعول به وعسى فعل ماض من أفعال الرجاء وهي تعمل عمل كان، واسمها مستتر تقديره هو وأن ينفعنا مصدر مؤول في محل نصب خبر عسى أو نتخذه عطف على ينفعنا والهاء مفعول به أول وولدا مفعول به ثان، وهم: الواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر والجملة حال من آل فرعون وهي من كلام الله تعالى ويبعد أن تكون من كلام آسية. (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) الواو استئنافية وأصبح فعل ماض ناقص وفؤاد أم موسى اسمها وفارغا خبرها وسيأتي تفسير هذا الكلام في باب البلاغة. (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) إن مخففة من الثقيلة وكادت فعل ماض من أفعال المقاربة واسمها مستتر تقديره هي واللام الفارقة وجملة تبدي خبر كادت وبه متعلقان بتبدي وإذا أعملت «إن» كان اسمها ضمير شأن محذوف وجملة كادت خبرها والأولى إهمالها، ومعنى لتبدي به أي تظهر القول به والضمير لموسى وقيل الباء زائدة والهاء في محل نصب مفعول به والأول أضبط ولولا حرف امتناع لوجود وأن مصدرية وهي مع مدخولها مصدر في محل رفع مبتدأ محذوف الخبر أي لولا ربطنا على قلبها حاصل، وعلى قلبها متعلقان بربطنا وجواب لولا محذوف أي لأبدت به ولتكون اللام للتعليل وتكون فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بربطنا أيضا ومن المؤمنين خبر تكون. (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) الواو عاطفة وقالت فعل ماض وفاعل مستتر تقديره هي أي أم موسى ولأخته متعلقان بقالت وقصيه فعل أمر مبني على حذف النون والياء فاعل والهاء مفعول به، فبصرت الفاء عاطفة على محذوف أي فذهبت ترتاده الجزء: 7 ¦ الصفحة: 283 وتقص آثاره، وبه متعلقان ببصرت وعن جنب في موضع الحال من فاعل بصرت أي بصرت به مستخفية كائنة عن جنب أو من المجرور وهو به أي بعيدا والواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر. (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في بيان سبب رده الى أمه، وحرمنا فعل وفاعل وعليه متعلقان بحرمنا والمراضع مفعول به ومن قبل حال- والمراضع جمع مرضع وهي التي تمارس الإرضاع ولم تباشره أو جمع مرضع بفتح الميم والضاد اسم مكان الرضاع يعني الثدي- فقالت الفاء الفصيحة أي لما رأت أخته ذلك قالت وهل حرف استفهام وأدلكم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وعلى أهل بيت متعلقان بأدلكم وجملة يكفلونه صفة لأهل بيت ولكم متعلقان بيكفلونه والواو حالية وهم مبتدأ وله متعلقان بناصحون وناصحون خبر. (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) الفاء عاطفة ورددناه فعل وفاعل ومفعول به والى أمه متعلقان برددناه وكي حرف تعليل ونصب وتقر فعل مضارع منصوب بكي ولا تحزن عطف على تقر، ودمع الفرح بارد وعين المهموم حرى سخينة. (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الواو عاطفة واللام للتعليل وتعلم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي تعلم وان واسمها وحق خبرها والواو حالية ولكن أكثرهم لكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 284 البلاغة: 1- معنى الخوف والحزن: لقائل أن يقول: ما الفرق بين الخوف والحزن حتى عطف أحدهما على الآخر في قوله «ولا تخافي ولا تحزني» ؟ ثم أليس من التناقض أن يثبت الخوف في قوله «فإذا خفت عليه» ثم ينفيه بقوله «ولا تخافي» والجواب على التناقض المزعوم أن الخوف الأول المثبت هو غرقه في النيل والثاني هو خوف الذبح فاندفع ما يتوهم من تناقض، وأما الاعتراض الاول فهو مندفع بأن هذا من باب الاطناب بل هو قسم نادر من أجمل أقسامه، وهو أن يذكر الشيء فيؤتى فيه بمعان متداخلة إلا أن كل معنى مختص بخصيصة ليست للآخر، فقد قلنا في باب اللغة أن الخوف هو غم يصيب الإنسان الأمر يتوقع نزوله في المستقبل أما الحزن فهو غم يصيبه لأمر وقع فعلا ومضى فنهيت عنهما جميعا ومنه قول أبي تمام وقد كان بارعا فيه: قطعت إليّ الزابيين هباته ... والتاث مأمول السحاب المسبل من منة مشهورة وصنيعة ... بكر وإحسان أغر محجل فقوله منة مشهورة، وصنيعة بكر، وإحسان أغر محجل تداخلت معانيه، إذ المنة والصنيعة والإحسان متقارب بعضه من بعض وليس ذلك بتكرير كما يتوهم لأنه لو اقتصر على قوله منة وصنيعة وإحسان لجاز أن يكون تكريرا ولكنه وصف كل واحدة من هذه الثلاث بصفة أخرجتها عن حكم التكرير فقال «منه مشهورة» فوصفها بالاشتهار لعظم شأنها و «صنيعة بكر» فوصفها بالبكارة أي أنها لم يؤت بمثلها من قبل و «احسان أغر محجل» فوصفه بالغرة والتحجيل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 285 أي هو ذو محاسن متعددة فلما وصف هذه المعاني المتداخلة التي تدل على شيء واحد بأوصاف متباينة صار ذلك إطنابا ولم يكن تكريرا. وقد اشتملت هذه الآية «وأوحينا الى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين» على أمرين وهما «أرضعيه، فألقيه» ونهيين وهما «لا تخافي، ولا تحزني» وخبرين وهما: «إنا رادوه إليك، وجاعلوه من المرسلين» وبشارتين في ضمن الخبرين وهما رده إليها وجعله من المرسلين. 2- الكناية: وذلك في قوله «وأصبح فؤاد أم موسى فارغا» فإن ذلك كناية عن فقدان العقل وطيش اللب والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طاش صوابها وطار عقلها لما انتابها من فرط الجزع والدهش ومثله قوله تعالى «وأفئدتهم هواء» أي جوف لا عقول فيها ومنه بيت حسان: ألا أبلغ أبا سفيان عني ... فأنت مجوّف نخب هواء وهذا البيت من قصيدة مطولة لحسان بن ثابت يهجو بها أبا سفيان قبل إسلامه وبعده: بأن سيوفنا تركت عبيدا ... وعبد الدار سادتها الإماء هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء أتهجوه ولست له بكفء ... فشرّ كما لخير كما الفداء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 286 أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء وألا أداة للتنبيه والاستفتاح والمأمور بالإبلاغ غير معين، ثم التفت ليثير غيظ أبي سفيان، وكان مقتضى السياق أن يقول «فإنه» أي أبا سفيان لكن مخاطبته ومشافهته بالذم أمض للنفس وأقذع في الهجاء، والمجوف والنخب والهواء خالي الجوف أو فارغ القلب من العقل والشجاعة واسناد الترك للسيوف مجاز عقلي لأنها آلة للفعل وعبيد بالتصغير قبيلة وكذلك عبد الدار سادتها مبتدأ والإماء خبره والجملة في محل المفعول الثاني لتركت أي صيرت عبيدا لا سادة لها إلا النساء وصيرت عبد الدار كذلك وأتهجوه الاستفهام إنكاري توبيخي والواو بعده للحال أي لا ينبغي لك ذلك وشر وخير اسما تفضيل واختصا بحذف همزتهما تخفيفا لكثرة استعمالهما لكن المراد بهما هنا أصل الوصف لا الزيادة فيه والشر أبو سفيان وجملة فشر كما لخير كما الفداء دعائية دعا عليه أن يكون فداء لرسول الله وأبرزه في صورة الإبهام لأجل الانصاف في الكلام ولذلك لما سمعه الحاضرون قالوا هذا أنصف بيت قالته العرب وأمن يهجو استفهام انكاري أي ليس من يهجوه منكم ومن يمدحه وينصره منا مستويين ويحتمل أن الهمزة للتنبيه أو للنداء والمنادى محذوف أي يا قوم أبي سفيان إن الذي يهجو رسول الله منكم والذي يمدحه وينصره منكم مستويان في عدم الاكتراث بهما والوقاء ما يتوقى به المكروه وزان الحزام والرباط فهو إما بمعنى اسم مفعول أو اسم آلة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 287 الفوائد: 1- قصة موسى وفرعون: نلخص هنا قصة موسى وفرعون كما رويت لطرافتها وكما جرينا عليه في هذا الكتاب، فموسى معناه ماء وشجر لأن مو بالقبطية هو الماء وشا هو الشجر فعربت وسمي موسى لأنهم وجدوه بينهما، وهو موسى بن عمران يمت بالنسبة الى يعقوب بن اسحق بن إبراهيم ولم يزل بنو إسرائيل من عهد يوسف تحت أيدي الفراعنة حتى كان فرعون الذي بعث موسى اليه، ولم يكن منهم فرعون أعتى منه ولا أطول عمرا وكان شديد الغلظة واسمه الوليد بن مصعب وكان قد اتخذ بني إسرائيل خولا فصنف منهم يبنون، وصنف يحرثون ومن لا عمل له وظف عليه الجزية، فرأى في منامه أن نارا أقبلت من المقدس فأحرقت القبط فسأل عن رؤياه فقيل له: يخرج من هذا البلد أي الذي جاء بنو إسرائيل منه رجل يكون على يديه هلاك مصر فأمر بقتل كل مولود حتى كاد يفنيهم فقيل له إنما هم خولك وإنك إن تفنهم ينقطع النسل فأمر بقتل الغلمان عاما واستحيائهم عاما فولد هرون في السنة التي يستحيون فيها وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها فلما وضعته حزنت فأوحى الله إليها أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم فعملت تابوتا جعلته فيه وألقته في اليم وهو النيل وقالت لأخته قصيه فحمله الماء حتى أدخله بين أشجار متكاثفة تحت قصر فرعون فخرجت جواري فرعون يغتسلن فوجدن التابوت فأدخلنه الى آسية امرأة فرعون فلما رأته أحبته وأخبرت به فرعون فأراد ذبحه وخشي أن يكون المولود الذي حذر منه فلم تزل به آسية حتى تركه لها وذلك قوله «فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا» وستأتي تتمة القصة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 288 2- لام العاقبة أو الصيرورة: واللام في «ليكون» للعاقبة وقد أبرز مدخولها في معرض العلة لا لتقاطهم تشبيها له في الترتب عليه بالغرض الحامل له وتسمى لام الصيرورة ولام المآل، وقد أنكر البصريون لام العاقبة قال الزمخشري: «والتحقيق أنها لام العلة وأن التعليل فيها وارد على طريق المجاز دون الحقيقة لأنه لم يكن داعيهم الى الالتقاط أن يكون لهم عدوا وحزنا ولكن المحبة والتبني، غير أن ذلك لما كانت نتيجة التقاطهم له وثمرته شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله وهو الإكرام الذي هو نتيجة المجيء والتأدب الذي هو ثمرة الضرب في قولك ضربته ليتأدب وتحريره أن هذه اللام حكمها حكم الأسد حيث استعيرت لما يشبه التعليل كما يستعار الأسد لمن يشبه الأسد» . 3- أعاريب في «قرة أعين» : تفادينا في هذا الكتاب إيراد الأعاريب المرجوحة بله المتهافتة لأننا آثرنا اختيار أفضل الوجوه وأمثلها، غير أننا لا نرى إغفال بعض الأعاريب المتهافتة التي تبناها بعض المعربين فقد قلنا إن قرة أعين خبر مبتدأ مضمر ولي ولك صفتان، وقد أجاز بعضهم وجها لا يجوز إيراده البتة وهو أن تكون قرة أعين مبتدأ والخبر جملة لا تقتلوه لأن فيه الإخبار بالانشاء عن الخبر وهذا هين بالنسبة لمخالفة الضمير لأنه يجب أن يقول لا تقتلوها واحتجوا بأنه لما كان المراد مذكرا ساغ ذلك، وما أغناها عن ذلك التمحّل الذي لا يليق بالقرآن، ونقل ابن الانباري بسنده الى ابن عباس انه وقف على «لا» أي هو قرة عين لي فقط الجزء: 7 ¦ الصفحة: 289 ولك لا، أي ليس هو قرة عين، ثم يبتدىء بقوله تقتلوه وهذا مضحك لا يمكن أن ينسب الى ابن عباس ولا إلى ابن الأنباري نفسه وكيف يبقى تقتلوه من غير نون رفع ولا مقتضى لحذفها ولذلك قال الفراء: هو لحن. [سورة القصص (28) : الآيات 14 الى 17] وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) الإعراب: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لتتمة قصة يوسف بعد بلوغه الأشد، ولما حينية أو رابطة وقد تقدم ذلك وبلغ فعل ماض وفاعله مستتر تقديره وهو وأشده مفعول به، وقد مضى تفسير الأشد والأقوال فيه أكثر من مرة، واستوى عطف على بلغ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 290 والمراد انه انتهى شبابه وتكامل عقله، وجملة آتيناه لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وآتيناه فعل ماض وفاعل ومفعول به أول وحكما مفعول به ثان وعلما عطف على حكما وكذلك نعت لمصدر محذوف ونجزي المحسنين فعل مضارع وفاعل ومفعول به. (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) ودخل المدينة عطف على محذوف أي وغاب عن فرعون مدة طويلة لأنه أقام في مصر ثلاثين سنة ثم ذهب الى مدين وأقام فيها عشر سنين، ودخل المدينة فعل وفاعل ومفعول على السعة، قيل المراد بالمدينة منف بضم فسكون وهي ممنوعة من الصرف للعلمية والعجمة وقيل غير ذلك، وعلى حين غفلة حال من المدينة أو من فاعل دخل أي مختلسا ومن أهلها صفة لغفلة قيل كان الوقت بين العشاءين وقيل وقت القائلة وقيل يوم عيد ومعنى «على» هنا الظرفية أي على حين. (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) فوجد عطف على دخل وفيها متعلقان بوجد ورجلين مفعول به وجملة يقتتلان صفة لرجلين وهذا مبتدأ ومن شيعته خبر والجملة صفة ثانية لرجلين وقيل حال، والحال من النكرة أجازه سيبويه من غير شرط، وهذا من عدوه عطف عليها. والعرب تشير بهذا الى الغائب لأنها حكاية حال ماضية، فعبر عن غائب ماض باسم الاشارة. (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) الفاء عاطفة واستغاثه فعل ماض ومفعول به والذي فاعل ومن شيعته متعلقان بمحذوف صلة واستغاث يتعدى بنفسه تارة كما هنا وتارة بالباء. (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) فوكزه عطف أيضا أي دفعه بجمع كفه، وقال الكسائي لكمه، وموسى فاعل فقضى عليه عطف على فوكزه، قال فعل ماض والجملة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 291 مستأنفة وهذا مبتدأ ومن عمل الشيطان خبر والجملة مقول القول، وجملة إنه عدو تعليل، ولا يقدح ذلك في عصمته لكونه خطأ ولكونه غير مقصود وإنما عدّه من عمل الشيطان وسماه ظلما واستغفر منه هضما لنفسه واستعظام الهنات اليسيرة التي تبدر منهم، وان واسمها وعدو خبرها ومضل صفة ومبين صفة ثانية. (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) رب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وإن واسمها وجملة ظلمت نفسي خبر إن فاغفر لي الفاء عاطفة واغفر فعل دعاء ولي متعلقان باغفر فغفر له عطف وان واسمها وهو ضمير فصل والغفور خبر والرحيم خبر ثان، ويجوز أن تعرب هو مبتدأ والغفور الرحيم خبران لهو والجملة خبر ان. (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) بما الباء حرف قسم وجر وجواب القسم محذوف تقديره أقسم بإنعامك عليّ بالمغفرة لأتوبن، وما مصدرية والمصدر في محل جر بباء القسم والفاء عاطفة على الجواب المحذوف ولن حرف نفي ونصب واستقبال وأكون فعل مضارع ناقص واسمها مستتر تقديره أنا وظهيرا خبرها وللمجرمين متعلقان بظهيرا ويجوز أن يكون الكلام استعطافا كأنه قال رب اعصمني بحق ما أنعمت علي من الكفرة فلن أكون إن عصمتني ظهيرا للمجرمين فتتعلق الباء ومدخولها باعصمني المقدر ولا تحتاج الى جواب وتكون الفاء في فلن أكون هي الفصيحة لأنها جواب شرط مقدر كما ذكرنا، هذا وهناك أقوال أخرى كلها سديدة موعدنا بها باب الفوائد. الفوائد: 1- تتمة قصة موسى: واتخذه فرعون ولدا وارتادوا له المرضعات فلم يقبل ثدي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 292 واحدة منهن ولما غاب أمره عن أمه كاد قلبها يطير وجدا عليه فبعثت أخته كأنها تلتمس رضاعه فلما رأت أسفهم عليه حيث لم يقبل على مرضعة قالت: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم فأجابوا ملتمسها فذهبت فجاءت بأمه وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها فأعطته ثديها فأخذ يرضعه فربته في قصر فرعون ثم عرضته آسية على فرعون فلما أخذه مد موسى يده إلى لحيته فنتفها فقال فرعون عليّ بالذباحين فإنما هو هذا فقالت آسية هو قرة عين لي ولك لا تقتلوه فإنه صبي لا يعقل ودعت له بجمر وياقوت فطرح جبريل يده في النار فوضعها موسى في فمه فأحرقته فتركه فرعون فكبر في حجره فلما ترعوع تبناه فكان يركب مراكبه ويلبس ملابسه ويدعى ابن فرعون، ثم ان موسى أخبر أن فرعون قد ركب فركب أثره فأدركه ببلدة منف فدخلها وقد أخليت لفرعون وليس في طرقها أحد فرأى إسرائيليا مع قبطي يقتتلان فاستغاثه الاسرائيلي فوكز القبطي فقضى عليه فكان من قصتهما ما قص الله تعالى في سورة القصص حتى خرج خائفا يترقب الى مدين وستأتي البقية قريبا. 2- اختلاف المعربين في «بما أنعمت عليّ» : أوردنا الوجهين الراجحين في إعراب هذه الآية وهي «قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين» وقد اختارهما الزمخشري أيضا قال: «وأراد بمظاهرة المجرمين إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته وتكثيره سواده حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد وكان يسمى ابن فرعون وأما مظاهرة من أدت مظاهرته الى الجرم والإثم كمظاهرة الاسرائيلي المؤدية الى القتل الذي لم يحل له» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 293 وكذلك اختارهما أبو البقاء في كتابه «إعراب القرآن» وقيل ليس هذا خبرا بل هو دعاء أي فلا أكون بعد هذا ظهيرا أي فلا تجعلني يا رب ظهيرا للمجرمين. [سورة القصص (28) : الآيات 18 الى 21] فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) الإعراب: (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) الفاء عاطفة وأصبح فعل ماض ناقص أو تام وعلى الاول اسمها مستتر تقديره هو وفي المدينة حال وخائفا خبر أصبح أو في المدينة خبر أصبح وخائفا حال، وعلى الثاني يكون فاعل أصبح مستترا تقديره هو وفي المدينة متعلقان به وخائفا حال وجملة يترقب على الوجهين حال ثانية أو خبر ثان أو حال من الضمير في خائفا فتكون حالا متداخلة ومفعول يترقب محذوف أي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 294 يترقب المكروه ويبعد أن يترقب الفرج لأن السياق يستبعده. (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) الفاء عاطفة وإذا فجائية وقد تقدم القول في ظرفيتها أو حرفيتها والذي مبتدأ وجملة استنصره صلة وبالأمس متعلقان باستنصره وجملة يستصرخه خبر الذي ومتعلق يستصرخه محذوف أي على قبطي آخر. (قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) قال فعل ماض وله متعلقان به وموسى فاعل وانك إن واسمها واللام المزحلقة وغوي مبين خبران لإن. (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وأن زائدة وتطرد زيادتها بعد لما وقبل لو مسبوقة بقسم كقول الشاعر: فأقسم أن لو التقينا وأنتم ... لكان لكم يوم من الشر مظلم وإنما زاد «أن» للاشعار بأن موسى لم تكن مسارعته الى قتل الثاني كما كانت مسارعته الى قتل الأول بل كان عنده إبطاء في بسط يده إليه فعبر القرآن عن ذلك الإبطاء بزيادة أن وقد تقدم في سورة يوسف ما يماثل هذا في قوله تعالى «فلما أن جاءه البشير ألقاه على وجهه» فجدد به عهدا. وأراد فعل ماض وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول أراد وبالذي متعلقان بيبطش وهو مبتدأ وعدو خبر ولهما صفة والجملة صلة الذي. (قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الاسرائيلي المستغيث قال ذلك وقد ظن أن موسى يريد أن يبطش به، وقيل يعود على القبطي وليس ببعيد ورجحه زاده في حاشيته على البيضاوي، وكأنه توهم من زجر موسى الاسرائيلي انه هو الذي قتل الرجل بالأمس، أتريد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 295 الهمزة للاستفهام الانكاري وتريد فعل مضارع مرفوع وان وما في حيزها مفعول تريد وكما قتلت نعت لمصدر محذوف وقد تقدمت له نظائر ونفسا مفعول به وبالأمس متعلقان بقتلت. (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) إن نافية وتريد فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنت وإلا أداة حصر وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول تريد وجبارا خبر تكون وفي الأرض صفة لجبارا وما تريد أن تكون من المصلحين عطف على الجملة المماثلة السابقة. (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) الواو عاطفة على محذوف يقدر من سياق الكلام أي فذهب القبطي الذي سمع ما قاله الإسرائيلي وقد علم أن موسى هو قاتل القبطي الأول إلى فرعون وأخبره بجلية الأمر فغضب فرعون وأمر بقتل موسى وإلقاء القبض عليه. وجاء رجل فعل وفاعل وهو مؤمن من آل فرعون وردت الإشارة إليه في مكان آخر من القرآن قيل هو ابن عم فرعون ومن أقصى المدينة صفة لرجل وجملة يسعى صفة ثانية أو حال لأن قوله «رجل» تخصص بالوصف كما هي القاعدة المشهورة، ويجوز تعليق من أقصى المدينة بجاء فتكون جملة يسعى صفة فقط. (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) إن الملأ إن واسمها وجملة يأتمرون خبر وبك متعلقان بيأتمرون أي يتشاورون والائتمار التشاور يقال: الرجلان يتآمران ويأتمران بمعنى واحد لأن كل واحد فيهما يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمر وقيل معناه يأمر بعضهم بعضا بقتلك ولعل هذا أوضح وقد أورد صاحب التاج المعنيين قال: «ائتمروا وتآمروا: تشاوروا وائتمروا بفلان هموا به وأمر بعضهم بعضا بقتله» وبك متعلقان بيأتمرون وليقتلوك اللام تعليلية والمضارع منصوب بأن مضمرة بعدها، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 296 فاخرج الفاء الفصيحة أي إن سمعت نصيحتي فاخرج وإني تعليل لأمره بالخروج وإن واسمها ولك متعلقان بمحذوف حال وعليه اقتصر الزمخشري ومنع تعليقه بالناصحين وأجاز غيره. أن يتعلق بالناصحين للاتساع في الظروف أو بما يدل عليه لفظ الناصحين أي ناصح لك من جملة الناصحين. (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الفاء عاطفة على محذوف أي فعمل موسى بنصيحته فخرج ومنها متعلقان بخرج وخائفا حال وجملة يترقب حال ثانية ومفعول يترقب محذوف أي الشر أو لحوقهم به وقيل يترقب غوث الله والأول أنسب بالسياق ورب منادى ونجني فعل دعاء والياء مفعول به ومن القوم متعلقان بنجني والظالمين صفة. [سورة القصص (28) : الآيات 22 الى 25] وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 297 اللغة: (تِلْقاءَ) : تقدم ذكر المصادر التي وردت على هذا الوزن والمعنى هنا الجهة. (مَدْيَنَ) : بلدة في مصر تقع على بحر القلزم محاذية لتبوك فيها البئر التي استقى منها موسى ومدين اسم قبيلة ذكرها ياقوت، قال الجلال: «وهي قرية شعيب مسيرة ثمانية أيام من مصر سميت بمدين ابن ابراهيم ولم يكن يعرف طريقها» . (سَواءَ السَّبِيلِ) : وسطه ومعظم نهجه من إضافة الصفة للموصوف أي الطريق الوسط. (تَذُودانِ) : تدفعان أغنامهما عن الماء. ومنه قول الشاعر: أبيت على باب القوافي كأنما ... أذود بها سربا من الوحش نزّعا (ما خَطْبُكُما) : ما شأنكما قال الزمخشري: «وحقيقته ما مخطوبكما أي مطلوبكما من الذياد فسمى المخطوب خطبا كما سمي المشئون شأنا في قولك ما شأنك؟ يقال شأنت شأنه أي قصدت قصده» وفي القاموس وشرحه «الخطب مصدر والشأن يقال: ما خطبك؟ أي ما شأنك وما الذي حملك عليه والخطب: الأمر صغر أو عظم وغلب استعماله للأمر العظيم المكروه» ولهذه المادة معان كثيرة يرجع إليها في المعاجم المطولة ولكثرتها نظم بعضهم هذه المعاني بقوله: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 298 ومرّة الوعظ تسمى خطبة ... ثم التماس للنكاح الخطبة وما به يخطب فهو الخطبة ... وحمرة أي في سواد الشعر فحمرة في كدرة تدعى خطب ... وخطبة النكاح جمعها خطب وجمع خطبة بمنبر خطب ... والخطب سهل أي سبيل الأمر فالأمر مع صرف الزمان خطب ... والخطبة الخاطب كل خطب جمع لأخطب وخطبا خطب ... في كل ذي اختلاف لون يجري وفي الوعظ قل وفي النكاح خطبا ... نعم وفي كدرة لون خطبا وإن ترد صار خطيبا خطبا ... أتى بسجع في الكلام النثر (يُصْدِرَ الرِّعاءُ) : الصدر عن الشيء: الرجوع عنه، يقال في فعله صدر من باب نصر وضرب، والصدر بفتحتين اسم مصدر منه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 299 ويتعدى بنفسه فيقال صدره غيره أي رجعه أي رده، ويستعمل رباعيا فيقال أصدره غيره. والرعاء: جمع راع على غير القياس لأن فاعلا الوصف المعتل اللام كقاض قياسه فعله كقضاة ورماة خلافا للزمخشري في قوله إنه جمع راع على فعال قياس كصيام وقيام، أما جمع فعال فيطرد في ستة أنواع نوردها فيما يلي: 1- اسم أو صفة ليست عينهما ياء على وزن فعل أو فعلة، فالاسم ككعب وكعاب وثوب وثياب ونار ونيار وقصعة وقصاع وجنة وجنان، والصفة كصعب وصعبة وصعاب وضخم وضخمة وضخام، وندر مجيئه من معتل العين: كضيعة وضياع وضيف وضياف. 2- اسم صحيح اللام غير مضاعف على وزن فعل أو فعلة كجمل وجمال وجبل وجبال ورقبة ورقاب وثمرة وثمار. 3- اسم على وزن فعل كذئب وذئاب وظل وظلال وبئر وبئار. 4- اسم على وزن فعل ليست عينه واوا ولا لامه ياء كرمح ورماح وريح ورياح ودهن ودهان، وأما الدهان في قوله تعالى: «فكانت وردة كالدهان» فسيأتي انه اسم مفرد ومعناه الجلد الأحمر. 5- صفة صحيحة اللام على وزن فعيل أو فعيلة ككريم وكريمة وكرام ومريض ومريضة ومراض وطويل وطويلة وطوال. 6- صفة على وزن فعلان أو فعلى أو فعلانة أو فعلانة كعطشان وعطشى وعطاش وريان وريا ورواء وندمان وندمى وندام وخمصان وخمصانة وخماص. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 300 وما جمع على فعال من غير ما ذكر فهو على غير القياس وذلك كراع وراعية ورعاء وقائم وقائمة وقيام وصائم وصائمة وصيام وأعجف وعجفاء وعجاف وخيّر وخيار وجيّد وجياد وجواد وجياد وأبطح وبطاح وقلوص وقلاص وأنثى وإناث ونطفة ونطاف وفصيل وفصال وسبع وسباع وضبع وضباع ونفساء ونفاس وعشراء وعشار. هذا ولا ندري كيف ند هذا عن الزمخشري فقال في كشافه: «وأما الرعاء بالكسر فقياس كصيام وقيام» . (اسْتِحْياءٍ) : الاستحياء والحياء الحشمة والانقباض والانزواء قال في المصباح: «يقال استحيت بياء واحدة وبياء واحدة وبياءين ويتعدى بنفسه وبالحرف فيقال استحيته واستحيت منه» . (الْقَصَصَ) بفتحتين: مصدر بمعنى المقصوص وقد سمي به فيما بعد المقصوص يقال قص عليه الخبر حدثه به ومصدره قصص بفتحتين أما القصص بكسر القاف فهو جمع قصة. الإعراب: (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) الواو استئنافية ولما حينية أو رابطة وتوجه فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وتلقاء مدين ظرف مكان متعلق بتوجه وتلقاء يستعمل مصدرا واسما للقاء ومكانا له وقد ذكرنا فيما مضى أن لدينا عشرة مصادر أتت مخالفة فجاءت بكسر أولها، وجعله شارح القاموس اسما للمصدر فقال تعليقا على القاموس «قوله والاسم التلقاء أي اسم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 301 المصدر ولكن يعكر عليه قوله ولا نظير له غير التبيان إذ لم يقل أحد بأن التبيان اسم مصدر بل هو مصدر نادر» وعبارة المحكم: «التلقاء اسم مصدر لا مصدر وإلا لفتحت التاء وقيل مصدر لا نظير له غير التبيان» ومدين مضاف إليه ومنعت من الصرف للعلمية والتأنيث وجملة قال لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعسى فعل ماض جامد من أفعال الرجاء وربي اسمها وان وما في حيزها خبرها وسواء السبيل مفعول ثان أو منصوب بنزع الخافض. (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) وجد فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وعليه متعلقان بوجد لأن وجد بمعنى لقي وأمة مفعول به أي جماعة كثيفة ومن الناس صفة لأمة وجملة يسقون صفة ثانية أو حال ومفعول يسقون محذوف للعلم به أي مواشيهم. (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) ووجد عطف على وجد الأولى ومن دونهم متعلقان بوجد أيضا أي في مكان أسفل منهم، وامرأتين مفعول به أول وجملة تذودان صفة لامرأتين. (قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) ما اسم استفهام مبتدأ وخطبكما خبر والجملة مقول القول، قالتا فعل ماض والتاء تاء التأنيث الساكنة وحركت بالفتح لمناسبة ألف التثنية والألف فاعل وجملة لا نسقي مقول قولهما وحتى حرف غاية وجر ويصدر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والرعاء فاعل والواو حالية وأبونا مبتدأ وشيخ خبر وكبير صفة وسيأتي في باب البلاغة سر الجملة الحالية. (فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) الفاء عاطفة على محذوف مقدر يفهم من سياق الكلام وسقى فعل ماض ولهما متعلقان به والمفعول به محذوف أي غنمهما لأجلهما، ثم حرف عطف وتولى فعل ماض والى الظل متعلقان بتولي أي الى ظل شجرة كانت هناك. (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) رب منادى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 302 وان واسمها ولما اللام حرف جر وما نكرة بمعنى شيء أو اسم موصول أي لأي شيء أو للذي أنزلت والجار والمجرور متعلقان بفقير وأنزلت فعل وفاعل والجملة إما صفة لما إن كانت نكرة أو صلة وإليّ متعلقان بأنزلت ومن خير حال وفقير خبر إن وعدي فقير بحرف الجر لأنه ضمن معنى سائل أو طالب وإلا فهو يتعدى بإلى. (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) الفاء عاطفة على محذوف يفهم من سياق الكلام أي فرجعتا الى أبيهما في زمن أقل مما كانتا تستنز فانه في السقي فسألهما عن سبب ذلك فأخبرتاه بقصة من سقى لهما فقال لإحداهما أدعية لي فجاءته، وإحداهما فاعل وجملة تمشي حال من الفاعل وعلى استحياء حال من الفاعل المضمر في تمشي أي مستحيية خفرة وقيل واضعة كم درعها على وجهها حياء منه. (قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) إن واسمها وجملة يدعوك خبر وليجزيك اللام للتعليل ويجزيك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بيدعوك والكاف مفعول به أول وأجر مفعول به ثان وما مصدرية وهي وما بعدها في تأويل مصدر مضاف لأجر أي أجر سقايتك ولنا متعلقان بسقيت. (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الفاء عاطفة على محذوف والتقدير فأجابها لا ليأخذ الأجر ولكن لأجل التبرك بأبيها لما سمع منهما انه شيخ كبير، فمشت أمامه فجعلت الريح تضرب ثوبها فتكشف ساقيها أو ألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها: امشي خلفي ودليني على الطريق ففعلت الى أن دخل عليه فلما جاءه وقص عليه، قص فعل ماض وعليه متعلقان بقص والقصص مفعول به وجملة قال لا محل لها ولا ناهية وتخف فعل مضارع مجزوم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 303 بلا ونجوت فعل وفاعل ومن القوم متعلقان بنجوت والظالمين صفة وإنما هدأ روعه وطمأنه لأن مدين لم تكن في سلطان فرعون. البلاغة: 1- الإيجاز: كثر الإيجاز في هذه الآيات فقد حذف المفعول به في أربعة أماكن أحدها مفعول يسقون أي مواشيهم والثاني مفعول تذودان أي مواشيهما والثالث لا نسقي أي مواشينا والرابع فسقى لهما أي مواشيهما وعلة الحذف أن الغرض هو أن يعلم انه كان من الناس سقي ومن البنتين ذود وأنهما قالتا لا نسقي أي لا يكون منا سقي حتى يصدر الرعاء وانه كان من موسى سقي فأما كون المسقي غنما أو إبلا أو غير ذلك فذلك أمر خارج عن نطاق الغرض. 2- الكناية: في قوله «وأبونا شيخ كبير» فقد أرادتا أن تقولا له: إننا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مزاحمة الرجال ومالنا رجل يقوم بذلك وأبونا شيخ طاعن في السن قد أضعفه الكبر وأعياه فلا مندوحة لنا عن ترك السقيا وأرجائها الى أن يقضي الناس أوطارهم من الماء وبذلك طابق جوابهما سؤاله لأنه سألهما عن علة الذود فقالتا ما قالتاه وإنما ساغ لنبي الله شعيب أن يرضى لابنتيه بامتهان سقيا الماشية على ما فيها من تبذل واطراح حشمة لأن الضرورات تبيح المحظورات مع أن الأمر في حد ذاته ليس بمحظور فالدين لا يأباه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 304 والعادات متباينة ومذهب أهل البدو غير مذهب أهل الحضر خصوصا إذا كانت الحالة حالة ضرورة. 3- الإشارة: وذلك في قوله «على استحياء» فقد أشار بلمح خاطف يشبه لمح الطرف وبلغة هي لغة النظر إلى وصف جمالها الرائع الفتان باستحياء لأن الخفر من صفات الحسان ولأن التهادي في المشي من أبرز سماتهن، قال الأعشى: كأن مشيتها من بيت جارتها ... مر السحابة لا ريث ولا عجل وأبدع ابن الرومي ما شاء له الإبداع إذ قال: جرت تدافع من وشي لها حسن ... تدافع الماء في وشي من الجب وان رمق سماء امرئ القيس بقوله: سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالا على حال وعمر بن أبي ربيعة في رائيته البديعة: فلما فقدت الصوت منهم وأطفئت ... مصابيح شبت بالعشي وأنور الجزء: 7 ¦ الصفحة: 305 وغاب قمير كنت أرجو غيابه ... وروّح رعيان وهوّم سمر وخفض عني الصوت أقبلت مشية ... الحباب وركني خيفة القوم ازور [سورة القصص (28) : الآيات 26 الى 28] قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28) الإعراب: (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) قالت إحداهما فعل وفاعل وهي الكبرى التي تزوجها موسى فيما بعد، ويا أبت تقدم إعرابه كثيرا واستأجره فعل أمر وفاعل ومفعول به (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) الجملة لا محل لها لأنها تعليل للأمر قبلها وسيأتي معنى هذا الكلام الجامع المانع في باب البلاغة، وإن واسمها ومضاف إليه وجملة استأجرت لا محل لها لأنها صلة الموصول والقوي خبر أول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 306 والأمين خبر ثان. (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) إن واسمها وجملة أريد خبرها والجملة مقول القول وأن أنكحك في تأويل مصدر مفعول أريد وفاعل أنكحك ضمير مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به أول وإحدى ابنتي مفعول به ثان وابنتي مضاف لإحدى وهاتين صفة لابنتي والاشارة لتمييزها من بين بقية أخواتهما فقد كان له كما يروى سبع بنات. (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) على حرف جر دخل على أن وما يليها والجار والمجرور متعلقان بمحذوف في موضع الحال إما من الفاعل أو من المفعول أي مشروطا عليّ أو عليك ذلك وتأجرني فعل مضارع من أجرته إذا كنت له أجيرا كقولك أبوته أي كنت له أبا ومفعول تأجرني الثاني محذوف أي نفسك وثماني حجج ظرف لتأجرني وحجج أعوام، وتكلف الزمخشري وجها ما أدري كيف استقام له وهو أن يكون ثماني مفعولا ثانيا لتأجرني، وقد احتاج الى تقدير مضاف أي رعي ثماني حجج ولا داعي لهذا التكلف، هذا فضلا عن أن المعنى لا يستقيم معه لأن العمل هو الذي تقع به الإثابة لا الزمان فكيف يوجه الاجارة على الزمان؟ (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) الفاء عاطفة وإن شرطية وأتممت فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وعشرا مفعول به والفاء رابطة للجواب لأنه جملة اسمية ومن عندك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف أي فالتمام من عندك وليس في الأمر إلزام وتحتيم. (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) الواو عاطفة وما نافية وأريد فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا وأن وما في حيزها مفعول أريد وعليك متعلقان بأشق، ستجدني فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره أنت والنون للوقاية والياء مفعول به الجزء: 7 ¦ الصفحة: 307 وجملة إن شاء الله اعتراضية لا محل لها وجواب ان محذوف ومن الصالحين متعلقان بتجدني ومعنى أشق عليك أجعل الأمر صعبا، قال الزمخشري: «فإن قلت: ما حقيقة شققت عليه وشق عليه الأمر؟ قلت: حقيقته ان الأمر إذا تعاظمك فكأنه شق عليك ظنك باثنين تقول تارة أطيقه وتارة لا أطيقه» وسيأتي مزيد من ذلك في باب البلاغة. (قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) ذلك مبتدأ وبيني وبينك خبره أي ذلك الذي عاهدتني وشارطتني عليه قائم وثابت بيننا لا نحيد عنه كلانا، وأيما الأجلين: أي اسم شرط جازم في محل نصب مفعول مقدم لقضيت وما زائدة للإبهام وسيأتي بحث مستفيض عن أي في باب الفوائد وقيل ان «ما» نكرة بمعنى شيء والأجلين بدل منها وقضيت فعل وفاعل والفاء رابطة للجواب ولا نافية للجنس وعدوان اسمها المبني على الفتح وعلي خبر لا والله مبتدأ وعلى ما نقول متعلقان بوكيل ووكيل خبر الله. البلاغة: 1- الكلام الجامع المانع: في قوله تعالى: «إن خير من استأجرت القوي الأمين» في هذه الآية فنون عديدة ولذلك أطلق عليها علماء البلاغة أنها من الكلام الجامع المانع الحكيم الذي لا يزاد عليه لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان في القائم بأمرك والمتعهد لشئونك وهما الكفاية والأمانة فقد فرغ بالك وتم أمرك وسهل مرادك، ولأنه ذهب مذهب المثل المضروب ليذهب في مرّ العصور وقادمات الدهور، وفيه التعميم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 308 الذي هو أجمل وأليق في مدح النساء للرجال من المدح الخاص وأبقى للتحشم والتصوّن وخصوصا بعد أن فهمت غرض أبيها وهو تزويجها منه وقد كان عمر بن الخطاب يعجب بهذا التعبير ويرمق سماءه في دعائه فيقول: «أشكو الى الله ضعف الأمين وخيانة القوي» . وهذا الإيهام من ابنة شعيب قد سلكته زليخا مع يوسف ولكن شتان ما بين الحياء المجبول والحياء المستعمل، ليس التكحل في العينين كالكحل حيث قالت: «ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم» وهي تعني ما جزاء يوسف مما أرادني من السوء إلا أن تسجنه أو تعذبه عذابا أليما، ولكنها أو همت زوجها الحياء والخفر وأن تنطق بالعصمة منسوبا إليها الخنا إيذانا منها بأن هذا الحياء منها الذي يمنعها أن تنطق بهذا الأمر من مراودة يوسف بطريق الأحرى والأولى، ففي هذه الآية كما رأيت الإيجاز والمثل والتعميم والإيهام وفيها أيضا التقديم فقد قدم ما هو أولى بالتقديم وجعل اسما ل «إن» وهو خير وورد بلفظ الفعل الماضي للدلالة على أن الأمر ليس بدعا وانه معروف مبتوت فيه قد جرب وتعورف. ومن التقديم البديع قول أبي الشغب العبسي يتحزّن على خالد بن عبد الله القسري حين أسره يوسف بن عمرو. ألا إن خير الناس حيا وهالكا ... أسير ثقيف عندهم في السلاسل لعمري لئن عمرتم السجن خالدا ... وأوطأتموه وطأة المتثاقل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 309 لقد كان نهّاضا بكل ملمة ... ومعطي اللهى غمرا كثير النوافل وخير الناس اسم تفضيل مضاف الى المعرف بأل وهو اسم إن وحيا وهالكا حالان منه وأسير ثقيف خبر إن، وثقيف علم القبيلة والعلم أعرف من المحلى بأل فخبر إن المضاف اليه أعرف من اسمها المضاف المحلّى بأل وقد قدم الاسم للاهتمام به، وعندهم في السلاسل حال أو خبر بعد خبر، ولعمري قسم إن عمرتم أي أدخلتم وأسكنتم خالدا السجن وأوطأتموه أي صيرتموه يطأ الأرض برجله كوطأة المتثاقل أي الحامل لشيء ثقيل لجعل القيد في رجليه فهو كناية عن ذلك، لقد كان نهاضا جواب القسم وجواب الشرط محذوف أي كان سريع القيام بكل نازلة ثقيلة وكان معطى اللهى بالفتح جمع لهاة كحصى وحصاة أي اللحمة في أقصى الفم لكنها هنا بمعنى الفم نفسه ويجوز أن يكون اللهى بضم اللام جمع لهوة كغرف وغرفة بمعنى العطية من أي نوع كانت. 2- الإيجاز: وفي قوله «وما أريد أن أشق عليك» إيجاز بليغ فقد ذكرنا معنى شق عليه الأمر وانه مترجح بين اليأس والرجاء، وفيه إيماء الى أولئك المعاسرين الذين يكلفون عمالهم أعمالا تربو على طوقهم وتتجاوز حدود قدرتهم المعهودة، وعلى هذا درجت الشرائع في حسن المعاملة والأخذ بالأسهل والأيسر ومنه الحديث «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شريكي فكان لا يداري ولا يشاري ولا يماري» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 310 الفوائد: «أيّ» المشددة: تأتي «أيّ» المشددة على خمسة أوجه: 1- أن تكون شرطا نحو «أيما الأجلين قضيت» وقد تزاد ما بعدها للتوكيد. 2- أن تكون استفهامية: «أيكم زادته هذه إيمانا» . 3- موصولة: «ثم لننزعنّ من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا» . 4- أن تكون دالة على معنى الكمال فتقع صفة للنكرة نحو زيد رجل أي رجل أي كامل في صفات الرجال وحالا من المعرفة كمررت بعبد الله أي رجل، قال أبو العتاهية وقد وردت صفة: إن الشباب والفراغ والجده ... مفسدة للمرء أي مفسده 5- أن تكون وصلة الى نداء ما فيه أل نحو يا أيها الرجل. هذا وقد أورد صاحب المغني بيتا لأبي الطيب فيه «أي» وهو: أي يوم سررتني بوصال ... لم ترعني ثلاثة بصدود وقال: «ليست فيه أي موصولة لأن الموصولة لا تضاف إلا إلى المعرفة، قال أبو علي في التذكرة في قوله: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 311 أرأيت أي سوالف وخدود ... برزت لنا بين اللوى فزرود لا تكون أي فيه موصولة لإضافتها الى نكرة» وتابع صاحب المغني كلامه فقال: ولا شرطية لأن المعنى حينئذ إن سررتني يوما بوصالك آمنتني ثلاثة أيام من صدودك، وهذا عكس المعنى المراد وإنما هي للاستفهام الذي يراد به النفي كقولك لمن ادعى أنه أكرمك: أي يوم أكرمتني؟ والمعنى ما سررتني يوما بوصالك إلا روعتني ثلاثة بصدودك، والجملة الأولى مستأنفة قدم ظرفها لأن له الصدر والثانية اما في موضع جر صفة لوصال على حذف العائد أي لم ترغني بعده كما حذف في قوله تعالى: «واتقوا يوما لا تجزي نفس» الآية، أو نصب حالا من فاعل سررتني أو مفعوله والمعنى أي يوم سررتني غير رائع لي أو غير مروع منك وهي حال مقدرة مثلها في «طبتم فادخلوها خالدين» أو لا محل لها على أن تكون معطوفة على الأولى بفاء محذوفة كما قيل في «وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا: أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله» وكذا في بقية الآية وفيه بعد، والمحققون في الآية على أن الجمل مستأنفة بتقدير: فما قالوا له؟ فما قال لهم؟ ومن روى ثلاثة بالرفع لم يجز عنده كون الحال من فاعل سررتني لخلو ترعني من ضمير ذي الحال. وقال أبو البقاء العكبري في شرحه لديوان المتنبي: «أي نصب وهو استفهام خرج مخرج النفي كما تقول لمن يدعي أنه أكرمك: أي يوم أكرمتني قط كما قال الهذلي: اذهب فأي فتى في الناس أحرزه ... من حتفه ظلم دعج ولا جبل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 312 ولا يجوز أن تكون «أي» شرطية تتعلق الجملة بالجملة تعلق الجزاء بالشرط، وإذا حملته على الشرط كان مناقضا للمعنى الذي أراده فكأنه يقول: إن سررتني يوما بوصالك أمنتني ثلاثة من صدودك وهذا عكس مراده. وهذا البيت من جملة أبيات غزلية استهل بها أبو الطيب قصيدة قالها في صباه ونورد هنا الأبيات الغزلية لنفاستها ونعرب بعض ما فيه فائدة منها: كم قتيل كما قتلت شهيد ... ببياض الطّلى وورد الخدود وعيون المها ولا كعيون ... فتكت بالمتيم المعمود درّ درّ الصّبا أأيام تجر .... ير ذيولي بدار أثلة عودي عمرك الله هل رأيت بدورا ... طلعت في براقع وعقود راميات بأسهم ريشها الهد .... ب تشقّ القلوب قبل الجلود يترشّفن في فمي رشفات ... هن فيه أحلى من التوحيد كلّ خمصانة أرقّ من الخم .... ر بقلب أقسى من الجلمود ذات فرع كأنما ضرب العن .... بر فيه بماء ورد وعود حالك كالغداف مثل دجو .... جيّ أثيث جعد بلا تجعيد تحمل المسك عن غدائرها الري .... ح وتفتّر عن شتيت برود جمعت بين جسم أحمد والسق .... م وبين الجفون والتسهيد أهل ما بي من الضنى بطل صي .... د بتصفيف طرّة وبجيد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 313 كل شيء من الدماء حرام ... شربه ما خلا دم العنقود فاسقنيها فدى لعينيك نفسي ... من غزال وطارفي وتليدي شيب رأسي وذلتي ونحو لي ... ودموعي على هواك شهودي أي يوم سررتني ... (البيت) إعراب بعض الكلمات: (كم) خبرية وتمييزها مجرور بالاضافة إليها أو بمن وقد تقدم القول فيها مطولا وهي هنا في محل رفع مبتدأ خبره ببياض، وكما قتلت نعت لمصدر محذوف، هذا ولهم في العشق حديث طويل، وخبره عند أرباب التصوف معقول قال الجنيد: «العشقة ألفة رحمانية وإلهام شوقي أوجبهما كرم الله على كل ذي روح لتحصل به اللذة العظمى التي لا يقدر على مثلها إلا بتلك الألفة وهي موجودة في الأنفس مقدرة مراتبها عند أربابها فما أحد إلا عاشق لأمر يستدل به على قدر طبقته من الخلق ولأجل ذلك كان أشرف المراتب في الدنيا مراتب الذين زهدوا فيها مع كونها معاينة ومالوا الى الآخرة مع كونها مغيبة عنهم» وقد وصف الله تعالى نفسه بالحب فقال: «يحبهم ويحبونه» وقد تقدم القول فيه مطولا، وأما العشق فلم يرد في لسان الشرع، وقال الفضيل بن عياض كلاما جميلا منه: «لو رزقني الله تعالى دعوة مجابة لدعوته تعالى أن يغفر للعشاق لأن حركاتهم اضطرارية لا اختيارية، وما أحسن قول أبي فراس الحمداني: وكم في الناس من حسن ولكن ... عليك لشقوتي وقع اختياري الجزء: 7 ¦ الصفحة: 314 وقال رجل من العرب لبعض بني عذرة: ما لأحدكم يموت عشقا في هوى امرأة ألفها وليس ذلك إلا ضعف نفس أو خور تجدونه، يا بني عذرة فقال: أما والله لو رأيتم الحواجب الزّجّ، فوق النواظر الدعج، تحتها المباسم الفلج، لاتخذتموها اللات والعزى» هذا وقد استند أبو الطيب في قوله «شهيد» الى حديث يروونه هو: «إن من عشق وعف وكتم فمات مات شهيدا» . (عمرك الله) : مصدر يقال: أطال الله عمرك وعمرك بالضم والفتح وهما وإن كانا مصدرين بمعنى إلا أنه استعمل أحدهما في القسم وهو المفتوح العين فإذا أدخلت عليه لام الابتداء رفعته بالابتداء والخبر محذوف والتقدير لعمر الله قسمي فإن لم تأت باللام نصبته نصب المصادر وقلت عمر الله ما فعلت كذا وعمرك الله ما فعلت كذا فكأنك قلت بتعميرك الله أي باقرارك له بالبقاء، ومنه قول عمر ابن أبي ربيعة: أيها المنكح الثّريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان يريد سألت الله أن يطيل عمرك وهو في قول أبي الطيب مصدر ومعناه: سألت الله أن يعمرك تعميرا. (أحلى من التوحيد) قال الواحدي: «كنّ يمصصن ريقي لحبهنّ إياي فكانت الرشفات في فمي أحلى من كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله وهذا إفراط وتجاوز حد» . قال ابن القطاع: ذهب كثير من الناس الى أن لفظة أفعل من كذا توجب تفضيل الأول على الثاني في جميع المواضع وذلك غلط والصحيح أن أفعل يجيء في كلام العرب على خمسة أوجه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 315 أحدها: أن يكون الأول من جنس الثاني ولم يظهر لأحدهما حكم يزيد على الأول به زيادة يقوم عليها دليل من قبل التفضيل فهذا يكون حقيقة في الفضل لا مجازا وذلك كقولك زيد أفضل من عمرو وهذا السيف أصرم من هذا. والثاني: أن يكون الأول من جنس الثاني أو قريبا منه ومحتملا للحاق به وقد سبق للثاني حكم أوجب له الزيادة بالدليل الواضح فهذا يكون على المقاربة في التشبيه لا التفضيل نحو قولك الأمير أكرم من حاتم وأشجع من عمرو، وبيت المتنبي من هذا القبيل أي يترشفن من فمي رشفات هنّ قريب من التوحيد. والثالث: أن يكون الأول من جنس الثاني أو قريبا منه والثاني دون الاول فهذا يكون على الإخبار المحض نحو قولك: الشمس أضوأ من القمر والأسد أجرأ من النمر. والرابع: أن يكون الأول من غير جنس الثاني وقد سبق للثاني حكم أوجد له الزيادة واشتهر الأول من جنسه بالفضيلة فيكون هذا على سبيل التشبيه المحض والغرض أن يحصل للأول بعض ما يحصل للثاني نحو قولك: زيد أشجع من الأسد وأمض من السيف. والخامس: أن يكون الأول من غير جنس الثاني والأول دون الثاني في الصفة جدا فيكون هذا على المبالغة المحضة نحو قامته أتمّ من الرمح ووجهه أضوأ من الشمس وجاء في الحديث: «ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر» ذهب من لا يعرف معاني الكلام أن أبا ذر أصدق العالم أجمع وليس الأمر كذلك وإنما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 316 نفى عليه الصلاة والسلام أن يكون أحد أعلى منه رتبة في الصدق ولو أراد ما ذهبوا إليه لقال: أبو ذر أصدق من كل من أظلت وأقلت. (كل خمصانة) : يجوز فيه الرفع على البدل من الضمير في يترشفن وعلى هذا يرفع أرق حملا على كل، ويجوز نصب كل حملا على النعت لقوله بدورا أو على البدلية منها والخمصانة الضامرة والذكر خمصان. (أهل ما بي من الضنى بطل) أهل مبتدأ خبره بطل أو خبر لمبتدأ محذوف والمعنى أنا أهل ما بي وحقيق به وأنا بطل صيد. (ما خلا دم العنقود) : إذا قلت جاء القوم ما خلا زيدا فليس إلا النصب لأن خلا يتحتم كونها فعلا لدخول ما المصدرية عليها، وإذا قلت جاء القوم خلا زيد كان الجر لا غير. [سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 32] فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 317 الإعراب: (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) الفاء عاطفة على محذوف يفهم من السياق والتقدير فتم العقد بينهما على الإجارة والنكاح ومارس المهمة التي أنيطت به على أحسن وجه وأكمله فلما. ولما حينية أو رابطة وجملة قضى موسى الأجل لا محل لها وسار عطف على قضى وبأهله جار ومجرور متعلقان بسار وجملة آنس لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومن جانب الطور متعلقان بآنس ونارا مفعول به ولك أن تجعل من جانب الطور حالا لأنه كان صفة لنارا وتقدم عليها. (قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً) لأهله متعلقان بقال وجملة امكثوا مقول القول وجملة إني تعليل للأمر بالمكث وإن واسمها وجملة آنست خبرها ونارا مفعول به. (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) جملة الرجاء حال أي راجيا ولعل واسمها وجملة آتيكم خبرها والكاف مفعول به ومنها حال لأنه كان صفة لخبر وبخبر متعلقان بآتيكم وأو حرف عطف وجذوة عطف على خبر وهي مثلثة الجيم: الشعلة من النار والقطعة من الحطب وجمعها جذا، قال ابن مقبل: باتت حواطب ليلى يلتمسن لها ... جزل الجذا غير خوار ولا ذعر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 318 ومن النار نعت لجذوة وجملة الرجاء حال أيضا ولعل واسمها وجملة تصطلون خبرها. (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) الفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق أي فسار نحوها فلما أتاها، وجملة نودي لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومن شاطىء الوادي متعلقان بنودي والأيمن صفة لشاطيء وفي البقعة حال من الشاطئ والمباركة صفة للبقعة ومن الشجرة بدل من قوله من شاطىء الوادي بدل الاشتمال لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ وقد تقدم نظيره في قوله: «لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم» أي أتاه النداء من شاطىء الوادي من قبل الشجرة. (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أن مفسرة لأن النداء قول والتقدير أي يا موسى، وأجاز أبو البقاء وغيره أن تكون مخففة من الثقيلة واسمها محذوف يفسره جملة النداء أي نودي بأنه أي الشأن، وإني إن واسمها وهي مكسورة الهمزة باتفاق القراء لأن النداء قول وأنا ضمير فصل أو مبتدأ والله خبر إن أو خبر أنا والجملة خبر إن ورب العالمين نعت لله أو بدل منه. (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) الواو عاطفة وأن مفسرة معطوفة على سابقتها وألق فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعصاك مفعول به، فلما الفاء عاطفة على مقدر يقتضيه السياق أي فألقاها فصارت ثعبانا ورآها فعل وفاعل مستتر ومفعول به وجملة تهتز حالية وجملة كأنها جان حال من فاعل تهتز وكأن واسمها وجان خبرها وجملة ولى لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وفاعل ولى مستتر تقديره هو ومدبرا حال والواو عاطفة وجملة لم يعقب عطف على ولى أي ولم يرجع. (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) أقبل فعل أمر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 319 وفاعله مستتر تقديره أنت ولا تخف لا ناهية وتخف فعل مضارع مجزوم بلا وإن واسمها ومن الآمنين خبرها والجملة تعليل للأمر بالإقبال والنهي عن الخوف. (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) اسلك يدك فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وفي جيبك متعلقان باسلك من سلك الشيء في الشيء أنفذه فيه، وتخرج فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب والفاعل مستتر تقديره هي وبيضاء حال ومن غير سوء متعلقان ببيضاء وقد تقدم تعليل ذلك في سورة طه فجدد به عهدا. (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) قال الزمخشري: «فإن قلت ما معنى قوله واضمم إليك جناحك من الرهب؟ قلت: فيه معنيان أحدهما أن موسى عليه السلام لما قلب العصا حية فزع واضطرب فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء فقيل له: إن اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقاءك بها ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران: اجتناب ما هو غضاضة عليك وإظهار معجزة أخرى. والمراد بالجناح اليد لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضد يده اليسرى فقد ضم جناحه إليه، والثاني أن يراد بضم جناحه اليه تجلده وضبطه نفسه وتشدّده عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب استعاره من فعل الطائر لأنه إذا خوّف نشر جناحيه وأرخاهما وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران. ومنه ما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أن كاتبا له كان يكتب بين يديه فانفلت منه فلتة ريح، فخجل وانكسر فقام وضرب بقلمه الأرض فقال له عمر خذ قلمك واضمم إليك جناحك وليفرخ روعك فإني ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 320 واضمم فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وإليك متعلقان باضمم وجناحك مفعول به ومن الرهب متعلقان باضمم بمثابة التعليل له أي من أجل الرهب وقيل بولي أي هرب من الفزع، وقيل بمدبرا، وقيل بمحذوف أي يسكن من الرهب، والرهب بفتح الراء والهاء وبفتح الراء واسكان الهاء. وسيأتي مزيد تفصيل في باب البلاغة. (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) الفاء الفصيحة أي إذا تأملت بذلك واستيقنت منه فذانك، وذانك اسم إشارة وهي تثنية ذاك ومن قرأ ذانّك بالتشديد جعلها تثنية ذلك بلام البعد ويكون التشديد عوضا عنها وبرهانان خبر ومن ربك صفة لبرهانان أي مرسلان من ربك والى فرعون متعلقان بمرسلان وملئه عطف على فرعون وجملة إنهم تعليل لإرسال البرهانين وان واسمها وجملة كانوا خبرها وكان واسمها وقوما خبرها وفاسقين صفة لقوما. البلاغة: تقدم معظم ما في هذه الآيات من فنون البلاغة من استعارة واحتراس، ونضيف الى ما تقدم ما أورده الامام الزمخشري بأسلوبه الساحر وهذا نصه: «فإن قلت قد جعل الجناح وهو اليد في أحد الموضعين مضموما وفي الآخر مضموما إليه وذلك قوله: «واضمم إليك جناحك» وفي طه «واضمم يدك الى جناحك» فما التوفيق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 321 بينهما؟ قلت: المراد الجناح المضموم هو اليد اليمنى والمضموم اليه هو اليد اليسرى وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما جناح» . وقال الزمخشري أيضا: «فإن قلت لم سميت الحجة برهانا؟ قلت لبياضها وإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء برهرهة بتكرير العين واللام معا» وهذا تعليل لطيف لا يحسن استنباطه غير هذا الامام ومعنى ذلك أن النون في البرهان زائدة، يقولون أبره الرجل إذا جاء بالبرهان ونظيره تسميتهم الحجة أيضا سلطانا من السليط وهو الزيت لإنارتها، وفي معاجم اللغة: وأبره أتى بالبرهان أو بالعجائب وغلب الناس وهذا هو قول الزمخشري والمحققين، وزعم صاحب القاموس في أحد قوليه أن النون أصلية قال وبرهن عليه أقام البرهان، والبرهان بالضم الحجة فتدبر. الفوائد: عصا موسى أيضا: قدمنا في سورة طه بحثا مستفيضا عن العصا ونضيف هنا ما يتعلق بعصا موسى خاصة، روى التاريخ أن شعيبا كانت عنده عصي الأنبياء فقال لموسى بالليل ادخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصي فأخذ عصا كان شعيب مفتونا بها وكان مكفوفا فضن بها فقال: غيرها فما وقع في يده إلا هي سبع مرات فعلم أن له شأنا، وقيل أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه فوقعت في يدها سبع مرات كما تقدم وفي كتب التفسير طرائف عن تلك العصا لا مجال لها في كتابنا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 322 [سورة القصص (28) : الآيات 33 الى 37] قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) اللغة: (رِدْءاً) : معينا، يقال ردأته: أعنته والرّدء اسم ما يعان به فعل بمعنى مفعول به كما أن الدفء اسم لما يدفأ به. قال سلامة ابن جندل: وردئي كل أبيض مشرفي ... شحيذ الحدّ عضب ذي فلول أي وردئي الذي أتوقى به المكاره كل سيف أبيض، وعبّر بكل لأن المراد بيان الجنس لا الشخص ومشرفي نسبة الى مشارف اليمن وهي قرى منها وقيل من الشام، وشحيذ الحد مرهفه من شحذ المدية أي حددها، والعضب: القاطع، والفلول: جمع فلّ وهو كسر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 323 في حد السيف وانثلام أي به فلول من قراع الكتائب. وقال النحاس: يقال ردأته وأردأته. (العضد) : بفتح العين وضم الضاد وبالضم وبالكسر: غليظ الذراع وهو من المرفق الى الكتف جمعه أعضاد وأعضد وهو قوام اليد وبشدته تشتد. قال طرفة، وقيل لأوس ابن حجر: أبني لبيني لستمو بيد ... إلا يدا ليست لها عضد وللعين مع الضاد فاء وعينا للكلمة خاصة القوة والصلابة والاصطلام تقول عضه يعضه عضا أمسكه بأسنانه ويقال أيضا عض به وعض عليه وعضه الزمان اشتد عليه وأعضّ السيف بساق البعير، قال لبيد: ولكنا نعض السيف منها ... بأسوق عافيات الشحم كوم وعضته الحرب، قال الأخطل: ضجوا من الحرب إذ عضت غواربهم ... وقيس عيلان من عاداتها الضجر وملك عضوض: غشوم، وعن أبي بكر: «سترون بعدي ملكا عضوضا وأمة شعاعا» وبئر عضوض: بعيدة القعر كأنها تعض الماتح بما تشق عليه، وعضبته بلساني شتمته، ورجل عضّاب: شتام، وعضبته عن حاجة: قطعته، ومالك تعضبني عما أنا فيه، والعضب بالسيف القاطع والرجل الحديد الكلام، وعضبر الكلب: استأسد والعضبارة: حجر الرحى وصخرة يقصر القصّار الثوب عليها، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 324 والمعضاد: سكين كبير للقصاب يقطع به العظام، وأعضل الأمر: اشتد وبه داء عضال، وقد أعيا الأطباء وأعضلهم، وتزوج ذو الإصبع فأتى حيه يسألهم مهرها فمنعوه فقال: واحدة أعضلكم أمرها ... فكيف لو درت على أربع وفلان عضلة من العضل: داهية من الدواهي وعضلت على فلان: ضيقت عليه أمره وحلت بينه وبين ما يريد، ومنه «ولا تعضلوهن» ورماه بالعضيهة أي الافك، وقال عليه السلام: «لا تعضية على أهل الميراث» أي لا يدخل عليهم الضرر بقسمة نحو السيف والخاتم. الإعراب: (قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) رب منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة كما تقدم وان واسمها وجملة قتلت خبرها ومنهم حال لأنه كان في الأصل صفة وتقدمت ونفسا مفعول به، فأخاف الفاء عاطفة وأخاف فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا وان وما في حيزها مفعول أخاف ويقتلون منصوب بأن وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل والنون للوقاء وياء المتكلم المحذوفة مفعول به. (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) الواو عاطفة وأخي مبتدأ وهارون بدل أو عطف بيان وهو مبتدأ وأفصح خبر هو والجملة خبر أخي ومني متعلقان بأفصح ولسانا تمييز، فأرسله الفاء الفصيحة وأرسله فعل أمر للدعاء وفاعله أنت والهاء مفعول به ومعي ظرف متعلق بأرسله وردءا حال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 325 وسيأتي معنى التصديق في باب البلاغة ويصدقني فعل مضارع مرفوع ولو جزم لجاز وقرئ به على أنه جواب للطلب والنون للوقاية والياء مفعول به والجملة مستأنفة أو صفة لردءا أو حال من مفعول أرسله وجملة إني أخاف تعليل للملتمس وان واسمها وجملة أخاف خبر ان وأن وما في حيزها مفعول أخاف. (قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) جملة سنشد مقول القول وفاعل نشد نحن وعضدك مفعول به وبأخيك جار ومجرور متعلقان بنشد ونجعل عطف على سنشد ولكما في محل نصب مفعول ثان لنجعل وسلطانا مفعول نجعل الأول أي غلبة وحجة واضحة وقد مر تفسيره في باب اللغة. (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) الفاء عاطفة ولا نافية ويصلون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وإليكما متعلقان بيصلون وبآياتنا يجوز فيه أن يتعلق بنحو ما تعلق به في تسع آيات أي اذهبا بآياتنا أو بنجعل أو بيصلون أو بسلطانا أي نسلطكما بآياتنا أو بمحذوف حال أو من لغو القسم ولا أرى موجبا للترجيح في هذه الأوجه فاختر منها ما ترى ترجيحه، وأنتما مبتدأ ومن اسم موصول معطوف على أنتما وجملة اتبعكما صلة من والغالبون خبر أنتما. (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) الفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق ولما ظرفية حينية أو رابطة وجاءهم موسى فعل ومفعول وفاعل وبآياتنا متعلقان بجاءهم أو بمحذوف حال وبينات حال أي واضحات الدلالة وجملة قالوا جواب لما وما نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وسحر خبر ومفترى صفة. (وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) الواو عاطفة وما نافية وسمعنا فعل وفاعل وبهذا متعلقان بسمعنا وفي آبائنا حال من هذا فهو متعلق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 326 بمحذوف تقديره كائنا والأولين نعت لآبائنا. (وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ) ربي مبتدأ وأعلم خبره وبمن متعلقان بأعلم وجملة جاء بالهدى صلة من ومن عنده حال. (وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) الواو عاطفة ومن عطف على من الأولى وتكون فعل مضارع ناقص وله خبرها المقدم وعاقبة الدار اسمها المؤخر، ويجوز أن يكون اسم تكون ضمير الشأن أو ضمير القصة وله خبر مقدم وعاقبة الدار مبتدأ مؤخر والجملة خبر تكون، ويجوز أن تكون تامة فتكون جملة له عاقبة الدار حالا وفاعل تكون ضمير يعود على من وان واسمها وجملة لا يفلح الظالمون خبرها. البلاغة: 1- الاسناد المجازي: في قوله «فأرسله معي ردءا يصدقني» إسناد مجازي، فقد أسند اليه التصديق لأنه السبب فيه، ومعنى الإسناد المجازي أن التصديق حقيقة في المصدق فاسناده حقيقة وليس في السبب تصديق لكن استعير له الاسناد لأنه لابس التصديق بالتسبب كما لابسه الفاعل بالمباشرة والدليل على ذلك قوله «إني أخاف أن يكذبون» فليس الغرض من قوله يصدقني أن يقول صدقت أو يقول للناس صدق أخي وانما طريق تصديقه أن يلخص الحق بلسانه، ويجادل الكفار ببيانه وأن يقرر الحجة ويورد البرهان مدعوما بالأرقام كما يفعل الرجل المنطيق ذو العارضة، ألا ترى الى قوله: «وأخي هارون هو أفصح مني لسانا» وفي هذا دليل على سمو البيان وشرفه وإنافته على الكلام العادي الذي لا يصيب المحز ولا يتغلغل الى أغوار النفوس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 327 2- المجاز المرسل: وفي قوله «سنشد عضدك بأخيك» مجاز مرسل على طريق إطلاق السبب وإرادة المسبب بمرتبتين تتبع إحداهما ثانيتهما فإن شدة العضد سبب مستلزم لشدة اليد وشدة اليد مستلزمة لقوة الشخص في المرتبة الثانية واختار الشهاب في حاشيته على البيضاوي أن يكون كناية تلويحية قال: «الشد التقوية فهو اما كناية تلويحية عن تقويته لأن اليد تشد بشد العضد والجملة تشد بشد اليد أو استعارة تمثيلية شبه حال موسى في تقويته بأخيه بحال اليد في تقويتها بالعضد» وليس ببعيد. [سورة القصص (28) : الآيات 38 الى 42] وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 328 اللغة: (أَطَّلِعُ) : الطلوع والاطلاع: الصعود، يقال طلع الجبل واطلع بمعنى وإن نفسك لطلعة إلى هذا الأمر وانها لتطّلع إليه أي تنازع. (الْمَقْبُوحِينَ) : المقبوح: المطرود وقبحه الله: طرده، وفي المصباح: «قبح الشيء قبحا فهو قبيح من باب قرب وهو خلاف حسن وقبحه الله يقبحه بفتحتين: نحاه الله عن الخير وفي التنزيل: «وهم من المقبوحين» أي المبعدين عن الفوز والتثقيل مبالغة وقبح عليه فعله تقبيحا» . وقال أبو زيد: قبح الله فلانا قبحا وقبوحا أبعده من كل خير، وقال أبو عمرو: قبحت وجهه بالتخفيف بمعنى قبّحت بالتشديد ومثله قول الشاعر: ألا قبح الله البراجم كلها ... وقبح يربوعا وقبح دارما الإعراب: (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) الواو عاطفة على مقدر يقتضيه السياق أي وقال فرعون بعد ما جمع السحرة لمعارضته وكان بينهم وبين موسى ما كان، ويا حرف نداء وأيها منادى نكرة مقصودة بني على الضم في محل نصب والهاء للتنبيه والملأ بدل وما نافية وعلمت فعل وفاعل ولكم حال ومن حرف جر زائد وإله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 329 مجرور لفظا بمن منصوب محلا لأنه مفعول به وغيري صفة لإله. (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) الفاء الفصيحة وأوقد فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ويا حرف نداء وهامان منادى مفرد علم وعلى الطين متعلقان بأوقد، فاجعل عطف على أوقد ولي في محل نصب مفعول ثان لا جعل وصرحا مفعول أول. (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) لعل واسمها وجملة أطلع خبرها والى إله موسى متعلقان بأطلع وإني الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وجملة أظنه خبر والهاء مفعول به أول ومن الكاذبين في موضع المفعول الثاني. (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) عطف على وقال فرعون وهو فاعل استكبر أو توكيد للفاعل لأن استتار الفاعل في الغائب جائز وجنوده عطف على هو وفي الأرض متعلقان باستكبر وبغير الحق حال من فاعل استكبر أي ملتبسين بغير الحق. (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) وظنوا عطف على استكبر وأن وما يليها سدت مسد مفعولي ظنوا وإلينا متعلقان بيرجعون ولا نافية وجملة لا يرجعون خبر أن. (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) فأخذناه عطف على ما تقدم وأخذناه فعل وفاعل ومفعول به وجنوده عطف على الهاء في أخذناه أو مفعول معه فنبذناهم عطف على فأخذناه وفي اليم متعلقان بنبذناهم، فانظر الفاء الفصيحة وانظر فعل أمر وكيف خبر مقدم لكان وعاقبة الظالمين اسمها المؤخر. (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) وجعلناهم فعل وفاعل ومفعول به أول وأئمة مفعول به ثان وجملة يدعون صفة لأئمة والى النار متعلقان بيدعون ويوم القيامة الواو عاطفة ويوم القيامة ظرف متعلق بينصرون ولا نافية وينصرون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 330 فعل مضارع مبني للمجهول ولك أن تجعل الواو حالية والجملة حال. (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) وأتبعناهم عطف على ما تقدم وفي هذه الدنيا حال والدنيا بدل من هذه ولعنة مفعول به ثان. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) الظرف متعلق بمحذوف دل عليه قوله المقبوحين كأنه قيل وقبحوا يوم القيامة وإنما قدرنا محذوفا لأن تعليقه بالمقبوحين وهو الظاهر يمنع منه وجود أل الموصولية، على أنهم قد اتسعوا في ذلك فعلقوه بمدخولها ولا مانع من ذلك ولك أن تعطفه على موضع في هذه الدنيا أي وأتبعناهم لعنة يوم القيامة وهم مبتدأ ومن المقبوحين خبره. البلاغة: في قوله «فأوقد لي يا هامان على الطين» إطناب بديع وذلك أنه لم يقل اطبخ لي الآجر وذلك ليتفادى ذكر كلمة الآجر لأن تركيبها- على سهولة لفظه- ليس فصيحا وذلك أمر يقرره الذوق وحده، ألا ترى إلى هذه الكلمة وقد وقعت في بيت للنابغة الذبياني من قصيدته الدالية التي أولها: من آل مية رائح أو مغتدي ... عجلان ذا زاد وغير مزود والبيت هو: أو دمية من مرمر مرفوعة ... بنيت بآجر يشاد بقرمد فلفظة آجر في البيت قلقة نابية لابتذالها، فإن شئت أن تعلم شيئا من سر الفصاحة التي تضمنها القرآن فانظر الى هذا الموضع فإنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 331 لما جيء فيه بذكر الآجر لم يذكره بلفظه ولا يلفظ القرمد أيضا لكنه ذكر في القرآن على وجه آخر فعبر عن الآجر بالوقود على الظين، ثم ان هذه العبارة أحسن مطابقة لفصاحة القرآن وعلو طبقته وأشبه بكلام الجبابرة وأمر هامان وهو وزيره ورديفه بالإيقاد على الطين منادى باسمه «يا» في وسط الكلام دليل التعظيم والتجبر وقد اشتملت هذه العبارة على الكثير من ألفاظ الجبابرة العتاة وذلك على الوجه التالي: 1- نادى وزيره بحرف النداء. 2- توسيط ندائه خلال الأمر وبناء الصرح. 3- رجاؤه الاطلاع الى الله. 4- الغباء الذي يلازم الجبابرة العتاة إذ يقعون في التناقض من حيث لا يشعرون فقد صرح قبل هنيهة بقوله «ما علمت لكم من إله غيري» فعبر عن نفي المعلوم بنفي العلم وأعلن تصميمه على الجحود ثم ما عتم أن أعلن رجاءه الاطلاع فهل كان مصمما على الجحود أم لم يكن. فصل في اختيار الألفاظ: هذا وقد عني علماء البيان باللفظة وسر اختيارها وخلاصة ما يقال فيه: أن حسن الألفاظ وقبحها أمر يعود الى الذوق وحده فما استحسنه كان حسنا وما استقبحه كان قبيحا، فالاستعمال ليس بدليل الحسن، وهذا طريق يضل فيه غير العارف بمسالكه ومن لم يعرف صناعة النظم والنثر وما يجده صاحبها من الكلفة في صوغ الألفاظ واختيارها فإنه معذور في أن يقول ما قال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 332 لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها والصاحب بن عباد الذي كان من المفتونين بأبي الطيب، والذي كان يستعمل أشعاره في كتاباته ويقتبس منها، عند ما حصلت بينه وبين أبي الطيب المتنبي الجفوة بسبب ترفع هذا عن مجاوبته فقد ذكروا أن الصاحب أبا القاسم طمع في زيارة المتنبي إياه بأصبهان وإجرائه مجرى مقصوديه من رؤساء الزمان وهو إذ ذاك شاب ولم يكن قد استوزر بعد، وقد كتب الصاحب اليه يلاطفه في استدعائه ويضمن له مشاطرته جميع ماله فلم يقم له المتنبي وزنا ولم يجبه الى كتابه ولم يحقق مراده، وقصد المتنبي بعد ذلك الى حضرة عضد الدولة بشيراز فأسفرت سفرته- كما يقول أبو منصور الثعالبي في يتيمة الدهر- عن بلوغ الأمنية، وورود مشروع المنية، وذلك أن المتنبي قتل عند مغادرته إياه محملا بالعطايا والهبات. قال الثعالبي: «واتخذه الصاحب غرضا يرشقه بسهام الوقيعة ويتتبع عليه سقطاته في شعره وهفواته، وينعى عليه سيئاته، وهو أعرف الناس بحسناته، وأحفظهم لها، وأكثرهم استعمالا إياها وتمثلا بها في محاضراته ومكاتباته» . وقد عمل الصاحب رسالة فيما أخذه على المتنبي، وإذا فرضنا أن الذي دعا الصاحب إلى عمل هذه الرسالة هو استياؤه من المتنبي حيث تعاظم عن مدحه فإنا نجده لم يتحامل عليه بالباطل في شيء منها ولم يظلمه بحرف واحد جاء فيها ولم يعبه إلا بما هو عيب ولم يستطع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 333 أن ينال منه إلا من طريق الألفاظ وحدها. ونورد هنا نماذج من هذه الرسالة. 1- أخذ الصاحب على المتنبي التفاصح بالألفاظ الشاذة فمن ذلك قوله: أيفطمه التوراب قبل فطامه ... ويأكله قبل البلوغ الى الأكل قال: «وما أرى كيف عشق التوراب حتى جعله عوذة أشعاره» والتوراب: التراب. ومعنى البيت: أيفطمه التوراب قبل أن تفطمه أمه ويأكله التراب قبل أن يبلغ سن الآكل. 2- وأخذ عليه لفظة ترنج بقوله: شديد البعد من شرب الشمول ... ترنج الهند أو طلع النخيل قال الصاحب ساخرا: «فلا أدري أاستهلال الأبيات أحسن؟ أم المعنى أبدع؟ أم قوله ترنج أفصح» ولقد أصاب الصاحب فاللغة الفصيحة هي أترج وأترجة ومنه الحديث مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كالأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، وحكى أبو زيد ترنج وترنجة، يقول أبو الطيب: ترنج الهند وطلع النخيل شديد بعدهما عن محلك من شرب الخمر وإن كان غيرك يتخذهما لذلك لأن هذه الحال غير مظنونة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 334 بك وانما استحضارك لهما ولما يشاكلهما من الرياحين استمتاعا بحسن ذلك. 3- وانتقد الصاحب جمع الآخاء في شعره إذ قال. كل آخائه كرام بني الدنيا ولكنه كريم الكرام قال: «ولو وقع الآخاء» في رائية الشمّاخ لاستثقل فكيف مع أبيات منها: قد سمعنا ما قلت في الأحلام ... وأنلناك بدرة في المنام والكلام إذا لم يتناسب زيّفه جهابذته، وبهرجه نقاده» . وعلى هذا النحو يمضي في كشف مساوئ المتنبي وكلها أمور ترجع الى اللفظة وحدها وسيرد معنا الكثير منها فلنكتف بما ذكرناه الآن منها. وعاب النقاد القوافي الملتاثة، فعابوا على أبي تمام قافيته الثائية في قصيدته التي مطلعها: قف بالطلول الدارسات علاثا ... أصخت حبال قطينهن رثاثا وعلاثا منادى مرخم وأصله يا علاثة. وعابوا على أبي الطيب قافيته الشينية في قصيدته التي مطلعها: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 335 مبيتي من دمشق على فراش ... حشاه لي بحرّ حشاي حاش وعابوا على ابن هانىء الأندلسي قافيته الخائية في قصيدته التي مطلعها: سرى وجناح الليل أقتم أفتخ ... حبيب ضجيع بالعبير مضمّخ والأقتم: المظلم، والأفتخ: المستطيل. وحسبنا ما تقدم فقد كدنا نخرج بالكتاب عن موضوعه. [سورة القصص (28) : الآيات 43 الى 46] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 336 اللغة: (بَصائِرَ) : البصيرة: العقل والفطنة والعبرة والشاهد والحجة يقال: جوارحه بصيرة عليه أي شهود وفراسة ذات بصيرة أي صادقة والجمع بصائر وقوله «بصائر للناس» أي أنوارا لقلوبهم تبصر بها الحقائق وتميز بها بين الحق والباطل بعد أن كانت عميا عن الفهم والإدراك بالكلية فالبصيرة نور القلب الذي به يستبصر كما أن البصر نور العين الذي به تبصر وسيأتي المزيد من معناها في باب الإعراب. (ثاوِياً) : مقيما، يقال ثوى يثوي من باب ضرب ثواء وثويا المكان وفيه وبه أقام وثوى الرجل مات قال عبيد بن الأبرص في مطلع معلقته: آذنتنا ببنيها أسماء ... رب ثاو يملّ منه الثواء الإعراب: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل وموسى مفعول به أول والكتاب مفعول به ثان ومن بعد متعلقان بآتينا وما مصدرية وأهلكنا فعل وفاعل والقرون مفعول به والأولى صفة. (بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) بصائر حال من الكتاب أو مفعول لأجله، وعلى الحالية لا بد من تقدير مضاف أي ذا بصائر، أو على المبالغة، وللناس نعت لبصائر وهدى ورحمة عطف على بصائر ولعلهم يتذكرون لعل واسمها وجملة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 337 يتذكرون خبرها. (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) الواو عاطفة أو استئنافية وما نافية وكنت كان واسمها وبجانب خبرها والغربي مضاف إليه أي وما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي فيكون من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، واختاره الزجاج، وقال الكلبي بجانب الوادي الغربي أي حيث ناجى موسى ربه، وإذ ظرف لما مضى متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الجار والمجرور وجملة قضينا مجرورة بإضافة الظرف إليها والأمر مفعول به والواو حرف عطف وما نافية وكنت كان واسمها ومن الشاهدين خبرها والأمر المقضي هو الوحي الذي أوحي إليه. (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) الواو عاطفة ولكن واسمها وجملة أنشأنا خبرها ونا فاعل وقرونا مفعول به فتطاول عطف على أنشأنا وعليهم متعلقان بتطاول والعمر فاعل. (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) الواو عاطفة وما نافية وكنت كان واسمها وثاويا خبرها وفي أهل مدين متعلقان بثاويا وجملة تتلو في موضع نصب خبر ثان لكنت أو حال من الضمير في ثاويا، ولكنا الواو حالية أو عاطفة ولكن واسمها وجملة كنا خبرها وكان واسمها وجملة مرسلين خبرها. (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) الواو عاطفة وما نافية وكنت كان واسمها وبجانب خبر كنت والطور مضاف اليه والظرف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر وهو بجانب والخطاب في الآيتين لمحمد صلى الله عليه وسلم أي وما كنت حاضرا المكان الذي أوحينا فيه الى موسى عليه السلام ولا كنت من الشاهدين الوحي ولا كنت بجانب الطور حين ناديناه ليأخذ التوراة، وجملة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 338 نادينا في محل جر بإضافة الظرف إليها، ولكن الواو عاطفة ولكن حرف استدراك مهمل لأنه خفف ورحمة مفعول لأجله أي أرسلناك وعلمناك هذا كله رحمة ومن ربك صفة لرحمة. (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لتنذر اللام للتعليل وتنذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بأرسلناك المحذوفة وإنما جر المفعول لأجله باللام لاختلاف الفاعل وقوما مفعول به ومن حرف جر زائد ونذير مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل ومن قبلك صفة لنذير ولعل واسمها وجملة يتذكرون خبرها. البلاغة: 1- جناس التحريف: في قوله: «ولكنا كنا مرسلين» جناس التحريف الذي يكون الضبط فيه فارقا بين الكلمتين أو بعضهما وقد مرت له نظائر وستمر نظائر كثيرة ومثاله في الشعر قول أبي العلاء المعري: والحسن يظهر في شيئين رونقه ... بيت من الشعر أو بيت من الشعر وله أيضا: لغيري زكاة من جمال فإن تكن ... زكاة جمال فاذكري ابن سبيل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 339 فالتجنيس في الأول بين «الشعر» و «الشعر» وفي الثاني بين «جمال» و «جمال» وما ألطف قول بهاء الدين زهير: زها ورد خديك لكنه ... بغير النواظر لم يقطف وقد زعموا أنه مضعف ... وما علموا أنه مضعفي 2- الاشارة: وقد تقدم بحث هذا الفن أكثر من مرة وتتناوله الآن بصورة مسهبة كما نتناول الرمز الذي شاع في العصر الحديث ليكون كتابنا جامعا لأفانين الأدب، أما الإشارة في الآية فهي: ما أشارت اليه كلمة «الأمر» من قوله «وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا الى موسى الأمر» فقد أشارت الى ابتداء نبوة موسى وخطاب الحق له وإعطائه الآيات البينات من إلقاء العصا لتصير ثعبانا وإخراج يده بيضاء وإرساله إلى فرعون، وسؤاله شدّ عضده بأخيه هارون، الى جميع ما جرى في ذلك المقام، وأمثال هذه المواضيع إذا تقصاها الباحث خرجت عن حد الحصر في الكتاب العزيز. الاشارة في الشعر: وقد قدمنا نماذج شعرية من هذا الفن، ويرى قدامة أن أفضل بيت في الإشارة قول زهير: وإني لو لقيتك فاجتمعنا ... لكان لكل مندية لقاء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 340 فقد أشار له بقبح ما كان يصنع لو لقيه. وأنشد الحاتمي عن علي بن هارون عن أبيه عن حماد عن أبيه اسحق بن ابراهيم الموصلي: جعلنا السيف بين الخدّ منه ... وبين سواد لمته عذارا فأشار الى هيئة الضربة التي أصابه بها دون ذكرها إشارة لطيفة دلت على كيفيتها وانما وصف أنهم ضربوا عنقه. ومن أنواع الاشارة التفخيم والإيماء فأما التفخيم فكقول الله تعالى «الحاقة ما الحاقة» وقول كعب بن سعد الغنوي: أخي ما أخي لا فاحش عند بيته ... ولا ورع عند اللقاء هيوب وأما الإيماء فكقوله تعالى «فغشيهم من اليم ما غشيهم» فأومأ الى ما غشيهم وترك التفسير وتقدم ذكره بعنوان الإبهام، وقال كثير صاحب عزة: تجافيت عني حين لا لي حيلة ... وخلفت ما خلفت بين الجوانح فقوله «خلفت ما خلفت» إيماء مليح. ومن أنواع الاشارة الرمز كقول أحدهم يصف امرأة قتل زوجها وسبيت: عقلت لها من زوجها عدد الحصى ... مع الصبح أو مع جنح كل أصيل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 341 يريد أني لم أعطها عقلا ولا قودا بزوجها إلا الهم الذي يدعوها الى عدّ الحصى، وأصل العقل أخذ الدية، وعدد الحصى مفعول عقلت وأصله من قول امرئ القيس: ظللت ردائي فوق رأسي قاعدا ... أعد الحصى ما تنقضي عبراتي يريد أنه لما غشي ديار الحي فلم يجد أحدا وضع رداءه فوق رأسه وجلس مفكرا يعد الحصى ودموعه لا ترقأ، ومن مليح الرمز قول أبي نواس يصف كئوسا ممزوجة فيها صور منقوشة وقد تقدم ذكر هذه الأبيات ومنها هنا: قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مها تدّريها بالقسيّ الفوارس فللخمر ما زرّت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس يقول: ان حدّ الخمر من صور هذه الفوارس التي في الكئوس الى التراقي والنحور وزيد الماء فيها مزاجا فانتهى الشراب الى فوق رءوسها، ويجوز أن يكون انتهاء الحباب الى ذلك الموضع لما مزجت فأزبدت، والأول أملح، وفائدته معرفة حدها صرفا من معرفة حدها ممزوجة وهذا عندهم مما سبق اليه أبو نواس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 342 الرمزية في الشعر الحديث: كان نشوء الرمزية رد فعلّ ضد الواقعية التي أسرفت في التأثر بالعلم والبعد عن الخيال الشعري وكما استطاعت الواقعية أن تزحزح الرومانتيكية عن مكانتها كان نشوء الرمزية إيذانا بتراجع الواقعية لتحل محلها تلك الحركة الجديدة التي احتلت الربع الأخير من القرن التاسع عشر. والشعر عند أصحاب هذا المذهب- كما يقول بعضهم- «نشوة وحلم يحملان الإنسان الى حيز اللاوعي حيث يلمح هناك من الحقائق ما لا يستطيع رؤياها عن طريق العقل والمنطق في العالم الواعي وهو لا يجد في العالم الباطني صورا تامة الوضوح يستطيع التعبير عنها تعبيرا صريحا ولكنه يعبر عنها بالرمز حتى يستطيع أن يوحي للقارىء بنفس الاحساس وينقله الى نفس الحالة» . ومن هنا جاء الغموض في الرمزية، ثم أمعنوا في الإبهام وغلفوا الشعر بغلاف من الضباب، فأسقطوا حروف التشبيه واعتمدوا على الكلمة في ايحائهم يقدمونها ويؤخرونها عن موضعها عن قصد حتى تزيد من اشعاعاتها الموحية، وكذلك طابقوا بين الحروف والألوان وبين الألوان والمعاني فاللون الأحمر يرمز للحياة الصاخبة والدم وشهوة الحبّ والأعاصير. والأخضر يمثل الكون والطبيعة والبحر، والأزرق يمثل الانطلاق الى ما وراء المادة الكونية حيث عالم الملائكة والموسيقى التي تبلغ الأعماق. واللون البنفسجي لون الرؤى الصوفية، والأصفر للحزن والتحفز نحو عالم أفضل، والأبيض يشف عن الهدوء والسكينة والطهر. ويعبر بودلير الشاعر الفرنسي الرمزي عن العلاقة بين الألوان والعطور والأصوات في قصيدته التي يتناول فيها وحدة الطبيعة فيقول: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 343 الطبيعة معبد ذو أعمدة حية تنبعث منه أحيانا كلمات غامضة فيمر الإنسان من خلال غابات الرموز تحدق فيه بنظرات ألفته. وتتمازج الأصداء الطويلة البعيدة الغموض في وحدة مظلمة عميقة رحبة كالليل وكالضياء وتتجاوب العطور والألوان والأصوات وحسبنا ما أوردناه، ومن أراد المزيد فليرجع الى ما كتب في هذا الصدد وهو كثير. 3- الاحتراس: وفي هذه الآية نفسها فن الاحتراس وقد تقدم ذكره كثيرا، ولعل الاحتراس الذي وقع في هذه الآية أعجب احتراس وقع في القرآن فالخطاب كما قلنا موجه الى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما نفى تبارك وتعالى عن رسوله الكريم كونه بالمكان الذي قضى لكليمه موسى الأمر عرّف المكان بالجانب الغربي ولم يصفه باليمين كما قال في الإخبار عن موسى عليه السلام: «وناديناه من جانب الطور الأيمن» أدبا منه سبحانه مع نبيه أن ينفي عنه كونه في الجانب الأيمن ووصف سبحانه الجانب هاهنا باليمين إذ أخبر أنه نادى منه كليمه موسى تشريفا له. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 344 هذا ولا بد من الإلماع الى أن قوله «بجانب الغربي» أصله أن يكون صفة أي بالجانب الغربي ولكن حول عن ذلك وجعله صفة لمحذوف ضرورة امتناع إضافة الموصوف الى الصفة إذ كانت هي الموصوف في المعنى وإضافة الشيء الى نفسه خطأ والتقدير جانب المكان الغربي. [سورة القصص (28) : الآيات 47 الى 50] وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) الإعراب: (وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) الواو عاطفة ولولا حرف امتناع لوجود وأن وما في حيزها مبتدأ خبره محذوف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 345 كما هي القاعدة المشهورة أي ولولا إصابتهم المصيبة لهم وجوابها محذوف تقديره لما أرسلنا رسولا ومصيبة فاعل وبما متعلقان بتصيبهم وجملة قدمت صلة. (فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الفاء عاطفة ويقولوا عطف على أن تصيبهم وربنا منادى مضاف ولولا تحضيضية بمعنى هلا وأرسلت فعل وفاعل وإلينا متعلقان بأرسلت ورسولا مفعول به، فنتبع الفاء فاء السببية ونتبع فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية وفاعل نتبع مستتر تقديره نحن وآياتك مفعول به ونكون عطف على نتبع واسم نكون ضمير مستتر تقديره نحن ومن المؤمنين خبره. هذا وقد شغلت هذه الآية المفسرين والمعربين قال الزمخشري: «فإن قلت كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول لدخول حرف الامتناع عليها دونه؟ قلت: القول هو المقصود بأن يكون سببا لإرسال الرسل، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال بواسطة القول فأدخلت عليها لولا، وجيء بالقول معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السببية ويئول معناه الى قولك ولولا قولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة لما أرسلنا ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة وهم أنهم لو لم يعاقبوا مثلا على كفرهم وقد عاينوا ما الجئوا به الى العلم اليقين لم يقولوا: «لولا أرسلت إلينا رسولا» وانما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الايمان بخالقهم، وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسوخه فيهم ما لا يخفى» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 346 والسر في جعل سبب السبب سبا وعطف السبب الأصلي عليه أمران: أحدهما أن مزيد العناية يوجب التقديم وهذا هو السر الذي أبداه سيبويه والثاني أن في هذا النظم تنبيها على سببية كل واحد منهما، أما الاول فلاقترانه بحرف التعليل وهو أن وأما الثاني فلاقترانه بفاء السبب، وكان بعض النحاة يورد إشكالا بهذه الآية فيقول «لولا» عند أهل الفن تدل على امتناع جوابها لوجو ما بعدها وحينئذ يكون الواقع بعدها في الآية موجودا وهو عقوبة هؤلاء المذكورين بتقدير عدم بعثة الرسل وجوابها المحذوف غير واقع وهو عدم الإرسال لأنه ممتنع بالأولى. ومتى لم يقع عدم الإرسال كان الإرسال واقعا ضرورة فيشكل الواقع بعدها إذ لا ظلم قبل بعثة الرسل فلا تتصور العقوبة بتقدير عدم البعثة وذلك لأنها واقعة جزاء على مخالفة أحكام الشرع فإن لم يكن شرع فلا مخالفة ولا عقوبة، ويشكل الجواب على النحاة لأنه يلزم أن لا يكون واقعا وهو عدم بعثة الرسل لكن الواقع بعدها يقتضي وقوعه والتحرير في معنى لولا أنها تدل على أن ما بعدها مانع من جوابها عكس «لو» فإن معناها لزوم جوابها لما بعدها ثم المانع قد يكون موجودا وقد يكون مفروضا والآية من قبيل فرض وجود المانع وكذلك اللزوم في «لو» قد يكون الشيء الواحد لازما لشيئين فلا يلزم نفيه من نفي أحد ملزوميه وعلى هذا التحرير يزول الاشكال. (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وجاءهم الحق فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ومن عندنا متعلقان بجاءهم وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب لما ولولا حرف تحضيض أي هلا وأوتي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 347 فعل ماض ونائب الفاعل مستتر تقديره هو أي محمد صلى الله عليه وسلم ومثل مفعول به ثان وما اسم موصول مضاف لمثل وجملة أوتي صلة وموسى نائب فاعل. (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التقريري والواو عاطفة على مقدر يقتضيه السياق ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكفروا فعل مضارع مجزوم بلم وبما متعلقان بيكفروا وجملة أوتي موسى صلة ومن قبل متعلقان بأ ولم يكفروا أو بأوتي فيكون المعنى أن أهل مكة الذين قالوا هذه المقالة كما كفروا بمحمد وبالقرآن فقد كفروا بموسى وبالتوراة. (قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) فجملة قالوا مفسرة وسحران خبر لمبتدأ محذوف أي هما ساحران وجملة تظاهرا نعت لسحران أي تعاونا بتصديق أحدهما الآخر وقالوا عطف على قالوا وإنا ان واسمها وبكل متعلقان بكافرون وكافرون خبر انا والجملة مقول القول. (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والفاء الفصيحة وأتوا فعل أمر وبكتاب متعلقان بفأتوا ومن عند الله متعلقان بمحذوف صفة وهو مبتدأ وأهدى خبر ومنهما متعلقان بأهدى والجملة صفة ثانية لكتاب وأتبعه فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر والفاعل مستتر تقديره أنا والهاء مفعول به وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وصادقين خبرها وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فأتوا والأمر هنا للتعجيز المشوب بالتوبيخ والتقريع. (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) الفاء عاطفة وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم ويستجيبوا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل ولك متعلقان بيستجيبوا والفاء رابطة لجواب الشرط واعلم فعل أمر وأنما كافة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 348 ومكفوفة لإفادة الحصر ويتبعون فعل مضارع مرفوع وفاعل وأهواءهم مفعول وإنما وما في حيزها سدت مسد مفعولي أعلم. (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الواو عاطفة ومن اسم استفهام معناه النفي والإنكار في محل رفع مبتدأ وأضل خبره وممن متعلقان بأضل وجملة اتبع هواه صلة من وبغير هدى حال ومن الله صفة لهدى وجملة إن الله تعليل لما تقدم وان واسمها وجملة لا يهدي القوم الظالمين خبرها. الفوائد: نظرا لانغلاق التراكيب الواردة في الآية المتقدمة وهي قوله تعالى «ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين» . وسمو إعجازه نورد بالإضافة الى ما قدمناه في الاعراب ما قاله الشهاب الخفاجي في حاشيته الممتعة على البيضاوي ففيه إيضاح لما أوضحناه، قال ما ملخصه: ان الآية تقتضي وجود إصابتهم ووجود قولهم المذكور، والواقع انهم لم يصابوا ولم يقولوا القول المذكور فحينئذ يشكل هذا الترتيب من حيث أن لولا حرف امتناع لوجود فيصير المعنى أرسلناك إليهم لنزول المصيبة بهم ووجود قولهم المذكور وهذا غير صحيح، وتكلف بعضهم الجواب بأن في الكلام حذف المضاف والتقدير ولولا كراهة أن تصيبهم إلخ، فالمحقق في الموجود انما هو كراهة مصيبتهم المترتب عليها قولهم المذكور فيكون المعنى أرسلناك إليهم لأجل كراهة أن يصابوا فيقولوا ما ذكر وقيل إن التحقيق أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 349 لولا إنما تدل على أن ما بعدها مانع من جوابها والمانع قد يكون موجودا وقد يكون مفروضا وما هنا من الثاني فلا إشكال فيه وان لم يقدر المضاف اه. [سورة القصص (28) : الآيات 51 الى 56] وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) الإعراب: (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) الواو استئنافية ولك أن تجعلها عاطفة ليتساوق الكلام واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ووصّلنا فعل ماض مبني على السكون ونا ضمير متصل في محل رفع فاعل ولهم متعلقان بوصلنا والقول مفعول به أي اتبعنا بعضه بعضا في الانزال ليتصل التذكير، ولعل واسمها وجملة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 350 يتذكرون خبر لعلّ أي جعلناه متنوعا يشتمل على الوعد والوعيد والنصائح والمواعظ والقصص لعلهم يتعظون به. (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) الذين اسم موصول مبتدأ وجملة آتيناهم صلة وآتيناهم فعل وفاعل ومفعول به أول والكتاب مفعول به ثان ومن قبله حال وهم مبتدأ ثان وبه جار ومجرور متعلقان بيؤمنون وجملة يؤمنون خبر «هم» وجملة هم به يؤمنون خبر الذين وهم أهل الكتاب الذين آمنوا وكان عددهم أربعين رجلا وقيل ثمانين. (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة يتلى في محل جر بإضافة الظرف إليها ويتلى فعل مضارع مبني للمجهول وعليهم متعلقان بيتلى ونائب الفاعل مستتر تقديره هو يعود على القرآن وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة آمنا مقول القول وبه متعلقان بآمنا. (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) كلام مستأنف مسوق لبيان وتعليل ما استدعى إيمانهم به وان واسمها والحق خبر إن ومن ربنا حال وإنا كنا إلخ كلام مستأنف أيضا مسوق لبيان أن إيمانهم ليس بدعا ولا مستحدثا وانما هو أمر متقادم العهد وإن واسمها وجملة كنا خبرها ومن قبله حال ومسلمين خبر كنا لأن الإسلام صفة كل مؤمن مصدق للوحي. (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) أولئك مبتدأ وجملة يؤتون خبر ويؤتون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وأجرهم مفعول به ثان ومرتين نصب على المصدرية أو الظرفية وبما صبروا متعلقان بيؤتون والباء حرف جر للسببية وما مصدرية اي بسبب صبرهم. (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 351 ويدرءون عطف على يؤتون أي يدفعون والواو فاعل وبالحسنة متعلقان بيدرءون والسيئة مفعول به ومما متعلقان بينفقون وجملة رزقناهم صلة وينفقون عطف على يدرءون. (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة سمعوا مجرورة باضافة الظرف إليها واللغو مفعول به وجملة أعرضوا لا محل لها وعنه متعلقان بأعرضوا، وقالوا عطف على أعرضوا ولنا خبر مقدم وأعمالنا مبتدأ مؤخر ولكم أعمالكم عطف على ما تقدم. (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) سلام مبتدأ وساغ الابتداء به لأن فيه معنى الدعاء وعليكم خبر والسلام هنا سلام توديع ومتاركة لا سلام تحية ومواصلة وجملة لا نبتغي الجاهلين حالية ولا نافية ونبتغي فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره نحن والجاهلين مفعول به. (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) كلام مستأنف مسوق لبيان حرصه على إيمان عمه أبي طالب وان واسمها وجملة لا تهدي خبرها والفاعل مستتر تقديره أنت ومن مفعول به وجملة أحببت صلة ولكن الله الواو عاطفة أو حالية ولكن واسمها وجملة يهدي خبرها ومن يشاء مفعول به وهو مبتدأ وأعلم خبر وبالمهتدين متعلقان بأعلم. الفوائد: قال الزجاج: أجمع المسلمون على أن هذه الآية: «انك لا تهدي إلخ» نزلت في أبي طالب لما احتضرته الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج بها لك عند الله، فقال: يا ابن أخي قد علمت انك لصادق ولكن أكره الجزء: 7 ¦ الصفحة: 352 أن يقال جزع عند الموت ولولا أن يكون غليك وعلى بني أبيك غضاضة لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدة وجدك ونصيحتك وأنشد: لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف. وهناك روايات أخرى مختلفة لا تخرج عن هذه الفحوى. [سورة القصص (28) : الآيات 57 الى 60] وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 353 الإعراب: (وَقالُوا: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) الواو حرف عطف والجملة معطوفة على ما تقدم فهي بمثابة تفريع على قصة أبي طالب، قالوا: إن الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إنا نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب أن يتخطفونا من أرضنا. وإن شرطية ونتبع فعل الشرط مجزوم وفاعله مستتر تقديره نحن والهدى مفعول به ومعك ظرف متعلق بمحذوف حال ونتخطف جواب الشرط وهو فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره نحن ومن أرضنا متعلقان بنتخطف. (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على محذوف يقتضيه السياق وبه يرد عليهم دعواهم التي لا أساس لها من الصحة بأنه مكن لهم في الحرم الذي آمنه بحرمة البيت وآمن قطانه بحرمته وسيأتي المزيد من هذا المعنى في باب البلاغة. ولم حرف نفي وقلب وجزم ونمكن فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر تقديره نحن ولهم متعلقان بنمكن وحرما مفعول به وآمنا صفة وجملة يجبى صفة ثانية لحرما ومعنى يجبى اليه يساق ويحمل اليه ويجمع لازدهاره وإليه متعلقان بيجبى وثمرات كل شيء نائب فاعل ورزقا مفعول مطلق لقوله يجبى لأن معنى الجباية والرزق واحد والمراد تساق اليه الميرة وأعربه آخرون مفعولا لأجله وأجازه الزمخشري وفي النفس منه شيء ويجوز أن يكون رزقا مصدرا بمعنى المفعول فينتصب على الحال من الثمرات لتخصصها بالإضافة ومن لدنا صفة لرزقا والواو حالية أو عاطفة ولكن أكثرهم لكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 354 (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) يجوز أن يكون كلاما مستأنفا مسوقا لتخويف أهله من سوء مغبة من كانوا في نعمة فغمطوها وقابلوها بالبطر، والبطر بفتحتين النشاط والأشر وقلة احتمال النعمة والدهش والحيرة والطغيان بالنعمة وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهة، قال في القاموس: «وفعل الكل كفرح وبطر الحق أن يتكبر عنه فلا يقبله» ويجوز أن يكون معطوفا على ما قبله ليتساوق الكلام. وكم خبرية مفعول مقدم لأهلكنا ومن قرية تمييز كم الخبرية المجرور بمن وقد تقدم تقرير ذلك فجدد به عهدا وجملة بطرت صفة لقرية ومعيشتها منصوب بنزع الخافض على حد قوله: «واختار موسى قومه سبعين رجلا» أي في معيشتها وهذا أقرب ما قيل فيه وأقله تكلفا وقال الزجاج هو نصب على الظرفية الزمانية أي أيام معيشتها ويجوز تضمين بطرت معنى خسرت فتكون معيشتها مفعولا به واقتصر عليه أبو البقاء. (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) فتلك الفاء عاطفة وتلك مبتدأ ومساكنهم خبر وجملة لم تسكن يجوز أن تكون خبرا ثانيا ويجوز أن تكون حالا والعامل فيها معنى الاشارة وإلا أداة حصر وقليلا ظرف أي إلا وقتا قليلا فالاستثناء من الظرف أو مفعول مطلق أي إلا سكنى قليلا فالاستثناء من المصدر ولا مرجح لأحد الوجهين، والواو عاطفة أو حالية وكنا كان واسمها ونحن ضمير فصل أو عماد والوارثين خبر كنا وسيأتي مزيد من هذا المعنى في باب البلاغة. (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) كلام مستأنف مسوق لبيان عادة الله تعالى في عباده، وما نافية وكان ربك كان واسمها ومهلك القرى خبرها وحتى حرف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 355 تعليل وجر ويبعث فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد حتى والفاعل مستتر يعود على الله وفي أمها متعلقان بيبعث ورسولا مفعول به وجملة يتلو صفة لرسولا وعليهم متعلقان بيتلو وآياتنا مفعول به والمراد بأمها أعظمها والتعميم هنا خير من تخصيصها بمكة. (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) الواو عاطفة وما نافية وكان واسمها ومهلكي القرى خبرها وإلا أداة حصر والواو حالية وأهلها مبتدأ وظالمون خبر والجملة حالية فالاستثناء من أعم الأحوال أي وما كنا نهلكهم في حال من الأحوال إلا في حال كونهم ظالمين. (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) الواو عاطفة أو استئنافية وما اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وأوتيتم فعل ماض مبني للمجهول وهو في محل جزم فعل الشرط والتاء نائب فاعل ومن شيء حال مبينة لمن والفاء رابطة للجواب ومتاع خبر لمبتدأ محذوف والحياة مضاف اليه والدنيا صفة وزينتها عطف على متاع والجملة في محل جزم جواب الشرط والفعل والجواب خبر ما. (وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ) الواو حالية وما اسم موصول مبتدأ وعند الله ظرف متعلق بمحذوف صلة للموصول وخير خبر وأبقى عطف على خير والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق ولا نافية وتعقلون فعل مضارع مرفوع وفاعل. البلاغة: الإسناد المجازي: في قوله «حرما آمنا» إسناد مجازي لأن المراد أهل الحرم وقد تقدم بحثه كثيرا ومثله «وكم أهلكنا من قرية» المراد أهلها بدليل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 356 قوله فيما بعد «فتلك مساكنهم لم تسكن إلا قليلا» أي لقد زهوا بها حينا من الدهر وغرتهم الأماني، وأبطرتهم النعمة، وكان ديدنهم ديدن المترفين الرافلين في حلل السعادة، فما عتموا أن فنوا وطوتهم الأيام وبقيت آثارهم شواخص، أطلالا باهتة، ورسوما محيلة، تهزأ بهم، وتدل الآخرين على أفن رأيهم وطيش أحلامهم. وقد رمق المتنبي سماء هذه البلاغة العالية في قصيدته الخالدة التي رثى بها أبا شجاع فاتكا فقال بيته المشهور: تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع يريد أن الآثار، وهي البنيان، تبقى بعد أربابها لتدل على تمكنهم وقوتهم وسطوتهم ثم ينالها بعدهم ما نالهم من الفناء وأن الخراب سيدركها فتذهب الآثار كما ذهب المؤثرون لها فهذه هي عادة الدنيا بأهلها، وهذا هو المعهود من تصاريفها، ويحسن بنا أن نورد لك نخبة مختارة من هذه القصيدة جريا على شرطنا في هذا الكتاب: الحزن يقلق والتجمل يردع ... والدمع بينهما عصيّ طيّع يتنازعان دموع عيد مسهّد ... هذا يجيء بها وهذا يرجع النوم بعد أبي شجاع نافر ... والليل معي والكواكب ظلّع قال ابن جني «لو كان الليل والكواكب مما يؤثر فيهما حزن لأثر فيهما موته» وقال الخطيب: «إنما أراد أن الليل طويل لفقده فالليل معي والكواكب ظلع ما تسير» وقال الواحدي «النوم بعده لا يألف العين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 357 فلا تنام حزنا عليه والليل من طوله كأنه قد أعيا عن المشي فانقطع والكواكب كأنها ظالعة لا تقدر أن تقطع الفلك فتغرب، كل هذا يصف به ليله بعده من الحزن عليه» وقال الواحدي: وتوفي أبو شجاع فاتك بمصر ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال سنة 350 هـ. ومضى أبو الطيب يقول: إني لأجبن عن فراق أحبتي ... وتحس نفسي بالحمام فأشجع ويزيدني غضب الأعادي قسوة ... ويلم بي عتب الصديق فأجزع تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عما مضى منها وما يتوقّع ولمن يغالط في الحقائق نفسه ... ويسومها طلب المحال فتطمع أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟ تتخلف الآثار البيت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 358 [سورة القصص (28) : الآيات 61 الى 64] أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) الإعراب: (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة لترتيب إنكار التساوي بين أهل الدنيا وأهل الآخرة على ما قبلها من ظهور التفاوت بين الجانبين ومن اسم موصول مبتدأ وجملة وعدناه صلة وكمن خبرها ووعدناه فعل وفاعل ومفعول به ووعدا مفعول مطلق وحسنا صفة والفاء عاطفة وهو مبتدأ ولاقيه خبر والكاف اسم بمعنى مثل خبر أو جار ومجرور في موضع الخبر وجملة متعناه صلة من ومتاع الحياة الدنيا مفعول مطلق وثم حرف عطف وهو مبتدأ ويوم القيامة ظرف متعلق بالمحضرين ومن المحضرين خبر هو وللزمخشري كلام مفيد في تحليل هذه الآية من الناحية الاعرابية نورده فيما يلي: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 359 «فإن قلت فسر لي الفاءين وثم وأخبرني عن مواقعها قلت: قد ذكر في الآية التي قبلها متاع الحياة الدنيا وما عند الله وتفاوتهما ثم عقبه بقوله: أفمن وعدناه على معنى أبعد، هذا التفاوت الظاهر يسوّي بين أبناء الآخرة وأبناء الدنيا فهذا معنى الفاء الأولى وبيان موقعها وأما الثانية فللتسبيب لأن لقاء الموعود مسبّب عن الوعد الذي هو الضمان في الخير وأما ثم فلتراخي حال الإحضار عن حال التمتيع لا لتراخي وقته عن وقته» . (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) الظرف متعلق بفعل محذوف تقديره اذكر والكلام مستأنف وجملة يناديهم مجرورة بإضافة الظرف إليها والفاعل مستتر تقديره هو يعود على الله والهاء مفعول به، والقصد من هذا النداء التوبيخ والتقريع، فيقول عطف على يناديهم وأين اسم استفهام في محل نصب على الظرفية المكانية وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم وشركائي مبتدأ مؤخر والذين صفة لشركائي وجملة كنتم صلة الذين وكان واسمها وجملة تزعمون خبرها ومفعولا تزعمون محذوفان تقديرهما تزعمونهم شركائي، وسيأتي في باب الفوائد ذكر حذف مفعولي ظننت وأخواتها، وجملة أين شركائي مقول القول. (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) كلام مستأنف مسوق للإجابة عن سؤال مقدر كأنه قيل فماذا صدر عنهم حينئذ. وقال الذين فعل وفاعل وجملة حق عليهم صلة والقول فاعل وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 360 وهؤلا مبتدأ والذين صفة لهؤلاء وجملة أغوينا صلة وجملة أغويناهم خبر هؤلاء وكما أغوينا نعت لمصدر محذوف أي أغويناهم فغووا غيا مثل ما غوينا وقد جربنا في هذا الإعراب على ما أعربه الزمخشري وأبو حيان. (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) الجملة مفسرة مقررة لما قبلها وتبرأنا فعل ماض وفاعل وإليك متعلقان بتبرأنا وما نافية وكان واسمها وإيانا مفعول مقدم ليعبدون وجملة يعبدون خبر كانوا، وأجاز أبو البقاء أن تكون ما مصدرية والمصدر منصوب بنزع الخافض أي مما كانوا يعبدون أي من عبادتهم إيانا ولا أرى داعيا لهذا التكلف لأن المعنى ما كانوا يعبدوننا وانما كانوا يعبدون أهواءهم ويسترسلون مع شهواتهم. (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) الواو عاطفة وقيل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هذا القول تهكما بهم وتبكيتا لهم وادعوا فعل أمر وفاعله وشركاءكم مفعول به فدعوهم الفاء عاطفة ودعوهم فعل ماض وفاعل ومفعول به، والفاء عاطفة ويستجيبوا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل ولهم متعلقان بيستجيبوا. (وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) الواو عاطفة ورأوا العذاب فعل ماض وفاعل ومفعول به ولو شرطية وان وما بعدها فاعل لفعل محذوف أي لو ثبت كونهم مهتدين في الدنيا لما رأوا العذاب في الآخرة وان واسمها وجملة كانوا خبرها وكان واسمها وجملة يهتدون خبرها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 361 الفوائد: يجوز بإجماع النحاة حذف مفعولي ظننت وأخواتها من أفعال القلوب اختصارا لدليل يدل عليهما نحو «أين شركائي الذين كنتم تزعمون» وقول الكميت يمدح آل البيت: بأي كتاب أم بأية سنة ... ترى حبهم عارا عليّ وتحسب فحذف في الآية مفعولا تزعمون وفي البيت مفعولا تحسب لدليل ما قبلهما عليهما أي تزعمونهم شركاء وتحسب حبهم عارا علي، وأما حذف أحدهما اختصارا لدليل فقد أجازه الجمهور كقوله تعالى «ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم» تقديره ولا يحسبن الذين يبخلون ما يبخلون به هو خيرا لهم فحذف المفعول الأول للدلالة عليه، وكقول عنترة: ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم تقديره فلا تظني غيره مني واقعا، فحذف المفعول الثاني، والتاء في نزلت مكسورة والحاء والراء من المحب المكرم مفتوحتان. وفي الباب الخامس من المغني بيان انه قد يظن الشيء من باب الحذف وليس منه: جرت عادة النحويين أن يقولوا: يحذف المفعول اختصارا واقتصارا ويريدون بالاختصار الحذف لدليل وبالاقتصار الحذف لغير دليل ويمثلونه ينحو «كلوا واشربوا» أي أوقعوا هذين الفعلين، وقول العرب فيما يتعدى الى اثنين: من يسمع يخل، أي تكن منه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 362 خيلة. والتحقيق أن يقال إنه تارة يتعلق الغرض بالاعلام بمجرد وقوع الفعل من غير تعيين من أوقعه أو من أوقع عليه فيجاء بمصدره مسندا الى فعل كون عام، فيقال حصل حريق أو نهب. وتارة يتعلق بالاعلام بمجرد إيقاع الفاعل للفعل فيقتصر عليهما ولا يذكر المفعول ولا ينوى إذ المنويّ كالثابت ولا يسمى محذوفا لأن الفعل ينزل لهذا القصد بمنزلة ما لا مفعول له، ومنه: «ربي الذي يحيي ويميت، هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، كلوا واشربوا ولا تسرفوا، وإذا رأيت ثم» إذ المعنى ربي الذي يفعل الإحياء والإماتة، وهل يستوي من يتصف بالعلم ومن ينتفي عنه العلم، وأوقعوا الأكل والشرب وذروا الإسراف، وإذا حصلت منك رؤية هنالك، ومنه على الأصح: «ولما ورد ماء مدين» الآية، ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام إنما رحمهما إذ كانتا على صفة الذياد وقومهما على السقي لا لكون مذودهما غنما ومسقيهم إبلا، وكذلك المقصود من قولهما «لا نسقي» لا المسقي، ومن لم يتأمل قدّر: يسقون إبلهم وتذودان غنمهما ولا نسقي غنمنا. وتارة يقصد إسناد الفعل الى فاعله وتعليقه بمفعوله فيذكران نحو «لا تأكلوا الربا، ولا تقربوا الزنا» وقولك ما أحسن زيدا، وهذا النوع إذا لم يذكر مفعوله قيل محذوف نحو «ما ودعك ربك وما قلى» وقد يكون في اللفظ ما يستدعيه فيحصل الجزم بوجوب تقديره نحو: «أهذا الذي بعث الله رسولا، وكل وعد الله الحسنى» و: حميت حمى تهامة بعد نجد ... وما شيء حميت بمستباح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 363 [سورة القصص (28) : الآيات 65 الى 70] وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) الإعراب: (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ: ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ؟) كلام معطوف على ما قبله فقد سئلوا أولا عن إشراكهم وسئلوا ثانيا عن جوابهم للرسل الذين نهوهم عن ذلك، فيقول عطف على يناديهم وماذا اسم استفهام بكاملها في محل نصب لمفعول مطلق لا مفعول به لأن أجاب لا يتعدى الى الثاني بنفسه بل بالباء، وإسقاط الجار ليس بقياس والمعنى أجبتموهم أي إجابة، والمرسلين مفعول به لأجبتم. (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) الفاء عاطفة وعميت عليهم الأنباء فعل وفاعل وسيأتي بحث إسناد العمى للأنباء في باب البلاغة، ويومئذ ظرف أضيف الى مثله والتنوين في يومئذ عوض عن جملة، أي: يوم، إذ نودوا وقيل لهم ماذا أجبتم المرسلين، فهم الفاء عاطفة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 364 وهم مبتدأ وجملة لا يتساءلون خبر. (فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) كلام مستأنف مسوق لبيان حال المؤمنين بعد بيان حال الكافرين وأما حرف شرط وتفصيل ومن اسم موصول مبتدأ وجملة تاب صلة وعمل صالحا فعل وفاعل مستتر ومفعول به أو مفعول مطلق أي عمل عملا صالحا والفاء رابطة وعسى فعل ماض جامد من أفعال الرجاء التي تعمل عمل كان واسمها مستتر تقديره هو وأن وما في حيزها خبرها والرجاء من الكرام بمثابة التحقيق أو يكون الرجاء على بابه ولكنه من قبل التائب ومن المفلحين خبر يكون. (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) الواو استئنافية وربك مبتدأ وجملة يخلق خبر وما مفعول به ويشاء صلة ويختار عطف على يخلق وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولهم خبرها المقدم والخيرة اسمها المؤخر والجملة مفسرة لأنها مقررة لما قبلها، ويجوز أن تكون مستأنفة، وقيل إن ما مصدرية أي يختار اختيارهم والمصدر واقع موقع المفعول أي مختارهم، وقيل ان ما موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف أي ما كان لهم الخيرة فيه، وقيل أيضا ان كان تامة، وجملة لهم الخيرة كلام مستأنف وسبحان الله مفعول مطلق لفعل محذوف وتعالى فعل ماض وفاعله هو وعما متعلقان بتعالى وجملة يشركون صلة. (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) الواو عاطفة وربك مبتدأ وجملة يعلم خبر وما مفعول به وتكن صلة وصدورهم فاعل وما عطف على ما الأولى وجملة يعلنون صلة. (وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وهو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 365 مبتدأ والله خبر وجملة لا إله إلا هو خبر ثان وقد تقدم اعراب كلمة التوحيد والاختلاف فيها وله خبر مقدم والحمد مبتدأ مؤخر والجملة خبر ثالث وفي الأولى حال والآخرة عطف على الأولى واليه متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع والواو نائب فاعل. البلاغة: 1- إسناد العمى الى الأنباء مجاز عقلي وقد تقدم كثيرا والمراد أن الأنباء صارت كالعمى لا تهتدي إليهم وقيل انه من باب القلب وان أصله فعموا عن الأنباء والقلب، كما تقدم، من محسنات الكلام. 2- الادماج: في قوله «له الحمد في الأولى والآخرة» الادماج، وحدّه أن يدمج المتكلم إما غرضا في غرض أو بديعا في بديع بحيث لا يظهر في الكلام إلا أحد الغرضين أو أحد البديعين والآخر مدمج في الغرض الذي هو موجود في الكلام، فإن هذه الآية أدمجت فيها المبالغة في المطابقة لأن انفراده سبحانه بالحمد في الآخرة وهي الوقت الذي لا يحمد فيه سواه مبالغة في وصف ذاته بالانفراد والحمد وهذه وإن خرج الكلام فيهما مخرج المبالغة في الظاهر فالأمر فيها حقيقة في الباطن لأنه أولى بالحمد في الدارين ورب الحمد والشكر والثناء الحسن في المحلين حقيقة، وغيره من جميع خلقه إنما يحمد في الدنيا مجازا، وحقيقة حمده راجعة الى ولي الحمد سبحانه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 366 [سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 75] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75) اللغة: (سَرْمَداً) : السرمد: الدائم المتصل وقد اختلف العلماء في اشتقاقه فقيل هو من السرد وهو المتابعة والميم مزيدة ووزنه فعمل كما في دلامص من الدلاص يقال درع دلاص أي ملساء متينة وهذا ما رجحه الزمخشري وغيره واختار صاحب القاموس وبعض النحاة أن الميم أصلية ووزنه فعلل لأن الميم لا تنقاس زيادتها في الوسط والآخر. الإعراب: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) الهمزة للاستفهام ورأيتم فعل وفاعل أي أخبروني وإن شرطية وجعل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 367 الله عليكم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والله فاعل وعليكم حال والليل مفعول جعل الأول وسرمدا مفعوله الثاني والى يوم القيامة صفة لسرمدا وقد علقت أرأيتم عن العمل بسبب الاستفهام وجواب الشرط محذوف يقدر بما يقتضيه السياق وتقديره فأخبروني. (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ) الجملة الاستفهامية في محل نصب مفعول أرأيتم ومن اسم استفهام مبتدأ وإله خبر وغير الله صفة إله وجملة يأتيكم صفة ثانية لإله وبضياء جار ومجرور متعلقان بيأتيكم، أفلا الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والفاء عاطفة على محذوف مقدر ولا نافية ويسمعون فعل مضارع والواو فاعل. (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) تقدم اعرابها. (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) من رحمته خبر مقدم وجعل لكم مؤول بمصدر بتقدير أن مبتدأ مؤخر وهو كثير في كلامهم ومنه المثل: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. وجعل فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ولكم مفعول جعل الثاني والليل مفعول جعل الأول والنهار عطف على الليل، وزواج بينهما لنكتة سيرد تفصيلها في باب البلاغة، ولتسكنوا اللام للتعليل وتسكنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والواو فاعل وفيه متعلقان بتسكنوا ولتبتغوا من فضله عطف على لتسكنوا ولعلكم لعل واسمها وجملة تشكرون خبرها. (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) تقدم اعرابها بلفظها قريبا فجدد به عهدا. (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ) الواو عاطفة ليتساوق الكلام ونزعنا فعل وفاعل أي أخرجنا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 368 ومن كل أمة متعلقان بنزعنا وشهيدا مفعول به، فقلنا عطف على نزعنا وجملة هاتوا مقول القول وهاتوا فعل أمر وفاعل وبرهانكم مفعول به. (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) الفاء عاطفة وعلموا فعل ماض وفاعل وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي علموا وأن واسمها ولله خبرها وضل فعل ماض وعنهم متعلقان بضل وما فاعل وجملة كانوا صلة وكان واسمها وجملة يفترون خبرها. البلاغة: 1- المناسبة: في قوله «أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا» الى قوله «أفلا تبصرون» فن المناسبة وهي ضربان: مناسبة في المعاني ومناسبة في الألفاظ فالمعنوية هي أن يبتدىء المتكلم بمعنى ثم يتمم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ، فإنه سبحانه لما أسند جعل الليل سرمدا الى يوم القيامة لنفسه وهو القادر الذي جعل الشيء لا يقدر غيره على مضادته قال «أفلا تسمعون» لمناسبة السماع للطرف المظلم من جهة صلاحية الليل للسماع دون الإبصار لعدم نفوذ البصر في الظلمة، ولما أسند جعل النهار سرمدا الى يوم القيامة لنفسه كأن لم يخلق فيه ليل البتة قال في فاصلة هذه الآية «أفلا تبصرون» لمناسبة ما بين النهار والإبصار. أما المناسبة اللفظية فسيأتي حديثها في هذا الكتاب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 369 2- اللف والنشر: اللف والنشر في قوله «ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون» وقد تقدم بحث هذا الفن وذكرنا انه عبارة عن ذكر متعدد على وجه التفصيل أو الإجمال ثم ذكر ما لكل واحد من المتعدد من غير تعيين ثقة بأن السامع يميز ما لكل واحد منها ويرده الى ما هو له، فقد زاوج بين الليل والنهار لأغراض ثلاثة أولها: لتسكنوا في أحدهما وهو الليل، ولتبتغوا من فضل في ثانيهما وهو النهار، ولإرادة شكركم وهذا من أطرف ما يتفنن به المتكلم نثرا أو شعرا. 3- صحة المقابلات: وفي هذه الآية أيضا فن عرفوه بأن صحة المقابلات، وهو عبارة عن توخي المتكلم ترتيب الكلام على ما ينبغي فإذا أتى في صدره بأشياء قابلها في عجزه بأضدادها أو بأغيارها من المخالف والموافق على الترتيب بحيث يقابل الأول بالأول والثاني بالثاني ولا يخرم من ذلك شيئا في المخالف والموافق ومتى أخل بالترتيب كان الكلام فاسد المقابلة، وهذه الآية من معجز هذا الباب، فقد جاء الليل والنهار في صدر الكلام وهما ضدان وجاء السكون والحركة في عجزه وهما ضدان ومقابلة كل طرف منه بالطرف الآخر على الترتيب، وعبر سبحانه عن الحركة بلفظ الارداف فاستلزم الكلام ضربا من المحاسن زائدا على المقابلة والذي أوجب العدول عن لفظ الحركة الى لفظ ابتغاء الفضل كون الحركة تكون لمصلحة ولمفسدة وابتغاء الفضل حركة للمصلحة دون المفسدة وهي اشتراك الإعانة بالقوة وحسن الاختيار الجزء: 7 ¦ الصفحة: 370 الدال على رجاحة العقل، وسلامة الحسّ ويستلزم إضاءة الطرف الذي تلك الحركة المخصوصة واقعة فيه ليهتدي المتحرك الى بلوغ المآرب ووجوه المصالح ويتقي أسباب المعاطب، والآية سيقت للاعتداد بالنعم فوجب العدول عن لفظ الحركة الى لفظ هو ردفه وتابعه ليتم حسن البيان فتضمنت هذه الكلمات التي هي بعض آية عدة من المنافع والمصالح التي لو عددت بألفاظها الموضوعة لها لاحتاجت في العبارة عنها الى ألفاظ كثيرة فحصل بهذا الكلام بهذا السبب عدة ضروب من المحاسن ألا تراه سبحانه جعل العلة في وجود الليل والنهار حصول منافع الإنسان حيث قال «لتسكنوا» و «لتبتغوا» بلام التعليل فجمعت هذه الكلمات المقابلة والتعليل والاشارة والإرداف والائتلاف وحسن النسق وحسن البيان لمجيء الكلام فيها متلاحما آخذة أعناق بعضه بأعناق بعضه، ثم أخبر بالخبر الصادق أن جميع ما عدده من النعم التي هي من لفظي الإشارة والإرداف بعض رحمته حيث قال بحرف التبعيض «ومن رحمته» وكل هذا في بعض آية عدتها إحدى عشرة لفظة، فالحظ هذه البلاغة الظاهرة والفصاحة المتظاهرة. 4- التفسير: وفي قوله «ومن رحمته جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون» فن التفسير وهو أن تذكر أشياء ثم تفسرها بما يناسبها، ومنه قول ابن حيوس. ومقرطق يغني النديم بوجهه ... عن كأسه الملأى وعن إبريقه فعل المدام ولونها ومذاقها ... في مقلتيه ووجنتيه وريقه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 371 [سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 82] إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 372 اللغة: (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) أي تنوء بها العصبة أن تتكلف النهوض بها وسيأتي مزيد عن القلب في هذا التعبير في باب البلاغة، يقال ناء ينوء نوءا وتنواء: نهض بجهد ومشقة وناء به الحمل أثقله وأماله وناء النجم سقط في المغرب مع الفجر وطلع آخر يقابله من ساعته في المشرق وفي المصباح: «وناء ينوء نوءا مهموز من باب قال: نهض» وفي القاموس: ناء بالحمل نهض متثاقلا وناء به الحمل أثقله وأماله كأناءه وناء فلان أثقل فسقط ضد. (المفاتح) : جمع مفتاح وكان حقه أن يجمع على مفاتيح ولكن هذه الياء قد تحذف كما أنهم قد يجتلبون ياء في الجمع الذي لا ياء فيه وقيل إن مفاتحه جمع مفتح فلا حذف فيه. الإعراب: (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) كلام مستأنف مسوق لذكر قصة قارون وما تنطوي عليه من عظات وعبر، وإن حرف مشبه بالفعل وقارون اسمها وهو علم أعجمي مثل هارون ولم ينصرف للعلمية والعجمة ولو كان فاعولا من قرن لانصرف، وستأتي قصته قريبا وجملة كان خبر إن واسم كان مستتر يعود على قارون ومن قوم موسى خبر كان أي ابن عمه أو ابن خالته وآمن به كما سيأتي. (فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) الفاء عاطفة وبغى فعل ماض وفاعله مستتر يعود على قارون وعليهم متعلقان بيبغى وآتيناه فعل ماض وفاعل ومفعول به ومن الكنوز الجزء: 7 ¦ الصفحة: 373 متعلقان بآتيناه وما اسم موصول مفعول به ثان لآتيناه وإن حرف مشبه بالفعل ومفاتحه اسم إن ولتنوء اللام المزحلقة وتنوء فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هي يعود على المفاتح جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به والجملة خبر إن وجملة إن مفاتحه لتنوء بالعصبة لا محل لها لأنها صلة وبالعصبة متعلقان بتنوء وأولي القوة صفة للعصبة. (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) الظرف متعلق بتنوء وقيل باذكر مضمرا وقال أبو البقاء: «ظرف لآتيناه، ويجوز أن يكون ظرفا لفعل محذوف دل عليه الكلام أي بغى إذ قال له قومه» وجملة قال في محل جر بإضافة الظرف إليها وله متعلقان بقال وقومه فاعل وجملة لا تفرح مقول القول ولا ناهية وتفرح فعل مضارع مجزوم بلا وفاعل تفرح مستتر تقديره أنت وجملة إن الله تعليل للنهي وسيأتي سر هذا التعليل في باب البلاغة وان واسمها وجملة لا يحب الفرحين خبرها. (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) الواو عاطفة وابتغ فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله مستتر تقديره أنت وفي حرف جر وما مصدرية أو موصولية والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي متقلبا فيما آتاك ومعنى «في» هنا السببية وجملة آتاك الله لا محل لها وآتاك الله فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر والدار مفعول ابتغ والآخرة صفة للدار ولا تنس لا ناهية وتنس فعل مضارع مجزوم بلا وفاعله مستتر تقديره أنت ونصيبك مفعول به ومن الدنيا متعلقان بمحذوف على أنه حال والنصيب ما يكفيك ويسد حاجتك ويصلح أمورك، وسيأتي مزيد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 374 بحث من النصيب والمراد منه في باب البلاغة. (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) الواو عاطفة وأحسن فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وكما نعت لمصدر محذوف أي إحسانا مثل الإحسان الذي أحسن الله به إليك وإليك متعلقان بأحسن ولا تبغ الفساد عطف على ما تقدم وفي الأرض متعلقان بالفساد أو بتبغ وجملة إن الله تعليل للنهي المتقدم وان واسمها وجملة لا يحب المفسدين خبرها. (قالَ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) استئناف مسوق للإجابة عن قولهم إن ما عندك تفضل وإنعام من الله فأنفق منه شكرا لمن أنعم به عليك، وإنما كافة ومكفوفة وأوتيته فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل والهاء مفعول به ثان وعلى علم في موضع الحال من نائب الفاعل في أوتيته وعندي ظرف متعلق بمحذوف صفة لعلم أي إنما أوتيته حال كوني متصفا بالعلم الذي عندي. قالوا: لم يكن في بني إسرائيل أعلم منه بالتوراة بعد موسى وهارون. (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على مقدر دخلت عليه الهمزة، أي أعلم ما ادعاه أو لم يعلم، ولم حرف نفي وقلب وجزم ويعلم فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله ضمير مستتر تقديره هو يعود على قارون وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يعلم وأن واسمها وجملة قد أهلك خبرها وفاعل أهلك ضمير مستتر تقديره هو يعود على الله ومن قبله متعلقان بأهلك ومن القرون حال من «من هو أشد» مقدمة عليه ومن اسم موصول مفعول به لأهلك وهو مبتدأ وأشد خبر والجملة صلة الموصول وقوة تمييز ومنه متعلقان بأشد وأكثر جمعا عطف على أشد منه قوة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 375 (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) الواو عاطفة لتربط الجملة بما قبلها على سبيل التهديد والوعيد أي ان الله مطلع على ذنوب المجرمين لا يحتاج الى سؤال عنها، ولا نافية ويسأل فعل مضارع مبني للمجهول وعن ذنوبهم متعلقان بيسأل والمجرمون نائب فاعل. (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) الفاء عاطفة على قال «إنما أوتيته على علم» وما بينهما اعتراض وعلى قومه متعلقان بخرج وفي زينته متعلقان بمحذوف حال أي متبخترا في زينته متقلبا في تعاجيبه، وسيأتي وصف مسهب للزينة التي خرج حاليا بها. (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان الشعور الذي خالج المؤمنين والكافرين على السواء عند ما رأوا هذا النعيم المتدفق والرواء العجيب جريا على ديدن البشر من تمني المناعم. وقال الذين فعل وفاعل وجملة يريدون صلة والحياة مفعول به والدنيا صفة للحياة ويا حرف نداء والمنادى محذوف وليت حرف تمن ونصب ولنا خبرها ومثل اسمها المؤخر وما اسم موصول مضاف اليه وجملة أوتي صلة وهو فعل ماضي مبني للمجهول وقارون نائب فاعل وهذا التمني على سبيل الغبطة وهي أن يتمنى الإنسان مثل نعمة صاحبه من غير أن يتمنى زوالها منه أما الحسد فهي تمني النعمة التي يتمتع بها المحسود وزوالها عنه، وفي الحديث: «قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل يضر الغبط؟ فقال: لا إلا كما يضرّ العضاة الخبط» والعضاة كل شجر يغطلم فيه شوك والخبط ضرب الشجرة بالعصا ليسقط ورقها. وان واسمها واللام المزحلقة وذو حظ خبرها وعظيم صفة لحظ. والحظ: البخت والجد يقال رجل مبخوت ومجدود كما يقال فلان ذو حظ وحظيظ ومحظوظ وما الدنيا إلا أحاظ قسّمت وجدود. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 376 (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ) وقال الذين فعل وفاعل وجملة أوتوا العلم صلة وويلكم مفعول لفعل محذوف على سبيل الردع أي ألزمكم الله ويلكم. (ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) ثواب الله مبتدأ وخير خبر ولمن متعلقان بخير وجملة آمن صلة وعمل صالحا عطف على آمن والواو عاطفة ولا نافية ويلقاها فعل مضارع مبني للمجهول والهاء مفعول به ثان وإلا اداة حصر والصابرون نائب فاعل مؤخر وهو المفعول الأول والضمير يعود على الإثابة أو الأعمال الصالحة. (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) الفاء هي الفصيحة أي إن شئت أن تعلم مصيره وما آل اليه أمره، وخسفنا فعل وفاعل وبه متعلقان بخسفنا وبداره عطف على به والأرض مفعول به، والخسف له معان كثيرة منها خسف المكان يخسف خسوفا من باب ضرب أي ذهب في الأرض وغرق وخسف القمر ذهب ضوءه وخسفت العين ذهب ضوءها وغابت وخسف في الأرض وخسف به فيها غاب، وفي حديث ابن عباس وأبي هريرة بسند ضعيف عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من لبس ثوبا جديدا فاختال فيه خسف به من شفير جهنم فهو يتجلجل فيها لا يبلغ قعرها» قال في فتح الباري: «ان مقتضى الحديث أن الأرض لا تأكل جسده فيمكن أن يلغز ويقال لنا: كافر لا يبلى جسده بعد الموت وهو قارون» وفي القاموس: التجلجل السوخ في الأرض والتحرك والتضعضع والجلجلة التحريك. (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) الفاء عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص وله خبرها المقدم ومن حرف جر زائد وفئة مجرور لفظا بمن مرفوع محلا على أنه اسم كان وجملة ينصرونه صفة لفئة أو هي خبر كان وله متعلقان بمحذوف حال ويجوز أن تكون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 377 كان تامة وفئة فاعل كان ومن دون الله حال من فئة وما نافية وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هو يعود على قارون ومن المنتصرين خبر كان. (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ) الواو عاطفة وأصبح فعل ماض ناقص والذين اسمها وجملة تمنوا صلة ومكانه مفعول به وبالأمس متعلقان بتمنوا وجملة يقولون خبر أصبح ويجوز أن تكون أصبح تامة والذين هو الفاعل وجملة يقولون في محل نصب على أنها حال أي قائلين. (وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) وي فيه مذاهب نختار منها واحدا وسنورد الباقي في باب الفوائد، فهي اسم فعل مضارع معناه أتعجب والكاف حرف جر وان حرف مشبه بالفعل وهي مع ما في حيزها في محل جر بالكاف والجار والمجرور متعلقان بوي ومعنى الكاف هنا التعليل لا التشبيه والله اسمها وجملة يبسط الرزق خبر أن والرزق مفعول به ولمن متعلقان بيبسط وجملة يشاء صلة ومن عباده حال ويقدر عطف على يبسط. (لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا) لولا حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط وأن وما في حيزها مصدر مؤول مرفوع بالابتداء والخبر محذوف وجوبا ومنّ الله فعل وفاعل وعلينا متعلقان بمنّ واللام واقعة في جواب لولا وجملة خسف بنا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومفعول خسف محذوف أي الأرض. (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) تقدم اعرابها وسيأتي المزيد منه قريبا وهو تأكيد لما قبله. البلاغة: 1- القلب: في قوله تعالى: «وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 378 في هذا التعبير فن القلب وقد تقدم القول فيه، والأصل لتنوء العصبة بالمفاتح أي لتنهض بها بجهد، قال أبو عبيد: هو كقولهم عرضت الناقة على الحوض وأصله عرضت الحوض على الناقة وقول حسان بن ثابت: كأن سبيئة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء على أنيابها أو طعم غضّ ... من التفاح هصره اجتناء ويروى كأن سلافة، والسلافة أول ما يسيل من ماء العنب أما سبيئة فمعناه مشتراة يقال سبأ الخمر كنصر إذا اشتراها ويروى أيضا خبيئة أي مصونة في الخابية وبيت رأس قرية بالشام اشتهرت بجودة الخمر، وقد وقع بين صاحب القاموس وصاحب الصحاح خلاف بين سبيئة فقال صاحب القاموس وقد وهم الجوهري وانما سبى الخمر سبيا وسباء حملها من بلد الى بلد، ومزاجها خبر يكون مع أنه معرفة وعسل اسمها مع أنه نكرة وكان القياس العكس فقلب الكلام، وتأوله الفارسي بأن انتصاب مزاجها على الظرفية المجازية، وروي برفع الكلمات الثلاث على أن اسم كان ضمير الشأن وجملة يكون صفة سبيئة وعلى أنيابها في البيت الثاني خبر كأن المشددة والمزاج ما يمزج به غيره والمراد بالانياب الثغر كله فهو مجاز، والغض الطري الرطب وهو صفة لموصوف محذوف أي طعم عضن غض، والهصر عطف الغصن وإمالته إليك من غير إبانة لتجني ثمره والتهصير مبالغة فيه ويروى جناء بدل اجتناء وهو الجنى بالقصر ومدّه هنا ضرورة واسناده التهصير الى الاجتناء مجاز عقلي من باب الاسناد للسبب، شبّه ريقها بالخمر الجيدة وطعمه بطعم تفاح ميل غصنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 379 الجاني ليجتنيه إشارة الى انه مجني الآن لم يمض عليه شيء من الزمان وتلويحا لتشبيه محبوبته بالأغصان في الرقة واللين والتثني. هذا وقد قيل أنه لا قلب في الآية وان الباء للتعدية كالهمزة والأصل لتنوء المفاتح العصبة الأقوياء أي تثقلهم، وهو رأي صاحب العمدة أيضا. 2- المبالغة: وذلك في وصف كنوز قارون حيث ذكرها جمعا وجمع المفاتح أيضا وذكر النوء والعصبة وأولي القوة قيل كانت تحمل مفاتيح خزائنه ستون بغلا لكل خزانة مفتاح وهذه المبالغة في القرآن من أحسن المبالغات وأغربها عند الحذاق، وهي أن يتقصى جميع ما يدل على الكثرة وتعدد ما يتعلق بما يملكه، استمع الى عمرو بن الأيهم التغلبي كيف أراد أن يصف قومه بالكرم فلم يزل يتقصى ما يمكن أن يقدر عليه من صفات فقال: ونكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حبث كانا 3- بلاغة التعليل: وفي قوله «إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين» حسن تعليل جميل بجمله «إن الله لا يحب الفرحين» لأن الفرح المحض في الدنيا من حيث أنها دنيا مذموم على الإطلاق، وأي فرح بشيء زائل وظل حائل. وقد رمق أبو الطيب سماء هذه البلاغة بقوله البديع: كأن الحزن مشغوف بقلبي ... فساعة هجرها يجد الوصالا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 380 كذا الدنيا على من كان قبلي ... صروف لم يد من عليه حالا أشد الغم عندي في سرور ... تيقّن عنه صاحبه انتقالا ألست تراه كيف جعل الحزن عالقا بفؤاده حتى كأنه يعشقه ولكنه لا يواصلني إلا حين تهجرني فإذا هجرتني واصل الحزن قلبي؟ ثم كيف يحث على الزهد في الدنيا لمن رزق فيها سرورا ومكانة لعلمه أنه زائل عما حين، والسرور الذي يعرف صاحبه أنه منحسر عنه قريبا هو أشد الغم، وهذا من أبلغ الكلام وأوعظه وأدله على عبقرية شاعر الخلود. ومن جميل ما قيل في هذا المعنى قول هدبة بن خشرم لما قاده معاوية الى الحرة ليقتصّ منه في زياد بن زيد العذري فلقيه عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فاستنشده فأنشده: ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا جازع من صرفه المتقلب ولا أبتغي شرا إذا الشر تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب والمفراح كثير الفرح والمراد نفي الفرح من أصله وصرف الدهر حدثانه وإذا شرطية فلا بد بعدها من فعل أي إذا سرني الدهر وإذا كان الشر تاركي، وأحمل مبني للمجهول وأركب للفاعل والأول فعل الشرط والثاني جوابه وجزاؤه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 381 4- التتميم: وفي قوله «ولا تنس نصيبك من الدنيا» تتميم لا بد منه لأنه إذا لم يغتنمها ليعمل للآخرة لم يكن له نصيب في الآخرة ففي الحديث: «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» وقد عاد أبو الطيب فرمق سماء هذه البلاغة مرة ثانية فقال من قصيدة يرثي بها والدة سيف الدولة وقد توفيت بميّافارقين وجاءه الخبر بموتها الى حلب سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وأنشد أبو الطيب قصيدته في جمادى الآخرة من السنة ونورد نخبة مختارة منها: نعد المشرفية والعوالي ... وتقتلنا المنون بلا قتال وترتبط السوابق مقربات ... وما ينجين من خبب الليالي ومن لم يعشق الدنيا قديما ... ولكن لا سبيل الى الوصال نصيبك في حياتك من حبيب ... نصيبك في منامك من خيال رماني الدهر بالأرزاء حتى ... فؤادي في غشاء من نبال فصرت إذا أصابتني سهام ... تكسرت النصال على النصال والشاهد المراد هو في قوله: نصيبك في حياتك البيت، أي إن نصيب الإنسان من وصال حبيبه في حياته كنصيبه من وصال خياله في منامه، ووجه الشبه: اتفاق الأمرين في سرعة انقضائهما، واشتباههما في عجلة زوالهما. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 382 الفوائد: 1- قصة قارون: نسج المؤرخون والقصاصون روايات شتى وأساطير عجيبة حول هذه القصة الفريدة التي تصلح نواة لمسرحية عالمية تمثّل الزهو الذي يصيب المتمولين، وقد اختلف في نسبه، قيل كان ابن عم موسى بن عمران وقيل كان ابن خالته، وهو أول من ضرب به المثل في كثرة المال، وفي قوله تعالى «وكان من قوم موسى» دليل على إيمانه وقرابته وكان من أحسن الناس وجها وقراءة للتوراة ويسمّى المنور لحسنة وقيل إنه كان من السبعين الذين اختارهم موسى من قومه، قيل انه خرج راكبا بغلة شهباء ومعه سبعمائة وصيفة على بغال شهب عليهن الحلي والحلل والزينة فكاد يفتن بني إسرائيل ثم بغى وتكبر وركب رأسه حتى أهلكه الله. وقد أخطأ صاحب المنجد فزعم أنه وزير فرعون كأنه ظنه هامان وهذا من نتائج التسرع وعدم التحقيق. وكان سبب هلاكه أنه حسد هرون على الحبورة، وذلك أن موسى لما قطع البحر وأغرق فرعون جعل الحبورة لهارون فحصلت له النبوة، والحبورة بضم الحاء: الإمامة، مأخوذة من الحبر بمعنى الرئيس في الدين، فوجد قارون من ذلك في نفسه وقال: يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست في شيء لا أصبر على هذا، فقال موسى: والله ما صنعت ذلك لهارون بل جعله الله له، فقال والله لا أصدقك أبدا حتى تأتيني بآية فأمر موسى رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كل رجل منهم بعصاه فجاءوا بها فألقى موسى بها في قبّة له وكان ذلك بأمر الله ودعا موسى أن يريهم الله بيان ذلك، فباتوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 383 يحرسون عصيهم فأصبحت عصا هارون تهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال موسى: يا قارون أما ترى صنع الله تعالى لهارون فقال: والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر ثم اعتزل بمن معه من بني إسرائيل وكان كثير المال والتبع فدعا عليه موسى. وقيل: انه لما نزلت آية الزكاة على موسى جاء موسى اليه وصالحه على كل ألف دينار دينار وألف شاة وعلى هذا الأسلوب فحسب ذلك فوجده مالا عظيما فجمع قومه من بني إسرائيل وقال إن موسى يأمركم بكل شيء فتطيعونه وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا: أنت كبيرنا فمرنا بما شئت فقال عليّ بفلانة البغي فأعطاها مائة دينار وأمرها أن تقذف موسى بنفسها وجاء الى موسى وقال: إن قومك قد اجتمعوا لتأمرهم وتناههم فخرج فقام فيهم خطيبا فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعناه، ومن زنى جلدناه، فإن كانت له امرأة رجمناه فصاح به قارون وقال له وان كنت أنت؟ فقال نعم. قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة البغي، فقال: عليّ بها، فلما جاءت قال لها موسى: يا فلانة أنا فعلت ما يقول هذا؟ فقالت: لا والله يا نبي الله وانما جعل لي جعلا حتى أقذفك بنفسي، فسجد موسى يبكي ويتضرع، فأوحى الله إليه: مر الأرض بما تشتهيه، فقال: يا أرض خذيه، فأخذته حتى غيبت بعضه ثم لم يزل يقول خذيه وهو يغيب حتى لم يبقى من جسده إلا القليل وهو يتضرع الىّ موسى ويسأله وهو يقول خذيه الى أن غاب. الى آخر هذه القصة التي ينفسح فيها الخيال ويمتد الى أبعد مداه. 2- وي كأنه: وعدناك بالمزيد من بحث «وي كأنه» فنقول: ذهب الخليل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 384 وسيبويه الى أن «وي» منفصلة معناها أعجب ثم ابتدأ فقال: كأنه لا يفلح الكافرون وكأن هاهنا لا يراد بها التشبيه بل القطع واليقين، وعليه بيت الكتاب: وي كأن من يكن له نشب يجب ... ومن يفتقر يعش عيش حر لم يرد هاهنا التشبيه بل اليقين، وذهب أبو الحسن إلى أن ويك مفصولة من أنه، وكان يعقوب يقف على ويك ثم يبتدىء «أنه لا يفلح الكافرون» كأنه أراد بذلك الاعلام بأن الكاف من جملة «وي» وليست التي في صدره «كأن» انما هي «وي» على ما ذكرنا أضيف إليها الكاف للخطاب على حدها في ذلك وأولئك ويؤيد ذلك قول عنترة: ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ... قيل الفوارس ويك عنتر أقدم فجاء بها متصلة بالكاف من غير «أن» فهي حرف خطاب وليست اسما مخفوضا كالتي في غلامك وصاحبك لأن «وي» إذا كانت اسما للفعل فهي في مذهب الفعل فلا تضاف لذلك وأن وما بعدها في موضع نصب باسم الفعل الذي هو «وي» ولذلك فتحت أن والتقدير أعجب لأنه لا يفلح الكافرون، فلما سقط الجار وصل الفعل فنصب، وذهب الكسائي الى أن الأصل «ويلك» فحذفت اللام تخفيفا وهو بعيد وليس عليه دليل، وقد ذهب بعضهم الى أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 385 «ويكأنه» بكساله اسم واحد، والمراد شدة الاتصال وانه لا ينفصل بعضه عن بعض. وهذا ونص عبارة سيبويه: «وسألت الخليل عن قوله: «ويكأنه لا يفلح» وعن قوله «ويكأن الله» فزعم أنها مفصولة من «كأن» والمعنى على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم أو نبهوا فقيل لهم أما يشبه أن يكون ذا عندكم هكذا. وقال الأعلم: «الشاهد في قوله «ويكأن» وهي عند الخليل وسيبويه مركبة من «وي» ومعناها التنبيه مع «كأن» التي للتشبيه ومعناه: ألم تر، وعلى ذلك تأولها المفسرون. وزعم بعض النحويين أن قولهم «ويكأن» بمعنى ويلك اعلم ان، فحذفت اللام من «ويلك» كما قال عنترة «ويك عنتر أقدم» وحذف اعلم لعلم المخاطب مع كثرة الاستعمال وهذا القول مردود لما يقع فيه من كثرة التغيير. وقال أبو سعيد السيرافي: في «ويكأن» ثلاثة أقوال: أحدها قول الخليل تكون «وي» كلمة يقولها المنتدم ويقولها المندّم غيره ومعنى «كأن» التحقيق، والثاني قول الفراء تكون «ويك» موصولة بالكاف و «أن» منفصلة ومعناه عنده تقرير كقولك: أما ترى، والقول الثالث يذهب الى أن «ويك» بمعنى «ويلك» وجعل «أن» مفتوحة بفعل مضمر كأنه قال: ويلك اعلم أن الله. وقال الفراء: «ويكأن» في كلام العرب تقرير كقول الرجل: أما ترى الى صنع الله، وقال الشاعر: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 386 وي كأن من يكن له نشب (البيت) . وأخبرني شيخ من أهل البصرة قال: سمعت أعرابية تقول لزوجها: أين ابنك ويلك؟ فقال: ويكأنه وراء البيت، معناه: أما ترينه وراء البيت؟ وقد يذهب بعض النحويين الى أنهما كلمتان يريد: «ويك، انه» أراد ويلك فحذف اللام وجعل أن مفتوحة بفعل مضمر كأنه قال ويلك اعلم انه وراء البيت فاضمر اعلم، ولم نجد العرب تعمل الظن والعلم بإضمار مضمر في أن وذلك انه يبطل إذا كان بين الكلمتين أو في آخر الكلمة، فلما أضمره جرى مجرى الترك، ألا ترى أنه لا يجوز في الابتداء أن تقول يا هذا إنك قائم ولا يا هذان فمت تريد علمت أو أعلم أو ظننت أو أظن، وأما حذف اللام من «ويلك» حتى تصير «ويك» فقد تقوله العرب لكثرتها في الكلام قال عنترة: ولقد شفى نفسي (البيت) وقد قال آخرون ان معنى «وي كأن» أن «وي» منفصلة كقولك لرجل «وي» تريد أما ترى ما بين يديك فقال: وي ثم استأنف كأن يعني أن الله يبسط الرزق لمن يشاء وهي تعجب وكأن في مذهب الظن والعلم فهذا وجه مستقيم ولم تكتبها العرب منفصلة ولو كانت على هذا لكتبوها منفصلة، وقد يجوز أن تكون كثر بها الكلام فوصلت بما ليست منه وقال أبو الفتح ابن جني: في «ويكأنه» ثلاثة أقوال: - فمنهم من جعلها كلمة واحدة فلم يقف على «وي» . - ومنهم من يقف على «وي» . - ويعقوب يقف على «ويك» وهو مذهب أبي الحسن. والوجه عندنا قول الخليل وسيبويه وهو أن «وي» اسم سمي به الجزء: 7 ¦ الصفحة: 387 الفعل على قياس مذهبهما فكأنه اسم اعجب ثم ابتدأ فقال: «كأنه لا يفلح الكافرون» ف «كأن» هنا إخبار عار من معنى التشبيه ومعناه ان الله يبسط الرزق و «وي» منفصلة من «كأن» وعليه قول الشاعر: وي كأن من (البيت) ومما جاءت فيه «كأن» عارية من معنى التشبيه قوله: كأنني حين أمسي لا تكلمني ... متيم أشتهي ما ليس موجودا أي أنا حين أمسي متيم من حالي كذا وكذا. وقال البغدادي في خزانة الأدب: «وأما قول أبي الفتح أن «وي» عند سيبويه والخليل بمعنى أعجب فمردود وكذا قوله: ان «كأن» عندهما عارية عن التشبيه، وأما تنظيره لخلو التشبيه بقوله: كأنني حين أمسي (البيت) فهو مذهب الزجاج فيما إذا كان خبر «كأن» مشتقا لا تكون للتشبيه لئلا يتحد المشبه والمشبه به. وأجيب بأن الخبر في مثله محذوف أي كأنني رجل متيم فهي على الأصل للتشبيه» . وقال التبريزي في شرح المعلقات «وقوله «ويك» قال بعض النحويين معناه ويحك وقال بعضهم معناه ويلك وكلا القولين خطأ لأنه كان يجب أن يقرأ «ويك انه» كما يقال ويلك انه وويحك انه» . وقال الزمخشري في كشافه: «وي مفصولة عن كأن وهي كلمة تنبه على الخطأ وتندم ومعناه أن القوم قد تنبهوا على خطئهم في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 388 تمنيهم، وقولهم: «يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون» وتندموا ثم قالوا «كأنه لا يفلح الكافرون» أي ما أشبه الحال بأن الكافرين لا ينالون الفلاح وهو مذهب الخليل وسيبويه قال: وي كأن من يكن له نشب (البيت) . وحكى الفراء أن اعرابية قالت لزوجها: أين ابنك؟ فقال: وي كأنه وراء البيت، وعند الكوفيين أن «ويك» بمعنى «ويلك» وان المعنى ألم تعلم انه لا يفلح الكافرون ويجوز أن تكون الكاف كاف الخطاب مضمومة الى «وي» كقوله «ويك عنتر أقدم» وانه بمعنى لأنه واللام لبيان المقول لأجله هذا القول، أو لأنه لا يفلح الكافرون كأن ذلك وهو الخسف بقارون ومن الناس من يقف على وي ويبتدىء كأنه، ومنهم من يقف على ويك» . رأي الشهاب الحلبي: وقال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين وهو مطلع جدا: «وي كأنه، فيه مذاهب: أحدها: أن وي كلمة برأسها وهي اسم فعل معناها أعجب أي أنا والكاف للتعليل وأن وما في حيزها مجرورة بها أي أعجب لأن الله يبسط الرزق إلخ وقياس هذا أن يوقف على وي وحدها وقد فعل هذا الكسائي: الثاني: قال بعضهم: كأن هنا للتشبيه إلا أنه ذهب منها معناه وصارت للخبر واليقين وهذا أيضا يناسبه الوقف على وي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 389 الثالث: أن ويك كلمة برأسها والكاف حرف خطاب وأن معمولة لمحذوف أي اعلم أن الله يبسط الرزق إلخ قاله الأخفش وهذا يناسب الوقف على ويك وقد فعله أبو عمرو. الرابع: أن أصلها ويلك فحذفت اللام وهذا يناسب الوقف على الكاف أيضا كما فعل أبو عمرو. الخامس: أن ويكأن كلها كلمة مستقلة بسيطة ومعناها ألم تر وربما نقل ذلك عن ابن عباس ونقل الفراء والكسائي أنها بمعنى أما ترى الى صنع الله، وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى رحمة لك في لغة حمير ولم يرسم في القرآن إلا ويكأن وويكأنه متصلة في الموضعين فعامة القراء اتبعوا الرسم والكسائي وقف على وي وأبو عمرو على ويك» . وقال ابن هشام في أوضح المسالك وشرحه للشيخ خالد الأزهري: «ووا ووي وواها الثلاثة كلها بمعنى أعجب كقوله تعالى «وي كأنه لا يفلح الكافرون» فوي اسم فعل مضارع بمعنى أعجب والكاف حرف تعليل وأن مصدرية مؤكدة أي أعجب لعدم فلاح الكافرين» وهذا ما اخترناه في الاعراب ورأيناه أبعد من الارتياب وأدنى الى الصواب. [سورة القصص (28) : الآيات 83 الى 88] تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 390 الإعراب: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) كلام مستأنف مسوق لبيان أن الآخرة أعدت للذين لا يريدون علوا في الأرض. وتلك مبتدأ والدار بدل من اسم الاشارة والآخرة صفة للدار وجملة نجعلها خبر تلك وللذين متعلقان بنجعلها على أنه مفعوله الثاني وجملة لا يريدون صلة للذين وعلوا مفعول يريدون وفي الأرض صفة لعلوا ولا فسادا عطف على علوا والعاقبة مبتدأ وللمتقين خبر. (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) كلام مستأنف مسوق لوعد المحسنين ووعيد المسيئين بعد ذكر أن العاقبة للمتقين. ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وجاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وبالحسنة متعلقان بجاء والفاء رابطة لجواب الشرط لأنه جملة اسمية وله خبر مقدم وخير منها مبتدأ مؤخر والجملة في محل جزم جواب الشرط والفعل والجواب معا خبر من. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 391 (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) عطف على ما تقدم ويجزى فعل مضارع مبني للمجهول والذين نائب فاعل وجملة عملوا السيئات صلة الموصول وإلا أداة حصر وما مفعول ثان ليجزى وجملة كانوا صلة وجملة يعملون خبر كانوا. (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) إن واسمها وجملة فرض صلة وعليك متعلقان بفرض والقرآن مفعول به، ومعنى فرض عليك القرآن: أوجب عليك تلاوته وتبليغه، واللام المزحلقة ورادك خبر إن والكاف في محل جر بالإضافة والى معاد متعلقان براد لأنه اسم فاعل، وتنكيره يدل على أمور ستأتي في باب البلاغة. (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ربي مبتدأ وأعلم خبره وهو بمعنى عالم ولذلك نصب من جملة جاء صلة وبالهدى متعلقان بجاء ومن عطف على من الأولى وهو مبتدأ وفي ضلال خبره ومبين صفته. (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) الواو عاطفة وما نافية وكنت كان واسمها وجملة ترجو خبرها وأن وما في حيزها مفعول ترجو وإليك متعلقان بيلقى والكتاب نائب فاعل وإلا أداة حصر بمعنى لكن للاستدراك ورحمة مفعول لأجله ومن ربك صفة لرحمة، ويجوز أن يكون الاستثناء على حاله أي متصلا ولكنه محمول على المعنى. (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) الفاء الفصيحة ولا ناهية وتكونن فعل مضارع ناقص مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون والواو اسمها والكاف مفعول به والنون المذكورة نون التوكيد الثقيلة وظهيرا خبر تكونن وللكافرين متعلقان بظهيرا. (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) عطف على ما تقدم وقد تقدم إعراب نظيره، ونعيده الجزء: 7 ¦ الصفحة: 392 لوجود فارق بسيط، فلا ناهية ويصدنك فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون وحذفت الواو لأن النون لما حذفت التقى ساكنان الواو والنون المدغمة فحذفت الواو لاعتلالها ووجود دليل يدل عليها وهو الضمة وأصله يصدونك، وعن آيات الله متعلقان بيصدنك والظرف متعلق بمحذوف حال وإذ ظرف لما مضى أضيف الى مثله وإذ تضاف اليه أسماء الزمان كقولك حينئذ ويومئذ وقد تقدم بحث ذلك، وجملة أنزلت في محل جر باضافة الظرف إليها وإليك متعلقان بأنزلت. (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الواو عاطفة وادع فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت والى ربك متعلقان بادع ولا ناهية وتكونن مجزوم بها وقد تقدم إعرابه واسمها مستتر تقديره أنت ومن المشركين خبرها. (وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتدع فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت يعود على محمد صلى الله عليه وسلم والخطاب له والمراد غيره على حد قوله «لئن أشركت ليحبطن عملك» ومع الله ظرف مكان متعلق بتدع وإلها مفعول به وآخر نعت لإلها ولا إله إلا هو تقدم إعرابها والجملة في محل نصب حال. (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) كل مبتدأ وشيء مضاف اليه وهالك خبر المبتدأ وإلا أداة استثناء ووجهه مستثنى وسيأتي معنى الاستثناء في باب البلاغة، له خبر مقدم والحكم مبتدأ مؤخر واليه متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب الفاعل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 393 البلاغة: 1- سر التنكير في قوله «الى معاد» للتفخيم كأن هذا المعاد قد أعد لك دون غيرك من البشر، قيل المراد به مكة وهو يوم الفتح فمعاد الرجل بلده لأنه ينصرف منه فيعود اليه فالمعاد على هذا اسم مكان، روي أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج من الغار ليلا سار في غير الطريق مخافة الطلب فلما رجع الى الطريق ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق الى مكة تنزى الحنين في صدره وهاجه الشوق الى موطنه وحنّ الى مولده ومولد آبائه فنزلت عليه تطمينا لقلبه، وفيها يتجلى مقدار الحنين الى الأوطان، وقد رمق الشعراء جميعا سماء هذا المعنى فقال ابن الرومي: بلد صحبت به الشبيبة والصبا ... ولبست ثوب العيش وهو جديد فإذا تمثل في الضمير رأيته ... وعليه أغصان الشباب تميد وقال أبو تمام: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 394 والقول في حب الأوطان كثير، ومما يؤكد ما قلناه في حب الأوطان قول الله عز وجل «ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم» فسوّى بين قتل أنفسهم وبين الخروج من ديارهم، وقال تعالى: «وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا» . وقال بعضهم «من أمارات العاقل بره لإخوانه، وحنينه لأوطانه، ومداراته لأهل زمانه» . وقيل لأعرابي: كيف تصنع في البادية إذا اشتد القيظ وانتعل كل شيء ظله؟ قال: وهل العيش إلا ذاك، يمشي أحدنا ميلا فيرفضّ عرقا ثم ينصب عصاه ويلقي عليه كساءه ويجلس في فيئه يكتال الريح فكأنه في إيوان كسرى. وقال يحيى بن طالب الحنفي من شعراء الدولة العباسية: ألا هل إلى شم الخزامى ونظرة ... إلى قرقرى قبل الممات سبيل فأشرب من ماء الحجيلاء شربه ... يداوى بها قبل الممات عليل فيا أثلات القاع قلبي موكل ... بكن وجدوى خيركنّ قليل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 395 ويا أثلات القاع قد مل صحبتي ... مسيري فهل في ظلكنّ مقيل أريد انحدارا نحوها فيردّني ... ويمنعني دين عليّ ثقيل أحدث نفسي عنك إذ لست راجعا ... إليك فحزني في الفؤاد دخيل والأبيات المشهورة للصمة القشيري: تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار ألا يا حبذا نفحات نجد ... وريا روضة بعد القطار وعيشك إذ يحل الحي نجدا ... وأنت على زمانك غير زار شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهن ولا سرار فأما ليلهن فخير ليل ... وأقصر ما يكون من النهار وحسبنا ما قدمناه الآن. 2- المجاز المرسل: في قوله تعالى «كل شيء هالك إلا وجهه» أي إلا إياه، من ذكر البعض وإرادة الكل، وقد جرت عادة العرب في التعبير بالأشرف عن الجملة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 396 (29) سورة العنكبوت مكيّة وآياتها تسع وستون [سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) اللغة: (يُفْتَنُونَ) : يختبرون من فتن فلان يفتنه من باب ضرب: خبره وأحرقه وأضلّه، يقال فتن الصائغ الذهب: أذابه بالبوتقة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 397 ليختبره وليميز الجيد من الرديء ويقال فتنه يفتنه من باب ضرب أيضا أعجبه واستماله وأوقعه في الفتنة. الإعراب: (الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) ألم تقدم اعرابها والقول فيها وفي فواتح السور، وأحسب الهمزة للاستفهام التقريري أو التوبيخي وحسب فعل ماض ينصب مفعولين قال الزمخشري: «الحسبان لا يصح تعليقه بمعاني المفردات ولكن بمضامين الجمل» ولذلك احتاج الى مفعولين والناس فاعل وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي حسب وأن يقولوا مصدر مؤول منصوب بنزع الخافض وهو متعلق بمحذوف حال إذا قدر حرف الجر باء، ولك أن تقدر حرف الجر لاما فيكون تعليلا للترك متعلقا به أي لأجل قولهم، وجملة آمنا مقول القول والواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يفتنون خبر هم والجملة حالية ومعنى الآية أحسب الذين نطقوا بكلمة الشهادة أنهم يتركون غير ممتحنين لا بل يمتحنون ليتبين الراسخ في الدين من غيره، وهذا أحد أعاريب رأيناه أسهلها، ونورد هنا عبارة الزمخشري لنفاستها قال: «تقديره أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا فالترك أول مفعولي حسب ولقولهم آمنا هو الخبر وأما غير مفتونين فتتمة الترك الذي هو بمعنى التصيير كقوله «فتركنه جزر السباع ينشنه» ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام فإن قلت: أن يقولوا هو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 398 علة تركهم غير مفتونين فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ؟ قلت كما تقول خروجه لمخافة الشر وضربه للتأديب وقد كان التأديب والمخافة في قولك خرجت مخافة الشر وضربته تأديبا تعليلين، وتقول أيضا حسبت خروجه لمخافة الشر وظننت ضربه للتأديب فتجعلهما مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبرا» وسيأتي المزيد من أبحاث هذه الآية في باب الفوائد. (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وفتنا فعل وفاعل والذين مفعوله ومن قبلهم متعلقان بمحذوف هو صلة الذين والفاء عاطفة واللام موطئة للقسم وليعلمن فعل مضارع مبني على الفتح والله فاعل والذين مفعوله وجملة صدقوا صلة وليعلمن الكاذبين عطف على ما تقدم وسيأتي سر المخالفة بين صدقوا والكاذبين في باب البلاغة والمعنى أن الفتنة والامتحان أمران لا بد منهما لابتلاء الخلق وقد تعرضت لهما الخلائق في مختلف ظروف الزمان والمكان. (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أم منقطعة ومعناها بل وهي للاضراب الانتقالي ولا بد من همزة في ضمنها للتقرير والتوبيخ، وحسب فعل ماض والذين فاعل وجملة يعملون السيئات صلة وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي حسب، قال الزمخشري: «فإن قلت أين مفعولا حسب؟ قلت: اشتمال صلة أن على مسند ومسند إليه سد مسد المفعولين كقوله تعالى «أم حسبتم أن تدخلوا الجنة» ويجوز أن يضمن حسب معنى قدر وأم منقطعة ومعنى الاضراب فيها أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الاول لأن ذاك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه وهذا يظن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 399 انه لا يجازى بمساويه» وساء فعل ماض جامد لإنشاء الذم وفاعله مستتر تقديره هو وما نكرة منصوبة على التمييز وجملة يحكمون صفتها والمخصوص بالذم محذوف أي حكمهم ويجوز أن تعرب ما اسم موصول فاعل وجملة يحكمون صلتها، ويجوز أن تكون مصدرية أي حكمهم وعلى هذا يكون التمييز محذوفا أي ساء حكما حكمهم. (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) من اسم شرط جازم مبتدأ وكان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط واسم كان مستتر يعود على من وجملة يرجو خبر كان ولقاء الله مفعول به والفاء رابطة لجواب الشرط، وإن أجل الله ان واسمها واللام المزحلقة وآت خبر إن والواو حرف عطف وهو مبتدأ والسميع العليم خبران لمن، وسيأتي مزيد بحث لهذه الآية في باب البلاغة، وفعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر من. (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) الواو عاطفة ومن شرطية مبتدأ وجاهد فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة للجواب وانما كافة ومكفوفة ويجاهد فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره هو ولنفسه جار ومجرور متعلقان بيجاهد وإن واسمها واللام المزحلقة وغني خبر إن وعن العالمين متعلقان بغني والجملة تعليلية لما سبق من تقرير أن جهاد الشخص لا يصل منه الى الله نفع. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) الواو عاطفة والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا واللام موطئة للقسم ونكفرن فعل مضارع مبني على الفتح والفاعل مستتر تقديره نحن والجملة خبر الذين وعنهم متعلقان بنكفرن وسيئاتهم مفعول به. (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 400 كانُوا يَعْمَلُونَ) ولنجزينهم عطف على لنكفرن وأحسن مفعول به ثان والذي مضاف اليه وجملة كانوا صلة وجملة يعملون خبر كانوا. البلاغة: 1- التعبير بالصيغة الفعلية والصيغة الاسمية: في قوله تعالى «فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين» مخالفة بين الصيغة الفعلية وهي «صدقوا» والصيغة الاسمية في قوله «الكاذبين» والنكتة في هذه المخالفة أن اسم الفاعل يدل على ثبوت المصدر في الفاعل ورسوخه فيه والفعل الماضي لا يدل عليه لأن وقت نزول الآية كانت حكاية عن قوم قريبي عهد بالإسلام وعن قوم مستمرين على الكفر فعبر في حق الأولين بلفظ الفعل وفي حق الآخرين بالصيغة الدالة على الثبات، أما بالنسبة لعلم الله فلا يقال ان فيه تجددا في علم الله تعالى بهم قبل الاختبار وإيهاما بأن العلم بالكائن غير العلم بأنه سيكون، والحق أن علم الله تعالى واحد يتعلق بما لموجود زمان وجوده وقبله وبعده على ما هو عليه وفائدة ذكر العلم هاهنا وان كان سابقا على وجود المعلوم التنبيه بالسبب على المسبب وهو الجزاء كأنه قال: لنعلمنهم فلنجازيهم بحسب علمه فيهم. 2- الحذف: جرينا في اعراب قوله تعالى «من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت» على أن الفاء رابطة لجواب الشرط وان جملة ان أجل الله لآت هو الجواب وساغ وقوعه جوابا للشرط مع أن أجل الله آت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 401 لا محالة من غير تقييد بشرط وانه ينعدم بانعدام الشرط ساغ وقوعه جوابا لأننا نعني بلقاء الله تلك الحالة الممثلة والوقت الذي تقع فيه تلك الحال هو الأجل المضروب للموت كأنه قال من كان يرجو لقاء الله فإن لقاء الله لآت لأن الأجل واقع فيه اللقاء كما تقول من كان يرجو لقائي فإن يوم الجمعة قريب إذا علم وتعورف انك تقعد للاستقبال يوم الجمعة، هذا ويجوز أن يكون من باب الحذف البلاغي والتقدير فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا. الفوائد: أطال المعربون في التماس وجوه الاعراب لهذه الآية وهي «أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يؤمنون» وقد اخترنا أمثل هذه الوجوه وأدناها الى المنطق كما أوردنا نص قول الزمخشري فيها وكلا الوجهين سائغ مراد ونريد أن نفصل لك القول في الظن والحسبان وغيرهما من الأفعال التي تسمى «أفعال القلوب» وانما قيل لها ذلك لأن معانيها قائمة بالقلب، وليس معنى هذا أن كل فعل قلبي ينصب مفعولين بل القلبي ثلاثة أقسام ما لا يتعدى بنفسه نحو فكر في الأمر وتفكر فيه، وما يتعدى لواحد بنفسه نحو عرف الحق وفهم المسألة، وما يتعدى لاثنين بنفسه وهو المقصود بالتسمية وأصل المفعولين المبتدأ والخبر، ورد بعضهم وهو السهيلي هذا القول وقال كيف يكون نحو ظننت زيدا عمرا أصلهما مبتدأ وخبر وأجيب بأن المراد هو التشبيه بدليل أنه يقال: ظننت زيدا عمرا فتبين خلاف فالظن المذكور لتشبيهه به، وأجاب بعضهم بجواب آخر وهو أنه متأول بمعنى ظننت الشيء المسمى بزيد مسمى بعمر كما أن قولك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 402 زيد حاتم متأول بمعنى زيد مثل حاتم في المعنى، استمع الى قول زفر ابن الحارث الكلابي: وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة ... عشية لاقينا جذام وحميرا فكل بيضاء مفعول حسبنا الأول وشحمة مفعوله الثاني وهو كناية عن أنه كان يظنهم شجعانا فتبينوا بخلاف ذلك وبعد هذا البيت: فلما لقينا عصبة تغلبية ... يقودون جردا في الأعنّة خمرا سقيناهم كأسا سقونا بمثلها ... ولكنهم كانوا على الموت أصبرا فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعض أبت عيدانه أن تكسّرا إذا عرفت هذا كله فهمت معنى الآية بوضوح أي: أحسب الذين أجروا كلمة الشهادة على ألسنتهم، وتبجحوا بها، واستطالوا على من سواهم انهم سيتركون غير ممتحنين؟ لا بل سوف يمتحنهم الله بضروب الابتلاء وأنواع المحن حتى يسبر أغوارهم جميعا، ويبلو صبرهم وثبات أقدامهم ورسوخها في الايمان، فليس الايمان كلمات تتردد على الألسنة وحسب لكنه يحتاج الى عمل أصيل، وجهاد مستمر، ليسفر عملهم عما فيه نفع أمتهم، وجهادهم عن تأثيل أوطانهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 403 [سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 11] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) الإعراب: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) كلام مستأنف للشروع في تقرير حق الأبوين وتحديد طاعتهما بعدم معصية الله. ووصينا فعل وفاعل والإنسان مفعول به وبوالديه متعلقان بوصينا وحسنا نعت لمصدر وصينا على حذف مضاف أي إيصاء ذا حسن أو هو في نفسه حسن على المبالغة، وقال الزجاج: «ومعناه: ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه وما يحسن» . (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) الواو عاطفة وان شرطية وجاهداك فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والألف فاعل والكاف مفعول به ولتشرك اللام لام التعليل وتشرك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والفاعل مستتر تقديره أنت والجار والمجرور متعلقان بجاهداك وبي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 404 متعلقان بتشرك وما اسم موصول مفعول به لتشرك ولك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وبه متعلقان بعلم وعلم مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صلة ما، فلا الفاء رابطة لجواب الشرط لأن الجواب جملة ولا ناهية وتطعهما فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت والميم والألف حرفان دالان على التثنية والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب إن. (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إلي خبر مقدم ومرجعكم مبتدأ مؤخر والفاء حرف عطف وأنبئكم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وبما متعلقان بأنبئكم وجملة كنتم صلة ما وجملة تعملون خبر كنتم. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) الذين مبتدأ خبره «لندخلنهم في الصالحين» أي في زمرة الراسخين في الصلاح، ويجوز أن يكون في محل نصب على الاشتغال. وجملة آمنوا صلة وجملة عملوا الصالحات معطوفة على جملة آمنوا واللام موطئة للقسم وندخلن فعل مضارع مبني على الفتح وفاعله مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به وفي الصالحين متعلقان بندخلهم. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان حال المنافقين بعد أن بين حال المؤمنين والكافرين فيما تقدم ومن الناس خبر مقدم ومن نكرة موصوفة مبتدأ مؤخر أي ناس وهو أولى من جعلها موصولة وجملة يقول صفة لمن على اللفظ وجملة آمنا مقول القول وبالله متعلقان بآمنا. (فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ) الفاء حرف عطف وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وفي الله متعلقان بأوذي وجملة أوذي في محل جر بإضافة الظرف إليها أي في سبيل الله وجملة جعل لا محل لأنها جواب إذا وفتنة الناس مفعول جعل الاول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 405 وكعذاب الله في موضع المفعول الثاني، أو الكاف اسم بمعنى مثل في موضع المفعول الثاني والمعنى جزع من أذى الناس، فأطاعهم كما يطيع الله من يخافه. (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وان حرف شرط جازم وجاءهم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والهاء مفعول به ونصر فاعل ومن ربك متعلقان بجاءهم أو بمحذوف صفة لنصر، ليقولن: اللام واقعة في جواب القسم ويقولن فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل وجملة إنا مقول القول وان واسمها وجملة كنا خبرها ومعكم ظرف متعلق بمحذوف خبر كنا. (أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) الهمزة للاستفهام التقريري التوبيخي والواو عاطفة على محذوف يقتضيه السياق وليس فعل ماض ناقص والله اسمها والباء حرف جر زائد وأعلم مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس وبما متعلقان بأعلم وفي صدور العالمين صلة ما. (وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم ويعلمن فعل مضارع مبني على الفتح والله فاعل والذين مفعول به وجملة آمنوا صلة وليعلمن المنافقين عطف على وليعلمن الذين آمنوا. الفوائد: روى التاريخ أن سعد بن أبي وقاص وهو من السابقين الى الإسلام حين أسلم قالت أمه وهي وهي حمنة بنت أبي سفيان بن أمية ابن عبد شمس: يا سعد بلغني أنك قد صبأت، فو الله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح وان الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 406 بمحمد، وكان أحبّ ولدها إليها، فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فجاء سعد الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه فنزلت هذه الآية والتي في لقمان والتي في الأحقاف، فأمره رسول الله أن يداريها ويترضّاها بالإحسان. وفي رواية للقرطبي أن سعدا قال لها: والله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما كفرت بمحمد فإن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت، هذا ومعنى قوله فو الله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح كما في الصحاح الضح الشمس وفي الحديث لا يقعدن أحدكم بين الضح والظل فإنه مقعد الشيطان. وقيل نزلت في عياش بن ربيعة المخزومي وذلك انه هاجر مع عمر بن الخطاب مترافقين حتى نزلا المدينة فخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام أخواه لأمه أسماء بنت مخرمة امرأة من بني تميم بن حنظلة فنزلا بعياش وقالا له إن من دين محمد صلة الأرحام وبر الوالدين وقد تركت أمك لا تطعم ولا تشرب ولا تأوي بيتا حتى تراك وهي أشدّ حبا لك منا فاخرج معنا وفتلا منه في الذروة والغارب فاستشار عمر رضي الله عنه فقال هما يخدعانك ولك عليّ أن أقسم مالي بيني وبينك فما زالا به حتى أطاعهما وعصى عمر فقال له عمر: أما إذ عصيتني فخذ ناقتي فليس في الدنيا بعير يلحقها فإن رابك منها ريب فارجع، فلما انتهوا الى البيداء قال أبو جهل: إن ناقتي قد كلت فاحملني معك قال نعم فنزل ليوطىء لنفسه وله فأخذاه وشدا وثاقه وجلده كل واحد منهما مائة جلدة وذهبا به الى أمه فقالت: لا تزال في عذاب حتى ترجع عن دين محمد فنزلت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 407 وسواء أكانت المناسبة هذه أم تلك فالمسألة عامة، وبر الوالدين مطلوب شرعا وطاعتهما واجبة إلا في المعصية فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقوله «وفتلا منه في الذروة والغارب» قال الجوهري في صحاحه: «ما زال فلان يفتل من فلان في الذروة والغارب أي يدور من وراء خدعته» . [سورة العنكبوت (29) : الآيات 12 الى 15] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) الإعراب: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان نموذج آخر من أضاليلهم. وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة الموصول وللذين متعلقان يقال وجملة آمنوا صلة الموصول وجملة اتبعوا مقول القول واتبعوا فعل وفاعل وسبيلنا مفعول ولنحمل الواو عاطفة واللام لام الأمر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 408 ونحمل فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وخطاياكم مفعول به وسيأتي معنى الأمر في باب البلاغة. (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) الواو حالية وما نافية حجازية تعمل عمل ليس وهم اسمها والباء حرف جر زائد وحاملين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما ومن خطاياهم حال لأنه كان في الأصل صفة لشيء وتقدم عليه ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا منصوب محلا لأنه مفعول حاملين وجملة إنهم لكاذبون تعليل للجزم بعدم حملهم شيئا من خطاياهم وإن واسمها واللام المزحلقة وكاذبون خبرها. (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم ويحملن فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل وأثقالهم مفعول به وأثقالا عطف على أثقالهم ومع أثقالهم ظرف متعلق بمحذوف صفة لأثقالا. (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) الواو عاطفة ويسألن عطف على يحملن ويوم القيامة ظرف متعلق بيسألن وعما متعلقان بيسألن أيضا وجملة كانوا صلة ما وجملة يفترون خبر كانوا. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) كلام مستأنف مسوق لتأييد التكليف الذي ألزم محمد صلى الله عليه وسلم به أتباعه أي أنه ليس مختصا بالنبي وأتباعه واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل ونوحا مفعول به والى قومه متعلقان بأرسلنا، فلبث الفاء عاطفة ولبث فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على نوح وفيهم متعلقان بلبث وألف سنة نصب على الظرف لأنه عدد أضيف الى الظرف فأخذ منه ظرفيته وهو متعلق بلبث أيضا وإلا أداة استثناء وخمسين منصوب على الاستثناء وعاما تمييز وقد روعيت هنا نكتة نذكرها في باب البلاغة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 409 (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ) الفاء عاطفة وأخذهم الطوفان فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر والواو حالية وهم مبتدأ وظالمون خبر. والطوفان ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة من سيل أو ظلام ليل أو نحوهما قال العجاج: حتى إذا ما يومها تصببا ... وعم طوفان الظلام الأثأبا والبيت للعجاج يصف بقرة وحشية وما زائدة بعد إذا عم بالمهملة ويروى بالمعجمة والمعنيان متقاربان والأثأب نوع من الشجر يشبه شجر التين الواحدة أثأبة ونسبة التصبب لليوم مجاز عقلي من باب الإسناد للزمان أي تصبب المطر وستر ظلامه الشجر الذي كان فيه. (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) الفاء عاطفة وأنجيناه فعل وفاعل ومفعول به وأصحاب عطف على الهاء أو مفعول معه وجعلناها الواو عاطفة وجعلناها فعل وفاعل ومفعول به آية مفعول به ثان وللعالمين صفة لآية. البلاغة: 1- مجيء الأمر بمعنى الخبر: في قوله «ولنحمل خطاياكم» الكلام أمر بمعنى الخبر يعني أن أصل ولنحمل خطاياكم: إن تتبعونا نحمل خطاياكم، فعدل عنه الى ما ذكر مما هو خلاف الظاهر من أمرهم بالحمل، وفي قوله: «انهم لكاذبون» نكتة حسنة يستدل بها على صحة مجيء الأمر بمعنى الخبر فإن من الناس من أنكره ولا حجة له لأن الله تعالى أردف قولهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 410 ولنحمل خطاياكم على صيغة الأمر بقوله: انهم لكاذبون، والتنكيت إنما يتطرق الى الاخبار. 2- نكتة العدد: وذلك في قوله «فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما» فإن الإخبار بهذه الصيغة يمهد عذر نوح عليه السلام في دعائه على قومه بدعوة أهلكتهم عن آخرهم إذ لو قيل: فلبث فيهم تسعمائة وخمسين عاما لما كان لهذه العبارة من التهويل ما للعبارة الأولى لأن لفظة الألف في العبارة الأولى في أول ما يطرق السمع فيشتغل بها عن سماع بقية الكلام من الاستثناء وإذا راجع الاستماع لم يبق للاستثناء بعد ما تقدمه وقع يزيل ما حصل عنده من ذكر الألف فتعظم كبيرة قوم نوح عليه السلام في إصرارهم على المعصية مع طول مدة الدعاء. وعبارة الزمخشري في صدد هذا العدد «فإن قلت هلا قيل تسعمائة وخمسين سنة قلت: ما أورده الله أحكم لأنه لو قيل كما قلت لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره وهذا التوهم زائل مع مجيئه كذلك، وكأنه قيل تسعمائة وخمسين سنة كاملة وافية العدد إلا أن ذلك أخصر وأعذب لفظا وأملأ بالفائدة. وفيه نكتة أخرى وهي أن القصة مسوقة لذكر ما ابتلي به نوح عليه السلام من أمته وما كابده من طول المصابرة تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيتا له فكان ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكثر منه أوقع وأوصل الى الغرض من استطالة السامع مدة صبره» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 411 نكتة ثانية في العدد: وهناك نكتة ثانية وهو انه غاير بين تمييز العددين فقال في الأول «سنة» وقال في الثاني «عاما» لئلا يثقل اللفظ ثم انه خص لفظ العام بالخمسين إيذانا بأن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما استراح منهم بقي في زمن حسن والعرب تعبر عن الخصب بالعام وعن الجدب بالسنة. نكتة ثالثة في العدد: وهناك نكتة ثالثة اكتشفها الرازي قال: «فإن قلت ما الفائدة في مدة لبثه؟ قلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضيق صدره بسبب عدم دخول الكفار في الإسلام فقال له الله تعالى: إن نوحا لبث في قومه هذا العدد الكبير ولم يؤمن من قومه إلا القليل فصبر وما ضجر فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك» . الفوائد: في قوله «ولنحمل خطاياكم» الأصل دخول لام الأمر ولا الناهية على فعل الغائب معلوما ومجهولا وعلى المخاطب والمتكلم المجهولين ويقل دخولها على المتكلم المفرد المعلوم فإن كان المتكلم غيره فدخولهما عليه أهون وأيسر كالآية المتقدمة وقول الشاعر: إذا ما خرجنا من دمشق فلا نعد ... لها أبدا ما دام فيها الجراضم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 412 [سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 الى 23] وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) الإعراب: (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) كلام مستأنف لسوق قصة ثانية بعد قصة نوح والطوفان. وابراهيم منصوب بفعل محذوف تقديره الجزء: 7 ¦ الصفحة: 413 أذكر، وإذ الظرف بدل اشتمال من ابراهيم ولك أن تجعله كلاما معطوفا فتعطف ابراهيم على نوحا وتعلق الظرف بأرسلنا والمعنى عندئذ أرسلنا إبراهيم حين بلغ من السن مبلغا يخاطب فيه قومه بعبارات الوعظ والإرشاد، وجملة قال لقومه في محل جر بإضافة الظرف إليها ولقومه متعلقان بقال. (اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الجملة مقول قول ابراهيم لقومه، واعبدوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ولفظ الجلالة مفعوله واتقوه عطف على اذكروا الله وذلكم مبتدأ وخير خبر ولكم متعلقان بخير وإن شرطية وكنتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وجملة تعلمون خبرها وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فاعبدوا الله واتقوه. (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) إنما كافة ومكفوفة وتعبدون فعل مضارع وفاعل ومن دون الله حال وأوثانا مفعول به وتخلقون إفكا عطف على ما قبله ويجوز في الإفك أن يكون مصدرا وأن يكون صفة أي خلقا إفكا أي ذا إفك وباطل. (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) إن واسمها وجملة تعبدون صلة ومن دون الله حال وجملة لا يملكون خبر إن ولكم متعلقان برزقا ورزقا مفعول به ليملكون لأنه بمعنى المرزوق أو مصدر مؤول من إن والفعل أن لا يقدرون أن يرزقوكم ويجوز نصبه على المصدر وناصبه لا يملكون لأنه في معناه. (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) الفاء الفصيحة وابتغوا فعل أمر وفاعل وعند الله متعلقان بابتغوا والرزق مفعول ابتغوا واعبدوه واشكروا له عطف على ابتغوا واليه متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 414 (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) عطف على ما تقدم منتظم في سلك حديث ابراهيم عليه السلام لقومه، وان شرطية وتكذبوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل، فقد الفاء رابطة للجواب لاقترانه بقد وكذب أمم فعل وفاعل ومن قبلكم صفة لأمم وقيل جواب الشرط محذوف أي فلا يضرني تكذيبكم فقد كذّب أمم من قبلكم أنبياءهم ورسلهم، وما الواو حالية أو استئنافية وما نافية وعلى الرسول خبر مقدم وإلا أداة حصر والبلاغ مبتدأ مؤخر والمبين صفة لبلاغ. (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على محذوف يقتضيه السياق ولم حرف نفي وجزم وقلب وكيف اسم استفهام في محل نصب حال وجملة يبدىء الله الخلق في محل نصب مفعول يروا لأنها علقت عن العمل بالاستفهام والرؤية قلبية والمراد بها العلم الصحيح الواضح لأنه كالرؤية البصرية، ثم يعيده كلام مستأنف أو هو كلام معطوف على أولم يروا وسبب امتناع عطفه على يبدىء لأن المقصود الاستدلال بما علموه من أحوال المبدأ على المعاد لإثباته فلو كان معلوما لهم لكان تحصيلا للحاصل ولا يقال انه من قبيل عطف الخبر على الإنشاء لأن الاستفهام متضمن معنى الإنكار والتقرير فهو بمثابة الإخبار وإن واسمها وعلى الله متعلقان بيسير ويسير خبر إن. (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) الكلام حكاية قول ابراهيم لقومه أو حكاية قول الله لابراهيم وسيروا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وفي الأرض متعلقان بسيروا، فانظروا عطف على سيروا وكيف حال وبدأ الخلق فعل وفاعل مستتر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 415 ومفعول به والجملة في محل نصب مفعول انظروا المعلقة بسبب الاستفهام. (ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ثم حرف عطف والله مبتدأ وجملة ينشىء خبر والنشأة الآخرة نصب على المصدرية المحذوفة الزوائد والأصل الإنشاءة وقرىء النشاءة بالمد وهما لغتان كالرأفة والرآفة وإن واسمها وعلى كل شيء متعلقان بقدير وقدير خبر ان. (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) الجملة حالية أو خبر ثان لإن أو مستأنفة ويعذب فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله ومن مفعوله وجملة يشاء صلة من ويرحم من يشاء عطف على يعذب من يشاء وإليه متعلقان بتقلبون وتقلبون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل ومعنى تقلبون: تردون وترجعون. (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) الواو عاطفة وما نافية حجازية وأنتم اسمها والخطاب لأهل الأرض والباء حرف جر زائد ومعجزين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما وفي الأرض حال ومفعول معجزين محذوف للعلم به أي الله تعالى أي لا تفوتونه إن حاولتم الهرب من قضائه، ولا في السماء عطف على في الأرض ان حمل السماء على العلو فجائز، أي في البروج والقلاع الذاهبة في العلو، ويكون تخصيصا بعد تعميم وما نافية ولكم خبر مقدم ومن دون الله حال ومن ولي من حرف جر زائد وولي مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ مؤخر ولا نصير عطف على من ولي. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة وبآيات الله متعلقان بكفروا ولقائه عطف على آيات وأولئك مبتدأ وجملة يئسوا من رحمتي خبر أولئك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 416 وجملة أولئك يئسوا خبر الذين. (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وأولئك الواو عاطفة وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم صفة لعذاب وجملة لهم عذاب أليم خبر أولئك. البلاغة: 1- نكر الرزق في قوله (لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) ثم عرفه بقوله «فابتغوا عند الله الرزق» لأن الأول مقصور عليهم فاستوجب أن يكون ضئيلا قليلا فنكره تدليلا على قلته وضآلته، ولما كان الثاني مبتغى عند الله استوجب أن يكون كثيرا لأنه كله عند الله فعرفه تدليلا على كثرته وجسامته. 2- الإضمار والإظهار: في قوله «أولم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشىء النشأة الآخرة» فن قل من يتفطّن اليه لأنه دقيق للغاية ولا يجنح إليه الكاتب أو الشاعر إلا لفائدة تربو على البداهة وهي تعظيم شأن الأمر. ألا ترى أنه صرح باسمه تعالى في قوله «ثم الله ينشىء النشأة الآخرة» مع إيقاعه مبتدأ، وقد كان القياس أن يقول: كيف بدأ الله الخلق ثم ينشىء النشأة الآخرة فأفصح باسمه بعد إضماره والفائدة في ذلك أنه لما كانت الإعادة عندهم من الأمور العظيمة وكان صدر الكلام واقعا معهم في الإبداء وقرر لهم أن ذلك من الله احتج عليهم بأن الاعادة إنشاء مثل الإبداء وإذا كان الله الذي لا يعجزه شيء هو الذي لا يعجزه الإبداء فوجب أن لا تعجزه الإعادة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 417 فللدلالة وللتنبيه على عظم هذا الأمر الذي هو الاعادة أبرز اسمه تعالى وأوقعه مبتدأ، والأصل في الكلام الأظهار ثم الإضمار ويليه لقصد التفخيم الإظهار بعد الإظهار ويليه وهو أفخم الثلاثة الإظهار بعد الإضمار كما في الآية. وعلى هذا يقاس ما ورد من كلامهم كقول بعضهم يصف لقاء مع بني تميم قال: «ولما تلاقينا وبنو تميم أقبلوا نحونا يركضون فرأينا منهم أسودا ثكلا تسابق الأسنة الى الورود، ولا ترتد على أعقابها إذا ارتدت أمثالها من الأسود وتناجد بنو تميم علينا بجملة فلذنا بالفرار واستبقنا الى تولية الإدبار» فإنه إنما قيل «وتناجد بنو تميم» مصرحا باسمهم ولم يقل وتناجدوا كما قيل «أقبلوا» للدلالة على التعجب من إقدامهم عند الحملة وثباتهم عند الصدمة لا سيما وقد أردف ذلك بقوله «لذنا بالفرار، واستبقنا الى تولية الأدبار» كأنه قال: وتناجد أولئك الفرسان المشاهير، والفرسان الكماة المناكير وحملوا علينا حملة واحدة فولينا مدبرين منهزمين. ولقد أشار الامام الرازي الى هذه النكتة ولكنه أوردها موردا آخر ولذلك ننقل عبارته بنصها: «أبرز اسم الله في الآية الأولى عند البدء حيث قال: كيف يبدىء الله الخلق وأضمره عند الإعادة، وفي هذه الآية أضمره عند البدء وأبرزه عند الإعادة حيث قال: ثم الله ينشىء النشأة لأنه في الآية الأولى لم يسبق ذكر الله بفعل حتى يسند اليه البدء فقال يبدىء الله ثم قال: ثم يعيده وفي الآية الثانية كان ذكر البدء مسندا الى الله تعالى فاكتفى به وأما إظهاره عند الإنشاء ثانيا حيث قال: ثم الله ينشىء النشأة، فليقع في ذهن السامع كمال قدرته الجزء: 7 ¦ الصفحة: 418 وعلمه وإرادته ولم يقل يعيده بل قال ينشىء للتنبيه على أن البدء يسمى نشأة كالإعادة والتغاير بينهما بالوصف حيث قالوا: نشأة أولى ونشأة ثانية» . [سورة العنكبوت (29) : الآيات 24 الى 27] فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) الإعراب: (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) الفاء عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص وجواب خبرها المقدم وإلا أداة حصر وأن قالوا مصدر مؤول هو اسم كان المؤخر أي قال بعضهم لبعض فكانوا جميعا في حكم القائلين، واقتلوه فعل أمر وفاعل ومفعول به والجملة مقول القول وأو حرف عطف وحرّقوه عطف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 419 على اقتلوه. (فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) الفاء الفصيحة أي فقذفوه في النار فأنجاه الله، وأنجاه الله فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ومن النار متعلقان بأنجاه وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها المؤخر ولقوم صفة لآيات وجملة يؤمنون صفة لقوم. (وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) الواو عاطفة وقال عطف على أنجيناه وإنما كافة ومكفوفة واتخذتم فعل وفاعل ومن دون الله في موضع المفعول الثاني لاتخذتم وأوثانا مفعول به أول لاتخذتم ومودة مفعول لأجله أو منصوبة بفعل محذوف تقديره أعني وبينكم مضاف الى مودة وفي الحياة الدنيا متعلقان باتخذتم أو بمحذوف حال. وهذه الآية شغلت المعربين كثيرا لاختلاف قراءاتها وتباين وجهات النظر فيها وقد ابتسرنا الكلام في الاعراب على قراءة حفص واخترنا أمثل الأوجه وأسهلها وسننقل في باب الفوائد غيضا من فيض مما قيل فيها شحذا للأذهان. (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ثم حرف عطف للتراخي ويوم القيامة ظرف متعلق بيكفر وبعضكم فاعل وببعض متعلقان بيكفر أيضا ويلعن بعضكم بعضا فعل مضارع وفاعل ومفعول به. (وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) مأواكم مبتدأ أو خبر مقدم والنار خبر أو مبتدأ مؤخر والواو عاطفة وما نافية ولكم خبر مقدم ومن حرف جر زائد وناصرين مبتدأ مؤخر وهو مجرور لفظا. (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الفاء عاطفة وآمن فعل ماض ولوط فاعله وله متعلقان بآمن وقال عطف على فآمن وفاعله مستتر يعود على ابراهيم ولذلك يجب الوقف على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 420 لوط لأن قوله إني مهاجر مقول ابراهيم فلو وصل لتوهم أن الفعل الثاني للوط فيفسد المعنى وان واسمها ومهاجر خبرها وإلى ربي متعلقان بمهاجر أي الى حيث يأمرني ربي، ففي الكلام مجاز، وان واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والعزيز خبر إني أو خبر هو والجملة خبر إني والحكيم خبر ثان. (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) ووهبنا فعل وفاعل وله متعلقان بوهبنا واسحق مفعول به ويعقوب عطف عليه وجعلنا فعل وفاعل وفي ذريته في موضع المفعول الثاني والشجرة هي المفعول الأول والكتاب عطف على النبوة. (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) وآتيناه فعل وفاعل ومفعول به والواو عاطفة وأجره مفعول به ثان وفي الدنيا حال وانه وان واسمها وفي الآخرة حال واللام المزحلقة ومن الصالحين خبر إنه. الفوائد: قدمنا لك أمثل الأوجه في إعراب قوله تعالى «وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا» ووعدناك أن ننقل شيئا مما قالوه فيها وكله من الكلام الجيد والمنطق الحصيف ونبدأ بما قاله الزمخشري قال: «قرىء على النصب بغير إضافة وبإضافة وعلى الرفع كذلك، فالنصب على التعليل أي لتتوادوا بينكم وتتوصلوا لاجتماعكم على عبادتها واتفاقكم عليها كما يتفق الناس على مذهب فيكون ذلك سبب تحابهم وتصادقهم، وأن يكون مفعولا ثانيا كقوله: «اتخذ إلهه هواه» أي اتخذتم الأوثان سبب المودة بينكم على تقدير حذف المضاف أو اتخذتموها مودة بينكم بمعنى مودودة بينكم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 421 كقوله تعالى: «ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله» وفي الرفع وجهان: أن يكون خبرا لأن على أن ما موصولة وأن يكون خبر مبتدأ محذوف والمعنى أن الأوثان مودة بينكم أي مودودة أو سبب مودة، وعن عاصم: مودة بينكم بفتح بينكم مع الإضافة كما قرىء «لقد تقطع بينكم» ففتح وهو فاعل، وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه «أوثانا انما مودة بينكم في الحياة الدنيا» أي إنما تتوادون عليها أو تودونها في الحياة الدنيا» . وقال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين: «وقال انما اتخذتم: في ما هذه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف وهو المفعول الأول وأوثانا مفعول ثان والخبر مودة في قراءة من رفع كما سيأتي والتقدير إن الذي اتخذتموه أوثانا مودة أي ذو مودة، أو جعل نفس المودّة مبالغة ومحذوف على قراءة من نصب مودة أي الذي اتخذتموه أوثانا لأجل المودة لا ينفعكم أو يكون عليكم لدلالة قوله ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض. والثاني: أن تجعل ما كافة وأوثانا مفعول به، والاتخاذ هنا متعد لواحد أو لاثنين والثاني هو من دون الله فمن رفع مودة كانت خبر مبتدأ مضمر أي هي مودة أي ذات مودة أو جعلت نفس المودة مبالغة والجملة حينئذ صفة لأوثانا أو مستأنفة، ومن نصب كان مفعولا له أو بإضمار أعني. الثالث: ان تجعل ما مصدرية وحينئذ يجوز أن يقدر مضاف من الأول أي إن سبب اتخاذكم أوثانا مودة فيمن رفع مودة ويجوز الجزء: 7 ¦ الصفحة: 422 أن لا يقدر بل يجعل نفس الاتخاذ هو المودة مبالغة، وفي قراءة من نصب يكون الخبر محذوفا على ما مر في الوجه الأول، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي برفع مودة غير منونة وجر بينكم، ونافع وابن عامر وأبو بكر بنصب مودة منونة ونصب بينكم، وحمزة وحفص بنصب مودة غير منونة وجر بينكم، فالرفع قد تقدم والنصب أيضا تقدم فيه وجهان ويجوز وجه ثالث وهو أن يجعل مفعولا ثانيا على المبالغة للاتساع في الظرف، ومن نصبه فعلى أصله، ونقل عن عاصم أنه رفع مودة غير منونة ونصب بينكم وخرجت على إضافة مودة للظرف وإنما بني لإضافته الى غير متمكن كقراءة «لقد تقطع بينكم» بالفتح إذا جعلنا بينكم فاعلا» . وفي كتاب أبي البقاء جاء قوله «قوله تعالى «انما اتخذتم» في ما ثلاثة أوجه أحدها هي بمعنى الذي والعائد محذوف أي اتخذتموه و «أوثانا» مفعول ثان أو حال و «مودة» الخبر على قراءة من رفع والتقدير ذو مودة، والثاني هي كافة وأوثانا مفعول ومودة بالنصب مفعول له وبالرفع على إضمار مبتدأ وتكون الجملة نعتا لأوثان ويجوز أن يكون النصب على الصفة أيضا أي ذوي مودة، والوجه الثالث أن تكون ما مصدرية ومودة بالرفع الخبر ولا حذف في هذا الوجه في الخبر بل في اسم ان والتقدير ان سبب اتخاذكم مودة، ويقرأ مودة بالاضافة في الرفع والنصب و «بينكم» بالجر وبتنوين مودة في الوجهين جميعا، ونصب بين وفيما يتعلق به «في الحياة الدنيا» سبعة أوجه: (الاول) أن يتعلق باتخذتم إذا جعلت ما كافة لا على الوجهين الآخرين لئلا يؤدي الى الفصل بين الموصول وما في الصلة بالخبر و (الثاني) أن يتعلق بنفس مودة إذا لم تجعل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 423 بين صفة لها لأن المصدر إذا وصف لا يعمل و (الثالث) أن تعلقه بنفس بينكم لأن معناه اجتماعكم أو وصلكم و (الرابع) أن تجعله صفة ثانية لمودة إذا نونتها وجعلت بينكم صفة و (الخامس) أن تعلقها بمودة وتجعل بينكم ظرف مكان فيعمل مودة فيهما و (السادس) أن تجعله حالا من الضمير في بينكم إذا جعلته وصفا لمودة و (السابع) أن تجعله حالا من بينكم لتعرفه بالاضافة، وأجاز قوم منهم أن تتعلق في بمودة: وإن كان بينكم صفة لأن الظروف يتسع فيها بخلاف المفعول به» . [سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 30] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) اللغة: (نادِيكُمُ) النادي والندوة والمنتدى مجلس القوم نهارا أو المجلس ما داموا مجتمعين فيه وجمعه أندية ولا تقل نواد، وغلط صاحب المنجد فجمعه على نواد، وما يندوهم النادي أي ما يسعهم المجلس من كثرتهم. وقال الزمخشري: «ولا يقال للمجلس ناد إلا ما دام فيه أهله فإذا قاموا عنه لم يبق ناديا» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 424 الإعراب: (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) عطف على إبراهيم أو منصوب بفعل محذوف تقديره اذكر، والظرف بدل اشتمال من لوطا وجملة قال في محل جر باضافة الظرف إليها ولقومه متعلقان بقال وجملة إنكم لتأتون مقول القول وان واسمها واللام المزحلقة وجملة تأتون خبرها والواو فاعل والفاحشة مفعول به وجملة ما سبقكم مستأنفة مسوقة لتقرير فحشها وهجنة فاعلها ورجح أبو حيان أن تكون حالية كأنه قال: أتأتون الفاحشة مبتدعين لها غير مسبوقين بها، وما نافية وسبقكم فعل ماض ومفعول به وبها متعلقان بسبقكم ومن حرف جر زائد وأحد مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل سبقكم ومن العالمين صفة لأحد. (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) الهمزة للاستفهام الانكاري وانكم إن واسمها واللام المزحلقة وجملة تأتون خبر إن والرجال مفعول به وتقطعون السبيل عطف على تأتون الرجال، قيل انهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمر بهم من المسافرين، فلما فعلوا ذلك ترك الناس المرور بهم فقطعوا السبيل بهذا السبب، وتأتون عطف أيضا وفي ناديكم متعلقان بتأتون والمنكر مفعول به. (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) الفاء عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص وجواب خبر كان المقدم وإلا أداة حصر وأن وما في حيزها اسم كان المؤخر وجملة ائتنا مقول القول وائتنا فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وبعذاب الله متعلقان بائتنا وإن شرطية وكنت فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها ومن الصادقين خبرها وجواب إن محذوف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 425 دل عليه ما قبله أي فائتنا بعذاب الله. (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) رب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وحرف النداء محذوف وانصرني فعل دعاء والفاعل مستتر والنون للوقاية والياء مفعول به وعلى القوم متعلقان بانصرني والمفسدين صفة للقوم. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 31 الى 35] وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) اللغة: (ذَرْعاً) : الذرع: الطاقة والقوة وفي المصباح: «ضاق بالأمر ذرعا عجز عن احتماله وذرع الإنسان طاقته التي يبلغها» وعبارة الزمخشري: «وقد جعلت العرب ضيق الذراع والذرع عبارة عن فقد الطاقة كما قالوا رحب الذراع بكذا إذا كان مطيقا له والأصل فيه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 426 أن الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع فضرب ذلك مثلا في العجز والقدرة» وفي الأساس واللسان العجيب من مجاز هذه الكلمة إذ يقال: ضاق بالأمر ذرعا وذراعا إذا لم يطقه وأبطرت ناقتك ذرعها كلفتها ما لم تطق واقصد بذرعك واربع على ظلعك: ارفق بنفسك، وما لك عليّ ذراع أي طاقة وطفت في مذارع الوادي وهي أضواحه ونواحيه وقد أذرع في كلامه هو يذرع فيه إذراعا وهو الإكثار وفلان ذريعتي إليك وقد تذرعت به إليه أي توسلت وسألته عن أمره فذرّع لي منه شيئا وذرعت لفلان عند الأمير: شفعت له وأنا ذريع له عنده ووقع فيهم موت ذريع: سريع فاش وذلك إذا لم يتدافنوا واستوى كذراع العامل وهو صدر القناة وهو لك مني على حبل الذراع أي حاضر قريب وجعلت أمرك على ذراعك أي اصنع ما شئت. هذا والذراع من الرجل من طرف المرفق الى طرف الإصبع الوسطى والساعد مؤنثة فيهما وقد تذكّر والذراع من المقاييس طوله بين الخمسين والسبعين سنتيمترا. (رِجْزاً) : الرجز والرجس: العذاب من قولهم ارتجز وارتجس إذا اضطرب لما يلحق المعذب من القلق والاضطراب. الإعراب: (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) الواو عاطفة على محذوف يقتضيه السياق أي فاستجاب الله دعاء لوط وأرسل ملائكة لإهلاكهم وأمرهم أن يبشروا ابراهيم بالذرية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 427 الطيبة فجاءوا أولا إلى ابراهيم. ولما ظرفية حينية أو رابطة وجاءت رسلنا ابراهيم فعل وفاعل ومفعول به وبالبشرى متعلقان بجاءت وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة إنا مقول القول وإن واسمها ومهلكو خبرها وأهل هذه مضافين والقرية بدل من هذه وهي سذوم أو سدوم وقد تقدم تفصيل ذكرها فجدد به عهدا. (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) الجملة لا محل لها لأنها تعليل للإهلاك وان واسمها وجملة كانوا خبرها وظالمين خبر كانوا. (قالَ: إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) إن حرف مشبه بالفعل وفيها خبرها المقدم ولوطا اسمها المؤخر وسيأتي معنى هذا الإخبار في باب البلاغة وقالوا فعل وفاعل ونحن مبتدأ وأعلم خبر وبمن متعلقان بأعلم وفيها صلة من. (لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) اللام موطئة للقسم وننجينه فعل مضارع مبني على الفتح وفاعله مستتر تقديره نحن وأهله عطف على الهاء أو مفعول معه وإلا أداة استثناء وامرأته مستثنى وقد تقدم هذا وجملة كانت حالية وكانت فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هي ومن الغابرين خبرها أي الباقين في العذاب. (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أن زائدة بعد لما تفيد المهلة مع الترتيب في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما وقد تقدم نظيرها في يوسف وجملة سيء بهم لا محل لها وسيء فعل ماض مبني للمجهول وبهم متعلقان بسيء ونائب الفاعل هو ضمير المصدر أي جاءته المساءة والغم بسببهم على حد قوله: يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلّم إلا حين يبتسم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 428 وسيأتي تفصيل لهذا في باب الفوائد. وضاق بهم عطف على سيء وذرعا تمييز محول عن الفاعل أي ضاق ذرعه بهم، ويحتمل أن نائب الفاعل ضمير يعود على لوط (وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) الواو استئنافية وقالوا فعل وفاعل وإنا وإن واسمها ومنجوك خبرها والكاف في موضع جر بالإضافة وعلى هذا تنصب وأهلك بفعل محذوف أي وننجي أهلك، وما بعده تقدم إعرابه. (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) ان واسمها ومنزلون خبرها وعلى أهل هذه القرية متعلقان بمنزلون ورجزا مفعول به لمنزلون لأنه اسم فاعل ومن السماء صفة لرجز وبما الباء سببية وما مصدرية أي بسبب فسقهم، وكان واسمها وجملة يفسقون خبرها. (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وتركنا فعل وفاعل ومنها متعلقان بتركنا أو هو المفعول الثاني لها وآية مفعولها الاول وبينة صفة لأن «ترك» اختلف فيها النحاة فمنهم من جعلها تتعدى الى واحد ومنهم من جعلها بمعنى صير فإلى مفعولين وهو اختيار ابن مالك وأنشد: وربيته حتى إذا ما تركته ... أخا القوم واستغنى عن المسح ساربه ولقوم متعلقان ببينة وجملة يعقلون صفة لقوم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 429 البلاغة: فن الاشارة: في قوله «ان فيها لوطا» فن الاشارة وقد تقدم ذكره كثيرا في هذا الكتاب فليس المراد إخبارهم بكون لوط في القرية وانما هو جدال في شأنه لأنهم ذكروا أن أهلها سيهلكون بسبب امعانهم في الظلم فاعترض عليهم بأن فيها من هو بريء الساحة من الذنب لم يجترح ذنبا ولم يقترف إثما ولم يشارك قومه فيما هم ممعنون فيه من غي وارتكاس وفي هذا كله أيضا إشارة الى أن من واجب الإنسان المؤمن أن يتحزن لأخيه وأن يسارع الى رد الحيف عنه ويتشمر للدفع عنه وهذا من بليغ الاشارة وخفيها. الفوائد: نائب الفاعل: ينوب عن الفاعل بعد حذفه واحد من أربعة: 1- المفعول به نحو «وغيض الماء وقضي الأمر» . 2- المجرور بحرف الجر نحو «ولما سقط في أيديهم» شريطة أن لا يكون حرف الجر للتعليل فلا يقال وقف لك ولا من أجلك ويقال في إعرابه انه مجرور لفظا بحرف الجر مرفوع محلا على أنه نائب فاعل، غير انه إذا كان مؤنثا لا يؤنث فعله بل يبقى مذكرا فلا يقال ذهبت بفاطمة بل ذهب بفاطمة. 3- الظرف المتصرف المختص نحو مشي يوم كامل وصيم رمضان، والمراد بالظرف المتصرف ما يصح الإسناد اليه كيوم وليلة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 430 ودهر وشهر وغير المتصرف ما لا يصح الاسناد اليه كحيث وعند، والمراد بالمختص أن يكون مفيدا غير مبهم ويكون مختصا بالوصف نحو جلس مجلس مفيد أو بالاضافة نحو سهرت ليلة القدر أو بالعلمية نحو صيم رمضان فلا تنوب عن الفاعل الظروف المبهمة نحو زمان ووقت ومكان غير مضافة. 4- المصدر المتصرف المختص نحو «فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة» فنفخة نائب الفاعل وهو مصدر متصرف يصح الإسناد إليه ومختص لكونه موصوفا ويمتنع سير سير لعدم الفائدة، وقد ينوب عن الفاعل في المصدر المتصرف المختص ومنه قول الفرزدق: يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلّم إلا حين يبتسم فيكون المعنى يغضي الإغضاء المعهود وهو إغضاء الإجلال من مهابته فنائب الفاعل ضمير الإغضاء المفهوم من يغضي، ولا يجوز أن يكون من مهابته في موضع الرفع على أنه نائب الفاعل لأن حرف الجر هنا للتعليل فهو في محل نصب على أنه مفعول من أجله، ومن أمثلته أيضا قول طرفة بن العبد البكري: فيا لك من ذي حاجة حيل دونها ... وما كل ما يهوى امرؤ هو نائله فيكون المعنى حيل الحول المعهود، ولا يصح أن يكون الظرف لأنه غير متصرف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 431 [سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 40] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) اللغة: (وَلا تَعْثَوْا) : ولا تفسدوا وفي المصباح: «عثا يعثو وعثي يعثى من باب قال وتعب أفسد فهو عاث» وفي القاموس: «وعثا كرمى وسعى ورضي عثيّا وعثيّا وعثيانا، وعثا يعثو عثوّا أفسد» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 432 (الرَّجْفَةُ) : الزلزلة الشديدة وفي الأساس: «ورجفت الأرض «فأخذتهم الرجفة» «يوم ترجف الأرض والجبال» ورجف الشجر وأرجفته الريح ورجف البعير تحت الرحل والمطي تحت رحالها رواجف ورجّف، وجاءنا شيخ ترجف عظامه. ومن المجاز: خرجوا يسترجفون الأرض نجدة وارتجفت بهم دفتا الشرق والغرب وأرجفوا في المدينة بكذا إذا أخبروا به على أن يوقعوا في الناس الاضطراب من غير أن يصيح عندهم وهذا من أراجيف الغواة والإرجاف مقدمة الكون وتقول: إذا وقعت المخاويف، كثرت الأراجيف» . (حاصِباً) : ريحا عاصفة فيها حصباء وفي المختار: «عصفت الريح اشتدت وبابه ضرب» . الإعراب: (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) الواو عاطفة والى مدين متعلقان بمحذوف معطوف على أرسلنا في قصة نوح أي وأرسلنا الى مدين شعيبا وأخاهم مفعول به وشعيبا بدل أو عطف بيان والفاء عاطفة وقال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ويا حرف نداء وقوم منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وقد مر حكم المنادى المضاف الى ياء المتكلم واعبدوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وارجوا عطف على اعبدوا واليوم مفعول به والآخر صفة لليوم. (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتعثوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل وفي الأرض متعلقان بتعثوا ومفسدين حال. (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) الفاء عاطفة وكذبوه فعل ماض وفاعل ومفعول به، فأخذتهم الفاء عاطفة وأخذتهم فعل ماض ومفعول به مقدم والرجفة فاعل مؤخر فأصبحوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 433 عطف على فأخذتهم والواو اسم أصبح وفي دارهم متعلقان بجاثمين وجاثمين خبر أصبحوا. (وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) الواو عاطفة وعادا مفعول به لفعل محذوف معطوف على ما قبله أي وأهلكنا عادا، وثمودا عطف على عادا بالصرف وتركه والواو عاطفة وقد حرف تحقيق وتبين فعل ماض وفاعل مستتر تقديره إهلاكهم وقدره بعضهم آيات بينات تتعظون بها وتتفكرون فيها ومن مساكنهم متعلقان بتبين أي من جهة مساكنهم إذا عرجتم بها. (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) الواو عاطفة وزين فعل ماض ولهم متعلقان بزين والشيطان فاعل وأعمالهم مفعول به فصدهم عطف على زين وعن السبيل متعلقان بصدهم والواو حالية وكانوا فعل ماض ناقص والواو اسمها ومستبصرين خبرها أي والحال أنهم كانوا متمكنين من النظر والاستبصار ولكنهم أصموا آذانهم وأغشوا عيونهم عن الحق ورؤية معالمه. (وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ) وقارون معطوف على عاد، وفرعون وهامان عطف عليه وقدم قارون لقرابته من موسى أي أهلكناهم جميعا والواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وجاءهم فعل ومفعول به مقدم وموسى فاعل وبالبينات متعلقان بجاءهم فاستكبروا عطف على جاءهم وفي الأرض متعلقان باستكبروا والواو حالية وما نافية وكانوا كان واسمها وسابقين خبرها أي أنهم لجوا في طغيانهم ولكنهم لم يكونوا فائتين فأدركهم عذابنا. (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) الفاء الفصيحة أي إن شئت أن تعرف مصيرهم فقد أخذنا كلا منهم بذنبه. وكلّا مفعول مقدم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 434 لأخذنا وأخذنا فعل وفاعل، فمنهم الفاء عاطفة ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وهي نكرة موصوفة وأرسلنا صفة وعليه متعلقان بأرسلنا وحاصبا مفعول أرسلنا. (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) الواو عاطفة ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة أخذته الصيحة صفة، ومنهم من خسفنا به الأرض: عطف على سابقتها وكذلك ومنهم من أغرقنا. (وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الواو عاطفة وما نافية وكان الله كان واسمها واللام لام الجحود ويظلمهم منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد لام الجحود والواو حالية ولكن مخففة مهملة وكانوا كان واسمها وأنفسهم مفعول مقدم وجملة يظلمون خبر كانوا. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 44] مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اللغة: (الْعَنْكَبُوتِ) : دويّبة معروفة تنسج من لعابها خيوطا وتصيد بذلك النسيج طعامها والجمع عناكب وعنكبوتات والعنكب ذكرها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 435 والجمع عناكب وعناكيب والعنكبة والعنكباة والعكنباة أنثاها والجمع عناكب وعناكيب، وقال علماء التصريف «والعنكبوت معروف ونونه أصليه والواو والتاء مزيدتان بدليل قولهم في الجمع عناكب وفي التصغير عنيكيب ويذكر ويؤنث وهذا مطرد في أسماء الأجناس» وقال ابن يعيش في شرح المفصل «ومن ذلك فعللوت قالوا عنكبوت وتخربوت ولم يأت صفة فالعنكبوت معروفة وهي دويبة تنسج لها بيوتا من خيوط واهية والتخربوت الناقة الفارهة والواو والتاء في آخرهما زائدتان زيدا في آخر الرباعي كما زيدا في آخر الثلاثي من نحو ملكوت ورهبوت» وسيأتي البحث عن التشبيه المتعلق ببيت العنكبوت في باب البلاغة. الإعراب: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) حال من اتخذ الأصنام أولياء وعبدها واعتمدها راجيا نفعها وشفاعتها كحال العنكبوت كما سيأتي في باب البلاغة. ومثل مبتدأ والذين مضاف اليه وجملة اتخذوا صلة وهو فعل وفاعل ومن دون الله حال وأولياء مفعول به وكمثل خبر وقد تقدم نظيره، العنكبوت مضاف اليه وجملة اتخذت بيتا حالية. (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لو شرطية وكان واسمها وجملة يعلمون خبرها وجواب لو محذوف تقديره لما عبدوها. (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الجملة تعليل لما قبله وان واسمها وجملة يعلم خبرها وما اسم موصول مفعول يعلم وجملة يدعون صلة والعائد محذوف أي يعلم الذين يدعونهم ويعلم أحوالهم والمراد بالتعليل التوكيد لما ضربه من مثل ومن دونه حال ومن شيء متعلقان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 436 بيدعون ويجوز أن تكون ما نافية ومن شيء مفعول يدعون على أن من زائدة لسبقها بالنفي وجملة ما يدعون في محل نصب مفعول يعلم وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والحكيم خبر ثان. وقال بعضهم: «ما استفهامية أو نافية أو موصولة ومن للتبعيض أو مزيدة للتوكيد، وقيل ان هذه الجملة على إضمار القول أي قل للكافرين إن الله يعلم أي شيء يدعون من دونه» . (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) الواو عاطفة وتلك مبتدأ والأمثال بدل وجملة نضربها للناس خبر ويجوز أن يكون الأمثال خبرا وجملة نضربها حال يكون أو خبرا ثانيا، والواو حالية وما نافية ويعقلها فعل مضارع ومفعول به وإلا أداة حصر والعالمون فاعل يعقلها وسيأتي بحث الأمثال في باب البلاغة. (خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) كلام مستأنف للشروع في تسلية المؤمنين بعد أن خامرهم اليأس من إيمان الكفار. وخلق الله السموات فعل وفاعل ومفعول به وبالحق حال والباء للملابسة وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبر إن المقدم واللام المزحلقة وآية اسم إن المؤخر وللمؤمنين صفة لآية. البلاغة: في قوله «وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت» فن التمثيل وقد تقدمت نماذج مختارة منه وبعضهم يجعله ضربا من ضروب الاستعارة ويمثل له بقول امرئ القيس: وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتّل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 437 فمثّل عينيها بسهمي الميسر يعني المعلّى وله سبعة أنصباء، والرقيب وله ثلاثة أنصباء فصار جميع أعشار قلبه للسهمين اللذين مثل بهما عينيها، ومثّل قلبه بأعشار الجزور فتمت له جهات الاستعارة والتمثيل. وفي الآية مثّل ما اتخذوه متكلا ومعتمدا في دينهم وتولوه من دون الله بما هو مثل عند الناس في الوهن وضعف القوة وهو نسج العنكبوت، أي كما صح أن أوهن البيوت بيت العنكبوت فقد صح أن دينهم أضعف الأديان وأوهنها. ومن جيد التمثيل قول عمر بن أبي ربيعة وكانوا يسمون شعره «الفستق المقشر» : أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمّرك الله كيف يلتقيان هي شامية إذا ما استهلت ... وسهيل إذا استقل يماني يعني الثريا بنت علي بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر. وكانت نهاية في الحسن والكمال، وسهيل بن عبد الرحمن بن عوف وكان غاية في القبح والدمامة، فمثّل بينهما وبين سمييهما ولم يرد إلا بعد ما بينهما وتفاوته خاصة لأن سهيلا اليماني قبيح لا دميم. وعليه ورد قول المتنبي أيضا من قصيدة يذكر فيها خروج شبيب الخارجي ومخالفته كافورا: برغم شبيب فارق السيف كفه ... وكانا على العلات يصطحبان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 438 كأن رقاب الناس قالت لسيفه ... رفيقك قيسي وأنت يماني فإن شبيبا الخارجي الذي خرج على كافور الاخشيدي وقصد دمشق وحاصرها وقتل على حصارها كان من قيس ولم تزل بين قيس واليمن عداوات وحروب، وأخبار ذلك مشهورة والسيف الذي يقال له يماني في نسبته الى اليمن، ومراد المتنبي أن شبيبا لما قتل وفارق كفه السيف فكأن الناس قالوا لسيفه: أنت يماني وصاحبك قيسي ولهذا جانبه السيف وفارقه. التمثيل في رأي عبد القاهر: وسبب آخر يذكره عبد القاهر مبينا به روعة التمثيل ويراه محيطا بأطراف الباب وذلك ان لتصور الشبه من الشيء في غير جنسه وشكله بابا آخر من الظرف واللطف ومذهبا من مذاهب الاحساس لا يخفى موضعه من العقل وإذا استقريت التشبيهات وجدت التباعد بين الشيئين كلما كان أشد كانت الى النفوس أعجب، وكانت النفوس لها أطرب والتمثيل أخص شيء بهذا الشأن. قال عبد القاهر: «وهل تشك في أنه يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين حتى يختصر بعد ما بين المشرق والمغرب وهو يريك المعاني الممثلة شبها في الاشخاص الماثلة، وينطق لك الأخرس، ويعطيك البيان من الأعجم، ويريك الحياة في الجماد ويريك التئام عين الأضداد، ويجعل الشيء قريبا بعيدا معا» ونكتفي الآن بهذا القدر على أن نعود إلى هذا البحث في موطن آخر من هذا الكتاب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 439 [سورة العنكبوت (29) : الآيات 45 الى 49] اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45) وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) الإعراب: (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ) كلام مستأنف مسوق للحث على تلاوة الكتاب وتدبر منطوياته والعمل بأحكامه، وإقامة الصلاة المكتوبة المؤداة بالجماعة لتوحيد الكلمة وتصفية النفس من أدران الشوائب، وأتل فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله مستتر تقديره أنت أي يا محمد والخطاب له ليشمل كل فرد من أفراد أمته وما مفعول به وجملة أوحي صلة وإليك متعلقان بأوحي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 440 ومن الكتاب حال وأقم فعل أمر معطوف على أتل والفاعل مستتر تقديره أنت أيضا والصلاة مفعول به. (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) الجملة تعليل للأمر بإقامة الصلاة، وان واسمها وجملة تنهى عن الفحشاء والمنكر خبرها والواو استئنافية واللام لام الابتداء وذكر الله مبتدأ وأكبر خبر والله الواو وعاطفة والله مبتدأ وجملة يعلم خبر وفاعله مستتر تقديره هو وما مفعول به وجملة تصنعون صلة. (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان إرشاد أهل الكتاب وكيفية مجادلتهم، ولا ناهية وتجادلوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل وأهل الكتاب مفعول به وإلا أداة حصر وبالتي متعلقان بتجادلوا وموصوف الموصول محذوف أي بالمجادلة التي، وهي مبتدأ وأحسن خبر والجملة صلة التي وإلا أداة استثناء والذين استثناء من الجنس وفي المعنى وجهان أوردهما أبو البقاء قال: «أحدهما إلا الذين ظلموا منهم فلا تجادلوهم بالحسنى بل بالغلظة لأنهم يغلظون لكم فيكون مستثنى من التي هي أحسن لا من الجدل والثاني لا تجادلوهم البتة بل حكّموا فيهم السيف لفرط عنادهم» . (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) الواو عاطفة وقولوا فعل أمر وفاعل وجملة آمنا مقول القول وبالذي متعلقان بآمنا وجملة أنزل صلة وإلينا متعلقان بأنزل وأنزل إليكم عطف على أنزل إلينا ففي الكلام حذف الموصول الاسمي أي والذي أنزل إليكم وإلهنا الواو عاطفة وإلهنا مبتدأ وإلهكم عطف على إلهنا وواحد خبر ونحن مبتدأ وله متعلقان بمسلمون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 441 ومسلمون خبر نحن وفي هذا القول منتهى المناصحة والنصفة والاقناع. (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) الكاف نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الانزال أنزلنا، وأنزلنا فعل وفاعل وإليك متعلقان بأنزلنا والكتاب مفعول به. (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) الفاء تفريعية والذين مبتدأ وجملة آتيناهم صلة وهو فعل وفاعل ومفعول به والكتاب مفعول به ثان وجملة يؤمنون به خبر الذين. (وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) الواو عاطفة ومن هؤلاء خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة يؤمن به صلة وهذا من قبيل الاخبار بالمغيبات وهي إحدى ميزات القرآن الكريم والواو حالية وما نافية ويجحد فعل مضارع مرفوع وبآياتنا متعلقان به وإلا أداة حصر والكافرون فاعل يجحد. (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) كلام مستأنف للشروع في إيراد الدليل على إعجاز القرآن، وما نافية وكنت كان واسمها وجملة تتلو خبرها وفاعل تتلو مستتر تقديره أنت ومن قبله حال لأنه كان صفة لكتاب ويجوز تعليقه بتتلو ومن حرف جر زائد وكتاب مجرور بمن لفظا منصوب محلا على أنه مفعول تتلو والواو حرف عطف ولا نافية وتخطه فعل مضارع معطوف على تتلو وبيمينك متعلقان بتخطه وإذن حرف جواب وجزاء مهمل وقد تضمن معنى الجواب لشرط محذوف أي لو كان شيء من ذلك أي من التلاوة والخط، ولارتاب اللام واقعة في جواب إذن وارتاب المبطلون فعل ماض وفاعل. (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بل إضراب عن ارتيابهم أي ليس فيه ما يدعو الى الارتياب فيه وهو محفوظ في الصدور وهو مبتدأ وآيات خبر وبينات صفة لآيات وفي صدور الجزء: 7 ¦ الصفحة: 442 متعلقان بمحذوف خبر ثان لهو أي هو مثبت محفوظ في صدورهم والذين مضاف اليه وجملة أوتوا العلم صلة والعلم مفعول به ثان لأوتوا. (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) تقدم اعراب نظيرها قريبا. البلاغة: الاطناب: في قوله «ولا تخطه بيمينك» إطناب لا بد منه فذكر اليمين وهي الجارحة التي يزاول بها الخط فيه زيادة في التصوير واستحضار لنفي كونه كاتبا، وقد قدمنا أن الاطناب يرد حقيقة ومجازا، وهذا من النوع الاول ومثله قولهم: رأيته بعيني وقبضته بيدي، ووطئته بقدمي، وذقته بفمي، وكل هذا يظنه الظان المبتدئ والسطحي انه من قبيل الزيادة والفضول وانه لا حاجة اليه ويقول: إن الرؤية لا تكون إلا بالعين والقبض لا يكون إلا باليد والوطء لا يكون إلا بالقدم والذوق لا يكون إلا بالفم وليس الأمر كما توهم بل هذا يقال في كل شيء يعظم مناله ويعز الوصول اليه وهو كثير في القرآن الكريم وقد تقدم بعضه وسيأتي الكثير منه أيضا. الفوائد: 1- أثارت دائرة المعارف إشكالا في قوله تعالى: «وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذن لارتاب المبطلون» فتقول: «إنها تدل على أنه تعلم القراءة في الكبر أي بعد نزول القرآن وإن كان التعبير غامضا أيضا» وليس التعبير غامضا ولكن التخريج الذي خرجته دائرة المعارف الاسلامية فاسد من أساسه، إذ أن لفظ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 443 الآية صريح كل الصراحة في الدلالة على أن أهل مكة عرفوا عن النبي قبل نزول الوحي أنه لم يكن يتلو كتابا ولا يكتب بيمينه ولو أنه كان كذلك إذن لارتاب المبطلون بأن يذكروا للناس انه كان يخلو الى نفسه فيكتب القرآن ويعده ثم يخرج للناس فيتلوه عليهم، ولم تقف دائرة المعارف الاسلامية عند هذا الحد فأوردت آية الفرقان وهي «وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا» وواضح أن مفهوم هذه الآية لا يدل على شيء مما تخرصت به دائرة المعارف الاسلامية إذ أنها تدل في بساطة تامة على أن كفار قريش كانوا يدعون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب ما يملى عليه من أساطير الأولين وليس كل ما يدعي الكفار صوابا بل هو هجوم يقصد منه تجريح القرآن وإضعاف شأنه ويدل على مغالطة دائرة المعارف الاسلامية انها تغافلت الآية السابقة إذ يقول تعالى: «وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا، وقالوا أساطير الأولين» ... الآية وقد أوردنا حملة فقهاء الشرق والغرب على أبي الوليد الباجي لزعمه أنه عليه السلام كتب يوم الحديبية. 2- كيف تمّ تدوين القرآن: ورد في كتاب الإتقان للسيوطي عن زيد بن ثابت قال «قبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع في شيء» وعن زيد ابن ثابت أيضا قال: كنا عند رسول الله نؤلف القرآن من الرقاع» قال الخطابي: «إنما يجمع النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء بعهده الجزء: 7 ¦ الصفحة: 444 الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة فكان ابتداء ذلك على بد الصديق بمشورة عمر» . وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن» وعلق السيوطي على هذا الحديث بقوله: «لا ينا في ذلك لأن الكلام في كتابة مخصوصة على صفة مخصوصة وقد كان القرآن كتب كله في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن غير مجموع في موضع واحد ولا مرتب السور» . وقال الحارث المحاسبي في كتاب فهم السنن: «كتابة القرآن ليست بمحدثة فانه صلى الله عليه وسلم كان يأمر أصحابه بكتابته ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب فانما أمر الصديق بنسخها من مكان الى مكان مجتمعا وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله فيها القرآن منتشرا فجمعها جامع جامع وربطها بخيط لا يضيع منها شيء» . قال السيوطي: «وقد تقدم في حديث زيد أنه جمع القرآن من العسب واللخاف وفي رواية والرقاع وفي أخرى وقطع الأديم وفي أخرى الأكتاف وفي أخرى والأضلاع وفي أخرى والاقتاب والعسب» . جمع عسيب وهو جريد النخل كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض، واللخاف جمع لخفة وهي الحجارة الرقاق، وقال الخطابي: صفائح الحجارة، والرقاع جمع رقعة وقد تكون من جلد أو ورق أو كاغد، والأكتاف جمع كتف وهو العظم الذي للبصير ليركب عليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 445 وروى البخاري في تفسيره في ذلك رواية له: «قال علي عليه السلام أن رسول الله أوصاني إذا واريته في حفرته أن لا أخرج من بيتي حتى أؤلف كتاب الله فإنه في جرائد النخل وفي أكتاف الإبل» والذي نراه ونستخلصه من مجموع هذه الأقوال أن النبي كان يبيح للمسلمين كتابة القرآن لمن كان يستطيع الكتابة منهم وانه كان يأمر كتابه بتدوينه ولكن التدوين لم يكن وفق نظام مقرر بحيث يقطع الى أن النبي خلف القرآن كله مدونا مرتب السور مجموعا. ولما قبض الرسول بدأ التفكير في جمع المصحف، وفي البخاري عن زيد بن ثابت أنه قال: أرسل إليّ أبو بكر عقب مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر: - إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، فقال زيد لعمر: - كيف تفعل ما لم يفعله رسول الله؟ قال عمر: - هذا والله خير. فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، قال أبو بكر: - إنك رجل «شاب عاقل» لا نتّهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله فتتبع القرآن فاجمعه. قال زيد: فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 446 له صدر أبي بكر وعمر فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص» الى آخر براءة. وواضح من هذا أن أبا بكر وعمر وغيرهما خشوا وقد اندفع المسلمون في حروب الردة ثم في حروب الفتح أن يهمل أمر القرآن وهو معجزة رسول الله الكبرى ودعامة الإسلام الأولى فاتفقوا على جمعه من هذه الصحائف المتفرقة التي كان يكتبها عارفو الكتابة من الصحابة ومن صدور الناس فكتب القرآن أو على الأصح نقل ما كان منه مكتوبا وأكمل بما كان محفوظا في صدور الرجال. وعلى الرغم من كثرة النصوص التي نقلنا بعضها، لا يزال هناك بعض الغموض يحيط بالطريقة التي اتبعها زيد بن ثابت في جمع صحف القرآن، فقد ذكر أنه كان يحفظ القرآن كله، ومن المرجح أن عددا من الصحابة كانوا يحفظون القرآن منهم عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وربما أبو بكر وعمر فلماذا لم يجتمع هؤلاء ويتموا عملهم مستعينين بالصحف التي أملاها النبي وبذاكرتهم؟ ويظهر لنا أن هذه الطريقة الطبيعية التي اتبعت حتى تم لهم جمع المصحف بطريقة هادئة لا ارتجال فيها وهو ما عنته الآية الكريمة «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» ولما كان عهد عثمان بن عفان جد من المناسبات ما دعا الى إعادة النظر في أمر هذه الصحف التي كتبها زيد بن ثابت. روى البخاري عن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 447 فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال لعثمان: أدرك الأمة قبل أن يختلفوا فأرسل عثمان الى حفصة بنت عمر بن الخطاب وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرسلي إلينا هذه الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة الى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث ابن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما أنزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف الى حفصة وأرسل عثمان الى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. قال زيد: «ففقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف وقد كنت أسمع رسول الله يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري وهي «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه» فألحقناها مع سورتها في المصحف. ترتيب المصحف: أما بصدد ترتيب المصحف فيقول السيوطي: «الإجماع والنصوص على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك، وذلك أن رسول الله كان يدل على مكان كل آية في سورتها ويؤيد هذا الرأي قول عثمان بن أبي العاص: «كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال: أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة: «إن الله يأمر بالعدل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 448 والإحسان وإيتاء ذي القربى» الى آخرها وقد التزم عثمان في تدوين المصحف ما علم أنه رأي رسول الله في ترتيب الآيات. وأما ترتيب السور فهو متروك لاجتهاد المسلمين ولكننا نثبت رواية عن ابن عباس: روى ابن عباس قال: قلت لعثمان ما حملكم على أن عدتم الى الأنفال وهي من المثاني والى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزل عليه السورة ذات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول الله ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرئت بينهما ولم أكتب سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال. وفي كتاب الإتقان طائفة هامة جدا من الترتيبات حسب أسباب النزول وفيما يلي الترتيب التاريخي كما رواه ابن عباس. «السور المكية» 1- اقرأ، 2- ن، 3- المزمل، 4- المدثر، 5- تبت، 6- الشمس، 7- الأعلى، 8- الليل، 9- الفجر، 10- الضحى، 11- ألم نشرح، 12- العصر، 13- العاديات، 14- الكوثر، 15- التكاثر، 16- الماعون، 17- الكافرون، 18- الفيل، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 449 19- الفلق، 20- الناس، 21- الإخلاص، 22- النجم، 23- عبس، 24- القدر، 25- الضحى، 26- البروج، 27- التين، 28- قريش، 29- القارعة، 30- القيامة، 31- الهمزة، 32- المرسلات، 33- ق، 34- البلد، 35- الطارق، 36- الساعة، 37- ص، 38- الأعراف، 39- الجن، 40- يس، 41- الفرقان، 42- الملائكة، 43- مريم، 44- طه، 45- الواقعة، 46- الشعراء، 47- النمل، 48- القصص، 49- بني إسرائيل، 50- يونس، 51- هود، 52- يوسف، 53- الحجر، 54- الانعام، 55- الصافات، 56- لقمان، 57- سبأ، 58- الزمر، 59- المؤمنون، 60- السجدة، 61- الشورى، 62- الزخرف، 63- الدخان، 64- الجاثية، 65- الأحقاف، 66- الذاريات، 67- الغاشية، 68- الكهف، 69- النحل، 70- نوح، 71- ابراهيم، 72- الأنبياء، 73- المؤمنون، 74- السجدة، 75- الطور، 76- تبارك، 77- الحاقة، 78- المعارج، 79- النبأ، 80- النازعات، 81- الانفطار، 82- الانشقاق، 83- الروم، 84- العنكبوت، 85- المطففين. «السور المدينة» 86- البقرة، 87- الأنفال، 88- آل عمران، 89- الأحزاب، 90- الممتحنة، 91- النساء، 92- الزلزلة، 93- الحديد، 94- القتال، 95- الرعد، 96- الرحمن، 97- الإنسان، 98- الطلاق، 99- البينة، 100- الحشر، 101- النصر، 102- النور، 103- الحج، 104- المنافقون، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 450 105- المجادلة، 106- الحجرات، 107- التحريم، 108- الجمعة، 109- التغابن، 110- الصف، 111- الفتح، 112- المائدة، 113- براءة. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 50 الى 55] وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) الإعراب: (وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) كلام مستأنف لتقرير نوع آخر من أنواع لجاجهم ومكابرتهم، وقالوا فعل ماض والواو فاعل يعود على كفار مكة ولولا حرف تحضيض بمنزلة هلا وأنزل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 451 فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان بأنزل وآيات نائب فاعل ومن ربه صفة لآيات أو متعلقان بأنزل. (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) إنما كافة ومكفوفة والآيات مبتدأ وعند الله ظرف متعلق بمحذوف هو الخبر أي ينزلها كيف يشاء من غير دخل لأحد في ذلك قطعا، وإنما الواو عاطفة أو حالية وإنما كافة ومكفوفة وأنا مبتدأ ونذير خبر ومبين صفة. (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) الهمزة للاستفهام الانكاري التقريري والواو عاطفة على محذوف مقدر يقتضيه المقام أي أقصّر محمد ولم يكفهم، ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكفهم فعل مضارع مجزوم بلم والهاء مفعول به وأن وما بعدها فاعل يكفهم وان واسمها وجملة أنزلنا عليك الكتاب خبر أن وجملة يتلى عليهم حالية. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة ورحمة اسمها المؤخر وذكرى عطف على رحمة ولقوم صفة لذكرى وجملة يؤمنون صفة لقوم. (قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كفى فعل ماض والباء حرف جر زائد ولفظ الجلالة مجرور بالباء لفظا فاعل كفى المرفوع محلا وبيني ظرف متعلق بشهيدا وبينكم عطف على شهيدا وشهيدا تمييز وجملة يعلم حال وما مفعول يعلم وفي السموات صلة والأرض عطف على السموات. (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وبالباطل متعلقان بآمنوا وكفروا بالله عطف على آمنوا بالباطل وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ أو ضمير فصل والخاسرون خبر هم أو خبر أولئك والجملة خبر الذين. (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) كلام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 452 مستأنف مسوق للتعجب أو الاستهزاء بهم ويستعجلونك فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والكاف مفعول به وبالعذاب متعلقان بيستعجلونك ولولا حرف امتناع لوجود وأجل مبتدأ ومسمى صفته والخبر محذوف واللام رابطة للجواب وجاءهم العذاب فعل ومفعول به وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم. (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم ويأتينهم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره هو والهاء مفعول به وبغتة حال والواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر وجملة هم لا يشعرون حالية. (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) يستعجلونك بالعذاب تقدم اعرابها وكرر الجملة للتعجب من حماقاتهم لأن من هدد بشيء التمس أسباب الوقاية منه أما هؤلاء فيستعجلونه. والواو حالية وان واسمها واللام المزحلقة ومحيطة خبر إن وبالكافرين متعلقان بمحيطة، وعبر بالحال وأراد الاستقبال أي ستحيط بهم وذلك للدلالة على التحقق والمبالغة، ويجوز أن يراد بجهنم أسبابها المؤدية إليها فلا تأويل في قوله محيطة. (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) الظرف متعلق بمحيطة وجملة يغشاهم العذاب في محل جر بإضافة الظرف إليها ومن فوقهم حال ومن تحت أرجلهم عطف على من فوقهم. (وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة ويقول فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الموكل بالعذاب وقرئ ونقول وعلى كل حال الجملة معطوفة على يغشاهم وجملة ذوقوا مقول القول وهو فعل أمر وفاعل وما مفعول به على تقدير مضاف أي جزاء ما وجملة كنتم صلة وجملة تعملون خبر كنتم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 453 البلاغة: خص سبحانه وتعالى نار جهنم بالجانبين الأعلى والأسفل ولم يذكر اليمين ولا الشمال ولا الخلف ولا الأمام لإظهار الفرق بينها وبين نار الدنيا التي تحيط بجميع الجوانب، فنار جهنم لا تطفأ بالدوس عليها ولكنها تنزل من فوق. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 59] يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) الإعراب: (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) يا حرف نداء وعبادي منادى مضاف لياء المتكلم والذين صفة لعبادي وجملة آمنوا صلة وإن واسمها وخبرها والفاء الفصيحة أي إن ضاق بكم موضع فإياي فاعبدوا، وإياي مفعول لفعل محذوف تقديره اعبدوا إياي فاستغنى بأحد الفعلين عن الفعل الثاني، فاعبدوني الفاء عاطفة على الفاء الأولى وجملة اعبدوني مفسرة وهي فعل أمر وفاعل ومفعول به وهي الياء المحذوفة. (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) كل نفس مبتدأ وذائقة الموت خبرها والمراد مرارته ومشقته الجزء: 7 ¦ الصفحة: 454 ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وإلينا متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وجملة عملوا الصالحات عطف على جملة آمنوا واللام موطئة للقسم ونبوئنهم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقلية والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به وجملة القسم خبر الذين، ولك أن تنصب الذين بفعل محذوف دل عليه الفعل المذكور بعده وهو نبوئنهم ومن الجنة حال وغرفا مفعول به ثان لأن بوأ يتعدى لاثنين وقد مرّ نظيره في يونس والحج وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة لغرفا وخالدين فيها حال ونعم فعل ماض جامد لانشاء المدح وأجر العاملين فاعل نعم والمخصوص بالمدح محذوف أي أجرهم. (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الذين نعت للعاملين ولك أن تقطعه فترفعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو تنصبه على أنه منصوب على المدح بفعل محذوف تقديره أمدح وجملة صبروا صلة وعلى ربهم متعلقان بيتوكلون ويتوكلون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعله والصبر هنا عام يشمل الهجرة ومفارقة الوطن وأذى المشركين وغير ذلك مما استهدف له المسلمون في مستهل أمرهم وتجري أحكامه على كل من امتحنته نوائب الأيام وحدثان الزمان. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 60 الى 64] وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 455 اللغة: (يَقْدِرُ) : يضيق ويقتر، ولهذا الفعل خصائص عجيبة فهو يتوزع على طائفة من المعاني سنتنا ولها فيما يلي: يقال: قدر الرزق: قسمه وباب نصر وضرب وقدر وقدّر على عياله ضيق وقتر، قال في الأساس: «وقدر عليه رزقه وقدّر: قتر» وقدر يقدر من باب علم قدرا وقدرة ومقدرة ومقدرة ومقدرة ومقدارا وقدارة وقدورة وقدورا وقدرانا وقدارا وقدرا على الشيء قوي عليه، وقدر يقدر من باب ضرب قدرا الأمر دبره وقدر الشيء بالشيء فاسه به وجعله على مقداره وقدر يقدر ويقدر من بابي نصر وجلس الله عظمه، وقدر الرجل فكر في تسوية أمره وتدبيره وقدر يقدر من باب تعب قدرا بفتحتين قصرت عنقه، وقدر على الشيء اقتدر. (الْحَيَوانُ) : مصدر حي وقياسه حييان فقلبت الياء الثانية واوا كما قال سيبويه، سمي ما فيه حياة حيوانا، قالوا: اشتر الموتان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 456 ولا تشتر الحيوان أي اشتر الأرض والدور ولا تشتر الرقيق الدواب، وفي بناء الحيوان زيادة معنى ليس في بناء الحياة وهي ما في بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب كالنزوان واللهبان وما أشبه ذلك والحياة حركة كما أن الموت سكون فمجيئه على بناء دال على معنى الحركة مبالغة في معنى الحياة ولذلك اختيرت على الحياة في هذا المقام المقتضى للمبالغة. الإعراب: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) كلام مستأنف مسوق لتقرير التوكل على الله وعدم الجزع، وكأين تقدم إعرابها مفصلا وهي هنا مبتدأ ومن دابة تمييزها المجرور بمن وجمل لا تحمل رزقها صفة لدابة وقوله: (اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) هو الخبر والله مبتدأ وجملة يرزقها خبر الله وإياكم عطف على الهاء والواو عاطفة وهو مبتدأ والسميع خبر أول والعليم خبر ثان. (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) الواو استئنافية واللام موطئة للقسم وإن شرطية وسألتهم فعل ماض والتاء فاعل والهاء مفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة خلق السموات والأرض خبر من والجملة في محل نصب مفعول ثان لسألتهم المعلقة للاستفهام وسخر الشمس والقمر عطف على خلق السموات والأرض واللام واقعة في جواب القسم ويقولن فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة والله خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو أو مبتدأ والخبر محذوف تقديره الله خلق السموات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 457 والفاء الفصيحة وأنى اسم استفهام في محل نصب حال ويؤفكون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الله مبتدأ وجملة يبسط الرزق خبر ولمن متعلقان بيبسط وجملة يشاء صلة ومن عباده حال ويقدر فعل مضارع معطوف على يبسط وله متعلقان بيقدر والضمير راجع لمن وان واسمها وعليم خبرها وبكل شيء متعلقان بعليم. (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) عطف على الجملة السابقة وهي مماثلة لها في اعرابها. (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) الحمد مبتدأ ولله خبر والجملة مقول القول وبل حرف إضراب وأكثرهم مبتدأ وجملة لا يعقلون خبر. (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) الواو استئنافية وما نافية وهذه مبتدأ والحياة بدل والدنيا نعت للحياة وإلا أداة حصر ولهو خبر هذه ولعب عطف على لهو. (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) الواو عاطفة وان واسمها والآخرة نعت للدار واللام المزحلقة وهي مبتدأ والحيوان خبر والجملة خبر إن ولو شرطية وكان واسمها وجملة يعلمون خبرها وجواب لو محذوف أي ما آثروا الحياة الدنيا. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 65 الى 69] فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 458 الإعراب: (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن محذوف دل عليه ما وصفهم وشرح من أمرهم هم على ما وصفوا به من الشرك والعناد ولا يبعد أن تكون استئنافية ليتطرق الى نمط آخر من عنادهم. وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ركبوا في محل جر بإضافة الظرف إليها وفي الفلك متعلقان بركبوا وجملة دعوا الله لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومخلصين حال وله متعلقان بمخلصين والدين مفعول به لمخلصين لأنه اسم فاعل. (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) الفاء عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة ونجاهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به والى البر جار ومجرور متعلقان بنجاهم وإذا فجائية وهي مع مدخولها جملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب لما وهم مبتدأ وجملة يشركون خبر هم. (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) اللام لام كي ويتمتعوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي وبما متعلقان بيكفروا وجملة آتيناهم صلة ما وليتمتعوا عطف على ليكفروا فهي مثلها ويجوز أن تكون اللام فيهما لام العاقبة والمآل ويحتمل أن تكون اللام فيهما لام الأمر وقرى وليتمتعوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 459 بسكون اللام أمر تهديد وسيأتي بحث واف عن معنى الأمر في باب البلاغة كما سيأتي بحث الخليل بن أحمد عن أقسام اللام في اللغة العربية في باب الفوائد والفاء الفصيحة وسوف حرف استقبال ويعلمون فعل مضارع وفاعل. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) الهمزة للاستفهام الانكاري المفيد للتقرير لأن همزة الاستفهام الانكاري إذا دخلت على النفي أفادت التقرير لأن الكلام يصير إيجابا، والواو عاطفة على محذوف تقدير لقد جعلنا آمنين قارين في مكة ولم يعلموا ذلك ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل وان وما بعدها سدت مسد مفعولي يروا وان واسمها وجملة جعلنا خبرها ومفعول جعلنا الأول محذوف أي جعلنا بلدهم مكة وحرما مفعول به ثان وآمنا صفة والواو حالية ويتخطف فعل مضارع مبني للمجهول والناس نائب فاعل ومن حولهم حال. (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف وبالباطل متعلقان بيؤمنون وبنعمة الله يكفرون معطوف على ما قبله. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ) الواو استئنافية ومن اسم استفهام متضمن معنى النفي في محل رفع مبتدأ وأظلم خبر وممن متعلقان بأظلم وجملة افترى على الله صلة وكذبا مفعول به وأو حرف عطف وكذب عطف على افترى وبالحق متعلقان بكذب ولما ظرفية حينية أو رابطة وجاءه فعل وفاعل مستتر ومفعول به. (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) الهمزة للاستفهام التقريري وليس فعل ماض ناقص وفي جهنم خبر ليس المقدم ومثوى اسمها المؤخر وللكافرين صفة لمثوى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 460 وسيأتي معنى التقرير في باب البلاغة. (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) والذين مبتدأ وجملة جاهدوا صلة ومفعول جاهدوا محذوف وسيأتي سر حذفه في باب البلاغة وفينا متعلقان بجاهدوا في حقنا ومن أجلنا ولو جهنا خالصا واللام موطئة للقسم وجملة نهدينهم خبر الذين سبلنا مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض وان واسمها ومع المحسنين ظرف متعلق بمحذوف خبر إن. البلاغة: 1- معنى الأمر: قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف جاز أن يأمر الله بالكفر وبأن يفعل العصاة ما شاءوا وهو ناه عن ذلك ومتوعد عليه؟ قلت: هو مجاز عن الخذلان والتخلية وإن ذلك الأمر متسخط الى غاية، ومثاله أن ترى الرجل قد عزم على أمر وعندك أن ذلك الأمر خطأ وأنه يؤدي الى ضرر جسيم فتبالغ في نصحه واستنزاله عن رأيه فإذا لم تر منه إلا الإباء والتصميم حردت عليه (أي غضبت) وقلت: أنت وشأنك وافعل ما شئت فلا تريد بهذا حقيقة الأمر وكيف والآمر بالشيء مريد له وأنت شديد الكراهة متحسّر ولكنك كأنك تقول له: فإذا قد أبيت قبول النصيحة فأنت أهل ليقال لك افعل ما شئت ليتبين لك إذا فعلت صحة رأي الناصح وفساد رأيك» . 2- الاستفهام التقريري: قلنا إن همزة الإنكار إذا دخلت على النفي صار إيجابا فيرجع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 461 الى معنى التقرير ومنه في الشعر قول جرير يمدح عبد الملك بن مروان: ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح قال بعضهم لو كان استفهاما ما أعطاه الخليفة مائة من الإبل وقيل لما بلغ جرير هذا البيت في القصيدة كان عبد الملك متكئا فاستوى جالسا فرحا وقال هكذا مدحنا وأعطاه مائة من الإبل. 3- الحذف: تقدم القول في حذف المفعول به للإيجاز وهو هنا في قوله «والذين جاهدوا فينا» فقد أطلق المجاهدة ولم يقيدها بمفعول لتتناول كل ما يجب مجاهدته من النفس الأمارة بالسوء والشيطان وهذا أحسن من تقدير مفعول به خاص كما فعل الكثيرون من المفسرين ليتناول جميع الطاعات والمزدلفات. الفوائد: ذكر اللامات للخليل بن أحمد الفراهيدي: ذكر الخليل بن أحمد شيخ سيبويه في مصنف صغير له أن عدد اللامات إحدى وأربعون لاما ونوردها مع إلماع يسير إلى أحكامها كما أوردها الخليل ثم نعلق على ما بعض نراه جديرا بالتعليق منها: 1- لام القسم وهي مفتوحة وبعدها نون مشددة وذلك مثل قوله عز وجل «لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ثم لتسألنّ يومئذ عن النعيم» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 462 2- لام جواب القسم وهي تشبه لام القسم وتقوم مقامها. 3- لام الأمر وهي لا تأتي أبدا إلا بعد واو أو فاء مثل قوله تعالى «فليعبدوا ربّ هذا البيت» «ولتأت طائفة» وما أشبه ذلك فإن عدمت واو أو فاء كانت اللام مكسورة نحو قوله عز وجل: «لينفق ذو سعة من سعته» . 4- لام جواب الأمر وهي تشبه لام الأمر، وأنا لا أعرف إلا حرفا واحدا وهو قوله عز وجل: «ولنحمل خطاياكم» لا غير. 5- لام الوعد وهي تشبه لام الأمر وتقوم مقامها، وأنا لا أعرف في القرآن إلا حرفين وهما في قوله تعالى: «فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي» . 6- لام الوعيد وهي تشبه لام الأمر وتقوم مقامها، وأنا لا أعرف في القرآن إلا أربعة أحرف وهي في قوله عز وجل: «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفّر» ومثلها: «فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا» لا غير. 7- لام التوكيد وهي مفتوحة وقبلها نون مشددة لا تأتي إلا بعد إن وإنا وأ إنك وإنكم وإنهم، وانهما، وإنه، وذلك مثل قوله تعالى «وإن الله لعليم حليم» و «إن الله لغفور رحيم» و «إننا لفي شك» و «يقول أإنك لمن المصدقين» «وإنكم لتمرون عليهم مصبحين» «وإنه لحب الخير لشديد» «إن هؤلاء لشرذمة قليلون» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 463 8- لام العماد وهي مفتوحة ولا تأتي إلا بعد الكيد أعني «وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم» «وإن كادوا ليستفزونك» وما أشبه ذلك. 9- لام الجحد وهي مكسورة في ذاتها ناصبة للفعل ولا تأتي إلا بعد كان وما كنا وما كانوا أعني بذلك الكون وذلك مثل قوله: «وما كان الله ليطلعكم على الغيب» «وما كانوا ليؤمنوا» وما أشبه ذلك. 10- لام كي وهي مكسورة في ذاتها ناصبة للفعل ولا تأتي أبدا إلا بعد فعل قد مضى وذلك مثل قوله عز وجل: «ولتجري الفلك» وما أشبه ذلك. 11- لام إن الخفيفة وهي مكسورة وتشبه لام كي وتقوم مقامها مثل قوله تعالى: «وأمرنا لنسلم لرب العالمين» «يريدون ليطفئوا نور الله بأفواهم» «ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى» . 12- لام الغاية وهي تشبه لام كي وتقوم مقامها وذلك مثل قوله عز وجل «ليضلوا عن سبيلك» . 13- لام الترجي وهي مفتوحة وذلك مثل قوله تعالى «لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا» «لعلك باخع نفسك» «لعله يذكّر أو يخشى» . 14- لام التمني وهي مفتوحة وذلك مثل قوله تعالى «يا ليتني كنت ترابا» «يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 464 15- لام التحذير، فلم أعرف في القرآن إلا حرفا واحدا وهو قوله عز وجل: «لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون» لا غير ذلك. 16- لام المدح وهي مفتوحة ومن ذلك «لنعم دار المتقين» . 17- لام الذم وهي مفتوحة أيضا ومن ذلك «لبئس المولى ولبئس العشير» . 18- لام كما وهي مفتوحة وأنا لا أعرف في القرآن إلا حرفا واحدا وهو قوله: «وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة» والمعنى كما آتيتكم. 19- لام المنقول وهي مفتوحة وذلك مثل قوله عز وجل: «يدعو لمن ضره أقرب من نفعه» «ولمن صبر وغفر» والمعنى من يضره ومن يصبر. 20- لام الجزاء وهي مفتوحة أبدا ولا تأتي إلا بعد لو ولولا وذلك مثل قوله تعالى «ولو شئنا لبعثنا» «ولو شئنا لرفعناه بها» وما أشبه ذلك. 21- لام الإيجاب وهي مفتوحة ولا تأتي أبدا إلا بعد إن الخفيفة وذلك مثل قوله تعالى: «وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا» «وإن كلّ لما جميع لدينا محضرون» وما أشبه ذلك. 22- لام الشفاعة وهي مكسورة في ذاتها، وأنا لا أعرف في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 465 القرآن إلا حرفا واحدا وهو قوله عز وجل «ليقض علينا ربك» . 23- لام الاستغاثة فهي لام الخفض الزائدة نحو: يا لزيد. 24- لام الجر وهي مكسورة في ذاتها خافضة لغيرها وذلك مثل للمؤمنين للعالمين وما أشبه ذلك. 25- لام الصفة وهي مفتوحة في ذاتها خافضة لغيرها ومثل ذلك: ولنا ولكم ولك وله وما أشبه ذلك وإنما فتحت هذه اللام وكسرت لام الجر للفرق بين الضمير والظاهر. 26- لام الأصل وهي ساكنة نحو: الحسنة، السيئة، والوالدات وما أشبه ذلك. 27- لام المعرفة وهي ساكنة وزائدة وتكون للتعريف وذلك مثل الرجل والغلام والجارية والمؤمنين والمتقين وما أشبه ذلك. 28- لام التكثير وهي مفتوحة وهي لام أصلية وذلك مثل: أولئك، أولئكم وأولات حمل وما أشبه ذلك، وإنما سميت لام التكثير لأنك تخاطب الواحد بلفظ الجمع. 29- لام الابتداء وهي مفتوحة نحو «ولذكر الله أكبر» «لقالوا إنما سكرت أبصارنا» «لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 466 30- لام التفضيل وهي تشبه لام الابتداء وتقوم مقامها وذلك مثل قوله تعالى: «ولعبد مؤمن خير من مشرك» ومثله: «لمسجد أسس على التقوى» وما أشبه ذلك. 31- لام ليس وهي مفتوحة وذلك مثل قوله تعالى «لا يعلمون» «لا يسمعون» «لا يألونكم خبالا» وما أشبه ذلك. 32- لام النفي وهي مفتوحة تشبه لام ليس وتقوم مقامها وذلك مثل قوله تعالى: «ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب» «ولا أقول للذين تزدري أعينكم» والمعنى: ولا أقول لكم. 33- لام غير وهي مفتوحة وتعطف ما بعدها على ما قبلها وذلك مثل قوله تعالى «لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك» «لا شرقية ولا غربية» «لا ظليل ولا يغني من اللهب» وما أشبه ذلك. 34- لام التبرئة وهي مفتوحة وتنصب النكرات نحو قوله تعالى «لا ريب فيه» «لا إكراه» «لا تثريب» «لا جرم» وما أشبه ذلك. 35- لام الصلة وهي مفتوحة ولا تأتي إلا بعد الجحد وذلك مثل قوله تعالى: «لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار» وما أشبه ذلك. 36- لام النهي وهي مفتوحة في ذاتها جازمة لغيرها وذلك مثل قوله: «فلا يسرف في القتل» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 467 37- «ولا تطرد الذين يدعون ربهم» «ولا تتبع الهوى» وما أشبه ذلك. 38- لام الدعاء وهي تشبه لام النهي وتقوم مقامها وذلك مثل قوله تعالى: «ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به» «ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا» . 39- لام الاستحقاق وهي مضمومة في آخر الكلام وذلك مثل ويل حيث وقعت. قال الخليل: «تمت اللام والحمد لله رب العالمين» . ملاحظات: 1- هذا ولم يذكر في الشرح لام الإلحاق ولام الفصاحة وقد عدّها أولا. 2- عدّ «لا» لاما وهذا خلاف ما درج عليه النحاة. أما ابن هشام فقد قسم اللام المفردة إلى ثلاثة أقسام: عاملة للجر، وعاملة للجزم، وغير عاملة، وليس في القسمة أن تكون عاملة للنصب خلافا للكوفيين، فالعاملة للجر مكسورة مع كل ظاهر نحو لزيد ولعمرو إلا مع المستغاث المباشر لها فمفتوحة نحو يا لله ومفتوحة مع كل مضمر نحو لنا ولكم ولهم إلا مع ياء المتكلم فمكسورة. وللام الجارة اثنان وعشرون معنى ذكرها في كتاب المغني فليرجع إليه من شاء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 468 ثم تكلم عن اللام العاملة للجزم، وأما اللام غير العاملة فسبع: لام الابتداء، واللام الزائدة، ولام الجواب واللام الداخلة على أداة شرط للإيذان بأن الجواب بعدها مبني على قسم قبلها لا على الشرط ومن ثم تسمى اللام الموطئة للقسم، ولام أل، واللام اللاحقة لأسماء الاشارة للدلالة على البعد، ولام التعجب غير الجارة والتفاصيل في كتاب المغني. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 469 (30) سورة الرّوم مكيّة وآياتها ستون [سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) اللغة: (الرُّومُ) : سيأتي ما يقوله التاريخ عنهم في باب الفوائد. (بِضْعِ سِنِينَ) : تقدم معنى البضع في سورة يوسف واختلاف العلماء في عدده، واختار الأصمعي أنه من الثلاث الى العشر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 470 الإعراب: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) ألم تقدم القول في إعرابها، وغلبت فعل ماض مبني للمجهول والروم نائب فاعل. (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) في أدنى متعلقان بغلبت والواو عاطفة وهم مبتدأ ومن بعد غلبهم الجار والمجرور متعلقان بقوله سيغلبون وغلبهم مصدر الفعل المبني للمجهول وقد أضيف الى مفعوله وجملة سيغلبون خبر المبتدأ. (فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) في بضع سنين متعلقان بقوله سيغلبون أيضا وسيأتي سر إبهام عدد السنين في باب البلاغة ولله خبر مقدم والأمر مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة كأنه جواب لسؤال مقدر وهو أي فائدة في ذكر قوله من بعد غلبهم لأن قوله سيغلبون لا يكون إلا بعد الغلبة؟ فأجيب بأن فائدته اظهار تمام القدرة وبيان أن ذلك بأمر الله تعالى وحده ومن قبل متعلقان بمحذوف حال ومن حرف جر وقبل وبعد ظرفان بنيا على الضم لقطعهما عن الاضافة لقظا لا معنى ثم جرّا بمن وبقيا على ضمهما أي من قبل غلب الروم ومن بعده (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) الواو عاطفة ويومئذ ظرف أضيف الى مثله وهو متعلق بيفرح والتنوين عوض عن جملة كما تقدم أي يوم تغلب الروم وبنصر الله متعلقان بيفرح أيضا وجملة ينصر من يشاء مستأنفة لاظهار صدق المؤمنين ومن اسم موصول مفعول لينصر وجملة يشاء صلة وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والرحيم خبر ثان. (وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) وعد الله مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تقدمت وهي قوله سيغلبون ويفرح المؤمنون وجملة لا يخلف الله وعده إما مفسرة مقررة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 471 لمعنى المصدر فلا محل لها وإما حالية من المصدر والواو حالية ولكن واسمها وجملة لا يعملون خبرها. (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) جملة يعلمون قيل هي مستأنفة وهو قول سليم لا اعتراض عليه وقال الزمخشري: «بدل من قوله يعلمون وفي هذا الابدال من النكتة أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه ويسدّ مسدّه ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين وجود الجهل الذي لا يتجاوز الدنيا، وقوله ظاهرا من الحياة الدنيا يفيد أن للدنيا ظاهرا وباطنا فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها وباطنها وحقيقتها أنها مجاز الى الآخرة يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة» وقول الزمخشري أقعد بالفصاحة وأملى بالبلاغة ولكن ابدال المثبت من المنفي لا يصح كما تنص عليه قواعد النحو. وهم مبتدأ وعن الآخرة متعلقان بغافلون وهم تأكيد لهم الأولى وغافلون خبرهم الأولى ويجوز أن تكون هم الثانية مبتدأ ثانيا خبره غافلون والجملة خبر هم الأولى. البلاغة: 1- الإبهام: في قوله «في بضع سنين» إبهام وفائدة التفخيم وإدخال الرهبة في قلوب المشركين في كل وقت والاشعار بأن زهوهم بأنفسهم واعتدادهم بقوتهم ليس إلا حين يطول أو يقصر ولكنه آيل الى الانتهاء ومفض الى العاقبة الحتمية وهي الارتداد والانتكاس، وقد تقدم ذكر الإبهام كثيرا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 472 2- التنكير: وذلك في قوله «يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا» وفائدته تقليل معلومهم، وتقليله يقربه من النفي حتى يطابق المبدل منه وهو قوله «لا يعلمون» وهذا ما يرجح البالية ولله در الزمخشري ما أبعد غوره، وأصقل ذهنه، وعن الحسن انه قال في تلاوته هذه الآية: بلغ من صدق أحدهم في ظاهر الحياة الدنيا أنه ينقر الدينار بإصبعه فيعلم أجيد هو أم رديء وفي هذا تعليل للعلم الذي بلغ أبعد آماده فغاص في الدأماء، وحلق في أجواز الفضاء، وفطن الى أبعد السرائر، ومكنون الضمائر، ولكنه حين يعرض لما استسر من أسرار الكون كالمبدأ والمعاد والمنتهى وقف ضئيلا لا يبدىء ولا يعيد. 3- التعطف: في قوله: «وهم عن الآخرة هم غافلون» فن التعطف وهو إعادة اللفظة بعينها في الجملة من الكلام أو البيت من الشعر فقد ردد «هم» للمبالغة في تأكيد غفلتهم عن الآخرة. الفوائد: ما يقوله التاريخ: (الرُّومُ) اسم أطلقه العرب على البيزنطبيين ويطلق اليوم على المسيحيين الشرقيين الملكيين من كاثوليك وأرثوذكس، والامبراطورية الرومانية الشرقية عرفت بالبيزنطية نسبة الى بيزنطية اسم القسطنطينية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 473 القديم سمى العرب سكانها الروم، وأول أباطرة البيزنطين قسم أبوه ثيودوسيوس الامبراطورية الى غربية وعاصمتها روما والى شرقية وعاصمتها القسطنطينية. وسبب نزول الآية أنه كان بين فارس والروم قتال، فاحتربت الروم وفارس بين أذرعات وبصرى فغلبت فارس الروم فبلغ الخبر مكة فشق على النبي والمسلمين لأن فارس مجوس لا كتاب لهم والروم أهل الكتاب وفرح المشركون وشمتوا وقالوا للمسلمين انكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أميون وفارس أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الروم ولنظهرن عليكم فنزلت فقال لهم أبو بكر: لا يقرر الله أعينكم فو الله لتظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين فقال له أبيّ بن خلف: كذبت، فقال له الصديق: أنت أكذب يا عدو الله، فقال: اجعل بيننا أجلا أنا حبك عليه، والمناحبة بالحاء المهملة المراهنة فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعلا الأجل ثلاث سنين فأخبر أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث الى التسع فزايده في الخطر ومادّه في الأجل فجعلاها مائة قلوص الى تسع سنين فلما خشي أبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر أتاه ولزمه وقال: إني أخاف أن تخرج من مكة فأقم لي كفيلا فكفله له ابنه عبد الله بن أبي بكر فلما أراد أبيّ أن يخرج الى أحد أتاه عبد الله فلزمه وقال: لا والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلا فأعطاه كفيلا ثم خرج الى أحد ثم رجع الى مكة ومات بها من جراحته التي جرحه إياها النبي حين بارزه وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية وذلك على رأس سبع سنين من مناحبتهم فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبيّ وجاء به الى رسول الله فقال له تصدق به الجزء: 7 ¦ الصفحة: 474 [سورة الروم (30) : الآيات 8 الى 10] أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) الإعراب: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على مقدر يقتضيه السياق ولم حرف نفي وقلب وجزم ويتفكروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل وفي أنفسهم متعلقان بيتفكروا وما نافية وخلق الله السموات فعل وفاعل ومفعول به والجملة مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها وقيل هي في محل نصب معلقة للتفكر فتكون في محل نصب على إسقاط الخافض وإلا أداة حصر وبالحق حال أي مصحوبة بالحق قال الزمخشري: «والباء في قوله إلا بالحق مثلها في قولك دخلت عليه بثياب السفر واشترى الفرس بسرجه ولجامه تريد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 475 اشتراه وهو ملتبس بالسرج واللجام غير منفك عنهما وكذلك المعنى ما خلقها إلا وهي ملتبسة بالحق مقترنة به» وأجل عطف على الحق ومسمى نعت لأجل. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) الواو حالية وإن واسمها ومن الناس صفة لكثيرا وبلقاء ربهم متعلقان بكافرون واللام المزحلقة وكافرون خبر إن. (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والواو عاطفة على مقدر يقتضيه السياق أي أقعدوا في أماكنهم ولم يسيروا، ولم حرف نفي وقلب وجزم ويسيروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل وفي الأرض متعلقان بيسيروا فينظروا الفاء عاطفة على يسيروا ولك أن تجعل الفاء سببية ويسيروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر مقدم لكان وعاقبة اسمها والذين مضاف اليه ومن قبلهم صلة الذين. (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) جملة كانوا إما تفسيرية لا محل لها ولك أن تجعلها تابعة على البدلية، وكان واسمها وأشد خبرها ومنهم متعلقان بأشد وقوة تمييز وأثاروا الأرض عطف على كانوا وعمروها عطف أيضا وهو فعل وفاعل ومفعول به وأكثر نعت لمصدر محذوف أي عمارة أكثر من عمارتهم ومما متعلقان بأكثر وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بمن (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وجاءتهم رسلهم فعل ومفعول بهم وفاعل وبالبينات متعلقان بجاءتهم والفاء عاطفة وما نافية وكان واسمها واللام لام الجحود ويظلمهم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود الجزء: 7 ¦ الصفحة: 476 والجار والمجرور متعلقان بالخبر المحذوف وقد تقدم تقريره ولكن الواو حالية ولكن حرف استدراك مهمل وكانوا فعل ماض ناقص والواو اسمها وأنفسهم مفعول مقدم ليظلمون وجملة يظلمون خبر كانوا. (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى) ثم الفاء عاطفة للتراخي والشروع في بيان هلاكهم في الآخرة بعد هلاكهم في الدنيا وكان فعل ماض ناقص وعاقبة خبر كان المقدم والذين مضاف اليه وجملة أساءوا صلة والسوءى نعت لمصدر أساءوا. (أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) أن وما في حيزها اسم كان المؤخر ولك أن تجعل السوءى هي الاسم وأن وما في حيزها نصب بإسقاط الخافض أو هي بدل من السوءى وفيما يلي نص اعراب أبي البقاء وهو أوضح الأعاريب: «قوله تعالى: ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى يقرأ بالرفع والنصب فمن رفع جعله اسم كان وفي الخبر وجهان أحدهما السوءى وأن كذبوا في موضع نصب مفعولا له أي لأن كذبوا أو بأن كذبوا أو في موضع جر بتقدير الجار على قول الخليل والثاني أن كذبوا أي كان آخر أمرهم التكذيب والسوءى على هذا صفة مصدر، ومن نصب جعلها خبر كان وفي الاسم وجهان أحدهما السوءى والآخر أن كذبوا على ما تقدم ويجوز أن نجعل أن كذبوا بدلا من السوءى أو خبر مبتدأ محذوف والسوءى فعلى من الأسوأ وهي صفة لمصدر محذوف والتقدير أساء الإساءة السوءى. وان جعلتها اسما أو خبرا كان التقدير الفعلة السوءى أو العقوبة السوءى. وكانوا كان واسمها وبها متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون خبر كانوا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 477 [سورة الروم (30) : الآيات 11 الى 16] اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) اللغة: (يُبْلِسُ) : أبلس فلان فهو مبلس إذا سكت عن يأس ويقال: أبلس الرجل انقطعت حجته فسكت فهو لازم لا يتعدى، وفي الكشاف: «الإبلاس أن يبقى ساكنا يائسا متحيرا يقال ناظرته فأبلس إذا لم ينبس ويئس من أن يحتج ومنه الناقة المبلاس التي لا ترغو» وفي القاموس: «وأبلس يئس وتحير ومنه إبليس أو هو أعجمي» فقول صاحب المنجد انه يقال «أبلسه» غلط فظيع وقد علل علساء التصريف قراءة يبلس بالبناء للمفعول بأن القائم مقام الفاعل مصدر الفعل ثم حذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه إذ الأصل يبلس إبلاس المجرمين. (رَوْضَةٍ) : الروضة: كل أرض ذات نبات وماء ورونق ونضارة وفي أمثالهم: أحسن من بيضة في روضة، يريدون بيضة النعامة. وفي الأساس واللسان: «بأرضه روضة وروضات ورياض وروّض الغيث الأرض وأراض المكان واستراض أي كثرت رياضه ومن المجاز: أنا عندك في روضة وغدير، ومجلسك روضة من رياض الجنة» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 478 (يُحْبَرُونَ) : يسرون يقال حبره إذا سره سرورا تهلّل له وجهه فيه أثره، وفي الأساس: «وحبره الله سره «فهم في روضة يحبرون» وهو محبور: مسرور» قال ابن الرومي يصف العنب: ثم جلسنا مجلس المحبور ... على حفافي جدول مسجور وفي الكشاف: «ثم اختلفت فيه الأقاويل لاحتماله وجوه جميع المسار، فعن مجاهد رضي الله عنه: يكرمون، وعن قتادة: ينعمون، وعن ابن كيسان: يحلون، وعن أبي بكر بن عياش: التيجان على رؤوسهم، وعن وكيع: السماع في الجنة وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الجنة وما فيها من النعيم وفي آخر القوم أعرابي فقال: يا رسول الله هل في الجنة سماع؟ قال: نعم يا أعرابي إن في الجنة لنهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء خوصانية يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط فذلك أفضل نعيم الجنة، قال الراوي: فسألت أبا الدرداء بم يتغنين؟ قال: بالتسبيح. وروي أن في الجنة لأشجارا عليها أجراس من فضة فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحا من تحت العرش فتقع في تلك الأشجار فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعتها أهل الدنيا لماتوا طربا» هذا ويأتي فصل ممتع عن السماع وأثره في باب الفوائد. الإعراب: (اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) لفظ الجلالة مبتدأ وجملة يبدأ الخلق خبره، ثم يعيده عطف على يبدأ. (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) الظرف متعلق بيبلس وجملة تقوم في محل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 479 جر بإضافة الظرف إليها والساعة فاعل تقوم ويبلس المجرمون فعل وفاعل. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) الواو عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم ولهم خبر يكن المقدم ومن شركائهم حال لأنه كان صفة لشفعاء في الأصل وتقدم عليه وشفعاء اسم يكن وكانوا كان واسمها وبشركائهم متعلقان بكافرين وكافرين خبر كانوا. (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) الظرف متعلق بيتفرقون وقد تقدم اعراب نظيرها ويومئذ تأكيد لفظي للظرف. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) الفاء تفريعية وأما حرف شرط وتفصيل والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وجملة عملوا الصالحات عطف على الصلة والفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وهم مبتدأ وفي روضة متعلقان بيحبرون وجملة يحبرون خبر هم والجملة خبر الذين. (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) عطف على الجملة السابقة ونظيرها في الاعراب ومعنى محضرون أي لا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم. الفوائد: الغناء في الجنة وغناء الحور العين: روي عن علي رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن في الجنة لمجتمعا للحور العين يرفعن بأصوات لم يسمع الخلائق بمثلها يقلن: نحن الخالدات فلا نبيد، ونحن الناعمات فلا نبأس، ونحن الراضيات فلا نسخط طوبى لمن كان لنا وكنا له» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 480 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «إن في الجنة نهرا طول الجنة حافتاه العذارى قيام متقابلات يغنين بأحسن أصوات يسمعها الخلائق حتى ما يرون أن في الجنة لذة مثلها، قلنا يا أبا هريرة وما ذاك الغناء؟ قال: إن شاء الله التسبيح والتحميد والتقديس وثناء على الرب عز وجل» . لمحة عن تاريخ الغناء: لم يكن الغناء في غابر العصور على ما نعهده اليوم من ضبط القواعد والروابط بل كان ساذجا، وأول من جعل له قواعد وضوابط- على ما قيل- بطليموس وهو فيلسوف رياضي اشتغل بالرياضيات والموسيقى وإليه ينسب أول سلم موسيقي، وكان أول من غنى في العرب من النساء قينتان لعاد يقال لهما الجرادتان ومن غنائهما: ألا يا قين ويحك قم وهينم ... لعل الله يصبحنا غماما وأول من غنى من الرجال في اليمن ذو جدن وهو قيل من أقيال حمير وهكذا كان غناء العرب في جاهليتهم ساذجا كتغني الحداة في حداء إبلهم والفتيان بالقمر والنجم والفلاة والخيل. وقد ورد ذكر الغناء في شعرهم، قال طرفة بن العبد: إذا نحن قلنا: اسمعينا انبرت لنا ... على رسلها مطروفة لم تردّد أي لم تتكلف، وقوله مطروفة هي التي أصيب طرفها بشيء أي كأنها أصيب طرفها لفتور نظرها ويروى مطلوقة ومطروقة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 481 قال ابن رشيق القيرواني في كتاب العمدة: «غناء العرب قديما على ثلاثة أوجه: النصب والسناد والهزج، فأما النصب فغناء الركبان والفتيان قال اسحق بن ابراهيم وهو الذي يقال له المرائي وهو الغناء الجنابي اشتقه رجل من كلب يقال له جناب بن عبد الله بن هبل فنسب إليه ومنه كان أصل الحداء وكله يخرج من أصل الطويل في العروض، وأما السناد فالثقيل ذو الترجيع الكثير النغمات والنبرات وهو على ست طرائق: الثقيل الأول وخفيفه والثقيل الثاني وخفيفه والرمل وخفيفه، وأما الهزج فالخفيف الذي يرقص عليه ويمشى بالدف والمزمار فيطرب ويستخف الحليم. قال اسحق: هذا كان غناء العرب حتى جاء الله بالإسلام وفتحت العراق وجلب الغناء الرقيق من فارس والروم فغنوا الغناء المجزّا المؤلف بالفارسية والرومية وغنوا جميعا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير. وقال الجاحظ: العرب تقطّع الألحان الموزونة على الاشعار الموزونة والعجم تمطّط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن فتضع موزونا على غير موزون. ولم يزالوا على طريقتهم هذه حتى جاء الإسلام فكانوا إذ ذاك لا يطربون إلا بالقراءة والشعر الحماسي لتمكن الدين منهم ولأنهم في دور تأسيس وفتوح، فلما استتب لهم الأمر غلب عليهم الرفه والترف فمالوا الى الدعة، ورقت طبائعهم ولانت جوانبهم وتفرق المغنون من الفرس والروم فوقعوا الى الحجاز وصاروا موالي لهم وغنوا جميعا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 482 بالعيدان والطنابير والمعازف وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم. تأثير الغناء: قال الغزالي في الإحياء: «لله سر في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح حتى انها لتؤثر فيها تأثيرا عجيبا، فمن الأصوات ما يفرح ومنها ما ينوم ومنها ما يضحك ويطرب ومنها ما يستخرج من الأعضاء حركات على وزنها باليد والرجل والرأس، ولا ينبغي أن يظن أن ذلك لفهم معاني الشعر بل هذا جار في الأوتار حتى قيل: من لم يحركه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره، فهو فاسد المزاج، ليس له علاج، وكيف يكون ذلك لفهم المعنى وتأثيره مشاهد في الصبي في مهده فانه يسكنه الصوت الطيب عن بكائه وتنصرف نفسه عما يبكيه الى الإصغاء إليه، والجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثرا يستخف معه الأحمال الثقيلة ويستقصر لقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه فترى الجمال إذا طالت عليها البوادي واعتراها الإعياء والكلال تحت المحامل والأحمال إذا سمعت منادي الحداء تمدّ أعناقها، وتصغي الى الحادي ناصبة آذانها وتسرع في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها وربما تتلف أنفسها من شدة السير وثقل الحمل وهي لا تشعر به لنشاطها» ثم ذكر الغزالي دليلا على ما قاله قصة العبد الذي أهلك الجمال بطيب صوته إذ جعلها تقطع مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة وبعد ذلك قال: «فإن تأثير السماع في القلب محسوس ومن لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال، بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته الجزء: 7 ¦ الصفحة: 483 على الجمال والطيور بل على جميع البهائم فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داود عليه السلام لاستماع صوته ومهما كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلب لم يجز مطلقا أن يحكم فيه بإباحة ولا تحريم بل يختلف ذلك بالأحوال والاشخاص واختلاف طرق النغمات فحكمه حكم ما في القلب» . ومن غريب ما ينقل في تأثير الغناء: خرج مخارق المغني مع بعض أصحابه الى بعض المتنزّهات فنظر الى فوس مذهبة مع أحد من خرج معه فسأله إياها فكأن المسئول ضنّ بها وسنحت ظباء بالقرب منه فقال لصاحب القوس: أرأيت إن تغنيت صوتا فعطفت عليك خدود هذه الظباء أتدفع إليّ هذه القوس؟ قال نعم، فاندفع يغني: ماذا تقول الظباء ... أفرقة أم لقاء؟ أم عهدها بسليمى ... وفي البيان شفاء مرت بنا سانحات ... وقد دنا الإمساء فما أحارت جوابا ... وطال فيها الغناء فعطفت الظباء راجعة إليه حتى وفقت بالقرب منه مستشرفة تنظر اليه مصغية الى صوته فعجب من حضر من رجوعها ووقوفها وناوله الرجل القوس فأخذها وقطع الغناء فعاودت الظباء نفارها ومضت راجعة على سننها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 484 قصة المليحة صاحبة الخمار الأسود: وقصة المليحة صاحبة الخمار الأسود مشهورة وهي من خير ما يتمثّل به ويرويها الاصمعي فيقول: «قدم أعرابي بعدل من خمر العراق فباعها كلها إلا السّود فشكا ذلك الى الدارمي (وهو مسكين الدارمي الشاعر) وكان قد تنسّك وترك الشعر ولزم المسجد فقال: ما تجعل لي؟ على أن أحتال لك بحيلة حتى تبيعها كلها على حكمك. قال ما شئت. قال: فعمد الدارمي الى ثياب نسكه فألقاها عنه وعاد الى مثل شأنه الاول وقال شعرا ورفعه الى صديق له من المغنين فغنّى به وكان الشعر: قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا فعلت بناسك متعبّد قد كان شمر للصلاة ثيابه ... حتى خطرت له بباب المسجد ردّي عليه صلاته وصيامه ... لا تقتليه بحق دين محمد فشاع هذا الغناء في المدينة وقالوا: قد رجع الدارمي وتعشّق صاحبة الخمار الأسود فلم تبق مليحة في المدينة إلا اشترت خمارا أسود وباع التاجر جميع ما كان معه فجعل اخوان الدارمي من النساك يمرون فيقون: ما صنعت فيقول ستعلمون بعد حين فلما أنفد العراقي جميع ما كان معه رجع الدارمي الى نسكه ولبس ثيابه. هذا ولو أردنا استقصاء ما ورد في هذا الباب من التأثير العجيب لطال بنا البحث ولكنا اكتفينا بما أوردناه لئلا نخرج عن الموضوع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 485 [سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 22] فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) الإعراب: (فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الفاء الفصيحة كأنها أبانت وأفصحت عما تقدم من عظمته في الخلق وابتداء وقيام الساعة انتهاء فإذا تبين لك ذلك فسبح الله واحمده على كل حال لأن التسبيح والتقديس هما الذريعتان الى النجاة، وقيل أشار الى الصلوات الخمس في هذه الآية لما روي عن ابن عباس عند ما سئل: «هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم وتلا هذه الآية» ففي تمسون صلاتا المغرب والعشاء وفي تصبحون صلاة الفجر وفي العشي صلاة العصر وفي تظهرون صلاة الظهر أي تدخلون في الظهيرة. وسبحان الله مفعول مطلق لفعل محذوف وحين تمسون ظرف متعلق بسبحان وجملة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 486 تمسون في محل جر بإضافة الظرف إليها وتمسون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل لأنها تامة ومعناها تدخلون في المساء وسيأتي بحث التمام في باب الفوائد وحين تصبحون عطف على حين تمسون. (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) الواو اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه وفيه نكتة أوردها الرازي وستأتي في باب الفوائد، وله خبر مقدم والحمد مبتدأ مؤخر وفي السموات حال والأرض عطف على السموات والجملة معترضة وعشيا عطف على حين تمسون وكذلك قوله وحين تظهرون. (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) الجملة مستأنفة أو حالية ويخرج فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله والحي مفعول به ومن الميت متعلقان بيخرج أي كالانسان من النطفة والطائر من البيضة ويخرج الميت من الحي عطف على ما سبق أي كالنطفة من الإنسان والبيضة من الطائر. (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) الواو عاطفة ويحيي الأرض فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وبعد موتها الظرف متعلق بيحيي وإحياؤها إخراج النبات منها وكذلك نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الإخراج تخرجون، وتخرجون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وقرئ بالبناء للمعلوم فالواو فاعل. (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) الواو عاطفة ومن آياته خبر مقدم وأن وما في حيزها مبتدأ مؤخر ومن تراب جار ومجرور متعلقان بخلقكم وثم حرف عطف للتراخي وإذا فجائية وأنتم مبتدأ وبشر خبر وجملة تنتشرون حال وسيأتي وقوع إذا الفجائية بعد ثم في باب الفوائد. (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 487 أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) الواو عاطفة والجملة معطوفة على سابقتها وقد ذكر سبحانه ست آيات من آياته، وأزواجا مفعول خلق واللام للتعليل وتسكنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وإليها متعلقان بتسكنوا. (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وجعل عطف على خلق وبينكم ظرف في موضع المفعول الثاني لجعل ومودة هو المفعول الأول ورحمة عطف على مودة وان حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها المؤخر ولقوم صفة لآيات وجملة يتفكرون صفة لقوم. (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) عطف أيضا على ما تقدم وستأتي حكمة الاختلاف بين الألسنة والألوان في باب الفوائد. الفوائد: 1- معنى التمام في أفعال النقصان عند سيبويه والجمهور هو دلالتها على الحدث والزمان، ومعنى النقصان عندهم هو سلب الدلالة على الحدث والتجرد للدلالة على الزمان، وذهب ابن مالك وابن هشام الى أن معنى التمام هو الاستغناء بالمرفوع عن المنصوب قال ابن مالك في الخلاصة: «وذو تمام ما برفع يكتفي» ومعنى النقصان هو عدم الاستغناء بالمرفوع عن المنصوب، وقد أورد ابن مالك عشرة أمور ليبطل بها مذهب الجمهور وهي مذكورة في شرحه على التسهيل فليرجع إليها هناك من يجب الاستقصاء، إذا عرفت هذا فاعلم أن ل «أصبح وأمسى وأضحى» ثلاثة معان: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 488 1- أن تقرن مضمون الجملة بالأوقات الخاصة التي هي الصباح والمساء والضحى على طريقة كان. 2- أن تفيد معنى الدخول في هذه الأوقات كأظهر وأعتم وهي في هذا الوجه تكون تامة يسكت على مرفوعها قال حميد الأرقط: فأصبحوا والنوى عالي معرسهم ... وليس كلّ النوى تلقي المساكين وقبله: باتوا وجلتنا الصهباء بينهم ... كأن أظفارهم فيها السكاكين والجلة فقة التمر تتخذ من سعف النخل وليفه ولذلك وصفها بالصهبة يقول: لما أصبحوا ظهر على معرسهم وهو موضع نزولهم نوى التمر وعلاه لكثرته على انهم لحاجتهم لم يلقوا إلا بعضه. 3- أن تكون بمعنى صار كقولك: أصبح زيد غنيا وأمسى فقيرا تريد أنه صار كذلك مع قطع النظر عن وقت مخصوص، قال عدي بن زيد: ثم أضحوا كأنهم ورق جفّ ... فألوت به الصبا والدّبور 2- الاعتراض: تقدم القول في الجمل المعترضة والواو الاعتراضية وقوله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 489 «وله الحمد في السموات والأرض» الجملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه لنكتة أوردها الرازي وهي أن تسبيحهم لنفعهم لا له فعليهم أن يحمدوه إذا سبحوه لأجل نعمة هدايتهم الى التوفيق. 3- الفاء قبل إذا الفجائية: تقدم القول في إذا الفجائية ونقول هنا إن الغالب فيها أن تقع بعد الفاء لأنها تقتضي التعقيب ووجه وقوعها مع ثم بالنسبة الى ما يليق بالحالة الخاصة أي بعد تلك الأطوار التي قصها علينا في مواضع أخر من كوننا نطفة ثم مضغة ثم عظما مجردا ثم عظما مكسوا لحما فاجأ البشرية بالانتشار أي انهم انما يصيرون بشرا بعد أطوار كثيرة. 4- الحكمة في اختلاف الألوان والألسنة: خالف سبحانه بين الألوان والألسنة حتى ما تكاد تسمع منطقين متفقين في جرس واحد ولا جهارة واحدة وحتى ما تكاد ترى صورتين متشابهتين تمام التشابه في الألوان والسمات والقسمات لحصول التعارف وإلا فلو كانت على مسلاخ واحد وبلون واحد وتقاسيم وتقاطيع واحدة لحصل الخلل والالتباس ولا نعدم التمييز بينها جميعا حتى أن التوأمين مع توافق موادهما وأسبابهما والأمور الملاقية لهما في التخليق يختلفان في شيء من ذلك محالة مهما يتقاربا في وجوه الشبه. [سورة الروم (30) : الآيات 23 الى 26] وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 490 الإعراب: (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) الواو عاطفة ومن آياته خبر مقدم ومنامكم مبتدأ مؤخر وبالليل متعلقان بمنامكم وابتغاؤكم عطف على منامكم ومن فضله متعلقان بابتغاؤكم. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها المؤخر ولقوم صفة لآيات وجملة يسمعون صفة لقوم. (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) من آياته خبر مقدم ويريكم مبتدأ مؤخر على أنه فعل مضارع مؤول مع ان المصدرية المحذوفة والأصل أن يريكم وسيأتي المزيد من هذا المبحث الهام في باب الفوائد ويريكم فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله والكاف مفعول به أول والبرق مفعول به ثان وخوفا وطمعا نصب على أنهما مفعول لأجله وقد اعترض على هذا الإعراب بأن من حق المفعول له أن يكون فعلا لفاعل الفعل المعلل، والخوف والطمع ليسا كذلك، والجواب عن هذا الاعتراض يأتي من جهتين إما ان المفعولين فاعل في المعنى لأنهم راءون فكأنه قيل يجعلكم رائين البرق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 491 خوفا وطمعا والثاني أن يكون على تقدير حذف المضاف أي إراءة خوف وإراءة طمع فحذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه ويجوز أن يكونا حالين أي خائفين طامعين وسيأتي المزيد من هذا البحث في باب الفوائد. (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) وينزل عطف على يريكم ومن السماء جار ومجرور متعلقان بينزل وماء مفعول به فيحيي عطف على ينزل وبه متعلقان بيحيي والأرض مفعول به وبعد موتها الظرف متعلق بمحذوف حال. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) تقدم إعرابه. (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) عطف على ما تقدم. (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة دعاكم في محل جر بإضافة الظرف إليها ودعاكم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به ودعوة مفعول مطلق ومن الأرض متعلقان بدعاكم، يقال دعوته من أسفل الوادي فطلع إلي، وإذا الفجائية وهي تقوم مقام الفاء في جواب الشرط وأنتم مبتدأ وجملة تخرجون خبر. (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) له خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وفي السموات والأرض صلة وكل مبتدأ وله متعلقان بقانتون وقانتون خبر كل أي مطيعون طاعة انقياد. البلاغة: في قوله تعالى «ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله» فن اللف وقد تقدم بحثه كثيرا قال الزمخشري: «هذا من باب اللف وترتيبه: ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 492 والنهار. إلا أنه فصل بين القرينتين الأوليين بالقرينتين الأخريين لأنهما زمانان والزمان والواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على الاتحاد، ويجوز أن يراد منامكم في الزمانين وابتغاؤكم فيهما والظاهر هو الأول لتكرره في القرآن وأشدّ المعاني ما دل عليه القرآن يسمعونه بالآذان الواعية» أقول ما ذكره الزمخشري مشكل من جهة الصناعة النحوية لأنه إذا كان المعنى ما ذكره يكون النهار معمول ابتغاؤكم وقد تقدم عليه وهو مصدر وذلك لا يجوز ثم يلزم العطف على معمولي عاملين فالتركيب لا يسوغ. وشجب ابن هشام قول الزمخشري فقال: «قول الزمخشري ومن مناكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إنه من اللف والنشر وان المعنى منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار، وهذا يقتضي أن يكون النهار معمولا للابتغاء مع تقديمه عليه وعطفه على معمول منامكم وهو بالليل وهذا لا يجوز في الشعر فكيف في أفصح الكلام؟» . أقول: إن الزمخشري لم يرد العمل الذي قاله ابن هشام بل مراده أن الليل مرتبط معنى بالمنام والنهار مرتبط معنى بالابتغاء وبالليل خبر لمبتدأ محذوف والتقدير وذلك كائن بالليل والنهار والجملة معترضة حقها التأخير. الفوائد: 1- شرط اتحاد الفاعل في المفعول لأجله: أشرنا في الاعراب الى الاعتراض الموجه الى اعراب خوفا وطمعا مفعولا لهما والرد على الاعتراض وشرط اتحاد الفاعل قاله المتأخرون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 493 من النحاة وخالفهم ابن خروف فأجاز النصب مع اختلاف الفاعل محتجا بهذه الآية قائلا إن فاعل الإراءة هو الله تعالى وفاعل الخوف والطمع المخاطبون وأجاب عنه ابن مالك في شرح التسهيل فقال: «معنى يريكم يجعلكم ترون ففاعل الرؤية على هذا هو فاعل الخوف والطمع» . ومن أمثلة حذف أن وإنزال الفعل منزلة المصدر المثل المعروف «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» وهذا المثل يضرب لمن خبره خير من مرآه، أول من قاله المنذر بن ماء السماء وكان يسمع بمشقة بن خمرة المعيدي ويعجبه ما يبلغه عنه فلما رآه، وكان كريه المنظر، قال هذا المثل فخير خبر للمصدر المنسبك من أن المضمرة في تسمع أي سماعك، ومنه قول طرفة بن العبد: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللّذات هل أنت مخلدي وقد روى أحضر بالنصب والرفع ووجه النصب بأن مضمرة ويؤيده وأن أشهد، وقول الآخر: وقالوا: ما تشاء؟ فقلت ألهو ... إلى الإصباح آثر ذي أثير وهذا البيت لعروة بن الورد العبسي من جملة أبيات منها: أرقت وصحبتي بمضيق عمق ... لبرق من تهامة مستطير سقوني الخمر ثم تكنفوني ... عداة الله من كذب وزور الجزء: 7 ¦ الصفحة: 494 وقالوا ما تشاء البيت.. وأرقت: سهرت والواو للمعية والمضيق المكان الضيق وعمق بكسر فسكون شجر ببلاد الحجاز وبضم ففتح موضع منخفض عند مكة ولعله سكن هنا للوزن والبرق متعلق بأرقت أي سهرت في هذا الموضع لأجل برق من تهامة جهة محبوبتي ويحتمل أن الواو حالية وحجتي مبتدأ خبره بمضيق عمق وإذا كان أصحابه فيه فهو فيه فرجع الى الاول ومستطير: منتشر وتكنفوني أحاطوا بي وعداة جمع عاد بمعنى عدو وقيل جمع عدو أي هم أعداء الله من أجل كذبهم وزورهم وهي جملة اعتراضية ويحتمل أن عداة بدل من ضمير الفاعل أي أحاطوا بي وقالوا: ما الذي تريده؟ فقلت ألهو أي هو أن ألهو فأن مقدرة معنى ان ولم ينتصب الفعل لفظا وقال الجوهري في الصحاح: «يقال افعل هذا آثر ذي أثير أي أول كل شيء» فأشار الى أن آثر نصب على الظرفية المجازية أو الحالية أي افعله حال كونه أول كل شيء يؤثر فهو أفعل تفضيل بمعنى المفعول. 2- خاض المعربون كثيرا في اعراب هذه الآية وقد لخص أبو البقاء أقوالهم جميعا في ثلاثة نوردها فيما يلي بنص كلامه: «ومن آياته يريكم البرق» فيه ثلاثة أوجه أحدها أن من آياته حال من البرق أي يريكم البرق كائنا من آياته إلا أن حق الواو أن تدخل هنا على الفعل ولكن لما قدم الفعل وكانت من جملة المعطوف أولاها الواو وحسن ذلك أن الجار والمجرور في حكم الظرف فهو كقوله: آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة، والوجه الثاني أن أن محذوفة أي ومن آياته أن يريكم وإذا حذفت أن في مثل هذا جاز رفع الفعل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 495 والثالث أن يكون الموصوف محذوفا أي ومن آياته آية يريكم فيها البرق فحذف الموصوف والعائد ويجوز أن يكون التقدير: ومن آياته شيء أو سحاب ويكون الفاعل ضمير شيء المحذوف» والوجه الثاني هو الذي اخترناه وهو الظاهر والأبعد عن التكلف وهو الموافق لاخواته التي ذكر فيها الحرف المصدري. [سورة الروم (30) : الآيات 27 الى 29] وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) الإعراب: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) الواو عاطفة وهو مبتدأ والذي خبر وجملة يبدأ الخلق صلة الذي والخلق في الأصل مصدر ولكنه إعادة الضمير في يعيده عليه بمعنى المخلوق فهو استخدام وسيأتي بحث هذا الفن الرفيع في باب البلاغة وهو الواو حالية أو عاطفة وهو مبتدأ وأهون خبره وعليه متعلقان بأهون وسيأتي السر في تذكير الضمير في قوله وهو مع أن المراد به الاعادة كما سيأتي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 496 معنى أهون عليه وسر تأخير الجار والمجرور وهو عليه. (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الواو عاطفة وله خبر مقدم والمثل مبتدأ مؤخر والأعلى صفة وفي السموات حال والأرض عطف على السموات وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والحكيم خبر ثان. (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ضرب فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ومعنى ضرب هنا جعل ولكم في محل نصب مفعول ثان ومثلا هو المفعول الأول ومن أنفسكم صفة لمثلا أي كائنا من أنفسكم فمن معناه الابتداء كأنه قال أخذ مثلا وانتزعه من أقرب شيء منكم. (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) هل حرف استفهام ولكم خبر مقدم ومما حال من شركاء لأنه في الأصل نعت نكرة فقدم عليها وجملة ملكت صلة وأيمانكم فاعل ملكت ومن حرف جر زائد وشركاء مبتدأ مؤخر وفيما رزقناكم متعلقان بشركاء وما في مما ملكت بمعنى النوع والتقدير هل شركاء فيما رزقناكم كائنون من النوع الذي ملكت أيمانكم مستقرون لكم، فكائنون هو الوصف المتعلق به مما ملكت فلما قدم صار حالا ومستقرون هو الخبر الذي تعلق به ولكم. (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) الفاء واقعة في جواب الاستفهام وأنتم مبتدأ وفيه متعلقان بسواء وسواء خبر وجملة تخافونهم خبر ثان لأنتم أو في موضع الحال من ضمير الفاعل في سواء أي فتساووا خائنا بعضكم من بعض مشاركته له في المال، وكخيفتكم نعت لمصدر محذوف أي خيفة مثل خيفتكم والمصدر مضاف لفاعله وأنفسكم مفعول به للمصدر وكذلك نعت لمصدر محذوف أيضا ونفصل الآيات فعل مضارع وفاعل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 497 مستتر تقديره نحن والآيات مفعول به ولقوم متعلقان بنفصل وجملة يعقلون صفة لقوم. (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) حرف إضراب وعطف واتبع عطف على طريق الالتفات والذين فاعل اتبع وجملة ظلموا صلة الذين وأهواءهم مفعول به وبغير علم حال. (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) الفاء الفصيحة ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة يهدي خبر ومن مفعول يهدي وجملة أضل الله صلة والعائد محذوف أي أضله الله والواو حرف عطف وما نافية ولهم خبر مقدم ومن حرف جر زائد وناصرين مجرور لفظا مبتدأ مؤخر محلا ويجوز أن تجعل ما حجازية عند من يجيز تقديم خبرها على اسمها. البلاغة: 1- فن الاستخدام: في قوله «وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده» فن الاستخدام كما قررنا في الاعراب وهو فن دقيق غامض المسلك وفيه قولان: الأول أن يأتي المتكلم بلفظة مشتركة بين معنين اشتراكا أصليا متوسطة بين قرينتين أو متقدمة عليهما أو متأخرة عنهما يستخدم كل قرينة منهما في معنى من معنيي تلك الكلمة المشتركة وهذا مذهب ابن مالك سواء كان الاستخدام بضمير أو بغير ضمير، قال الله تعالى «لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت» فإن لفظة كتاب تحتمل الأجل المحتوم والكتاب المكتوب وقد توسطت بين لفظي أجل، ويمحو إذ استخدمت أحد مفهوميها وهو الأجل بقرينة ذكر الأجل واستخدمت المفهوم الآخر وهو المكتوب بقرينة يمحو. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 498 والقول الثاني انه اطلاق لفظ مشترك بين معنيين مطلقا فيريد بذلك اللفظ أحد المعنيين ثم يعيد عليه ضميرا يريد به المعنى الآخر أو يعيد عليه ضميرين يريد بأحدهما أحد المعنيين وبالآخر المعنى الآخر بعد استعماله في معناه الثالث وهذا هو المذهب المشهور في الاستخدام وهو طريقة صاحب الإيضاح ومن تبعه ومنه الآية التي نحن بصددها فقد أعاد الضمير وهو قوله «وهو أهون عليه» على الخلق بمفهومه الآخر وهو المخلوق لا بمفهومه الأول وهو المصدر ومنه قول البحتري: فسقى الغضا والساكنيه وان هم ... شبوه بين جوانحي وضلوعي فقد أعاد ضمير شبوه على الغضا بمفهومه الآخر وهو الشجر تكون ناره قوية وبها يضرب المثل فيقال جمر الغضا مع أنه يريد مكانا معينا تنزل فيه محبوبته. 2- وفي هذه الآية أيضا فن «المذهب الكلامي» وقيل ان أول من اخترعه الجاحظ وزعم أنه لا يوجد منه شيء في القرآن الكريم وهو مشحون به وتعريفه انه احتجاج المتكلم على ما يريد إثباته بحجة تقطع المعاند له على طريقة أرباب الكلام ومنه نوع منطقي تستنتج فيه النتائج الصحيحة من المقدمات الصادقة وقد ساق الرماني في إعجازه المترجم بالنكت وفي تفسيره الجامع الكبير في الضرب الخامس من باب المبالغة من الاعجاز: إخراج الكلام مخرج الشك للمبالغة في العدل للاحتجاج. 3- سر تذكير الضمير: تذكير الضمير: تذكير الضمير في قوله «وهو أهون» مع أنه عائد على الاعادة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 499 باعتبار كونها ردا وارجاعا أو مراعاة للخبر وهو أهون قال الكرخي: «وذكر الضمير فيه مع أنه راجع الى الاعادة المأخوذة من لفظ يعيده نظرا الى المعنى دون اللفظ وهو رجعه أو رده كما نظر اليه في قوله: «لنحيي به بلدة ميتا» أي مكانا ميتا أو تذكيره باعتبار الخبر. 4- تأخير الصلة وتأخير الجار والمجرور وهو «عليه» مع أنه مقدم في قوله: «هو عليّ هين» لأن المقصود مما نحن فيه هنا خلاف المقصود هناك فإنه اختصاص الله بالقدرة على إيلاد الهم والعاقر، وأما المقصد هنا فلا معنى للاختصاص فيه كيف والأمر مبني على ما يعتقدونه في المشاهد من أن الإعادة أسهل من الابتداء فلو قدمت الصلة لتغير المعنى، وهذا سؤال مشهور تعورف بينهم وهو انه كيف قال تعالى «وهو أهون عليه» والافعال كلها بالنسبة الى قدرته تعالى متساوية في السهولة؟ وإيضاحه أن الأمر مبني على ما ينقاس على أصولكم ويقتضيه معقولكم من أن الاعادة للشيء أهون من ابتدائه لأن من أعاد منكم صنعة شيء كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها فالإعادة محكوم عليها بزيادة السهولة وهناك جواب آخر وهو أن تكون أهون ليست للتفضيل بل هي صفة بمعنى هين كقولهم الله أكبر أي كبير. [سورة الروم (30) : الآيات 30 الى 32] فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 500 اللغة: (حِزْبٍ) : الحزب: الجماعة من الناس، السلاح، جند الرجل وأصحابه الذين على رأيه، النصيب، القسم من القرآن أو غيره والجمع أحزاب وكل قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب وإن لم يلق بعضهم بعضا. الإعراب: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) الفاء الفصيحة وأقم فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ووجهك مفعول به وللدين متعلقان بأقم وحنيفا حال من فاعل أقم أو من مفعوله أو من الدين. (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) مفعول به لفعل محذوف أي الزموا فطرة الله أي خلقته وإنما أضمرناه على خطاب الجماعة لقوله فيما بعد منيبين اليه كما سيأتي وقيل هي مصدر لفعل محذوف أي فطركم فطرة والتي صفة للفطرة وجملة فطر الناس صلة وعليها متعلقان بفطر. (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) الجملة تعليل للأمر بلزوم فطرته ولا نافية للجنس وتبديل اسمها المبني على الفتح ولخلق الله خبر. (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك مبتدأ والدين خبره والقيم صفة والواو حالية أو استئنافية ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها. (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) منيبين حال من فاعل الزموا المضمر كما أشرنا اليه آنفا وهو أحسن من جعله حالا من فاعل أقم واتقوا الله عطف على الزموا المضمرة وكذلك قوله وأقيموا الصلاة ولا ناهية وتكونوا فعل مضارع ناقص مجزوم بلا الناهية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 501 والواو اسمها ومن المشركين خبرها. (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) من الذين بدل من قوله من المشركين بإعادة العامل وجملة فرقوا دينهم صلة وكانوا شيعا كان واسمها وخبرها. (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) كل حزب مبتدأ وبما متعلقان بفرحون ولديهم الظرف متعلق بمحذوف صلة للموصول وفرحون خبر كل والجملة مفسرة مقررة لما قبلها. [سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 37] وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) اللغة: (سُلْطاناً) : السلطان: الحجة تقول له سلطان مبين أي حجة والملك وعبارة القاموس: «والسلطان الحجة وقدرة الملك وتضم لامه، والوالي مؤنث لأنه جمع سليط للدهن كأن يضيء الملك أو لأنه بمعنى الحجة وقد يذكر ذهابا الى معنى الرجل» وفي الأساس: «وله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 502 عليهم سلطان» ، «وما كان لي عليكم من سلطان» وله سلطان مبين: حجة وسنابك سلطات: طوال قال الجعدي يصف فرسا: مدلّا على سلطات النسو ... رشمّ السنابك لم تقلب وروّى ذباله بالسليط وهو الزيت الجيد» وقال أبو البقاء: «والسلطان يذكر لأنه بمعنى الدليل ويؤنث لأنه بمعنى الحجة وقيل هو جمع سليط كرغيف ورغفان» (يَقْنَطُونَ) : ييئسون من الرحمة وفي المصباح هو بفتح النون وكسرها سبعيتان وبابه ضرب وتعب وفي القاموس: «قنط كنصر وضرب وحسب وكرم قنوطا وكفرح قنطا وقناطة وكمنع وحسب وهاتان على الجمع بين اللغتين يئس فهو قنط كفرح وقنّطه تقنيطا آيسه والقنط المنع وزبيب الصبي» . الإعراب: (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) كلام مستأنف مسوق لتصوير طبائع الناس المتقلبة وترجحهم بين الرجاء والقنوط، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة مس في محل جر بإضافة الظرف إليها والناس مفعول به مقدم وضر فاعل مؤخر وجملة دعوا ربهم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وربهم مفعول به ومنيبين حال من فاعل دعوا واليه متعلقان بمنيبين. (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) ثم حرف عطف للترتيب والتراخي وإذا شرطية وجملة أذاقهم في محل جر بإضافة الظرف إليها ومنه حال لأنه كان في الأصل صفة لرحمة ورحمة مفعول به ثان وإذا الفجائية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 503 وهي رابطة لجواب إذا الأولى بشرطها فهي تخلف الفاء في الربط وفريق مبتدأ ومنهم صفة وبربهم متعلقان بيشركون وجملة يشركون خبر. (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) اللام للتعليل أو العاقبة والصيرورة وقيل هي لام الأمر والمراد بالأمر التهديد والوعيد ويكفروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وبما متعلقان بيكفروا وجملة آتيناهم صلة، فتمتعوا الفاء عاطفة وتمتعوا فعل أمر التفت فيه من الغيبة الى الخطاب للمبالغة في زجرهم والفاء واقعة في جواب الأمر وسوف حرف استقبال وتعلمون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل. (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أم حرف عطف منقطعة فهي بمعنى بل وأنزلنا فعل وفاعل وعليهم متعلقان بأنزلنا وسلطانا مفعول به والفاء حرف عطف وهو مبتدأ وجملة يتكلم خبر وبما جار ومجرور متعلقان بيتكلم وجملة كانوا صلة ويجوز أن تكون ما مصدرية وكان واسمها وبه متعلقان بيشركون وجملة يشركون خبر كانوا. (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها) عطف على ما تقدم وجملة فرحوا بها لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة أذقنا في محل جر بإضافة الظرف إليها. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) عطف أيضا وتصبهم فعل الشرط وسيئة فاعل والباء سببية وما اسم موصول في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان بتصبهم وجملة قدمت لا محل لها وإذا الفجائية وقد نابت عن الفاء في ربط الجواب بالشرط وهم مبتدأ وجملة يقنطون خبر وجملة إذا هم يقنطون في محل جزم جواب الشرط. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) الهمزة للاستفهام الانكاري المفيد للتقرير والواو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 504 عاطفة على محذوف يقتضيه السياق ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يروا وان واسمها وجملة يبسط الرزق خبرها ولمن متعلقان بيبسط وجملة يشاء صلة ويقدر عطف على يبسط. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) تقدم إعراب نظائرها كثيرا. البلاغة: في قوله (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ) مجاز عقلي كما تقول كتابه ناطق بكذا وهذا مما نطق به القرآن ومعناه الدلالة والشهادة فهو يشهد بشركهم أو بالذي يشركون به. [سورة الروم (30) : الآيات 38 الى 40] فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) الإعراب: (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن مقدر تقديره إن عرفت أن السيئة أصابتهم بما قدمت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 505 أيديهم فآت. وآت فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله مستتر تقديره أنت وذا القربى مفعول به أول وحقه مفعول به ثان، وقد احتج أبو حنيفة بهذه الآية على وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين وعاجزين عن الكسب والشافعي قاس القرابات على ابن العم لأنه لا ولادة بينهم. والمسكين عطف على ذا القربى وكذلك ابن السبيل. (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ذلك مبتدأ وخير خبر وللذين متعلقان بخير وجملة يريدون صلة والواو فاعل ووجه الله مفعول به أي ثوابه وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ ثان والمفلحون خبر هم والجملة خبر أولئك. (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ) الواو عاطفة وما شرطية في محل نصب مفعول به مقدم لآتيتم وآتيتم فعل وفاعل ومن ربا حال وليربوا اللام للتعليل ويربوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بآتيتم وفي أموال الناس متعلقان بيربوا وسيأتي معنى الظرفية في باب البلاغة والفاء رابطة لجواب الشرط ولا نافية ويربوا فعل مضارع مرفوع والجملة في محل جزم جواب الشرط وعند الله متعلق بيربوا. (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) عطف على ما تقدم ومعنى قوله فأولئك هم المضعفون ذوو الأضعاف من الثواب وسيأتي سر الالتفات في باب البلاغة. (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) الله مبتدأ والذي خلقكم خبره وجملة خلقكم صلة وما بعده عطف عليه. (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) هل حرف استفهام ومن شركائكم خبر مقدم ومن للتبعيض، ومن يفعل مبتدأ مؤخر ومن ذلكم متعلق بمحذوف حال من شيء لأنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 506 كان في الأصل صفة له ومن حرف جر زائد وشيء مجرور بمن لفظا مفعول به ليفعل محلا وزيدت له لأن النكرة في حيز الاستفهام المتضمن معنى النفي وسبحانه مفعول مطلق لفعل محذوف وتعالى فعل ماض وعما متعلقان بتعالى وما مصدرية أو موصولية. البلاغة: 1- الكناية: في قوله «ليربوا في أموال الناس» كناية لأن الزيادة التي يأخذها المرابي من أموال الناس لا يملكها أصلا فالظرفية هي موضع الكناية. 2- الالتفات: في قوله «فأولئك هم المضعفون» التفات عن الخطاب الى الغيبة للتعظيم فهو أمدح من أن يقول لهم فأنتم المضعفون وفيه حذف المفعول به أي ثوابهم. [سورة الروم (30) : الآيات 41 الى 45] ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 507 الإعراب: (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما عم في مختلف الأنحاء من البر والبحر من مفسدة وظلم ولهو ولعب وسائر ما يطلق عليه الفساد الذي هو ضد الصلاح. وظهر الفساد فعل وفاعل وفي البر والبحر متعلقان بظهر أو بمحذوف حال ولعله أرجح وبما متعلقان بظهر أي بسبب كسبهم فما مصدرية أو بسبب الذي كسبوه فهي موصولية وأيدي الناس فاعل كسبت. (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) اللام لام التعليل ويذيقهم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة والأولى أن يعلق الجار والمجرور بمحذوف أي عاقبهم بذلك وقيل اللام ليست للتعليل بل للصيرورة لأن ذلك هو مآلهم وصيرورتهم وأجاز أبو البقاء تعليقه بظهر، والهاء مفعول به أول ليذيق وبعض الذي عملوا مفعوله الثاني ولعل واسمها وجملة يرجعون خبرها. (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) جملة سيروا في الأرض مقول القول فانظروا عطف على سيروا وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وكان واسمها والجملة في محل نصب بانظروا المعلقة بالاستفهام ومن قبل متعلقان بمحذوف صلة الذين. (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) كلام مستأنف مسوق لبيان أن ما أصابهم كان لفشو الشرك في أكثرهم والفساد والمعاصي في أقلهم. (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) الفاء الفصيحة وأقم فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت يعود على الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد أمته ووجهك مفعول به وللدين متعلقان بأقم والقيم صفة للدين أي اجعل وجهتك اتباع الدين القيم البليغ الاستقامة وقد تقدم تفسير هذه الكلمة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 508 (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) من قبل متعلقان بمحذوف حال وان وما بعدها في تأويل مصدر مضاف اليه ويوم فاعل يأتي ولا نافية للجنس ومرد اسمها وله خبرها والجملة صفة ليوم ومن الله لك أن تعلقه بيأتي أي يأتي من الله يوم لا يرده أحد ولك أن تعلقه بمحذوف يدل على المصدر المنسبك من أن ويرده ولا يجوز تعليقه بمرد لأنه يصبح عندئذ شبيها بالمضاف فيعرب، ويومئذ ظرف أضيف لمثله متعلق بيصدعون والتنوين عوض عن جملة ويصدعون مضارع حذفت إحدى تاءيه أي يتفرقون يوم إذ يأتي هذا اليوم، يقال: تصدع القوم إذا تفرقوا، ومنه الصداع لأنه يفرق شعب الرأس، وقال الشاعر: وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) الجملة مفسرة لا محل لها مسوقة لتفسير قوله يصدعون ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وكفر فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة للجواب وعليه خبر مقدم وكفره مبتدأ مؤخر والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من، ومن عمل صالحا عطف على ما سبقه مماثل له في إعرابه وقوله صالحا يجوز أن يكون مفعولا به وأن يكون نعتا لمصدر أي عملا صالحا والفاء رابطة ولأنفسهم متعلقان بيمهدون والجملة جواب الشرط أي يمهدون فرشهم الوثيرة ويوطئونها لئلا تنبوبهم فتتجافى مضاجعهم ويتنغص عيشهم. (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) اللام للتعليل ويجزي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بيمهدون أو بيصدعون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 509 أو بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف أي ذلك كائن ليجزي والذين مفعول يجزي وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على يجزي ومن فضله متعلقان بيجزي وان واسمها وجملة لا يحب خبرها والكافرين مفعول به والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها تعليلية. البلاغة: في قوله (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) جناس المناسبة اللفظي لأن للجناس أصلين وهما جناس المزاوجة وجناس المناسبة وقد تقدم ذكر هذا مستوفى. [سورة الروم (30) : الآيات 46 الى 50] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 510 اللغة: (الرِّياحَ) : أحد جموع الريح والريح مؤنثة وتجمع أيضا على أرواح وأرياح وريح، وجمع الجمع أراويح وأراييح، والرياح أربع: الجنوب وهي القبلية، والشمال وهي الشمالية، والصبا وهي الشرقية، والدبور وهي الغربية، والثلاثة الأول رياح الرحمة والرابعة هي ريح العذاب، وقد تقدم أن لفظ الريح لم يأت في القرآن إلا في الشر وجاء الجمع في الخير ومن ذلك نرى أن العربية غنية بمدلولاتها واننا إذا أوغلنا في الألفاظ المخصصة لبعض الأمور استنبطنا مفاهيم ربما كنا لا نعيرها التفاتا في كتابتنا الحديثة. (كِسَفاً) : بكسر ففتح ويجوز تسكين السين جمع كسفة أي قطعة وفي القاموس: «الكسفة بالكسر القطعة من الشيء والجمع كسف وكسف وجمع الجمع أكساف وكسوف وكسفه يكسفه قطعه» . (الْوَدْقَ) : المطر. الإعراب: (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) كلام مستأنف مسوق لعرض آياته تعالى ومن آياته خبر مقدم وأن وما في حيزها مبتدأ مؤخر والرياح مفعول به ومبشرات حال وهذا هو الغرض الأول في إرسالها. (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الواو عاطفة والجملة عطف على قوله مبشرات لأن الحال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 511 والصفة تتعاوران في إفهام العلة فكأن التقدير ليبشركم وليذيقكم، وعبارة الزمخشري بهذا الصدد: «فإن قلت بم يتعلق وليذيقكم؟ قلت: فيه وجهان: أن يكون معطوفا على مبشرات على المعنى كأنه قيل ليبشركم وليذيقكم وأن يتعلق بمحذوف تقديره وليذيقكم وليكون كذا وكذا أرسلناها» ومن رحمته متعلقان بيذيقكم وسيأتي معنى هذا المجاز في باب البلاغة ولتجري الفلك عطف أيضا وبأمره حال ولتبتغوا من فضله عطف أيضا ولعلكم تشكرون لعل واسمها وجملة تشكرون خبرها. َ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) كلام مستأنف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم وتأنيسا له وإيذانا بالنصر، واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل ومن قبلك حال ورسلا مفعول به والى قومهم جار ومجرور متعلقان بأرسلنا فجاءوهم عطف على أرسلنا وبالبينات متعلقان بجاءوهم أو بمحذوف حال. َانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) الفاء عاطفة على محذوف تقديره فكذبوهم فانتقمنا ومن الذين متعلقان بانتقمنا وجملة أجرموا صلة وكان الواو استئنافية وكان فعل ماض ناقص وحقا خبرها المقدم وعلينا متعلقان بحقا أو بمحذوف صفة له ونصر المؤمنين اسمها المؤخر وهذا هو الاعراب المستقيم وقد تكلف بعض المعربين فأجازوا أن يكون حقا مصدرا وعلينا الخبر وأن يكون في كان ضمير الشأن وحقا مصدر وعلينا نصر مبتدأ وخبرا في موضع نصب خبر كان وفي هذا الكلام من تعظيم أمر المؤمنين وتأهيلهم للكرامة واستحقاق الاثابة والنصر ما فيه وفي تعريف المؤمنين تنويه بهم وإلماع الى أن من تخلّف عن مراتبهم لا يستحق هذه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 512 المنّة الكبرى. (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) كلام مستأنف أيضا لتفصيل ما أجمله من ذكر الرياح وأحوالها والله مبتدأ والذي خبره وجملة يرسل الرياح صلة فتثير عطف على يرسل وسحابا مفعول به والفاء عاطفة ويبسطه عطف على تثير أيضا وفي السماء متعلقان بيبسطه وكيف أداة شرط وتعليق كقولهم كيف تصنع أصنع وكيف تكون أكون إلا أنه لا يجزم بها وجوابها محذوف لدلالة ما قبلها عليه وكذلك مفعول يشاء وقد تقدم أن المفعول بعد يشاء يكون محذوفا في الغالب والتقدير كيف يشاء بسطه يبسطه فحذف بسطه لأنه مفعول يشاء وحذف يبسطه لدلالة يبسطه الأول عليه وكيف منصوب على الحال بالفعل بعده والمعنى على أي حال شاء أن يبسطه يبسطه وسيأتي مزيد بحث عن كيف الشرطية في باب الفوائد. (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) ويجعله عطف على يبسطه والهاء مفعول يجعل الاول وكسفا مفعوله الثاني، فترى عطف على ما تقدم وفاعل ترى مستتر تقديره أنت والودق مفعول به وجملة يخرج حالية لأن الرؤية هنا بصرية ومن خلاله متعلقان بيخرج. (فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة أصاب في محل جرّ بإضافة الظرف إليها وبه متعلقان بأصاب ومن يشاء مفعول أصاب ومن عباده حال وإذا فجائية واقعة في جواب إذا الاولى وهم مبتدأ وجملة يستبشرون خبر. (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) الواو حالية أو عاطفة وإن مخففة من الثقيلة مهملة أو عاملة في ضمير شأن محذوف وكان واسمها ومن قبل متعلقان بمحذوف حال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 513 وأن وما في حيزها مصدر مؤول مضاف لقبل وينزل فعل مضارع مبني للمجهول منصوب بأن وعليهم متعلقان به ونائب الفاعل مستتر تقديره هو واللام الفارقة ومبلسين خبرها ومن قبله الثانية قيل هي تكرير وتوكيد لمن قبل الأولى قال الزمخشري: «من باب التكرير والتوكيد كقوله تعالى فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها. ومعنى التوكيد فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك» وقال ابن عطية: «وفائدة هذا التأكيد الاعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس الى الاستبشار وذلك أن قوله: من قبل أن ينزل عليهم يحتمل الفسحة في الزمان أي من قبل أن ينزل بكثير فجاء قوله من قبله بمعنى أن ذلك متصل بالمطر فهو تأكيد مفيد» . (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) الفاء الفصيحة أي إذا أردت أن تعرف ما يترتب على إنزال المطر فانظر، وانظر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والى آثار رحمة الله متعلقان بانظر وكيف اسم استفهام في محل نصب على الحال وهي معلقة لانظر عن العمل والأرض مفعول به وبعد موتها ظرف متعلق بيحيي والجملة بدل من آثار فهي في حيز النصب بنزع الخافض والمعنى بعد كل هذا فانظر الى إحيائه البديع للأرض بعد موتها والمراد التنبيه على عظيم قدرته وسعة رحمته. (إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إن واسمها أي إن ذلك القادر واللام المزحلقة ومحيي الموتى خبرها وهو مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بقدير وقدير خبر هو. البلاغة: في قوله «وليذيقكم من رحمته» استعارة ومجاز فالاستعارة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 514 في قوله ليذيقكم وقد تقدمت كثيرا وهي استعارة مكنية والمجاز المرسل في قوله من رحمته وهو مجاز مرسل علاقته الحالية لأن الرحمة تحل في الخصب والمطر فأطلق الحال وأريد المحل وفسر بعضهم الرحمة بقوله: «أي من نعمته من المياه العذبة والأشجار الرطبة وصحة الأبدان وما يتبع ذلك من أمور لا يحصيها إلا الله» . الفوائد: كيف أيضا: جاء في المغني ما نصه: «وتستعمل على وجهين: أحدهما أن تكون شرطا فيقتضي فعلين متفقي اللفظ والمعنى غير مجزومين نحو كيف تصنع أصنع ولا يجوز كيف تجلس أذهب باتفاق ولا كيف تجلس أجلس بالجزم عند البصريين إلا قطربا لمخالفتها لأدوات الشرط بوجوب موافقة جوابها لشرطها كما مر، وقيل يجوز مطلقا وإليه ذهب قطرب والكوفيون، وقيل يجوز بشرط اقترانها بما، قالوا ومن ورودها شرطا «ينفق كيف يشاء» «يصوركم في الأرحام كيف يشاء» «فيبسطه في السماء كيف يشاء» وجوابها في ذلك كله محذوف لدلالة ما قبلها وهذا يشكل على إطلاقهم أن جوابها يجب مماثلته لشروطها» وقد استدرك بعض المعلقين على المغني فقال «أجاب بعضهم بأنه يمكن أن يقدر الجواب موافقا للشرط بأن يقدر الجواب فعل مشيئته متعلقة بالفعل السابق وهو دال عليه لأن الفعل الاختياري يستلزم المشيئة والأصل كيف يشاء أمرا يشاء التصوير في الأرحام، كيف يشاء أمرا يشاء الانفاق، كيف يشاء أمرا يشاء بسطه، غاية الأمر أن متعلق الفعلين مختلف وهذا جواب بعيد لأنهم قالوا لدلالة ما قبلها لأن المتبادر انه دال على الجواب وعلى دفع الاشكال فيكون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 515 ما قبلها دالا على متعلق جوابها لا على نفس جوابها وقد علمت دفع هذا بأن الفعل الاختياري وهو الفعل الواقع قبلها يستلزم المشيئة وهو الجواب المحذوف» . [سورة الروم (30) : الآيات 51 الى 54] وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) الإعراب: (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط وأرسلنا فعل وفاعل في محل جزم فعل الشرط وريحا مفعول أرسلنا فرأوه عطف على أرسلنا وهو فعل وفاعل ومفعول به ومصفرا حال ولظلوا اللام واقعة في جواب القسم وظلوا فعل ماض ناقص والواو اسمها والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وقد أغنت عن جواب الشرط حسب القاعدة المشهورة: واحذف لدى اجتماع شرط وقسم ... جواب ما أخرت فهو ملتزم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 516 ومن بعده حال وجملة يكفرون خبر ظلوا. (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) الفاء تعليلية والجملة تعليل لمحذوف أي لا تجزع ولا تحزن على عدم ايمانهم فإنهم موتى صم عمي، وان واسمها وجملة لا تسمع الموتى خبرها ولا تسمع الصم الدعاء عطف على الجملة السابقة والصم مفعول تسمع الاول والدعاء مفعول تسمع الثاني وإذا ظرف مستقبل متعلق بتسمع وجملة ولوا مضاف إليها الظرف وولوا فعل وفاعل ومدبرين حال من الواو. (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) الواو عاطفة وما نافية حجازية وأنت اسمها والباء حرف جر زائد وهادي مجرور لفظا منصوب محلا لأنه خبر ما والعمي مضاف اليه وعن ضلالتهم متعلقان بالعمي أو بهادي على تضمين هادي معنى صارف وقد تقدم نظيره. (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) إن نافية وتسمع فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنت وإلا أداة حصر ومن مفعول به وجملة يؤمن صلة من وبآياتنا متعلقان بيؤمن، فهم الفاء عاطفة على المعنى وهم مبتدأ ومسلمون خبر. (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) الله مبتدأ والذي خبر وجملة خلقكم صلة ومن ضعف متعلقان بخلقكم. (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) ثم حرف عطف وتراخ وجعل فعل ماض ومن بعد ضعف مفعول جعل الثاني أو متعلق بجعل وقوة مفعول جعل. (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) ثم وما بعدها عطف على ما تقدم وجملة يخلق ما يشاء حالية وهو مبتدأ والعليم خبر أول والقدير خبر ثان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 517 [سورة الروم (30) : الآيات 55 الى 60] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60) اللغة: (السَّاعَةُ) : القيامة سميت بذلك لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا أو لأنها تقع بغتة وبديهة وجرت علما لها كالنجم للثريا والكوكب للزهرة وفي القاموس: «والساعة جزء من أجزاء الجديدين والوقت الحاضر والجمع ساعات وساع والقيامة أو الوقت الذي تقوم فيه القيامة والهالكون كالجاعة للجياع» والساعة أيضا آلة يعرف بها الوقت بحسب الساعات (موالدة) ومنها الساعة الرملية والساعة الشمسية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 518 (يُسْتَعْتَبُونَ) : يطلب منهم العتبى أي الرجوع، من قولك استعتبني فلان فأعتبته أي استرضاني فأرضيته وذلك إذا كنت جانيا عليه وحقيقة أعتبته أزلت عتبه، ألا ترى الى قوله: غضبت تميم أن تقتل عامرا ... يوم النسار فأعتبوا بالصيلم كيف جعلهم غضابا ثم قال فأعتبوا أي أزيل غضبهم، والغضب في معنى العتب، والصيلم ماء لبني عامر والصيلم الداهية والسيف كما في الصحاح. وفي المصباح: «عتب عليه عتبا من بابي ضرب وقتل ومعتبا أيضا لامه في سخط فهو عاتب وعتاب مبالغة وبه سمي ومنه «عتّاب ابن أسيد» وعاتبه معاتبة وعتابا، قال الخليل: حقيقة العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة، وأعتبني الهمزة للسلب أي أزال الشكوى والعتاب واستعتب طلب الإعتاب والعتبى اسم من الإعتاب» . (يَسْتَخِفَّنَّكَ) : يحملنك على الخفة والطيش بترك الصبر. الإعراب: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) الظرف متعلق بيقسم وجملة تقوم الساعة في محل جر باضافة الظرف إليها ويقسم المجرمون فعل وفاعل وما نافية ولبثوا فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها واقعة في جواب القسم وغير ساعة ظرف متعلق بلبثوا. (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) كذلك نعت لمصدر محذوف أي يصرفون عن الحق وهو الصدق كما صرفوا عن الحق وهو البعث وكان واسمها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 519 وجملة يؤفكون خبرها ويؤفكون فعل مضارع مبني للمجهول. (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) الواو عاطفة وقال الذين فعل وفاعل وجملة أوتوا صلة والعلم مفعول به ثان لأوتوا والايمان عطف على العلم وجملة لقد لبثتم مقول القول واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ولبثتم فعل وفاعل وفي كتاب الله حال أي محسوبة في علم الله وقدره والى يوم البعث متعلقان بلبثتم. (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدر كأنه قال إن كنتم منكرين للبعث فهذا يوم البعث أي فقد تبين بطلان قولكم. ولكنكم الواو حالية ولكن واسمها وجملة كنتم خبرها وجملة لا تعلمون خبر كنتم. (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) الفاء تفصيل لما قبلها مما يفهم من أن تقليل مدة اللبث فهي الفصيحة أيضا ويومئذ ظرف أضيف الى مثله وهو متعلق بينفع والتنوين عوض عن جملة محذوفة أي يوم إذ قامت الساعة وحلف المشركين كاذبين ورد عليهم الذين أوتوا العلم والايمان من الملائكة وغيرهم ولا نافية وينفع فعل مضارع والذين ظلموا مفعوله المقدم ومعذرتهم فاعل ينفع وقرئ ينفع بالياء والتاء لأن معذرتهم مؤنث غير حقيقي أو بمعنى العذر والواو حرف عطف ولا نافية وهم مبتدأ وجملة يستعتبون خبر ويستعتبون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) الواو استئنافية واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وللناس متعلقان بضربنا وفي هذا القرآن متعلقان بمحذوف حال ومن كل مثل صفة لمفعول به محذوف أي موعظة أو قصة من كل مثل أو تكون من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 520 للتبعيض ويكون الجار والمجرور في موضع نصب على أنه مفعول ضربنا أي وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها وطرافتها. (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية وجئتهم فعل وفاعل ومفعول به في موضع فعل الشرط وبآية متعلقان بجئتهم وليقولن اللام واقعة في جواب القسم ويقولن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقلية فاللام مفتوحة باتفاق القراء والفاعل هو الاسم الموصول من باب اقامة الظاهر مقام المضمر وقد تقدم ذكره كثيرا وجملة كفروا صلة وإن نافية وأنتم مبتدأ وإلا أداة حصر ومبطلون خبر أنتم والجملة مقول القول. (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الكاف نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الطبع يطبع الله على قلوب الجهلة الذين لا يعلمون وجملة لا يعلمون صلة الذين. (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) الفاء الفصيحة أي إذا علمت أن حالهم بهذه المثابة فاصبر، واصبر فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت وجملة إن وعد الله حق تعليل للأمر بالصبر ولا الواو عاطفة ولا ناهية ويستخفنك فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وهو في محل جزم بلا الناهية والكاف مفعول به مقدم والذين فاعل يستخفنك المؤخر وجملة لا يوقنون صلة. البلاغة: في قوله «ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة» جناس تام وقد تقدم البحث في هذا الفن ونريد الآن أن نستوفي أبحاثه فهو ضروب كثيرة منها الماثلة وهي أن تكون اللفظة واحدة باختلاف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 521 المعنى نحو قول زياد الأعجم وقيل الصلتان العبدي يرثي المغيرة ابن المهلب: فانع المغيرة للمغيرة إذ بدت ... شعواء مشعلة كنبح النابح فالمغيرة الاولى: رجل، والمغيرة الثانية: الفرس وهي ثانية الخيل التي تغير، وقال أبو نواس في ابن الربيع: عباس عباس إذا احتدم الوغى ... والفضل فضل والربيع ربيع وقال أبو تمام: ليالينا بالرقمتين وأهلنا ... سقى العهد منك العهد والعهد والعهد فالعهد الأول المسقى: هو الوقت، والعهد الثاني هو الحفاظ من قولهم فلان ماله عهد، والعهد الثالث الوصية من قولهم عهد فلان الى فلان وعهدت إليه أي وصّاني ووصيّته، والعهد الرابع المطر وجمعه عهاد، واستثقل قوم هذا التجنيس وحق لهم. هذا وقد ولع أبو تمام بالتجنيس كثيرا فأجاد في بعضه وأسف في بعضه الآخر وقد أوردنا فيما سبق من هذا الكتاب نماذج من حسناته وسيئاته ويبدو التكلف ظاهرا فيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 522 أما ابن الرومي فليس من هواة الصناعة اللفظية ولم يكن يشغل باللفظ كثيرا وانما كان يجانس لمعنى يراه هو ولا يجانس لتزويق فارغ ولهو سخيف، ومن مليح ما جاء له: للسود في السود آثار تركن بها ... لمعا من البيض تثني أعين البيض فالسود الأول: الليالي، والسود الآخر: شعرات الرأس واللحية والبيض الأول الشيبات والبيض الآخر النساء. وقوله: فيسبيك بالسحر الذي في جفونه ... ويصبيك بالسحر الذي هو نافثه أو مثل هذا البيت: تصيب إذا حكمت وإن طلبنا ... لديك العرف كنت حيا تصوب أو مثل هذا البيت: ليس ينفكّ طيرها في اصطحاب ... تحت أظلال أيكها واصطخاب وهكذا كان في كل تجنيسه الذي لا تعسف فيه وليس هو بالكثير البارز في ديوانه الكبير فإذا جنس في غير ذلك فهو عابث متعمد للعبث وليس بملفق محسّنات ولا بطالب تزويق كما قال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 523 لو تلفّفت في كساء الكسائي ... وتلبّست فروة الفرّاء وتخلّلت بالخليل وأضحى ... سيبويه لديك رهن سباء وتكوّنت من سواد أبي الاسو ... د شخصا يكنى أبا السوداء لأبى الله أن يعدك أهل العلم إلا من جملة الأغبياء ومن علماء البيان من جعل له اسما سماه به وهو الترديد أي أن اللفظة الواحدة رددت فيه، وهو أن يأتي الشاعر بلفظة متعلقة بمعنى ثم يرددها بعينها متعلقة بمعنى آخر في البيت نفسه أو في قسم منه، قال أبو تمام: خفّت دموعك في إثر القطين لدن ... خفّت من الكثب القضبان والكثب الترديد في خفت ولو جعلت الكثب ترديدا لجاز. وقال أبو الطيب المتنبي وأحسن ما شاء: أمير أمير عليه الندى ... جواد بخيل بأن لا يجودا والترديد في أول البيت، والعلماء بالشعر مجمعون على تقديم أبي حية النميريّ في قوله: ألا حيّ من أجل الحبيب المغانيا ... لبسن البلى مما لبسن اللياليا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 524 إذا ما تقاضى المرء يوما وليلة ... تقاضاه شيء لا يملّ التقاضيا وما أجمل قول أبي نواس: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء صفراء لا تنزل الأكدار ساحتها ... لو مسها حجر مستها سراء وكذلك قول أبي تمام: راح إذا ما الراح كنّ مطيّها ... كانت مطايا الشوق في الأحشاء ردد مطيّها ومطايا الشوق. ونعود للآية الكريمة فنذكر أن ابن أبي الحديد قد نازع في كتابه المسمى بالفلك الدائر على المثل السائر في هذا وقال: ان المعنى واحد في الآية، فان يوم القيامة وان طال فهو عند الله تعالى كالساعة الواحدة عند أحدنا، وحينئذ فاطلاق الساعة عليه مجاز كقولنا رأيت أسدا وزيد أسد، وأردنا بالأول حيوانا وبالثاني الرجل الشجاع. ولم نر أحدا نازع فيما ذكرناه غير ابن أبي الحديد، فتدبر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 525 (31) سورة لقمان مكيّة وآياتها اربع وثلاثون [سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) اللغة: (لَهْوَ الْحَدِيثِ) اللهو كل باطل ألهى عن الخير يقال لهوت لهوا وفلان مشتغل بالملاهي وفيهن ملهى وملعب، قال زهير: وفيهن ملهى للصديق ومنظر ... أنيق لعيّن الناظر المتوسم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 526 الملهى اللهو أو موضعه، يقول: وفي هؤلاء النسوان لهو أو موضع لهو للمتأنق الحسن المنظر ومناظر معجبة لعين الناظر المتتبع محاسنهن وسمات جمالهن. (وَقْراً) : صمما. الإعراب: (الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) ألم تقدم اعرابها، وتلك مبتدأ وآيات الكتاب خبر والحكيم صفة للكتاب وسيأتي معنى إسناد الحكمة اليه في باب البلاغة، وهدى ورحمة حالان من الآيات والعامل فيهما ما في تلك من معنى الاشارة، وقرأ حمزة بالرفع على أنهما خبر لمبتدأ محذوف أي هو هدى ورحمة وللمحسنين متعلقان بمحذوف صفة أو بنفس المصدر. (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) الذين نعت للمحسنين وجملة يقيمون الصلاة صلة ويؤتون الزكاة عطف عليها داخل في حيز الصلة وهم مبتدأ وبالآخرة متعلقان بيوقنون وهم الثاني تأكيد للأول وجملة يوقنون خبر هم. (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) تقدمت الآية بلفظها في سورة البقرة. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) كلام مستأنف مسوق لتقرير حال اللاهين الذين يستنزفون أوقات فراغهم باللهو ومضاحيك الكلام ولغو الحديث وباطله، وسيأتي في باب الفوائد ما قالوه في أسباب نزولها. ومن الناس خبر مقدم ومن اسم موصول مبتدأ مؤخر ومن مفرد لفظا جمع معنى وروعي لفظها أولا في ثلاثة ضمائر يشتري ويضل ويتخذ وروعي معناها في موضعين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 527 وهما أولئك لهم ثم رجع الى اللفظ في خمسة ضمائر وهي وإذا تتلى الى آخر الآية كما سيأتي وجملة يشتري لهو الحديث صلة وليضل اللام للتعليل ويضل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بيشتري وعن سبيل الله متعلقان بيضل وبغير علم حال من فاعل يشتري أي يشتري غير عالم بحال ما يشتريه وقد تقدم تقرير الاستعارة في الاشتراء في سورة البقرة. (وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ويتخذها بالنصب عطفا على ليضل وقرئ بالرفع عطفا على يشتري والضمير للسبيل لأنها مؤنثة ويتخذها فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره هو والهاء مفعول يتخذ الاول وهزوا مفعوله الثاني وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر ومهين صفة والجملة خبر أولئك. (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة تتلى في محل جر باضافة الظرف إليها وتتلى فعل مضارع مبني للمجهول وعليه متعلقان بتتلى وآياتنا نائب فاعل وجملة ولى لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومستكبرا حال. (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) كأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن المحذوف وجملة لم يسمعها خبرها والجملة نصب على الحال من فاعل ولى وكأن حرف تشبيه ونصب وفي أذنيه خبر كأن المقدم ووقرا اسم كان المؤخر والجملة حال أيضا من فاعل لم يسمعها أو بدل من جملة كأن لم يسمعها وأجاز الزمخشري أن تكون جملتا التشبيه استئنافيتين، فبشره الفاء الفصيحة وبشره فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به والأمر بالبشارة هو للتهكم وبعذاب متعلقان ببشره وأليم صفة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 528 البلاغة: 1- الاسناد المجازي: في قوله تعالى «الكتاب الحكيم» إسناد مجازي ويجوز أن يكون بمعنى ذي الحكمة، وقال الزمخشري: «ويجوز أن يكون الأصل الحكيم قائله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فبانقلابه مرفوعا بعد الجر استكن في الصفة المشبهة بعد» وهذا من أروع التعليل. 2- الإيجاز: وفي قوله: «للمحسنين» إيجاز بليغ أي الذين يعملون الحسنات وهي لا تحصى ولكنه خص منها هذه الثلاث، ونظير هذا الإيجاز قول أوس بن حجر في مرثاته لفضالة بن كلدة: الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا حكي عن الأصمعي أنه سئل عن الألمعي فأنشده ولم يزد، وهذه المرثاة من أفضل ما سمع في الرثاء وأولها: أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا إن الذي جمع السماحة والنجد ... ة والبر والتقى جمعا الألمعي الذي يظن إلخ ... أودى فلا تنفع الاشاحة من ... أمر لمن يحاول البدعا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 529 يقول: يا نفس احتملي جزعا عظيما إن الذي تخافين منه قد حصل، وبيّنه بقوله إن الذي جمع .... وأودى: هلك، وجمعا بالضم توكيد للصفات قبله والألمعي نصب على النعت للذي وفسره بأنه الذي يظن بك يعني كل مخاطب أي يظن الظن الحق كأنه قد رأى وسمع ما ظنه أو يظن الظن فيصيب كأنه قد رآه إن كان فعلا أو سمعه إن كان قولا وفيه نوع من البديع يسمى التفسير وهو أن يؤتى بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفته دون تفسيره. الفوائد: 1- قصة النضر بن الحارث: اعلم أن المقصود بآيات الله أن يتوجه الخطاب فيها الى العموم ولكن أسباب النزول خاصة، ثم تسري أحكامها فيما بعد على العموم وقد ذكروا في أسباب نزول قوله «ومن الناس من يشتري لهو الحديث» الآية أن النضر بن الحارث كان يأتي الحيرة فيتجر ويشتري كتب أخبار الأعاجم ويحدث بها أهل مكة ويقول: إن محمدا يحدثكم بأحاديث عاد وثمود وأنا أحدثكم بأحاديث فارس والروم فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن. والحيرة بكسر الحاء مدينة بقرب الكوفة. 2- معنى الإضافة: إضافة اللهو الى الحديث معناها التبيين وهي الاضافة بمعنى من وضابطها أن يكون المضاف بعد المضاف إليه صالحا للاخبار به عنه كخاتم فضة، وقد مر هذا البحث في مكان آخر من هذا الكتاب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 530 [سورة لقمان (31) : الآيات 8 الى 11] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) كلام مستأنف مسوق لبيان حال المؤمنين وان واسمها وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا ولهم خبر مقدم وجنات النعيم مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر إن. (خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) خالدين حال مقدرة من المجرور باللام في لهم أي مقدرا لهم الخلود فيها إذا دخلوها وفيها متعلقان بخالدين ووعد الله حقا: مصدران مؤكدان الأول مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره لأن معنى لهم جنات النعيم وعدهم الله بها فأكد معنى الوعد بالوعد وحقا دال على معنى الثبات أكد به معنى الوعد، وعاملها مختلف فتقدير الأولى وعد الله ذلك وعدا وتقدير الثانية وحقه حقا ومؤكدهما جميعا واحد وهو قوله لهم جنات النعيم وهو مبتدأ والعزيز. خبر أول والحكيم خبر ثان. (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) الجملة مستأنفة مسوقة للتدليل على قدرته وعزته سبحانه. وخلق فعل ماض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 531 وفاعله مستتر تقديره هو والسموات مفعول به وبغير عمد في موضع نصب على الحال أي حالية من عمد وقد مر نظيره في الرعد وجملة ترونها صفة لعمد أي بغير عمد مرئية. (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) وألقى عطف على خلق وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله وفي الأرض متعلقان بألقى ورواسي صفة مفعول به محذوف أي جبالا رواسي وان وما في حيزها في محل نصب مفعول لأجله أي أن لا تميد بكم أو كراهة أن تميد بكم وبكم متعلقان بتميد وبثّ عطف على ألقى وفيها متعلقان ببث ومن كل دابة صفة لمفعول به محذوف أي حيوانات من كل دابة. (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) وأنزلنا عطف على طريق الالتفات عن الغيبة الى التكلم وأنزلنا فعل وفاعل ومن السماء متعلقان بأنزلنا وماء مفعول به فأنبتنا عطف على أنزلنا وفيها متعلقان بمحذوف حال ومن كل زوج متعلقان بأنبتنا أو صفة لمفعول محذوف أي نباتا من كل زوج وكريم صفة لزوج. (هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) هذا مبتدأ والاشارة الى ما ذكر من مخلوقاته وخلق الله خبر والخلق بمعنى المخلوق، فأروني الفاء الفصيحة وأروني فعل أمر يحتاج لثلاثة مفاعيل الياء أولها وجملة الاستفهام المعلقة سدت مسد المفعولين الباقيين ويجوز أن تكون أروني بمعنى أخبروني فتتعدى لمفعولين الأول مفرد صريح وهو ضمير المتكلم والثاني الجملة الاستفهامية، وماذا اسم استفهام في محل نصب مفعول مقدم لخلق أو ما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبر وخلق الذين فعل وفاعل ومن دونه صلة الذي. (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) بل إضراب انتقالي والظالمون مبتدأ وفي ضلال خبر ومبين صفة لضلال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 532 [سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 13] وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) الإعراب: (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان الشرك واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل ولقمان مفعول به أول والحكمة مفعول به ثان وسيأتي الكلام مفصلا عن لقمان وترجمته. (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) يجوز أن تكون أن هي المفسرة لأن الإيتاء فيه معنى القول أي قلنا له اشكر ويجوز أن تكون على بابها فهي في تأويل مصدر في موضع نصب كما حكى سيبويه كتبت إليه أن قم والأول أظهر، ولله متعلقان باشكر ومن الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويشكر فعل الشرط والفاء رابطة وانما كافة ومكفوفة والجملة في محل جزم جواب الشرط ومن كفر عطف على ومن يشكر داخلة في حيزها والجملة خبر من. (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ) الظرف متعلق بمحذوف أي اذكر وجملة قال لقمان في محل جر باضافة الظرف إليها ولابنه متعلقان بقال والواو واو الحال وهو مبتدأ وجملة يعظه خبر والجملة حالية. (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) الجملة مقول القول ولا ناهية وتشرك فعل مضارع مجزوم بلا وبالله متعلقان بتشرك وجملة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 533 إن الشرك تعليل للنهي لا محل لها وان واسمها واللام المزحلقة وظلم خبرها وعظيم صفة. الفوائد: لقمان وترجمته ولمح من أخباره: قيل هو اسم أعجمي فهو ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة وقيل عربي فهو ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون والأول أظهر وأورده صاحب القاموس في مادة لقم وقال «ولقمان الحكيم اختلف في نبوته وأكثر الأقاويل أنه كان حكيما ولم يكن نبيا» . ولطرافة شخصيتة وما نسج حولها من الأساطير نورد الأقوال السبعة فيه باختصار: 1- قال قتادة: خيّره الله بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة فقذفت عليه وهو نائم فأصبح ينطق بالحكمة فسئل عن ذلك فقال: لو أرسل الله إليّ النبوة عزمة لرجوت الفوز بها ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوّة. وقيل: كان من النوبة قصيرا أفطس الأنف وقيل كان حبشيا. 2- قال سعيد بن المسيّب: كان أسود من سودان مصر ذا مشفر حكمته من حكمة الأنبياء، وقيل كان خيّاطا وقيل راعيا فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال: ألست عبد بني فلان؟ كنت ترعى بالأمس؟ قال: بلى، قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: وما يعجبك من أمري؟ قال: وطء الناس بساطك وغشيانهم بابك ورضاهم بقولك، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 534 قال: يا ابن أخي إن صنعت ما أقول لك كنت كذلك، قال: وما أصنع؟ قال: غضّ بصري، وكف لساني وعفة طمعي وحفظ فرجي وقيامي بعهدي ووفائي بوعدي وتكرمة ضيفي وحفظ جاري وترك مالا يعنيني فذلك الذي صيرني كما ترى، ويروى أنه قال: قدر الله وأداء الأمانة وصدق الحديث وترك ما لا يعنيني. 3- وقال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحكمة تزيد الشرف شرفا وترفع المملوك حتى يجلس مجالس الملوك، قال الله تعالى: «ولقد آتينا لقمان الحكمة» . 4- وقال الثعالبي المفسر: اتفق العلماء على أن لقمان لم يكن نبيا إلا عكرمة تفرد بأنه نبي. 5- وقال وهب بن منبه: كان لقمان ابن أخت داود عليه السلام وقيل ابن خالته وكان في زمنه وكان داود يقول له: طوبى لك أوتيت الحكمة وصرفت عنك البلوى، وأوتي داود الخلافة وبلي بالبلية، وكان داود يغشاه ويقول: انظروا الى رجل أوتي الحكمة ووقي الفتنة. 6- وقال عبد الوارث: أوتي لقمان الحكمة في قالة قالها، فقيل: وهل لك أن تكون خليفة فتعمل بالحق؟ فقال: إن تختر لي فسمعا وطاعة وان تخيرني أختر العافية وإنه من يبع الآخرة بالدنيا يخسرهما جميعا ولأن أعيش حقيرا ذليلا أحبّ إليّ من أن أعيش قويا عزيزا، وقيل كان عبدا نجارا، فقال له سيده اذبح شاة وائتني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 535 بأطيب مضغتين فأتاه بالقلب واللسان ثم أمره بمثل ذلك وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج القلب واللسان، فقال له: ما هذا؟ فقال: ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا. 7- وقال أبو اسحق الثعالبي: كان لقمان من أهون مماليك سيده عليه فبعثه مولاه مع عبيد له الى بستانه يأتونه بشيء من ثمر فجاءوه وما معهم شيء وقد أكلوا الثمر وأحالوا على لقمان، فقال لقمان لمولاه: ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها فاسقني وإياهم ماء حميما ثم أرسلنا لنعدو ففعل فجعلوا يتقيئون تلك الفاكهة ولقمان يتقيأ ماء فعرف مولاه صدقه وكذبهم. وروي أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد الدرع فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت، فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله، فقال له داود: بحق ما سميت حكيما. هذا وأخبار لقمان وحكمته أكثر من أن تستوعبها ترجمة فحسبنا ما تقدم. [سورة لقمان (31) : الآيات 14 الى 15] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 536 اللغة: (وَهْناً) : الوهن: الضعف وفي المختار: «الوهن الضعف وقد وهن من باب وعد ووهنه غيره يتعدى ويلزم ووهن بالكسر يهن وهنا لغة فيه وأوهنه غيره ووهنه توهينا والوهن والموهن نحو من نصف الليل، قال الاصمعي: هو حين يدبر الليل» . (وَفِصالُهُ) : فطامه وفي القاموس: «الفصال: فطم الولد» وفيه أيضا: «وفصل الولد عن الرضاع وبابه ضرب» . الإعراب: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) كلام معترض على سبيل الاستطراد في أثناء وصية لقمان مؤكد لما اشتملت عليه من النهي عن الشرك. ووصينا فعل وفاعل والإنسان مفعول به وبوالديه متعلقان بوصينا وجملة حملته أمه اعتراضية بين المفسّر والمفسّر وحملته أمه فعل ماض ومفعول به وفاعل ووهنا على وهن حال من أمه أي ذات وهن أو مصدر مؤكد لفعل هو الحال أي تهن وهنا وعلى وهن صفة للمصدر أي كائنا على وهن وقيل منتصب بنزع الخافض أي حملته بضعف على ضعف، وقال الزجاج: المعنى لزمها بحملها إياه أن يضعف مرة بعد مرة، وقال الزمخشري: «أي حملته أمه تهن وهنا على وهن كقولك رجع عودا على بدء وهو في موضع الحال والمعنى أنها تضعف ضعفا فوق ضعف أي يتزايد ضعفها ويتضاعف لأن الحمل كلما ازداد وعظم ازدادت ثقلا وضعفا» والواو عاطفة وفصاله مبتدأ وفي عامين خبر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 537 (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) أن مفسرة والجملة تفسير لوصّينا كما تقدم واختار الزجاج أن تكون أن على بابها أي مصدرية ومحل المصدر النصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بوصينا وليس قوله ببعيد واشكر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولي متعلقان باشكر ولوالديك عطف على لي وإليّ خبر مقدم والمصير مبتدأ والجملة استئنافية. (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) الواو عاطفة وإن شرطية وجاهداك فعل ماض وفاعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط وعلى حرف جر وأن تشرك المصدر المؤول مجرور بعلى والجار والمجرور متعلقان بجاهداك وبي متعلقان بتشرك وما موصول مفعول به وجملة ليس صلة ولك خبر ليس المقدم وبه متعلقان بعلم وعلم اسم ليس المؤخر، فلا الفاء رابطة ولا ناهية وتطعهما فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به والميم والألف حرفان دالان على التثنية وجملة فلا تطعهما في محل جزم جواب الشرط. (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) الواو عاطفة وصاحبهما فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت ومفعول به وفي الدنيا حال ومعروفا صفة لمصدر محذوف أي صحابا معروفا واختار بعضهم أن ينصب بنزع الخافض أي بالمعروف. (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) واتبع فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وسبيل مفعول به ومن مضاف اليه وجملة أناب صلة من وإليّ متعلقان بأناب، ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وإليّ خبر مقدم ومرجعكم مبتدأ مؤخر، فأنبئكم الفاء عاطفة وأنبئكم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وبما متعلقان بأنبئكم وكنتم تعملون كان واسمها وجملة تعملون خبرها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 538 البلاغة: في قوله «ما ليس لك به علم» فن عكس الظاهر أو نفي الشيء بإيجابه وقد تقدم القول فيه مرارا، فقد أراد بنفي العلم نفيه أي لا تشرك بي ما ليس بشيء يريد الأصنام على حد قوله «على لا حب لا يهتدى بمناره» أي ما ليس بإله فيكون لك علم بالإلهية. [سورة لقمان (31) : الآيات 16 الى 19] يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) اللغة: (خَرْدَلٍ) : الخردل: نبات له حب صغير جدا أسود مقرّح الواحدة خردلة ويقال خردل الطعام أكل خياره وخردل اللحم قطع أعضاءه وافرة صغارا، ولحم خراديل: مقطع ومفرد ويضرب بها المثل في الضآلة وقد تقدم هذا في الأنبياء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 539 (وَلا تُصَعِّرْ) : لا تحل وجهك تكبرا، قال أبو عبيدة: وأصل الصعر داء يصيب البصير ويلتوي عنقه، ولما كان ذلك قد يكون لغرض من الأغراض التي لا تدوم أشار الى المقصود به بقوله للناس بلام العلة أي لا تفعل ذلك لأجل الإمالة عنهم. وفي المصباح: الصعر بفتحتين ميل في العنق وانقلاب في الوجه الى أحد الشدقين وربما كان الإنسان أصعر خلقة أو صعره غيره بشيء يصيبه وهو مصدر من باب تعب وصعر خدّه بالتثقيل وصاعره أماله عن الناس إعراضا وتكبرا» وفي الأساس: «في عنقه وخده صعر: ميل من الكبر، يقال: لأقيمنّ صعرك، ويقول: في عينه صور، وفي خده صعر، وهو أصعر، وصعّر خده وصاعره ولا تصاعر خدك وفلان متصاعر وقد تصاعر، قال حسان: ألسنا نذود المعلمين لدى الوغى ... ذيادا يسلّي نخوة المتصاعر والنعام صعر خلقة والإبل تصاعر في البرى وفي الحديث: «يأتي على الناس زمان ليس فيهم إلا أصعر أو أبتر» . وللصاد مع العين فاء وعينا للكلمة خاصة الصلف والاستعلاء يقال أمر صعب وخطة صعبة وعقبة صعبة وهي من العقاب الصعاب ووقع في خطط صعاب ولا يخفى ما في ذلك من الصلف والاستعلاء وأصعب الجمل لم يركب ولم يمسسه حبل فهو مصعب ومن مجاز هذه المادة: فلان مصعب من المصاعب كما تقول قرم من القروم ويقال صعد السطح وصعد الى السطح وصعد في السلم وفي السماء وتصعد وتصاعد وصعّد في الجبل وطال في الأرض تصويبي وتصعيدي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 540 وأصعد في الأرض ذهب مستقبل أرض أرفع من الأخرى وأصعدت السفينة مدّ شراعها فذهبت بها الريح وعليك بالصعيد أي اجلس على الأرض وصعيد الأرض وجهها وتنفّس الصعداء إذا علا نفسه وذهب السهم صعدا وكأن قامته صعدة وهي القناة النابتة مستقيمة، قال الأحنف: إن على كل رئيس حقّا ... أن يخضب الصّعدة أو تندقّا ومن المجاز: له شرف صاعد وجد مساعد، ورتبته بعيدة المصعد والمصاعد، وعنق صاعد: طويل، وجارية صعدة: مستقيمة القامة، وجوار صعدات بالسكون، وأخذ مائة فصاعدا بمعنى فزائدا، وأرهقته صعودا: حملته مشقّة. والصعافقة هم الذين يحضرون السوق بغير رأس مال فإذا اشترى أحد شيئا دخلوا معه فيه. وصعقتهم السماء وأصعقتهم: أصابتهم بصاعقة وهي نار لا تمر بشيء إلا أحرقته مع وقع شديد، والصعلكة معروفة وهي الفقر والذهاب في الأرض بعيدا، قال أبو داود: مثل عير الفلاة صعلكه البقل مشيح بأربع عسرات أربع أتن، وقال ذو الرمة: تخيل في المرعى لهنّ بشخصه ... مصعلك أعلى قلّة الرأس نقنق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 541 (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) : أي توسط فيه، قال الزمخشري: «واعدل فيه حتى يكون مشيا بين مشيين: لا تدب دبيب المتماوتين ولا تثب وثب الشطار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن» وأما قول عائشة في عمر رضي الله عنهما: «كان إذا مشي أسرع» فإنما أرادت السرعة المرتفعة على دبيب المتماوت» . (وَاغْضُضْ مِنْ طرفك) : وانقص منه واقصر، من قولك فلان يغض من فلان إذا قصر به ووضع منه، وفي الأساس: «واغضض من صوتك: اخفض منه، وغضّ طرفك، وطرف غضيض، وغضّ من لجام فرسك أي صوبه وطأ منه لتنقص من غربه، واغضض لي ساعة أي احبس علي مطيتك وقف عليّ، قال الجعدي: خليلي غضّا ساعة وتهجرا أي احبسا عليّ ركابكما ساعة ثم ارتحلا متهجّرين، وفلان غضيض: ذليل بين الغضاضة وعليك في هذا غضاضة فلا تفعل ولحقته من كذا غضاضة أي نقص وعيب» . الإعراب: (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) يا بني تقدم إعرابه كثيرا وهذا من تتمة وصية لقمان، وان واسمها وإن شرطية وتك فعل مضارع مجزوم لأنه فعل الشرط وعلامة جزمه السكون المقدر على النون المحذوفة للتخفيف واسم تك مستتر يعود الى الخطيئة وذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 542 أن ابن لقمان قال: يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يعلمها أحد كيف يعلمها الله؟ فقال يا بني انها إن تك مثقال حبة من جنس الخردل، ومثقال خبر تك وحبة مضاف اليه ومن خردل صفة لحبة أي فكانت مثلا لحبة الخردل في الصغر والقماءة. (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) فتكن عطف على تك واسم تكن مستتر تقديره هي أي الخطيئة والهنة وفي صخرة خبر تكن، أو في السموات أو في الأرض عطف على في صخرة أي في أخفى مكان من الثلاث المذكورات ويأت جواب الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة وبها متعلقان بيأت والله فاعل وإن واسمها وخبراها. (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أقم فعل أمر وفاعله مستتر وجوبا تقديره أنت والصلاة مفعول به وأمر بالمعروف عطف وكذلك وانه عن المنكر. (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) إن وخبرها المقدم واسمها المؤخر ومعنى عزم الأمور: من معزوماتها فهو مصدر بمعنى المفعول أو بمعنى الفاعل أي من عازمات الأمور أي مما جعله الله عزيمة وأوجبه على عباده. (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) الواو حرف عطف ولا ناهية وتصعر فعل مضارع مجزوم بلا وفاعله مستتر تقديره أنت وللناس متعلقان بتصعر ولا تمش عطف على ولا تصعر وفي الأرض متعلقان بتمش ومرحا مصدر وقع موقع الحال أو نعت لمصدر محذوف أي مشيا مرحا أو مفعول لأجله أي لا تمش لأجل المرح والأشر. وعبارة الزمخشري «أراد ولا تمش تمرح مرحا أو أوقع المصدر موقع الحال بمعنى مرحا ويجوز أن يراد لأجل المرح والأشر» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 543 (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) إن واسمها وجملة لا يحب خبرها وكل مفعول يحب وفخور عطف على مختال. (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) الواو عاطفة واقصد فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وفي مشيك متعلقان بأقصر واغضض من صوتك عطف على ما تقدم. (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) الجملة تعليل للأمر بخفض الصوت بصورة مؤكدة كما سيأتي في باب البلاغة وإن واسمها والأصوات مضاف اليه واللام المزحلقة للتأكيد وصوت الحمير خبر إن. البلاغة: في قوله: «إنها إن تك مثقال حبة من خردل» الآية فن التمام أو التتميم وقد تقدمت الاشارة الى الفن في مواطن من هذا الكتاب، والمعنى انه تمم خفاء الهنة أو الخطيئة في نفسها بخفاء مكانها من الصخرة والأخفى من الصخرة كأن تكون في صخرة مستقرة في أغوار الأرض السحيقة أو في الأعالي من أجواز الفضاء، ومنه في الشعر قول الخنساء: وإن صخرا لتأتمّ الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار فقولها «في رأسه نار» تتميم جميل لا بد منه لتجسيد الظهور والشهرة للسارين والغادين. وقول عنترة العبسي: أثني عليّ بما علمت فإنني ... سهل مخالقتي إذا لم أظلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 544 فقوله «لم أظلم» تتميم حسن. ومن التتميم الحسن قول امرئ القيس يصف الفرس: على هيكل يعطيك قبل سؤاله ... أفانين جري غير كزّ ولا واني فقوله «قبل سؤاله» تتميم عجيب لقوله «أفانين جري» وما أجمل قول زهير بن أبي سلمى في هذا الباب: من يلق يوما على علاته هرما ... يلق السماحة منه والندى خلقا والتتميم هنا في قوله «على علاته» وهو تتميم عجيب تضمن مبالغة أعجب. ويجري على هذا المنوال قول ابن محكان السعدي حين قدم الى القتل: ولست- وإن كانت إليّ حبيبة- بباك على الدنيا إذا ما تولت قال أبو العباس المبرد: فاستثنى: «وإن كانت إليّ حبيبة» استثناء مليحا، ونوى التقديم والتأخير فلذلك جاز له أن يأتي بالضمير مقدّما على مظهره. 2- التأكيد بأن وفنون أخرى: ومن بديع هذه الآية «إن أنكر الأصوات لصوت الحمير» فنون عديدة نشير إليها: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 545 أ- فقد أتى بالتمثيل مؤكدا بإن أولا وعزز هذا التأكيد باللام فصار الكلام خبرا إنكاريا كأن التمثيل أمر مبتوت فيه لا يتطرق اليه الشك، فقد تدخل إن في الجملة فترى الكلام بها مستأنفا غير مستأنف مقطوعا موصولا معا، واستخدامها على هذا الوجه يحتاج الى تدبر وروية معا، وقد خفي سر هذا الاستخدام حتى على أفراد العلماء روي عن الأصمعي أنه قال: كنت أسير مع أبي عمرو بن العلاء وخلف الأحمر وكانا يأتيان بشارا فيسلمان عليه بغاية الإعظام ثم يقولان يا أبا معاذ ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما ويسألانه ويكتبان عنه متواضعين له حتى يأتي وقت الزوال ثم ينصرفان، وأتياه يوما فقالا: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في سلم بن قتيبة؟ قال: هي التي بلغتكم. قالوا: بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب، قال: نعم بلغني أن سلم بن قتيبة يتباصر بالغريب فأحببت أن أرد عليه مالا يعرف، قالا: فأنشدناها يا أبا معاذ فأنشدهما: بكّرا يا صاحبيّ قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير حتى فرغ منها فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان «إن ذاك النجاح في التبكير» «بكّرا فالنجاح في التبكير» كان أحسن فقال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية فقلت: «إن ذاك النجاح في التبكير» كما يقول الأعراب البدويون ولو قلت: بكرا في النجاح كان هذا من كلام المولدين ولا يشبه ذاك الكلام ولا يدخل في معنى القصيدة، قال: فقام خلف فقبل بين عينيه. قال عبد القاهر في تعليقه على هذه القصة: «فهل كان هذا القول من خلف والنقد على بشار إلا للطف المعنى في ذلك وخفائه؟» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 546 ومضى عبد القاهر في تحليله لبيت بشار فقال: أما ان الجملة مستأنفة مع إنّ فلأنها غير معطوفة على ما قبلها بالواو وهي واقعة في جواب سؤال مقدر فكأن سائلا سأل: ولماذا يطلب الى صاحبيه أن يبكرا قبل الهجير فكان الجواب: إن ذلك النجاح في التبكير واما انها تصل جملتها بالجملة السابقة فالدليل عليه أنك لو أسقطت «إن» من الجملة لرأيت الجملة الثانية لا تتصل بالأولى ولا تكون منها بسبيل حتى تجيء بالفاء فتقول: بكرا صاحبي قبل الهجير فذاك النجاح في التبكير ولعل ذلك هو سر لطفها ودقتها وجزالة التعبير بها وهو سمة البناء الأعرابي الوحشي على عكس ما لو قال: بكرا فالنجاح في التبكير فهو بناء سهل واضح الترابط بالفاء وذلك سمة بناء الجمل عند المولّدين وإذا كانت الفاء تفيد الربط فانها لا تفيد التوكيد الذي تدل على «إن» وهذا البناء الجزل هو الذي جاء في القرآن الى درجة لا يدركها الإحصاء. ويروي عبد القاهر في دلائل الاعجاز حديث يعقوب بن اسحق الكندي المتفلسف إذ ركب الى أبي العباس وقال له: إني لأجد في كلام العرب حشوا فقال له أبو العباس: في أي موضع وجدت ذلك؟ فقال: أجد العرب يقولون: عبد الله قائم ثم يقولون: إن عبد الله قائم ثم يقولون: إن عبد الله لقائم فالألفاظ متكررة والمعنى واحد. كلام العرب حشوا فقال أبو العباس: في أي موضوع وجدت ذلك؟ فقال أبو العباس: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ فقولهم عبد الله قائم إخبار عن قيامه وقولهم إن عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل وقولهم: إن عبد الله لقائم جواب عن انكار منكر قيامه فقد تكررت الألفاظ لتكرر المعاني. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 547 وانما أطلنا في الاقتباس لدقة هذا البحث وخفائه وهو في الآية التي نحن بصددها واقع أجمل موقع وألطفه، موضح لتعليل الأمر بخفض الصوت مبني على تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير وتمثيل أصواتهم بالنهيق وافراط في التنفير عن رفع الصوت وقد أجاد الخطيب في تعليله لهذا التعليل وننقل فصله بطوله لروعته وابداعه قال: «فإن قيل: لم ذكر المانع من رفع الصوت ولم يذكر المانع من سرعة المشي؟ أجيب بأن رفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوته وربما يخرق الغشاء الذي في داخل الأذن وأما سرعة المشي فلا تؤذي وإن آذت فلا تؤذي غير من في طريقه والصوت يبلغ من على اليمين وعلى اليسار ولأن المشي يؤذي آلة المشي والصوت يؤذي آلة السمع وآلة السمع على باب القلب فإن الكلام ينقل من السمع الى القلب ولا كذلك المشي، وأيضا فلان قبيح القول أقبح من قبيح الفعل وحسنه أحسن لأن اللسان ترجمان القلب، ولما كان رفع الصوت فوق الحاجة منكرا كما أن خفضه دونها يعتبر تماوتا وتكبرا وكان قد أشار الى النهي عن هذا بمن فأفهم أن الطرفين مذمومان علّل النهي عن الأول بقوله إن أنكر أي أفظع وأشنع الأصوات برفعها فوق الحاجة لصوت الحمير أي هذا الجنس لما له من العلو المفرط من غير حاجة فإن كل حيوان قد يفهم من صوته أنه يصيح من ثقل أو تعب كالبعير أو لغير ذلك والحمار لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق بصوت أوله شهيق وآخره شهيق» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 548 ب- توحيد الصوت: وقال الزمخشري: «لم وحّد صوت الحمير ولم يجمع؟ قلت ليس المراد أن يذكر صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع وانما المراد أن كل جنس من الحيوان الناطق له صوت وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس فوجب توحيده» . الاستعارة التصريحية: وفي هذه الآية الاستعارة التصريحية حيث أخلي الكلام من لفظ التشبيه وأخرج مخرج الاستعارة فجعلوا حميرا وجعل صوتهم نهاقا مبالغة في الذم والتهجين وإفراط في النهي عن رفع الصوت والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة الموجعة وكذلك نهاقه. ومن استفحاشهم لذكره مجردا وتفاديهم من اسمه انهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به فيقولون الطويل الأذنين، وعن عبد الحميد الكاتب انه قال: لا تركب الحمار فإنه إن كان فارها أتعب يدك وإن كان بليدا أتعب رجلك. وقال أعرابي: بئس المطية الحمار إن وفقته أدلى وإن تركته ولى، كثير الروث، قليل الغوث، سريع الى الفرارة، بطيء في الغارة، لا توقى به الدماء، ولا تمهر به النساء، ولا يحلب في الإناء. ومن العرب من لا يركبه أبدا ولو بلغت به الحاجة والجهد. الصوت مصدر: وفي القرطبي: «لصوت الحمير اللام للتأكيد ووحد الصوت وإن كان مضافا الى الجماعة لأنه مصدر والمصدر بدل على الكثرة وهو مصدر صات يصوت صوتا فهو صائت ويقال صوّت تصويتا فهو مصوت ورجل صات أي شديد الصوت بمعنى صائت» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 549 [سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 24] أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) اللغة: (وَأَسْبَغَ) : وأتم، يقال: أسبغ الله عليه النعمة أتمها وأسبغ الثوب: أوسعه وأطاله وأسبغ الرجل لبس درعا سابغة وأسبغ له النفقة وسّع عليه وأنفق تمام ما يحتاج اليه، وفي المصباح: «وسبغت النعمة سبوغا اتسعت وأسبغها الله أفاضها وأتمها وأسبغت الوضوء أتممته» وقرئ بالسين وبالصاد، وهكذا كل سين اجتمع معه الغين والخاء والقاف تقول في سلخ صلخ وفي سقر صقر وفي سالغ صالغ ومعنى سالغ من سلغت البقرة والشاة إذا أسقطت السنّ التي خلقت السديس والسلوغ في ذوات الأظلاف بمنزلة البزول في ذوات الأحقاف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 550 (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) : جاء في القاموس ما يلي: «العروة من الدلو والكوز المقبض ومن الثوب أخت زره كالعري ويكسر ومن الفرج لحم ظاهره يعرض فيأخذ يمنة ويسرة مع أسفل البظر وفرج معرّى والجماعة من العضاة والحمض يرعى في الجدب والأسد والشجر الملتفّ تشتوفيه الإبل فتأكل منه أو مالا يسقط ورقه في الشتاء والنفيس من المال كالفرس الكريم وموالي البلد» وفي الأساس واللسان: «وتستعار العروة لما يوثق به ويعوّل عليه فيقال للمال النفيس والفرس الكريم: لفلان عروة، وللابل عروة من الكلأ وعلقة: لبقية تبقى منه بعد هيج النبات تتعلق بها لأنها عصمة لها تراغم إليها وقد أكل غيرها قال لبيد: خلع الملوك وسار تحت لوائه ... شجر العرا وعراعر الأقوام أي هم عصم للناس كالعضاه التي تعتصم بها الأموال، ويقال لقادة الجيش: العرا، والصحابة رضوان الله عليهم عرى الإسلام، وقول ذي الرّمة: كأن عرا المرجان منها تعلّقت ... على أمّ خشف من ظباء المشاقر أراد بالعرا: الأطواق ... والعروة من أسماء الأسد» . الإعراب: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف للرجوع الى ما سلف قبل قصة لقمان ووصيته من خطاب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 551 المشركين. والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والواو عاطفة على ما تقدم من خطابهم ولم حرف نفي وقلب وجزم وتروا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والرؤية قلبية وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تروا وأن واسمها وجملة سخر خبرها ولكم متعلقان بسخر وما مفعول به وفي السموات متعلقان بمحذوف هو صلة ما وما في الأرض عطف على ما في السموات. (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) وأسبغ عطف على سخر وعليكم متعلقان بأسبغ ونعمه مفعول به وظاهرة حال وباطنة عطف على ظاهرة وسيأتي معنى الظاهرة والباطنة في باب البلاغة. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) الواو استئنافية ومن الناس خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة يجادل صلة من إذا كانت موصولة أو صفة لها إذا كانت نكرة تامة بمعنى ناس وفي الله متعلقان بيجادل أي في توحيده وصفاته وبغير علم حال ولا هدى معطوفة ولا كتاب منير عطف على علم. (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة فيل في محل جر باضافة الظرف إليها ولهم متعلقان بقيل وجملة اتبعوا مقول القول وما مفعول به وجملة أنزل الله صلة وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وبل حرف إضراب وعطف ونتبع فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره نحن وما مفعول به وجملة وجدنا صلة وعليه متعلقان بوجدنا أو بمحذوف هو مفعول وجدنا الثاني وآباءنا هو مفعول وجدنا الاول أي وجدنا آباءنا عاكفين عليه. (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والواو فيها وجهان أحدهما أن تكون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 552 عاطفة على محذوف وثانيهما انها حالية، وعلى كل حال لا بد من تقدير محذوف معناه: أيتبعونه ولو كان الشيطان يدعوهم، ولو شرطية وجوابها محذوف أي يدعوهم فيتبعون ومحل الجملة النصب على الحال، وكان الشيطان كان واسمها وجملة يدعوهم خبرها والى عذاب السعير متعلقان بيدعوهم. (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويسلم فعل مضارع مجزوم لأنه فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره هو ووجهه مفعول به والى الله متعلقان بيسلم ويسلم يتعدى باللام ولكنه عدي هنا بإلى ليكون معناه أنه سلم نفسه كما يسلم المتاع الى الرجل إذا دفع اليه والمراد التوكل عليه والتفويض اليه، والواو واو الحال وهو مبتدأ ومحسن خبر، فقد الفاء رابطة للجواب وقد حرف تحقيق واستمسك فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وبالعروة جار ومجرور متعلقان باستمسك والوثقى صفة للعروة والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من. (وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) الى الله خبر مقدم وعاقبة الأمور مبتدأ مؤخر. (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) الواو حرف عطف والجملة معطوفة على سابقتها ولا ناهية ويحزنك فعل مضارع مجزوم بلا والجملة في محل جزم جواب الشرط. (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) إلينا خبر مقدم ومرجعهم مبتدأ مؤخر فننبئهم الفاء عاطفة وننبئهم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره نحن ومفعول به وبما متعلقان بننبئهم وجملة عملوا صلة ما وإن واسمها وعليم خبرها وبذات الصدور متعلقان بعليم. (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) جملة نمتعهم يجوز أن تكون حالية من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 553 فاعل نمتعهم وأن تكون مستأنفة وقليلا ظرف أو صفة لمصدر محذوف أي زمانا قليلا أو متاعا قليلا ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ونضطرهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به والى عذاب متعلقان بنضطرهم وغليظ صفة لعذاب. البلاغة: 1- الطباق: في قوله «وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة» طباق وقد مرّ بحثه والمراد بالنعم الظاهرة كل ما يعلم بالمشاهدة، والباطنة ما لا يعلم إلا بدليل، وجميل قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس وقد سأله عن هذه الآية: «الظاهرة الإسلام وما حسن من خلقك والباطنة ما ستر عليك من سيىء عملك» وقد أفاض المفسرون فيها مما يرجع اليه في المطولات. 2- الاستعارة التمثيلية: وذلك في قوله «فقد استمسك بالعروة الوثقى» فقد مثلت حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من جبل شاهق فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه وقيل هو تشبيه تمثيلي لذكر طرف التشبيه. 3- الاستعارة المكنية: وفي قوله «ثم نضطرهم الى عذاب غليظ» استعارة مكنية فقد شبه إلزامهم التعذيب وارهاقهم إياه باضطرار المضطر الى الشيء الذي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 554 لا يقدر على الانفكاك منه أي يثقل عليهم ثقل الأجرام الغلاظ والغلظ مستعار من الأجرام الغليظة والمراد الشدة والثقل على المعذّب. [سورة لقمان (31) : الآيات 25 الى 27] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) الإعراب: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) كلام مستأنف مسوق لبيان تناقضهم مع أنفسهم واعترافهم بما لا يسع المكابرين إنكاره من دلائل التوحيد الساطعة. واللام موطئة للقسم وإن شرطية وسألتهم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعل ومفعول به ومن اسم استفهام مبتدأ وجملة خلق السموات والأرض في محل رفع خبر والجملة الاسمية في محل نصب مفعول به ثان لسألتهم واللام واقعة في جواب القسم ويقولن فعل مضارع حذفت منه نون الرفع لتوالي الأمثال وواو الضمير لالتقاء الساكنين والله خبر لمبتدأ محذوف أي هو الله أو مبتدأ حذف خبره أي الله خالقها. (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الحمد مبتدأ ولله خبر والجملة مقول قول والأمر للالزام لهم على قرارهم بأن الذي خلق السموات والأرض هو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 555 الله وحده وأنه يجب أن يكون الحمد والشكر مصروفين له وبل حرف إضراب انتقالي للتنبيه بأنهم إذا ألزموا بذلك لم يلتزموا به ولم ينتبهوا، وأكثرهم مبتدأ وجملة لا يعلمون خبر. (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) لله خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي السموات والأرض صلة وإن حرف مشبه بالفعل ولفظ الجلالة اسمها وهو ضمير فصل والغني خبرها الأول والحميد خبرها الثاني. (وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) كلام مستأنف مسوق للتنبيه على أن معاني كلامه سبحانه لا تنفد، ولو حرف شرط غير جازم وسيأتي مزيد بحث عنها في باب الفوائد وأن وما بعدها فاعل لفعل محذوف أي لو ثبت وأن واسمها وفي الأرض صلة ما ومن شجرة في موضع الحال من ضمير الاستقرار أو من ما وأقلام خبر أن. (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) والبحر الواو حالية أو عاطفة والبحر مبتدأ خبره جملة يمده أو معطوف على موضع أن ومعمولها إذ هو مرفوع على الفاعلية كما تقدم وقرئ والبحر بالنصب عطف على اسم أن، وبمده فعل مضارع ومفعول به مقدم ومن بعده حال وسبعة أبحر فاعل يمده وجملة ما نفدت جواب لو فلا محل لها وإن واسمها وعزيز خبرها الاول وحكيم خبرها الثاني. الفوائد: 1- تكلمنا فيما سبق عن «لو» ووعدناك بأن ننقل لك الخلاف الذي شجر بين النحاة والمعربين حول هذه الآية التي طال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 556 حولها الجدل وسنقدم لك خلاصة لأقوالهم لتقف على ما يذهلك من براعة الاستنتاج ودقة المنطق. قال الشيخ شهاب الدين القرافي: «قاعدة «لو» أنها إذا دخلت على ثبوتين كانا منفيين وعلى نفيين كانا ثبوتين وعلى نفي وثبوت فالنفي ثبوت والثبوت نفي، تقول لو جاءني لأكرمته فهما ثبوتان فما جاءك ولا أكرمته، ولو لم يستدن لم يطالب فهما نفيان وقد استدان وطولب، ولو لم يؤمن أريق دمه التقدير انه آمن ولم يرق دمه وبالعكس لو آمن لم يقتل، وإذا تقررت هذه القاعدة فيلزم أن تكون كلمات الله قد نفدت وليس كذلك لأن «لو» دخلت على ثبوت أولا ونفي آخرا فيكون الأول نفيا وهو كذلك فإن الشجرة ليست أقلاما ويلزم أن يكون النفي الأخير ثبوتا فتكون نفدت وليس كذلك ونظير هذه الآية قوله عليه الصلاة والسلام: «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» إذ يقتضي انه خاف وعصى مع الخوف وهو أقبح فيكون ذلك ذنبا لكن الحديث سبق وعادة الفضلاء الولوع بالحديث كثيرا، أما الآية فقليل من يتفطن لها وقد ذكروا في الحديث وجوها وأما الآية فلم أر لأحد فيها شيئا ويمكن تخريجها على ما قالوه في الحديث غير أنه ظهر لي جواب عن الحديث والآية جميعا وسأذكره فيما بعد، وقال ابن عصفور: «لو» في الحديث بمعنى «إن» لمطلق الربط وان لا يكون نفيها ثبوتا ولا ثبوتها نفيا فيندفع الإشكال وقال الشيخ شمس الدين الخسروشاهي: إن «لو» في أصل اللغة لمطلق الربط وانما اشتهرت في العرف بانقلاب ثبوتها نفيا وبالعكس، والحديث انما ورد بمعنى اللفظ في اللغة، وقال الشيخ ابن عبد السلام: الشيء الواحد قد يكون له سبب واحد فينتفي عند انتفائه وقد يكون له الجزء: 7 ¦ الصفحة: 557 سببان لا يلزم من عدم أحدهما عدمه لأن السبب الثاني يخلف الأول كقولنا في زوج هو ابن عم لو لم يكن زوجا لورث أي بالتعصيب فانهما سببان لا يلزم من عدم أحدهما عدم الآخر وكذلك هاهنا إذ الناس في الغالب إنما لم يعصوا لأجل الخوف فإذا ذهب الخوف عصوا لاتحاد السبب في حقهم فأخبر صلى الله عليه وسلم أن صهيبا رضي الله عنه اجتمع له سببان يمنعانه من المعصية وهذا مدح جليل وكلام حسن، وأجاب غيرهم بأن الجواب محذوف تقديره لو لم يخف الله عصمه الله، ويدلّ على ذلك قوله: لم يعصه، وهذه الأجوبة تتأتى في الآية غير الثالث فإن عدم نفاد كلمات الله تعالى وانها غير متناهية أمر ثابت لها لذاتها وما بالذات لا يعلّل بالأسباب فتأمل ذلك. هذا كلام الفضلاء الذي اتصل بي. ويتابع القرافي: والذي ظهر لي أن «لو» أصلها أن تستعمل للربط بين شيئين نحو ما تقدم ثم أنها أيضا تستعمل لقطع الرابط فتكون جوابا لسؤال محقّق ومتوهم وقع فيه ربط فتقطعه أنت لاعتقادك بطلان ذلك الربط كما لو قال القائل لو لم يكن ذلك زوجا لم يرث فتقول أنت: لو لم يكن زوجا لم يحرم، تريد أن ما ذكرته من الربط بين عدم الزوجية وعدم الإرث ليس بحق فمقصودك قطع ربط كلامه لا ربط كلامه وتقول لو لم يكن زيدا عالما لأكرم أي لشجاعته جوابا لسؤال سائل يتوهمه أو سمعته يقول إنه إذا لم يكن عالما لم يكرم فيربط بين عدم العلم وعدم الإكرام فتقطع أنت ذلك الربط وليس مقصودك أن تربط بين عدم العلم والإكرام لأن ذلك غير مناسب ولا من أغراض العقلاء ولا يتجه كلامك إلا الى عدم الربط، فكذلك الحديث لما كان الغالب على الناس أن يرتبط عصيانهم بعدم خوف الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 558 تعالى وان ذلك في الأوهام قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الربط وقال لو لم يخف الله يعصه وكذلك لما كان الغالب أن الأشجار كلها إذا صارت أقلاما والبحر الملح مع غيره يكتب به الجميع والوهم يقول ما يكتب بهذا شيء إلا نفد وما عساه أن يكون قطع الله هذا الربط وقال ما نفدت إلخ ... وهذا الجواب أصلح من الاجوبة المتقدمة لوجهين أحدهما شموله لهذين الموضعين وبعضها لم يشمل كما تقدم وثانيهما أن لو بمعنى خلاف الظاهر وما ذكرته من الجواب ليس مخالفا لعرف أهل اللغة فانهم يستعملون ما ذكرته ولا يفهمون غيره في تلك الموارد ونعم هذا الجواب الواجب لذاته لصفات الله تعالى وكلماته والممكن القابل للتعليل كطاعة صهيب رضي الله عنه» انتهى كلام شهاب الدين. أما ابن هشام فبعد أن ذكر أن «لو» المستعملة على خمسة أوجه قال: «الثاني انها تفيد امتناع الشرط وامتناع الجواب جميعا وهذا هو القول الجاري على ألسنة المعربين ونص عليه جماعة من النحويين وهو باطل بمواضع كثيرة منها قوله تعالى: «ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا» «ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله» وقول عمر رضي الله عنه: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، وبيانه أن كل شيء امتنع ثبت نقيضه فاذا امتنع «ما قام» ثبت «قام» وبالعكس، وعلى هذا فيلزم على هذا القول في الآية الاولى ثبوت إيمانهم مع عدم نزول الملائكة وتكليم الموتى لهم وحشر كل شيء عليهم وفي الثانية نفاد الكلمات مع عدم كون كل ما في الأرض من شجرة أقلاما تكتب الكلمات وكون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 559 البحر الأعظم بمنزلة الدواة وكون السبعة الأبحر مملوءة مدادا وهي تمد ذلك البحر، ويلزم في الأثر ثبوت المعصية مع ثبوت الخوف وكل ذلك عكس المراد، والثالث أنها تفيد امتناع الشرط خاصة ولا دلالة لها على امتناع الجواب ولا على ثبوته ولكنه إن كان مساويا للشرط في العموم كما في قولك لو كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا، لزم انتفاؤه لأنه يلزم من انتفاء السبب المساوي انتفاء مسببه وإن كان أعم كما في قولك: لو كانت الشمس طالعة كان الضوء موجودا فلا يلزم انتفاؤه وانما يلزم انتفاء القدر المساوي منه للشرط وهذا قول المحققين» الى أن يقول: «ويتلخص على هذا أن يقال إن «لو» تدل على ثلاثة أمور: عقد السببية والمسببية وكونهما في الماضي وامتناع السبب ثم تارة يعقل بين الجزأين ارتباط مناسب وتارة لا يعقل فالنوع الاول على ثلاثة أقسام: ما يوجب فيه الشرع أو العقل انحصار مسببية الثاني في سببية الأول نحو قوله تعالى: «ولو شئنا لرفعناه بها» ونحو لو كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا، وهذا يلزم فيه من امتناع الأول امتناع الثاني قطعا. وما يوجب أحدهما فيه عدم الانحصار المذكور نحو: لو نام لانتقض وضوءه وهذا لا يلزم فيه من امتناع الأول امتناع الثاني كما قدمنا. وما يجوز فيه العقل ذلك نحو: لو جاءني زيد أكرمته فإن العقل يجوز انحصار سبب الإكرام في المجيء ويرجحه أن ذلك هو الظاهر من ترتيب الثاني على الأول وأنه المتبادر الى الذهن واستصحاب الأصل وهذا النوع يدل فيه العقل على انتفاء المسبب المادي لانتفاء السبب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 560 لا على الانتفاء مطلقا ويدل الاستعمال والعرف على الانتفاء المطلق، والنوع الثاني (وهو ما لا يعقل فيه بين الجزأين ارتباط مناسب) قسمان: أحدهما ما يراد فيه تقرير الجواب وجد الشرط أو فقد ولكنه مع فقده أولى وذلك كالأثر المروي عن عمر في صهيب رضي الله عنهما: «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» فإنه يدل على تقرير عدم العصيان على كل حال وعلى انتفاء المعصية مع ثبوت الخوف أولى وانما لم تدل «لو» على انتفاء الجواب لأمرين: أحدهما: أن دلالتها على ذلك انما هو من باب مفهوم المخالفة وفي هذا الأثر دل مفهوم الموافقة على عدم المعصية لأنه إذا انتفت المعصية عند عدم الخوف فعند الخوف أولى وإذا تعارض هذان المفهومان قدم مفهوم الموافقة. الثاني: انه لما فقدت المناسبة انتفت العلّية فلم يجعل عدم الخوف علة عدم المعصية فعلمنا أن عدم المعصية معلل بأمر آخر وهو الحياء والمهابة والإجلال والإعظام وذلك مستمر مع الخوف فيكون عدم المعصية عند عدم الخوف مستندا الى ذلك السبب وحده وعند الخوف مستندا اليه فقط أو اليه والى الخوف معا وعلى ذلك تتخرج آية «لقمان» السابقة لأن العقل يجزم بأن الكلمات إذا لم تنفد مع كثرة هذه الأمور فلأن لا تنفد مع قلتها وعدم بعضها أولى» . هذا ومن نسب الأثر بهذا اللفظ الى النبي صلى الله عليه وسلم فقد وهم وإنما الوارد ما رواه أبو نعيم في الحلية أن النبي قال في سالم مولى أبي حذيفة أنه شديد الحب لله تعالى لو كان لا يخاف الله ما عصاه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 561 2- لماذا وحد الشجرة؟: وقال الزمخشري: «فإن قلت لم قيل من شجرة على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر؟ قلت: أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا قد بريت أقلاما» . ووحد الشجرة لما تقرر في علم المعاني أن استغراق المفرد أشمل فكأنه قال كل شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجرة واحدة إلا وقد بريت أقلاما وجمع الأقلام لقصد التكثير أي لو أن يعد كل شجرة من الشجر أقلاما. [سورة لقمان (31) : الآيات 28 الى 32] ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 562 اللغة: (كَالظُّلَلِ) : الظلل: جمع ظلة بضم الظاء كل ما أظلك من جبل أو سحاب أو شجر أو غيرها. (خَتَّارٍ) : مبالغة من الختر وهو أشد الغدر ومنه قولهم: انك لا تمد لنا شبرا من الغدر إلا مددنا لك باعا من ختر، قال: وانك لو رأيت أبا عمير ... ملأت يديك من غدر وختر وقوله ملأت يديك من غدر وختر شبه المعقول بالمحسوس على سبيل الاستعارة المكنية وملء اليدين تخييل، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا عدّ بأصابع يده اليمنى: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وبأصابع اليسرى: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني واجبرني فقال رسول الله: ملأت يديك خيرا. الإعراب: (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) ما نافية وخلقكم مبتدأ ولا بعثكم عطف على خلقكم وإلا أداة حصر والكاف خبر خلق أو الجار والمجرور خبر خلق ولا بد من تقدير مضاف أي إلا كخلق نفس واحدة وما بعثكم إلا كبعث نفس واحدة، والكلام مستأنف مسوق للرد على المتشككين الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن الله خلقنا أطوارا نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم تقول إنا نبعث خلقا جديدا جميعا في ساعة واحدة، وان واسمها وسميع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 563 خبرها الأول وبصير خبرها الثاني. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) الهمزة للاستفهام الانكاري التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي تر وأن واسمها وجملة يولج الليل في النهار خبرها وجملة يولج النهار في الليل عطف عليها. (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) الواو عاطفة وسخر عطف على يولج وستأتي علة المخالفة في الصيغة في باب البلاغة والشمس مفعول سخر والقمر عطف على الشمس وكل مبتدأ وجملة يجري خبر والى أجل متعلقان بيجري، وسيأتي سر هذا الحرف في باب البلاغة، وان واسمها وبما تعملون متعلقان بخبير وخبير خبر إن. (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) ذلك مبتدأ وخبره بأن الله وأن اسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والحق خبر أن أو خبر هو والجملة خبر أن وأن عطف على بأن وأن واسمها وجملة يدعون صلة ما ومن دونه حال والباطل خبر أن. (وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) عطف على ما تقدم. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ) الهمزة للاستفهام الانكاري التقريري أيضا ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وأن وما بعدها في محل نصب مفعول تر وأن واسمها وجملة تجري في البحر خبرها وبنعمة الله حال أي مصحوبة بنعمته. (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) اللام للتعليل ويريكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام ومن آياته في محل نصب مفعول به ثان ليريكم وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبر إن المقدم واللام المزحلقة وآيات اسم إن ولكل صفة لآيات وصبار مضاف لكل وشكور صفة لصبار. (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 564 اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة غشيهم في محل جر باضافة الظرف اليه وغشيهم فعل ماض ومفعول به وموج فاعل وكالظلل صفة لموج وجملة دعوا الله لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومخلصين حال وله متعلقان بمخلصين والدين مفعول لمخلصين لأنه اسم فاعل. (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) الفاء عاطفة ولما حينية ظرفية أو رابطة ونجاهم فعل ماض ومفعول به وفاعل مستتر تقديره هو والى البر متعلقان بنجاهم والفاء تفريعية ومنهم خبر مقدم ومقتصد مبتدأ مؤخر أي متوسط في الكفر والظلم لأنه انزجر بعض الانزجار، وقيل المقتصد المتوسط بين السابق بالخيرات والظالم لنفسه وفي الكلام إيجاز سيأتي في باب البلاغة. (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) الواو استئنافية وما نافية ويجحد فعل مضارع مرفوع وبآياتنا متعلقان بيجحد وإلا أداة حصر وكل فاعل وختار مضاف اليه وكفور صفة لختار. البلاغة: المخالفة في الصيغة وفي حرفي الجر: في قوله «وسخر الشمس والقمر» مخالفة في الصيغة بين سخر المعطوف ويولج المعطوف عليه لأن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجدد كل حين فعبر عنه بالصيغة المتجددة حينا بعد حين وأما تسخير النيرين فهو أمر لا يتجدد ولا يتعدد بل هو ديمومة متصلة متتابعة فعبر عنه بالصيغة الماضية الكائنة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 565 وفي قوله: «إلى أجل غير مسمى» مخالفة بين حرف الجر «إلى» المستعمل هنا وحرف الجر «اللام» المستعمل في مكان آخر فليس هو من تعاقب الحرفين فالاول للانتهاء والثاني للاختصاص وكل واحد منهما واقع موقعه ملائم لصحة الغرض الذي هدف اليه، لأن قولك يجري الى أجل مسمى معناه يبلغه وينتهي إليه وقولك يجري لأجل مسمى معناه يجري لإدراك أجل مسمى، فما ينتهي هنا غاية ما ينتهي اليه الخلق فناسب ذكر «الى» ، وما في فاطر والزمر ليس من هذا الوادي فناسب ذكر اللام وهذا من الدقائق البديعة فتأمل. [سورة لقمان (31) : الآيات 33 الى 34] يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) الإعراب: (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) اتقوا ربكم فعل أمر وفاعل ومفعول به واخشوا عطف على اتقوا ويوما مفعول به وجملة لا يجزي والد عن ولده صفة ليوما. (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) ولا مولود عطف على والد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 566 وهو مبتدأ وجاز خبر وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين والجملة صفة ليوما وشيئا مفعول جاز أو يجزي فالمسألة من باب التنازع وإن وعد الله حق ان واسمها وخبرها. (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) الفاء الفصيحة ولا ناهية وتغرنكم فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم بلا الناهية والحياة فاعل تغرنكم والكاف مفعوله والدنيا صفة للحياة ولا يغرنكم بالله الغرور عطف على ما تقدم مماثل له في إعرابه والغرور بفتح الغين كل ما يسبب الانخداع والافتتان. (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) كلام مستأنف مسوق لتقرير تفرد الله بالاحاطة بالمغيبات، وسبب نزولها ان الحارث بن عمرو بن حارثة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني عن الساعة متى قيامها وإني قد ألقيت حياتي في الأرض وقد أبطأت عنا السماء فمتى تمطر؟ وأخبرني عن امرأتي فقد اشتملت ما في بطنها أذكر أم أنثى؟ وإني علمت ما علمت أمس فما أعمل غدا؟ وهذا مولدي قد عرفته فأين أموت؟. وان واسمها وعنده ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وعلم الساعة مبتدأ مؤخر والجملة خبر إن وينزل الغيث عطف على عنده علم الساعة فهو بمثابة خبر ثان ويعلم ما في الأرحام عطف أيضا. (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً) الواو حرف عطف وما نافية وتدري فعل مضارع ونفس فاعله وماذا اسم استفهام مركب في محل نصب مفعول مقدم لتكسب وجملة تكسب سادة مسد مفعولي تدري المعلقة بالاستفهام وغدا ظرف متعلق بتكسب ويجوز أن تكون ما مبتدأ وذا اسم موصول في محل رفع خبر، وقد تقدم القول في ماذا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 567 (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الواو حرف عطف وما نافية وتدري فعل مضارع مرفوع ونفس فاعل وبأي أرض متعلق بتموت وهو معلق للدراية فالجملة في محل نصب والباء ظرفية بمعنى في أي في أي أرض وان واسمها وخبرها. البلاغة: للضمائر شأن كبير في الفصاحة والبلاغة ولها تأثير في قوة الكلام وضعفه، أو توكيده وعدم توكيده، ومن ذلك قوله «ولا مولود هو جاز عن والده شيئا» فقد ورد الضمير بعد مولود ولم يرد بعد والد في قوله «لا يجزي والد عن ولده شيئا» وذلك لسر يتجاوز الاعراب، وقد أجاب الامام الزمخشري بجواب في غاية الدقة ولكنه أغفل أمرا هاما يرد عليه، وفيما يلي نص قوله: «فإن قلت: قوله ولا مولود هو جاز عن والده شيئا وارد على طريق من التوكيد لم يرد عليه ما هو معطوف عليه؟ قلت الأمر كذلك لأن الجملة الاسمية آكد من الفعلية وقد انضم الى ذلك قوله هو وقوله مولود والسبب في مجيئه على هذا السنن أن الخطاب للمؤمنين وعليتهم قبض آباؤهم على الكفر وعلى الدين الجاهلي فأريد حسم أطماعهم وأطماع الناس فيهم أن ينفعوا آباءهم في الآخرة وأن يشفعوا لهم وأن يغنوا عنهم من الله شيئا فلذلك جيء به على الطريق الآكد» وواضح من هذا التعليل الجميل أنه يتمشى على الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو أنه خاص بهم والصحيح أنه عام لهم ولكل من ينطبق عليهم اسم الناس فالأولى أن يقال في جواب السؤال ان الله تعالى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 568 لما أكد الوصية على الآباء وقرن شكرهم بوجوب شكره عز وجل وأوجب على الولد أن يكفي والده ما يسوءه بحسب نهاية إمكانه وغاية طوقه قطع هنا وهم الوالد في أن يكون الولد في القيامة مظنة لأنه يجزيه حقه عليه ويكفيه ما يلقاه من أهوال القيامة كما أوجب الله عليه في الدنيا ذلك في حقه، ولما كان إجزاء الولد عن الوالد ظنة الوقوع وموطن الأمل لأن الله حضه عليه في الدنيا كان جديرا بتأكيد النفي لإزالة هذا الوهم وهذا غير وارد في حق الولد على الوالد وهذا من الحسن بمكان فتأمله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 569 (32) سورة السجدة مكيّة وآياتها ثلاثون [سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) الإعراب: (الم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ألم خبر لمبتدأ محذوف وقد تقدم القول مفصلا في ذلك وتنزيل الكتاب مبتدأ ولا نافية للجنس وريب اسمها وفيه خبرها والجملة حال من الكتاب ومن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 570 رب العالمين خبر تنزيل وهناك أعاريب أخرى ضربنا صفحا عنها وقد تقدم في أول البقرة ما يشبه هذا. (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أم هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل الاضرابية وهمزة الاستفهام الانكارية ويقولون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وجملة افتراه مقول القول وافتراه فعل ومفعول به والفاعل مستتر تقدير هو يعود على محمد وبل إضراب ثان يفيد ابطال قولهم وهو مبتدأ ولحق خبر ومن ربك حال. (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) اللام للتعليل وتنذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوان بعد لام التعليل وفاعل تنذر مستتر تقديره أنت وقوما مفعول به أول والمفعول الثاني محذوف إذ التقدير لتنذر قوما العقاب، وما نافية وآتاهم فعل ومفعول به ومن حرف جر زائد والجملة صفة لقوما ومن قبلك صفة لنذير ويجوز أن يتعلق بآتاهم وجملة ما آتاهم المنفية في محل نصب صفة لقوما ويجوز العكس، ومفعول تنذر الثاني محذوف أي لتنذر قوما العقاب، وجوز بعضهم أن تكون ما موصولة والتقدير لتنذر قوما العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك، ومن نذير متعلقان بأتاهم أي أتاهم على لسان نذير من قبلك وبواسطته فما مفعول به ثان وانذر يتعدى الى اثنين قال تعالى: «فقل أنذرتكم صاعقة» ولعل واسمها وجملة يهتدون خبرها وجملة الترجي حال من فاعل لتنذر أي لتنذرهم راجيا لاهتدائهم. (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) الله مبتدأ والذي خبره وجملة خلق السموات والأرض صلة وما عطف على السموات وبينهما ظرف متعلق بمحذوف صلة لما وفي ستة أيام متعلقان بخلق. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 571 وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) ثم حرف عطف وتراخ واستوى فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله وعلى العرش متعلقان باستوى وما نافية ولكم خبر مقدم ومن دونه حال لأنه كان في الأصل صفة لولي ومن حرف جر زائد وولي مجرور لفظا مرفوع محلّا على أنه مبتدأ مؤخر ولا شفيع عطف على ولي، ويجوز أن تكون ما حجازية على رأي بعض النحاة، والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على مقدر يقتضيه السياق ولا نافية وتتذكرون فعل مضارع مرفوع والواو فاعله. (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) الجملة حالية والأمر مفعول يدبر ومن السماء متعلقان بيدبر والى الأرض متعلقان بيدبر أيضا ومن ابتدائية والى انتهائية، ثم حرف عطف وتراخ ويعرج فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو أي الأمر أي يرجع اليه واليه متعلقان بيعرج وفي يوم حال من فاعل يعرج أي كائنا في يوم وجملة كان واسمها وخبرها صفة ليوم وسيأتي مزيد بيان لمعنى هذا الزمان في باب البلاغة، ومما صفة لألف سنة وجملة تعدون صلة. البلاغة: قال النحاس: اليوم في اللغة بمعنى الوقت، فاندفع الإشكال الذي أورده بعضهم مع قوله تعالى في سورة سأل «خمسين ألف سنة» فالعرب تعبر عن مدة العصر باليوم، ويوم القيامة فيه أيام متباينة الأوقات فمنها ما هو مقداره ألف سنة ومنها ما مقداره خمسون ألف سنة فالمراد من ذكر الألف والخمسين التنبيه على طوله والتخويف منه لا العدد بخصوصه ومن شواهد التعبير باليوم عن المدة قول الشاعر: يومان: يوم مقامات وأندية ... ويوم سير الى الأعداء تأويب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 572 [سورة السجده (32) : الآيات 6 الى 11] ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) الإعراب: (ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ذلك مبتدأ والاشارة إلى الله الخالق المدبر وعالم الغيب والشهادة خبر أول والعزيز خبر ثان والرحيم خبر ثالث. (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) يجوز في اسم الموصول أن يكون خبرا رابعا أو نعتا أو خبرا لمبتدأ مضمر وأن يكون منصوبا على المدح وجملة أحسن صلة وكل شيء مفعول به وخلقه فعل ماض ومفعول به والفاعل ضمير مستتر تقديره يعود على الله وجملة خلقه صفة لشيء في محل جر أو صفة لكل فهي في محل نصب وقرئ خلقه بسكون اللام فيكون بدل اشتمال من كل شيء والضمير عائد على كل شيء. (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) وبدأ عطف على أحسن وخلق الإنسان مفعول به ومن طين متعلقان بخلق والمراد بالإنسان آدم. (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) ثم حرف عطف للترتيب مع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 573 التراخي وجعل نسله فعل وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول به ومن سلالة متعلقان بجعل أو في محل نصب على أنه مفعول ثان، وسميت الذرية نسلا لأنها تنسل منه كما سميت النطفة سلالة لأنها تسل منه، وفي الصحاح: النجل: النسل ونجله أبوه أي ولده فالولد سليل ونجل، ومن ماء صفة لسلالة ومهين صفة لماء وهي النطفة الضعيفة. (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) ثم حرف ترتيب وتراخ وسواه فعل وفاعل مستتر ومفعول به والمراد بالتسوية تقويمه في أحسن تقويم ونفخ عطف على سواه وفيه متعلقان بنفخ ومن روحه متعلقان بنفخ أيضا وجعل عطف ولكم متعلقان بجعل والسمع مفعول به والأبصار والأفئدة معطوفان على السمع وقليلا مفعول مطلق وما زائدة مؤكدة للقلة وتشكرون فعل مضارع مرفوع، ويجوز أن يعرب قليلا ظرف زمان فعلى الأول يكون التقدير شكرا قليلا وعلى الثاني زمانا قليلا. (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) كلام مستأنف مسوق لبيان ضروب من أباطيلهم وسيأتي سر الالتفات في باب البلاغة والهمزة للاستفهام الانكاري وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بمحذوف تقديره نبعث وهو جواب إذا أو نخرج بدلالة خلق جديد عليه وجملة ضللنا في محل جر بإضافة الظرف إليها، وفي الأرض متعلقان بضللنا والهمزة للاستفهام الانكاري أيضا وان واسمها واللام المزحلقة وفي خلق خبرها وجديد صفة لخلق. (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) إضراب انتقالي من بيان كفرهم بالبعث إلى ما هو أطم وأدل على سوء ما هم مترددون فيه، وهم مبتدأ وبلقاء ربهم متعلقان بكافرون وكافرون خبر هم. (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) يتوفاكم فعل مضارع والكاف مفعول به الجزء: 7 ¦ الصفحة: 574 مقدم وملك الموت فاعل والذي نعت لملك الموت وجملة وكل بكم صلة، ثم حرف عطف وتراخ والى ربكم متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. الفوائد: التفعل والاستفعال: قال الزمخشري: «والتوفي استيفاء النفس وهي الروح قال الله تعالى: «الله يتوفي الأنفس» ومعلوم أن التفعل والاستفعال يلتقيان في مثل تقضيته واستقضيته وتعجلته واستعجلته» وللتفعل معان أخرى ندرجها فيما يلي: 1- مطاوعة الرباعي المضعف نحو نبّهته فتنبّه وجمعته فتجمّع. 2- التكلف نحو تصبّر وتكرّم أي تكلّف الصبر والكرم. 3- الاتخاذ نحو توسّد ذراعه أي اتخذه وسادة وتورّك البعير أي اتخذ وركه مطية. 4- التجنّب نحو تأثّم أي تجنب الإثم وتهجّد أي تجنب الهجود وهو النوم. 5- التدريج نحو تحفّظت الدرس أي حفظته قسما بعد قسم وتجرعت الدواء أي أخذته جرعة بعد جرعة. وأشهر معاني الاستفعال ما يأتي: 1- الطلب نحو استقدمت فلانا أي طلبت قدومه واستخرجت حل المسألة أي حصلت عليه بعد طلب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 575 2- الصيرورة نحو استحجر أي صار حجرا واستنوق الجمل أي صار كالناقة واسترجلت المرأة أي صارت كالرجل. 3- النسبة نحو استصوبت رأيه أي نسبت اليه الصواب واستقبحت فعله أي نسبت اليه القبح. 4- اختصار اللفظ نحو استرجع القوم أي قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. 5- القوة نحو استهتر أي اشتد هتاره واستكبر أي قوي كبره. وقد تأتي هذه الصيغة بمعنى أفعل نحو استجاب وأجاب وقد تكون مطاوعا له نحو أحكمت البناء فاستحكم وأقمت اعوجاجة فاستقام. [سورة السجده (32) : الآيات 12 الى 17] وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 576 اللغة: (تَتَجافى) : تجافى: تنحى ولم يلزم مكانه يقال تجافى السرج عن ظهر الفرس وتجافى جنبه عن الفراش وقال في الأساس: «جفاني فلان: فعل بي ما ساءني واستجفيته، والأدب صناعة مجفوّ أهلها، وجفت المرأة ولدها فلم تتعاهده، وثوب جاف: غليظ وقد جفا ثوبه، وهو من جفاة العرب، وجفا السرج عن ظهر الفرس، وجنب النائم عن الفراش وتجافى «تتجافى جنوبهم عن المضاجع» وأجفاه صاحبه وجافاه، قال: وتشتكي لو أننا نشكيها ... غمز حوايا قلّما نجفيها ومن المجاز: أصابته جفوة الزمان وجفاوته. وللجيم مع الفاء خاصة الانكماش والجفاف يقال جف يجف من باب تعب جفافا وجفوفا: يبس ونشف والانكماش واضح في هذا المعنى، واجتف مافي الإناء: أتى عليه، وجفأ يجفأ من باب فتح النهر رمى بالزبد والقذى وجفجف الإبل: ساقها بشدة حتى ركب بعضها بعضا أي انكمش بعضها على بعض، وجفخ تكبر والمتكبر منكمش عن الناس ترفعا وتيها منه، وجفل القوم وأجفلوا هربوا مسرعين ووقعت في الناس جفلة إذا خافوا فانجفلوا وليس مثل الخائف في الانكماش والاسراع، وجفن الناقة: نحرها وأطعم لحمها في الجفان وجفن نفسه كفها عن الخبائث وتجفّن الكرم صار له أصل والجفنة بفتح الجيم القصعة الكبيرة والخمرة والبئر الصغيرة فما تطلقه العامة على جفنة الكرم له أصل صحيح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 577 الإعراب: (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) كلام مستأنف مسوق لاستحضار صورة المجرمين عامة يوم القيامة والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح له ولتجسيد الفظاعة التي حلت بهم. ولو شرطية وترى فعل مضارع فاعله مستتر تقديره أنت وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بتري وانما جاز ذلك لترقب وقوعه وتحققه نحو أتى أمر الله، وجعله أبو البقاء مما وقعت فيه إذ موقع إذا، والمجرمون مبتدأ وناكسو رءوسهم خبر وسيأتي سر التعبير بالجملة الاسمية في باب البلاغة وعند ربهم ظرف متعلق بمحذوف حال ومفعول ترى محذوف لأن الرؤية بصرية أي لو ترى المجرمين، وقد أغنى عن ذكره المبتدأ، وجواب لو محذوف أي لرأيت أمرا فظيعا لا يمكن وصفه، وأجاز الزمخشري أن تكون لو للتمني والمضي فيها وفي إذ لأن الثابت في علم الله بمثابة الواقع، وناكسو رءوسهم اسم فاعل مضاف الى مفعوله. (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) الكلام مقول قول محذوف في موضع الحال أي قائلين وربنا منادى مضاف حذف منه حرف النداء وأبصرنا فعل وفاعل والمفعول محذوف أي أبصرنا صدق وعدك ووعيدك وسمعنا منك تصديق رسلك، وسمعنا عطف على أبصرنا ويجوز عدم تقدير مفعول أي صرنا ممن ببصر ويسمع وكنا من قبل صما وعميانا وهو جميل، فأرجعنا الفاء الفصيحة وارجعنا فعل أمر المقصود منه الدعاء ومفعول به ونعمل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب وصالحا مفعول به أو مفعول مطلق وان واسمها وخبرها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 578 (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) الواو عاطفة ولو شرطية وشئنا فعل وفاعل ولآتينا اللام واقعة في جواب لو وآتينا فعل وفاعل وكل نفس مفعول آتينا الاول وهداها مفعول آتينا الثاني. (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) الواو حالية ولكن مخففة مهملة فهي لمجرد الاستدراك وحق القول فعل وفاعل ومني حال ولأملأنّ اللام موطئة للقسم وأملأن فعل مضارع مبني على الفتح والفاعل مستتر تقديره أنا وجهنم مفعول به ومن الجنة متعلقان بأملأن والناس عطف على الجنة وقدم الجن لأن المقام مقام تحقير لهم وأجمعين تأكيد وسيأتي القول في معنى أجمعين هنا في باب الفوائد. (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) الفاء الفصيحة أي إن نسيتم هذا كله فذوقوا، وذوقوا فعل أمر وفاعله وبما الباء حرف جر للسببية وما مصدرية والمصدر الاول مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بذوقوا ومفعول ذوقوا محذوف تقديره العذاب ولقاء يومكم مفعول نسيتم وهذا صفة ليومكم أي المشار اليه. (إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) كلام مستأنف لزيادة إيلامهم ومقابلة نسيانهم اللقاء بنسيان أمضى وأنكى، وان واسمها وجملة نسيناكم خبرها وذوقوا فعل أمر والواو فاعل والجملة مقول قول محذوف أي ونقول ذوقوا وعذاب الخلد مفعول ذوقوا، وكرر الذوق مع مفعوله للتأكيد وتبيين المفعول المطوي للذوق، وبما جار ومجرور متعلقان بذوقوا وقدمر قريبا وكنتم كان واسمها وجملة تعملون خبرها. (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً) كلام مستأنف مسوق لبيان الذين إذا قرئ عليهم القرآن خروا سجدا وإنما كافة ومكفوفة ويؤمن فعل مضارع مرفوع وبآياتنا متعلقان به الجزء: 7 ¦ الصفحة: 579 والذين فاعل وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ذكروا في محل جر بإضافة الظرف إليها والواو نائب فاعل وبها متعلقان بذكروا وجملة خروا جواب إذا وسجدا حال من فاعل خروا. (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) وسبحوا عطف على خروا وبحمد ربهم حال والواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يستكبرون خبر والجملة في محل نصب على الحال. (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) الجملة مستأنفة أو حالية أيضا وجنوبهم فاعل وعن المضاجع متعلقان بتتجافى. (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) جملة يدعون إما مستأنفة وإما حالية أيضا ويدعون ربهم فعل مضارع وفاعل ومفعول به وخوفا وطمعا إما مفعول من أجله وإما حالان وإما مصدران لفعل محذوف ومما متعلقان بينفقون وجملة رزقناهم صلة ما. (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) يجوز أن تكون الفاء عاطفة أي تتجافى جنوبهم ويدعون ربهم فلا، ويجوز أن تكون فصيحة أي إن حلول أحد أن يعلم مصيرهم وما أعد الله لهم من قرة أعين فلا يعلم. ولا نافية وتعلم نفس فعل مضارع وفاعل وما اسم موصول مفعول تعلم أي لا تعلم الذي أخفاه الله ويجوز أن تكون استفهامية في محل رفع مبتدأ وأخفي لهم خبره وعلى قراءة أخفي بسكون الياء تكون ما مفعول أخفي لأنه فعل مضارع وفاعله أنا وتكون ما الاستفهامية معلقة لمتعلم ولهم متعلقان بأخفي ومن قرة أعين حال من ما وجزاء مفعول مطلق لفعل محذوف أي جوزوا جزاء أو مفعول لأجله أي أخفي لهم لأجل جزائهم وبما متعلقان بجزاء وكان واسمها وجملة يعملون خبرها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 580 البلاغة: العدول عن الفعلية الى الاسمية: في قوله «ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم» عدول عن الجملة الفعلية الى الجملة الاسمية لتقرير ثباتهم على نكس رءوسهم خجلا وحياء وخزيا عند ما تبدو مثالبهم وهناتهم بصورة دميمة شوهاء تبعث على الهزء بهم والسخرية منهم كأنما استمر ذلك منهم، لا يرتفع لهم رأس، ولا يمتد منهم طرف. وكذلك عدل عن الفعلية الى الاسمية المؤكدة في قوله «إنا موقنون» أي انهم ثابتون على الإيقان راغبون فيه بعد أن ظهرت لهم المغاب منادية عليهم بالويل والثبور. الفوائد: التوكيد بأجمعين: يجوز إذا أريد تقوية التوكيد أن يتبع كله بأجمع وكلها بجمعاء وكلهم بأجمعين وكلهن بجمع فتقول جاء الجنس كله أجمع والقبيلة كلها جمعاء والقوم كلهم أجمعون والنساء كلهن جمع، وقد يؤكد بهن وإن لم يتقدم كل نحو الآية المتقدمة وقوله «لأغوينهم أجمعين» . [سورة السجده (32) : الآيات 18 الى 22] أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 581 الإعراب: (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق ومن مبتدأ وجملة كان صلة واسمها مستتر تقديره هو ومؤمنا خبرها وكمن خبر من وجملة كان صلة من الثانية وفاسقا خبر كان وجملة لا يستوون مستأنفة لا موضع لها من الاعراب ويستوون فعل مضارع مرفوع وفاعل ومتعلقه محذوف أي في المآل، وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعمّد الوقف على قوله فاسقا ثم يبتدىء بقوله لا يستوون. قال الزجاج: جعل الاثنين جماعة حيث قال: لا يستوون، لأجل معنى من، وقيل لكون الاثنين أقل الجمع. (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أما حرف شرط وتفصيل والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وجملة عملوا الصالحات معطوفة على الصلة داخلة في حيزها فلهم الفاء رابطة ولهم خبر مقدم وجنات المأوى مبتدأ مؤخر، والمأوى المكان تلجأ إليه ويقال المأواة والمأوي، ونزلا حال من جنات المأوى أي حالة كونها مهيأة ومعدة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 582 لهم، والنزل بضمتين عطاء النازل ثم صار عاما فاستعماله بمعنى الفندق لا غبار عليه بل لعله أولى بالنسبة للفنادق الرفيعة لأن الفندق كقنفذ هو الخان كما في القاموس ويقال فيه الفنتق، قال ابن عباد هو خان السبيل لغة في الفندق وأنكره الخفاجي في شفاء الغليل قال شارح القاموس: «وهو- أي كلام الخفاجي- غير متجه فقد قال الفراء سمعت أعرابيا من قضاعة يقول فتق للفندق وهو الخان» ، وبما صفة لنزلا وما مصدرية أو موصولية وكان واسمها وجملة يعملون خبرها. (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ) الواو عاطفة وأما شرطية تفصيلية كما تقدم والغالب تكريرها وسيرد في باب الفوائد إلماع إليها والذين مبتدأ وفسقوا صلة والفاء رابطة ومأواهم النار ابتداء وخبر والجملة خبر الذين. (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) كلما ظرف زمان متضمن معنى الشرط وقد تقدم القول في كلما كثيرا وأرادوا فعل وفاعل والجملة مستأنفة لبيان كيفية مأواهم فيها وأن وما في حيزها مفعول أرادوا ومنها متعلقان بيخرجوا وجملة أعيدوا لا محل لها وفيها متعلقان بأعيدوا وقيل عطف على أعيدوا والواو نائب فاعل ولهم متعلقان بقيل وجملة ذوقوا عذاب النار مقول القول والذي صفة للعذاب وجملة كنتم صلة وبه متعلقان بتكذبون وجملة تكذبون خبر كنتم. (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم ونذيقنهم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به ومن العذاب جار ومجرور متعلقان بنذيقنهم والأدنى صفة للعذاب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 583 والمراد بالأدنى عذاب الدنيا وما يستهدفون له من محن ونكبات، ودون ظرف زمان بمعنى قبل متعلق بمحذوف حال والعذاب مضاف إليه والأكبر نعت والمراد بالأكبر عذاب الآخرة ولعل واسمها وخبرها وجملة الترجي حالية والمراد بها ترجي المخاطبين كما قال سيبويه في تفسيرها. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان حال من قابل النعمة بالإعراض والإشاحة عنها ومن اسم استفهام معناه النفي مبتدأ وأظلم خبر وممن متعلقان بأظلم وجملة ذكر صلة لمن وبآيات ربه متعلقان بذكر وثم حرف عطف وتراخ وأعرض عطف على ذكر وعنها متعلقان بأعرض وسيأتي معنى التراخي في باب البلاغة وإنا ان واسمها ومن المجرمين متعلقان بمنتقمون ومنتقمون خبر إن. البلاغة: 1- ذكرنا فيما سبق أن لحروف العطف أسرارا لا يدركها إلا المبين، فلا يصح وضع بعضها موضع بعض للفوارق بينها، وكلمة «ثم» خاصة بالاستبعاد والتطاول في المدة وقد ناسب ذكرها في قوله «ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها» لأن الإعراض عن الآيات مع غاية وضوحها وإشراقها مستبعد في حكم البداءة الثابتة وموازين العقول الراجحة. وقد رمق الشعراء سماء هذه البلاغة فقال جعفر بن علبة الحارثي فيما يرويه ديوان الحماسة: ولا يكشف الغمّاء إلا ابن حرّة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 584 نقاسمهم أسيافنا شر قسمة ... ففينا غواشيها وفيهم صدورها فقد شبه الداهية الغماء بأمر محسوس يغشي الناس ويغطيهم على طريق الاستعارة المكنية، وقال ابن حرة ليكون حفزا للسامع وتهييجا له على خوض الهيجاء وغمرات الموت شدائده وأهواله، والشاهد في قوله ثم يزورها استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها لأن بين رؤية الأهوال المفزعة وبين الانحدار إليها برغبة تشبه الرغبة في لقاء المحبوب بونا بعيدا في العادة والعقل، وشبه السيوف ممتدة متوسطة بينهم بشيء تجري فيه المقاسمة على طريق الاستعارة المكنية ثم فرع على تلك المقاسمة أن لهم غواشيها أي ما يغشاهم منها وهي مقابضها أو لأنها زائدة على النصل فهي غاشية له ولأعدائه صدورها أي أطرافها المتقدمة منها وصدر كل شيء مقدمه، وعبر بفي دون اللام لأن «في» تفيد مجرد اشتمال الأعداء على الصدور لدخولها في أجسامهم واللام تفيد التملك وليس مرادا وإن كان مقتضى القسمة فلعله دفع توهمه بالعدول الى «في» وذكرها أولا تمهيدا للثانية. 2- في قوله «وأما الذين فسقوا فمأواهم النار» الآية، فن من فنون البديع لم يذكره أحد من الذين كتبوا في فنون البديع ما عدا ابن أبي الإصبع وهو الشماتة، وهو ذكر ما أصاب عدوك من آفات ومحن جزاء ما اقترفت يداه مع المبالغة في تصوير غمائه وما يتخبط به من أهوال وإظهار اغتباطك بما أصابه شماتة به وتشفيا منه، وفي هذه الآية من ضروب التشفي والشماتة ما لا يخفى، وهو شائع في القرآن وفي الشعر ومنه قصيدة «فتح الفتوح» لأبي تمام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 585 الفوائد: عود على أمّا: (أَمَّا) بفتح الهمزة وتشديد الميم حرف شرط وتوكيد وتفصيل غالبا ويدل على معنى الشرط مجيء الفاء بعدها غالبا، ويدل على معنى التفصيل استقراء مواقعها وعطف مثلها عليها، ولا بد لها من فاء تالية لتاليها إلا ان دخلت الفاء على قول قد طرح استغناء عنه بالمقول فيجب حذفها منه. [سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 30] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 586 اللغة: (الْجُرُزِ) : يقال: جرزه الزمان: اجتاحه، قال تبع: لا تسقني بيديك إن لم ألقها ... جرزا كأن أشاءها مجروز وأرض مجروزة وقد جرزت: قطع نباتها وأرض جرز وأرضون أجراز وسنون أجراز: جدبة ومفازة مجراز. قال الراعي: وغبراء مجراز يبيت دليلها ... مشيحا عليها للفراقد راعيا وسيف جراز و «لن ترضى شانئة إلا بجرزة» مثل في العداوة وأن المبغض لا يرضى إلا باستئصال من يبغضه وضربه بالجرز وخرجوا بأيديهم الجرزة وجاء بجرزة من قت وبجرز منه وهي الحزمة والعامة تستعمل هذه الكلمة كثيرا ولا غبار عليها كما ترى، ومن المجاز رجل جروز: أكول لا يدع على المائدة شيئا، وامرأة جارز: عاقر. وفي المختار: «أرض جرز وجرز كعسر لا نبات بها» أي قطع وأزيل بالمرة وقيل هو اسم موضع باليمن، وفي المصباح: «الجرزة: القبضة من القت ونحوه أو الحزمة والجمع جرز كغرفة وغرف وأرض جرز بضمتين قد انقطع الماء عنها فهي يابسة لا نبات فيها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 587 الإعراب: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) كلام مستأنف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم وانما اختار موسى لأن اليهود والنصارى كانوا مؤمنين به فتمسك بالمجمع عليه ليكون ألزم لإيقاع الحجة عليهم. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل وموسى مفعول به أول لآتينا والكتاب مفعول به ثان والفاء الفصيحة ولا ناهية وتكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلا واسمها ضمير مستتر تقديره أنت وفي مرية خبرها أي شك ومن لقائه صفة لمرية والضمير في لقائه يعود على موسى فيكون المصدر وهو لقاء مضافا الى مفعوله أو على الكتاب وحينئذ تكون الاضافة للفاعل أي من لقاء الكتاب لموسى، وهناك أقوال كثيرة في عودة الضمير ضربنا عنها صفحا لتهافتها. (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به والضمير يعود على موسى والكتاب أيضا وهدى مفعول به ثان ولبني إسرائيل متعلقان بهدى أو صفة له. (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) وجعلنا عطف على جعلنا الأول ومنهم مفعول جعلنا الثاني وأئمة مفعول جعلنا الأول وجملة يهدون صفة لأئمة وبأمرنا حال ولما ظرف بمعنى حين متعلق بجعلنا أي جعلناهم أئمة حين صبروا وجواب لما محذوف دل عليه ما قبله والتقدير ولما صبروا جعلنا منهم أئمة وكانوا عطف على صبروا وبآياتنا متعلقان بيوقنون ويوقنون خبر كانوا (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) إن واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ وجملة يفصل خبر إن أو خبر هو والجملة خبر إن وبينهم ظرف متعلق بيفصل ويوم القيامة متعلق بمحذوف حال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 588 وفيما متعلقان بيفصل وجملة كانوا صلة وفيه متعلقان بيختلفون وجملة يختلفون خبر كانوا. (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو للعطف على مقدر يقتضيه السياق أي أغفلوا ولم يهد لهم أي يتبين، ولم حرف نفي وقلب وجزم ويهد فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاعل ما دل عليه «لم يهد» لأن كم لا تقع فاعلة والتقدير أولم يهد لهم كثرة إهلاكنا القرون، ولك أن تقدره بهذا الكلام، وكم خبرية في محل نصب مفعول به مقدم لأهلكنا ومن قبلهم حال من القرون ومن القرون حال أيضا من كم وجملة يمشون إما أن تكون استئنافية مسوقة لبيان وجه هدايتهم وإما أن تكون حالا من الضمير في لهم والتقدير يمشون أي يمرون في أسفارهم للتجارة على ديارهم وبلادهم ويشاهدون آثار هلاكهم وفي مساكنهم متعلقان بيمشون. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسم إن المؤخر والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على مقدر يقتضيه أسلوب الحديث أي أصموا فلا يسمعون ولا نافية ويسمعون فعل مضارع مرفوع. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على مقدر أيضا ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل وأن وما في حيزها سدت مسد مفعول يروا وان واسمها وجملة نسوق خبرها والماء مفعول به والى الأرض متعلقان بنسوق والجرز نعت للأرض. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 589 (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) فنخرج عطف على نسوق وفاعل نخرج ضمير مستتر تقديره نحن وبه متعلقان بنخرج وزرعا مفعول به وجملة تأكل صفة لزرعا ومنه متعلقان بتأكل وأنعامهم فاعل تأكل وأنفسهم عطف على أنعامهم والهمزة للاستفهام الانكاري، فلا يبصرون تقدم إعراب نظيره. (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) كلام مستأنف مسوق للرد على استهزائهم فقد كانوا يسخرون من المسلمين الذين يقولون إن الله سيفتح لنا على المشركين ويفصل بيننا وبينهم فيقولون متى هذا الفتح؟ ومتى اسم استفهام في محل نصب على الظرفية الزمانية وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر والفتح بدل من اسم الاشارة وإن شرطية وكنتم كان واسمها في محل جزم فعل الشرط وصادقين خبر كان وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله. (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) يوم الفتح مبتدأ وجملة لا ينفع خبره والذين كفروا مفعول ينفع المقدم وإيمانهم فاعل ينفع المؤخر والواو عاطفة وهم مبتدأ وجملة ينظرون خبر وينظرون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل أي يمهلون. (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) الفاء الفصيحة وأعرض فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعنهم متعلقان بأعرض وانتظر فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت ومفعوله محذوف تقديره النصر عليهم وإن واسمها ومنتظرون خبرها ومفعول منتظرون الذي هو اسم فاعل محذوف أيضا تقديره النصر عليكم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 590 البلاغة: في قوله تعالى «أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم» الآية، فن المناسبة. والمناسبة قسمان: إما مناسبة في المعاني وإما مناسبة في الألفاظ أما الأولى فهي أن يبتدىء المتكلم بمعنى ثم يتمم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ وقد مرت أمثلته في الأنعام والقصص وهذه الآية، فقد قال تعالى في صدرها أولم يهد لهم وهي موعظة سمعية لكونهم لم ينظروا الى القرون الهالكة وإنما سمعوا بها فناسب أن يأتي بعدها بقوله «أفلا يسمعون» أما بعد الموعظة المرئية وهي قوله «أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز» فقد ناسب أن يقول «أفلا يبصرون» لأن الزرع مرئي لا مسموع ليناسب آخر كل كلام أوله، وأما المناسبة اللفظية فهي الإتيان بألفاظ متزنات مقفاة وغير مقفاة، فالمقفاة مع الاتزان مناسبة تامة وغير المقفاة مع الاتزان مناسبة ناقصة وشيوع هذه في الكلام الفصيح أكثر لعدم التكلف ولأن التقفية غير لازمة فيها فإن وقعت مندرجة في الكلام من غير تكلف ساغت وكانت آية في الجمال وستأتي أمثلتها في القرآن الكريم وسبق مثالها في قوله في يونس: «لهم شراب من حميم وعذاب أليم» ومن شواهد التامة في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه من الدعاء مما كان يرقي به الحسن والحسين «أعيذ كما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامّة» ولم يقل ملمة وهي القياس لمكان المناسبة، ومما ورد من المناسبة اللفظية التامة قول ابن هانىء الأندلسي من أبيات: وعوانس وقوانس وفوارس ... وكوانس وأوانس وعقائل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 591 ومن المناسبة اللفظية غير التامة: مها الوحش إلا أن هاتا أوانس ... قنا الحظ إلا أن تلك ذوابل فقد ناسب بين مها وقنا مناسبة غير تامة وبين الوحش والحظ وأوانس وذوابل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 592 (33) سورة الأحزاب مدنية وآياتها ثلاث وسبعون [سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 593 اللغة: (تُظاهِرُونَ) : مضارع ظاهر ومصدره الظهار بكسر الظاء وهو- كما في القاموس- قول الرجل لامرأته أنت عليّ كظهر أمي وقد ظاهر منها وتظهّر وظهّر، وخصوا الظهر دون غيره لأنه موضع الركوب والمرأة مركوب الزوج ففي قول المظاهر أنت عليّ كظهر أمي كناية تلويحية لأنه ينتقل من الظهر الى المركوب ومن المركوب إلى المرأة لأنها مركوب الزوج فكأن الظاهر يقول: أنت محرمة عليّ لا تركبين كتحريم ركوب أمي. ومن المفيد أن نورد ما قاله الزمخشري في معنى أنت عليّ كظهر أمي قال: «أرادوا أن يقولوا أنت عليّ حرام كبطن أمي فكنوا عن البطن بالظهر لئلا يذكروا البطن الذي ذكره يقارب ذكر الفرج وإنما جعلوا الكناية عن البطن بالظهر لأنه عمود البطن ومنه حديث عمر رضي الله عنه: يجيء به أحدهم على عمود بطنه أراد على ظهره ووجه آخر وهو أن إتيان المرأة وظهرها الى السماء كان محرما عندهم محظورا وكان أهل المدينة يقولون: إذا أتيت المرأة ووجهها الى الأرض جاء الولد أحول فلقصد المطلق منهم إلى التغليظ في تحريم امرأته عليه شبهها بالظهر ثم لم يقنع بذلك حتى جعله ظهر أمه فلم يترك ظهر الأم» وأحكام الظهار مبسوطة في كتب الفقه. (أَدْعِياءَكُمْ) : جمع دعي وهو من يدعى لغير أبيه، فعيل بمعنى مفعول ولكن جمعه على أدعياء غير مقيس لأن أفعلاء إنما يكون جمعا لفعيل المعتل اللام إذا كان بمعنى فاعل نحو تقي وأتقياء وغني وأغنياء، وهذا وإن كان فعيلا معتل اللام إلا أنه بمعنى مفعول فكان القياس جمعه على فعلى كقتيل وقتلى وجريح وجرحى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 594 الإعراب: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) يا حرف نداء وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب يا والهاء للتنبيه والنبي بدل واتق فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت ولفظ الجلالة: مفعول به ولا الواو حرف عطف ولا ناهية وتطع فعل مضارع مجزوم بلا وفاعل تطع ضمير مستتر تقديره أنت والكافرين مفعول به والمنافقين عطف على الكافرين وجملة إن الله تعليل للأمر والنهي لا محل لها وان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وعليما خبر كان الأول وحكيما خبرها الثاني. (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) واتبع عطف على اتق وما مفعول به وجملة يوحى صلة ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وإليك متعلقان بيوحى ومن ربك حال وجملة إن الله تعليل للأمر أيضا وقد تقدم اعرابها قريبا. (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) عطف على ما تقدم وعلى الله متعلقان بتوكل وكفى فعل ماض والباء حرف جر زائد والله فاعل كفى محلا ووكيلا تمييز وأجازوا إعرابه حالا. (ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) كلام مستأنف مسوق للرد على مزاعم المشركين بأن لبعضهم قلبين فهو أعقل من محمد وسيأتي المزيد من هذا البحث في باب الفوائد. وما نافية وجعل الله فعل وفاعل ولرجل متعلقان بمحذوف مفعول جعل الثاني أو بنفس جعل وقلبين مفعول جعل محلا مجرور بمن الزائدة لفظا وفي جوفه صفة لقلبين. (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 595 تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) الواو عاطفة وما نافية وجعل فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله وأزواجكم مفعول جعل الأول واللائي اسم موصول صفة وجملة تظاهرون صلة ومنهن متعلقان بتظاهرون وإنما عدي بمن لأنه ضمن معنى التباعد كأنه قيل متباعدين من نسائهم بسبب الظهار، وأمهاتكم مفعول جعل الثاني. (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) عطف على ما تقدم وأدعياءكم مفعول جعل الاول وأبناءكم مفعول جعل الثاني وستأتي قصة زيد بن حارثة في باب الفوائد، وذلكم مبتدأ والاشارة للنسب وقولم خبر وبأفواهكم حال أي كائنا بأفواهكم فقط من غير أن تكون له حقيقة. (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) الواو للحال أو للاستئناف والله مبتدأ وجملة يقول خبر والحق صفة لمصدر محذوف أي القول الحق وهو مبتدأ وجملة يهدي السبيل خبر والسبيل منصوب بنزع الخافض أو مفعول ثان ليهدي كما تقدم. (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ) كلام مستأنف لبيان أن نسبة كل مولود الى والده أقوم وأعدل. وادعوهم فعل أمر وفاعل ومفعول به ولآبائهم متعلقان بادعوهم وهو مبتدأ وأقسط خبر وعند الله ظرف متعلق بمحذوف حال. (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) الفاء عاطفة وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتعلموا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعله وآباءهم مفعوله، فإخوانكم الفاء رابطة للجواب وإخوانكم خبر لمبتدأ محذوف أي فهم إخوانكم وفي الدين حال ومواليكم عطف على إخوانكم أي أبناء عمومتكم، والمولى يطلق على عدة معان منها ابن العم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 596 (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) الواو عاطفة وليس فعل ماض ناقص وعليكم خبر ليس المقدم وجناح اسمها المؤخر وفيما صفة لجناح وجملة أخطأتم صلة وبه متعلقان بأخطأتم. (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) الواو عاطفة ولكن حرف استدراك مهمل لأنه خفف وما عطف على ما في قوله فيما فمحله الجر، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي تؤاخذون به أو عليكم الجناح فيه وجملة كان الله حالية أو استئنافية. الفوائد: اشتملت هذه الآيات على فوائد كثيرة نوردها فيما يلي على سبيل الاختصار ونحيل من أراد المزيد منها على المطولات. 1- معنى ولا تطع الكافرين والمنافقين: قال الزمخشري: «لا تساعدهم على شيء ولا تقبل لهم رأيا ولا مشورة وجانبهم واحترس منهم فانهم أعداء الله وأعداء المؤمنين لا يريدون إلا المضارّة والمضادّة، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر الى المدينة وكان يحب اسلام اليهود قريظة والنضير وبني قينقاع وقد بايعه ناس منهم على النفاق فكان يلين لهم جانبه ويكرم صغيرهم وكبيرهم وإذا أتى منهم قبيح تجاوز عنه وكان يسمع منهم فنزلت» وروي أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا عليه فنزلوا على عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين بعد قتال أحد وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 597 أبيرق فقالوا للنبي وعنده عمر بن الخطاب: أرفض ذكر آلهتنا وقل إن لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربّك فشقّ ذلك على النبي فقال عمر: يا رسول الله ائذن لنا في قتلهم فقال: إني أعطيتهم الأمان فقال عمر: اخرجوا في لعنة الله وغضبه فأمر النبي أن يخرجوا من المدينة. 2- معنى جمع القلبين: قام النبي صلى الله عليه وسلم يوما يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترى أن له قلبين: قلبا معكم وقلبا معهم، وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال: كان رجل من قريش يسمى ذا القلبين يقول: لي نفس تأمرني ونفس تنهاني فأنزل الله فيه ما تسمعون. وروي أنه وجد من المشركين من ادعى أن له قلبين يفهم بكل منهما أو يعقل أفضل من عقل محمد وانه هو أو غيره كان يدعى ذا القلبين وأن الآية ردت هذا الزعم كما أبطلت مزاعم التبني والظهار من ضلالات العرب ومعنى القلب اللحمي غير مراد على كل حال. هذا ويطلق لفظ القلب اسما لمضغة من الفؤاد معلقة بالنياط أو بمعنى الفؤاد مطلقا، ويقول بعضهم: ان القلب هو العلقة السوداء في جوف هذه المضغة الصنوبرية الشكل المعروفة كأنه يريد أن هذا هو الأصل ثم جعله بعضهم اسما لهذه المضغة وبعضهم توسع فسمى هذه اللحمة كلها حتى شحمها وحجابها قلبا ويطلق اسما لما في جوف الشيء وداخله واسما لشيء معنوي وهو النفس الانسانية التي تعقل وتدرك وتفقه وتؤمن وتكفر وتتقي وتزيغ وتطمئن وتلين وتقسو وتخشى وتخاف، وقد نسبت إليه كل هذه المعاني في القرآن، والأصل في هذا أن أسماء الأشياء المعنوية مأخوذة من أسماء الأشياء الحسية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 598 وقد أطلق على الشيء الذي يحيا به الإنسان ويدرك العقليات والوجدانيات كالحب والبغض والخوف والرجاء، عدة أسماء منها القلب والروح والنفس واللب، وهناك مناسبة أخرى للقلب وهي أن قلب الحيوان هو مظهر حياته الحيوانية ومصدرها وللوجدانات النفسية والعواطف تأثير في القلب الحسي يشعر به الإنسان ومهما كانت المناسبة التي كانت سبب التسمية فلفظ القلب يطلق في القرآن بمعنى النفس المدركة والروح العاقلة التي يموت الإنسان بخروجها منه قال تعالى «وبلغت القلوب الحناجر» أي الأرواح لا هذه المضغ اللحمية التي لا تنتقل من مكانها وقال «فتكون لهم قلوب فيعقلون بها» أي نفوس وأرواح وليس المراد أن القلب الحسي آلة العقل وقال «نزل به الروح الأمين على قلبك» أي على نفسك الناطقة وروحك المدركة وليس المراد بالقلب هنا المضغة اللحمية ولا العقل، لأن العقل في اللغة ضرب خاص من ضروب العلم والإدراك ولا يقال ان الوحي نزل عليه ولكن قد تسمى النفس العاقلة عقلا كما تسمى قلبا، وقد يعزى الى القلب ويسند اليه ما هو من أفعال النفس أو انفعالاتها التي يكون لها أثر في القلب الحسي كقوله تعالى: «إذا ذكر الله وجلت قلوبهم» وقوله: «ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم» وقوله: «ويذهب غيظ قلوبهم» . وقد افتتحت السورة بالأمر بتقوى الله والنهي عن طاعة الكافرين والمنافقين واتباع الوحي المنزل خاصة وجاء بعد ذلك قوله تعالى «ما جعل الله لرجل من قلبين» فكان المراد منه أن الإنسان لا يمكن أن يكون له قلبان يجمع بهما بين الضدين وهما ابتغاء مرضاة الله وابتغاء مرضاة الكافرين والمنافقين بل له قلب واحد إذا صدق في التوجه الى شيء لا يمكنه أن يتوجه الى ضده بالصدق والإخلاص الجزء: 7 ¦ الصفحة: 599 فيكون في وقت واحد مخلصا لله ومخلصا لأعداء دينه، ومن هذا الباب قول الشاعر وقد رمق سماء هذا المعنى: لو كان لي قلبان عشت بواحد ... وتركت قلبا في هواك يعذب وخلاصة القول أن أشد ما ذكر فيه من التأويلات انهم كانوا يدعون لابن خطل قلبين فنفى الله صحة ذلك وقرنه بما كانوا يقولونه من الأقاويل المتناقضة كجعل الأدعياء أبناء والزوجات أمهات وهذه الأمور الثلاثة متنافية، أما الأول فإنه يلزم من اجتماع القلبين قيام أحد المعنيين بأحدهما وضده في الآخر وذلك كالعلم والجهل والأمن والخوف وغير ذلك، وأما الثاني فلأن الزوجة في مقام الامتهان والأم في محل الإكرام فنافى أن تكون الزوجة أما، وأما الثالث فلأن البنوّة أصالة وعراقة في النسب والدعوة لاصقة عارضة به فهما متنافيان وذكر الجوف ليصور به صورة اجتماع القلبين فيه حتى يبادره السامع بالإنكار. هذا وقد قال تعالى هنا «ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه» وقال في موضع آخر: «رب إني نذرت لك ما في بطني محررا» فاستعمل الجوف في الأولى والبطن في الثانية ولم يستعمل الجوف موضع البطن ولا البطن موضع الجوف واللفظتان سواء في الدّلالة وهما ثلاثيتان في عدد واحد ووزنهما واحد أيضا فانظر الى سبك الألفاظ كيف يفعل فعله؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 600 3- قصة زيد بن حارثة: أجمع أهل التفسير على أن قوله تعالى «وما جعل أدعياءكم أبناءكم» أنزل في زيد بن حارثة، وكان من أمره ما رواه أنس بن مالك وغيره أنه سبي صغيرا فابتاعه حكيم بن حزام بن خويلد فوهبه لعمته خديجة بنت خويلد فوهبته خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه فأقام عنده مدة ثم جاء عنده أبوه وعمه في فدائه فقال لهما رسول الله: خيّراه فإن اختراكما فهو لكما دون فداء فاختار زيد الرق مع رسول الله على حريته فقال النبي عند ذلك: يا معشر قريش اشهدوا أنه ابني، ولما تزوج النبي زينب بنت جحش التي كانت امرأة زيد بن حارثة الذي تبناه النبي قالوا تزوج محمد امرأة ابنه فكذبهم الله في ذلك وسترد القصة مع مناقشتها قريبا في هذه السورة. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 6 الى 8] النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 601 الإعراب: (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) النبي مبتدأ وأولى بالمؤمنين خبر ومن أنفسهم متعلقان بأولى أيضا. (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) الواو عاطفة وأزواجه مبتدأ وأمهاتهم خبر وسيأتي معنى هذا التشبيه في باب البلاغة وأولو الأرحام مبتدأ أيضا والأرحام جمع رحم وهي القرابة وبعضهم مبتدأ ثان أو بدل من أولو وأولى ببعض خبر ولا بد من تقدير مضاف محذوف أي بإرث بعض وفي كتاب الله متعلقان بأولى أو بمحذوف حال من الضمير في أولى ومن المؤمنين جار ومجرور متعلقان بأولى أيضا أي الأرقاب بعضهم أولى بإرث بعض من أن يرثهم المؤمنون والمهاجرون الأجانب ولك أن تعلقها بمحذوف على أنها حال لأنها بمثابة البيان لقوله أولو الأرحام. (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) إلا أداة استثناء وأن تفعلوا مصدر مؤول مستثنى من أعم العام لأنه استثناء من غير الجنس أي إلا في الوصية وهي المعنية بفعل المعروف والى أوليائكم متعلقان بتفعلوا بعد تضمينها معنى تؤدوا أو تسدوا ومعروفا مفعول به وكان واسمها ومسطورا خبرها وفي الكتاب متعلقان بمسطورا. (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) الظرف متعلق بمحذوف أي اذكر والكلام مستأنف ولك أن تعطفه على محل في الكتاب فيتعلق بمسطورا والأول أولى وجملة أخذنا في محل جر بإضافة الظرف إليها ومن النبيين متعلقان بأخذنا وميثاقهم مفعول به والمراد به تبليغ الرسالة وما بعده عطف على من النبيين من عطف الخاص على العام كما سيأتي في باب البلاغة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 602 (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) عطف على أخذنا السابقة وسيأتي سر وصف الميثاق بالغلظ في باب البلاغة. (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) اللام للتعليل ويسأل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بأخذ على طريق الالتفات وفاعل مستتر يعود على الله والصادقين مفعول به وعن صدقهم متعلقان بيسأل وأعد للكافرين عطف على أخذنا من النبيين وللكافرين متعلقان بأعد وعذابا مفعول به وأليما صفة. البلاغة: 1- التشبيه البليغ: في قوله «وأزواجه أمهاتهم» تشبيه بليغ ووجه الشبه متعدد يتعلق ببعض الأحكام وهي: وجوب تعظيمهن واحترامهن وتحريم نكاحهن ولذلك قالت عائشة: «لسنا أمهات النساء» تعني أنهن إنما كنّ أمهات الرجال لكونهن محرمات عليهم كتحريم أمهاتهم ولهذا كان لا بد من تقدير أداة التشبيه فيه. 2- عطف الخاص على العام: وفي قوله «وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك» الآية، عطف الخاص على العام لأن هؤلاء الخمسة المذكورين هم أصحاب الشرائع والكتب وأولو العزم من الرسل فآثرهم بالذكر للتنويه بإنافة فضلهم على غيرهم، وقدم النبي محمدا صلى الله عليه وسلم مع أنه مؤخر عن نوح ومن بعده لأنه هو المخاطب من بينهم والمنزل عليه هذا المتلو فكان تقديمه لهذا السبب لا لأن التقديم في الذكر مقتض لكونه أفضلهم، فقد ورد في الشعر قوله: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 603 بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... علي ومنهم أحمد المتخير فأخر ذكر النبي ليختم به تشريفا. 3- الاستعارة المكنية: وفي وصف الميثاق بالغلظ استعارة مكنية، شبّه الميثاق بجرم محسوس واستعار له شيئا من صفات الأجرام وهو الغلظ للتنويه بعظم الميثاق وجلاله وهو المعني بقوله تعالى «وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة» الآية. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 604 اللغة: (الْحَناجِرَ) : جمع حنجرة وهي الحلقوم أو رأس الغلصمة وهي منتهى الحلقوم وعبارة الزمخشري: «قالوا: إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع أو الغضب أو الغم الشديد ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة ومن ثمة قيل للجبان انتفخ سحره ويجوز أن يكون ذلك مثلا في اضطراب القلوب ووجيبها وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة» . (زِلْزالًا) : بكسر الزاي وهي القراءة العامة ويجوز فتحها إذ هما لغتان في مصدر الفعل المضعف إذا جاء على فعلان نحو زلزال وقلقال وصلصال، وقد يراد بالمفتوح اسم الفاعل نحو صلصال بمعنى مصلصل وزلزال بمعنى مزلزل. (يَثْرِبَ) : في القاموس: «يثرب وأثرب مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يثربي وأثربي بفتح الراء وكسرها فيهما» قيل سميت باسم رجل من العمالقة كان نزلها في قديم الزمان وقيل يثرب اسم لنفس المدينة وقد نهى النبي أن تسمى بهذا الاسم لما فيه من التثريب وهو التقريع والتوبيخ فذكروها بهذا الاسم مخالفة للنبي وفي المختار: التثريب التعبير والاستقصاء في اللوم وثرب عليه تثريبا قبح عليه فعله. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) اذكروا فعل أمر وفاعل ونعمة الله مفعول به وعليهم متعلقان بنعمة أو بمحذوف حال وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق باذكروا فهو بمثابة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 605 بدل الاشتمال من نعمة الله والمراد بنعمة نصره في غزوة الأحزاب وسيأتي حديثها في باب الفوائد وجملة جاءتكم جنود في محل جر بإضافة الظرف إليها. (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) فأرسلنا عطف على جاءتكم وعليهم متعلقان بأرسلنا وريحا مفعول به وجنودا عطف على ريحا وجملة لم تروها صفة لجنودا وكان الله كان واسمها وبما متعلقان ببصيرا وجملة تعملون صلة وبصيرا خبر كان. (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) الظرف بدل من إذ جاءتكم وجملة جاءوكم مضاف إليها ومن فوقكم متعلقان بجاءوكم ومن أسفل منكم عطف على من فوقكم. (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) عطف على إذ السابقة وكذلك بلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا والظنونا مفعول مطلق والألف مزيدة تشبيها للفواصل بالقوافي وسيأتي سر الجمع مع أقوال النحاة في جمع المصدر في باب الفوائد. (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً) هنا لك اسم إشارة في محل نصب على الظرفية المكانية واللام للبعد والكاف للخطاب وهو متعلق بابتلي ويجوز أن يكون ظرف زمان وابتلي فعل ماض مبني للمجهول والمؤمنون نائب فاعل وزلزلوا عطف على ابتلي والواو نائب فاعل وزلزالا مصدر مبين للنوع وشديدا صفة. (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) الظرف متعلق باذكر محذوفا وجملة يقول في محل جر بإضافة الظرف إليها والذين عطف على المنافقون وفي قلوبهم خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر وجملة ما وعدنا مقول القول والله فاعل ورسوله عطف عليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 606 وإلا أداة حصر وغرورا صفة لمفعول مطلق محذوف أي إلا وعد غرور (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) عطف على ما تقدم وقالت طائفة فعل وفاعل ومنهم صفة لطائفة ويا حرف نداء وأهل يثرب منادى مضاف ويثرب منعت من الصرف للعلمية ووزن الفعل وفيها التأنيث أيضا ولا نافية للجنس ومقام اسمها المبني على الفتح ولكم خبرها ومقام بضم الميم وفتحها أي لا إقامة ولا مكانة، فارجعوا الفاء الفصيحة أي إن سمعتم نصحي فارجعوا والقائل هو أوس بن قيظي بكسر الظاء من رؤساء المنافقين. (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) ويستأذن الواو الاستئنافية ويستأذن فريق فعل مضارع وفاعل ولك أن تعطف على ما تقدم فتكون صيغة المضارع لاستحضار الصورة ومنهم صفة لفريق والنبي مفعول به وجملة يقولون حالية أو مفسرة ليستأذن وهو قول جميل وجملة إن وما في حيزها مقول القول وإن واسمها وخبرها والمراد بعورة الخلل الذي يجعلها مستهدفة للعدو لأنها تكون غير حصينة والواو للحال وما نافية حجازية وهي اسمها والباء حرف جر زائد وعورة مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما وإن نافية ويريدون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وإلا أداة حصر وفرارا مفعول به. الفوائد: 1- غزوة الأحزاب: كانت غزوة الأحزاب في شوال سنة أربع وقيل سنة خمس المصادف لآذار سنة 627 م حيث تحرك الى المدينة جيش مؤلف من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 607 حوالي عشرة آلاف رجل بينهم أربعة آلاف قرشي بقيادة أبي سفيان وكانت حركة هذا الجيش سريعة فوق العادة، هذه المرة، وسببها فيما يذكر المؤرخون انه لما وقع اجلاء بني النضير من أماكنهم سار منهم جمع من أكابرهم بينهم حيي بن أخطب سيدهم الى أن قدموا مكة على قريش فحرضوهم على حرب رسول الله وقالوا إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله فقال أبو سفيان: مرحبا وأهلا وأحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد ثم قالت قريش لأولئك اليهود: يا معشر اليهود إنكم أهل الكتاب الأول فأخبرونا أنحن على الحق أم محمد؟ فقالوا بل أنتم على الحق وفي موقف اليهود هذا من قريش وتفضيلهم وثنيتهم على محمد يقول الدكتور إسرائيل ولغنسون في كتابه «تاريخ اليهود في بلاد العرب» : «كان من واجب هؤلاء اليهود أن لا يتورطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش وأن لا يصرحوا أمام زعماء قريش بأن عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الاسلامي ولو أدّى بهم الأمر الى عدم إجابة مطلبهم لأن بني إسرائيل الذين كانوا منذ عدة قرون حاملي راية التوحيد في العالم بين الأمم الوثنية باسم الآباء الأقدمين والذين نكبوا بنكبات لا تحصى من تقتيل واضطهاد بسبب إيمانهم بإله واحد في عصور شتى من أدوار التاريخ كان من واجبهم أن يضحوا بحياتهم وكل عزيز لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين، هذا فضلا عن أنهم بالتجائهم الى عبدة الأصنام إنما كانوا يحاربون أنفسهم بأنفسهم ويناقضون تعاليم التوراة التي توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام والوقوف منهم موقف الخصومة» . تحريض القبائل وتأليبها: لم يكّف حيي بن أخطب واليهود الذين معه هذا الذي قالوا لقريش في تفضيل وثنيتها على توحيد محمد حتى تنشط لمحاربته بل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 608 خرج أولئك اليهود الى غطفان من قيس عيلان ومن بني مرة ومن بني فزارة ومن أشجع ومن سليم ومن بني سعد ومن أسد ومن كل من لهم عند المسلمين ثأر وما زالوا يحرضونهم على الأخذ بثأرهم ويذكرون لهم متابعة قريش إياهم على حرب محمد ويحمدون لهم وثنيتهم ويعدونهم النصر لا محالة وخرجت الأحزاب التي جمع اليهود لحرب محمد وأصحابه. ما عسى أن يصنع المسلمون لمقابلة الألوف المؤلفة من رجال وخيل وإبل وأسلحة وذخيرة؟ لم يكن لهم غير التحصن بيثرب العذراء سبيل ولكن؟! أفيكفي هذا التحصن أمام تلك القوة الساحقة، وكان سلمان الفارسي يعرف من أساليب الحرب ما لم يكن معروفا في بلاد العرب فأشار بحفر الخندق حول المدينة وتحصين داخلها وسارع المسلمون الى تنفيذ نصيحته فحفر الخندق وعمل فيه النبي بيده فكان يرفع التراب ويشجع المسلمين بذلك أعظم تشجيع، وأقبلت قريش وأحزابها وهي ترجو أن تلقى محمدا بأحد فلم تجد عنده أحد فجاوزته الى المدينة حتى فاجأها الخندق فعجبت إذ لم تتوقع هذا النوع من الدفاع المجهول منها وبلغ منها الغيظ حتى زعمت الاحتماء وراءه جبنا لا عهد للعرب به ورأت قريش والأحزاب معها أن لا سبيل الى اجتياز الخندق فاكتفت بتبادل الترامي بالنبال عدة أيام. وأيقن أبو سفيان والذين معه أنهم مقيمون أمام يثرب وخندقها طويلا دون أن يستطيعوا اقتحامها وكان الوقت آنئذ شتاء قارصا برده، عاصفة رياحه، يخشى في كل وقت مطره، وإذا كان يسيرا أن يحتمي أهل مكة وأهل غطفان من ذلك كله بمنازلهم في مكة وفي غطفان فالخيام التي ضربوا أمام يثرب لا تحميهم منه فتيلا وهم بعد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 609 جاءوا يرتجون نصرا ميسورا لا يكلفهم غير يوم كيوم أحد ثم يعودون أدراجهم ويستمتعون باقتسام الغنائم والأسلاب، وماذا عسى يمسك غطفان على أن تعود أدراجها وهي إنما اشتركت في الحرب لأن اليهود وعدتها متى تم النصر ثمار سنة كاملة من ثمار مزارع خيبر وحدائقه وهذه هي ترى النصر غير ميسور أو هو على الأقل غير محقق وهو يحتاج من المشقة في هذا الفصل القارص الى ما ينسيها الثمار والحدائق. فأما انتقام قريش لنفسها من بدر ومما لحقها بعد بدر من هزائم فأمره مدرك على الأيام ما دام هذا الخندق يحول دون إمساك محمد بالتلابيب وما دامت بنو قريظة تمد أهل يثرب بالمئونة مددا يطيل أمد مقاومتهم شهورا وشهورا، أفليس خيرا للأحزاب أن يعودوا أدراجهم؟ بلى ولكن جمع هذه الأحزاب لحرب محمد مرة أخرى ليس بالميسور، وإن انتصر محمد بانسحاب الأحزاب فالويل لليهود، قدر حيي بن أخطب هذا كله وخاف مغبّته ورأى أن لا مندوحة له عن أن يغامر بآخر سهم عنده فأوحى الى الأحزاب انه مقنع بني قريظة بنقض عهد موادعتهم محمدا والمسلمين وبالانضمام إليهم، وان قريظة متى فعلت ذلك انقطع المدد والميرة عن محمد من ناحية وفتح الطريق لدخول يثرب من الناحية الأخرى، وسارع هو فذهب يريد كعب بن أسد صاحب عقد بني قريظة وما زال به حتى فتح باب الحصن وقال له: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وببحر طام: جئتك بقريش وبغطفان وقد عاهدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه، وتردّد كعب وذكر وفاء محمد وصدقه لعهده وخشي مغبة ما يدعوه حيي إليه، بيد أن حييا ما زال به يذكر له ما أصاب اليهود من محمد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 610 وما يوشك أن يصيبهم منه إذا لم تنجح الأحزاب في القضاء عليه حتى لان كعب له فسأله: وماذا يكون إذا ارتدت الأحزاب؟ هناك أعطاه حيي موثقا إن رجعت غطفان وقريش ولم يصيبوا محمدا أن يدخل معه في حصنه فيشد أزره ويشاركه حظه وتحركت في نفس كعب يهوديته فقبل ما طلب حيي ونقض عهده مع محمد والمسلمين وخرج عن حياده. وسمت روح الأحزاب المعنوية حتى دفعت بعض فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب أن يقتحموا الخندق فتيمموا مكانا منه ضيقا فضربوا خيلهم فاجتازت بهم في السبخة بين الخندق وسلع وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين فأخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها خيلهم وتقدم عمرو بن عبد ود ينادي من يبارز؟ ولما دعاه علي بن أبي طالب الى النزال قال في صلف: ارجع يا ابن أخي فو الله ما أحب أن أقتلك، قال علي: لكني والله أحب أن أقتلك فتنازلا فقتله علي وفرت خيل الأحزاب منهزمة حتى اقتحمت الخندق من جديد مولية الأدبار لا تلوي على شيء. وأعظمت الأحزاب نيرانها مبالغة في تخويف المسلمين وأضعافا لووحهم وبدأ المتحمسون من قريظة ينزلون من حصونهم وآطامهم الى المدينة ومنازلها القريبة منهم يريدون إرهاب أهلها، كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت وكان حسان فيه مع النساء والصبيان فمر بهم يهودي فقالت صفية مخاطبة حسان: إن هذا اليهودي يطيف بالحصن فانزل إليه واقتله، قال حسان: يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا فأخذت صفية عمودا ونزلت من الحصن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 611 وضربت به اليهودي حتى قتلته فلما رجعت قالت يا حسان انزل اليه فاسلبه فانه لم يمنعني من سلبه إلا انه رجل، قال حسان مالي الى سلبه من حاجة. وظل أهل المدينة في فزعهم بينا جعل محمد صلى الله عليه وسلم يفكر في الوسيلة للخلاص ولم تكن الوسيلة مواجهة العدو بطبيعة الحيلة فلتكن الحيلة وليكن الرأي والتدبير فبعث الى غطفان يعدها ثلث ثمار المدينة إن هي ارتحلت وكانت غطفان قد بدأت تمل فأظهرت امتعاضا من طول هذا الحصار وما لقوا من العنت أثناءه، ولما كان الليل عصفت ريح شديدة وهطل المطر هاتنا وقصف الرعد واشتدت العاصفة فاقتلعت خيام الأحزاب وأدخلت الرعب الى نفوسهم وخيل إليهم أن المسلمين بدءوهم بشر فقام طليحة بن خويلة فنادى: أن محمد قد بدأكم بشر فالنجاة، وقال أبو سفيان يا معشر قريش: إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف وأخلقتنا بنو قريظة وبلغنا منهم ما نكره ولقينا من شدة الريح ما ترون فارتحلوا إني مرتحل، فاستخف القوم ما استطاعوا من متاع وانطلقوا وتبعتهم غطفان حتى إذا كان الصبح لم يجد محمد منهم أحدا فانصرف راجعا الى المدينة والمسلمون معه يرفعون أكف الضراعة شكرا أن رفع الله الضر عنهم وأن كفى الله المؤمنين شر القتال وحين انجلى الأحزاب قال رسول الله: الآن نغزوهم ولا يغزونا والبقية في السير والمطولات. 2- هل يثنى المصدر ويجمع؟ المصدر المؤكد لعامله لا يثنى ولا يجمع بانفاق فلا يقال ضربت ضربين ولا ضربت ضروبا لأنه اسم جنس مبهم والمصدر المبهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 612 لا يتأتى فيه ضمه الى شيء آخر لأنه يدل على مجرد الحقيقة والحقيقة من حيث هي حقيقة تدل على القليل والكثير فلم يبق شيء يضم إليها فتصح فيها التثنية والجمع وهذا أمر عقلي وإنما جاز تثنية المصدر المختوم بالتاء وجمعه لأنه بدخول التاء صار يدل على مرة واحدة من ذلك المصدر فيصح ضمه الى ما المرة الواحدة منه فيثنى ويجمع، واختلف في المصدر النوعي والمشهور الجواز فيقال ضربت ضربين ضربا عنيفا وضربا رفيقا وضربت ضروبا مختلفة، وظاهر مذهب سيبويه المنع وانه لا يقال منه إلا ما سمع، واحتج المجيز بمجيئه في الفصيح كقوله تعالى «وتظنون بالله الظنونا» قالوا: وانما جمع الظن لاختلاف أنواعه لأن من خلص إيمانه ظن أن ما وعدهم الله به من النصر حق ومن ضعف إيمانه اضطرب ظنه ومن كان منافقا ظن أن الدائرة تكون على المؤمنين فأخلفت ظنونهم، والى ذلك أشار ابن مالك بقوله في الخلاصة: وما لتوكيد فوحد أبدا ... وثنّ واجمع غيره وأفردا 3- اختلف القراء في هذه الألف في الظنونا فأثبتها وصلا ووقفا نافع وابن عامر وأبو بكر ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو والكسائي وتمسّكوا بخط المصحف العثماني وجميع المصاحف في جميع البلدان، فإن الألف فيها كلها ثابتة واختار هذه القراءة أبو عبيد إلا أنه قال: لا ينبغي للقارىء أن يدرج القراءة بعدهن بل يقف عليهن، وتمسكوا أيضا بما في أشعار العرب من مثل هذا، وقرأ أبو عمرو وحمزة والجحدري ويعقوب بحذفها في الوصل والوقف معا وقالوا هي من زيادات الخط فكتبت كذلك ولا ينبغي النطق بها وأما في الشعر فهو يجوز فيه للضرورة ما لا يجوز في غيره، وقرأ ابن كثير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 613 والكسائي وابن محيص بإثباتها وقفا وحذفها وصلا وهذه القراءة راجحة باعتبار اللغة العربية وهذه الألف هي التي تسميها النحاة ألف الإطلاق والكلام فيها معروف وهكذا اختلف القراء في الألف التي في قوله: الرسولا والسبيلا كما سيأتي في آخر هذه السورة. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 14 الى 17] وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) الإعراب: (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها) الواو عاطفة ودخلت فعل ماض مبني للمجهول وعليهم متعلقان به ونائب الفاعل مستتر أي المدينة أو بيوتهم ومن أقطارها حال أي من جميع جوانبها وثم حرف عطف وتراخ وسئلوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل والفتنة مفعول به ثان لسئلوا والمراد بالفتنة الردة والرجعة الى الكفر واللام واقعة في جواب لو وأتوها فعل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 614 وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها. (وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) الواو عاطفة وما نافية وتلبثوا فعل ماض وفاعل وبها متعلقان بتلبثوا وإلا أداة حصر ويسيرا نعت لمصدر محذوف أو لوقت محذوف فيصح أن تكون مفعولا مطلقا أو ظرف زمان. (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وكانوا فعل ماض ناقص والواو اسمها وجملة عاهدوا خبرها ولفظ الجلالة مفعول به ومن قبل متعلقان بعاهدوا وجملة يولون الأدبار لا محل لها لأنها جواب للقسم والأدبار مفعول به ثان ليولون والمفعول الاول محذوف أي لا يولون العدو الأدبار والواو عاطفة وكان واسمها وخبرها أي مطلوبا. (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا) لن حرف نفي ونصب واستقبال وينفعكم فعل مضارع منصوب بلن والكاف مفعول به والفرار فاعل وإن حرف شرط جازم يجزم فعلين وفررتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف دل عليه ما قبله ومن الموت متعلقان بفررتم وإذن حرف جواب وجزاء مهمل لوقوعه بعد عاطف كما هو الغالب عليه ولا نافية وتمتعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وإلا أداة حصر وقليلا نعت لمصدر محذوف أي إلا تمتيعا قليلا أو صفة لظرف محذوف أي إلا زمانا قليلا فيصح أن تكون مفعولا مطلقا أو ظرف زمان. (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) من اسم استفهام مبتدأ وذا اسم اشارة في محل رفع خبر والذي بدل وجملة يعصمكم من الله صلة وإن شرطية وأراد فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف دل عليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 615 ما قبله أي فمن ذا الذي يعصمكم وسوءا مفعول به أو أراد بكم رحمة عطف على ما تقدم ولا بد من تقدير محذوف أي أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة. (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) الواو استئنافية أو حالية ولا نافية ويجدون فعل وفاعل ولهم في محل نصب مفعول ثان ليجدون ومن دون الله حال ووليا مفعول به أول ولا نصيرا عطف على وليا. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 18 الى 19] قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) اللغة: (الْمُعَوِّقِينَ) : المثبطين الذين كانوا يخذلون المسلمين وفي الأساس: «وعاقه واعتاقه وعوقه «قد يعلم الله المعوّقين منكم» وتقول: فلان صحبه التعويق فهجره التوفيق، ورجل عوقة: ذو تعويق وترييث عن الخير وتقول: يا من عن الخير يعوق، إن أحق أسمائك أن تعوق» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 616 (أَشِحَّةً) جمع شحيح وهو البخيل والحريص وهو جمع غير مقيس لأن قياس فعيل الوصف الذي عينه ولامه من واد واحد أن تجمع على أفعلاء نحو خليل وأخلاء وظنين وأظناء وقد سمع أشحاء وهو القياس. (سَلَقُوكُمْ) : آذوكم أو ضروكم وفي المختار: «سلقه بالكلام آذاه وهو شدة القول باللسان قال تعالى: «سلقوكم بألسنة حداد» وسلق البقل أو البيض أغلاه بالنار إغلاءة خفيفة وباب الكل ضرب» وفي المصباح أنه من باب قتل أيضا وعبارة الراغب: «السلق بسط بقهر إما باليد أو باللسان ويؤخذ من القاموس واللسان: سلق يسلق من باب قتل البيض أو البقل أغلاه بالنار وطبخه بالماء، وسلقه بالكلام: آذاه ومنه سلقه بألسنة حداد، وسلقه بالرمح طعنه وسلقه بالسوط ضربه الى أن نزع جلده، وسلق اللحم عن العظم قشره، ويجوز أن يكون الكلام مجازيا كما سيأتي في باب البلاغة وعلى كل حال فالعامة تستعمل هذه الكلمة استعمالا لا غبار عليه. الإعراب: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) كلام مستأنف مسوق لتصوير حال المنافقين، وقد حرف تكثير وأصله للتقليل إذا دخل على فعل المضارع وقد تقدم بحثه، ويعلم الله المعوقين فعل وفاعل ومفعول به ومنكم حال والقائلين عطف على المعوقين ولإخوانهم متعلقان بالقائلين وهلم اسم فعل أمر وإلينا متعلقان به وهي لغة أهل الحجاز يسوون فيه بين الواحد والجماعة ويستعمل لازما كما هنا ومتعديا كما في الأنعام وقد تقدم القول فيه. (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 617 إِلَّا قَلِيلًا) الواو حالية ولا نافية ويأتون البأس فعل مضارع مرفوع وفاعل ومفعول به أي القتال وإلا أداة حصر وقليلا مفعول مطلق أو ظرف زمان. (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) أشحة حال من فاعل يأتون أو منصوب على الذم بفعل محذوف تقديره أذم وعبارة الزمخشري: «أشحة عليكم: في وقت الحرب أضناء بكم يترفرفون عليكم كما يفعل الرجل بالذابّ عنه المناضل دونه عند الخوف» فإذا الفاء استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة جاء الخوف في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة رأيتهم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة ينظرون إليك حال لأن الرؤية هنا بصرية وإليك متعلقان بينظرون. (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) جملة تدور أعينهم حال من فاعل ينظرون وهو الواو وكالذي نعت لمصدر محذوف أي تدور دورانا كدوران عين الذي، فبعد الكاف محذوفان وهما دوران وعين، وجملة يغشى صلة الذي ويغشى فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مصدر مختص بلام العهد أو بصفة محذوفة والمعنى ويغشى الغشيان المعهود وعليه متعلقان بيغشى ويجوز أن يكون نائب الفاعل هو الجار والمجرور وقد تقدم بحث ما ينوب عن نائب الفاعل فجدد به عهدا. (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ذهب الخوف في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة سلقوكم جواب شرط غير جازم لا محل لها وبألسنة متعلقان بسلقوكم وحداد نعت لألسنة. (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) أشحة نصب على الحال أو على الذم كما تقدم وعلى الخير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 618 متعلقان بأشحة أي على الغنيمة يطلبونها وأولئك مبتدأ وجملة لم يؤمنوا خبر، فأحبط عطف على لم يؤمنوا والله فاعل وأعمالهم مفعول به وكان الواو حالية أو استئنافية وكان واسمها وخبرها وعلى الله حال والاشارة للاحباط والمعنى أن أعمالهم جديرة بالإحباط لا يصرف عنه صارف وليس هو بالأمر الصعب العسير. البلاغة: 1- فن التندير: في قوله «فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه الموت» فن ألمع اليه صاحب نهاية الأرب وابن أبي الإصبع وهو فن «التندير» وحدّه أن يأتي المتكلم بنادرة حلوة أو نكتة مستطرفة وهو يقع في الجد والهزل فهو لا يدخل في نطاق التهكم ولا في نطاق فن الهزل الذي يراد به الجد ويجوز أن يدخل في نطاق باب المبالغة وذلك واضح في مبالغته تعالى في وصف المنافقين بالخوف والجبن حيث أخبر عنهم أنهم تدور أعينهم حالة الملاحظة كحالة من يغشى عليه من الموت ولو اقتصر على قوله كالذي يغشى عليه من الموت لكان كافيا بالمقصود ولكنه زاد شيئا بقوله «من الموت» إذ أن حالة المغشي عليه من الموت أشد وأنكى من حالة المغشي عليه من غير الموت ولو جاء سبحانه في موضع الموت بالخوف لكان الكلام بليغا لا محالة غير أن ما جاء في التنزيل أبلغ وهو مع ذلك خارج مخرج الحق متنزل منزلة الصدق فإن من كان قوي النفس شجاع القلب لا يرضى بالنفاق بل يظهر ما يبطنه الخائف لأنه لا يبالي بالموت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 619 2- الاستعارة المكنية: وذلك في قوله «سلقوكم بألسنة حداد» فقد شبه اللسان بالسيف ثم حذف المشبه به واستعار شيئا من خصائصه وهو الضرب وهذه الاستعارة تتأتى على تفسير السلق بالضرب والحامل عليه وصف الألسنة بالحداد كما تقدم في باب اللغة. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 20 الى 22] يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) اللغة: (بادُونَ) : جمع باد وهو ساكن البادية يقال: لقد بدوت يا فلان أي نزلت البادية وصرت بدويا وما لك والبداوة؟ وتبدّى الحضري، ويقال: أين الناس؟ فتقول: لقد بدوا أي خرجوا الى البدو وكانت لهم غنيمات يبدون إليها. (الْأَعْرابِ) : قال في القاموس وشرحه: العرب بالضم وبالتحريك خلاف العجم مؤنث وهم سكان الأمصار أو عام والأعراب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 620 منهم سكان البادية لا واحد له ويجمع أعاريب وعرب عاربة وعرباء وعربة صرحاء ومتعربة ومستعربة دخلاء. الإعراب: (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) الكلام مستأنف مسوق لتصوير خوفهم ولك أن تجعله حالا من أحد الضمائر المتقدمة أي هم من الخوف بمثابة من لا يصدقون أن الأحزاب قد ذهبوا عنهم وتخلوا عن نصرتهم. ويحسبون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والأحزاب مفعول به أول وجملة لم يذهبوا مفعول به ثان وإن الواو عاطفة وإن شرطية ويأت فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والأحزاب فاعل ويودوا جواب الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف النون ولو مصدرية، ولو وما بعدها في تأويل مصدر مفعول يودوا أي يتمنون لخوفهم مما منوا به أشرتهم خارجين الى البدو، وأن وما في حيزها في تأويل مصدر فاعل لفعل محذوف تقديره يودوا لو ثبت أنهم بادون، وسيأتي مزيد بحث عن لو المصدرية في باب الفوائد، وأن واسمها وبادون خبرها وفي الأعراب متعلقان ببادون أو بمحذوف حال. (يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا) جملة يسألون يجوز أن تكون مستأنفة أو أن تكون حالا من ضمير يحسبون، وعن أنبائكم متعلقان بيسألون والواو حالية ولو شرطية وكان واسمها وفيكم خبرها وما نافية وقاتلوا فعل وفاعل وجملة ما قاتلوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ويتمشى عليها ما أوردناه في قوله «ولو أن ما في البحر من شجرة أقلام» الآية، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 621 وإلا أداة حصر وقليلا نعت لمصدر محذوف أي إلا قتالا قليلا أو نعت لظرف محذوف أي إلا وقتا قليلا. (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) كلام مستأنف مسوق لعتاب المتخلفين عن القتال واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وكان فعل ماض ناقص ولكم خبرها المقدم وفي رسول الله حال لأنه كان في الأصل صفة لأسوة وأسوة اسم كان المؤخر وحسنة صفة لأسوة أي قدوة حسنة بضم الهمزة وقد تكسر. (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) لمن الجار والمجرور بدل من لكم وأعيدت اللام مع البدل للفصل أو يكون بدل اشتمال، وجملة كان صلة من واسم كان مستتر تقديره هو وجملة يرجو الله خبرها واليوم الآخر عطف على لفظ الجلالة وذكر عطف على كان ولفظ الجلالة مفعول به وكثيرا مفعول مطلق أو ظرف وقد تقدم نظيره قريبا. (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ) لما ظرفية حينية متعلقة بقالوا أو رابطة متضمنة معنى الشرط على كل حال ورأى المؤمنون الأحزاب فعل ماض وفاعل ومفعول به وجملة قالوا لا محل لها وهذا مبتدأ وما خبر والجملة مقول القول وجملة وعدنا الله ورسوله صلة ما. (وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) الواو عاطفة وصدق الله فعل وفاعل وفيه وضع الظاهر موضع المضمر لتعظيمه والتنويه بوعدهما الكائن، وما زادهم عطف على صدق وإلا أداة حصر وإيمانا مفعول به ثان لزادهم وتسليما عطف على إيمانا وفاعل زادهم ضمير الوعد أو الصدق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 622 البلاغة: في قوله: «وصدق الله ورسوله» فن تكرير الظاهر تعظيما، ولو أنه أعادهما مضمرين لجمع بين اسم الله تعالى واسم رسوله في لفظة واحدة، فقال وصدقا، وقد كره النبي ذلك حين رد على أحد الخطباء الذين تكلموا بين يديه إذ قال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال النبي له: بئس خطيب القوم أنت قل: ومن يعص الله ورسوله، قصدا الى تعظيم الله. وقد استشكل بعض العلماء قوله عليه الصلاة والسلام حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما فقال انه جمع بينهما في ضمير واحد وأجيب على هذا الاستشكال بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعرف بقدر الله منّا فليس لنا أن نقول كما يقول. الفوائد: لو المصدرية: لو المصدرية ترادف أن المصدرية في المعنى والسبك إلا أنها لا تنصب، وأكثر وقوعها بعد مفهوم تمن مثل ودّ وأحب واختار وتمنى وقيل بل بعد ودّ وتمنى خاصة لأن الإنسان قد يحب الشيء ولا يتمنى حصوله لعارض في طلبه، وتقع بعد غير التمني قليلا كقول قتيلة بالتصغير بنت النضر بن الحارث الأسدية تخاطب النبي صلى الله عليه وسلم حين قتل أباها النضر صبرا بعد أن انصرف من غزوة بدر: ما كان ضرك المن لو مننت وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 623 أي ما كان ضرك المن وقبل هذا البيت: أمحمد ولأنت فحل نجيبة ... في قومها والفحل فحل معرق وسبب قتل النبي أباها أنه كان يقرأ أخبار العجم على العرب ويقول محمد يأتيكم بأخبار عاد وثمود وأنا آتيكم بخبر الأكاسرة والقياصرة يريد بذلك أذى النبي، فلما سمع النبي هذا البيت وهو من أبيات أنشدتها بين يديه قال: لو سمعته قبل قتله ما قتلته ولعفوت عنه ثم قال لا يقتل قرشي صبرا. هذا وقد استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: «لو سمعته قبل قتله ما قتلته ولعفوت عنه» بعض الأصوليين على جواز تفويض الحكم الى المجتهد فيقال له: احكم بما شئت فهو صواب، وعلى وقوع ذلك فإن قوله قبل قتله يدل على أن القتل وعدمه مفوضان اليه، والمانعون من الوقوع يجيبون بأن يجوز أن يكون النبي خيّر فيهما معا فقيل له: لك أن تأمر بقتله وأن لا تأمر ونحو ذلك، ويجوز أن وحيا نزل بأنه لو شفع فيه ما قتله. والنجيبة الكريمة الحسنة والفحل الذكر من كل حيوان كما في القاموس والمعرق اسم فاعل من أعرق الرجل صار عريقا وهو الذي له عرق في الكرم ومعنى لو مننت لو أنعمت وأحسنت، ثم يحتمل أن يكون المصدر المؤول من لو ومننت أي المنّ اسم كان المؤخر وجملة ضرك خبرها المقدم ويحتمل أن يكون المصدر فاعل لضرك والجملة خبر كان واسمها ضمير الشأن ويحتمل أن تكون ما استفهامية محلها الرفع على الابتداء، وكان يحتمل أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 624 تكون زائدة وأن لا تكون فعلى الأول تكون جملة ضرك خبرا عن ما الاستفهامية وعلى الثاني تكون جملة ضرك خبر كان وجملة كان خبر ما، هذا ويحتمل أن تكون لو شرطية على بابها وما تقدم دليل الجواب ويطيح هذا كله، والمغيظ بفتح الميم اسم مفعول من غاظه يغيظه بالغين والظاء المعجمتين الغضب أو شدته أو سورة أوله، والمحنق بضم الميم وفتح النون اسم مفعول من أحنقه بالحاء المهملة إذا أغاظه. ونعود الى ذكر لو المصدرية فنقول: لو المصدرية لا جواب لها وإذا وليها فعل ماض بقي على مضيه وإذا وليها فعل مضارع محضته للاستقبال كما أن المصدرية كذلك. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 23 الى 27] مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 625 اللغة: (قَضى نَحْبَهُ) : مات والنحب النذر ووقع قولهم قضى نحبه عبارة عن الموت لأن كل حي لا بد له من أن يموت فكأنه نذر لازم في رقبته فإذا مات فقد قضى نحبه أي نذره والنذر بفتح النون، وقد وهم صاحب المنجد فضبطه بكسرها وهذا غريب، وفي المصباح: «نحب نحبا من باب ضرب بكى والاسم النحيب ونحب نحبا من باب قتل: نذر وقضى نحبه مات أو قتل في سبيل الله وفي التنزيل: «فمنهم من قضى نحبه» . (صَياصِيهِمْ) : حصونهم جمع صيصية وفي القاموس: «والصيصية شوكة الحائط يسوّي بها السدى واللحمة وشوكة الديك التي في رجله وقرن البقر والظباء والحصن وكل ما امتنع به» . الإعراب: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان حال الصالحين من الصحابة الذين نذروا أنهم إذا أدركوا حربا مع رسول الله ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا وتقسيمهم الى قسمين. ومن المؤمنين خبر مقدم ورجال مبتدأ مؤخر وجملة صدقوا صفة لرجال وما اسم موصول مفعول به وعاهدوا الله عليه صلة ما وعليه متعلقان بعاهدوا. (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) الفاء تفريعية ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة قضى نحبه صلة من ومنهم من ينتظر عطف على ما سبقه والواو عاطفة وما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 626 نافية وبدلوا فعل وفاعل والمفعول به محذوف أي العهد وتبديلا مفعول مطلق. (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ) اللام لام التعليل ويجزي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بمضمر مستأنف مسوق لبيان ما دعا الى وقوع ما حكى من الأقوال والتقدير وقع جميع ما وقع ليجزي الله الصادقين وقيل هو متعلق بما قبله ومترتب عليه فيتعلق بصدقوا على أنه تعليل له وقيل غير ذلك وما ذكرناه أولى، والله فاعل والصادقين مفعول به وبصدقهم متعلقان بيجزي ويعذب المنافقين عطف على ليجزي الله الصادقين وان شرطية وشاء فعل ماض وهو فعل الشرط والجواب محذوف وكذلك مفعول شاء أي إن شاء تعذيبهم عذبهم. (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أو حرف عطف ويتوب عطف على ما قبله وعليهم متعلقان بيتوب وجملة إن الله تعليل لما تقدم وان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان ضمير مستتر تقديره هو وغفورا خبرها الأول ورحيما خبرها الثاني. (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً) الواو عاطفة ورد الله الذين كفروا عطف على ما تقدم وهو فعل ماض وفاعل ومفعول به وجملة كفروا صلة الموصول وهم الأحزاب وبغيظهم حال أي مغيظين ولك أن تجعله مفعولا ثانيا لرد وجملة لم ينالوا خيرا حال ثانية أو حال من الحال الأولى فهي متداخلة. (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) الواو عاطفة وكفى الله المؤمنين فعل وفاعل ومفعول به أول والقتال مفعول به ثان لأن كفى هنا بمعنى وقى وهي عندئذ متعدية لاثنين وقد مرّ القول مفصلا في كفى وكان واسمها وخبراها. (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ) الواو عاطفة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 627 وأنزل فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله والذين مفعول به وجملة ظاهروهم صلة ومن أهل الكتاب حال ومن صياصيهم جار ومجرور متعلقان بأنزل ولك أن تجعل الكلام مستأنفا مسوفا للشروع في سرد قصة غزوة بني قريظة وستأتي خلاصتها في باب الفوائد. (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) وقذف عطف على أنزل وفي قلوبهم متعلقان بقذف والرعب مفعول به لقذف وفريقا مفعول مقدم لتقتلون وتأسرون فريقا فعل وفاعل ومفعول به (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) وأورثكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول وأرضهم مفعول به ثان وديارهم وأموالهم وأرضا معطوفة على أرضهم وجملة لم تطئوها صفة لأرضا وكان واسمها وخبرها والمراد بها البلاد التي فتحوها فيما بعد. البلاغة: في قوله «ورد الذين كفروا بغيظهم ... » الآية فن المناسبة وقد تقدم الإلماع الى هذا الفن وأنه ضربان: مناسبة في المعاني ومناسبة في الألفاظ، وما ورد في هذه الآية من الضرب الأول لأن الكلام لو اقتصر فيه على دون الفاصلة لأوهم ذلك بعض الضعفاء أن هذا الإخبار موافق لاعتقاد الكفار في أن الريح التي حدثت كانت سببا في رجوعهم خائبين وكفى المؤمنين قتالهم، والريح إنما حدث اتفاقا كما تحدث في بعض وقائعهم وقتال بعضهم لبعض وظنوا أن ذلك لم يكن من عند الله فوقع الاحتراس بمجيء الفاصلة التي أخبر فيها سبحانه أنه قوي عزيز قادر بقوته على كل شيء ممتنع وأن حزبه هو الغالب وأنه لقدرته يجعل النصر للمؤمنين أفانين متنوعة ليزيدهم إيمانا وتثبيتا فهو ينصرهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 628 مرة بالقتال كيوم بدر وتارة بالريح كيوم الأحزاب وطورا بالرعب كبني النضير وأحيانا ينصر عليهم أولا ويجعل العاقبة لهم أخيرا كيوم أحد وحينا يريهم أن الكثرة لم تكن ولن تكون كل شيء في المعركة وأنه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ليتحققوا بأن النصر إنما هو من عند الله كيوم حنين وهذا من أروع ما يتزين به الكلام. الفوائد: خلاصة قصة غزوة بني قريظة: أوحى الله الى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب أن الله يأمرك بالمسير الى بني قريظة فأذن في الناس أن من كان سامعا مطيعا فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة فما صلى كثير من الناس العصر إلا بعد العشاء الآخرة فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب فقال لهم النبي: أتنزلون على حكمي؟ فأبوا، فقال: أتنزلون على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس فرضوا به فحكم فيهم فقال: إني أحكم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء. فقال النبي لقد حكمت بحكم الله ثم استنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقا وقدمهم فضرب أعناقهم وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 629 [المجلد الثامن] [تتمة سورة الأحزاب] [سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 33] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) اللغة: (ضِعْفَيْنِ) : مثنى ضعف بكسر الضاد، يقال ضعف الشيء مثله في المقدار أو مثله وزيادة غير محصورة فقولهم لك ضعفه يعني الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 لك مثلاه أو ثلاثة أمثاله أو أكثر، وفي المصباح: «ضعف الشيء مثله وضعفاه مثلاه وأضعافه أمثاله وقال الخليل التضعيف أن يزاد على أصل الشيء فيجعل مثليه وأكثر وكذلك الأضعاف والمضاعفة، وقال الأزهري: الضعف في كلام العرب المثل هذا هو الأصل ثم استعمل الضعف في المثل وما زاد وليس للزيادة حد يقال هذا ضعف هذا أي مثله وهذان ضعفاه أي مثلاه، قال وجاز في كلام العرب أن يقال هذا ضعفه أي مثلاه وثلاثة أمثاله لأن الضعف زيادة غير محصورة فلو قال في الوصية أعطوه ضعف نصيب ولدي أعطي مثليه ولو قال ضعفيه أعطي ثلاثة أمثاله. حتى لو حصل للابن مائة أعطي مئتين في الضعف وثلاثمائة في الضعفين وعلى هذا جرى عرف الناس واصطلاحهم والوصية تحمل على العرف لا على دقائق اللغة» هذا وللضعف بفتح الضاد والضعف بكسرها والضعف بضمها معان نظمها بعضهم بقوله: في الرأي والعقل يكون الضّعف ... والوهن في الجسم فذاك الضّعف زيادة المثل كذا والضّعف ... جمع ضعيف وهو شاكي الضر (كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) أحد- كما يقول الزمخشري- في الأصل بمعنى وحد وهو الواحد ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه وردّ عليه آخرون فقالوا: أما قوله أحد في الأصل بمعنى وحد وهو الواحد فصحيح وأما قوله وما وراءه فليس بصحيح لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 واحد لأن واحدا يطلق على كل شيء اتصف بالوحدة واحد المستعمل في النفي العام مختص بمن يعقل وأيضا فيفرق بينهما بأن المختص بالنفي جامد وهذا وصف وأيضا المختص بالنفي مختص بالعقلاء وهذا لا يختص وأما معنى النفي فإنه ظاهر على ما قاله الزمخشري على المجموع. وفي الإتقان: قال أبو حاتم: أحد اسم أكمل من الواحد، ألا ترى أنك إذا قلت فلان لا يقوم له واحد جاز في المعنى أن يقوم له اثنان بخلاف قولك: لا يقوم له أحد وفي الأحد خصوصية ليست في الواحد تقول ليس في الدار أحد فيكون قد شمل عموم المخلوقين من الدواب والطير والوحش والإنس فيعم الناس وغيرهم بخلاف قولك ليس في الدار واحد فإنه مخصوص بالآدميين دون غيرهم قال: ويأتي الأحد في كلام العرب بمعنى الواحد فيستعمل في الإثبات والنفي نحو «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» أي واحد و: «أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ» و «فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ» ولا فضل لأحد على أحد. وأحد يستعمل في المذكر والمؤنث قال تعالى: «لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ» بخلاف الواحد فلا يقال كواحد من النساء بل كواحدة. قلت: ولهذا وصف به في قوله تعالى «فما منكم من أحد عنه حاجزين» بخلاف الواحد والأحد له جمع من لفظه وهو الأحدون والآحاد وليس للواحد جمع من لفظه فلا يقال واحدون بل اثنان وثلاثة والأحد ممتنع الدخول في الضرب والعدد والقسمة وفي شيء من الحساب. بخلاف الواحد. (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) : من القرار أي الثبات وأصله اقررن بكسر الراء وفتحها من قررت بفتح الراء وكسرها نقلت حركة الراء الى القاف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 وحذفت مع همزة الوصل. وفي القاموس: «وقر بالمكان يقر بالكسر والفتح قرارا وقرورا وقرّا وتقرّة ثبت وسكن كاستقرّ» . (تَبَرَّجْنَ) : بترك إحدى التاءين وأصله تتبرجن أي تتبخترن في مشيكن. وفي القاموس: «تبرجت المرأة: أظهرت زينتها ومحاسنها للأجانب» . (الْجاهِلِيَّةِ) : حالة الجهل والوثنية في بلاد العرب قبل الإسلام أو الزمن الذي تقدمه وسيأتي المزيد من بحث الجاهلية الأولى في باب الفوائد. الإعراب: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) كلام مستأنف مسوق لتقرير موقف الإسلام من أزواج النبي والمرأة عامة. وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولأزواجك متعلق بقل وستأتي أسماء أزواج النبي في باب الفوائد وإن شرطية وكنتن فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها والنون علامة التأنيث والتخيير لسبر أغوار نفوسهن حتى إذا اخترن الدنيا فارقهن وجملة تردن خبر كان والنون فاعل والحياة الدنيا مفعول به وزينتها عطف على الحياة. (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا) الفاء رابطة لجواب الشرط لأنه أتى جملة طلبية وتعالين فعل أمر مبني على السكون والنون فاعل وأمتعكن مجزوم لأنه جواب الطلب وأسرحكن عطف على أمتعكن وسراحا مفعول مطلق وجميلا صفة وهذا أولى من القول بأن أمتعكن جزم لأنه جواب الشرط وما بين الشرط وجزائه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 معترض. (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) الواو عاطفة وإن شرطية وكنتن فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وجملة تردن خبرها والنون فاعل تردن والله مفعول به ورسوله عطف عليه والدار الآخرة عطف أيضا والفاء رابطة وان واسمها وجملة أعد للمحسنات خبرها ومنكن حال وأجرا مفعول به وعظيما صفة. (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) يا حرف نداء ونساء النبي منادى مضاف ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويأت فعل الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة ومنكن حال وبفاحشة متعلقان بيأت ويضاعف جواب الشرط مجزوم وعلامة جزمه السكون ولها متعلقان بيضاعف والعذاب نائب فاعل ليضاعف وضعفين مفعول مطلق. (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) الواو حالية أو استئنافية وكان واسمها وعلى الله متعلقان بيسيرا ويسيرا خبر كان. (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) عطف على ما تقدم وهو مماثل لما قبله في إعرابه وأجرها مفعول به ثان لنؤتها ومرتين نصب على المفعولية المطلق أو الظرفية الزمانية. (وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) الواو عاطفة وأعتدنا فعل ماض وفاعل ولها متعلقان. بأعتدنا ورزقا مفعول به وكريما صفة. (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) لستن: ليس والتاء اسمها والنون علامة جمع الإناث وكأحد خبر لستن ومن النساء صفة لأحد وإن شرطية واتقيتن فعل ماض وفاعله وهو في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف يدل عليه ما قبله أي فانكن أعظم ويكون قوله: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) مستأنفا لتعليل نفي المساواة ويجوز أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 تكون الفاء رابطة وجملة لا تخضعن في محل جزم جواب الشرط وبالقول حال أو متعلقان بتخضعن. (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً) الفاء للسببية ويطمع فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية المسبوقة بالنهي والذي فاعل يطمع وفي قلبه متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر والجملة صلة وقلن الواو عاطفة وقلن فعل أمر والنون فاعل وقولا مفعول مطلق مبين للنوع ومعروفا صفة. (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) عطف على ما تقدم وقرن فعل أمر وقد تقدم في باب اللغة وفي بيوتكن متعلقان به ولا تبرجن نهي وتبرج الجاهلية مفعول مطلق والأولى نعت للجاهلية. (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) عطف على قرن في بيوتكن. (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) إنما كافة ومكفوفة ويريد الله فعل مضارع وفاعل وليذهب اللام للتعليل ويذهب فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وجملة إنما يريد تعليل لجميع ما تقدم والجار والمجرور أي ليذهب متعلقان بيريد وعنكم متعلقان بيذهب والرجس مفعول به وأهل البيت نصب على الاختصاص للمدح أي أخص أهل البيت ولك أن تجعله منادى محذوف الأداة أو على البدل من الكاف، واعترضه المبرد بأنه لا يجوز البدل من المخاطب، ويطهركم عطف على يذهب وتطهيرا مفعول مطلق. الفوائد: 1- أراجيف المغرضين عن تعدد أزواج النبي: سيطول بنا القول في هذا الصّدد لأنه أثار شكوكا لدى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 المغرضين وأصحاب الهوى من المستشرقين والمشهرين بالإسلام، فقد قالوا في معرض افتراءاتهم وأراجيفهم إن تعدد زوجات النبي مناف لشمائل النبوة ومخالف لما ينبغي أن يتسم به أصحاب الدعوة وهداة الأرواح، وقال بعض المستشرقين ما نصه بالحرف: إن تسع زوجات لدليل على فرط الميول الجنسية، ونسوا أو تناسوا أنه لا غضاضة على العظيم أن يحب المرأة ويشعر بمنتها وما من فطرة هي أعمق في طبائع الأحياء عامة من فطرة الجنسين والتقاء الذكر والأنثى، نعم قد تكون الغضاضة إذا طغى هذا الحب حتى أخرج العظيم عن سواء السبيل وشغله عما هو معني به من هداية وليس أبعد به صلى الله عليه وسلم عن الاستسلام لنزوات اللذة الجنسية من أنه أوشك أن يطلق نساءه أو يخيرهن في الطلاق لأنهن طلبن إليه المزيد من النفقة، حدث التاريخ أن أبا بكر ذهب إليه يوما يستأذن عليه فوجد الناس جلوسا لا يؤذن لأحد منهم ثم دخل أبو بكر وعمر من بعده فوجد النبي جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا فأراد أبو بكر أن يقول شيئا يسرّي عنه فقال: يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة!! سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك النبي وقال: هن حولي، كما ترى، يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر الى حفصة يجأ عنقها، ويقولان: تسألن رسال الله ما ليس عنده؟ فقلن: والله لا نسأل رسول الله شيئا ليس عنده، ثم اعتزلهن الرسول شهرا أو تسعة وعشرين يوما نزلت بعدها الآية التي فيها التخيير وهي «يا أيها النبي قل لأزواجك» الآية. فبدأ الرسول بعائشة فقال لها: يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك، قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية، قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، ثم خيّر نساءه كلهن فأجبن كما أجابت عائشة وقنعن بما هن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 فيه من معيشة كان كثير من زوجات المسلمين يظفرن بما هو أنعم منها فعلام يدل هذا؟ لو شاء النبي لأغدق عليهن النعمة ولأغرقهن بتهاويل الزينة وتعاجيب الحلي وأطايب اللذات، وهل هذا الصدوف عن ذلك فعل مستسلم للذات الحسية المتهالك على حب النساء؟ ولما بنى بأولى زوجاته- خديجة- لم تكن لذات الحسن هي التي سيطرت على هذا الزواج ولا الباعثة عليه لأنه نبى بها وهي في نحو الأربعين وهو في نحو الخامسة والعشرين ونيف على الخمسين وأوتي الفتح المبين وليس له من زوجة غيرها ولم تبدر عنه أية رغبة في الزواج بأخرى. قالت له عائشة مرة: هل كانت خديجة إلا عجوزا بدّلك الله خيرا منها فقال لها مغضبا: لا والله ما أبدلني الله خيرا منها: آمنت بي إذ كفر الناس وصدقت إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء. ولو كانت لذات الحسن هي التي سيطرت على زواج النبي بعد بعد وفاة خديجة لكان الأحجى بإرضاء هذه اللذات أن يجمع إليه تسعا من الفتيات الأبكار اللائي اشتهرن بفتنة الجمال في مكة والمدينة وشبه الجزيرة العربية فيسرعن إليه راضيات فخورات وأولياء أمورهن أرضى منهن وأفخر بهذه المصاهرة التي لا تسمو إليها مصاهرة، بيد أن محمدا لم يتزوج بكرا قط غير عائشة ولم يكن زواجه بها مقصودا في بداية الأمر حتى رغبته فيه خولة بنت حكيم التي عرضت عليه الزواج بعد وفاة خديجة. قالت عائشة: لما توفيت خديجة قالت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون للنبي: أي رسول الله ألا تتزوج؟ قال: من؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 قالت: إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا قال: فمن البكر؟ قالت: بنت أحبّ الناس إليك عائشة بنت أبي بكر قال: فمن الثيب؟ قالت: سودة بنت زمعة آمنت بك واتبعتك. ثم كانت سودة هي أولى النساء اللاتي بنى بهن بعد وفاة خديجة وكان زوجها الأول- ابن عمها- قد توفي بعد رجوعه من الهجرة الى الحبشة وكانت هي من أسبق النساء الى الإسلام فآمنت وهجرت أهلها ونجا بها زوجها الى الحبشة فرارا من إعنات المشركين له ولها فلما مات لم يبق لها إلا أن تعود الى أهلها فتصبأ وتؤذى أو تتزوج بغير كفء فضمها النبي إليه حماية لها وتأليفا لأعدائه من آلها وكان غير هذا الزواج أولى به لو نظر الى لذات حسن ومال الى متاع. وكان للنبي زوجة أخرى اتسمت بالوضاءة والحداثة والغضاضة وهي زينب بنت جحش ابنة عمته التي زوجها زيدا بن حارثة بأمره وعلى غير رضى منها لأنها أنفت- وهي ما هي في الحسب والقرابة الى رسول الله- من أن يتزوجها غلام عتيق، هذه أيضا لم يكن للذات الحسن سلطان في بناء النبي بها بعد تطليق زيد إياها وتعذر التوفيق بينهما وستأتي قصتها كاملة مدعومة بالتحليل التام لها. أما سائر زوجاته فما من واحدة منهن إلا كان لزواجه بهن سبب من المصلحة العامة. إجمال أسماء زوجاته: قال ابن الكلبي: إن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج خمس عشرة امرأة ودخل بثلاث عشرة وجمع بين احدى عشرة وتوفي عن تسع فأولهن خديجة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 بنت خويلدو كانت قبله تحت عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ومات عنها وتزوجها بعده أبو هالة بن زرارة بن النباش التميمي فولدت له هند ثم مات عنها وتزوجها بعده النبي فولدت له ثمانية: القاسم والطيب والطاهر وعبد الله وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة. فأما الذكور فماتوا وهم صغار وأما الإناث فبلغن ونكحن وولدن ولم يتزوج على خديجة أحدا وكان موتها قبل الهجرة بثلاث سنين، ثم بعدها سودة بنت زمعة وقيل عائشة وكانت بنت ست سنين فدخل بها في المدينة وهي ابنة تسع ومات عنها وهي ابنة ثماني عشرة وماتت سنة ثمان وخمسين، وأما سودة فكانت امرأة ثيبا وكانت قبله عند السكران بن عمرو بن عبد شمس ومات عنها فخلف عليها رسول الله ودخل بها بمكة، ثم تزوج بعدها حفصة بنت عمر بن الخطاب وكانت قبله تحت خنيس بن حذافة السهمي وكان بدريا وماتت بالمدينة في خلافة عثمان، ثم تزوج بعدها أم سلمة ابنة أبي أمية المخزومية وكانت قبله تحت أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي شهد بدرا وأصابته جراحة يوم أحد فمات عنها فتزوجها رسول الله قبل الأحزاب، ثم تزوج زينب بنت خزيمة من بني عامر بن صعصعة ويقال لها أم المساكين وتوفيت في حياته ولم يمت غيرها وغير خديجة في حياته وكانت زينب قبله تحت الطفيل بن الحارث بن عبد المطلب، ثم تزوج جورية ابنة الحارث بن أبي ضرار الخزاعية من بني المصطلق وكانت تحت مالك بن صفوان، ثم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب وكانت قبله تحت عبد الله بن جحش وكان من مهاجرة الحبشة فتنصر ومات بها فأرسل رسول الله الى النجاشي فخطبها عليه وتزوجها وهي بالحبشة وساق النجاشي المهر لها عن رسول الله وماتت في خلافة أخيها معاوية، ثم تزوج زينب بنت جحش (وستأتي قصتها) ثم تزوج عام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 خيبر صفية بنت حيي بن أخطب، ثم تزوج ميمونة ابنة الحارث الهلالية وكانت قبله تحت عمير بن عمرو الثقفي فمات عنها وخلف عليها أبو زهير بن عبد العزى ثم رسول الله وهي خالة ابن عباس وخالد بن الوليد، ثم تزوج امرأة من بني كليب يقال لها شاة بنت رفاعة وقيل سنا بنت الصلت وقيل ابنة الصلت بن حبيب توفيت قبل أن يدخل بها وقيل الشنباء دخل بها ومات ابنه ابراهيم فقالت لو كان نبيا ما مات ولده فطلقها، ثم تزوج غزية بنت جابر الكلابية، قال ابن الكلبي: غزية هي أم شريك فلما قدمت على النبي وأراد أن يخلو بها استعاذت منه فردها، ثم تزوج العالية ابنة ظبيان فجمعها ثم فارقها، ثم تزوج قتيلة ابنة قيس أخت الأشعث فتوفي عنها قبل أن يدخل بها فارتدت، ثم تزوج فاطمة ابنة الضحاك وقيل تزوج خولة ابنة الهذيل بن هبيرة، وليلى ابنة الحطيم عرضت نفسها عليه فتزوجها وفارقها. قال ابن الكلبي: أما من خطب النبي من النساء ولم ينكحها فأم هانىء بنت أبي طالب خطبها ولم يتزوجها وضباعة ابنة عامر من بني قشير وصفية بنت بشامة الأعور العنبري وأم حبيبة ابنة عمه العباس فوجد العباس أخا له من الرضاعة فتركها وجمرة ابنة الحارث ابن أبي حارثة خطبها فقال أبوها بها سوء ولم يكن بها وجع فرجع إليها فوجدها قد برصت. وأما سرارية فمارية ابنة شمعون القطبية ولدت له ابراهيم وريحانة ابنة زيد القرظية وقيل هي من بني النضير وأخرى وهبتها له زينب بنت جحش واسمها نفيسة والرابعة أصابها في بعض السبي ولم يعرف اسمها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 وفي المواهب رواية أخرى تختلف فيها الأسماء بعض الاختلاف ويطول بنا القول لو نقلناها فليرجع إليها من يشاء. وكان إعزاز من ذلوا بعد عزة سنة النبي في معاملة جميع الناس ولا سيما النساء اللاتي تنكسر قلوبهن في الذل بعد فقد الحماة والأقربين، ولهذا خيّر صفية الإسرائيلية سيدة بني قريظة بين أن يلحقها بأهلها وأن يعتقها ويتزوج بها فاختارت الزواج منه. هذا وتتكشف لنا مراجعة الحياة الزوجية لمحمد عليه الصلاة والسلام عن أسباب حفزته الى الزواج بهن واستجماع لهذا العدد منهن ولا حرج على رجل قويم الفطرة أن يلتمس المتعة في زواجه، ولكن الواقع أن المتعة لم تكن قط مقدّمة في الاعتبار عند نظر النبي في اختيار واحدة من زوجاته قبل الدعوة أو بعدها أو بعد تجاوز الكهولة وانما كان الاختيار كله على حسب حاجتهن إلى الإيواء الشريف أو على حسب المصلحة الكبرى التي تقضي باتصال الرحم بينه وبين سادات العرب وأساطين الجزيرة من أصدقائه وأعدائه لا استثناء في هذه الخصلة لزوجة واحدة بين جميع زوجاته حتى التي بنى بها فتاة بكرا موسومة بالجمال وهي السيدة عائشة. 2- الجاهلية الأولى: اختلف الناس في الجاهلية الأولى وأصح ما قيل أنهما جاهليتان أولى وأخيرة فالأولى هي القديمة ويقال لها الجاهلية الجهلاء وهي تمتد الى أبعد الآماد والجاهلية الأخيرة تمتد من منتصف القرن الخامس الميلادي، وفي الجاهلية الأولى كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ فتمشي في منتصف الطريق تعرض نفسها على الرجال فنهين عن ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 [سورة الأحزاب (33) : الآيات 34 الى 37] وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) الإعراب: (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) الواو عاطفة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 17 واذكرن فعل أمر والنون فاعل وما مفعول به وجملة يتلى صلة ويتلى فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر يعود على ما وفي بيوتكن متعلقان بيتلى ومن آيات الله حال والحكمة عطف على آيات الله. (إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) ان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر يعود على الله ولطيفا خبرها الأول وخبيرا خبرها الثاني. (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) كلام مستأنف مسوق لخطاب النساء بما يخاطب به الرجال من شئون الهداية والتعليم السامية فقد قالت أزواج النبي إن الله ذكر الرجال في كتابه ولم يذكر النساء بخير فنزلت. وان واسمها وما بعدها عطف على الاسم الى قوله والذاكرات وليس فيها ما يستدعي التنبيه سوى قوله فروجهم فهو مفعول به للحافظين وكذلك قوله والذاكرين الله فلفظ الجلالة مفعول به للذاكرين وجملة أعد خبر إن والله فاعل أعد ولهم متعلقان بأعد وأجرا مفعول أعد وعظيما صفة. (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) الواو استئنافية والكلام مسوق للشروع في قصة عبد الله بن جحش وأخته زينب وزيد بن حارثة وسيأتي بحث مسهب عنها في باب الفوائد. وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولمؤمن خبر كان المقدم ولا مؤمنة عطف على لمؤمن وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وقضى الله ورسوله صلة والجواب محذوف يدل عليه النفي المتقدم ولك أن تجعل إذا للظرفية المحضة فتتعلق بالاستقرار الذي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 18 تعلق به خبر كان وأن يكون مصدر مؤول هو اسم كان ولهم خبر يكون المقدم والخيرة اسمها المؤخر وذكر يكون لأن المؤنث مجازي وقرىء بالتاء ومن أمرهم حال من الخيرة والخيرة مصدر تخير كالطيرة من تطير وجمع الضمير في أمرهم وفي لهم لوقوعهما في سياق النفي وقد تقدم أن النكرة إذا وقعت في سياق النفي دلت على العموم ليشمل كل مؤمن ومؤمنة كما غلب المذكر على المؤنث. (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً) الواو عاطفة ومن شرطية مبتدأ ويعص فعل الشرط مجزوم بحذف حرف العلة وفاعل يعص مستتر تقديره هو يعود على من ولفظ الجلالة مفعول به ورسوله عطف عليه والفاء رابطة للجواب لأنه اقترن بقد وضل فعل ماض وفاعله مستتر أيضا وضلالا مفعول مطلق ومبينا صفة. (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ) عطف على ما سبق وإذ ظرف لما مضى متعلق باذكر مقدرا وجملة تقول في محل جر بإضافة الظرف إليها وللذي متعلقان بتقول وجملة أنعم الله عليه صلة وأنعمت عليه عطف على الصلة وجملة أمسك مقول القول وعليك متعلقان بمحذوف حال كما قيل في اللام في سقيا لك وإما متعلقان بأمسك على حذف مضاف أي أمسك على نفسك وزوجك مفعول به واتق الله عطف على أمسك. (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) الواو واو الحال أو للعطف وفي نفسك متعلقان بتخفي وما مفعول به والله مبتدأ ومبديه خبر والجملة صلة ما. (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) الواو حالية أو عاطفة أيضا وتخشى الناس فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به والواو عاطفة أو حالية والله مبتدأ وأحق خبر وأن وما في حيزها مصدر مؤول في محل رفع بدل اشتمال من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 19 اسم الله وقد تقدم هذا الإعراب في سورة التوبة ونزيد هنا أنه يجوز أن يكون منصوبا بنزع الخافض متعلق بأحق واختار أبو البقاء وجها ثالثا وهو أن يكون أن تخشوه مبتدأ وأحق خبره مقدم عليه والجملة خبر عن اسم الله. (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها) الفاء استئنافية ولما ظرفية حينية أو رابطة متضمنة معنى الشرط وقضى زيد فعل وفاعل ومنها متعلقان بقضى ووطرا مفعول به وزوجناكها فعل ماض وفاعل والكاف مفعول به أول والهاء مفعول به ثان والجملة لا محل لها. وقضاء الوطر في اللغة بلوغ منتهى ما في النفس من الشيء. (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) اللام حرف جر للتعليل وكي حرف مصدري ويكون فعل مضارع منصوب بكي والمصدر المؤول في محل جر باللام والجار والمجرور متعلقان بزوجناكها على أنه تعليل للتزويج وعلى المؤمنين خبر يكون المقدم وحرج اسمها المؤخر وفي أزواج أدعيائهم صفة لحرج. (وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) كان واسمها وخبرها والجملة معترضة أو معطوفة على ما تقدم. الفوائد: وعدناك ببسط القول في قصة زواج زيد بن حارثة بزينب بنت جحش وبرا بالوعد ودحضا للأراجيف التي أثارها المتشككون والذين في قلوبهم مرض وهوى نقول: تقدم القول في ترجمة زيد بن حارثة وأن النبي صلى الله عليه وسلم زوجه زينب بنت جحش وكان قد خطبها عليه فكره عبد الله وزينب ذلك لظنهما قبل ذلك أن النبي خطبها لنفسه ثم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 20 رضيا فأنكحها إياه وساق عنه إليها مهرها ستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر كما يروى، فمن الجدير بالملاحظة أن زينب كانت بنت عمة النبي وربيت تحت نظره وشملها من عنايته ما يشمل البنت من والدها ولو كان للجمال سلطان على قلبه صلى الله عليه وسلم كما يزعم المتشككون لكان أقوى سلطانه عليه جمال البكر في روائه ونضرة جدته وقد كان يراها ولم يكن بينه وبينها حجاب ولا يخفى عليه شيء من محاسنها الظاهرة بيد أنه لم يرغبها لنفسه ورغبها لمولاه فكيف يستهويه جمالها ويصيبه سهم حبها بعد أن صارت زوجا لعبد أعتقه وأنعم عليه بالحرية؟ هذا ولم يعرف في الطبائع أن تغلب الشهوة على الإنسان حتى يعشق من هو قريب منه أو من عايشه في صغره، فكيف يسوغ لنا أن ندعي وجود هذه الشهوة في رجل عرف بالعفة والاستقامة طوال عمره وصوت الله يهتف في أذنه: «ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا» بل كيف يسمح لنفسه بالانزلاق الى هذه الوهدة السحيقة وهو يتهيأ لبث رسالة ونشر تعاليم دين جديد يتغاير مع مألوف قومه ويهدم ما ألفوه من عادات وترسموه من نظم وطقوس؟ الواقع أنه، صلى الله عليه وسلم، لم يبال بإباء زينب الاقتران بزيد ورغبتها عنه، وقد كان يعلم حق العلم، أن زواجا يقوم على التنافر أمر يفقد طبيعة الانسجام بين الزوجين التي لا بد منها ليسود الوئام بينهما وتستقر الحياة الزوجية على أوطد الدعائم، ولكنه أراد تنفيذ أمر الله في محو عادة جاهلية رديئة درج عليها العرب آنذاك وهي إعطاء الدعي جميع حقوق الابن واجراء جميع الاحكام المعتبرة للابن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 21 عليه وله حتى في الميراث وحرمة النسب وقد تقدم قوله تعالى بهذا الصدد ناعيا على العرب ما كانوا يدينون به: «ما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل» وليس أحد أجدر من النبي يختصه الله بهذا التكليف الذي يبطل تلك العادة ويحمل العرب على التقصي منها، فعمد بوحي منه تعالى الى خرق هذه العادة وإبطالها فأرغم زينب أن تتزوج بزيد وهو مولاه وصفيه تمهيدا لإقامة شرع جديد وتنفيذ حكم إلهي لا محيد عن تنفيذه، وبعد أن صارت زينب الى زيد لم يسلس قيادها ولم يلن إباؤها بل شمخت عليه وتعالت، وتعمدت إيلام قلب زوجها، بالتعالي عليه في النسب والحرية فاشتكى زيد ذلك إلى النبي المرة بعد المرة والنبي في خلقه السمح وسجاياه الطاهرة يهدهد من آلام زيد ويقول له «أمسك عليك زوجك واتق الله» إلى أن أتى أمر الله وغلب على ذلك كله فسمح لزيد بطلاقها بعد أن استحال جو البيت جحيما لا يطاق كما قال تعالى «لكيما يكون على المؤمنين من حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا» وأكد ذلك كما يأتي، بقوله: «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما» . وعلى هذا النحو يمكن القول بصورة جازمة أن الله تعالى ذكر نبيه بما وقع منه ليزيده تثبيتا على الحق وليدفع عنه ما حاك في صدور ضعاف العقول فقال: «وإذ تقول للذي أنعم الله عليه» بالإسلام «وأنعمت عليه» بالعتق والحرية والاصطفاء بالولاية والمحبة وتزويجه بنت عمتك وتعظه عند ما كان يشكو إليك من إيذاء زوجه: «أمسك عليك زوجك واتق الله» واخشه في أمرها فإن الطلاق يشينها وقد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 22 يؤذي قلبها وارع حق الله في نفسك أيضا فربما لا تجد بعدها خيرا منها، تقول ذلك وأنت تعلم أن الطلاق أمر لا بد منه لما ألهمك الله أن تمتثل أمره بنفسك لتكون أسوة حسنة لمن معك ولمن يأتي بعدك وإنما غلبك في ذلك الحياء وخشية أن يقولوا: تزوج محمد مطلقة متبناه فأنت في هذا «تخفي في نفسك ما الله مبديه» من الحكم الذي ألهمك «وتخشى الناس والله» الذي أمرك بذلك كله «أحق أن تخشاه» فكان عليك أن تمضي في الأمر من أول وهلة تعجيلا بتنفيذ كلمته وتقرير شرعه ثم زاده بيانا بقوله: «فلما قضى زيد منها وطرا» أي حاجة بالزواج «زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا» لترتفع الوحشة من نفوس المؤمنين ولا يجدوا في أنفسهم حرجا من أن يتزوجوا نساء كنّ من قبل زوجات لأدعيائهم «وكان أمر الله مفعولا» . هذا هو التعليل الصحيح، والتفسير القويم، لهذه القصة وأما ما رووه من أن النبي مرّ ببيت زيد وهو غائب فرأى زينب فوقع منها في قلبه شيء فقال: سبحان مقلب القلوب فسمعت زينب التسبيحة فنقلتها إلى زيد فوقع في قلبه أن يطلقها إلى آخر هذا الهراء الذي يترفع النبي عنه فقد فنده المحققون من العلماء وقال الإمام أبو بكر بن العربي: انه لا يصح وان الناقلين له المحتجين به على مزاعمهم في فهم الآية لم يقدروا مقام النبوة حق قدره، ولم تصب عقولهم من معنى الصحة كنهها، وأطال ابن العربي في ذلك إلى أن يقول: «فأما قولهم أن النبي صلى الله عليه وسلم رآها فوقعت في قلبه فباطل فإنه كان معها في كل وقت وموضع ولم يكن حينئذ حجاب فكيف تنشأ معه وينشأ معها ويلحظها في كل ساعة ولا تقع في قلبه إلا إذا كان لها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 23 زوج وقد وهبته نفسها وكرهت غيره فلم يخطر ذلك بباله، فكيف يتجدد هوى لم يكن؟ حاشا لذلك القلب المطهّر من هذه العلاقة الفاسدة وقد قال سبحانه «ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه» والنساء أفتن الزهرات وأنشر الرياحين؟ ولم يخالف هذا في المطلقات فكيف في المنكوحات المحبوسات» إلى أن يقول: «فإن قيل لأي معنى قال له: أمسك عليك زوجك وقد أخبره الله أنها زوجته؟ قلنا أراد أن يختبر منه ما لم يعلمه الله به من رغبته فيها أو رغبة عنها فأبدى له زيد من النفرة عنها والكراهة فيها ما لم يكن علمه منه في أمرها، فإن قيل كيف يأمره بإمساكها وقد علم أن الفراق لا بدّ منه وهذا تناقض؟ قلت: بل هو صحيح للمقاصد الصحيحة كإقامة الحجة ومعرفة العاقبة، ألا ترى أن الله يأمر العبد بالإيمان وقد علم أنه لا يؤمن فليس في مخالفة متعلق الأمر لمتعلق العلم ما يمنع من الأمر به عقلا وحكما وهذا من نفيس العلم فاقبلوه» . قال الترمذي الحكيم في نوادر الأصول: «إنما عتب الله عليه من أجل أنه قد أعلمه بأنه ستكون هذه من أزواجك فكيف قال بعد ذلك لزيد أمسك عليك زوجك وأخذتك خشية الناس أن يقولوا تزوج زوجة ابنه والله أحق أن تخشاه» . وقال النحاس: «قال بعض العلماء ليس هذا من النبي صلى الله عليه وسلم خطيئة، ألا ترى أنه لم يؤمر بالتوبة ولا بالاستغفار وقد يكون الشيء ليس بخطيئة إلا أن غيره أحسن منه وأخفى ذلك في نفسه خشية أن يفتتن به الناس» وروي عن علي بن الحسين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله إليه أن زيدا يطلق زينب وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها فلما شكا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 24 زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خلق زينب وانها لا تطيعه وأعلمه بأنه يريد طلاقها قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية: اتق الله في قولك وأمسك عليك زوجك وهذا هو الذي أخفي في نفسه وخشي رسول الله أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد وهو مولاه لو أمره بطلاقها فعاتبه الله على هذا القدر من أن خشي الناس في شيء قد أباحه الله تعالى وأعلمه أن الله أحق بالخشية» . وقال الأستاذ الإمام محمد عبده: «أما والله لولا ما أدخل الضعفاء والمدلسون من مثل هذه الرواية ما خطر ببال مطلع على الآية الكريمة شيء مما يرمون إليه فإن نصّ الآية ظاهر جليّ لا يحتمل معناه التأويل ولا يذهب إلى النفس منه إلا أن العتاب كان على التمهل في الأمر والتريث به وان الذي كان يخفيه في نفسه هو ذلك الأمر الإلهي الصادر إليه بأن يهدم تلك السعادة المتأصلة في نفوس العرب وأن يتناول المعول لهدمها بنفسه كما قدر له أن يهدم أصنامهم بيده لأول مرة عند فتح مكة وكما هو شأنه في جميع ما نهى عنه من عاداتهم وهذا الذي كان يخفيه في نفسه كان الله مبديه بأمره الذي أوحاه إليه في كتابه وبتزويجه زوجة من كانوا يدعونه ابنا له ولم يكن يمنعه من من إبداء ما أبدى الله إلا حياء الكريم وتؤدة الحليم مع العلم بأنه سيفعل لا محالة لكن مع معاونة الزمان» . [سورة الأحزاب (33) : الآيات 38 الى 40] ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 25 الإعراب: (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ) استئناف مسوق لنفي الحرج عنه صلى الله عليه وسلم في زواجه بزينب وهي امرأة زيد الذي تبناه وما نافية وكان فعل ماض ناقص وعلى النبي خبر كان المقدم ومن حرف جر زائد وحرج مجرور لفظا منصوب محلا على أنه اسم كان المؤخر وفيما صفة لحرج وجملة فرض الله صلة لما. (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً) سنة الله اسم موضوع موضع المصدر لأن السنة بمعنى الطريقة والسيرة وتأتي أيضا بمعنى الطبيعة والشريعة والوجه أو دائرته، وهذا ما جنح إليه الزمخشري في إعرابه واختار غيره أن يكون نصبا على المصدر أو على نزع الخافض أي كسنة الله في الأنبياء الذين من قبل وسيأتي مزيد من القول في هذا الصدد في باب الفوائد، وفي الذين متعلقان بمحذوف حال أي متبعة وجملة خلوا صلة الذين ومن قبل متعلقان بخلوا وكان أمر الله كان واسمها وقدرا خبرها ومقدورا صفة لازمة للتأكيد كيوم أيوم وليل أليل وظل ظليل. (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ) الذين لك أن تجعلها صفة للأنبياء أي في الأنبياء الذين خلوا من قبل والذين يبلغون رسالات الله ولك أن تقطعها فتعربها خبرا لمبتدأ محذوف أي هم الذين وجملة يبلغون صلة ورسالات الله مفعول يبلغون. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 26 (وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً) ويخشونه فعل مضارع وفاعل ومفعول به ولا نافية ويخشون فعل مضارع وفاعل وإلا أداة حصر ولفظ الجلالة مفعول يخشون وكفى فعل ماض والباء حرف جر زائد والله فاعل كفى محلا وحسيبا تمييز أو حال. (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) ما نافية وكان محمد كان واسمها وأبا أحد خبرها ومن رجالكم صفة لأحد (وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) الواو عاطفة ولكن حرف استدراك مهمل لأنه خفف، ورسول الله عطف على أبا أحد أو نصب على تقدير كان لدلالة كان السابقة عليها أي ولكن كان رسول الله، وخاتم النبيين عطف على رسول الله، والخاتم هو الطابع بفتح التاء وكسرها وكان واسمها وخبرها وبكل شيء متعلقان بعليما. البلاغة: في قوله «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم» الآية فن التلفيف، وفي محيط المحيط: التلفيف عند البلغاء هو التناسب وهو عبارة عن إخراج الكلام مخرج التعليم بحكم أو أدب لم يرد المتكلم ذكره وإنما قصد ذكر حكم داخل في عموم الحكم المذكور الذي صرح بتعليمه، وأوضح من هذا أن يقال انه جواب عام عن نوع من أنواع جنس تدعو الحاجة إلى بيانها كلها فيعدل المجيب عن الجواب الخاص عما سئل عنه من تبيين ذلك النوع الى جواب عام يتضمن الإبانة على الحكم المسئول عنه وعن غيره مما تدعو الحاجة الى بيانه فإن قوله: «ما كان محمد ... إلخ» جواب عن سؤال مقدر وهو قول قائل: أليس محمدا أبا زيد بن حارثة؟ فأتى الجواب يقول: ما كان محمد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 27 أبا أحد من رجالكم، وكان مقتضى الجواب أن يقول: ما كان محمد أبا زيد وكان يكفي أن يقول ذلك ولكنه عدل عنه ترشيحا للإخبار بأن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا يتم هذا الترشيح إلا بنفي أبوته لأحد من الرجال فإنه لا يكون خاتم النبيين إلا بشرط أن لا يكون له ولد قد بلغ فلا يرد أن له الطاهر والطيب والقاسم لأنهم لم يبلغوا مبلغ الرجال ثم احتاط لذلك بقوله من رجالكم فأضاف الرجال إليهم لا إليه فالتف المعنى الخاص في المعنى العام وأفاد نفي الأبوة الكلية لأحد من رجالهم وانطوى في ذلك نفي الأبوة لزيد ثم ان هناك تلفيفا آخر وهو قوله ولكن رسول الله فعدل عن لفظ نبي الى لفظة رسول لزيادة المدح لأن كل رسول نبي ولا عكس على أحد القولين فهذا تلفيف بعد تلفيف. الفوائد: المفعول المطلق والمصدر: المفعول المطلق هو الحاصل بالمصدر أي الأثر لا المصدر الذي هو التأثير فإطلاق المصدر على المفعول بضرب من المسامحة وعدم التمييز بين التأثير والأثر وإيضاح ذلك أن صيغ المصادر موضوعة للأثر الحاصل بتأثير الفاعل المسمى بلفظ المصدر كما أنها موضوعة لإيقاع ذلك الأثر وإلا يلزم التجوز في كل مفعول مطلق ولا سبيل إليه لوجود أمارة الحقيقة من تبادر معناه من غير حاجة الى القرينة وفي عدم التمييز بين التأثير والأثر وإن صرح به ابن سينا نظرا لأنهما من مقولتين مختلفتين فالأول من مقولة الفعل والثاني من مقولة الانفعال وقال بعض المحققين: الاتحاد أمر موجود لكن لا ينافي الاختلاف بحسب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 28 المفهوم فإن الضوء الحاصل من الشمس في البيت أمر موجود لكن إذا نسب الى الشمس يسمى اضاءة وإذا نسب الى البيت يسمى استضاءة. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 48] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً) كلام مستأنف مسوق لبيان أن الذكر ليس له حدود ينتهي إليها ويقف عندها إذ ما من عبادة إلا ولها حدود معلومة ورسوم مرسومة، ما عدا الذكر فانه يتجاوز حدود الزمان والمكان. واذكروا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وذكرا مفعول مطلق وكثيرا صفة. (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) فعل أمر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 29 وفاعل ومفعول به وبكرة ظرف لأول النهار متعلق بسبحوه، وأصيلا عطف على بكرة وهو ظرف لآخر النهار وسيأتي سر تخصيصهما وتخصيص التسبيح بالذكر في باب البلاغة. (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) تعليل لما تقدم من الأمر بالذكر والتسبيح وهو مبتدأ والذي خبره وجملة يصلي صلة الموصول وعليكم متعلقان بيصلي وملائكته عطف على الضمير المستكن في يصلي. (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) اللام للتعليل ويخرجكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والفاعل مستتر والكاف مفعول به والجار والمجرور متعلقان بيخرجكم وكان الواو اعتراضية وكان واسمها المستتر وبالمؤمنين متعلقان برحيما ورحيما خبرها والاعتراض بمثابة التقرير لمضمون ما تقدم. (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) استئناف مسوق لبيان ما أعد لهم في الآجلة، وتحيتهم مبتدأ والهاء مضاف لتحية من إضافة المصدر إلى مفعوله أي يحيون يوم لقائه بسلام والظرف متعلق بمحذوف حال وجملة يلقونه في محل جر باضافة الظرف إليها وسلام خبر تحيته والواو استئنافية وأعد فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله ولهم متعلقان بأعد وأجرا مفعول به وكريما صفة. (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) ان واسمها وجملة أرسلناك خبرها وشاهدا حال مقدرة وسيأتي ذكر الحال المقدرة وسرها في باب الفوائد ومبشرا ونذيرا عطف على شاهدا. (وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) وداعيا عطف أيضا على شاهدا والى الله متعلقان بداعيا وبإذنه حال وسيأتي سر هذه الاستعارة في باب البلاغة. وسراجا منيرا عطف أيضا والكلام تشبيه بليغ سيأتي حكمه في باب البلاغة (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً) عطف على ما تقدم وبشر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 30 فعل أمر والمؤمنين مفعول به وبأن متعلقان ببشر ولهم خبر أن ومن الله حال وفضلا اسم إن المؤخر وكبيرا صفة لفضلا. (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ) عطف على ما تقدم ولا ناهية وتطع فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت والكافرين مفعول به والمنافقين عطف على الكافرين ودع أذاهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به من باب إضافة المصدر الى فاعله أو مفعوله فيكون المعنى على الأول دع أذيتهم إياك من غير مجازاة وعلى الثاني دع ما آذوك ولا تؤاخذهم حتى تؤمر بذلك وقد جاء الأمر بعد ذلك بالقتال (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) عطف على ما تقدم وعلى الله متعلقان بتوكل وكفى فعل ماض والباء زائدة والله فاعل كفى محلا ووكيلا تمييز أو حال وقد تقدم نظيره. البلاغة: التخصيص: خص البكرة والأصيل في قوله «وسبحوه بكرة وأصيلا» بالذكر لإظهار فضلهما والتنويه بهما لأن العبادة فيهما آكد على الإنسان كما خص التسبيح وهو من أنواع الذكر ليبين فضله على سائر الأذكار، روى الترمذي في خطابه صلى الله عليه وسلم لجويرية أم المؤمنين: «ألا أعلمك كلمات تقولينها: سبحان الله عدد خلقه، ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته» قال الجلال السيوطي في التعليق على هذا الحديث: «سئلت قديما عن إعراب هذه الألفاظ ووجه النصب فيها فأجبت بأنها منصوبة على الظرف بتقدير قدر» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 31 وقد نص سيبويه على أن من المصادر التي تنصب على الظرف قولهم زنة الجبال ووزن الجبل وقد صنف الجلال السيوطي كتابا لطيفا سماه «رفع السنة عن نصب الزنة» وقيل بل يعربان نصبا على المصدرية وعليها فقدره بعضهم أعد تسبيحه بعدد خلقه وقدره آخرون: سبحته تسبيحا يساوي خلقه عند التعداد، قال ابن حجر في المشكاة: «والأول أوضح» وأعربه آخرون نصبا بنزع الخافض. هذا وللنووي كتاب لطيف في الأذكار اسمه: «الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار» فارجع إليه. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 49 الى 52] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 32 الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ) إذا ظرف مستقبل وجملة نكحتم المؤمنات في محل جر بإضافة الظرف إليها وسيأتي معنى نكحتم المؤمنات في باب البلاغة. (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) ثم حرف عطف وتراخ وطلقتموهن فعل وفاعل ومفعول به والميم علامة جمع الذكور والواو لإشباع الضمة ومن قبل متعلقان بطلقتموهن وأن تمسوهن المصدر المؤول مضاف لقبل ولمراد بالمس الجماع والفاء رابطة لجواب إذا وما نافية ولكم خبر مقدم وعليهن متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لعدة ومن حرف جر زائد وعدة مجرور لفظا مبتدأ محلا وجملة تعتدونها صفة لعدة وتعتدونها من العدد أي تستوفون عددها من قولك عد الدراهم فاعتدها. (فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا) الفاء الفصيحة ومتعوهن فعل أمر وفاعل ومفعول به وسرحوهن عطف على متعوهن وسراحا جميلا مفعول مطلق، وأحكام التمتيع مبسوطة في كتب الفقه فليرجع إليها من شاء هناك. والسراح الجميل الذي لا ضرر فيه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 33 (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) كلام مستأنف مسوق لاختصاص النبي بالأطيب الأزكى بعد أن خيّر نساءه فاخترنه. وان واسمها وجملة أحللنا خبرها ولك متعلقان بأحللنا وأزواجك مفعول به واللاتي صفة وجملة آتيت صلة وأجورهن أي مهورهن مفعول به. (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ) وما عطف على أزواجك وجملة ملكت صلة ويمينك فاعل ملكت ومما حال مبينة لما ملكت وأفاء الله فعل وفاعل والفيء الغنيمة وعليك متعلقان بأفاء وسيأتي ما يزيد ذلك وضوحا في باب الفوائد. (وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) عطف على ما تقدم واللاتي صفة وجملة هاجرن صلة ومعك ظرف متعلق بهاجرن وخص هؤلاء بالذكر تشريفا لهن كما قال تعالى: «فيهما فاكهة ونخل ورمان» (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) وامرأة معطوف على مفعول أحللنا أي وأحللنا لك امرأة وهبت نفسها لك بغير صداق اما غير المؤمنة فلا تحل له إذا وهبت نفسها منه، وإن شرطية ووهبت فعل الشرط ونفسها مفعول به وللنبي متعلقان بوهبت وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي أحللنا وإن شرطية مقيدة للأولى وأراد فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والنبي فاعل وأن يستنكحها مصدر مؤول مفعول أراد. والاستنكاح مثل النكاح يقال نكحها واستنكحها قال النابغة: وهم قتلوا الطائي بالحجر عنوة ... أبا جابر واستنكحوا أم جابر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 34 وهو في اللغة بمعنى الضم والجمع ومنه تناكحت الأشجار إذا تمايلت وانضم بعضها الى بعض. قال عمر بن أبي ربيعة: واستنكح النوم الذين نخافهم ... ورمى الكرى بوّابهم فتجدلا والجملة الشرطية الثانية في محل نصب حال لأن الحال قيد فإن هبتها نفسها منه لا توجب له حلها إلا بإرادته نكاحها نكاحها كأنه قال: أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها لأن إرادته هي قبول وما به تتم. (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) مصدر مؤكد لفعل محذوف أي خلصت لك خالصة وقد ورد المصدر على هذه الزنة كالعاقبة والكاذبة، وفاعل المصدر مستتر تقديره النكاح بلفظ الهبة وأل عوض عن الضمير المحذوف أي خالصا لك نكاحها وعلى هذا الوجه اقتصر الزمخشري، واختار الزجاج وأبو البقاء أن تكون حالا من امرأة لأنها وضعت فتخصصت جريا على القاعدة المشهورة وقيل حال من فاعل وهبت أي حال كونها خالصة لك دون غيرك ولا يبعد أن تكون نعت مصدر مقدر أي هبة خالصة، ولك متعلقان بخالصة ومن دون المؤمنين حال. (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) الجملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها وقد حرف تحقيق وعلمنا فعل وفاعل وما مفعول علمنا وجملة فرضنا صلة وعليهم متعلقان بفرضنا وفي أزواجهم حال وما عطف على أزواجهم وجملة ملكت أيمانهم صلة، ومعنى هذه الجملة الاعتراضية أن الله قد علم ما يجب فرضه على المؤمنين في الأزواج والإماء وعلى أي حد وصفة يجب أن يكون ففرضه كما علم اختصاص رسوله بما تتوفر فيه المصلحة فاختصه بذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 35 (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) لكيلا متعلقان بأحللنا أو بخالصة باعتبار ما فيه من معنى ثبوت الإحلال وحصوله له وعليك خبر يكون المقدم وحرج اسمها المؤخر وكان واسمها وخبراها. (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) كلام مستأنف للشروع في بيان حكم معاشرته لنسائه بعد بيان حلهن له. وترجي أي تؤخر فعل مضارع مرفوع وقرىء بالهمزة أي ترجىء والفاعل مستتر تقديره أنت ومن تشاء مفعول به ومنهن حال وتؤوي أي تضم عطف على ترجىء وإليك متعلقان بتؤوي ومن تشاء مفعوله أي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخيّرا في أزواجه. (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) الواو استئنافية ومن يجوز أن تكون موصولة فهي في محل رفع مبتدأ وجملة ابتغيت صلة والعائد محذوف والفاء رابطة لما تقدم من أن في الموصول رائحة الشرط وجملة لا جناح عليك خبر من ويجوز أن تكون شرطية فهي في محل نصب مفعول مقدم لابتغيت وقوله فلا جناح عليك جوابها ولا نافية للجنس وجناح اسمها وعليك خبرها. (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ) ذلك مبتدأ والاشارة الى التخيير والتفويض الى مشيئته صلى الله عليه وسلم وأدنى خبر وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي الى أن تقرّ وهو متعلق بأدنى وأعينهن فاعل تقر ولا يحزن عطف على تقر أي وأقرب الى قلة حزنهن وأقرب الى رضائهن جميعا لتسويته بينهن في الإيواء والإرجاء والعزل والابتغاء فلم يكن بينهن ثمة تفاضل وتمايز. (وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً) ويرضين عطف على ما تقدم وبما متعلقان بيرضين وجملة آتيتهن صلة وكلهن تأكيد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 36 للنون في يرضين والله مبتدأ وجملة يعلم خبر وما مفعول يعلم وفي قلوبكم متعلقان بمحذوف صلة ما أي استقر في قلوبكم وكان واسمها وخبراها. (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) كلام مستأنف مسوق لتبيان ما يحل له ولا نافية ويحل فعل مضارع مرفوع وبك متعلقان بيحل والنساء فاعل، ومن بعد حال وبني بعد على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى والمعنى من بعد التسع المجتمعات في عصمتك وهن نصابه كما أن الأربع نصاب أمته، والواو عاطفة ولا نافية وأن تبدل مصدر مؤول معطوف على النساء ونائب فاعل تبدل مستتر تقديره أنت وبهن متعلقان بتبدل ومن حرف جر زائد وأزواج مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به، قال ابن زيد: هذا شيء كانت العرب تفعله يقول أحدهم: خذ زوجتي وأعطني زوجتك. (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) الواو للحال والجملة حالية من الضمير في تبدل أي مفروضا إعجابك بهن، ولو شرطية وأعجبك حسنهن فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر، قال ابن عطية: «وفي هذا اللفظ أعجبك حسنهن دليل على جواز أن ينظر الرجل الى من يريد زواجها» وإلا ما ملكت يمينك: في هذا الاستثناء وجهان أحدهما انه مستثنى من النساء فيجوز فيه وجهان النصب على الاستثناء والرفع على البدلية وهو الأرجح والثاني انه مستثنى من أزواج فيجوز فيه النصب على الاستثناء والجر على البدلية منهن على اللفظ أو النصب على المحل وجملة ملكت يمينك صلة ما وكان واسمها وخبرها وعلى كل شيء متعلقان برقيبا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 37 البلاغة: في قوله «يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ... إلخ» تسمية العقد نكاحا مجاز مرسل علاقته الملابسة من حيث أنه طريق إليه ونظيره تسميتهم الخمر إثما لأنها سبب في مقارفة الاسم. وفي قوله تمسوهن كناية عن الوطء ومن آداب القرآن الكناية عن الوطء بلفظ الملامسة والمماسة والقربان والتغشي والإتيان. وفي قوله «إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين» الالتفات من الغيبة الى الخطاب وقد تقدم بحث الالتفات مفصلا في أكثر من موضع، والسر في الالتفات هنا أنه رجوع الى أصل الكلام فقد صدر الكلام بمخاطبة النبي بقوله: يا أيها النبي إنا أحللنا لك إلخ ثم عدل عن الخطاب الى الغيبة في قوله إن أراد النبي أن يستنكحها للإيذان بأنه مما خص به وأوثر وأن هذا الاختصاص تكرمة له من أجل النبوة. وهذا من أسرار البيان فتنبه له. الفوائد: في قوله «لا يحل لك النساء من بعد» قلنا في باب الإعراب أن الظرف بني على الضم لانقطاعه عن الإضافة لفظا لا معنى، وأراد من بعد التسع اللواتي اخترنك واللواتي توفي عنهن وهن عائشة بنت أبي بكر الصديق وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية وصفية بنت حيي بنت أخطب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 38 الخيبرية وميمونة بنت الحارث الهلالية وزينب بنت جحش الأسدية وجورية بنت الحارث الصطلقية، رضي الله عنهن والمعنى أن التسع في حقه كالأربع في حقنا. [سورة الأحزاب (33) : آية 53] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) اللغة: (إِناهُ) بكسر الهمزة وفتحها حلول الوقت والنضج وهو مصدر أنى يأني أي مصدر سماعي لأنه من باب رمى وقياس مصدره أني كرمي ولكنه لم يسمع ولكن المسموع إنى بالكسر والقصر بوزن رضا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 39 الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان ما يجب على الناس من رعاية حقوق نساء النبي. ولا ناهية وتدخلوا فعل مضارع مجزوم بلا وبيوت النبي مفعول به على السعة. (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) إلا أداة حصر وأن يؤذن المصدر استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلا حال كونكم مأذونا لكم، واختار الزمخشري أن يكون استثناء مفرغا من أعم الظروف أي لا يدخلوها في وقت من الأوقات إلا وقت أن يؤذن لكم وليس اختياره ببعيد. ويؤذن فعل مضارع مبني للمجهول ولكم متعلقان بيؤذن وكذلك قوله إلى طعام لتضمن يؤذن معنى الدعاء واختار السمين أيضا أن يكون المصدر في موضع نصب بنزع الخافض أي إلا بسبب الإذن لكم وتكون الباء للسببية، وغير ناظرين حال من لا تدخلوا وقع الاستثناء على الظرف والحال معا كأنه قيل لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن ولا تدخلوها إلا غير ناظرين، وإناه أي نضجه فهو مفعول به لناظرين وهم قوم كانوا يتحينون طعام رسول الله فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه. (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) الواو عاطفة ولكن حرف استدراك مخفف مهمل وإذا ظرف مستقبل وجملة دعيتم في محل جر بإضافة الظرف إليها، فادخلوا الفاء رابطة وادخلوا فعل أمر وفاعل، فإذا الفاء عاطفة وجملة طعمتم مضاف إليها الظرف، فانتشروا جواب إذا، ولا مستأنسين الواو عاطفة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 40 ولا نافية ومستأنسين معطوف على غير ناظرين وقيل هو معطوف على حال مقدرة أي لا تدخلوها هاجمين ولا مستأنسين واختار الزمخشري وغيره انه مجرور عطفا على ناظرين، ولحديث متعلقان بمستأنسين فاللام للعلة أي مستأنسين لأجل أن يحدث بعضكم بعضا ويجوز أن تكون لتقوية العامل أي ولا مستأنسين حديث أهل البيت وغيرهم. (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) الجملة تعليل للنهي وإنّ حرف مشبه بالفعل وذلكم اسمها وجملة كان يؤذي النبي خبرها والاشارة الى المكث واللبث وجملة يؤذي النبي خبر كان، فيستحيي عطف على يؤذي ومنكم متعلقان به ولا بد من تقدير مضاف أي من إخراجكم والواو حالية أو استئنافية والله مبتدأ وجملة لا يستحيي من الحق خبره والمراد بالحق الإخراج وسيأتي معنى هذا المثل في باب البلاغة. (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) الواو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة سألتموهن في محل جر بإضافة الظرف إليها فاسألوهن الفاء رابطة واسألوهن فعل أمر وفاعل ومفعول به ومتاعا مفعول به ثان لسأل ومن وراء حجاب متعلقان باسألوهن. (ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) اسم الاشارة مبتدأ أي ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن وعدم الاستئناس للحديث وسؤال المتاع من وراء حجاب، وأطهر خبر ولقلوبكم متعلقان بأطهر وقلوبهن عطف على قلوبكم. (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) الواو استئنافية وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولكم خبرها المقدم وان وما في حيزها مصدر مؤول في محل رفع اسمها المؤخر ورسول الله مفعول به ولا أن تنكحوا عطف على أن تؤذوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 41 وأزواجه مفعول به ومن بعده حال وأبدا ظرف. (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً) إن واسمها والاشارة الى ما ذكر من إيذائه ونكاح أزواجه من بعده وجملة كان خبر إن واسم كان مستتر وعظيما خبر وعند الله متعلق بمحذوف حال. البلاغة: المجاز في قوله «والله لا يستحيي من الحق» وعلاقة هذا المجاز السببية لأن من استحيا من شيء تركه عادة والكلام جار مجرى المثل ليكون تأديبا يتعظ به الثقلاء، وما أجمل قول عائشة: «حسبك في الثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم» . [سورة الأحزاب (33) : الآيات 54 الى 56] إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) الإعراب: (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) إن شرطية وتبدوا فعل الشرط والواو فاعل وشيئا مفعول به، أو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 42 تخفوه عطف على تبدوا وهو فعل وفاعل ومفعول به، فإن الله الفاء رابطة لجواب الشرط وان واسمها وجملة كان خبرها وبكل شيء متعلقان بعليما وعليما خبر كان. (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ) لا نافية للجنس وجناح اسم لا وعليهن خبرها وفي آبائهن حال أي لا إثم عليهن في أن لا يحتجبن من هؤلاء (وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) عطف على ما تقدم ومعنى قوله ولا نسائهن أي ولا جناح على زوجات النبي في عدم الاحتجاب عن نسائهن أي النساء المسلمات. (وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) الواو عاطفة واتقين فعل أمر معطوف على محذوف أي امتثلن ما أمرتن به، واتقين الله على طريق الالتفات من الغيبة الى الخطاب وسيأتي سر هذا الالتفات في باب البلاغة، ونون النسوة ولفظ الجلالة مفعول به وإن واسمها وجملة كان واسمها المستتر وخبرها في محل رفع خبر ان. (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) كلام مستأنف مسوق لتشريفه صلى الله عليه وسلم حيا وميتا. وان واسمها وملائكته عطف على الله وجملة يصلون على النبي خبر إن. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) تسليما مصدر مؤكد [سورة الأحزاب (33) : الآيات 57 الى 59] إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 43 اللغة: (جَلَابِيبِهِنَّ) : الجلابيب: الملاحف والواحد جلبات، قالت امرأة من هذيل ترثي قتيلا: تمشي النسور إليه وهي لاهية ... مشي العذارى عليهن الجلابيب وقال أبو الطيب: من الجآذر في زي الأعاريب ... حمر الحلي والمطايا والجلابيب وفي القاموس وغيره: «الجلباب والجلباب بتشديد الباء الأولى وهو القميص أو الثوب الواسع» وفي الكشاف: «الجلباب ثوب واسع أوسع من الخمار ودون الرداء تلويه المرأة على رأسها وتبقي منه ما ترسله على صدرها» . الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) إن واسمها وجملة يؤذون الله ورسوله صلة ومعنى إيذاء الله ورسوله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 44 فعل ما يسخطهما وجملة لعنهم الله خبر إن وفي الدنيا والآخرة متعلقان بلعنهم. (وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) عطف على جملة الخبر وعذابا مفعول أعد ولهم متعلقان بأعد. (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) الذين مبتدأ وجملة يؤذون المؤمنين والمؤمنات صلة وبغير متعلقان بيؤذون وما موصولة أو مصدرية وعلى كل فهي أو المصدر مضافان الى غير. (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) الفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وقد حرف تحقيق واحتملوا فعل وفاعل والجملة خبر الذين وبهتانا مفعول احتملوا وإثما عطف على بهتانا ومبينا صفة. (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ) كلام مستأنف مسوق لأمر المستهدفات للأذى بفعل ما يبعد الأذى عنهن من التستر. ولأزواجك متعلقان بقل وما بعده عطف عليه. (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) جملة يدنين مقول القول محذوف يدل عليه جوابه أي قل لهن أرنيه ويحتمل أن يكون مجزوما بجواب الأمر وجوزوا أن يكون يدنين بمعنى ليدنين فهو مجزوم بلام الأمر ويكون هذا اهو المقول وقد تقدم في الرعد بحث نظيره مفصلا فارجع اليه. وعليهن حال ومن جلابيبهن متعلقان بيدنين على أنه مفعوله، قال الزمخشري: «فإن قلت: ما معنى من في جلابيبهن قلت هو للتبعيض إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين أحدهما أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب والمراد أن لا تكون الحرة مبتذلة في درع وخمار كالأمة والماهنة ولها جلبابان فصاعدا في بيتها والثاني أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها تتقنع حتى تتميز من الأمة» وقوله الماهنة مؤنث الماهن وهو الخادم. وذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 45 مبتدأ وأدنى خبر وأن يعرفن المصدر المؤول نصب بنزع الخافض أي أقرب إلى أن يعرفن والفاء عاطفة ولا نافية ويعرفن فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة وهو معطوف على أن يعرفن. (وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) الواو عاطفة وكان واسمها وخبراها. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 الى 63] لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) اللغة: (الْمُرْجِفُونَ) : قال في الأساس: «وأرجفوا في المدينة بكذا إذا أخبروا به على أن يوقعوا في الناس الاضطراب من غير أن يصح عندهم. وهذا من أراجيف الغواة والإرجاف مقدمة الكون، وتقول: إذا وقعت المخاويف كثرت الأراجيف» وجاء في غيره ما نصه: «أرجف: خاص في الأخبار السيئة والفتن قصد أن يهيج الناس، وأرجف القوم بالشيء وفيه: خاضوا فيه، وأرجفت الريح الشجر: حركته، وأرجفت الأرض بالبناء للمجهول: زلزلت، وأصل الإرجاف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 46 التحريك مأخوذ من الرجفة وهي الزلزلة ووصفت به الأخبار الكاذبة لكونها متزلزلة غير ثابتة» . وسمي البحر رجافا لاضطرابه، ومنه قول الشاعر: المطعون اللحم كلّ عشية ... حتى تغيب الشمس في الرّجاف (مَلْعُونِينَ) : قال في الأساس واللسان: «لعنه أهله: طردوه وأبعدوه وهو لعين طريد وقد لعن الله إبليس: طرده من الجنة وأبعده من جوار الملائكة، ولعنت الكلب والذئب: طردتهما ويقال للذئب: اللعين ولعنّه وهو ملعّن: مكثّر لعنه، وتلاعن القوم وتلعّنوا والتعنوا والتعن فلان: لعن نفسه ورجل لعنة ولعنة كضحكة وضحكة، ولا تكن لعّانا: طعّانا، ولاعن امرأته ولا عن القاضي بينهما، ووقع بينهما اللعان وتلاعنا والتعنا، ومن المجاز: أبيت اللعن وهي تحية الملوك في الجاهلية أي لا فعلت ما يستوجب به اللعن وفلان ملعّن القدر، قال زهير: ومرهّق النيران يحمد في اللأ ... واء غير ملعّن القدر ونصب اللعين في مزرعته وهو الفزّاعة، والشجرة الملعونة: كل من ذاقها لعنها وكرهها» . (ثُقِفُوا) : وجدوا وأدركوا وفي الأساس: «وطلبناه فثقفناه في مكان كذا أي أدركناه وثقفت العلم أو الصناعة في أوحى مدة: إذا أسرعت أخذه وغلام ثقف لقف وثقف لقف وقد ثقف ثقافة وثاقفة مثاقفة: لاعبه بالسلاح وهي محاولة أخذ الغرّة في المسايفة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 47 وغيرها وفلان من أهل المثاقفة وهو مثاقف: حسن الثّقافة بالسيف بالكسر ولقد تثاقفوا فكان فلان أثقفهم، وخلّ ثقيف وثقّيف وفي كتاب العين: ثقيف وقد ثقف ثقافة ومن المجاز: أدّبه وثقّفه ولولا تثقيفك وتوقيفك لما كنت شيئا وهل تهذبت وتثقفت إلا على يدك» وعبارة القاموس: «ثقف ككرم وفرح ثقفا وثقفا وثقافة صار حاذقا خفيفا فطنا فهو ثقف كحبر وكتف وأمير» . الإعراب: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) اللام موطئة للقسم وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وينته فعل مضارع مجزوم بلم وهو بمثابة فعل الشرط والمنافقون فاعله والذين عطف على المنافقون وفي قلوبهم خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صلة الموصول. (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) والمرجفون عطف أيضا فاستوفى به الأوصاف الثلاثة لشيء واحد فقد كانوا اقساما ثلاثة فمنهم المنافقون وأهل الفجور مرضى القلوب والمرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله أو هو عام في كل إرجاف وتأليف لأخبار السوء. وفي المدينة متعلقان بالمرجفون واللام واقعة في جواب القسم وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم ونغرينك فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به وبهم متعلقان بنغرينك. (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وإنما أوثر حرف العطف الدال على التراخي لأن الجلاء عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 48 الأوطان كان أعظم عليهم من جميع ما أصيبوا فتراخت حاله عن حال المعطوف عليه، وفيه إشارة الى أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعي يمهل ريثما ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان حتى يتحصل له منزل آخر على حسب الاجتهاد. ولا نافية ويجاورونك فعل مضارع معطوف على نغرينك فهو مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعله والكاف مفعوله وفيها متعلقان بمحذوف حال وإلا أداة حصر وقليلا ظرف زمان متعلق بيجاورونك أو مصدر- أي إلا جوارا- أي زمنا قليلا ريثما يرتحلون ويلتقطون أنفسهم وعيالاتهم. (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا) ملعونين حال من مقدر حذف هو وعامله أي ثم يخرجون أو من فاعل يجاورونك وقد دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معا كما في قوله «إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه» وقال الزمخشري: «ولا يصح أن ينتصب عن أخذوا لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها وقيل في قليلا هو منصوب على الحال أيضا ومعناه لا يجاورونك إلا أقلاء أذلاء ملعونين» وأجاز الكسائي والفراء أن ينتصب عن أخذوا لأنهما يجيزان تقديم معمول الجواب على أداة الشرط نحو: خيرا إن تأتيني تصب. وأينما اسم شرط جازم في محل نصب على الظرفية المكانية وهو متعلق بأخذوا أي بجوابه وثقفوا فعل ماض مبني للمجهول وهو في محل جزم فعل الشرط وأخذوا فعل ماض مبني للمجهول أيضا وهو جواب الشرط وقتلوا فعل ماض مبني للمجهول وتقتيلا مفعول مطلق. (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) سنة الله في موضع نصب على المصدرية أي أنه مصدر مؤكد أي سن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 49 الله في الذين ينافقون أن يقتلوا حيثما ثقفوا، وفي الذين حال وجملة خلوا صلة ومن قبل متعلقان بخلوا ولن الواو عاطفة ولك أن تجعلها حالية ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتجد فعل مضارع منصوب بلن ولسنة الله متعلقان بتبديلا وتبديلا مفعول به. (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) كلام مستأنف مسوق لحكاية حال المستهزئين من المشركين واليهود الذين كانوا يسألون النبي عن الساعة استعجالا بطريق الاستهزاء. ويسألك فعل مضارع ومفعول به مقدم والناس فاعل وعن الساعة متعلقان بيسألك. (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ) إنما كافة ومكفوفة وعلمها مبتدأ وعند الله ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر. (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) الواو عاطفة وما اسم استفهام للانكار مبتدأ وجملة يدريك خبره ولعل واسمها وجملة تكون خبرها والجملة معلقة بالاستفهام فهي في محل نصب مفعول ثان وقريبا خبر تكون على أن الموصوف محذوف أي شيئا قريبا، وقل قريبا كثر استعماله استعمال الظروف فهو هنا ظرف في موضع الخبر، وقد أشار الزمخشري الى الوجهين بقوله «قريبا شيئا قريبا أو لأن الساعة في معنى اليوم أو في زمان قريب» . [سورة الأحزاب (33) : الآيات 64 الى 68] إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 50 اللغة: (سادَتَنا) : جمع تكسير على وزن فعلة بفتحتين وهو شائع في وصف لمذكر عاقل صحيح اللام نحو كامل وكملة وساحر وسحرة وسافر وسفرة وبار وبررة، قال الله تعالى: «وجاء السحرة» «بأيدي سفرة، كرام بررة» فخرج بالوصف الاسم نحو واد وباز، وبالتذكير نحو حائض وطالق، وبالعقل نحو سابق ولا حق صفتي فرسين وبصحة اللام نحو قاض وغاز فلا يجمع شيء من ذلك على فعلة بفتحتين باطراد وشذّ في غير فاعل نحو سيد وسادة فوزنها فعلة، ويجوز أن يكون جمعا لسائد نحو فاجر وفجرة وكافر وكفرة وهو أقرب الى القياس كما رأيت، على أن صاحب القاموس لم يلتزم بالقاعدة فقال: «والسائد السيد أو دونه والجمع سادة وسيايد وقرأ ابن عامر ساداتنا فجمعه ثانيا بالألف والتاء وهو غير مقيس أيضا» . الإعراب: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) إن واسمها وجملة لعن الكافرين خبرها وأعد عطف على لعن ولهم متعلقان بأعدّ وسعيرا مفعول به والسعير النار المسعورة الشديدة الإيقاد ولذلك أعاد الضمير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 51 عليها مؤنثة. (خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) حال من الكافرين وفيها متعلقان بخالدين وأبدا ظرف زمان متعلق بخالدين أيضا وجملة لا يجدون حال ثانية ووليا مفعول يجدون ولا نصيرا عطف على وليا. (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) يوم ظرف زمان متعلق بيقولون أو متعلق بمحذوف تقديره اذكر وعلقه أبو البقاء بقوله لا يجدون أو بنصيرا وجملة تقلب في محل جر بإضافة الظرف إليها وهو فعل مضارع مبني للمجهول ووجوههم نائب فاعل وفي النار متعلقان بتقلب وجملة يقولون إما مستأنفة وإما حالية من ضمير وجوههم أو من نفس الوجوه وسيأتي في باب البلاغة سر تخصيص الوجوه ومعن تقليبها، ويا حرف تنبيه أو حرف نداء والمنادى محذوف وليت واسمها وجملة أطعنا الله خبرها وأطعنا الرسولا عطف على أطعنا الله. (وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) كلام مستأنف مسوق لامتهاد العذر لأنفسهم ولك أن تعطفه على يقولون على طريق العدول عن المضارع الى الماضي للدلالة على أن قولهم هذا ليس مستمرا كقولهم السابق بل هو ضرب من الاعتذار غير الوارد وغير المقبول. وربنا منادى مضاف وإن واسمها وجملة أطعنا سادتنا وكبراءنا خبرها، فأضلونا عطف على أطعنا وأضلونا فعل ماض وفاعل ومفعول به أول والسبيلا مفعول به ثان يقال ضل السبيل وأضله إياه وزيادة الألف لإطلاق الصوت جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر وفائدتها الوقف والاشارة الى أن الكلام قد انقطع وأن وما بعده مستأنف. (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) آتهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به أول وضعفين مفعول به ثان ومن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 52 العذاب صفة لضعفين والعنهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به ولعنا مفعول مطلق وكبيرا نعت للعنا. البلاغة: في قوله «يوم تقلب وجوههم في النار» تخصيص الوجوه بالذكر لإنافة الوجه على جميع الأعضاء وهو مثابة المقابلة، ومعنى تقليبها تصريفها في الجهات المختلفة كاللحم يشوى في النار أو توضع في ماء القدر وهو يغلي فيترامى بها الغليان الى كل جانب. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 الى 73] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 53 اللغة: (وَجِيهاً) : الوجيه: سيد القوم ذو الجاه والوجاهة يقال وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه. (سَدِيداً) : صوابا، يقال سدّ يسدّ من باب ضرب صار سديدا والسداد بفتح السين: القصد الى الحق والقول بالعدل أما السداد بالكسر فكل شيء سددت به شيئا وذلك مثل سداد القارورة وسداد الثغر، وجاء في أخبار النحويين أن النضر بن شميل المازني استفاد بإفادة هذا الحرف ثمانين ألف درهم قال: كنت أدخل على المأمون في سمره فدخلت ذات ليلة وعليّ قميص مرقوع فقال يا نضر ما هذا التقشف حتى تدخل على أمير المؤمنين بهذه الخلقان؟ فقلت: يا أمير المؤمنين أنا شيخ ضعيف وحرّ مرو شديد فأبترد بهذه الخلقان. قال: لا ولكنك قشف، ثم أجرينا الحديث فأجرى هو ذكر النساء فقال حدثنا هشيم عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج الرجل الزوجة لدينها وجمالها كان فيها سداد من عوز فأورده بفتح السين. قال: فقلت صدق يا أمير المؤمنين هشيم، حدثنا عوف بن أبي جميلة عن الحسن عن علي ابن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد من عوز. قال: وكان المأمون متكئا فاستوى جالسا وقال: يا نضر كيف قلت سداد؟ قلت: لأن السّداد هنا لحن. قال: أو تلحنني؟ قلت: إنما لحن هشيم وكان لحّانة فتبع أمير المؤمنين لفظه. قال فما الفرق بينهما؟ قلت: السداد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 54 بالفتح القصد في الدين والسبيل وبالكسر البلغة وكل ما سددت به شيئا فهو سدادة قال: أو تعرف العرب ذلك؟ قلت: نعم هذا العرجي يقول: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر فقال المأمون: قبح الله من لا أدب له وأطرق مليا ثم قال: ما مالك يا نضر؟ قلت: أريضة لي بمرو أتمزّزها، قال: أفلا نفيدك مالا معها؟ قلت: إني الى ذلك لمحتاج، قال: فأخذ القرطاس وأنا لا أدري ما يكتب ثم قال: كيف تقول إذا أمرت أن يترب؟: أترب، قال: فهو ماذا؟ قلت: مترب، قال: فمن الطين؟ قلت: طنه، قال: فهو ماذا؟ قلت: مطين، قال: هذه أحسن من الأولى ثم قال: يا غلام أتربه وطنه. ثم صلى بنا العشاء وقال لخادمه: تبلغ معه الى الفضل ابن سهل. قال: فلما قرأ الفضل الكتاب قال يا نضر إن أمير المؤمنين قد أمر لك بخمسين ألف درهم ثم أمر لي الفضل بثلاثين ألف فأخذت ثمانين ألف درهم بحرف استفيد مني هذا وقد نظم بعضهم هذا الفرق بين الفتح والكسر مع ذكر الضم بقوله: والاستقامة هي السّد ... وبلغة من عيش السّداد وجمع سدّة أتى سداد ... وهي زكام مانع للنشر وقال في القاموس: السّداد: داء في الأنف يمنع تنشم الريح. (أَشْفَقْنَ) : خفن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 55 الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) لا ناهية وتكونوا فعل مضارع ناقص مجزوم بلا والواو اسمها وكالذين خبرها على أن الكاف اسم بمعنى مثل والذين مضاف إليه ويجوز أن تكون جارة والجار والمجرور خبر تكونوا وجملة آذوا موسى صلة قيل انهم قرفوه بعيب في جسده من برص أو أدرة وسيأتي حديث مسلم بهذا الصدد في باب الفوائد. (فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً) الفاء عاطفة وبرأه الله فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ومما: يجوز أن تكون ما موصولة أو مصدرية أي من الذي قالوه أو من قولهم وعلى كل هو متعلق ببراءة والواو عاطفة وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هو يعود على موسى وعند الله متعلق بوجيها ووجيها خبر كان. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما تقدم واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعوله وقولوا فعل أمر وفاعل وقولا مفعول مطلق وسديدا نعت. (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) جزم يصلح جوابا للطلب ولكم متعلقان بيصلح وأعمالكم مفعول به وجملة ويغفر لكم ذنوبكم عطف على الجملة السابقة. (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويطع الله فعل الشرط، فقد الفاء رابطة للجواب لاقترانه بقد وفاز فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على من وفوزا مفعول مطلق وعظيما نعت والجملة في محل جزم جواب الشرط. (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) كلام مستأنف مسوق للتنويه بشأن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 56 الأمانة وتفخيم أمرها وسيأتي مزيد بسط فيها في باب البلاغة، وان واسمها وجملة عرضنا خبرها والأمانة مفعول عرضنا وعلى السموات متعلقان بعرضنا وما بعده عطف على السموات. (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) الفاء عاطفة وأبين فعل ماض وفاعل وأن وما في حيزها مفعول أبين وأشفقن عطف على أبين ومنها متعلقان بأشفقن. (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا) الواو عاطفة وحملها فعل ماض ومفعول به مقدم والإنسان فاعل مؤخر وإن واسمها وجملة كان خبرها وظلوما خبرها الأول وجهولا خبرها الثاني. (لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) اللام متعلقة بحملها وقيل بعرضنا فاللام للتعليل على طريق المجاز لأن التعذيب نتيجة حمل الأمانة ويعذب فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والله فاعل والمنافقين مفعول به وما بعده عطف عليه. (وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) ويتوب الله عطف على يعذب الله وعلى المؤمنين متعلقان بيتوب والمؤمنات عطف على المؤمنين وكان واسمها وخبراها. البلاغة: التمثيل: في قوله «إنا عرضنا الأمانة على السموات إلخ» فن التمثيل والمراد بالأمانة الطاعة عامة ولا مجال لتخصيصها، وعرضها على السموات والأرض والجبال تمثيل فهي استعارة تمثيلية وقد سبق القول فيها، ولكن عبد القاهر جعل فرقا بين الاستعارة والتمثيل فهو يفرق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 57 أول ما يفرق بينهما بأن الاستعارة تكون في لفظ ينقل عن أصله اللغوي ويجري على ما لم يوضع له من أجل شبه ما نقل اليه وما نقل عنه فإذا قلت رأيت أسدا تريد به الرجل الشجاع كانت الاستعارة في كلمة الأسد، أما التمثيل فهو التشبيه المنتزع من مجموع أمور لا تحصل إلا بجملة من الكلام أو أكثر وقد تجد الألفاظ في الجمل التي يعقد منها جارية على أصولها وحقائقها في اللغة، هذا ويقوم التمثيل هنا على ما هو متخيل في الذهن فإن عرض الأمانة على الجماد وإباءه وإشفاقه محال في نفسه غير مستقيم فالمشبه به إذن غير معقول ولكنك تتخيل حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحاله المفروضة لو عرضت على السموات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن منها، والأمانة التي هي الطاعات كأنها راكبة للمؤمن وهو حاملها ألا تراهم يقولون: ركبته الديون ولي عليه حق فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملا لها، ونحوه قولهم لا يملك مولى لمولى نصرا يريدون أنه يبذل النصرة له ويسامحه بها ولا يمسكها كما يمسكها الخاذل على حد قول القطامي وقيل ذي الرمة. أخوك الذي لا تملك الحس نفسه ... وترفض عند المحفظات الكتائف أي لا يمسك الرقة والعطف إمساك المالك الضنين ما في يده بل يبذل ذلك ويسمح به، وحسّ له حسا رقّ وعطف والحس أيضا العقل والتدبير والنظر في العواقب والارفضاض من الترشرش والتناثر. واحفظه إحفاظا فالمحفظات المغضبات والكتائف جمع كتيفة وهي الضغينة والسخيمة والحقد. يقول: هو أخوك الذي لا تملك نفسه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 58 الرحمة بل يبذلها لك أو لا تقدر نفسه على التدبر بالتأني كي يسرع إليك بغتة وترتعد وتذهب ضغائنه من جهتك عند الأمور المغضبة لك لأنها تغضبه أيضا. الفوائد: هذه الآيات نزلت في شأن زيد وزينب وما راج فيه من قالة الناس وما أرجف به بعض المرجفين، وقيل في أذى موسى أقوال شتى، روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم الى سوءة بعض وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده فقالوا: والله ما منع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، قال: فذهب يوما يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه قال فجعل موسى عليه السلام يعدو أثره يقول ثوبي حجر، ثوبي حجر حتى نظرت بنو إسرائيل الى سوءة موسى فقالوا: والله ما بموسى من بأس فقام الحجر حتى نظروا إليه قال: فأخذ ثوبه فاستتر به وطفق بالحجر ضربا. قال أبو هريرة: والله إن به ندبا ستة أو سبعة من ضرب موسى، وفي القاموس: «الندبة أثر الجرح الباقي على الجلد والجمع ندب مثل شجرة وشجر وأنداب وندوب» والأدرة بضم الهمزة وسكون الدال المهملة وراء مفتوحة مرض تنتفخ منه الخصيتان وتكبران جدا لانصباب مادة أو ريح غليظ فيهما ورجل آدر بالمد كآدم به أدره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 59 (34) سورة سبإ مكيّة وآياتها اربع وخمسون [سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 60 اللغة: (يَعْزُبُ:) في المصباح: «وعزب الشيء من بابي قتل وضرب غاب وخفي» وفي الأساس: «يقال: عزب عنه حلمه وأعزب حلمه كقولك أضل بعيره وأعزب الله عقلك وروض عازب وعزيب ومال عزب وجشر ولا يكون الكلأ العازب إلا بفلاة حيث لا زرع، وفلان معزاب ومعزابة لمن عزب بإبله، ويقال عزب ظهر المرأة إذا أغابت، ومن المستعار قول النابغة: وصدر أراح الليل عازب همه ... تضاعف فيه الحزن من كل جانب ولك أن تقول امرأة عزبة والمعزابة الذي طالت عزوبته وتمادت ويقال ليس لفلان امرأة تعذبه أي تذهب بعزوبته» وفي القاموس: «العزب محركة من لا أهل له كالمعزابة والعزيب ولا تقل أعزب أو قليل جمعه أعزاب وهي عزبة وعزب والاسم العزبة والعزوبة بضمتين والفعل كنصر وتعزّب ترك النكاح والعزوب الغيبة يعزب ويعزب والذهاب» ومن غريب أمر العين والزاي أنهما إذا كانتا فاء وعينا للكلمة دلت على معنى الذهاب والبعد والانفراد والغلبة وفي الحديث: من قرأ القرآن في أربعين ليلة فقد عزّب أي أبعد العهد بأوله. وعز الرجل صار عزيزا أي أبعد عن غيره بصفاته حتى سما عليهم وعز الشيء قلّ فكاد لا يوجد وعز عليّ أن أسوءك أي اشتد وغلب وتقول للرجل: أتحبني؟ فيقول لعزّما ولشدّما واستعزّ به المرض أي غلب واشتد. وتعزز لحم الناقة اشتد وصلب «فعززنا بثالث» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 61 أي قوينا وعزّز بهم أي شدد عليهم ولم يرخّص ومنه حديث عمر رضي الله عنه: أن قوما اشتركوا في صيد فقالوا له: أعلى كلّ واحد منا جزاء أم جزاء واحد؟ فقال: إنه لمعزّز بكم إذن بل عليكم جزاء واحد. وعزف عن الشيء عافه وزهد فيه والعزف صوت الرياح وصوت الدف تقول: فلان ألهاه ضرب المعازف عن ضروب المعازف، وسلكت مفازة فيها للجن عزيف. وعزله يعزله من باب ضرب عن كذا نحاه عنه وعزل فلانا عن منصبه: نحاه عنه وصرفه وتقول: مالي أراك في معزل عن أصحابك؟ وأنا بمعزل عن هذا الأمر واعتزلت الباطل وتعزلته قال الأحوص: يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكل وأعوذ بالله من الأعزل على الأعزل أي من الرجل الذي لا سلاح معه على الفرس المعوج العسيب فهو يميل ذنبه الى شق قال امرؤ القيس: ضليع إذا استدبرته سدّ فرجه ... بضاف فويق الأرض ليس بأعزل واعتزم الفرس في عنانه إذا مرّ جامحا لا ينثني، قال: سبوح إذا اعتزمت في العنان ... مروح ململمة كالحجر وعزمت على الأمر واعتزمت عليه ولا يكون ذلك إلا عن شدة وغلبة وهو عزهاة عن اللهو والنساء إذا لم يردهنّ وابتعد عنهنّ، قال: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 62 إذا كنت عزهاة عن اللهو والصبا ... فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا وعزا الشيء أو فلانا الى فلان نسبه ورفعه إليه، وإن فلانا ليعزى الى الخير ويعتزي اليه وهذا الحديث يعزى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيتهم حوله عزين أي جماعات. وهذا من أسرار لغتنا الشريفة. (رِجْزٍ) : بكسر الراء وضمها العذاب أو سيئه والإثم والذنب والقذر. الإعراب: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الحمد مبتدأ ولله خبره والذي نعت وله خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي السموات صلة وما في الأرض عطف على ما في السموات. (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) الواو عاطفة وله خبر مقدم والحمد مبتدأ مؤخر وفي الآخرة حال وهو مبتدأ والحكيم خبر أول والخبير خبر ثان. (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها) لك أن تجعلها جملة خبرية فتكون خبرا ثالثا لهو كأنها تفصيل لبعض ما يحيط به علمه تعالى من الأمور المتعلقة بمصالح العباد الدينية والدنيوية ولك أن تجعلها حالا مؤكدة ولك أن تجعلها مستأنفة مسوقة لتقرير ما تقدم. ويعلم فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى وما مفعول به وجملة يلج صلة وفي الأرض متعلقان بيلج وما يخرج عطف على ما يلج في الأرض. (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 63 وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) عطف على ما تقدم وضمن العروج معنى الاستقرار فعدّاه بفي دون إلى. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) الواو استئنافية وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة ولا نافية وتأتينا الساعة فعل مضارع ومفعول به وفاعل وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وبلى حرف جواب لاثبات النفي أي ليس الأمر إلا إتيانها وربي: الواو حرف قسم وجر وربي مجرور بواو القسم، أكد إيجاب النفي بما هو الغاية في التأكيد والتشديد وهو القسم بالله عز وجل واللام جواب للقسم وتأتينكم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والكاف مفعول به وهو تأكيد ثالث. (عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) عالم صفة لربي أو بدل ويجوز أن يرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ وخبره جملة لا يعزب وقد قرىء بهما وجملة لا يعزب إما خبر أو حال وعنه متعلقان بيعزب ومثقال ذرة فاعل وفي السموات حال ولا في الأرض عطف على في السموات. (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) الواو عاطفة ولا نافية وأصغر من ذلك مبتدأ ومن ذلك خبر ولا أكبر عطف على ولا أصغر وإلا أداة حصر وفي كتاب مبين خبر أصغر ولك أن تنسق الكلام فتعطف ولا أصغر على مثقال ويكون في كتاب في محل نصب على الحال والأول أولى. (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) ليجزي اللام للتعليل ويجزي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجارّ والمجرور متعلقان بتأتينكم كأنه علة وبيان لما يقتضيه إتيانها أو بقوله لا يعزب فكأنه قال يحصي ذلك ليجزي والذين مفعول به وجملة آمنوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 64 صلة الذين وعملوا الصالحات عطف على آمنوا وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم ومغفرة مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر أولئك ورزق عطف على مغفرة وكريم صفة. (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) الواو إما عاطفة فيكون الذين منسوقا على ما قبله أي ويجزي الذين سعوا ويجوز أن تكون استئنافية فيكون الذين مبتدأ وجملة سعوا صلة وفي آياتنا متعلقان بسعوا على تقدير مضاف أي في إبطال آياتنا بالطعن فيها أو وصفها بالسحر والشعر وغير ذلك ومعاجزين حال، قال الراغب: «أصل معنى العجز التأخر لكون المتأخر خلف عجز السابق أو عنده ثم تعورف فيما هو معروف ظاهرا فالمراد هنا بالمعاجزة التأخر المسبوق بتقدم السابق ومعنى المفاعلة غير مقصود هنا إذ المقصود السبق وعدم قدرة غيرهم عليهم لغلبتهم وذلك كله بناء على مزاعمهم الفاسدة وأهوائهم المتخيلة. وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية مستأنفة على الوجه الأول أو خبر الذين على الوجه الثاني ومن رجز صفة لعذاب وأليم صفة ثانية. (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) ويرى في موضع الرفع على أنه مستأنف أو في موضع النصب فهو منسوق على يجزي والذين فاعل يرى وجملة أوتوا العلم صلة والذي مفعول يرى الأول لأنها قلبية وجملة أنزل صلة وإليك متعلقان بأنزل ومن ربك حال أو متعلقان بأنزل أيضا وهو ضمير فصل لا محل له والحق هو المفعول الثاني ليرى. (وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ويهدي عطف على الحق وساغ العطف لأن الفعل في تأويل الاسم كأنه قيل وهاديا ولك أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 65 تجعل الواو حالية والجملة في محل نصب على الحال ويجوز أن تكون مستأنفة وفاعل يهدي ضمير مستتر يعود على الذي أنزل إليك وإلى صراط متعلقان بيهدي والعزيز مضاف الى صراط والحميد نعت. البلاغة: 1- في قوله «الحمد لله» التعبير بالجملة الاسمية يفيد الاستمرار والثبوت، والحمد لغة الوصف بالجميل الاختياري على قصد التعظيم، والوصف لا يكون إلا باللسان فيكون مورده خاصا، وهذا الوصف يجوز أن يكون بإزاء نعمة وغيرها فيكون متعلقه عاما، والشكر اللغوي على العكس لكونه فعلا ينبىء عن تعظيم المنعم من حيث أنه منعم على الشاكر فيكون مورده اللسان والجنان والأركان ومتعلقه النعمة الواصلة الى الشاكر فكل منهما أعم وأخص من الآخر بوجه، ففي الفضائل حمد فقط وفي أفعال القلب والجوارح شكر فقط وفي فعل اللسان بإزاء الانعام حمد وشكر. 2- شكر المنعم واجب أم لا: قال الأشاعرة: شكر المنعم ليس بواجب أصلا ومثلوها بتمثيل فقالوا: ليس مثله إلا كمثل الفقير حضر مائدة ملك عظيم يملك البلاد شرقا وغربا، ويعم البلاد وهبا ونهبا، فتصدق عليه بلقمة خبز فطفق يذكره في المجامع ويشكره عليها بتحريك أنملته دائما لأجله فإنه يعد استهزاء بالملك فكذا هنا بل اللقمة بالنسبة الى الملك وما يملكه أكثر مما أنعم الله به على العبد بالنسبة الى الله، وشكر العبد أقل قدرا في جنب الله من شكر الفقير بتحريك أصابعه. وقالت المعتزلة: التمثيل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 66 المناسب للحال أن يقال: إذا كان في زاوية الخمول وهاوية الذهول رجل أخرس اللسان مشلول اليدين والرجلين فاقد السمع والبصر بل جميع الحواس الظاهرة والمشاعر الباطنة فأخرجه الملك من تلك الهاوية وتلطف عليه بإطلاق لسانه وإزالة شلل أعضائه ووهب له الحواس لجلب المنافع ودفع المضار ورفع رتبته على كثير من أتباعه وخدمه ثم إن ذلك الرجل بعد وصول تلك النعم الجليلة اليه وفيضان تلك التكريمات عليه طوى عن شكر ذلك الملك كشحا وضرب عنه صفحا ولم يظهر منه ما ينبىء عن الاعتناء بشيء من غير فرق بين وجودها وعدمها فلا ريب أنه مذموم بكل لسان، مستحق للإهانة والخذلان. [سورة سبإ (34) : الآيات 7 الى 9] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) الإعراب: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) الواو استئنافية وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة أي قال بعضهم لبعض وهل حرف استفهام وندلكم فعل مضارع وفاعل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 67 مستتر ومفعول به وعلى رجل متعلقان بندلكم والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم، وسيأتي سر تنكيره في باب البلاغة، وجملة ينبئكم صفة لرجل وإذا ظرف مستقبل متعلق بمحذوف تقديره تبعثون أو تحشرون خلفا جديدا ولا يجوز تعليقه بينبئكم لأن التنبئة لم تقع ذلك الوقت ولا بمزقتم لأنه مضاف اليه والمضاف إليه لا يعمل في المضاف، ولا بجديد لأن إن ولام الابتداء يمنعان من ذلك لأن لهما الصدر، وأيضا فالصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف ولا يسوغ أن يقال قدرها خالية من معنى الشرط فتغني عن جوابها وتكون معمولة لما قبلها وهو قال أو ندلكم أو ينبئكم لأن هذه الأفعال لم تقع وقت التمزيق فلا تكون إذا ظرفا لها إذ لا يقال لهم بعد تمزيقهم وإنما وقعت حال حياتهم، وكان الرجل من الكفار يقول لأصحابه استهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم: هل أدلكم على رجل ... إلخ. ومزقتم فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل وكل ممزق مفعول مطلق لأن كلّا بحسب ما تضاف إليه وقد أضيفت الى ممزق وهو مصدر ميمي بمعنى تمزيق، وأجاز الزمخشري أن يكون اسم مكان قال: «فإن قلت قد جعلت الممزق مصدرا كبيت الكتاب: ألم تعلم مسرحي القوافي ... فلا عيابهن ولا اجتلابا فهل يجوز أن يكون مكانا؟ قلت نعم ومعناه ما حصل في بطون الطير وما مرت به السيول فذهبت به كل مذهب وما سفته الريح فطرحته في كل مطرح» وعلى هذا يكون كل ظرف مكان. (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) إن وما بعدها سدت مسد مفعولي ينبئكم وإنما كسرت همزتها لدخول اللام المزحلقة في خبرها وان واسمها واللام المزحلقة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 68 المؤكدة وفي خلق خبر إن وجديد صفة خلق وهو فعيل بمعنى فاعل وقيل بمعنى مفعول. (أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) الهمزة للاستفهام واستغنى بها عن همزة الوصل في التوصل للنطق بالساكن وعلى الله متعلقان بافترى وكذبا مفعول افترى وأم حرف عطف معادل لهمزة الاستفهام وبه خبر مقدم وجنة مبتدأ مؤخر أي جنون. (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) بل حرف عطف وإضراب والذين مبتدأ وجملة لا يؤمنون صلة وبالآخرة متعلقان بيؤمنون وفي العذاب خبر المبتدأ والضلال عطف على العذاب والبعيد نعت للضلال وسيأتي معنى هذا النعت في باب البلاغة. (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لتهويل ما اجترءوا عليه وقالوه والهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف يقدر بحسب المقام أي أعموا فلم يروا أو أن الهمزة مقدمة على حرف العطف وقد تقدم تقرير هذا، ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والى ما متعلقان بيروا والظرف متعلق بمحذوف صلة ما وأيديهم مضاف إليه وما خلفهم عطف على ما بين أيديهم ومن السماء حال والأرض عطف على السماء. (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) إن شرطية ونشأ فعل الشرط ونخسف جوابه وبهم متعلقان بنخسف والأرض مفعول به وأو حرف عطف ونسقط عطف على نخسف وعليهم متعلقان بنسقط وكسفا مفعول به ومن السماء صفة لكسفا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 69 (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآية اسمها المؤخر ولكل عبد صفة لآية ومنيب صفة لعبد. البلاغة: المجاز العقلي في قوله «والضلال البعيد» لأن البعد وصف الضال إذا بعد عن الجادة المستقيمة وكلما أوغل في البعد عنها أوغل في الضلال. [سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 13] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 70 اللغة: (أَوِّبِي) : فعل أمر من التأويب والأوب أي رجعي معه التسبيح أو راجعي معه في التسبيح لأنه إذا رجعه فقد رجع فيه. (سابِغاتٍ) : دروعا واسعة ضافية. (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) : السرد نسج الدرع قال في الأساس: «سرد النعل وغيرها خرزها، قال الشماخ يصف حمرا: شككنا باحساء الذناب على هوى ... كما تابعت سرد العنان الخوارز أي تتابعن على هوى الماء. وثقب الجلد بالمسرد والسّراد وهو الأشفى الذي في طرفه خرق وسرد الدرع إذا شك طرفي كل حلقتين وسمرهما ودرع مسرودة ولبوس مسرّد» وقال أبو الطيب يصف قميصه: مفرشي صهوة الحصان ولكن ... قميصي مسرودة من حديد المسرودة المنسوجة من الحديد وهي الدروع. ومعنى التقدير في السرد أي لا تجعل المسامير دقاقا فتقلق ولا غلاظا فتفصم الحلق والمراد جعل السرد على قدر الحاجة، وذهب الخطيب في تفسيره مذهبا طريفا قال: «قوله تعالى: وقدر في السرد أي انك غير مأمور به أمر إيجاب وإنما هو اكتساب والكسب يكون بقدر الحاجة وباقي الأيام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 71 والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشتغل جميع أوقاتك بالكسب بل حصل فيه القوت فحسب» ولكن سياق الحديث يبعد هذا التأويل لأنه في صدد الحديث عن الدروع ونسجها وأحكامها وتقدير صنعها. وفي المختار: «سرد الدرع أي نسجها وهو إدخال الحلق بعضها في بعض يقال سرد الدرع سردا من باب نصر» . (غُدُوُّها) : سيرها غدوة وهي ما بين الفجر وطلوع الشمس، يقال: غدا يغدو غدوا ذهب غدوة ويستعمل بمعنى صار فيرفع المبتدأ وينصب الخبر. (رَواحُها) : سيرها في الرواح أي العشي. (الْقِطْرِ) : بكسر القاف النحاس المذاب وسيأتي سر تسميته بعين القطر في باب البلاغة. (مَحارِيبَ) : المحاريب: المساكن والابنية الشريفة المصونة عن الابتذال سميت محاريب لأنه يذب عنها ويحارب عليها ثم نقل الى الطاق التي يقف الامام فيها وهي مما أحدث في المساجد والمفرد محراب. (تَماثِيلَ) : جمع تمثال وهو الصورة المصوّرة أو هو ما تصنعه وتصوره مشبها بخلق الله من ذوات الروح والصورة، روي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما. (جِفانٍ) : جمع جفنة وهي القصعة الكبيرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 72 (كَالْجَوابِ) جمع جابية وهي الحوض الكبير وسمي جابية لأن الماء يجبى فيه أي بجمع، قال الأعشى يمدح المحلق: نفى الذم عن آل المحلق جفنة ... كجابية السيح العراقي تفهق الجفنة قصعة الثريد والجابية الحوض يجبي الماء أي يجمعه الى الحوض والسيح الماء الكثير الجاري وفهق يفهق كفرح يفرح اتسح وامتلأ حتى يتصبب، قيل كان يقعد على الجفنة ألف رجل. (قُدُورٍ راسِياتٍ) : القدور جمع قدر بكسر القاف وهو إناء يطبخ فيه، وراسيات ثابتات لها قوائم لا تتحرك عن أماكنها. الإعراب: (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا داود فعل ماض وفاعل ومفعول به ومنا متعلقان بآتينا أو بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لفضلا وفضلا مفعول به ثان. (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) جملة النداء معمول قول محذوف أي وقلنا، وأجاز الزمخشري أن تكون بدلا من فضلا ويا حرف نداء وجبال منادى نكرة مقصودة وأوّبي فعل أمر مبني على حذف النون والياء فاعل ومعه ظرف مكان متعلق بأوّبي والطير عطف على محل جبال وهو النصب وقرىء بالرفع عطفا على اللفظ وسيأتي حكم المنسوق على المنادى في باب الفوائد، وألنّا عطف على آتينا وألنّا فعل ماض وفاعل وله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 73 متعلقان بألنّا والحديد مفعول به. (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أن مصدرية مؤولة بما بعدها بمصدر منصوب بنزع الخافض أي لأن أعمل واختار أبو البقاء أن تكون مفسرة وتبعه الجلال وهذا مردود لأن شرط أن المفسرة أن يتقدم عليها ما هو بمعنى القول دون حروفه وقدر بعضهم فعلا فيه معنى القول فقال: التقدير أمرناه أن اعمل، وسابغات صفة لمفعول به محذوف أي دروعا سابغات، والسابغات الكوامل الواسعات، وقدر فعل أمر وفي السرد متعلقان بقدر. (وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) واعملوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وصالحا مفعول به أو صفة لمفعول مطلق محذوف أي عملوا عملا صالحا وإن واسمها وبما تعملون متعلقان ببصير وبصير خبر إن. (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) الواو عاطفة ولسليمان متعلقان بالفعل المحذوف أي وسخرنا لسليمان الريح فالريح مفعول للفعل المحذوف وذلك على قراءة النصب وعلى قراءة الرفع هي مبتدأ مؤخر ولسليمان خبر مقدم وجملة غدوها شهر المؤلفة من المبتدأ والخبر حال من الريح وقيل هي مستأنفة وجملة ورواحها شهر عطف عليها. (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) عطف على سخرنا المقدرة وأسلنا فعل ماض وفاعل وله متعلقان بأسلنا وعين القطر مفعول به. (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) لك أن تعلق من الجن بفعل مقدر تقديره وسخرنا له فتكون من مفعولا به للفعل المقدر ولك أن تجعل الجار والمجرور خبرا مقدما فتكون مبتدأ مؤخرا وجملة يعمل صلة وبين يديه الظرف متعلق بيعمل وبإذن ربه متعلقان بمحذوف حال. (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 74 الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويزغ فعل الشرط ومنهم حال وعن أمرنا متعلقان بيزغ ونذقه فعل الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر المبتدأ ومن عذاب السعير متعلقان بنذقه. (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) الجملة بدل من يعمل لتفصيل ما ذكر من عملهم وله متعلقان بيعملون وما مفعول به وجملة يشاء صلة ومن محاريب في موضع الحال من مفعول يشاء المحذوف أي يشاؤه ومنعت محاريب من الصرف لأنها جمع على صيغة منتهى الجموع وتماثيل عطف على محاريب وجفان عطف أيضا وكالجواب صفة لجفان وحذفت ياء الجواب في خط القرآن وقدور راسيات عطف أيضا. (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) كلام مستأنف مسوق للمنة على آل داود واعملوا فعل أمر وفاعل وآل داود منادى محذوف منه حرف النداء وشكرا مفعول لأجله أي لأجل الشكر وقيل مصدر من معنى اعملوا كأنه قيل اشكروا شكرا أو على الحال أي شاكرين وأجاز الزمخشري أن ينتصب باعملوا مفعولا به ومعناه إنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم فاعملوا أنتم شكرا على طريق المشاكلة والواو حالية وقليل خبر مقدم والشكور مبتدأ مؤخر ومن عبادي صفة لقليل. الفوائد: لتابع المنادى أقسام أربعة: 1- ما يجب نصبه مراعاة لمحل المنادى وهو ما اجتمع فيه أمران أحدهما أن يكون التابع نعتا أو بيانا أو توكيدا، والثاني أن يكون التابع مضافا مجردا من ال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 75 2- ما يجب رفعه مراعاة للفظ المنادى وهو تابع أي وتابع اسم الاشارة. 3- ما يجوز رفعه ونصبه وهو نوعان أحدهما النعت المضاف المقرون بأل، والثاني ما كان مفردا من نعت أو بيان أو توكيد أو كان معطوفا مقرونا بأل ومنه الآية التي نحن بصددها. 4- ما يعطي تابعا ما يستحقه إذا كان منادى مستقلا وهو البدل والمنسوق المجرد من أل فيضم ان كان مفردا وينصب ان كان مضافا. [سورة سبإ (34) : آية 14] فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14) اللغة: (مِنْسَأَتَهُ) : المنسأة مفعلة اسم آلة وهي العصا لأنه ينسأ بها أي يطرد ويؤخر كالمكنسة والمكسحة والمقعصة وقرأ نافع وأبو عمرو وجماعة منساته بألف. الإعراب: (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) الفاء استئنافية ولما ظرفية حينية أو رابطة متضمنة معنى الشرط وجملة قضينا مضاف إليها الظرف على الوجه الأول ونا فاعل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 76 وعليه متعلقان بقضينا والموت مفعول به وما نافية ودلهم فعل ماض ومفعول به وعلى موته متعلقان بدلهم وإلا أداة حصر ودابة الأرض فاعل دلهم والجملة لا محل لها لأنها جواب لما على الوجهين ودابة الأرض هي الدويبة التي يقال لها السرقة فأضيفت إليه يقال أرضت الخشبة أرضا إذا أكلتها الأرضة وجملة تأكل منسأته حال من دابة الأرض. (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) الفاء عاطفة ولما تقدم القول فيها قريبا وخرّ فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على سليمان وجملة تبينت الجن جواب لما لا محل لها وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولو شرطية وجملة كانوا خبر أن وأن وما في حيزها بدل اشتمال من الجن على حد قولك تبين زيد جهله، وقدره أبو البقاء بدلا من محذوف أي تبين أمر الجن وهو أنهم لو كانوا يعلمون الغيب، وأجاز أيضا أن يكون موضع أن وصلتها النصب أي تبينت الجن جهلها ولا مانع من هذين التقديرين، وجملة يعلمون الغيب خبر كانوا وجملة ما لبثوا لا محل لها لأنها جواب لو وفي العذاب متعلقان بلبثوا والمهين صفة للعذاب. الفوائد: أفاض المفسرون في الحديث عن قصة وفاة سليمان مما يخرج بنا عن نطاق كتابنا ولكننا نورد بعضا مما قيل في دابة الأرض لعلاقته باللغة، ويتلخص مما أوردوه أن فيها وجهين: أظهرهما ما قدمناه في باب البلاغة من أنها الدويبة التي تأكل الخشب وفي القاموس والتاج: «والدابة ما دبّ من الحيوان وغلب على ما يركب ويقع على المذكر، ودابة الأرض من أشراط الساعة أو أولها تخرج بمكة من جبل الصفا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 77 ينصدع لها والناس سائرون الى منى أو من الطائف أو بثلاثة أمكنة ثلاث مرات معها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام تضرب المؤمن بالعصا وتطبع وجه الكافر بالخاتم فينتقش فيه هذا كافر» والثاني أن الأرض مصدر قولك أرضت الدابة الخشبة تأرضها أرضا بفتح عين المصدر وقد قرأ بها ابن عباس والعباس ابن الفضل وقد تقدم البحث في حركة عين فعل الثلاثي فجدد به عهدا. [سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 19] لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) اللغة: (الْعَرِمِ) : لم نجد كلمة اختلف فيها المفسرون كهذه الكلمة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 78 ولذلك، سنورد ما نختاره من أقوال ثم نعمد الى الترجيح بينها ونبدأ بما ذكره صاحب القاموس قال في مادة عرام: «عرام الجيش حدتهم وشدتهم وكثرتهم ومن العظم والشجر العراق وما سقط من قشر العوسج ومن الرجل الشراسة والأذى، عرم كنصر وضرب وكرم وعلم عرامة وعراما بالضم فهو عارم وعرم اشتد والصبي علينا أشر ومرح أو بطر أو فسد ويوم عارم نهاية في البرد وعرم العظم نزع ما عليه من لحم كتعرّمه والصبي أمه رضعها والإبل الشجر نالت منه وفلانا أصابه بعرام وعرم العظم كفرح فتر والعرم محركة والعرمة بالضم سواد مختلط ببياض في أي شيء كان أو هو تنقيط بهما من غير أن تتسع كل نقطة وبياض بمرمة الشاة وهو أعرم وهي عرماء وبيض القطا عرم والعرماء الحية الرّقشاء والأعرم المتلون والأبرش والقطيع من ضأن ومعزى والأقلف والجمع عرمان وجمع الجمع عرامين والعرمة محركة رائحة الطبيخ والكدس المدوس لم يذرّ ومجتمع الرمل وأرض صلبة تتاخم الدّهناء ويقابلها عارض اليمامة وكفرحه سد يعترض به الوادي والجمع عرم أو هو جمع بلا واحد أو هو الأحباس تبنى في الأودية والجرذ الذكر والمطر الشديد وواد وبكل فسر قوله تعالى: سيل العرم» واختار الجلال أن يكون العرم جمع عرمة وهو ما يمسك الماء من بناء وغيره الى وقت حاجته وهذا ما نعبر عنه اليوم بالسدود وهو أولى ما تفسر به الآية وقد يحدث تصدع السدود وانهيارها بأسباب مختلفة. (ذَواتا) : مثنى ذوات أو ذات ولفظ ذوات مفرد لأن أصله ذوية فالواو عين الكلمة والياء لامها لأنه مؤنث ذو وذو أصله ذوى فلما تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفا فصار ذوات ثم حذفت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 79 الواو تخفيفا فعندما يراد تثنيته يجوز أن ينظر للفظه فيقال ذاتان ويجوز أن ينظر الى أصله فيقال ذواتان. هذا وذات مؤنث ذو ومثناها ذواتان والجمع ذوات ويعرب المؤنث والمثنى والجمع إعراب نظيره من الأسماء المفردة والمثناة والمجموعة، يقال لقيته ذات يوم أو ذات ليلة أو ذات مرة أي يوما ما ومرة ما، وكان ذلك ذات العويم أي السنة الماضية وجلس ذات اليمين أي عن اليمين ولقيته أول ذات يدين أي بادىء بدء وذات الصدر الفكر أو السر وذات اليمين أي جهتها وذات البين: الحال يقال أصلحوا ذات بينكم أي حالكم التي تجتمعون عليها وذات شفة كلمة يقال: كلمته فماردّ عليّ ذات شفة وذات اليد ما تملكه يقال: قلّت ذات يده أي ما ملكت يده ويقال ألقت الدجاجة ذات بطنها أي باضت أو سلحت وذات الجنب عند الأطباء: التهاب يحدث في غلاف الرئة فيحدث منه سعال وحمى ونخس في الجنب وذات الرئة وذات الصدر وذات الكبد علل فيها، والذات أيضا: ما يصلح لأن يعلم ويخبر عنه وذات الشيء: نفسه وعينه وجوهره واسم الذات عند النحاة ما علق على ذات كالرجل والأسد ويقابله اسم المعنى كالعلم والشجاعة، والذوات عند المولدين: أكابر القوم. (أُكُلٍ خَمْطٍ) : الأكل بضمتين وبضم فسكون الثمر أو ما يؤكل والخمط المر والحامض يقال خمر خمطة: حامضة ولبن خامض: قارص متغير وفي المختار: «الخمط ضرب من الأراك له حمل يؤكل» وعن أبي عبيدة: «كل شجر ذي شوك» وقال الزجاج: «كل نبت أخذ طعما من مرارة حتى لا يمكن أكله» . (أَثْلٍ) : الأثلة: السمرة وقيل شجر من العضاه طويلة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 80 مستقيمة الخشبة تعمل منها القصاع والأقداح فوقعت مجازا في قولهم: نحت أثلته إذا تنقّصه، وفلان لا تنحت أثلته، قال الأعشى: ألست منتهيا عن نحت أثلتنا ... ولست ضائرها ما أطّت الإبل ولفلان أثلة مال أي أصل مال ثم قالوا أثّلت مالا وتأثلته وشرف مؤثّل وأثيل. (سِدْرٍ) : السدر: شجر النبق يطيب أكله ولذا يغرس في البساتين وقيل ان السدر صنفان صنف يؤكل ثمره وينتفع بورقه في غسل الأيدي وصنف له ثمرة غضة لا تؤكل أصلا وهو الضال. الإعراب: (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وكان فعل ماض ناقص ولسبأ خبرها المقدم وفي مسكنهم حال من سبأ أي حال كونهم في مسكنهم وآية اسم كان المؤخر وقد تقدم القول مفصلا في سبأ في سورة النمل فجدد به عهدا. (جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) جنتان بدل من آية أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره الآية جنتان وعن يمين وشمال صفة لجنتان ويبدو أن في بمعنى عند فإن المساكن محفوفة بالجنتين لا مظروفة لهما. (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) الجملة مقول قول محذوف أي وقيل لهم بلسان الحال أو بلسان المقال وكلوا فعل أمر وفاعل والمراد بهذا الأمر الإباحة ومن رزق ربكم متعلقان بكلوا وبلدة خبر لمبتدأ محذوف يعني هذه البلدة بلدة طيبة وطيبة صفة ورب غفور عطف على ما تقدم أي وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور. (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) الفاء عاطفة وأعرضوا فعل ماض الجزء: 8 ¦ الصفحة: 81 وفاعل ومتعلقه محذوف أي عن شكره فأرسلنا عطف على فأعرضوا وعليهم متعلقان بأرسلنا وسيل العرم مفعول به. (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) وبدلناهم الواو عاطفة وبدلناهم فعل ماض وفاعل ومفعول به وبجنتهم متعلقان ببدلناهم وجنتين مفعول به ثان وذواتى صفة وأكل مضاف إليه وخمط صفة كأنه قيل أكل بشع وقرىء بالإضافة وعبارة أبي البقاء: «أكل خمط: يقرأ بالتنوين والتقدير أكل أكل خمط فحذف المضاف لأن الخمط شجر والأكل ثمره وقيل التقدير أكل ذي خمط وقيل هو بدل منه وجعل خمط أكلا لمجاورته إياه وكونه سببا له ويقرأ بالإضافة وهو ظاهر» وأثل عطف على أكل وشيء عطف أيضا ومن سدر صفة لشيء وقليل صفة ثانية. (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) ذلك مفعول ثان لجزيناهم مقدم عليه لأنه ينصب مفعولين أي جزيناهم ذلك التبديل وجزيناهم فعل ماض وفاعل ومفعول به أول وبما متعلقان بجزيناهم والباء للسببية وما مصدرية أي بسبب صبرهم وهل حرف استفهام بمنى النفي ونجازي فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن وإلا أداة حصر والكفور مفعول به. (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) الواو عاطفة وجعلنا فعل وفاعل وبينهم الظرف متعلق بمحذوف مفعول به ثان لجعلنا وبين القرى عطف على بينهم والتي صفة للقرى وجملة باركنا فيها صلة للموصول وقرى مفعول به أول وظاهرة نعت والجملة معطوفة على ما قبلها عطف قصة على قصة فقد ذكر أولا ما أسبغ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 82 عليهم من نعمة الجنتين ثم تبديلهما بما سلف ذكره ثم جعل بلادهم متفاصلة متشتتة بعد أن كانت متواصلة ملمومة الشمل. (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) وقدرنا الواو عاطفة وقدرنا فعل ماض وفاعل وفيها متعلقان بقدرنا أو بالسير والسير مفعول به وجملة سيروا في محل نصب مقول قول محذوف وفيها متعلقان بسيروا وليالي وأياما ظرفان متعلقان بسيروا أيضا وآمنين حال ولم يتوجه معنا إعراب القرطبي لليالي وأياما فقد قال أنهما منصوبان على الحال وسيأتي سر تنكيرهما في باب البلاغة. (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) الفاء عاطفة وقالوا فعل وفاعل وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وباعد فعل أمر وبين ظرف متعلق بباعد وأسفارنا مضاف إليه وظلموا عطف على فقالوا وأنفسهم مفعول وذلك لأنهم بطروا وبشموا من طيب العيش وبلهنة الحال فطلبوا الكد والتعب والتنقل في البلاد، فجعلناهم عطف على ظلموا أنفسهم وأحاديث مفعول به ثان لجعلناهم. (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) ومزقناهم عطف أيضا وكل ممزق نائب مفعول مطلق أي فرقناهم تفريقا لا التئام بعده. قال الشعبي «فلحقت الأنصار بيثرب وغسان بالشام والأزد بعمان وخزاعة بتهامة فكانت العرب تضرب بهم المثل فتقول تفرقوا أيادي سبأ وقد تقدم معنى هذا المثل وإعرابه في النمل فجدد به عهدا. وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها المؤخر ولكل صبار صفة لآيات وشكور صفة لصبار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 83 البلاغة: 1- المشاكلة: في قوله «جنتين» فن المشاكلة وقد تقدم أنه ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته فقد سمى البدل جنتين للمشاكلة وفيه نوع من التهكم بهم، قال أبو تمام: والدهر ألأم من شرقت بلؤمه ... إلا إذا أشرقته بكريم أي اقتصرت عليه بكريم فقال أشرقته مشاكلة. 2- التنكير: وفي تنكير ليالي وأياما إلماع إلى قصر أسفارهم فقد كانت قصيرة لأنهم يرتعون في بحبوحة من العيش ورغد منه لا يحتاجون إلى مواصلة الكد وتجشم عناء الأسفار للحصول على ما يرفه عيشهم. 3- التذييل: وفي قوله: «ذلك جزيناهم» الآية فن التذييل وقد تقدم بحثه أيضا وهو قسمان الأول ما جرى مجرى المثل وقد تقدم بحثه أيضا، والثاني ما لم يخرج مخرج المثل وهو أن تكون الجملة الثانية متوفقة على الأولى في إفادة المراد أي وهل يجازى ذلك الجزاء المخصوص، ومضمون الجملة الأولى أن آل سبأ جزاهم الله تعالى بكفرهم ومضمون الثانية أن ذلك العقاب المخصوص لا يقع إلا للكفور وفرق بين قولنا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 84 جزيته بسبب كذا وبين قولنا ولا يجزى ذلك الجزاء إلا من كان بذلك السبب ولتغايرهما يصح أن يجعل الثاني علة للأول ولكن اختلاف مفهومهما لا ينافي تأكيد أحدهما بالآخر للزوم معنى. [سورة سبإ (34) : الآيات 20 الى 22] وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) الإعراب: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة على ما تقدم أو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وصدق فعل ماض وعليهم متعلقان بصدق وإبليس فاعله وظنه مفعوله كأنه ظن فيهم أمرا وواعده نفسه فصدقه وقرىء صدق بالتخفيف على المعنى نفسه فيكون ظنه منصوبا بنزع الخافض ويصح أن يكون مفعولا به أيضا، وقرىء بنصب إبليس على المفعولية ورفع ظنه على الفاعلية وقرىء برفعهما معا على أن يكون ظنه بدل اشتمال من إبليس، فاتبعوه الفاء عاطفة واتبعوه فعل ماض وفاعل ومفعول به، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 85 ويجوز أن يكون الكلام خاصا فالضمير يعود على أهل سبأ وأن يكون عاما فالضمير يعود على بني آدم، وإلا أداة استثناء وفريقا مستثنى يجوز أن يكون منقطعا ويجوز أن يكون متصلا ومن المؤمنين صفة لفريقا. (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) الواو عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص وله خبرها المقدم وعليهم حال لأنه كان في الأصل نعت لسلطان ومن حرف جر زائد وسلطان مجرور لفظا اسم ليس المؤخر محلا. (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ) إلا أداة حصر واللام للتعليل وقيل للعاقبة والاستثناء مفرغ من أعم العلل فهو في محل نصب مفعول لأجله ونعلم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام، ومن يجوز أن تكون استفهامية فتسد مسد مفعولي العلم وتكون في محل رفع مبتدأ وجملة يؤمن بالآخرة خبر، ويجوز أن تكون موصولة في محل نصب مفعول نعلم وهذا أرجح وجملة يؤمن صلة وبالآخرة متعلقان بيؤمن وممن جار ومجرور متعلقان بنعلم لأنه متضمن معنى نميز وهو مبتدأ ومنها حال لأنه كان في الأصل صفة لشك وفي شك خبر والجملة صلة. (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) وربك مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بحفيظ وحفيظ خبر ربك. (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) قل فعل أمر مبني على السكون وحرك بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين وجملة ادعوا الذين مقول القول وجملة زعمتم صلة ومن دون الله صفة للمفعول الثاني المحذوف والمفعول الأول محذوف أيضا تقديره زعمتوهم آلهة فحذف الأول لطول الموصول بصلته وحذف الثاني لقيام صفته، أعني من دون الله مقامه. وهذا من أعجب الكلام وأوكده ونحن ننقل لك عبارة الزمخشري بنصها في هذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 86 الصدد قال: «فإن قلت أين مفعولا زعم؟ قلت: أحدهما الضمير المحذوف الراجع منه الى الموصول وأما الثاني فلا يخلو إما أن يكون من دون الله أو لا يملكون أو محذوفا فلا يصح الأول لأن قولك هم من دون الله لا يلتئم كلاما ولا الثاني لأنهم ما كانوا يزعمون ذلك فكيف يتكلمون بما هو حجة عليهم وبما لو قالوه قالوا ما هو حق وتوحيد فبقي أن يكون محذوفا تقديره: زعمتموهم آلهة من دون الله فحذف الراجع الى الموصول كما حذف في قوله: أهذا الذي بعث الله رسولا استخفافا لطول الموصول بصلته وحذف آلهة لأنه موصوف صفته من دون الله والموصوف يجوز حذفه وإقامة الصفة مقامه إذا كان مفهوما فإذن مفعولا زعم محذوفان جميعا بسببين مختلفين» . (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) الجملة حال من الذين زعمتموهم آلهة ولك أن تجعلها مستأنفة مسوقة لبيان حالهم ولا نافية ويملكون فعل مضارع وفاعل ومثقال ذرة مفعول به وفي السموات والأرض متعلقان بيملكون أو بمحذوف حال. (وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) الواو عاطفة وما نافية ولهم خبر مقدم وفيهما حال ومن حرف جر زائد وشرك مجرورا لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ مؤخر أو اسم ما على رأي من يجيز تقدم خبرها على اسمها والواو عاطفة أيضا وما نافية وله خبر مقدم ومنهم حال ومن ظهير مبتدأ مؤخر كما تقدم. [سورة سبإ (34) : الآيات 23 الى 27] وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 87 اللغة: (فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) : بالبناء للمجهول وفزّع عنه بالتشديد أذهب عنه الفزع والفزع بفتحتين: الذعر والمخافة والإغاثة، وفي الأساس: «وفزع عن قلبه: كشف الفزع عنه» فالتضعيف هنا للسلب كما يقال: قرّدت البعير أي أزلت قراده. الإعراب: (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) الكلام مستأنف مسوق لبيان المصير الذي لا تنفع فيه شفاعة الشافعين إلا لمن سبق القلم بالإذن له. ولا نافية وتنفع الشفاعة فعل مضارع وفاعل وعنده ظرف متعلق بتنفع أو بمحذوف حال وإلا أداة حصر ولمن متعلقان بالشفاعة إذ يقال شفعت له أو بتنفع، وللزمخشري بحث لطيف في متعلق هذه اللام نورده بنصه قال: «تقول الشفاعة لزيد على معنى أنه الشافع كما تقول: الكرم لزيد وعلى معنى أنه المشفوع له كما تقول: القيام لزيد فاحتمل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 88 قوله: ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له أن يكون على أحد هذين الوجهين أي لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له أو لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له أي لشفيعه أو هي اللام الثانية في قولك أذن لزيد لعمرو أي لأجله وكأنه قيل: إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله وهذا وجه لطيف وهو الوجه» وأذن فعل ماض مبني للمعلوم والفاعل مستتر يعود على الله وله متعلقان بأذن وقرىء أذن بالبناء للمجهول. (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) حتى حرف غاية وجر والغاية لمحذوف يفهم من سياق الكلام كأنه قيل يتربصون ويتوفقون حائرين مشدوهين وجلين تتفارسهم المخاوف وتتقاذفهم الشكوك أيؤذن لهم أم لا حتى إذا فزع. وفزع بالبناء للمجهول ونائب الفاعل هو الجار والمجرور أي عن قلوبهم وقرىء بالبناء للمعلوم فيتعلق الجار والمجرور به أي فزع الله عن قلوبهم. (قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) قالوا جواب إذا وما اسم استفهام وذا اسم موصول خبر والجملة مقول قال مقدم عليه وقال ربكم فعل وفاعل والجملة مقول قالوا الأولى وقالوا فعل وفاعل والحق منصوب بقول مقدر أي قال ربنا القول الحق ولك أن تعرب القول مفعولا مطلقا أو مفعولا به والحق صفة وهو مبتدأ والعلي خبر أول والكبير خبر ثان وهو تتمة كلام الشفعاء. (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ) قل فعل أمر والفاعل مستتر يعود على الرسول تبكيتا للمشركين وإلزاما لهم بالاعتراف بالعجز ومن اسم استفهام مبتدأ وجملة يرزقكم خبر ومن السموات متعلقان يرزقكم والأرض عطف على السموات وقل فعل أمر والله مبتدأ خبره محذوف أي الله يرزقنا أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 89 (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الواو عاطفة وان واسمها أو إياكم ضمير منفصل معطوف على اسم إن واللام المزحلقة وعلى هدى خبر إن وأو حرف عطف على بابها عند البصريين وليست للشك وسيأتي المزيد من بحث هذا التركيب في باب البلاغة أو في ضلال عطف على قوله لعلى هدى ومبين صفة. (قُلْ: لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) لا نافية وتسألون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وعما متعلقان بتسألون وما موصولة أو مصدرية وأجرمنا فعل وفاعل ولا نسأل عما تعملون عطف على لا تسألون عما أجرمنا وسيأتي المزيد من بحثه أيضا في باب البلاغة. (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) جملة يجمع مقول القول وبيننا ظرف متعلق بيجمع وربنا فاعل يجمع ثم يفتح بيننا عطف على ما تقدم وبالحق حال وهو مبتدأ والفتاح خبر أول والعليم خبر ثان. (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) أروني فعل أمر والواو فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به أول لأن الرؤية علمية متعدية قبل النقل الى اثنين فلما جيء بهمزة النقل تعدت لثلاثة، والذين اسم موصول مفعول به ثان لأروني وجملة ألحقتم صلة والعائد محذوف أي ألحقتموهم وهو المفعول الثاني وبه متعلقان بألحقتم وشركاء مفعول به ثالث لأروني ويجوز أن تكون الرؤية بصرية متعدية قبل النقل الى واحد فلما جيء بهمزة النقل تعدت لاثنين أولهما ياء المتكلم والثاني الموصول وشركاء نصب على الحال من العائد المحذوف أي بصروني الملحقين به حال كونهم شركاء وسيأتي معنى الأمر هنا في باب البلاغة. (كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) كلا حرف ردع وزجر وبل حرف إضراب وهو ضمير الشأن مبتدأ والله مبتدأ ثان والعزيز الحكيم خبراه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 90 والجملة خبر هو، ولك أن تجعل هو ضميرا عائدا على الله وتعربه مبتدأ خبره الله والعزيز الحكيم صفتان. البلاغة: حفلت هذه الآيات بضروب من البلاغة نوجزها فيما يلي: 1- الفرائد: في قوله «حتى إذا فزع عن قلوبهم» فن طريف يسمى فن الفرائد وهو أن يأتي المتكلم في كلامه بلفظة تتنزل منزلة الفريدة من حب العقد وهي الجوهرة التي لا نظير لها بحيث لو سقطت من الكلام لم يسدّ غيرها مسدها وقد مرت نماذج منها، وفي لفظة فزع عن قلوبهم من غرابة الفصاحة ما لا مزيد عليه. ومن شواهد هذا الفن في الشعر قول أبي تمام: ومعترك للشوق أهدى به الهوى ... إلى ذي الهوى نجل العيون ربائبا فالفريدة في لفظة معترك وقد اقتبسها الشيخ عمر بن الفارض فقال: ما بين معترك الأحداق والمهج ... أنا القتيل بلا إثم ولا حرج الجزء: 8 ¦ الصفحة: 91 2- الاستدراج: في قوله: «وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين» وهو فن يعتبر من البلاغة محورها الذي تدور عليه لأنه يستدرج الخصم ويضطره الى الإذعان والتسليم والعزوف عن المكابرة واللجاج فإنه لما ألزمهم الحجة خاطبهم بالكلام المنصف الذي يقول من سمعه للمخاطب به قد أنصفك صاحبك ونحوه قول الرجل لصاحبه: مني ومنك وإن أحدنا لكاذب، ومنه قول الشاعر حسان بن ثابت: أتهجوه ولست له بكفء ... فشر كما لخير كما الفداء وهو من قصيدة طويلة يهجو بها أبا سفيان قبل إسلامه والهمزة للاستفهام التوبيخي والواو حال أي لا ينبغي ذلك وشر وخير من قبيل أفعل التفضيل واختصا بحذف همزتهما تخفيفا لكثرة استعمالهما لكن المراد بهما هنا أصل الوصف لا الزيادة فيه والشر أبو سفيان والجملة دعائية دعا عليه بأن يكون فداء لرسول الله وأبرزه في صورة الإبهام لأجل الإنصاف في الكلام ولذلك لما سمعه الحاضرون قالوا: هذا أنصف بيت قالته العرب. 3- المخالفة في الحروف: وفي هذه الآية مخالفة بين حرفي الجر فإنه إنما خولف بينهما في الدخول على الحق والباطل لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركض به حيث شاء وصاحب الباطل كأنه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 92 منغمس في ظلام منخفض فيه لا يدري أين يتوجه، وهذا معنى دقيق قلمّا يراعى مثله في الكلام وكثيرا ما سمعنا إذا كان الرجل يلوم أخاه أو يعاتب صديقه على أمر من الأمور فيقول له: أنت على ضلالك القديم كما أعهدك فيأتي بعلى في موضع في، وإن كان هذا جائزا إلا أن استعمال «في» هنا أولى لما أشرنا إليه والاستعارة التصريحية واضحة وقد تقدمت في غير هذا الموضع. 4- معنى الأمر: قوله «أروني» أمرهم بإراءته الأصنام مع كونها بمرأى منه إظهار لخطئهم واطلاعهم على بطلان رأيهم. [سورة سبإ (34) : الآيات 28 الى 33] وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 93 الإعراب: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الواو استئنافية وما نافية وأرسلناك فعل وفاعل ومفعول به وإلا أداة حصر وكافة حال من الكاف في أرسلناك أو من الناس أي للناس كافة على رأي من يجيز تقدم الحال على الجار والمجرور، أو صفة لمصدر محذوف أي إرسالة كافة للناس وسيأتي المزيد من بحث «كافة» في باب الفوائد وهو بحث ممتع. وللناس صفة لكافة أو بكافة وبشيرا ونذيرا حالان من الكاف ولكن حرف مشبه بالفعل وأكثر الناس اسمها وجملة لا يعلمون خبرها. (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الواو استئنافية ويقولون فعل مضارع وفاعل ومتى اسم استفهام في محل نصب على الظرفية وهذا الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر والوعد بدل وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وصادقين خبرها وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله. (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) لكم خبر مقدم وميعاد يوم مبتدأ مؤخر وهو مصدر مضاف إلى الظرف وجملة لا تستأخرون صفة ليوم أو لميعاد وعنه متعلقان بتستأخرون وساعة ظرف متعلق بتستأخرون أيضا ولا تستقدمون عطف على لا تستأخرون. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 94 (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) قال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة ولن حرف نفي ونصب واستقبال ونؤمن فعل مضارع منصوب بلن والجملة مقول القول وبهذا متعلقان بنؤمن والقرآن بدل ولا بالذي عطف على بهذا القرآن وبين ظرف متعلق بمحذوف صلة للذي ويديه مضاف الى الظرف والمراد بما بين يدي القرآن ما تقدمه من كتب الله عز وجل. (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) لو شرطية وترى فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنت وهو فعل الشرط والجواب محذوف أي لرأيت العجب العجاب أو لرأيت حالا مذهلة وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بتري والظالمون مبتدأ وموقوفون خبر أي محبوسون جمع موقوف اسم مفعول من وقف الثلاثي المتعدي فقد جاء في المصباح ما يلي: «وقفت الدابة تقف وقفا ووقوفا سكنت ووقفتها أنا يتعدى ولا يتعدى ووقفت الرجل عن الشيء وقفا منعته عنه» وعند ربهم ظرف متعلق بموقوفون وجملة يرجع حال من ضمير موقوفون وبعضهم فاعل والى بعض متعلقان بيرجع والقول مفعول به ليرجع لأنه يتعدى (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) جملة يقول مفسرة ليرجع فلا محل لها والذين فاعل يقول وجملة استضعفوا صلة وللذين متعلقان بيقول وجملة استكبروا صلة. (لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) لولا حرف امتناع لوجود وأنتم مبتدأ محذوف الخبر وجوبا أي موجودون واللام رابطة لجواب لولا وجملة كنا مؤمنين لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وكان واسمها ومؤمنين خبرها. (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) قال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 95 الذين فعل وفاعل وجملة استكبروا صلة وللذين متعلقان بقال وجملة استضعفوا صلة وهو بالبناء للمجهول والجملة مستأنفة. (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري كأنهم أنكروا أن يكونوا هم الذين ارتكبوا جريرة صدهم عن الإيمان. ونحن مبتدأ وجملة صددناكم خبر وعن الهدى متعلقان بصددناكم وبعد ظرف متلعق بمحذوف حال لوقوعه بعد المعرفة وإذ ظرف أضيف الى مثله توسعا في الظروف وقيل: إذ بمعنى أن المصدرية وهو مفهوم تفسير الزمخشري وجملة جاءكم في محل جر بإضافة الظرف إليها وبل حرف إضراب وعطف وكنتم فعل ماض ناقص والتاء اسمها ومجرمين خبرها. (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) تقدم إعرابها وأثبتت حرف العطف هنا بينما حذفها في الجملة الآنفة لأنه كلام آخر للمستضعفين (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) بل حرف إضراب ومكر الليل مبتدأ خبره محذوف أي مكر الليل والنهار، صدنا أو خبر لمبتدأ محذوف أي سبب كفرنا مكر الليل والنهار، وإضافة المكر الى الليل والنهار من باب الاسناد المجازي وقد تقدمت له نظائر فهو مصدر مضاف لمرفوعه وقال الزمخشري: «ومعنى مكر الليل والنهار مكر كم في الليل والنهار فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر اليه أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي» وأصل المكر في كلام العرب: الخديعة والحيلة. (إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) الظرف متعلق بمكر وجملة تأمروننا في محل جر بإضافة الظرف إليها وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض متعلق بتأمروننا ونجعل عطف على نكفر وله حال لأنه كان في الأصل صفة لأندادا وأندادا مفعول به ويجوز الجزء: 8 ¦ الصفحة: 96 أن يكون الجار والمجرور مفعول نجعل الثاني وأندادا مفعول نجعل الأول. (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) الواو حالية أو استئنافية وأسروا فعل وفاعل والندامة مفعول به والضمير راجع الى الفريقين أي أضمر الفريقان الندامة على ما فعلوا من الكفر وأخفوها عن غيرهم أو أخفاها كل منهم عن الآخر مخافة الشماتة ولما ظرفية حينية متعلقة بأسروا وجملة رأوا في محل جر بإضافة الظرف إليها والعذاب مفعول به. (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) الواو عاطفة وجعلنا فعل وفاعل والأغلال مفعول جعلنا الأول وفي أعناق الذين كفروا مفعوله الثاني والكلام من باب القلب والأصل وجعلنا أعناق الذين كفروا في الأغلال. (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) الجملة حال من الذين كفروا وهل حرف استفهام والاستفهام بمعنى النفي ويجزون فعل مضارع مبني للمجهول ونائب فاعل وإلا أداة حصر وما مفعول يجزون الثاني وجملة كانوا صلة وجملة يعملون خبر كانوا. الفوائد: الأصل في الحال أن تتأخر عن صاحبها، وقد تتقدم عليه جوازا نحو: جاء راكبا علي، ومنه قول طرفة بن العبد: فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي وقد تتقدم عليه وجوبا في موضعين: 1- أن يكون صاحبها نكرة غير مستوفية للشروط نحو: لعليّ مهذبا غلام وقول الشاعر: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 97 لمية موحشا طلل ... يلوح كأنه خلل وقول الآخر: وفي الجسم مني بينا لو علمته ... شحوب وإن تستشهدي العين تشهد 2- أن يكون محصورا فيها نحو: ما جاء ناجحا إلا عليّ وإنما جاء ناجحا علي تقول ذلك إذا أردت أن تحصر المجيء بحالة النجاح في علي. وتتأخر عنه وجوبا في ثلاثة مواضع: 1- أن تكون هي المحصورة نحو ما جاء خالد إلا ناجحا وإنما جاء خالد ناجحا تقول ذلك إذا أردت أن تحصر مجيء خالد في حالة النجاح ومنه قوله تعالى «وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين» . 2- أن يكون صاحبها مجرورا بالاضافة نحو يعجبني وقوف علي خطيبا، وسرني عملك مخلصا، أما المجرور بحرف جر أصلي فقد منع الجمهور تقديم الحال عليه فلا يقال مررت راكبا بعلي وأخذت عاثرا بيد خليل. وأجاز الفارسي وابن كيسان وابن جني وغيرهم التقديم، قال ابن مالك والتقديم هو الصحيح لوروده في الفصيح كقوله تعالى «وما أرسلناك إلا كافة للناس» فكافة حال من المجرور وهو الناس وقد تقدم على صاحبه المجرور، ونحو قول الشاعر: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 98 تسليت طرا عنكم بعد بينكم ... بذكراكم حتى كأنكم عندي وقال المانعون والحق أن هذا البيت ضرورة أو طرا حال من عنكم محذوفة مدلولا عليها بعنكم المذكورة وان كافة في الآية حال من الكاف في أرسلناك وأن التاء للمبالغة لا للتأنيث قاله الزجاج وردّه ابن مالك بأن إلحاق التاء للمبالغة مقصور على السماع ولا يتأتى غالبا إلا في أبنية المبالغة كعلاقة، وكافة خلاف ذلك. هذا ولزيادة الفائدة نورد أقوالا لبعض الأعلام في صدد إعراب كافة قال الزمخشري «ومن جعله حالا من المجرور متقدما عليه فقد أخطأ لأن تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار وكم نرى من يرتكب مثل هذا الخطأ ثم لا يكتفي به حتى يضم اليه أن يجعل اللام بمعنى إلى فيرتكب الخطأين معا» . وقال أبو علي: «وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور وعلى ما يتعلق به وإذا جاز تقديمها على صاحبها وعلى العامل فيه فتقديمها على صاحبها وحده أجوز» . وقال الفيروز بادي صاحب القاموس: «وجاء الناس كافة أي كلهم ولا يقال جاءت الكافة لأنه لا يدخلها أل ووهم الجوهري، ولا تضاف» . واستدرك عليه شارحه فقال في تاج العروس ما ملخصه: «عبارة الجوهري: الكافة الجميع من الناس يقال لقيتهم كافة أي كلهم. وهذا كما ترى لا وهم فيه لأن النكرة، إذا أريد لفظها جاز تعريفها وما ذكره المصنف هو الذي أطبق عليه الجمهور وأورده الجزء: 8 ¦ الصفحة: 99 النووي في التهذيب وعاب على الفقهاء استعماله بأل أو الاضافة قال شيخنا: ويدل على أن الجوهري لم يرد ما قصده المصنف أنه إنما مثل بما هو موافق للجمهور على أن قولهم ذلك رده الشهاب في شرح الدرة وصحح انه يقال وإن كان قليلا» هذا وقد أطال الشهاب الخفاجي في تصحيح إدخال أل على كافة وإضافتها وقال شارح اللباب: انه استعمل مجرورا واستدل له بقول عمر بن الخطاب: «قد جعلت لآل بني كاهلة على كافة بيت المسلمين لكل عام مئتي مثقال ذهبا إبريرا» . [سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 37] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) الإعراب: (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) كلام مستأنف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم. وما أرسلنا فعل وفاعل وفي قرية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 100 متعلقان بأرسلنا ومن حرف جر زائد ونذير مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به وإلا أداة حصر وجملة قال مترفوها حال من قرية وإن كانت نكرة لوقوعها في سياق النفي ومترفوها فاعل قال أي المتنعمون فيها. (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) الجملة مقول قولهم، وإن واسمها وبما متعلقان بكافرون وما موصولة وجملة أرسلتم صلة وأرسلتم بالبناء للمجهول والتاء نائب فاعل وبه متعلقان بأرسلتم وكافرون خبر إن والتقدير إننا كافرون بالذي أرسلتم به. (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل ونحن مبتدأ وأكثر خبر وأموالا تمييز وأولادا عطف على أموالا وما حجازية ونحن اسمها والباء حرف جر زائد ومعذبين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما. (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) إن واسمها وجملة يبسط الرزق خبرها ولمن متعلقان بيبسط وجملة يشاء صلة ويقدر عطف على يبسط ومعناه يضيقه، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الواو حالية ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها ومفعول يعلمون محذوف أي وجه الحكمة في ذلك فهو يبسط الرزق للعاصي بطريق الاستدراج والإملاء ويقدره على المطيع بطريق الاختبار والابتلاء. (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) الواو عاطفة أو استئنافية وما حجازية وأموالكم اسمها ولا أولادكم عطف على أموالكم والباء حرف جر زائد والتي مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس ووصف الأموال والأولاد بالتي لأن جمع التكسير العاقل وغير العاقل يعامل معاملة المؤنثة الواحدة وجملة تقربكم صلة وعندنا ظرف متعلق بمحذوف حال وزلفى مصدر من معنى العامل فهو مفعول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 101 مطلق على المعنى أي تقربكم قربة. (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) إلا بمعنى لكن فالاستثناء منقطع لأن الخطاب للكفار ومن آمن ليس منتظما في سلكهم ومن مستثنى ويجوز أن يكون متصلا مستثنى من المفعول في يقربكم ويجوز أن يعرب مبتدأ وما بعده الخبر وجملة آمن صلة وعمل عطف على آمن وصالحا مفعول به أو مفعول مطلق أي عملا صالحا. (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا) الفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط وأولئك اسم إشارة مبتدأ والاشارة إلى من والجمع باعتبار معناها كما أن افراد الفعلين باعتبار لفظها، ولهم خبر مقدم وجزاء الضعف مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر أولئك ومعنى جزاء الضعف أن تضاعف لهم حسناتهم الواحدة عشرا، والإضافة إما من إضافة المصدر الى مفعوله أو من إضافة الموصوف الى صفته والمعنى على الأول أن يجازيهم الله الضعف وعلى الثاني لهم الجزاء المضاعف وبما متعلقان بجزاء وما موصولة أو مصدرية. (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) الواو عاطفة وهم مبتدأ وفي الغرفات حال أو متعلقان بآمنون وآمنون خبرهم. البلاغة: في قوله «وما أموالكم ولا أولادكم الآية» التفات من الغيبة الى الخطاب والسرّ فيه المبالغة في تحقيق الخبر وأن ذلك الذي تسرون به وتحبرون من كثرة الأولاد والأموال لن يجديكم فتيلا، ولن يقربكم منّا ما دمتم مصرّين على ما أنتم فيه مسترسلين في تلبية دواعي الغي والضلال، وفي ذلك إشارة ضمنية إلى إنفاق الأموال في سبيل الله وأوجه الخير وتهذيب الأولاد وتأهيلهم لما يصلح دينهم ودنياهم. والزلفى القربى والزلفة القربة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 102 [سورة سبإ (34) : الآيات 38 الى 42] وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) الإعراب: (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) الواو عاطفة على ما تقدم والذين مبتدأ وجملة يسعون صلة وفي آياتنا متعلقان بيسعون، والسعي فيها بإبطال أحكامها، ومعاجزين حال أي مقدرين عجزين وقد تقدمت في مكان آخر وجملة أولئك خبر الذين وأولئك مبتدأ وفي العذاب متعلقان بمحضرون ومحضرون خبر أولئك. (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) تقدم إعرابها وإنما أعادها لأنها سيقت هنا في شخص واحد بدليل قوله له وما سبق في شخصين فلا تكرار، وهبه كان تكرارا فهو للتأكيد. (وَما أَنْفَقْتُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 103 مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) يجوز في ما أن تكون شرطية وهو أظهر في محل نصب مفعول مقدم لأنفقتم وأنفقتم فعل الشرط ومن شيء حال والفاء رابطة للجواب، ويجوز أن تكون موصولة في موضع رفع بالابتداء ودخلت الفاء على الخبر لما في الموصول من رائحة الشرط وهو مبتدأ وجملة يخلفه خبر والجملة الاسمية إما في محل جزم على أنها جواب الشرط وإما في محل رفع على أنها خبر والواو عاطفة وهو مبتدأ وخير الرازقين خبر. رفع على أنها خبر والواو عاطفة وهو مبتدأ وخير الرازقين خبر. (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) الواو استئنافية ويوم ظرف متعلق باذكر مضمرا وجملة يحشرهم في محل جر بإضافة الظرف إليها وجميعا حال وثم حرف عطف ويقول فعل مضارع مرفوع عطفا على يحشرهم وللملائكة متعلقان بيقول والهمزة للاستفهام التقريعي وهؤلاء مبتدأ وإياكم ضمير منفصل في محل نصب مفعول مقدم ليعبدون وجملة كانوا خبر المبتدأ والواو اسم كانوا وجملة يعبدون خبرها. (قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) قالوا فعل ماض وفاعل وسبحانك مفعول مطلق وأنت مبتدأ وولينا خبر ومن دونهم حال. (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) بل حرف إضراب وكانوا كان واسمها وجملة يعبدون خبرها والجن مفعول به وأراد بالجن الشياطين التي كانت في اعتقادهم تتقمص الأصنام التي يعبدونها وأكثرهم مبتدأ وبهم متعلقان بمؤمنون ومؤمنون خبر والجملة بدل من جملة يعبدون الجن. (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) الفاء استئنافية واليوم ظرف متعلق بيملك ولا نافية ويملك فعل مضارع مرفوع وبعضكم فاعل ولبعض متعلقان بنفعا ونفعا مفعول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 104 به ولا ضرا عطف على نفعا. (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) الواو عاطفة ونقول فعل مضارع معطوف على لا يملك وللذين متعلقان بنقول وجملة ظلموا صلة وذوقوا فعل أمر وفاعل والجملة مقول القول وعذاب النار مفعول به والتي صفة للنار وجملة كنتم صلة والتاء اسم كان وبها متعلقان بتكذبون وجملة تكذبون خبر كنتم. [سورة سبإ (34) : الآيات 43 الى 45] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) اللغة: (مِعْشارَ) : قال في القاموس: «والعشير جزء من عشرة كالمعشار والعشر» وتابعه من نقل عنه كالمنجد وغيره وقال في الكشاف: «والمعشار كالمرباع وهما العشر والربع» وعبارة البحر: «المعشار مفعال من العشر ولم يبن على هذا الوزن من ألفاظ العدد غيره وغير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 105 المرباع ومعناهما العشر والربع وقال قوم المعشار عشر العشر» وقال الماوردي: «المعشار هنا هو عشر العشير والعشير هو عشر العشر فيكون جزءا من ألف» قال: وهو الأظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل. الإعراب: (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة تتلى في محل جر بإضافة الظرف إليها وهو مبني للمجهول وعليهم متعلقان بتتلى وآياتنا نائب فاعل وبينات حال من آياتنا والتالي هو النبي صلى الله عليه وسلم وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وما نافية وهذا مبتدأ والاشارة الى التالي وهو النبي وإلا أداة حصر ورجل خبر هذا وجملة يريد صفة لرجل وأن وما في حيزها في محل نصب مفعول يريد وعما متعلقان بيصدكم وجملة كان صلة واسم كان مستتر تقديره هو وجملة يعبد خبرها وآباؤكم فاعل والمسألة من باب التنازع وأعمل الثاني لقربه ولو أعمل الأول لقال يعبدونه. (وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل وما نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وإفك خبر ومفترى صفة وسيأتي سر هذا التكرير في باب البلاغة. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) الواو عاطفة وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة وللحق متعلقان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 106 بقال ولما ظرفية حينية أو رابطة وجاءهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وإن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وسحر خبر هذا ومبين صفة. (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) الواو عاطفة ويجوز جعلها حالية كما سيأتي في حلّ المعنى وما نافية وآتيناهم فعل وفاعل ومفعول به ومن حرف جر زائد وكتب مجرور لفظا في محل نصب مفعول ثان لآتيناهم وجملة يدرسونها صفة لكتب. (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) عطف على ما تقدم وإعرابها مماثل للجملة قبلها والمعنى: انتفاء العذر عن هؤلاء المشركين لأنهم لم يؤتوا كتبا يدرسونها ولم ترسل إليهم رسل بالنذر بخلاف أهل الكتاب فإنهم قد يتشبثون بما آتاهم وبما هم عاكفون عليه فلا يريدون تركه وان كان تشبثهم باطلا أما هؤلاء فليس لهم أدنى عذر وليس لها أي مبرر في جنوحهم الى التنطع ولجوئهم الى التكذيب. (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) الواو عاطفة وكذب الذين فعل وفاعل ومن قبلهم متعلقان بالصلة والواو حالية وما نافية وبلغوا فعل وفاعل ومعشار مفعول به وما اسم موصول مضاف اليه وجملة آتيناهم صلة. (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) الفاء عاطفة وكذبوا فعل وفاعل ورسلي مفعول به والفاء عاطفة وكيف اسم استفهام خبر مقدم لكان ونكيري اسمها واختار البيضاوي أن تكون جملة فكيف كان نكير معطوفة على محذوف قدره بقوله: «فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير فكيف كان نكيري لهم أي عليهم فليحذر هؤلاء من مثله» ولا مانع من ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 107 البلاغة: في هذه الآيات تكرار يدل على الغضب والإنكار، فقد تكرر الفعل وهو قولهم وصرح باسمهم وهو «الذين كفروا» وجاء باللام المؤذنة بالقوة وصرح بقوله «لما جاءهم» للعجب من مبادهتهم بالكفر وذلك للدلالة على مدى السخط عليهم والزراية بأقدارهم والتعجب من ارتكاس عقولهم ونبوها عن الحق وطمسها لمعالمه، ثم أضفى على ذلك ما هو أبلغ في الدلالة على رسوخهم في الكفر وتماديهم في الباطل وهو أن من قبلهم من أصحاب الكتاب لم يؤتوا مثلما أوتوا، بل لم يبلغ ما أوتوه معشار ما أتاهم وهو جزء من عشرة بل من مائة على رأي بعضهم بل جزء من ألف على رأي آخرين. وللتكرار مواضع يحسن فيها ومواضع يقبح فيها فأكثر ما يقع التكرار في الألفاظ دون المعاني وهو في المعاني دون الألفاظ أقل، ومما ورد فيه التكرار على جهة الوعيد والتهديد قول الأعشى ليزيد بن مهر الشيباني: أبا ثابت لا تعلقنك رماحنا ... أبا ثابت أقصر وعرضك سالم وذرنا وقوما إن هم عمدوا لنا ... أبا ثابت واقعد فإنك طاعم وسيأتي المزيد من بحث التكرار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 108 [سورة سبإ (34) : الآيات 46 الى 49] قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) الإعراب: (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وإنما كافة ومكفوفة وأعظم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وبواحدة متعلقان بأعظكم وأن وما في حيزها مصدر مؤول في محل جر عطف بيان لواحدة أو بدل منها أو رفع على تقدير هي أن تقوموا أو نصب على تقدير أعني، ومثنى وفرادى نصب على الحال وسيأتي السر في تقديم مثنى على فرادى في باب البلاغة. (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) ثم حرف عطف للترتيب والتراخي وسيأتي سر العطف بثم في باب البلاغة، وتتفكروا معطوف على أن تقوموا وما نافية وبصاحبكم خبر مقدم ومن حرف جر زائد وجنة مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ والجملة مستأنفة ويجوز أن تتضمن تتفكروا معنى تعلموا فتكون من أفعال القلوب وما استفهامية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 109 علقت تعلموا عن العمل فهي مبتدأ خبره بصاحبكم ومن جنة حال أي جنون. (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) إن نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر ونذير خبر هو ولكم متعلقان بنذير وبين ظرف متعلق بمحذوف حال أو صفة لنذير ويدي مضاف اليه وشديد صفة. (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) ما شرطية في محل نصب مفعول ثان مقدم لسألتكم وسألتكم فعل وفاعل ومفعول به أول وهو في محل جزم فعل الشرط ومن أجر حال والفاء رابطة لجواب الشرط وهو مبتدأ ولكم خبر والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، هذا ويحتمل أن تكون ما موصولة مبتدأ وجملة سألتكم صلة والفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط وجملة هو لكم خبر. (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) إن نافية وأجري مبتدأ وإلا أداة حصر وعلى الله خبر وهو مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بشهيد وشهيد خبر هو. (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) إن واسمها وجملة يقذف خبرها وبالحق متعلقان بيقذف وعلام الغيوب خبر ثان لإن أو خبر لمبتدأ محذوف واختار الزمخشري أن يكون مرفوعا على محل إن واسمها أو على المستكن في يقذف على أنه بدل منه، وقال ابن هشام: «فقدر علام نعتا للضمير المستتر في يقذف» وتعقبه الدسوقي قائلا: «وحمله الجمهور على البدل منه» (قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) جملة جاء الحق مقول القول والواو عاطفة وما نافية ويبدىء الباطل فعل مضارع وفاعل وما يعيد عطف على ما يبدىء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 110 البلاغة: 1- الطباق: في قوله «مثنى وفرادى» طباق بديع أتى به احترازا من القيام جماعة لأن في الاجتماع تشويشا للخواطر، وحئولا دون التأمل والاستغراق في التفكير، أما قيامهم مثنى وفرادى فيتيح لهم أن يفكروا ويعملوا الروية فإن تبين الحق للاثنين جنح كل فرد الى إعمال رأيه، وكثيرا ما يؤدي التعصب الى طمس الحقائق وضياع الفوائد إذ يصبح الفرد كالببغاء ينقاد للآخرين على حد قول شوقي: يا له من ببغاء ... عقله في أذنيه 2- الكناية: في قوله «وما يبدىء الباطل وما يعيد» كناية عن هلاكه والتطويح به لأنه إذا هلك لم يعد له إبداء أو إعادة، ومنه قول عبيد: أفقر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد فقد كان المنذر بن ماء السماء يخرج في يوم من كل سنة فينعم على كل من يلقاه وفي آخر فيقتل أول من يلقاه فصادفه فيه عبيد فقيل له امدحه بشعر لعله يعفو عنك فقال: حال الجريض دون القريض. فضرب مثلا وقال هذا البيت بعد ذلك تحسرا، وروي أن المنذر قال له: أنشدني أفقر من أهله ملحوب، فقال أقفر من أهله عبيد إلخ أي لا قدرة لي على إبداء شعر جديد ولا على إعادة شعر قديم وفي قوله يبدىء ويعيد أيضا طباق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 111 الفوائد: قال النحاة: ويعطف على أسماء الأحرف المشبهة بالفعل بالنصب قبل مجيء الخبر وبعده كقول رؤبة: إن الربيع الجود والخريف ... يدا أبي العباس والصيوفا فعطف الخريف بالنصب على الربيع وقبل مجيء الخبر وهو يدا أبي العباس وعطف الصيوف جمع صيف على الربيع بالنصب بعد مجيء الخبر، والجود بفتح الجيم وسكون الواو وبالدال المطر الغزير ويروى الجون بالنون بدل الدال والمراد به السحاب الأسود. والمراد بالربيع والخريف والصيوف أمطارهن والمراد بأبي العباس السفاح أول الخلفاء من بني العباس، وهذا من عكس التشبيه مبالغة لأن الغرض تشبيه يديه بالأمطار الواقعة في الربيع والخريف والصيف، ويعطف بالرفع على محل هذه أسماء هذه الأحرف بشرطين: استكمال الخبر وكون العامل إن أو أن أو لكن مما لا يغير معنى الجملة نحو إن الله بريء من المشركين ورسوله فعطف رسوله على محل الجلالة بعد استكمال الخبر وهو بريء، والمحققون على أن الرفع في ذلك ونحوه على أنه مبتدأ حذف خبره لدلالة خبر الناسخ عليه. قال اللقاني: «قال الرضي: والوصف وعطف البيان كالمنسوق عند الجرمي والزجاج والفراء في جواز الحمل على المحل ولم يذكر غيرهم في ذلك منعا ولا إجازة والأصل الجواز إذ لا فارق ولم يذكروا البدل والقياس كونه كسائر التوابع في جواز الرفع» وفي شرح المفصل لابن الحاجب: «أجاز الزجاج جعل ارتفاع علام الغيوب في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 112 قوله تعالى: قل إن ربي الآية على أنه صفة لربي بالتأويل الذي في العطف قال: ويمكن حمله على غير ما ذكره بأن يكون علام الغيوب فاعلا بيقذف ولا ضمير فيه فاستغنى عن العائد بظاهر موافق للأول في المعنى» وارجع الى المطولات. [سورة سبإ (34) : الآيات 50 الى 54] قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) اللغة: (التَّناوُشُ) : قال الزمخشري: «والتناوش والتناول اخوان إلا أن التناوش تناول سهل لشيء قريب يقال ناشه ينوشه وتناوشه القوم ويقال تناوشوا في الحرب: ناش بعضهم بعضا» وفي المصباح: «ناشه نوشا من باب قال تناوله والتناوش التناول يهمز ولا يهمز وتناوشوا بالرماح تطاعنوا بها» وقال ابن السكيت: «يقال للرجل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 113 إذا تناول رجلا ليأخذ برأسه ولحيته ناشه ينوشه نوشا ومنه المناوشة في القتال إذا تدانى الفريقان» . الإعراب: (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) إن شرطية وضللت فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة وإنما كافة ومكفوفة وأضل فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا وعلى نفسي متعلقان بأضل وهي في قوة بنفسي فيصح مقابلتها مع ما بعدها. (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) عطف على ما سبق وما من قوله فيما يوحي إلي ربي يجوز أن تكون مصدرية وأن تكون موصولة فعلى الأول يكون التقدير بسبب إيحاء ربي إليّ وعلى الثاني يكون التقدير: بسبب الذي يوحيه إلي ربي، وجملة يوحي لا محل لها على كل حال وإلي متعلقان بيوحي وربي فاعل يوحي وان واسمها وسميع خبرها الأول وقريب خبرها الثاني. (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) كلام مستأنف مسوق لتقرير حال الكفار عند نزول الموت واضطرارهم الى الإخلاد للحق والرجوع إليه. ولو شرطية وترى فعل مضارع وفعل مستتر تقديره أنت والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بتري وجملة فزعوا بالبناء للمجهول في محل جر بإضافة الظرف إليها وجواب لو محذوف كما حذف مفعول ترى والتقدير: ولو ترى حالهم وقت فزعهم لرأيت أمرا عظيما مذهلا والفاء عاطفة أو استئنافية ولا نافية للجنس وفوت اسمها المبني على الفتح والخبر محذوف أي لهم والمعنى لا يفوتوننا ولا ينجيهم منا هرب أو ملجأ وقد كثر حذف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 114 خبر لا النافية للجنس أو العاملة عمل ليس، حتى قيل أنه لا يذكر، وصيغ الماضي الواردة في إذ، وأخذوا أريد بها الاستقبال وأخذوا الواو عاطفة وأخذوا فعل ماضي مبني للمجهول والواو نائب فاعل ومعناه الاستقبال أيضا ومن مكان متعلقان بأخذوا وقريب صفة ومعنى من مكان قريب أي من ظهر الأرض الى بطنها إذا ماتوا. (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) وقالوا عطف على ما تقدم وجملة آمنا مقول قولهم وبه متعلقان بآمنا وأنى اسم استفهام معناه من أين أو كيف في محل نصب خبر مقدم والتناوش مبتدأ مؤخر ولهم متعلقان بمحذوف حال ومن مكان متعلقان بالتناوش وبعيد صفة أي عن محله وهو الدنيا. (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) الواو حالية وقد حرف تحقيق وكفروا فعل وفاعل وبه متعلقان بكفروا ومن قبل متعلقان بمحذوف حال ويقذفون معطوف على قد كفروا على أنها حكاية حال ماضية أي وكانوا يتكلمون ويرجمون بالظن ومن مكان بعيد متعلقان به والبعد المكاني هنا معناه البعد المعنوي أي وهمهم الفاسد وظنهم الكاذب الذي هو بعيد عن الحقيقة والواقع كل البعد وسيأتي المزيد من هذا المعنى في باب البلاغة. (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) الواو عاطفة وحيل فعل ماض مبني للمجهول ومعناه الاستقبال أيضا لأن ما يفعله الله في المستقبل بمثابة ما قد حصل والظرف نائب فاعل ولم يرفع لأنه أضيف إلى غير متمكن وهو الضمير، وفعل حال لازم لا يبنى للمجهول إلا مع الظرف أو الجار والمجرور وقيل نائب الفاعل هو ضمير المصدر المفهوم من الفعل كأنه قيل وحيل هو أي الحول والظرف متعلق بحيل، وبين عطف على الظرف الأول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 115 وما موصولة أو مصدرية والتقدير وبين الذي يشتهونه أو وبين مشتهاهم، ويشتهون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجملة لا محل لها على كل حال والكاف نعت لمصدر محذوف أي فعل بهم فعلا كما فعل بأشياعهم أي أتباعهم، وشيعة الرجل أتباعه وأنصاره أو أشباههم لأن من أشبه الثاني تبعه، وبأشياعهم متعلقان بفعل ومن قبل حال. (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) إن واسمها وجملة كانوا خبرها وكان واسمها وفي شك خبرها ومريب صفة. البلاغة: في قوله «وأنى لهم التناوش من مكان بعيد» استعارة تمثيلية وقد تقدم تعريف هذه الاستعارة ونقول في إجرائها هنا أنه شبه طلبهم ما لا يكون وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت كما ينفع المؤمنين إيمانهم بالدنيا بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة كما يتناوله الآخر من مقياس ذراع تناولا سهلا لا تعب فيه فقد كانوا يتكلمون بالغيب ويأتون به من مكان بعيد وهو قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم شاعر ساحر كذاب، وهذا رجم بالظن، وقذف بالباطل لأنهم لم يشاهدوا منه شعرا ولا سحرا ولا كذبا، ولو أنهم رجعوا الى قرارة نفوسهم يسألونها عن حقيقة ما يرجفون ويرجمون لكذبتهم وأدانتهم. الفوائد: تقدم في موضع آخر من هذا الكتاب أنه ينوب عن الفاعل واحد من أربعة: وهي المفعول به نحو وغيض الماء، والثاني المجرور نحو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 116 ولما سقط في أيديهم، والثالث مصدر متصرف مختص بالصفة نحو فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وقد ينوب عن المصدر ضميره نحو قول طرفة بن العبد: فيا لك من ذي حاجة حيل دونها ... وما كل ما يهوى امرؤ هو نائله فيكون المعنى حيل هو أي الحول المعهود وليس النائب الظرف لأنه غير متصرف عند جمهور البصريين، وعن الأخفش أنه يجوز مع فتحه، قال أبو علي وتلميذه ابن جني فتحة اعراب، وقال غيرهما فتحة بناء، وعلى ذلك توجه الآية التي نحن بصددها، أما الرابع فهو ظرف مختص نحو صيم رمضان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 117 (35) سورة فاطر مكّيّة وآياتها خس وأربعون [سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) اللغة: (فاطِرِ السَّماواتِ) خالقها على غير مثال وأصل الفطر الشقّ مطلقا وقيل الشق طولا وبابه نصر كما في المختار وعن مجاهد عن ابن عباس: ما كنت أدري ما فاطر السموات والأرض حتى اختصم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 118 إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أي ابتدأتها وابتدعتها، وقد جمع بعضهم معنى هذه المادة على اختلافه فقال: الابتداء والابتداع فطر ... والصّدع والغمز وأما الفطر فترك صوم بعض كمء فطر ... وما بدا من عنب في الشجر (تُؤْفَكُونَ) : تصرفون من الأفك بالفتح وهو الصرف يقال: ما أفكك عن كذا أي ما صرفك عنه وقيل هو من الإفك بالكسر وهو الكذب وفي المختار: «والأفك بالفتح مصدر أفكه أي قلبه وصرفه عن الشيء وبابه ضرب ومنه قوله تعالى: «قالوا أجئتنا لتأفكنا عما وجدنا عليه آباءنا» . الإعراب: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الحمد مبتدأ ولله خبره وفاطر السموات صفة له والأرض عطف على السموات وأل في الحمد جنسية استغراقية أي جنس الحمد، والاضافة في فاطر السموات محضة لأنه للماضي. (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) جاعل الملائكة صفة ثانية والإضافة هنا محضة أيضا واعتبرها بعضهم غير محضة لأنها حكاية حال ولهذا ساغ اعمال اسم الفاعل لأنه لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي، ولهذا جعل بعضهم رسلا منصوبة بفعل مضمر، وجوز الكسائي عمله على كل حال. ورسلا مفعول ثان لجاعل وإذا كانت جاعل بمعنى خالق كانت رسلا حالا مقدرة وأولي أجنحة نعت لرسلا ومثنى وثلاث ورباع صفات لأجنحة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 119 وقد منعت من الصرف للوصف والعدل عن المكرر أي اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة وقد تقدم الكلام في هذه الصفات في سورة النساء وأعربها الكازروني في حاشيته بدلا من أجنحة. (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كلام مستأنف مقرر لما قبله وفي الخلق متعلقان بيزيد وما مفعول به وجملة يشاء صلة وإن واسمها وعلى كل شيء متعلقان بقدير وقدير خبر إن والجملة تعليلية لا محل لها. (ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) ما اسم شرط جازم في محل نصب مفعول به مقدم ليفتح ويفتح فعل الشرط والله فاعل وللناس متعلقان بيفتح ومن رحمة حال والفاء رابطة لجواب الشرط ولا نافية للجنس وممسك اسمها ولها خبرها والجملة في محل جزم جواب الشرط. (وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الواو عاطفة وما اسم شرط جازم في محل نصب أيضا مفعول مقدم ليمسك ويمسك فعل الشرط والفاء رابطة ولا نافية للجنس ومرسل اسمها وله خبرها وفي قوله أولا فلا ممسك لها حمل التأنيث على معنى ما لأن المراد الرحمة وفي الثاني حمل على اللفظ، ومن بعده حال أي بعد إمساكه وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والحكيم خبر ثان. (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) يا حرف نداء وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب والهاء للتنبيه والناس بدل واذكروا نعمة الله فعل أمر وفاعل ومفعول به ومضاف إليه وعليكم متعلقان بنعمة لأنها بمعنى الإنعام وإذا كانت بمعنى المنعم به تعلق الجار والمجرور بمحذوف على أنه حال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 120 (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) هل حرف استفهام ومن حرف جر زائد وخالق مبتدأ مجرور لفظا مرفوع محلا وغير الله صفة لخالق على المحل أو على اللفظ أو منصوب على الاستثناء وقرىء بها جميعا وخبر خالق محذوف أي لكم ويجوز أن تكون جملة يرزقكم نصبا على الحال أو رفعا صفة لخالق على المحل أو جرا صفة لخالق على اللفظ ويجوز أن تكون خبرا لخالق، ومن السماء متعلقان بيرزقكم والأرض عطف وسيأتي المزيد من إعراب هذه الآية وما قيل فيها في باب الفوائد ومعنى الاستفهام التقرير والتوبيخ. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير النفي المستفاد من الاستفهام وقد تقدم إعراب لا إله إلا الله مفصلا، فأنى الفاء استئنافية وأنى اسم استفهام في محل نصب حال وتؤفكون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. الفوائد: 1- معنى «نزيد في الخلق ما نشاء» : اشتملت هذه الآيات على فوائد كثيرة أولها معنى الزيادة في الخلق، ونرى أن خير ما قيل فيها ما أورده الزمخشري في كشافه فبعد أن أورد ما قاله العلماء فيها قال: «والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق من طول قامة واعتدال صورة وتمام في الأعضاء وقوة في البطش وحصافة في العقل وجزالة في الرأي وجراءة في القلب وسماحة في النفس وذلاقة في اللسان ولباقة في التكلم وحسن تأنّ في مزاولة الأمور وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف» وهذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 121 الكلام على وجازته وبلاغته جامع مانع وفيه تعليل مرض لما تراه من تفاوت في مخلوقات الله. واستعار الفتح للإطلاق والإرسال كأنما هي أبواب موصدة لا يفتح مغالقها إلا الله من صنوف النعم وضروب الآلاء كالرزق والمطر والصحة والأمن في الأوطان وغير ذلك مما لا يحصى عدده. وفي تنكير الرحمة ما يدل على الاشاعة والإبهام لتندرج في مطاويها ضروب النعم كما تقدم. 2- إعراب هل من خالق: منع بعضهم أن تكون جملة يرزقكم خبرا لخالق لأن هل لا تدخل على مبتدأ مخبر عنه بفعل على الأصح. 3- مواضع زيادة «من» : قلنا في مكان آخر أن «من» الجارة تزاد قبل النكرة إذا سبقت بنفي أو نهي أو استفهام ونضيف هنا أن ذلك يطرد في تسعة أوجه: 1- في الابتداء. 2- في الفاعل. 3- في اسم كان. 4- في مفعول ما يتعدى لواحد. 5- في أول مفعولي ظننت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 122 6- في أول مفاعيل علمت. 7- في أول مفعولي أعطيت. 8- في ثاني مفعولي أعطيت. 9- في مفعول ما لم يسم فاعله. [سورة فاطر (35) : الآيات 4 الى 7] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) الإعراب: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) كلام مستأنف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم بأن له فيمن تقدمه من الأنبياء أسوة حسنة. وإن حرف شرط جازم ويكذبوك فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والكاف مفعول به والفاء رابطة لجواب الشرط وجملة قد كذبت في محل جزم جواب الشرط وهي من وضع السبب موضع المسبب وهو التأسي والتقدير فتأس بتكذيب الرسل من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 123 قبلك، ورسل نائب فاعل ومن قبلك صفة لرسل وبهذا التقدير يجاب عن الاعتراض بأن من حق الجزاء أن يتعقب الشرط وهذا سابق له. (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) الواو عاطفة والى الله متعلقان بترجع والأمور نائب فاعل. (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) يا أيها الناس: تقدم إعرابها كثيرا وان واسمها وخبرها. (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) الفاء الفصيحة ولا ناهية وتغرنكم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقلية وهو في محل جزم بلا الناهية والكاف مفعول به والحياة فاعل والدنيا صفة ولا يغرنكم بالله الغرور عطف على ما تقدم والغرور بفتح الغين صيغة مبالغة كالصبور والشكور والمراد بها الشيطان لأن ذلك ديدنه. (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) إن واسمها ولكم متعلقان بعدو أو حال منه وعدو خبر إن والفاء الفصيحة واتخذوه فعل أمر وفاعل ومفعول به أول وعدوا مفعول به ثان. (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) إنما كافة ومكفوفة ويدعو فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو وحزبه مفعول به واللام للتعليل ويكونوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام التعليل ويجوز أن تكون اللام هي لام الصيرورة أو العاقبة، والواو اسم يكونوا ومن أصحاب السعير خبرها. (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) الذين مبتدأ وجملة كفروا صلة ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر الذين وشديد صفة ويجوز أن يكون اسم الموصول بدلا من الواو في ليكونوا أو صفة لحزبه فيكون موضعه النصب كما يجوز أن يكون محله الجر على أنه بدل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 124 من أصحاب أو انه نعت لأصحاب. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) الذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا ولهم خبر مقدم ومغفرة مبتدأ مؤخر والجملة خبر الذين وأجر عطف على مغفرة وكبير صفة. [سورة فاطر (35) : آية 8] أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) الإعراب: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما سبق من التباين بين عاقبتي الفريقين ببيان تباين حالهما المؤدي إلى تينك العاقبتين. والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف وقد تقدمت نظائرها ومن اسم موصول في محل رفع مبتدأ خبره محذوف دل عليه سياق الكلام والتقدير كمن هداه الله، وأعربه بدر الدين بن مالك اسم شرط وجواب الشرط محذوف تقديره: ذهبت نفسك عليهم حسرة، وجملة زين صلة من وله متعلقان بزين وسوء عمله نائب فاعل، فرآه الفاء عاطفة ورآه عطف على زين والهاء مفعول رأى الأول وحسنا مفعول رأى الثاني لأنها قلبية والفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط وان واسمها وجملة يضل خبرها ومن يشاء مفعول يضل وجملة ويهدي من يشاء عطف على جملة يضل من يشاء. (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 125 عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) الفاء الفصيحة ولا ناهية وتذهب فعل مضارع مجزوم بلا ونفسك فاعل وعليهم متعلقان بتذهب كما تقول هلك عليه حبا ومات عليه حزنا، ولا يجوز أن يتعلق بحسرات لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته، وحسرات مفعول لأجله والمعنى فلا تهلك نفسك للحسرات وقال المبرد انها تمييز وقال الزمخشري: «يجوز أن يكون حالا كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر كما قال جرير: مشق الهواجر لحمهن مع السرى ... حتى ذهبن كلا كلا وصدورا يصف نوقا بالهزال يقال فرس ممشوق أي طويل مهزول وجارية ممشوقة القوام والهاجرة شدة الحر والسرى بالضم سير الليل والكلكل والكلكال الصدر أي صرن من شدة الحر كأنهن عظام فقط لا لحم عليهن وعطف الصدور على الكلاكل للتفسير وسيأتي المزيد من هذا البحث في باب البلاغة. وان واسمها وخبرها وبما يصنعون متعلقان بعليم. البلاغة: في قوله: «فلا تذهب نفسك عليهم حسرات» فن الإيغال وهو الإتيان بكلام يعتبر بمثابة التتمة لكلام سبقه احتياطا فقد أقسم الله تعالى بحياة الرسول أكثر من مرة ان الذين أعرضوا عنه وخالفوه قد تجاوزوا كل حدّ بإعراضهم ودللوا على أنهم مفرطون في الغباوة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 126 موغلون في الضلال كما قال تعالى في أكثر من موضع «لعمرك انهم لفي سكرتهم يعمهون» وقوله أيضا «ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر» وقوله «فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا» وذهاب النفس حسرة وأسفا تعبير مرموق رمقه الشعراء كثيرا فقال شاعر قديم: فعلى إثرهم تساقط نفسي ... حسرات وذكرهم لي سقام لما أصابه الحزن بعد ذهاب الأحباب وتمكن من نفسه وسيطر بدمه، تخيل أنها تتناثر وتنزل من جسمه حال كونها حسرات متتابعة، وجعل النفس حسرات لامتزاجها بها فكأنها هي، أو تتساقط بعدهم لأجل الحسرات والأحزان، وذكرهم أي تذكرهم سقام لي وهو بالفتح مصدر كالسقم. وقال ابن الرومي مقتبسا هذه اللفظة البديعة في رثاء ابنه محمد وهو أوسط أولاده: وظل على الأيدي تساقط نفسه ... ويذوي كما يذوي القضيب من الزند وإنما يحمل المريض على الأيدي إذا كان صغيرا وقد مات ابنه محمد منزوفا وهو فيما بين الرابعة والخامسة. أقول روى التاريخ أن هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام لما زين له سوء عمله فرآه صوابا أو جميلا فهام في الضلال، وأطلق آمر النهي واعتنق طاعة الهوى حتى رأى الحسن قبيحا والقبيح حسنا كأنما ران عليه وسلبه عقله ولبه وتمييزه وقد رمق أبو نواس سماء هذا المعنى فقال: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 127 اسقني حتى تراني ... حسنا عندي القبيح يقول لساقي الخمر: اسقني حتى أسكر فيحسن عندي القبيح، وحسنا هو المفعول الثاني لتراني والقبيح فاعل حسنا لأنه صفة مشبهة. [سورة فاطر (35) : الآيات 9 الى 10] وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) اللغة: (بَلَدٍ) : في المصباح: «البلد يذكر ويؤنث» والبلدة البلد وتطلق البلد والبلدة على كل موضع من الأرض عامرا كان أو خلاء، وفي التنزيل: «الى بلد ميت» أي الى أرض ليس بها نبات ولا مرعى فيخرج ذلك بالمطر فترعاه أنعامهم فأطلق الموت على عدم النبات والمرعى وأطلق الحياة على وجودهما» . (الْكَلِمُ) : اسم جنس لأنه يدل على الماهية من حيث هي هي وليس بجمع خلافا لصاحب القاموس ولغيره من النحاة لأنه يجوز تذكير ضميره والجمع يغلب عليه التأنيث ولا اسم جمع لأن له واحدا من لفظه والغالب على اسم الجمع خلاف ذلك وواحدة كلمة والكلمة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 128 فيها ثلاث لغات: كلمة بفتح الكاف وكسر اللام وكلمة بكسر الكاف وسكون اللام وكلمة بفتح الكاف وسكون اللام. (يَبُورُ) : يهلك ويفسد يقال: بار يبور بورا وبوارا: هلك وبارت السوق أو السلعة كسدت وبار العمل: بطل وبارت الأرض: لم تزرع وبوّر الأرض تركها أو صيرها بائرة وأباره: أهلكه وتبوّر نفسه رثاها وناح من البوار، والبائر: ما بار من الأرض والجمع بور يقال: حائر بائر أي لا يطيع مرشدا ولا يتجه لشيء والبور أيضا: الفاسد الهالك الذي لا خير فيه يقال امرأة بور وقوم بور، والبور من الأرض: ما لم يزرع والبوار الهلاك والفساد ودار البوار: جهنم. الإعراب: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) الله مبتدأ والذي خبره وجملة أرسل الرياح صلة الموصول والرياح مفعول به والفاء عاطفة وتثير فعل مضارع وسيأتي سر عطف المضارع على الماضي وكيف جاء مخالفا لما قبله وما بعده في باب البلاغة وسحابا مفعول به. (فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) فسقناه عطف أيضا على طريق الالتفات وسقناه فعل وفاعل ومفعول به والى بلد متعلقان بسقناه وميت صفة، فأحيينا به الأرض عطف أيضا والظرف متعلق بمحذوف حال وكذلك خبر مقدم والنشور مبتدأ مؤخر وسيأتي سر هذا التشبيه في باب البلاغة. (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) من اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر يعود على ما وجملة يريد خبرها والعزة مفعول به والفاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 129 رابطة لجواب الشرط ولله خبر مقدم والعزة مبتدأ مؤخر والجملة في محل جزم جواب الشرط، وساغ قيام هذه الجملة مقام الجواب لدلالتها عليه لأن الشيء لا يطلب إلا عند صاحبه ومالكه ونظيره قولك من أراد النصيحة فهي عند الأبرار، تريد فليطلبها عندهم إلا أنك أقمت ما يدل عليه مقامه، ومعنى فلله العزة جميعا أن العزة كلها مختصة لله، وقال آخرون: «ومن شرطية مبتدأ وجواب الشرط محذوف تقديره فليعطه وقوله فلله العزة تعليل للجواب المحذوف» وقدر البيضاوي جواب الشرط المحذوف بقوله «فليطعه» ولله خبر مقدم والعزة مبتدأ مؤخر وجميعا حال وجملة الشرط وجوابه خبر من. (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) الجملة نصب على الحال وإليه متعلقان بيصعد ويصعد الكلم فعل مضارع وفاعل والطيب صفة للكلم والعمل مبتدأ، ويجوز رفعه على العطف والصالح صفة وجملة يرفعه خبر العمل وفاعل يرفعه ضمير مستتر يعود على العمل أي العمل الصالح يرفع الكلم وقيل الفاعل ضمير الله فتعود الهاء على العمل، وعن ابن المقفع «قول بلا عمل كثريد بلا دسم وسحاب بلا مطر وقوس بلا وتر» (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) كلام مستأنف مسوق لبيان حال الكلم الخبيث والعمل السيّء بعد بيان حال الكلم الطيب والعمل الصالح وأهلهما. والذين مبتدأ وجملة يمكرون صلة الذين والسيئات صفة مفعول مطلق وتقديره المكرات السيئات ولا يجوز نصبه على أنه مفعول به لأن مكر فعل غير متعد والمكرات بفتحات جمع مكرة بسكون الكاف وهي المرة من المكر الذي هو الحيلة والخديعة وقال بعضهم يجوز تضمين يمكرون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 130 السيئات معنى يكسبون السيئات فيجوز نصبها على أنها مفعول به، ومكر مبتدأ وأولئك مضاف إليه ووضع اسم الاشارة موضع الضمير للإيذان بتميزهم بالشر والفساد عن سائر المفسدين أي هم لا غيرهم، وهو ضمير فصل لا محل له وجملة يبور خبر مكر ويجوز أن يكون هو مبتدأ وجملة يبور الخبر والجملة الاسمية خبر مكر وقد اختلف في وقوع ضمير الفصل قبل الخبر فمنعه قوم وأجازه آخرون ونحن أميل الى الجواز. البلاغة: 1- الالتفات: في قوله «والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلخ» التفاتان: الأول في الإخبار بالفعل المستقبل عن الماضي فقد قال «فتثير» مستقبلا وما قبله وما بعده ماض لحكاية الحال الماضية واستحضار لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال القدرة والحكمة وهكذا يفعل بكل فعل فيه نوع تمييز وخصوصية كحال تستغرب أو تهم المخاطب وغير ذلك كما قال تأبط شرا: فمن ينكر وجود الغول إني ... أخبر عن يقين بل عيان بأني قد لقيت الغول تهوي ... بسهب كالصحيفة صحصحان فأضربها بلا دهش فخرت ... صريعا لليدين وللجران والغول أنثى الشياطين والعيان المشاهدة بالعين والهوي الهبوط والمراد سرعة العدو والسهب بالفتح الفضاء المستوي البعيد الأطراف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 131 والصحيفة الكتاب والصحصحان بالفتح المستوي من الأرض والجران ككتاب مقدم عظم العنق من الحلق الى اللبة وجمعه جرنه ككتبه وأجرنة كأفئدة يقول: من ينكر وجود الغول فقد كذب فإني أخبر عن يقين أو المعنى فيا من تنكر وجود الغول إني أخبر إخبارا ناشئا عن يقين وهو ما كان بدليل قاطع بله عيان ومشاهدة بالعين. وعلى هذا الأسلوب ما ورد من حديث الزبير بن العوام في غزوة بدر فإنه قال: لقيت عبيدة بن سعيد بن العاص وهو على فرس وعليه لأمة كاملة لا يرى منه إلا عيناه وهو يقول: أنا أبو ذات الكئوس، وفي يدي عنزة فأطعن بها في عينه فوقع وأطأ برجلي على خده حتى خرجت العنزة متعقفة. فقوله فأطعن بها في عينه وأطأ برجلي معدول به عن لفظ الماضي الى المستقبل ليمثل للسامع الصورة التي فعل فيها ما فعل من الإقدام والجراءة على قتل ذلك الفارس المستلئم، ألا ترى أنه قال أولا لقيت عبيدة بلفظ الماضي ثم قال بعد ذلك فأطعن بها في عينه ولو عطف كلامه على أوله لقال فطعنت بها في عينه. والالتفات الثاني في قوله: «فسقناه الى بلد ميت فأحيينا إلخ» ولو جرى على نمط الكلام لقال فسقى وأحيا ولكنه عدل بهما عن لفظ الغيبة الى لفظ التكلم وهو أدخل في الاختصاص وأدلّ عليه وإنما عبر بالماضيين بعد المضارع للدلالة على التحقق. 2- التشبيه: وفي قوله «كذلك النشور» تشبيه مرسل لوجود الأداة أي كمثل إحياء الموات نشور الأموات في صحة المقدورية أو في كيفية الاحياء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 132 3- المجاز الاسنادي: وفي قوله «إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه» مجاز في المسند ومجاز في الاسناد فالصعود مجاز عن العلم لأن الصعود صفة من صفات الاجرام والكلم معلوم فأسند الفعل للمفعول به. [سورة فاطر (35) : الآيات 11 الى 14] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 133 اللغة: (فُراتٌ) : شديد العذوبة وفي القاموس «وفرت الماء ككرم فروتة عذب» . (أُجاجٌ) : شديد الملوحة وفي القاموس «وأجّ الماء أجوجا بالضم يأجج كيسمع ويضرب وينصر إذا اشتدت ملوحته» وتقول هجير أجاج للشمس فيه مجاج وهو لعاب الشمس وماء أجاج يحرق بملوحته. (قِطْمِيرٍ) : القطمير لفافة النواة وهي القشرة الرقيقة الملتفة عليها وقيل هي النكتة في ظهرها، ومعلوم أن في النواة أربعة أشياء يضرب بها المثل في القلة: الفتيل وهو ما في شق النواة والقطمير وهو اللفافة والنقير وهو ما في ظهرها والثفروق وهو بين القمع والنواة وقال الجوهري: «ويقال هو النكتة البيضاء التي في ظهر النواة تنبت منها النخلة» . الإعراب: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) كلام مستأنف مسوق لإيراد تقرير آخر أو دليل آخر على صحة البعث والنشور. والله مبتدأ وجملة خلقكم خبر ومن تراب متعلقان بخلقكم ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ومن نطفة عطف على من تراب، ثم جعلكم أزواجا عطف على خلقكم من تراب وأزواجا مفعول ثان لجعل أي أصنافا ذكورا وإناثا. (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 134 اللغة: (جُدَدٌ) : بضم الجيم وفتح الدال جمع جدة وهي طريق في الجبل أو غيره أو هي الخطة والطريقة من قولك جددت الشيء أي قطعته، قال لبيد بن ربيعة: «أو مذهب جدد على ألواحه» وقال أبو الفضل: «هي ما يخالف من الطرائق لون ما يليها ومنه جدة الحمار للخط الذي في ظهره» والمراد في الجبال ما هو ذو جدد يخالف لونها لون الجبل. (غَرابِيبُ) : جمع غربيب وهو الأسود المتناهي في السواد يقال أسود غربيب وأسود حلكوك وهو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه ومنه الغراب وفي القاموس «وأسود غربيب حالك فأما غرابيب سود فالسود بدل لأن توكيد الألوان لا يتقدم» وسيأتي المزيد من هذا البحث في باب الإعراب. الإعراب: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الواو عاطفة وإن شرطية ويكذبوك فعل الشرط والواو فاعل والكاف مفعول به، فقد الفاء رابطة لجواب الشرط وقد حرف تحقيق وكذب الذين فعل وفاعل ومن قبلهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 148 متعلقان بمحذوف صلة وجملة فقد كذب في محل جزم جواب الشرط والأولى أن يكون الجواب محذوفا تقديره فاصبر كما صبروا وقوله فقد كذب دليل عليه (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) جملة جاءتهم حال وهو فعل ماض ومفعول به ورسلهم فاعل وبالبينات متعلقان بجاءتهم وما بعده عطف عليه والمنير صفة لكتاب والمراد بالزبر صحف إبراهيم وبالكتاب المنير التوراة والإنجيل. (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) ثم حرف عطف وأخذت الذين كفروا فعل وفاعل ومفعول به والفاء استئنافية وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر لكان مقدم عليها ونكيري اسمها وحذفت الياء في الرسم لمراعاة الفاصلة والنكير بمعنى الإنكار أي إنكاري عليهم بالعقوبة والإهلاك، والاستفهام هنا معناه التقرير أي انه وقع موقعه وصادف أهله. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما تقدم من ذكر اختلاف أحوال الناس وأنه أمر مطرد في جميع الكائنات. والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره أنت وان واسمها سدت مسد مفعولي تر وأن واسمها وجملة أنزل من السماء خبرها وماء مفعول أنزل. (فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) الفاء عاطفة وأخرجنا عطف على أنزل على طريق الالتفات من الغيبة الى التكلم وبه متعلقان بأخرجنا وثمرات مفعول أخرجنا ومختلفا صفة لثمرات وهو نعت سببي وألوانها فاعل به ولذلك لم يؤنث لأنه أسند الى جمع تكسير يجوز فيه التذكير والتأنيث وسيأتي سر هذا الالتفات في باب البلاغة. (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) ومن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 149 الجبال الواو استئنافية ومن الجبال الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وجدد مبتدأ مؤخر وسيرد سر هذه الجملة الاسمية في باب البلاغة، وبيض صفة لجدد وحمر عطف على بيض ومختلف صفة لجدد أيضا وألوانها فاعل بمختلف، وقد تقدم نظيره ولذلك لا يجوز أن تعرب مبتدأ مؤخرا وخبرا مقدما لأن المطابقة واجبة حينذاك، وغرابيب عطف على جدد وسود بدل من غرابيب وجعله الزمخشري معطوفا على بيض أو جدد، قال «كأنه قيل ومن الجبال مخطط ذو جدد ومنها ما هو على لون واحد» ثم قال «ولا بد من تقدير حذف المضاف في قوله ومن الجبال جدد بمعنى ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر وسود حتى يئول الى قولك ومن الجبال مختلف ألوانها كما قال ثمرات مختلفا ألوانها» ولم يذكر بعد غرابيب سود مختلف ألوانها كما ذكر ذلك بعد بيض وحمر لأن الغربيب هو البالغ في السواد فصار لونا واحدا غير متفاوت بخلاف ما تقدم. (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ) الواو عاطفة ومن الناس خبر مقدم والدواب والأنعام معطوفان على الناس ومختلف ألوانه نعت لمحذوف هو المبتدأ أي صنف مختلف ألوانه من الناس وكذلك نعت لمصدر محذوف لمختلف أي اختلاف كذلك. (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) الجملة تعليل للرؤية لأن الخشية معرفة المخشي والعلم بصفاته وأفعاله فمن كان أعلم به كان أخشى منه. وإنما كافة ومكفوفة ويخشى الله فعل مضارع ومفعول به مقدم ومن عباده حال والعلماء فاعل، وسيأتي سر هذا الحصر في باب البلاغة، وان واسمها وخبراها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 150 البلاغة: انطوت هذه الآيات على فنون رفيعة من البيان نورد منها: 1- الالتفات في قوله «فأخرجنا» فقد التفت عن الغيبة الى التكلم لأن المنة بالإخراج أبلغ من إنزال الماء، ولإظهار كمال الاعتناء بالفعل لما فيه من الصنع البديع المنبئ عن كمال القدرة. 2- التدبيج في قوله «ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود» وقد تقدم أن التدبيج هو أن يذكر المتكلم ألوانا يقصد الكناية بها والتورية بذكرها عن أشياء من وصف أو مدح أو هجاء أو نسيب أو غير ذلك من الفنون، وقد أراد الله تعالى بذلك الكناية عن المشتبه من الطرق لأن الجادة البيضاء هي الطريق التي كثر السلوك عليها جدا وهي أوضح الطرق وأبينها يأمن فيها المتعسف ولا يخاف اجتيازها الموغل في الاسفار والممعن في افتراش صعيد المغاور، ولهذا قيل ركب بهم الحجة البيضاء ودونها الحمراء ودون الحمراء السوداء كأنها في خفائها والتباس معالمها ضد البيضاء في الظهور والوضوح، ولما كانت هذه الألوان الثلاثة في الظهور للعين طرفين وواسطة بينهما، فالطرف الأعلى في الظهور البياض والطرف الأدنى في الخفاء السواد والأحمر بينهما على وضح الألوان والتراكيب، وكانت ألوان الجبال لا تخرج، في الغالب، عن هذه الألوان الثلاثة، والهداية بكل علم نصب للهداية منقسمة هذه القسمة، أتت الآية الكريمة على هذا التقسيم فحصل فيها التدبيج مع صحة التقسيم وهي مسرودة على نمط متعارف، مسوقة للاعتداد بالنعم على ما هدت اليه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 151 من السعي في طلب المصالح والمنافع وتجنب المعاطب والمهالك الدنيوية والأخروية. 3- العدول الى الاسمية: وذلك في قوله «ومن الجبال» فإن إيراد هذه الجملة والجملة التي بعدها وهي «ومن الناس» اسميتين مع مشاركتهما للجملة الفعلية قبلهما في الاستشهاد بمضمون كل من هذه الجمل على تباين الناس في الأحوال، كما أن اختلاف الجبال والناس والدواب والأنعام فيما ذكر من الألوان أمر مستمر فعبر عنه بما يدل على الاستمرار، وأما إخراج الثمرات المختلفة فأمر حادث متجدد فعبر عنه بما يدل على الحدوث. 4- التقديم والتأخير والحصر: في قوله «إنما يخشى الله من عباده العلماء» لحصر الخشية بالعلماء كأنه قيل: إن الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم، أما إذا قدمت الفاعل فإن المعنى ينقلب الى أنهم لا يخشون إلا الله وهما معنيان مختلفان كما يبدو للمتأمل. [سورة فاطر (35) : الآيات 29 الى 31] إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 152 الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) إن واسمها وجملة يتلون صلة وكتاب الله مفعول يتلون وأقاموا الصلاة فعل ماض وفاعل ومفعول به وهي عطف على الصلة داخلة في حيزها. (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) عطف أيضا وأنفقوا فعل وفاعل ومما متعلقان بأنفقوا وجملة رزقناهم صلة وسرا وعلانية منصوبان بنزع الخافض أي في السر والعلانية وفي ذلك إلماع الى الإنفاق كيفما تهيأ ولك أن تنصبهما على الحال أي مسرين ومعلنين وقيل هو إلماع الى الصدقة المطلقة والأحسن فيها أن تكون سرا والزكاة وهي لا تكون إلا علانية. (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) جملة يرجون خبر إن وتجارة مفعول به ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتبور فعل مضارع منصوب بلن وجملة لن تبور صفة لتجارة. (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) اللام للعاقبة والصيرورة أو للتعليل ويوفيهم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بلن تبور على معنى أنها لن تكسد لأجل أن يوفيهم أجور أعمالهم الصالحة، وقيل إن اللام متعلقة بمحذوف دل عليه السياق أي فعلوا ذلك ليوفيهم والهاء مفعول يوفيهم الأول وأجورهم مفعول به ثان ويزيدهم عطف على يوفيهم وان واسمها وغفور خبرها الأول وشكور خبرها الثاني وجملة إن تعليل لما تقدم من التوفية والزيادة، وأجاز الزمخشري جعل جملة يرجون في محل نصب على الحال أي وأنفقوا راجين، وخبر إن قوله إنه غفور شكور. (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ) الذي مبتدأ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 153 وجملة أوحينا صلة وإليك متعلقان بأوحينا ومن الكتاب حال وهو مبتدأ أو ضمير فصل والحق خبر هو والجملة الاسمية خبر الذي أو الحق خبر الذي. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) مصدقا حال مؤكدة أي وموافقا لما تقدمه من الكتب ولما متعلقان بمصدقا والظرف متعلق بمحذوف صلة ما ويديه مضاف اليه أي من الكتب التي تقدمته وإن واسمها وبعباده متعلقان بخبير واللام المزحلقة وخبير وبصير خبران لإن أي عالم بما ظهر وما بطن منهم. [سورة فاطر (35) : الآيات 32 الى 35] ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) اللغة: (نَصَبٌ) : تعب وفي القاموس: «نصب كفرح أعيا» وفي المختار: «ونصب تعب وبابه طرب» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 154 (لُغُوبٌ) : إعياء من التعب وفي القاموس: «لغب لغبا ولغوبا كمنع وسمع وكرم أعيا أشد الإعياء» وفي المختار: «اللغوب بضمتين التعب والإعياء وبابه دخل ولغب بالكسر لغوبا لغة ضعيفة» فظاهر ما ورد في كتب اللغة أنهما متفقان في المعنى ولكن الزمخشري فرق بينهما تفريقا دقيقا فقال: «فإن قلت: ما الفرق بين النصب واللغوب؟ قلت: النصب والتعب والمشقة التي تصيب المنتصب للأمر المزاول له وأما اللغوب فما يلحقه من الفتور بسبب النصب فالنصب نفس المشقة والكلفة واللغوب نتيجته وما يحدث منه من الكلال والفترة» . الإعراب: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وأورثنا الكتاب فعل وفاعل ومفعول به ثان وإنما قدم المفعول الثاني قصد التشريف والتعظيم للكتاب وسيأتي معناه في باب البلاغة والذين هو المفعول الاول وجملة اصطفينا صلة الذين ومن عبادنا حال. (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) الفاء تفريعية لأنه قسم عبادة الذين أورثهم الكتاب كما سيأتي ومنهم خبر مقدم وظالم مبتدأ مؤخر ولنفسه متعلقان بظالم وهؤلاء هم القسم الأول ومنهم مقتصد عطف على ما قبله وهم القسم الثاني ومنهم سابق بالخيرات عطف أيضا وهم القسم الثالث وبإذن الله حال أو متعلقان بسابق وسيأتي تفصيل ذلك في باب الفوائد. (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) ذلك مبتدأ وهو مبتدأ ثان أو ضمير فصل والفضل الكبير خبر هو والجملة خبر ذلك، أو خبر ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 155 (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) جنات عدن مبتدأ وجملة يدخلونها خبر وأعربها الزمخشري بدلا من الفضل وليس ثمة مانع ولكن الزمخشري تسلل من هذا الإعراب الى تثبيت عقيدته الاعتزالية كما سيأتي في باب الفوائد لطرافته. (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) الجملة خبر ثان وقد تقدم إعرابها في سورة الحج فقد وردت هناك بلفظها فجدد به عهدا. ومن العجيب أن الزمخشري الذي أعرب لؤلؤا منصوبة بفعل محذوف في سورة الحج أي ويؤتون قد أعربها هنا عطفا على محل من أساور فقال: «ولؤلؤا معطوف على محل من أساور ومن داخلة للتبعيض أي يحلون بعض أساور من ذهب» ولباسهم مبتدأ وفيها حال وحرير خبر. (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الواو عاطفة وقالوا فعل ماض أراد به المضارع وعدل الى الماضي للدلالة على التحقيق، والحمد مبتدأ ولله خبر والذي نعت وجملة أذهب عنا صلة والحزن مفعول به لأذهب الذي تعدى بالهمز وعنا متعلقان بأذهب. (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) ان واسمها واللام المزحلقة وغفور خبر أول لإن وشكور خبر ثان (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) بدل من الذي المتقدمة وجملة أحلنا صلة وهو فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به أول ودار المقامة مفعول به ثان أي أنزلنا دار المقامة ومن فضله متعلقان بأحلنا ومن للابتداء أو للتعليل. (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) جملة لا يمسنا حال من مفعول أحلنا الأول ويجوز أن تكون حالا من المفعول الثاني والأول أرجح ويمسنا فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وفيها متعلقان بيمسنا ونصب فاعل ولا يمسنا فيها لغوب عطف على ما تقدم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 156 البلاغة: 1- في قوله «ثم أحدثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا» استعارة مكنية تبعية، شبّه إعطاء الكتاب إياهم من غير كد أو تعب في وصوله إليهم بتوريث الوارث. 2- وفي هذه الآية أيضا فن «الجمع مع التقسيم» وهو أن يجمع المتكلم بين شيئين أو أكثر في حكم ثم يقسم ما جمعه أو يقسم أولا ثم يجمع، فالأول كالآية المذكورة وقوله تعالى «يوم تأتي لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد» إلى آخر الآية. الفوائد: 1- الترتيب على مقامات الناس: قال الزمخشري: «فإن قلت: لم قدم الظالم ثم المقتصد ثم السابق؟ قلت: للإيذان بكثرة الفاسقين وغلبتهم وان المقتصدين قيلل بالاضافة إليهم والسابقين أقل من القليل» وأوضح الخازن هذا المعنى بعبارة أكثر بسطا فقال: «فإن قلت: لم قدم الظالم ثم المقتصد ثم السابق؟ قلت: قيل: رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس لأن أحوال الناس ثلاثة: معصية وغفلة وتوبة، فإذا عصى الرجل دخل في حيز الظالمين فإذا تاب دخل في جملة المقتصدين فإذا صحت توبته وكثرت عبادته ومجاهدته دخل في عداد السابقين» . 2- بين المعتزلة وأهل السنة: قال الزمخشري: «فإن قلت كيف جعلت جنات عدن بدلا من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 157 الفضل الكبير؟ قلت: لأن الاشارة بالفضل الى السبق بالخيرات وهو السبب في الجنات ونيل الثواب، فأقام السبب مقام المسبب، وفي اختصاص السابقين بذكر الجزاء دون الآخرين ما يوجب الحذر فليحذر المقتصد وليملك الظالم لنفسه حذرا وعليهما بالتوبة النصوح ولا يغترا بما رواه عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له فإن شرط ذلك صحة التوبة فلا يعلل نفسه بالخدع» وهذا الكلام جار على مذهب المعتزلة أما أهل السنة فيجوزون الغفران بمجرد الفضل، قال ابن المنير في الرد على الزمخشري: «وقد صدرت هذه الآية بذكر المصطفين من عباد الله ثم قسمتهم الى الظالم والمقتصد والسابق ليلزم اندراج الظالم لنفسه من الموحّدين في المصطفين وانه لمنهم، وأي نعمة أتم وأعظم من اصطفائه للتوحيد والعقائد السالمة من البدع فما بال المصنف (أي الزمخشري) يطنب في التسوية بين الموحد المصطفى والكافر المجترئ. قبسة عن المعتزلة: هذا والمعتزلة طائفة من المسلمين يرون أن أفعال الخير من الله وأفعال الشر من الإنسان وأن الله تعالى يجب عليه رعاية الأصلح للعباد وان القرآن محدث مخلوق ليس بقديم وأن الله تعالى ليس بمرئي يوم القيامة وأن المؤمن إذا ارتكب الكبيرة كان في منزلة بين المنزلتين يعنون بذلك أنه ليس بمؤمن ولا كافر وأن من دخل النار لم يخرج منها وأن الايمان قول وعمل واعتقاد وأن إعجاز القرآن في الصرف عنه لا أنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 158 في نفسه معجز ولو لم يصرف العرب عن معارضته لأتوا بما يعارضه وأن المعدوم شيء وأن الحسن والقبح عقليان وأن الله تعالى حيّ لذاته لا بحياة وعالم لذاته لا بعلم وقادر لذاته لا بقدرة. ومن مشهوري المعتزلة وأعيانهم الجاحظ وأبو الهذيل العلاف وابراهيم النظام وواصل بن عطاء وأحمد بن حابط وبشر بن المعتمر ومعمر بن عباد السلمي، وأبو موسى عيسى الملقب بالمزداد ويعرف براهب المعتزلة وثمامة بن أشرس وهشام بن عمر الفوطي وأبو الحسن ابن أبي عمر والخياط وأستاذ الكعبي وأبو علي الجبائي أستاذ الشيخ أبي الحسن الأشعري أولا وابنه أبو هاشم عبد السلام، هؤلاء هم رءوس مذهب الاعتزال وغالب الشافعية أشاعرة والغالب في الحنفية معتزلة والغالب في المالكية قدرية والغالب في الحنابلة حشوية ومن المعتزلة أبو القاسم الصاحب إسماعيل بن عباد والزمخشري والفراء النحوي والسيرافي. [سورة فاطر (35) : الآيات 36 الى 38] وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 159 اللغة: (يَصْطَرِخُونَ) : يتصارخون يفتعلون من الصراخ وهو الصياح بجهد ومشقة، قال الأعشى: قصدت الى عنس لأحدج رحلها ... وقد حان من تلك الديار رحيلها فأنّت كما أنّ الأسير وصرخت ... كصرخة حبلى أسلمتها قبيلها أي أنّت كأنين الأسير في الأول ورفعت برفع صوتها ثانيا كصرخة حبلى عند الطلق تركتها قبيلها التي تخدمها عند الولادة والقبيل والقبول والقابلة التي تقوم بمصلحة المرأة عند الولادة وتتلقى الولد عند خروجه. والفعل المبدوءة بأحد أحرف الاطباق وهي الصاد والضاد والطاء والظاء إذا صيغ منها على وزن افتعل وما يتصرف منه أبدلت تاء الافتعال طاء مثال ذلك الأفعال: صلح، ضرب، طرد، ظلم إذا بنينا منها صيغة افتعل قلنا: على القياس: اصتلح، اضترب، اطترد، اظتلم، ولتخفيف اللفظ أبدلت التاء طاء والمجانسة بينهما ظاهرة فنقلت الى اصطلح، اضطرب، اطرد، اظطلم، ويجوز في نحو اظطلم وجهان آخران اظّلم واطّلم. الإعراب: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ) عطف على قوله «إن الذين يتلون كتاب الله» والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة ولهم خبر مقدم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 160 ونار جهنم مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر الذين. (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) الجملة خبر ثان للذين أو حال منهم ولا نافية ويقضى فعل مضارع مبني للمجهول أي لا يحكم عليهم بالموت وعليهم متعلقان بيقضى والفاء السببية ويموتوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية ولا يخفف عطف على لا يقضى وعنهم يجوز أن يقوم مقام الفاعل ومن عذابها متعلقان بيخفف ويجوز العكس. (كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) كذلك نعت لمصدر محذوف ونجزي فعل مضارع وفاعل مستتر وكل كفور مفعول به. (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) الواو عاطفة وهم مبتدأ وجملة يصطرخون خبر وفيها متعلقان بيصطرخون وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وجملة النداء وما بعدها مقول قول محذوف في محل نصب على الحال أي قائلين ربنا، وأخرجنا فعل أمر معناه الدعاء والفاعل مستتر ونا مفعول ونعمل فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر والفاعل مستتر تقديره نحن وصالحا غير الذي يجوز أن يكونا صفتين لمصدر محذوف أو لمفعول به محذوف ويجوز أن يكون صالحا نعتا للمصدر وغير الذي هو المفعول وجملة كنا صلة الموصول وكان واسمها وجملة نعمل خبر كنا. (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) الجملة مقول قول محذوف أي فيقال لهم أولم نعمركم، والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والواو للعطف على مقدر أي ألم نمهلكم ونؤخركم عمرا يتذكر فيه من تذكر أي وقتا يتيح لكم التفكير لو خطر لكم أن تتفكروا، ولم حرف نفي وقلب وجزم ونعمركم فعل مضارع مجزوم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 161 بلم وفاعله مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به وما نكرة مقصودة بمعنى وقتا فهي في محل نصب على الظرفية الزمانية أو على المصدرية أي تعميرا وجملة يتذكر صفة لما وفيه متعلقان بيتذكر ومن فاعل وجملة تذكر صلة. (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) الواو عاطفة وجملة جاءكم النذير عطف على أولم نعمركم لأن لفظه لفظ استخبار ومعناه معنى إخبار كأنه قيل قد عمرناكم وجاءكم النذير، فذوقوا الفاء الفصيحة لترتيب الأمر بالذوق على ما قبلها من التعمير ومجيء النذير، والفاء في فما للتعليل وما نافية وللظالمين خبر مقدم ومن حرف جر زائد ونصير مبتدأ مؤخر محلا مجرور بمن لفظا ويجوز أن تكون ما حجازية عند من يجيز تقديم خبرها على اسمها. (إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ان واسمها وعالم خبرها وما بعده مضاف اليه. (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ان واسمها وعليم خبرها وبذات الصدور متعلقان بعليم وقد تقدم القول مسهبا في ذات. [سورة فاطر (35) : الآيات 39 الى 40] هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 162 اللغة: (خَلائِفَ) : جمع خليفة أي يخلف بعضكم بعضا وعبارة الزمخشري: «يقال للمستخلف خليفة وخليف فالخليفة تجمع خلائف والخليف خلفاء» هذا ولم نجد مادة توزعت على كثير من المعاني كهذه المادة ومن يرجع إليها في معاجم اللغة ير العجب، ولذلك جمع بعضهم معانيها في هذه الأبيات: عديم خير حدّ سيف خلف ... والاستقا والقرن أما الخلف فاسم لعشب الصيف ثم الخلف ... للوعد ليس من صفات الحر ذهاب شهوة الطعام خلفه ... ورقعة ونبت صيف خلفه كذا اختلاف الوحش ثم الخلفة ... اسم الى العيب وذاك يزري الولد الصالح هذاك خلف ... وجمع خلفة لرقعة خلف وخلفة بالضم جمعها خلف ... لعنب وذاك أصل الخمر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 163 الإعراب: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لبيان أحوال الكافرين الذين غمطوا نعمة الله عليهم بعد أن استخلفهم في الأرض، وهو مبتدأ والذي خبره وجملة جعلكم صلة وجعلكم فعل وفاعل ومفعول به أول وخلائف مفعول به ثان وفي الأرض متعلقان بخلائف أو بمحذوف صفة له. (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) الفاء الفصيحة ومن اسم شرط جازم مبتدأ وكفر فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة وعليه خبر مقدم وكفره مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط والواو عاطفة ولا نافية ويزيد الكافرين كفرهم فعل مضارع ومفعول به مقدم وكفرهم فاعل مؤخر وعند ربهم ظرف مكان متعلق بمحذوف حال وإلا أداة حصر ومقتا مفعول به ثان أو تمييز. (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) عطف على الجملة السابقة وكررت للتوكيد ولزيادة التقرير على رسوخ الكفر في نفوسهم واقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين الهائلين وهما المقت والخسار (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أرأيتم تقدم القول فيها أنها بمعنى أخبروني والرؤية هنا تتعدى لاثنين كما سيأتي وقيل الاستفهام هنا حقيقي ولم تضمن الكلمة معنى أخبروني، ورأيتم فعل وفاعل وشركاءكم مفعول به أول لرأيتم والذين صفة وجملة تدعون صلة ومن دون الله حال. (أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أروني فعل أمر وفاعل ومفعول به والمراد بالأمر التعجيز والجملة معترضة وأعربها الزمخشري بدلا من أرأيتم ورد عليه أبو حيان بما لا يتسع له المجال. وجملة ماذا خلقوا في محل نصب مفعول به ثان إما لرأيتم وإما لأروني فالمسألة من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 164 باب التنازع أو أن جملة أروني اعتراضية وماذا يجوز فيها الوجهان المعروفان لها أو إن جملة أروني بدل من جملة أرأيتم كأنه قيل أخبروني عن شركائكم أروني أي جزء خلقوا ومن الأرض متعلقان بخلقوا. (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أم حرف عطف وهي منقطعة فهي بمعنى بل ويكون قد أضرب عن الاستفهام الأول وشرع في استفهام الآخر والاستفهام إنكاري ولهم خبر مقدم وشرك مبتدأ مؤخر وفي السموات متعلقان بشرك أي شركة. (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) عطف على ما تقدم وآتيناهم فعل وفاعل ومفعول به أول وكتابا مفعول به ثان والفاء حرف عطف وهم مبتدأ وعلى بينة خبر ومنه صفة لبينة. (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) إن نافية ويعد الظالمون فعل مضارع وفاعل وبعضهم بدل من الظالمون بدل بعض من كل وبعضا مفعول يعد وإلا أداة حصر وغرورا منصوب بنزع الخافض أو نعت لمصدر محذوف أي إلا وعدا باطلا وذلك بقولهم إن الأصنام تشفع لنا عند الله. [سورة فاطر (35) : الآيات 41 الى 43] إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 165 الإعراب: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) إن واسمها وجملة يمسك السموات والأرض خبرها، وأن تزولا أن وما في حيزها في محل نصب مفعول لأجله أي مخافة أن تزولا وقيل ضمن يمسك معنى يمنع فتكون أن وما في حيزها في محل نصب مفعول به ثان أو على نزع الخافض أي عن أن تزولا والجار والمجرور متعلقان بيمسك قاله الزجاج وقيل أن وما في حيزها في محل نصب بدل اشتمال من السموات أي يمسك زوالهما. (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية وزالتا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وإن نافية وأمسكهما فعل ماض ومفعول به ومن حرف جر زائد وأحد مجرور لفظا فاعل أمسكهما محلا ومن بعده حال أو صفة لأحد، فعلى الأول يكون المعنى من بعد إمساكه وعلى الثاني يكون المعنى سواه أي من أحد غيره، وجملة إن أمسكهما لا محل لها لأنها جواب القسم وجواب الشرط محذوف دل عليه المذكور على حد قوله في الخلاصة: واحذف لدى اجتماع شرط وقسم ... جواب ما أخرت فهو ملتزم (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) ان واسمها وجملة كان خبرها وحليما خبر كان وغفورا خبر ثان. (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) أقسموا فعل وفاعل وبالله متعلقان بأقسموا وجهد أيمانهم منصوب على المصدرية أو على الحال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 166 أي جاهدين، قال الفراء: «الجهد بالفتح من قولك اجهد جهدك أي ابلغ غايتك والجهد بالضم الطاقة وعند غير الفراء كلاهما بمعنى الطاقة واللام واقعة في جواب القسم وان شرطية وجاءهم نذير فعل ومفعول به وفاعل واللام جواب القسم أيضا، ويكونن فعل مضارع مرفوع لعدم اتصاله المباشر بنون التوكيد وأصله ليكونونن حذفت إحدى النونات كراهة توالي الأمثال فلما التقى ساكنان حذفت الواو وبقيت الضمة دليلا عليها فهو مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو المحذوفة اسمها وأهدى خبرها ومن إحدى الأمم متعلقان بأهدى أي من كل واحدة منها. (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) الفاء عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة متضمنة معنى الشرط وجاءهم نذير فعل ومفعول به وفاعل وجملة ما زادهم جواب لما لا محل لها، قال الشهاب الحلبي: «وفيه دليل على أنها- أي لما- حرف لا ظرف إذ لا يعمل ما بعد ما النافية فيما قبلها» وإلا أداة حصر ونفورا مفعول به ثان أو تمييز. (اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ) استكبارا مفعول لأجله أي لأجل الاستكبار أو بدل من نفورا أو حال أي حال كونهم مستكبرين وفي الأرض متعلقان باستكبارا ومكر السيّء عطف على استكبارا أو على نفورا وهو من إضافة الموصوف الى صفته والأصل المكر السيّء أو أن هناك موصوفا محذوفا أي مكر العمل السيء. (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) الواو حالية ولا نافية ويحيق المكر فعل مضارع وفاعل والسيّء صفته وإلا أداة حصر وبأهله متعلقان بيحيق. (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) الفاء عاطفة وهل حرف استفهام وينظرون فعل مضارع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 167 وفاعل أي ينتظرون وإلا أداة حصر وسنة الأولين مفعول به وسنة مصدر أضيف الى مفعوله تارة كما هنا ولفاعله أخرى كقوله: فلن تجد لسنة الله لأنه تعالى سنها بهم فصحت إضافتها الى الفاعل والمفعول ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتجد فعل مضارع منصوب بلن ولسنة الله متعلقان بتبديلا وتبديلا مفعول تجد. البلاغة: 1- ائتلاف اللفظ مع المعنى: في قوله «وأقسموا بالله جهد أيمانهم» فن ائتلاف اللفظ مع المعنى أي أن تكون ألفاظ المعنى المراد يلائم بعضها بعضا ليس فيها لفظة نافرة عن إخوانها غير لائقة بمكانها أو موصوفة بحسن الجوار بحيث إذا كان المعنى غريبا قحا كانت ألفاظه غريبة محضة وبالعكس، ولما كانت جميع الألفاظ المجاورة للقسم في هذه الآية كلها من المستعمل المتداول لم تأت فيها لفظة غريبة تفتقر الى مجاورة ما يشاكلها في الغرابة، وقد تقدم هذا البحث بتفصيل واف في سورة يوسف. 2- إرسال المثل: وفي قوله «ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله» فن إرسال المثل وقد تقدمت الاشارة الى هذا الفن مع إيراد أمثال كثيرة وخاصة في شعر أبي الطيب وهو هنا واضح لأن المكر لا يقع إلا على أهله، وفي أمثالهم: «من حفر مغواة وقع فيها» قال في الصحاح: وقع الناس في أغوية أي في داهية والمغوّيات بفتح الواو المشددة جمع المغواة وهي حفرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 168 كالزبية، يقال من حفر مغويات وقع فيها. قال كعب لابن عباس: في التوراة من حفر حفرة لأخيه وقع فيها، فقال له ابن عباس: إنا وجدنا هذا في كتاب الله: «ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله» . 3- الاسناد المجازي: وفي قوله: «ما زادهم إلا نفورا» إسناد مجازي لأن إسناد الزيادة للنذير مجاز مرسل لأنه سبب في ذلك. [سورة فاطر (35) : الآيات 44 الى 45] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45) الإعراب: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كلام مسوق للاستشهاد على جريان سنته تعالى على تعذيب المكذبين، والهمزة للاستفهام الانكاري والواو للعطف على مقدر يستدعيه المقام أي ألزموا مساكنهم ولم يسيروا، ولم حرف نفي وقلب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 169 وجزم ويسيروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل وفي الأرض متعلقان بيسيروا، فينظروا الفاء عاطفة وينظروا عطف على يسيروا وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وعاقبة اسمها المؤخر والجملة في محل نصب مفعول ينظروا والذين مضاف إليه ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صفة الذين. (وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) الواو للحال وكانوا كان واسمها وأشد خبرها ومنهم متعلقان بأشد وقوة تمييز والجملة في محل نصب على الحال. (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) الواو عاطفة وما نافية وكان واسمها واللام لام الجحود ويعجزه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود والهاء مفعول به ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا مرفوع على أنه فاعل شيء وفي السموات صفة لشيء ولا في الأرض عطف على في السموات. (إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) ان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وعليما وقديرا خبراها. (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) الواو عاطفة ولو شرطية ويؤاخذ الله الناس فعل مضارع وفاعل ومفعول به وبما متعلقان بيؤاخذ وما موصولة أو مصدرية أي بالذي كسبوه أو بكسبهم وعلى كل فجملة كسبوا لا محل لها وجملة ما ترك لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعلى ظهرها متعلقان بترك ومن حرف جز زائد ودابة مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول ترك. (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) الواو عاطفة ولكن مخففة مهملة فهي للاستدراك ويؤخرهم فعل مضارع ومفعول به وفاعل مستتر والى أجل متعلقان بيؤخرهم ومسمى نعت لأجل، فإذا الفاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 170 عاطفة وإذا ظرف مستقبل وجملة جاء أجلهم في محل جر بإضافة الظرف إليها وجواب إذا العامل فيها محذوف تقديره فيجازيهم والفاء رابطة وان واسمها وجملة كان خبرها وبعباده متعلقان ببصيرا وبصيرا خبر كان. البلاغة: في قوله «ما ترك على ظهرها إلخ» استعارة مكنية فقد شبه الأرض بالدابة التي يركب الإنسان عليها ثم حذف المشبه به وهو الدابة وأبقى لها شيئا من لوازمها وهو الظهر، ولزاده في حاشيته على البيضاوي سؤال لطيف نورده بنصه قال: «فإن قيل كيف يقال لما عليه الخلق من الأرض وجه الأرض وظهر الأرض مع أن الظهر مقابل الوجه فهو من قبيل إطلاق الضدين على شيء واحد قلت صح ذلك باعتبارين فإنه يقال لظاهرها ظهر الأرض من حيث أن الأرض كالدابة الحاملة للأثقال ويقال له وجه الأرض لكون الظاهر منها كالوجه للحيوان وإن غيره كالبطن هو الباطن منها» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 171 (36) سورة يس مكيّة وآياتها ثلاث وثمانون [سورة يس (36) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) اللغة: (الْحَكِيمِ) : ذو الحكمة يقال قصيدة حكيمة أي ذات حكمة، والحكمة تقدم القول فيها وحكم الرجل من باب كرم أي صار حكيما ومنه قول النابغة: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 172 واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمد وأحكمته التجارب جعلته حكيما، وقال آخر: وقصيدة تأتي الملوك حكيمة ... قد قلتها ليقال من ذا قالها وعبارة الكرخي: «فعيل بمعنى مفعل كقولهم عقدت العسل فهو عقيد بمعنى معقد وليس بمعنى مفعول كشيطان رجيم بمعنى مرجوم وليس هو في الآية كذلك لأنه إنما يقال محكوم به ونحو ذلك ولا بمعنى فاعل أي حاكم لأن الحاكم الحقيقي هو الله تعالى فظهر بذلك أن القرآن الحكيم محكوم فيه لا حاكم وان الحاكم المطلق هو الله تعالى أو على معنى النسب أي ذي الحكم لأنه دليل ناطق بالحكمة بطريق الاستعارة والمتصف بها على الاسناد المجازي» . (الْأَذْقانِ) : جمع ذقن بفتح الذال والقاف وبكسر الذال وفتح القاف مجتمع اللحيين من أسفلهما. (مُقْمَحُونَ) : المقمح هو الذي يرفع رأسه ويغضّ بصره، يقال قمح البعير فهو قامح إذا رفع رأسه بعد الشرب لارتوائه أو لبرودة الماء أو لكراهة طعمه وفي المختار: «الاقماح: رفع الرأس وغض البصر يقال أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعا من ضيقه» وفي القاموس: «وأقمح الغل الأسير ترك رأسه مرفوعا لضيقه» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 173 (سَدًّا) السد والسد بفتح السين وضمها: الحاجز بين الشيئين والجبل والجمع أسداد قال علي بن أبي طالب «وضرب على قلبه بالأسداد» أي سدت عليه الطرق وعميت عليه المذاهب. (فَأَغْشَيْناهُمْ) : أي فأغشينا أبصارهم أي غطيناها وجعلنا عليها غشاوة عن أن تطمح الى مرئي وسيأتي المزيد من هذه الصور في بابي البلاغة والاعراب. الإعراب: (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) يس تقدم القول في فواتح السور معنى وإعرابا. والواو حرف قسم وجر والقرآن مقسم به والحكيم صفة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره أقسم. (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وان واسمها واللام المزحلقة ومن المرسلين خبرها. (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) على صراط خبر ثان لإن وقيل حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور وأجاز الزمخشري أن يتعلق بالمرسلين ومستقيم صفة لصراط أي الذين أرسلوا على طريقة مستقيمة ولا بأس بهذا الإعراب. (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) تنزيل مفعول مطلق لفعل محذوف أي نزل القرآن تنزيلا وأضيف لفاعله أو منصوب بفعل محذوف تقديره أعني أو أمدح وقرىء بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، وعبارة الزمخشري: «قرىء تنزيل العزيز الرحيم بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وبالنصب على أعني وبالجر على البدلية من القرآن» . (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) اللام للتعليل وتنذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور الجزء: 8 ¦ الصفحة: 174 متعلقان بتنزيل أو بمعنى قوله من المرسلين أي مرسل لتنذر، وقوما مفعول به وما نافية لأن قريشا لم يبعث إليهم نبي قبل محمد صلى الله عليه وسلم وأنذر فعل ماض مبني للمجهول وآباؤهم نائب فاعل فالجملة على هذا صفة لقوما أي قوما لم ينذروا ويجوز أن تكون موصولة أو نكرة موصوفة أو مصدرية فتعرب هي وصفتها أو صلتها مفعولا ثانيا لتنذر على الأولين ومفعولا مطلقا على الثالث وسنورد لك التأويلات الثلاثة: الموصولة: لتنذر قوما الذي أنذره آباؤهم. النكرة: لتنذر قوما عذابا أنذره آباؤهم. المصدرية: لتنذر قوما إنذار آبائهم. الزائدة: وأورد أبو البقاء وجها رابعا وهو أن تكون زائدة وتكون جملة أنذر صفة لقوما. فهم الفاء تعليلية للنفي إذا جعلت ما نافية أي لم ينذروا فهم غافلون على أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم أو تعليلية للارسال كما تقول أرسلتك الى فلان لتنذره فإنه غافل وهم مبتدأ وغافلون خبر. (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وحق القول فعل وفاعل وعلى أكثرهم متعلقان بحق والفاء تعليلية أيضا وهم مبتدأ وجملة لا يؤمنون خبر والمعنى والله لقد ثبت وتحقق عليهم القول بسبب إصرارهم على الكفر والإنكار. (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ) كلام مستأنف مسوق لتمثيل تصميمهم على الكفر وانه لا سبيل الى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 175 ارعوائهم عن غيهم وان واسمها وجملة جعلنا خبرها وجعلنا فعل وفاعل وفي أعناقهم في محل نصب مفعول جعلنا الثاني وأغلالا مفعول جعلنا الأول فهي الفاء للعطف والتعقيب أو للعطف والتعليل وسيرد الفرق بين المعنيين، وهي مبتدأ والى الأذقان متعلقان بمحذوف خبر أي مجموعة أو مرفوعة، وسيأتي المزيد من أسرار هذا التعبير في باب البلاغة، فهم الفاء كالفاء الأولى وسماها بعضهم فاء النتيجة وهم مبتدأ ومقمحون خبر. (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) الواو عاطفة وجعلنا فعل وفاعل ومن بين أيديهم في موضع نصب مفعول جعلنا الثاني وسدا مفعول جعلنا الأول ومن خلفهم سدا عطف على من بين أيديهم سدا. (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الفاء عاطفة وأغشيناهم فعل وفاعل ومفعول به والفاء تعليلية وهم مبتدأ وجملة لا يبصرون خبر هم. البلاغة: في قوله «إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا» الآية فنون شتى نوردها فيما يلي: 1- الاستعارة التمثيلية: تقدم القول كثيرا في الاستعارة التمثيلية وهي هنا تمثيل لتصميمهم على الكفر وإصرارهم على العناد بأن جعلهم كالمغلولين المقموحين في أنهم لا يلتفتون الى الحق ولا يثنون أعناقهم نحوه، لأن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 176 الأغلال واصلة الى الأذقان ملزوزة إليها فلا تخليهم يطأطئون فهم دائما مقمحون رافعون رءوسهم غاضون أبصارهم، أي شبهت حالتهم وهيئتهم في عدم إتاحة الايمان لهم بهيئة من غلت يده وعنقه فلم يستطع أن يتعاطى ما يريدون، والجامع مطلق المانع. بقي هناك مبحث هام وهو هل يعود الضمير وهو قوله فهي الى الأذقان على الأغلال أو على الأيدي، وقد رجح الزمخشري عودة الضمير على الأغلال قال: «فالأغلال واصلة الى الأذقان ملزوزة إليها وذلك أن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادر من الحلقة الى الذقن فلا تخليه يطأطىء رأسه ويوطىء قذاله فلا يزال مقمحا» واستطرد الزمخشري داعما رأيه في عودة الضمير على الأغلال فقال: «فإن قلت فما قولك فيمن جعل الضمير للأيدي وزعم أن الغل لما كان جامعا لليد والعنق، وبذلك يسمى جامعة، كان ذكر الأعناق دالا على ذكر الأيدي؟ قلت: الوجه ما ذكرت لك والدليل عليه قوله: فهم مقمحون، ألا ترى كيف جعل الأقماح نتيجة قوله فهي الى الأذقان ولو كان الضمير للأيدي لم يكن معنى التسبب في الاقماح ظاهرا على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى الى نفسه الى الباطل الذي يجفو عنه وترك للحق الأبلج الى الباطل اللجلج» ولعل الزمخشري قد بلغ الذروة في هذا التقرير الفريد ودل على اطلاعه وتمكنه من علم البيان، على أن الوجه الثاني وهو عودة الضمير على الأيدي لا يخلو من وجاهة وسمو بيان وفيها مبالغة في تصوير الهول تتلاءم مع سياق الكلام فإن اليد وإن لم يجر لها ذكر في العبارة فإن الغل يدل عليها بل ويستلزمها، ولا شك أن ضغط اليد مع العنق في العنق يوجب الاقماح، أضف الى ذلك أن اليد متى كانت مرسلة مخلاة كان للمغلول بعض الفرح الجزء: 8 ¦ الصفحة: 177 بإطلاقها، ولعله يتحيل بها ويستعين على فكاك الغل وليس الأمر كذلك إذا كانت مغلولة فيضاف الى ما تقدم من التشبيهات المفرقة أن يكون انسداد باب الحيل عليهم في الهداية والانخلاع من ربقة الكفر المقدر عليهم مشبها بغل الأيدي لأن اليد- كما قلنا- آلة الحيلة والوسيلة الى الخلاص. 2- استعارة تمثيلية ثانية: وفي قوله «وجعلنا من بين أيديهم سدا الآية» استعارة تمثيلية ثانية فقد شبههم بمن أحاط بهم سدان هائلان فغطيا أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم وورائهم في أنهم محبوسون في وهدة الجهالة ممنوعون من النظر في الآيات والدلائل أو كأنهم وقد حرموا نعمة التفكير في القرون الخالية والأمم الماضية والتأمل في المغاب الآتية والعواقب المستقبلة قد أحيطوا بسد من أمامهم وسد من ورائهم فهم في ظلمة داكنة لا تختلج العين من جانبها بقبس ولا تتوسم بصيصا من أمل. 3- القلب: وفي قوله «إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا» القلب وهو من فنون كلام العرب إذ حقيقته جعلنا أعناقهم في الأغلال، وقال ثعلب: في قوله تعالى: «ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه» ان المعنى اسلكوا فيه سلسلة أي ادخلوا في عنقه سلسلة. 4- التنكير: وفي تنكير أغلالا مبالغة في تعظيمها وتهويل أمرها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 178 [سورة يس (36) : الآيات 10 الى 12] وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) الإعراب: (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان شأنهم بطريق التوبيخ بعد بيانه بطريق التمثيل ولك أن تعطفه على ما قبله فتكون الواو عاطفة، وسواء خبر مقدم وعليهم متعلقان بسواء والهمزة للاستفهام وهي همزة التسوية وقد تقدم بحثها مفصلا في سورة البقرة المماثلة وهي مع الفعل بعدها في تأويل مصدر مبتدأ مؤخر أي مستو عندك إنذارك إياهم وعدمه، وأم حرف عطف معادل للهمزة ولم حرف نفي وقلب وجزم وتنذرهم فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر والهاء مفعول به وجملة لا يؤمنون استئناف مؤكد لما قلبه أو حال مؤكدة له أو بدل منه. (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) إنما كافة ومكفوفة وتنذر فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنت ومن مفعول به وجملة اتبع الذكر صلة وجملة خشي الرحمن عطف على اتبع الذكر وبالغيب حال من الفاعل أو من المفعول به، ونتساءل: ما وجه ذكر الانذار الثاني في معرض المخالفة للأول مع أن الأول إثبات والوجه هو أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 179 البغية المرومة بالإنذار غير حاصلة وهي الايمان فقفّى بقوله إنما تنذر على معنى انما تحصل البغية بإنذارك من غير هؤلاء المنذرين وهم الذين اتبعوا الذكر وهو القرآن والخاشون ربهم فالمحصور إنما هو الانذار النافع فلا ينافيه وجود غيره لمن لم ينتفع به. (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) الفاء الفصيحة وبشره فعل أمر وفاعل ومفعول به وبمغفرة متعلقان ببشره وأجر عطف على بمغفرة وكريم صفة لأجر. (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) إن واسمها ونحن مبتدأ أو ضمير فصل وجملة نحيي الموتى خبر نحن والجملة خبر إن أو الجملة خبر إنا ونكتب عطف على نحيي وما مفعول به وجملة قدموا صلة ما وآثارهم عطف على ما والمراد بها ما استن بعدهم وفي الحديث: «من سن سنة حسنة فعمل بها من بعده كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من وزرهم شيء» . (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) نصب كل شيء بفعل محذوف يفسره ما بعده فهو نصب على الاشتغال وأحصيناه فعل وفاعل ومفعول به والجملة مفسرة لا محل لها وفي إمام متعلقان بأحصيناه ومبين نعت إمام أي في كتاب بيّن. [سورة يس (36) : الآيات 13 الى 19] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 180 اللغة: (الْقَرْيَةِ) : القرية بفتح القاف وكسرها: الضيعة والمصر الجامع وجمع الناس والجمع قرى وقرى بضم القاف وكسرها والنسبة إليها قرويّ وقريي والمراد بها هنا انطاكية وسيأتي شيء عنها في باب الفوائد. (فَعَزَّزْنا) : قوينا. (طائِرُكُمْ) : تقدم ذكره في هذا الكتاب وفي المختار: «وطائر الإنسان عمله الذي قلده والطير أيضا الاسم من التطير ومنه قولهم: لا طير إلا طير الله كما يقال لا أمر إلا أمر الله وقال ابن السكيت: يقال: طائر الله لا طائرك ولا تقل طير الله وتطير من الشيء وبالشيء والاسم الطيرة بوزن عنبة وهي ما يتشاءم به من الفأل الرديء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 181 الإعراب: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) كلام مستأنف مسوق لأمر النبي بأن يضرب لقومه مثلا بأصحاب القرية، واضرب فعل أمر بمعنى اجعل ولهم متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لمثلا وتقدمت عليه ومثلا مفعول به ثان لاضرب وأصحاب مفعول به أول، ومن المفيد أن نورد عبارة أبي السعود في تفسيره وهي: «ضرب المثل يستعمل تارة في تطبيق حالة غريبة بحالة أخرى مثلها كما في قوله تعالى: ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط، وأخرى في ذكر حالة غريبة وبيانها للناس من غير قصد الى تطبيقها بنظيرة لها كما في قوله تعالى: «وضربنا لكم الأمثال» فالمعنى على الأول اجعل أصحاب القرية مثلا لهؤلاء في الغلو في الكفر والإصرار على تكذيب الرسل أي طبق حالهم بحالهم، على أن مثلا مفعول ثان لاضرب وأصحاب القرية مفعوله الأول أخر عنه ليتصل به ما هو شرحه وبيانه، وعلى الثاني اذكر وبيّن لهم قصة هي في الغرابة كالمثل» وعلى هذا تكون اضرب بمعنى اذكر ومثلا مفعول به وأصحاب بدل على حذف مضاف أي مثل أصحاب والأول أولى، وإذ ظرف لما مضى من الزمن ومحله بدل اشتمال من أصحاب القرية وجملة جاءها المرسلون في محل جر بإضافة الظرف إليها. (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما) إذ ظرف بدل من إذ الأولى أي بدل مفصل من مجمل وهو يدخل في نطاق البدل المطابق أو بدل الكل من الكل وجملة أرسلنا في محل جر بالإضافة وإليهم متعلقان بأرسلنا واثنين مفعول به لأرسلنا والفاء عاطفة وكذبوهما فعل ماض الجزء: 8 ¦ الصفحة: 182 وفاعل ومفعول به. (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) الفاء عاطفة وعززنا فعل ماض وفاعل، بثالث متعلقان بعززنا، فقالوا عطف على فعززنا وان واسمها وإليكم متعلقان بمرسلون ومرسلون خبر إن والجملة مقول القول ومفعول عززنا محذوف وسيأتي سر حذفه في باب البلاغة. (قالُوا: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) قالوا فعل وفاعل وما نافية وأنتم مبتدأ وإلا أداة حصر وبشر خبر أنتم ومثلنا صفة لبشر والخطاب للثلاثة وجملة ما أنتم مقول القول. (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) الواو عاطفة وما نافية وأنزل الرحمن فعل وفاعل ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا بمن منصوب محلا على أنه مفعول أنزل وإن نافية وأنتم مبتدأ وإلا أداة حصر وجملة تكذبون خبر. (قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) ربنا مبتدأ وجملة يعلم خبر وفاعل يعلم مستتر تقديره هو وإن واسمها وكسرت همزتها لمجيء اللام في خبرها وإليكم متعلقان بمرسلون واللام المزحلقة ومرسلون خبر إنا وجملة إنا إليكم لمرسلون سدت مسد مفعولي يعلم وسيأتي بحث تأكيد الخبر في باب البلاغة. (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الواو عاطفة وما نافية وعلينا خبر مقدم وإلا أداة حصر والبلاغ مبتدأ مؤخر والمبين صفة. (قالُوا: إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) قالوا فعل وفاعل وان واسمها وكسرت همزتها لوقوعها بعد القول وجملة تطيرنا خبرها وبكم متعلقان بتطيرنا وسبب تطيرهم أنهم توقعوا الشرّ وأوجسوه بعد أن كذبوهم وقد ترامت إليهم مصائر الأقوام الهالكة بسبب تكذيبها الأنبياء. (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) لئن اللام موطئة للقسم وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتنتهوا فعل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 183 مضارع مجزوم بلم والواو فاعل واللام واقعة في جواب القسم ونرجمنكم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثفيلة والفاعل مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به والجملة لا محل لها وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم وفاقا للقاعدة المشهورة وليمسنكم عطف على لنرجمنكم ومنّا متعلقان بيمسنكم وعذاب فاعل وأليم صفته. (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) طائركم مبتدأ ومعكم ظرف متعلق بمحذوف خبر والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وإن شرطية وذكرتم فعل ماض مبني للمجهول وهو في محل جزم فعل الشرط وجواب الشرط محذوف والقاعدة عند سيبويه أنه إذا اجتمع شرط واستفهام يجاب الاستفهام ويحذف جواب الشرط وذهب غيره الى إجابة الشرط، والتقدير عند سيبويه تتطيرون وعند الآخرين تطيروا بالجزم وبل حرف عطف وإضراب أي ليس الأمر كذلك وأنتم مبتدأ وقوم خبر ومسرفون صفة. البلاغة: 1- الحذف: في قوله «فعززنا بثالث» فن الإيجاز بالحذف فقد حذف مفعول عززنا والتقدير فعززناهما بثالث وإنما جنح الى هذا الحذف لانصباب الغرض على المعزز به الثالث وإذا كان الغرض هو المراد وكان الكلام منصبّا عليه كان ما سواه مطروحا، ونظيره قولك حكم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 184 الحاكم اليوم بالحق والغرض المسوق اليه قولك بالحق فلذلك رفضت ذكر المحكوم له والمحكوم عليه وإنما اهتمامك كله هو مراعاة جانب الحق، وستأتي أسماء الثلاثة في باب الفوائد. 2- التأكيد: وفي هذه الآيات يبدو التأكيد بأروع صوره للخبر فقد قال أولا «إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما» فأورد الكلام ابتدائي الخبر ثم قال إنا إليكم مرسلون فأكده بمؤكدين وهو إن واسمية الجملة فأورد الكلام طلبيا ثم قال إنا إليكم لمرسلون فترقى في التأكيد بثلاثة وهي إن واللام واسمية الجملة فأورد الكلام إنكاري الخبر جوابا عن إنكارهم، قيل وفي قوله ربنا يعلم تأكيد رابع وهو اجراء الكلام مجرى القسم في التأكيد به وفي أنه يجاب بما يجاب به القسم. وفي هذه الآية ائتلاف الفاصلة مع ما يدل عليه سائر الكلام فإن ذكر الرسالة مهد لذكر البلاغ والبيان. الفوائد: ذكرنا في باب اللغة أن القرية انطاكية بفتح الهمزة وكسرها وسكون النون وكسر الكاف وفتح الياء المخففة، روى التاريخ ما ملخصه: بعث عيسى عليه السلام رسولين من الحواريين الى أهل انطاكية وهما يحيى وبولس بفتح الباء الموحدة، فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار فسلما عليه فقال لهما الشيخ من أنتما؟ فقالا رسولا عيسى فقال أمعكما آية فقالا نشفي المرضى ونبرىء الأكمه والأبرص وكان له ولد مريض فمسحاه فقام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 185 على الفور فآمن حبيب وفشا الخبر في المدينة فشفي على أيديهما خلق كثير ورقى حديثهما الى الملك وقال لهما ألنا إله سوى آلهتنا قالا نعم من أوجدك وآلهتك. فتبعهما الناس وضربوهما وقيل حبسا، ثم بعث عيسى عليه السلام رأس الحواريين شمعون الصفي على أثرهما فدخل شمعون البلد متنكرا فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به فرفعوا خبره الى الملك فدعاه وأنس به فقال له شمعون ذات يوم بلغني أنك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولانه؟ فقال: لا، حال الغضب بيني وبين ذلك فدعاهما فقال شمعون من أرسلكما؟ قالا الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك فقال: صفاه وأوجزا. قالا: يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال وما آيتكما؟ قالا ما يتمنى الملك. فدعا بغلام مطموس العينين فدعوا الله حتى انشق له بصره وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فكانتا مغلقتين ينظر بهما، فقال له شمعون: أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا فيكون لك وله الشرف. قال: ليس لي عنك سر، إن إلهنا لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع. وكان شمعون يدخل معهم على الصنم فيصلي ويتضرع ويحسبونه أنه منهم، ثم قال: إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به، فدعوا بغلام مات من سبعة أيام فقام وقال: إني أدخلت في سبعة أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا، وقال: فتحت أبواب السماء فرأيت شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة. قال الملك: ومن هم؟ قال: شمعون وهذان. فتعجب الملك، فلما رأى شمعون أن قوله قد أثر فيه نصحه أخبره بالحال أنه رسول عيسى ودعاه فآمن الملك وآمن معه قوم وكفر آخرون وقيل بل كفر الملك وأجمع على قتل الرسل هو وقومه فبلغ ذلك حبيبا وهو على باب المدينة فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم الى طاعة المرسلين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 186 قال وهب: اسمهما يوحنا وبولس وقيل صادق ومصدوق والثالث شمعون. [سورة يس (36) : الآيات 20 الى 29] وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) الإعراب: (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) الواو عاطفة أو استئنافية وجاء فعل ماض ومن أقصى المدينة متعلقان بجاء وأراد بالمدينة القرية الآنفة الذكر أي انطاكية ورجل فاعل وجملة يسعى صفة والرجل هو حبيب النجار وستأتي لمحة عنه في باب الفوائد. (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 187 الْمُرْسَلِينَ) يا حرف نداء وقوم منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وقد تقدم بحثه واتبعوا فعل أمر وفاعل والمرسلين مفعول به أي الذين هم رسل عيسى عليه السلام. (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) اتبعوا تأكيد للأول وهو فعل أمر وفاعل ومن مفعول به وجملة لا يسألكم صلة والكاف مفعول به أول وأجرا مفعول به ثان والواو واو الحال وهم مبتدأ ومهتدون خبر والجملة نصب على الحال، وأجاز بعضهم أن تكون من بدلا من المرسلين ولا أدري ما هو مسوغه بعد وجود عامله وكأنهم تصوروا حذف مفعول اتبعوا ولا أرى داعيا إليه، وسيأتي المزيد من بحث هذا الكلام في باب البلاغة. (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) الواو عاطفة وما اسم استفهام مبتدأ ولي خبره وجملة لا أعبد حالية والفاعل مستتر تقديره أنا والذي مفعوله وجملة فطرني صلة واليه متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) الهمزة للاستفهام الإنكاري ويجوز أن يكون معنى الاستفهام النفي واتخذ فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا ومن دونه مفعول به ثان وآلهة مفعول به أول. (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ) إن شرطية ويردن فعل الشرط والنون للوقاية والياء المحذوفة لاتباع خط المصحف مفعول به والرحمن فاعل وبضر متعلقان بيردن ولا نافية وتغن جواب الشرط وعني متعلقان بتغن وشفاعتهم فاعل وشيئا مفعول مطلق أو مفعول به وقد تقدم ذكرها كثيرا ولا ينقذون عطف على لا تغن وحذفت الياء أيضا مراعاة لسنة المصحف والجملة الشرط استئنافية ويجوز أن تكون صفة لآلهة. (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) إن واسمها وإذن حرف جواب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 188 وجزاء لا عمل لها واللام لام المزحلقة وفي ضلال خبر إن ومبين صفة وسيأتي بحث هام عن إذن في باب الفوائد. (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) إن واسمها وجملة آمنت خبرها وبربكم متعلقان بآمنت والفاء الفصيحة واسمعون فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والياء المحذوفة مفعول به، ومعنى اسمعون اسمعوا قولي واتبعوا المرسلين وفيه دليل على تصلبه لمبدئه وصدق إيمانه وقيل اسمعوا إيماني تشهدوا لي به. (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) قيل فعل ماض مبني للمجهول ومتعلقه محذوف أي قيل له عند قتله ورؤيته ما أعد له جزاء على صدق إيمانه وقال فعل ماض ويا حرف تنبيه أو حرف نداء والمنادى محذوف وليت واسمها وجملة يعلمون خبرها. (بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) بما متعلقان بيعلمون وما مصدرية أو موصولة أي بغفران ربي أو بالذي غفره لي ربي من الذنوب وقال الفراء هي استفهامية ورد عليه بأنها لو كانت كذلك لحذفت ألفها كما هي القاعدة، وقيل ان حذف الألف أكثري لا كلي وهبه كذلك لا يسوغ حمل القرآن على الضعيف من الوجوه، وجعلني فعل ماض والنون للوقاية والياء مفعول به أول ومن المكرمين مفعول به ثان. (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) كلام مستأنف مسوق لاحتقار أمرهم أي لا حاجة الى إرسال جنود لهم فأقل شيء كاف لإبادتهم واستئصال شأفتهم، وما نافية وأنزلنا فعل وفاعل وعليهم متعلقان بأنزلنا ومن بعده متعلقان بمحذوف حال ومن حرف جر زائد وجند مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به ومن السماء صفة لجند والواو عاطفة وما نافية وكان واسمها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 189 ومنزلين خبرها. (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) إن نافية وكانت فعل ماض ناقص واسمها مضمر والتقدير ما كانت الصيحة إلا صيحة واحدة والفاء عاطفة وإذا فجائية وهم مبتدأ وخامدون خبر. البلاغة: 1- الالتفات في قوله «ومالي لا أعبد الذي فطرني» وفائدته أن انتقاله من مخاطبتهم ومناصحتهم الى التكلم تلطفا بهم من جهة ووعيدا لهم من جهة ثانية، فقد صرف الكلام أولا الى نفسه وأراهم أنه لا يختار لهم إلا ما يختاره لنفسه، ثم التفت الى مخاطبتهم ثانيا مقرعا مهددا بالعواقب التي تنتظرهم، ثم عاد أخيرا الى التلطف في النصيحة لأن ذلك أدخل في إمحاض النصح حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه، وقد وضع قوله: «ومالي لا أعبد الذي فطرني» مكان قوله: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم، ألا ترى الى قوله «وإليه ترجعون» ولولا أنه قصد ذلك لقال الذي فطرني وإليه أرجع وقد ساقه ذلك المساق الى أن قال: «إني آمنت بربكم فاسمعون» فانظر أيها المتأمل الى هذه النكت الدقيقة التي تمر عليها في القرآن الكريم وأنت تظن أنك فهمت فحواها واستنبطت رموزها. 2- ائتلاف الفاصلة: وفي قوله: «قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين» فن ائتلاف الفاصلة مع ما يدل عليه سائر الكلام، فإن ذكر الجنة مهد لفاصلتها وفي ذلك تنبيه عظيم على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 190 وجوب كظم الغيظ والحلم عن أهل الجهل والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي والتشمير فيه، ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته ولمن ترصدوا له وتربصوا به الدوائر ونصبوا له الغوائل والمهالك، هذا من جهة ثم إن في تمنيه أن يعلموا ليروعوا إلى أنفسهم بعد أن ينجلي الرين عن صدورهم وتنجاب الغواشي عن عيونهم فيبدو الصبح لذي عينين، وتتبدد حنادس الشك والمين، وفي ذلك انتصار له وقوز لدعوته وما بعد ذلك غبطة لمستزيد. 3- التشبيه البليغ في قوله «فإذا هم خامدون» شببهم بالنار الخامدة التي صارت رمادا على حد قول لبيد: وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا إذ هو ساطع أي ليس حال المرء وحياته وبهجته ثم موته وفناؤه بعد ذلك إلا مثل حال شهاب النار وضوئه يصير رمادا بعد إضاءته. وبعد هذا البيت: وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بدّ يوما أن ترد الودائع شبه مال الشخص وأقاربه بالودائع تشبيها بليغا بجامع أنه لا بد من أخذ كل منها. 4- في قوله: «قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون» وإنما ختم بقوله «وهم مهتدون» مع تمام الكلام بدونه لزيادة الحث على الاتباع ففيه إطناب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 191 الفوائد: بحث هام عن إذن: تحدثنا في هذا الكتاب عن إذن ونضيف الى ما تقدم ما قاله الرضي ففيه جلاء لموقعها من الآية، قال: «إنها اسم وأصلها إذ، حذفت الجملة المضاف إليها وعوض عنها التنوين وفتح ليكون في صورة ظرف منصوب وقصد جعله صالحا لجميع الأزمنة بعد ما كان مختصا بالماضي وضمن معنى الشرط غالبا وإنما قلنا غالبا لأنه لا معنى للشرط في نحو «قال فعلتها إذن وأنا من الضالين» ثم قال الرضي: وإذا كان بمعنى الشرط في الماضي جاز اجراؤه مجرى لو في قرن جوابه باللام نحو «إذن لأذقناك» أي لو ركنت شيئا قليلا لأذقناك، وإذا كان بمعنى الشرط في المستقبل جاز قرن جوابه بالفاء كقول النابغة: ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه ... إذن فلا رفعت سوطي الي يدي أي إن أتيت، وقد تستعمل بعد لو وإن توكيدا لهما نحو لو زرتني لأكرمتك وإن جئتني إذن أزورك» ثم قال: ولما احتملت إذن التي يليها المضارع معنى الجزاء فالمضارع مستقبل واحتملت معنى مجرد الزمان، فالمضارع حال وقصد التنصيص على معنى الجزاء في إذن نصب المضارع بأن المقدرة لأنها تخلصه للاستقبال فتحمل إذن على الغالب فيها من الجزاء لانتفاء الحالية المانعة من الجزاء بسبب النصب بأن» وقد أطال الرضي في البحث فحسبنا ما اقتبسناه من كلامه ليضاف الى ما تقدم عنها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 192 [سورة يس (36) : الآيات 30 الى 32] يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) الإعراب: (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) في هذا النداء وجهان أولهما أنه منادى شبيه بالمضاف ولذلك نصب وإنما كان شبيها بالمضاف لأنه اتصل به شيء من تمام معناه وهو على العباد ولك أن تجعله منادى نكرة مقصودة كأنما المنادى حسرة معينة وإنما نصبت لأنها وصفت بالجار والمجرور وقد تقدم معنا أن المنادى النكرة المقصودة إذا وصف نصب والوجه الثاني أن المنادى محذوف وحسرة مصدر أي أتحسر حسرة واختلف المفسرون في المتحسر ولا داعي للاختلاف فالحسرة جديرة بهم والمستهزءون بالرسل أحرياء بأن يتحسر عليهم المتحسرون أو يتحسروا على أنفسهم. والنداء هنا مجازي أي يا حسرة احضري فهذا أوانك. (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) كلام مستأنف مسوق لتعليل التحسر عليهم وما نافية ويأتيهم فعل مضارع ومفعول به ومن حرف جر زائد ورسول مجرور بمن لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل وإلا أداة حصر وجملة كانوا استثناء من أعم الأحوال فهي جملة في محل نصب على الحال من الهاء في يأتيهم وكان واسمها وبه جار ومجرور متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون خبر كانوا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 193 (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) الهمزة للاستفهام التقريري أي لقد علموا ذلك جيدا ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل وقد علقت يروا عن العمل لأن الرؤية هنا قلبية علمية وكم خبرية في محل نصب مفعول مقدم لأهلكنا والجملة في محل نصب مفعول يروا ويجوز أن تكون كم استفهامية وقبلهم ظرف متعلق بأهلكنا ومن القرون حال وأن وما في حيزها بدل من معنى كم أهلكنا والتقدير: ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم ويجوز أن يكون المصدر المؤول معمولا لفعل محذوف دل عليه السياق والمعنى تقديره وقضينا وحكمنا أنهم إليهم لا يرجعون وان واسمها وإليهم متعلقان بيرجعون ولا نافية وجملة يرجعون خبر ان وللزمخشري فيها كلام لطيف نورده في باب الفوائد. (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) الواو عاطفة وإن نافية وكل مبتدأ ولما بمعنى إلا وجميع خبر كل ولدينا ظرف متعلق بجميع أو بمحضرون ومحضرون خبر ثان وسيأتي مزيد من إعراب هذه الآية وقراءاتها. الفوائد: 1- كلام الزمخشري في الآية: للمعربين كلام طويل في إعراب قوله تعالى: «ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون» وقد أوردنا لك ما رأيناه أمثل الأوجه في إعرابها ونرى من المفيد أن نورد لك الكلام الذي أورده الزمخشري بهذا الصدد قال: «ألم يروا: ألم يعلموا وهو معلق عن العمل في كم لأن كم لا يعمل فيها عامل قبلها سواء كانت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 194 للاستفهام أو لمضمر لأن أصلها الاستفهام إلا أن معناها نافذ في الجملة كما نفذ في قولك ألم يروا إن زيدا لمنطلق وان لم يعمل في لفظه وانهم إليهم لا يرجعون بدل من كمّ أهلكنا على المعنى لا على اللفظ تقديره ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم» . هذا وقد قرىء بتخفيف «لما» فتكون إن مخففة من الثقيلة وإن مهملة عن العمل وكل مبتدأ وما بعده خبره ولزمت اللام في الخبر فرقا بين المخففة والنافية وما مزيدة. 2- مناقشة لطيفة: اعلم أن الزمخشري أورد سؤالا في الآية فقال: كيف أخبر عن كل بجميع مع أن الفارسي نص على أنه لا يجوز: إن الذاهبة جارية صاحبها، واستشكلوا قوله تعالى «فإن كانتا اثنتين» لأنه أخبر عن ضمير الاثنين بالاثنين فلا فائدة فيه، وانتقد بعض الناس على الفارسي وقال إن الجارية مضافة والإضافة تكون بأدنى ملابسة فلا تدل إضافة الجارية إليه على أنها ملكه بل قد تكون جارته فأضافها باعتبار الجوار فقط ثم قل صاحبها فأفاد أنها ملكه، وأجاب الزمخشري عن السؤال بأن كلا لا يقتضي الجمعية بخلاف جميع وهذا قد نصّ عليه ابن عصفور فإنه فرق بين أجمع وجميع بأن أجمع لا يقتضي الجمعية بخلاف جميع لكن إنما ادعى ذلك في حالة النصب نحو جاء الزيدون جميعا أما في الرفع فلا فرق بين جاء الزيدون أجمعون أو جميع فما قاله الزمخشري مشكل لأن جميعا لا يفيد الجمعية إلا إذا انتصب على الحال فيبقى السؤال واردا، وأجاب عنه الفخر الرازي بجواب حسن وهو أنه إذا كان في الخبر زيادة صفة أو إضافة تقييد صح أن يؤتى بلفظ المبتدأ أو معناه كقولك الرجل رجل صالح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 195 [سورة يس (36) : الآيات 33 الى 36] وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) الإعراب: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) كلام مستأنف مسوق لإيراد آية على البعث والتوحيد. وآية خبر مقدم ولهم صفة والأرض مبتدأ مؤخر وجملة أحييناها يجوز فيها أن تكون حالية وأن تكون صفة وسيأتي السر في وصفيتها في باب الفوائد. (وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) عطف على أحييناها وأخرجنا فعل وفاعل ومنها متعلقان بأخرجنا وحبا مفعول به والفاء استئنافية ومنه متعلقان بيأكلون. (وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ) وجعلنا فعل وفاعل والجملة عطف على أحييناها وفيها متعلقان بجعلنا أو بمحذوف مفعول به ثان لجعلنا وجنات مفعول به ومن نخيل صفة لجنات وأعناب عطف على نخيل وفجرنا عطف أيضا وفيها متعلقان بفجرنا ومن العيون صفة لمفعول فجرنا المحذوف أي ينابيع كائنة من العيون، وقدره أبو البقاء بقوله: ما ينتفعون به من العيون فمن للتبعيض. (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ) ليأكلوا تعليل لما تقدم ومن ثمره جار ومجرور متعلقان بيأكلوا وما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 196 موصولية أو نكرة موصوفة عطف على من ثمره وجملة عملته أيديهم صلة أو صفة ولك أن تجعلها مصدرية أي ومن عمل أيديهم فهو بمعنى ما تقدم، وإعرابه: قال الزمخشري: «ولك أن تجعل ما نافية على أن الثمر خلق الله ولم تعمله أيدي الناس ولا يقدرون عليه» والهمزة للاستفهام الانكاري لأنه لا شيء أقبح من إنكار النعمة وغمط الصنيع والفاء تقدم أنها في مثل هذا المقام عاطفة على محذوف يقتضيه السياق أي أيرون هذه النعم ويستمتعون بها فلا يشكرونها ولا نافية ويشكرون فعل مضارع وفاعل والمفعول به محذوف كما أشرنا. (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) سبحان مفعول مطلق لفعل محذوف وقد تقدم القول فيه والجملة مستأنفة مسوقة لتنزيهه تعالى عما لا يليق به والذي مضاف إليه وجملة خلق صلة والأزواج مفعول به وكلها تأكيد ومما متعلقان بمحذوف حال وجملة تنبت الأرض صلة. (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) عطف على قوله مما تنبت الأرض وبهذا استمر في الأمور الثلاثة التي لا يخرج عنها شيء من أصناف المخلوقات وهي على التوالي: 1- ما تنبته الأرض من الحبوب وأصناف الشجر. 2- ما يتوالده الناس من ذكر وأنثى. 3- من أزواج لم يطلع الله عباده عليها بعد ولم يكتنهوا حقيقتها. البلاغة: في قوله: «سبحان الذي خلق الأزواج كلها» الآية فن التناسب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 197 بين المعاني أو صحة التفسير وهو أن يأتي المتكلم في أول كلامه بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه، فإما أن يكون مجملا يحتاج إلى تفصيل أو موجها يفتقر إلى توجيه أو محتملا يحتاج المراد منه إلى ترجيح لا يحصل إلا بتفسيره وتبيينه، ووقوع التفسير في الكلام على أنحاء تارة يأتي بعد الشرط أو بعد ما فيه معنى الشرط وطورا بعد الجار والمجرور وآونة بعد المبتدأ الذي التفسير خبره، وقد أتت صحة التفسير في هذه الآية مقترنة بصحة التقسيم واندمج فيهما الترتيب والتهذيب فكان فيها أربعة فنون فقد قدم سبحانه النبات كما ذكرنا في الإعراب وانتقل على طريق البلاغة إلى الأعلى فثنى بأشرف الحيوان وهو الإنسان ليستلزم ذكره بقية الحيوان ثم ثلث بقوله: «ومما لا يعلمون» فانتقل من الخصوص إلى العموم ليندرج تحت العموم فسبحان منزل القرآن. الفوائد: ذكر الزمخشري أن الثمر يجمع على ثمر بفتحتين وثمر بضمتين وثمر بضمة فسكون ولم يذكر غيره الاثنين الأولين. [سورة يس (36) : الآيات 37 الى 40] وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 198 اللغة: (نَسْلَخُ) : نفصل يقال سلخ جلد الشاة إذا كشطه عنها وأزاله، وسلخ الحية. وفي معاجم اللغة: سلخ يسلخ من باب نصر وفتح سلخا الخروف كشط جلده وسلخت المرأة درعها: نزعته وسلخت الحية انكشفت عن سلختها وسلخها أي قشرها فاستعير السلخ لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل وملقى ظله. (العرجون) : بضم العين ويقال له أيضا العرجد والعرجد بتشديد الدال أصل العذق الذي يعوج ويبقى على النخل يابسا بعد أن تقطع عنه الشماريخ، والجمع عراجين. وقال الزجاج: هو فعلون من الانعراج وهو الانعطاف. وسيأتي سر تشبيه القمر به في باب البلاغة. الإعراب: (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) الواو عاطفة وآية خبر مقدم ولهم صفة والليل مبتدأ مؤخر وجملة نسلخ حالية ومنه متعلقان بنسلخ والنهار مفعول والفاء عاطفة وإذا فجائية وهم مبتدأ ومظلمون خبر ومعنى مظلمون أي داخلون في الظلام. يقال أظلمنا كما يقال أعتمنا وأدجينا وأظهرنا وكذلك أصبحنا وأضحينا وأمسينا. (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) الشمس مبتدأ وجملة تجري خبر ولمستقر متعلقان بتجري وسيرد في باب الفوائد معنى المستقر ولها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 199 متعلقان بمحذوف صفة. (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ذلك مبتدأ والاشارة الى جريها وتقدير خبره والعزيز مضاف اليه والعليم صفة ثانية. (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) الواو عاطفة والقمر مفعول به لفعل محذوف يفسره ما بعده أي فهو منصوب على الاشتغال وجملة قدرناه من الفعل والفاعل والمفعول به مفسرة وقرىء بالرفع على أنه معطوف على المبتدأ المقدم أو على انه مبتدأ خبره قدرناه ومنازل فيه أوجه: أحدها أنه حال على حذف مضاف أي ذا منازل لأنه لا معنى لتقدير نفس القمر منازل وثانيها أنه مفعول ثان لقدرناه أي صيّرناه منازل والثالث انه ظرف أي قدرنا سيره في منازل وقد جنح الى هذا الوجه الزمخشري والجلال، وحتى حرف غاية وجر وعاد فعل ماض وفاعله هو أي القمر في آخر منازله ولك أن تجعل عاد ناقصة فيكون الاسم مستترا والكاف اسم بمعنى مثل خبر عاد وان اعتبرتها تامة كانت في محل نصب على الحال والقديم صفة للعرجون وسيأتي سر هذا التشبيه في باب البلاغة. (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) لا نافية والشمس مبتدأ وجملة ينبغي خبر ولها متعلقان بينبغي وأن وما في حيزها فاعل ينبغي والقمر مفعول ومعنى ادراك الشمس للقمر الإخلال بالسير المقدر والنظام المتبع لئلا يختل تكوين الكون ونظامه. (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) عطف على ما تقدم والليل مبتدأ وسابق خبر والنهار مضاف اليه وسيأتي المزيد من معناه. (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) كل مبتدأ ساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم ولأن التنوين عوض عن كلمة مضافة أي كل واحد من الشمس والقمر والنجوم والكواكب، وفي فلك متعلقان بيسبحون وجملة يسبحون خبر والواو فاعل لأنه نزلها منزلة العقلاء وسيأتي السر في ذلك في باب البلاغة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 200 البلاغة: اشتملت هذه الآيات على العديد من فنون البلاغة: 1- الاستعارة: فأولها الاستعارة المكنية في قوله «وآية لهم الليل نسلخ منه النهار» فقد شبه تبرؤ الليل من النهار بانسلاخ الجلد عن الجسم المسلوخ وذلك انه لما كانت هوادي الصبح عند طلوعه ملتحمة بأعجاز الليل أجرى عليها اسم السلخ وكان ذلك أولى من أن يقال نخرج مثلا لأن السلخ لا يتأتى إلى بجهد ومشقة لفرط التحامه باللحم والعظام، والجامع بينهما الإزالة والتعرية فكما أن الشاة تتعرى حين يسلخ إهابها كذلك الليل إذا انسلخ عنه النهار زال ضوءه وبدت ظلمته الحالكة تغمر الكون بسوادها. 2- التوشيح: وفي قوله: «وآية لهم الليل نسلخ منه النهار» الآية فن التوشيح وهو أن يكون في أول الكلام معنى إذا علم علمت منه القافية إن كان شعرا أو السجع إن كان نثرا بشرط أن يكون المعنى المتقدم بلفظه من جنس معنى القافية أو السجعة بلفظه أو من لوازم لفظه فإن من كان حافظا للسورة متفطنا إلى أن مقاطع آيها النون المردفة وسمع في صدر الآية انسلاخ النهار من الليل علم أن الفاصلة تكون مظلمون لأن من انسلخ النهار عن ليله أظلم أي دخل في الظلمات ما دامت تلك الحال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 201 3- التشبيه المرسل: وذلك في قوله «حتى عاد كالعرجون القديم» فقد مثل الهلال بأصل عذق النخلة والعذق بكسر العين وهو الكباسة والكباسة عنقود النخل وهو تشبيه بديع للهلال فإن العرجون إذا قدم دق وانحنى واصفر وهي وجوه الشبه بين الهلال والعرجون فهو يشبهه في رأي العين في الدقة لا في المقدار والاستقواس والاصفرار. 4- الاستعارة أيضا: واستعار الإدراك للشمس والسبق لليل والنهار ليبين ما هو مقرر في علم الجغرافيا من دورات الشمس والقمر والأرض وتكون الليل والنهار، وجعل الشمس غير مدركة والقمر غير سابق لأن الشمس ثابتة لا تدور إلا دورة لم تعرف مدتها حول شيء مجهول لنا بالكلية ولها أيضا دورة على محورها كالأرض تقطعها في خمسة وعشرين يوما أو هي بالضبط خمسة وعشرون يوما وست ساعات وست عشرة دقيقة وثماني ثوان، أما القمر فله حركتان: إحداهما حول محوره وثانيتهما حول الأرض وكل منهما يتجه من المغرب إلى المشرق ويقطع مداره حول الأرض في تسعة وعشرين يوما ونصف تقريبا وهذا هو المسمى بالشهر القمري فكانت الشمس جديرة بأن توصف بالإدراك لتباطؤ سيرها والقمر خليق بأن يوصف بالسبق لسرعة سيره. 5- التغليب: وغلب العقلاء لأنه نزل الشمس والقمر والنجوم والكواكب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 202 منزلتهم والسر فيه انه لما وصفهم بالسباحة وهي من أوصاف العقلاء ساغ له ذلك. [سورة يس (36) : الآيات 41 الى 46] وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) اللغة: (الْمَشْحُونِ) : شحن السفينة ملأها وأتم جهازها كله «في الفلك المشحون» وبينهما شحناء: عداوة وهو مشاحن لأخيه ويقال للشيء الشديد الحموضة انه ليشحن الذباب أي يطرده وبابه فتح إذا كان بمعنى الملء وإذا كان بمعنى الطرد فهو من باب فتح ونصر، يقال: شحنت الكلاب أي أبعدت الطرد ولم تصد شيئا وإذا كان بمعنى الحقد فهو من باب تعب. (صَرِيخَ) : مغيث ويطلق أيضا على الصارخ أي المستغيث فهو من الأضداد ويكون مصدرا بمعنى الإغاثة وكل منهما مراد هنا وفي الأساس: «وصرخ يصرخ صراخا وصريخا وهو صارخ وصريخ وقد نقع الصريخ قال: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 203 قوم إذا نقع الصريخ رأيتهم ... من بين ملجم مهره أو سافع والصراخ: صوت المستغيث وصوت المغيث إذا صرخ بقومه للإغاثة. قال سلامة: إنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له قرع الظنابيب أي كان الغياث له وتقول: جاء فلان صارخا وصريخا ومستصرخا: مستغيثا وأقبل صارخا وصارخة وصريخا ومصرخا: مغيثا قال: وكانوا مهلكي الأبناء لولا ... تداركهم بصارخة شفيق وفي المثل: «عبد صريخه أمة» أي مغيثه وأصرخته أغثته، واستصرخني استغاثني وتصارخوا واصطرخوا: تصايحوا» . (الذرية) : سيأتي بحثها في باب الإعراب. الإعراب: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) اختلف في عود الضمير ونرى أن الأصوب أن يكون عاما وأن يكون بمثابة امتنان عليهم بأصناف من النعم منها حملهم في السفن فتكون الألف واللام في الفلك للجنس لا لسفينة نوح خاصة. وآية خبر مقدم ولهم صفة وأنا أن وما في حيزها مبتدأ مؤخر وأن واسمها وجملة حملنا خبرها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 204 وحملنا فعل وفاعل وذريتهم مفعول به وفي الفلك متعلقان بحملنا والمشحون صفة وقد أطلقت الذرية على الأصول وهي تطلق أيضا على الفروع لأن لفظ الذرية مشترك بين الضدين لأن الذرية من الذرء أي الخلق والفروع مخلوقون من الأصول والأصول خلقت منها الفروع وقال البغوي: «واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد» وفي القاموس: «ذرأ كجعل خلق والشيء كثره ومنه الذرية مثلثة لنسل الثقلين» واستدرك في التاج فقال: «وقد يطلق على الآباء والأصول قال الله تعالى: أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون والجمع ذراري كسراري» فليس في الآية إشكال كما زعم القرطبي وسيأتي نص عبارته في باب الفوائد. (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) الواو عاطفة وخلقنا فعل وفاعل ولهم متعلقان بخلقنا ومن مثله في محل نصب على الحال من المفعول المؤخر وهو ما وجملة يركبون صلة ما والضمير في مثله يعود على الفلك فإما أن يراد بالمثل ما اصطنعوه بعد ذلك من وسائل الركوب أو أنه مقتصر على الإبل لأنهم كانوا يسمونها سفائن الصحراء وهناك أقوال يرجع إليها في المطولات. (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) الواو عاطفة وإن شرطية ونشأ فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره نحن ونغرقهم جواب الشرط والفاء عاطفة واختار ابن عطية أن تكون استئنافية وفي ذلك قطع للكلام، ولا نافية للجنس وصريخ اسمها مبني على الفتح ولهم خبرها والواو عاطفة ولا نافية وهم مبتدأ وجملة ينقذون خبر وينقذون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو نائب فاعل. (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) إلا أداة حصر ورحمة مفعول لأجله فهو استثناء مفرغ من أعم العلل وقيل هو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 205 استثناء منقطع وقيل هو مفعول مطلق لفعل محذوف وقيل منصوب بنزع الخافض ومتاعا عطف على رحمة وإلى حين صفة وسيأتي معنى هذا الكلام في باب البلاغة. (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان إعراضهم عن هذه الآيات الآنفة الذكر وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة قيل في محل جر بإضافة الظرف إليها ولهم متعلقان بقيل وجملة اتقوا مقول القول واتقوا فعل أمر وفاعل وما مفعول به والظرف متعلق بمحذوف صلة ما وأيديكم مضاف إليه وما خلفكم عطف على ما بين أيديكم ولعلكم لعل واسمها وجملة ترحمون خبرها وجواب إذا محذوف مدلول عليه بقوله الآتي والتقدير أعرضوا وأشاحوا. (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) الواو عاطفة وما نافية وتأتيهم فعل مضارع ومفعول به ومن حرف جر زائد وآية مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل ومن آيات ربهم صفة ومعنى من التبعيض وإلا أداة حصر وجملة كانوا عنها معرضين في محل نصب حال وكان واسمها وعنها متعلقان بمعرضين ومعرضين خبرها. البلاغة: في قوله: «وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم» إلى قوله: «ومتاعا إلى حين» سلامة الاختراع وهي الإتيان بمعنى لم يسبق إليه فإن نجاتهم من الغرق برحمة منه تعالى هي في حد ذاتها متاع يستمتعون به ولكنه على كل حال إلى أجل مقدر يموتون فيه لا مندوحة لهم عنه، فهم إن نجوا من الغرق فلن ينجوا مما يشبهه أو يدانيه، والموت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 206 لا تفاوت فيه. وقد رمق أبو الطيب، كعادته، سماء هذا المعنى فقال من قصيدة قالها بمصر يذكر بها حماه التي كانت تغشاه: وإن أسلم فما أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام يقول: فإن أسلم من مرض لم أبق خالدا ولكن سلمت من الموت بهذا المرض إلى الموت بمرض آخر وهذا معنى بديع تداوله الشعراء، فقال آخر: إذا بلّ من داء به خال أنه ... تجاذبه الداء الذي هو قاتله وقد دندن أبو الطيب لتصوير المتاع المستعجل ببيتين ولم يسم إلى الآية فقال: تمتع من سهاد أو رقاد ... ولا تأمل كرى تحت الرجام فإن لثالث الحالين معنى ... سوى معنى انتباهك والمنام أراد بثالث الحالين الموت يقول ما دمت حيا تمتع من حالتي النوم والسهاد فإنك لا تنام في القبر، والموت غير اليقظة والرقاد فلا تحسبن الموت نوما. الفوائد: عبارة القرطبي في تفسير الآية: وعدناك أن ننقل لك عبارة القرطبي وبرا بهذا الوعد نوردها لك: «هذه الآية من أشكل ما في هذه السورة لأنهم هم المحمولون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 207 فقيل: المعنى وآية لأهل مكة أنا حملنا ذرية القرون الماضية في الفلك المشحون فالضميران مختلفان، ذكره المهدوي وحكاه النحاس عن علي ابن سليمان انه سمعه يقوله وقيل الضميران جميعا لأهل مكة على أن يكون المراد بذرياتهم أولادهم وضعفاءهم فالفلك على القول الأول سفينة نوح وعلى الثاني يكون اسما للجنس أخبر تعالى بلطفه وامتنانه أنه خلق السفن يحمل فيها من يضعف عن المشي والركوب من الذرية والضعفاء فيكون الضميران على هذا متفقين، وقيل الذرية الآباء والأجداد حملهم الله تعالى في سفينة نوح عليه السلام فالآباء ذرية والأبناء ذرية بدليل هذه الآية قاله أبو عثمان وسمي الآباء ذرية لأنه ذرأ منهم الأبناء، وقول رابع أن الذرية النطف حملها الله تعالى في بطون النساء تشبيها بالفلك المشحون قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ذكره الماوردي» والقول الصحيح والوجيه ما أسلفناه. [سورة يس (36) : الآيات 47 الى 50] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 208 اللغة: (يَخِصِّمُونَ) : بفتح الياء وكسر الخاء وكسر الصاد المشددة وأصله يختصمون فلما حذفت حركة التاء صارت ساكنة فالتقت ساكنة مع الخاء فحركت الخاء بالكسر على أصل التخلص من التقاء الساكنين وهناك قراءات أخرى يرجع إليها في المطولات. الإعراب: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) عطف على ما تقدم وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة قيل في محل جر بالإضافة وجملة أنفقوا مقول القول ومما جار ومجرور متعلقان بأنفقوا وجملة رزقكم الله صلة. (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ) جملة قال لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والذين فاعل وجملة كفروا صلة وللذين متعلقان بقال وجملة آمنوا صلة والهمزة للاستفهام ومعناه الاستهزاء: كان بمكة زنادقة فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا لا والله أيفقره الله ونطعمه نحن؟ وقيل نزلت في مشركي قريش حين قال فقراء أصحاب رسول الله: أعطونا مما زعمتم من أموالكم إنها لله يعنون قوله: «وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا» فحرموهم وقالوا: لو شاء الله لأطعمكم استهزاء منهم بالمؤمنين أي فلا نطعمكم حتى ترجعوا إلى ديننا. ونطعم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ومن مفعول به ولو شرطية ويشاء الله فعل مضارع وفاعل وجملة أطعمه لا محل لها وجملة لو يشاء الله أطعمه لا محل لها لأنها صلة من. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 209 (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) إما أن يكون تتمة كلام المشركين وإما أن يكون من قول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم وإما أن يكون من قول الله تعالى لهم، وروى القرطبي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يطعم مساكين المسلمين فلقيه أبو جهل فقال: يا أبا بكر أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء؟ قال: نعم، قال: فما باله لم يطعمهم؟ قال: ابتلى قوما بالفقر وقوما بالغنى وأمر الفقراء بالصبر وأمر الأغنياء بالإعطاء، فقال أبو جهل: والله يا أبا بكر إن أنت إلا في ضلال أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء وهو لا يطعمهم ثم تطعمهم أنت فنزلت الآية. (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) كلام مستأنف لبيان ضرب آخر من تعسفهم وركوبهم متن الضلالة ويقولون فعل مضارع وفاعل ومتى اسم استفهام في محل نصب على الظرفية والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر والوعد بدل من اسم الإشارة وإن شرطية وكنتم صادقين كان واسمها وخبرها وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه أي فمتى هذا الوعد؟ (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) ما نافية وينظرون فعل مضارع وفاعل ومعناه ينتظرون: جعلهم منتظرين وقوعها مع أنهم كانوا قاطعين بعدمها محاكاة لكلامهم. وإلا أداة حصر وصيحة مفعول به وواحدة صفة وجملة تأخذهم صفة ثانية أو حالية والواو حالية وهم ضمير منفصل مبتدأ وجملة يخصمون خبر والجملة نصب على الحال والمعنى أنها تبغتهم وهم سادرون في الغفلة مسترسلون في الخصومات حول المتاجر والمعاملات. (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) الفاء عاطفة ولا نافية ويستطيعون فعل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 210 مضارع وفاعل وتوصية مفعول به والواو عاطفة ولا نافية وإلى أهلهم جار ومجرور متعلقان بيرجعون والجملة معطوفة على فلا يستطيعون. [سورة يس (36) : الآيات 51 الى 54] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) اللغة: (الصُّورِ) : هو القرن أو ما يسمى اليوم البوق وهو شيء مجوف مستطيل ينفخ فيه ويزمر ويجمع على أبواق وبيقان وبوقات. قال أبو الفتح بن جني: عاب على أبي الطيب من لا خبرة له بكلام العرب جمع بوق على بوقات في قوله: إذا كان بعض الناس سيفا لدولة ... ففي الناس بوقات لها وطبول والقياس يعضده إذ له نظائر كثيرة مثل حمام وحمامات وسرادق وسرادقات وجواب وجوابات وهو كثير في جميع ما لا يعقل من المذكر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 211 (الْأَجْداثِ) : القبور جمع جدث كفرس وأفراس وقرىء من الأجداف بالفاء وهي لغة في الأجداث يقال جدث وجدف. (يَنْسِلُونَ) : يعدون بكسر السين وضمها يقال نسل الذئب ينسل من باب ضرب يضرب وقيل ينسل بالضم أيضا وهو الاسراع في المشي وفي القاموس: «نسل ينسل وينسل بكسر السين وضمها نسلا ونسلا ونسلانا في مشيه أسرع» . ومنه قول امرئ القيس: فإن تك ساءتك مني خليقة ... فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل الإعراب: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) كلام مستأنف مسوق لتقرير البعث يوم القيامة. ونفخ فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وفي الصور متعلقان بنفخ والفاء حرف عطف وإذا الفجائية وهم مبتدأ ومن الأجداث متعلقان بينسلون وإلى ربهم متعلقان بينسلون أيضا وجملة ينسلون خبرهم. (قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) قالوا فعل وفاعل ويا حرف تنبيه أو حرف نداء والمنادى محذوف وويلنا مصدر لا فعل له من لفظه ونا مضاف إليه ويجوز أن يكون منادى مضافا من النداء المجازي أي يا ويل احضر فهذا أوانك، ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة بعثنا خبر ومن مرقدنا متعلقان ببعثنا ويجوز في المرقد أن يكون مصدرا ميميا أي من رقادنا ويجوز أن يكون اسم مكان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 212 وقد أقيم المفرد مقام الجمع. (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) هذا مبتدأ وما اسم موصول خبر وجملة وعد الرحمن فعل وفاعل ومفعول وعد محذوف أي وعدنا وصدق المرسلون فعل وفاعل والمفعول محذوف وعلى هذا الإعراب يكون الوقوف على مرقدنا تاما، ويجوز أن تكون ما مصدرية وهي مع مدخولها خبر هذا، وأجاز الزمخشري وغيره أن يكون اسم الاشارة نعتا لمرقدنا فيوقف عليه وما وعد مبتدأ محذوف الخبر أو خبرا لمبتدأ محذوف والتقدير على الأول حق وعلى الثاني هذا أو بعثنا. (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) إن نافية وكانت فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره الصيحة وإلا أداة حصر وصيحة خبر كانت والفاء حرف عطف وإذا الفجائية وهم مبتدأ وجميع خبر ولدينا ظرف متعلق بمحضرون ومحضرون خبر ثان أو صفة لجميع. (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الفاء استئنافية واليوم ظرف متعلق بتظلم ولا نافية وتظلم فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وشيئا مفعول مطلق ولا تجزون عطف على لا تظلم على طريق الالتفات وإلا أداة حصر وما مفعول به ثان لتجزون وجملة كنتم صلة وجملة تعملون خبر كنتم. البلاغة: في قوله: «قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا» استعارة تصريحية أصلية فقد استعار الرقاد للموت والجامع بينهما عدم ظهور الفعل لأن كلّا من النائم والميت لا يظهر فيه فعل والمراد الفعل الاختياري المعتد به فلا يرد أن النائم يصدر منه فعل وإنما قلنا انها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 213 أصلية لأن المرقد مصدر ميمي كما تقدم وأما إذا جعلناه اسم مكان فتكون الاستعارة تبعية. [سورة يس (36) : الآيات 55 الى 61] إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) اللغة: (شُغُلٍ) : بسكون الغين وضمها وقد قرىء بهما معا وفي القاموس: «الشغل بالضم وبضمتين وبالفتح وبفتحتين ضد الفراغ وجمعه أشغال وشغول وشغله كمنعه شغلا ويضم، وأشغله لغة جيدة أو قليلة أو رديئة واشتغل به وشغل كعني ويقال منه ما أشغله وهو شاذ لأنه لا يتعجب من المجهول» وأنكر شارح القاموس أشغل وقال: لا يعرف نقله عن أحد من أئمة اللغة. (فاكِهُونَ) : ناعمون أو متلذذون في النعمة من الفكاهة بالضم وهي التمتع والتلذذ مأخوذ من الفاكهة. قال الجوهري في صحاحه: الفكاهة بالضم: المزاح والفكاهة بالفتح مصدر فكه الرجل بالكسر فهو فكه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 214 إذا كان طيب العيش فرحانا ذا نشاط من التنعم فإذا فسرنا قوله «فاكهون» بأنهم ناعمون كانت من الفكاهة بالفتح وفي القاموس: «الفاكهة: الثمر كله وقول مخرج التمر والعنب والرمان منها مستدلا بقوله تعالى فيهما فاكهة ونخل ورمان باطل مردود وقد بينت ذلك مبسوطا في اللامع المعلم العجاب، والفاكهاني بائعها وكخجل: آكلها والفاكه صاحبها وفكههم تفكيها أتاهم بها والفاكهة: النخلة المعجبة واسم والحلواء وفكههم بملح الكلام تفكيها أطرفهم بها والاسم: الفكيهة والفكاهة بالضم وفكه كفرح فكها وفكاهة فهو فكه وفاكه طيب النفس ضحوك أو يحدث صحبه فيضحكهم ومنه تعجب كتفكه والتفاكه التمازح» . (الْأَرائِكِ) : جمع أريكة وهي السرير في الحجلة وقيل الفرش الكائن في الحجلة بفتحتين أو بسكون الجيم مع ضم الحاء وقيل مع كسرها والمراد بها نحو قبة تغلق على السرير وتزين به العروس. (يَدَّعُونَ) مضارع ادعى بوزن افتعل من دعا يدعو وقد اشرب معنى التمني، قال أبو عبيدة: «العرب تقول: ادع علي ما شئت أي تمن وفلان في خير ما يدعي أن يتمنى» وقال الزجاج: «هو من الدعاء أي ما يدعونه يأتيهم، وقيل افتعل بمعنى تفاعل أي ما يتداعونه» وقال الزمخشري: «يدعون يفتعلون من الدعاء أي يدعون به لأنفسهم كقولك اشتوى واجتمل إذا شوى وجمل لنفسه قال لبيد: وغلام أرسلته أمه ... بألوك فبذلنا ما سأل أرسلته فأتاه رزقه ... فاشتوى ليلة ريح واجتمل» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 215 أي ورب غلام أرسلته أمه إلينا برسالة وهي هنا السؤال فبذلنا ما سأله من الطعام عقب سؤاله وبين ذلك بقوله: أرسلته فأتاه رزقه وفيه دلالة على انه لم يكن عندهم طعام حين أتاهم الغلام أي فأتاه رزقه من الصيد فاشتوى لنفسه من اللحم في ليلة ريح مظلمة يقل فيها الجود واجتمل أي أذاب الشحم، وفي الصحاح: حميت الشحم واجتملته إذا أذبته. الإعراب: (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) كلام مستأنف مسوق لتقرير أحوال أهل الجنة إغاظة للكفار وتقريعا لهم وزيادة في ندامتهم وحسرتهم. وإن واسمها واليوم ظرف متعلق بمحذوف حال وفي شغل خبر إن الثاني وفاكهون خبرها الأول ويجوز العكس، ويجوز أن يتعلق في شغل بفاكهون أو في محل نصب على الحال، وسيأتي معنى الشغل والفكاهة في باب البلاغة. (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) هم مبتدأ وأزواجهم عطف على هم وفي ظلال خبر أي لا تصيبهم الشمس لانعدامها بالكلية وعلى الأرائك متعلقان بمتكئون ومتكئون خبر ثان لهم، ويجوز أن يتعلق قوله في ظلال بمحذوف حال. (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) لهم خبر مقدم وفيها متعلقان بمحذوف حال وفاكهة مبتدأ مؤخر ولهم خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر والجملة معطوفة على الجملة السابقة ويجوز في ما أن تكون موصولة أو نكرة موصوفة أو مصدرية وجملة يدعون لا محل لها أو صفة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 216 (سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) اختلفت أقوال المعربين في إعراب هذه الآية وأوصل بعضهم القول فيها إلى ستة أوجه، ونرى أن نثبت نص عبارة الشهاب السمين لوجاهتها قال: «قوله سلام: العامة على رفعه وفيه أوجه أحدها أنه خبر ما يدعون. الثاني أنه بدل من ما، قاله الزمخشري، قال الشيخ: وإذا كان بدلا كان ما يدعون خصوصا والظاهر أنه عموم في كل ما يدعونه وإذا كان عموما لم يكن بدلا منه. الثالث أنه صفة لما وهذا إذا جعلتها نكرة موصوفة أما إذا جعلتها بمعنى الذي أو مصدرية تعذر ذلك لتخالفهما تعريفا وتنكيرا، الرابع أنه خبر ابتداء مضمر أي هو سلام. الخامس أنه مبتدأ خبره الناصب لقولا أي سلام يقال لهم قولا وقيل تقديره سلام عليكم. السادس أنه مبتدأ وخبره من رب» وقولا مصدر مؤكد لمضمون الجملة وهو مع عامله معترض بين المبتدأ والخبر وقال الزمخشري «والأوجه أن ينتصب على الاختصاص وهو من مجازه» وجعله السيوطي الجلال منصوبا بنزع الخافض وقال آخرون هو مصدر منصوب بفعل محذوف وهو مع عامله صفة لسلام أي يقول لهم وجملة سلام قولا من رب رحيم في محل نصب معموله لقول محذوف ومن رب صفة لقولا ورحيم صفة لرب. (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) وهذه الجملة معمولة لقول محذوف أيضا أي ويقول لهم الله. وامتازوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل أي وانفردوا عن المؤمنين، واليوم ظرف متعلق بامتازوا وأيها منادى نكرة مقصودة محذوف منه حرف النداء والهاء للتنبيه والمجرمون بدل. (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ) جملة منتظمة في سلك المقول لهم جارية مجرى التقريع والتوبيخ والتبكيت والإلزام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 217 والهمزة للاستفهام المتضمن هذه المعاني ولم حرف نفي وقلب وجزم وأعهد فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله ضمير مستتر تقديره أنا وإليكم متعلق بأعهد ويا حرف نداء وبني منادى مضاف وآدم مضاف إليه. (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أن مفسرة لأنها وقعت بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه ولا ناهية وتعبدوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل والشيطان مفعول به ويجوز أن تكون أن مصدرية فتكون هي ومدخولها في محل نصب بنزع الخافض، أي ألم أعهد إليكم بترك عبادة الشيطان. وان واسمها ولكم متعلقان بعدو أو بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفه له وتقدمت وعدو خبر إن ومبين صفة والجملة تعليلية للنهي لا محل لها. (وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) عطف على أن لا تعبدوا واعبدوني فعل أمر وفاعل ومفعول به وهذا مبتدأ وصراط خبر ومستقيم صفة والجملة تعليلية للأمر وسيأتي سر تقديم النهي على الأمر في باب البلاغة. البلاغة: في هذه الآيات ضروب من أفانين البلاغة نشير إليها فيما يلي: 1- تنوين شغل وفيه تنويه بأن ما هم فيه من شغل أعلى من أن ترقى إليه رتبة البيان أو يستطيع وضعه اللسان كما أن في إبهامه إيجازا انطوى تحته مالا يعد ويحصى من ضروب الملاذ التي يستمتعون بها في الجنان، وأن ما عداها يعتبر كلا شيء كما أن فيه تصويرا لما أعده الله لعباده المتقين من ضروب المتعة وأفانين اللذة من افتضاض أبكار، وسماع أوتار، وتزاور في العشايا والأسحار، وقد أكده بأنهم فاكهون ناعمون لا يشغل بالهم ما يشغل بال أهل الدنيا من تصاريف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 218 الحياة ومشاغل السنين ولا ينغص صفوهم همّ طارئ أو غم نازل، وان كل ما تمتد إليه الأعين وتسافر نحوه الظنون من صنوف الملاذ حاضر لديهم ينالونه وهم متكئون على الأرائك متمددون تحت الظلال مما ورد وصفه مجسّدا. وذلك كله على طريق الكناية وقد تقدم القول فيها مطولا. 2- تنوين صراط وفيه تفخيم كما تقدم وإيجاز يشير إلى ما عهد إليهم من معصية الشيطان وطاعة الرحمن إذ لا صراط أقوم منه ومن نماذج هذا التنوين في الشعر قول كثير عزة: لئن كان يهدي برد أنيابها العلا ... لأفقر مني انني لفقير وقيل هذا البيت من أبيات المجنون وقبله: دعوت إلهي دعوة ما جهلتها ... وربي بما تخفي الصدور بصير وبعده: فما أكثر الأخبار أن قد تزوجت ... فهل يأتيني بالطلاق بشير وقوله لئن كان يهدي بيان للدعوة التي دعاها عن قصد وحضور قلب وما بينهما اعتراض للتأكيد وإفادة أن الدعوة كانت في السر أي لئن كان يعطي برد أسنانها العليا وخصها بالذكر لأنها أول ما يبدو عند التبسم لأحوج مني إنني لبليغ الفقر حقيق بأن أوصف به لكمال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 219 شرائطه فيّ، ويجوزان «برد أنيابها» كناية عن ذاتها كلها و «إنني لفقير» خبر مؤكد يدل على شدة الاحتياج وعظم الفاقة وأي فاقة أشد على العاشق من احتياجه إلى من يعشق يداوي أوصابه. وان في قوله «أن قد تزوجت» مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وهي على تقدير حرف الجر أي أتعجب من كثرة الأخبار المخبرة بزواجها وهل استفهام بمعنى التمني أو التعجب مجازا مرسلا لعلاقة مطلق الطلب أي أتمنى ذلك أو أتعجب من عدمه. 3- تقديم النهي على الأمر في قوله «ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وان اعبدوني هذا صراط مستقيم» وذلك لأن حق التخلية التقديم على التحلية كما هو مقرر في علم التوحيد وليتصل به قوله «هذا صراط مستقيم» . [سورة يس (36) : الآيات 62 الى 67] وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 220 اللغة: (جِبِلًّا) : بكسر الجيم والباء وتشديد اللام كسجل، وجبلا بضم الجيم وسكون الباء وتخفيف اللام، وجبلا بضم الجيم وسكون الباء، وجبلا بكسر الجيم وسكون الباء وهذه اللغات في الجبل بمعنى الخلق أو طائفة منه أقلها عشرة آلاف والكثير لا يتناهى. (اصْلَوْهَا) : ذوقوا حرّها. (مَكانَتِهِمْ) : المكانة والمكان واحد كالمقامة والمقام والمعنى لمسخناهم مسخا يجمدهم مكانهم لا يقدرون على مبارحته. الإعراب: (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) كلام مستأنف مسوق لتشديد التوبيخ وتأكيد التقريع واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأضل فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ومنكم جار ومجرور متعلقان بأضل وجبلا مفعول به وكثيرا صفة والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم وتكونوا فعل مضارع ناقص مجزوم بلم والواو اسمها وجملة تعقلون خبرها. (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) كلام مستأنف مسوق لمجابهتهم بالمصير الهائل الذي يصيرون اليه بعد أن بلغ الغاية في توبيخهم وتقريعهم. واسم الاشارة مبتدأ وجهنم خبره والتي صفة وجملة كنتم صلة والتاء اسم كان وجملة توعدون خبرها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 221 (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) اصلوها فعل أمر وفاعل ومفعول به واليوم ظرف متعلق باصلوها وبما متعلقان باصلوها أيضا والباء للسببية وما مصدرية أي بسبب كفركم وكنتم تكفرون كان واسمها وخبرها وجملة كنتم تكفرون لا محل لها. (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) اليوم ظرف زمان متعلق بنختم ونختم فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره نحن وعلى أفواههم متعلقان بنختم أيضا. (وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) وتكلمنا أيديهم فعل مضارع ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وسيأتي سر تكليم الأيدي، وتشهد أرجلهم عطف على تكلمنا أيديهم وبما متعلقان بتكلمنا وما مصدرية أو موصولة وكانوا كان واسمها وجملة يكسبون خبرها. (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) الواو عاطفة ولو شرطية ونشاء فعل مضارع وفاعل والمفعول به محذوف أي لو نشاء طمسها واللام واقعة في جواب لو وجملة طمسنا لا محل لها وعلى أعينهم متعلقان بطمسنا والطمس شق العين حتى تعود ممسوحة وفي المصباح «طمست الشيء طمسا من باب ضرب محوته» . (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) الفاء عاطفة واستبقوا فعل وفاعل والجملة عطف على لطمسنا والصراط قال الزمخشري: «لا يخلو من أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل، والأصل فاستبقوا الى الصراط أو يضمن معنى ابتدروا أو يجعل الصراط مسبوقا لا مسبوقا إليه أو ينتصب على الظرف، والمعنى أنه لو شاء لمسح أعينهم فلو راموا أن يستبقوا إلى الطريق المهيع الذي اعتادوا سلوكه الى مساكنهم والى مقاصدهم المألوفة التي ترددوا إليها كثيرا كما كانوا يستبقون إليه ساعين في متصرفاتهم موضعين في أمور دنياهم لم يقدروا وتعايا عليهم أن يبصروا ويعلموا جهة السلوك فضلا عن غيره أو لو شاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 222 لأعماهم فلو أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف كما كان ذلك هجيراهم لم يستطيعوا أو لو شاء لأعماهم فلو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوا المشي فيه لعجزوا ولم يعرفوا طريقا» وقال السمين: «والصراط ظرف مكان مختص عند الجمهور فلذلك تأولوا وصول الفعل إليه إما بأنه مفعول به مجازا جعله مسبوقا له وتضمين استبقوا معنى بادروا وإما على حذف الجار أي إلى الصراط» والفاء عاطفة وأنى اسم استفهام بمعنى كيف في محل نصب على الحال ويبصرون فعل مضارع وفاعل والاستفهام هنا معناه النفي أي لا يبصرون. (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) عطف على ما ولو شرطية ونشاء فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ومفعول نشاء محذوف أيضا أي لو نشاء مسخهم واللام واقعة في جواب لو وجملة مسخناهم لا محل لها وعلى مكانتهم حال أي لمسخناهم على حالتهم فهم ممسوخون في محالهم وفي منازلهم، فما الفاء عاطفة وما نافية واستطاعوا فعل وفاعل ومضيا مفعول به ولا يرجعون عطف أيضا أي فما يبرحون مكاناتهم ولا يستطيعون الفرار منها بإقبال ولا بإدبار. [سورة يس (36) : الآيات 68 الى 76] وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 223 اللغة: (نُعَمِّرْهُ) : نطيل أجله، وعمره الله بالتشديد أبقاه وقد تقدم ذكر هذه المادة بتفصيل واف. (نُنَكِّسْهُ) نقلبه أي فنجعله على عكس ما خلقناه فيتناقص حتى يرجع إلى حال شبيهة بحال الصبي. وفي القاموس وغيره «نكسه تنكيسا بالتشديد بمعنى نكسه ونكسه ينكسه من باب نصر نكسا قلبه على رأسه وجعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره» وفي المصباح: «نكسته نكسا من باب قتل قلبته ومنه قيل ولد منكوس إذا خرج رجلاه قبل رأسه لأنه مقلوب مخالف للعادة، ونكس المريض نكسا بالبناء للمجهول عاوده المرض كأنه قلب الى المرض» وقد جمع بعضهم معاني هذه المادة فقال: قلب على رأس فهذا نكس ... والرجل الفسل الضعيف نكس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 224 رجوع داء بعد برء نكس ... والناكس المرخي لرأس فادر ومن ريب أمر النون مع الكاف أنهما إذا وقعتا فاء وعينا للكلمة دلت على أثر في الشيء ويكون مصحوبا بالايلام والايجاع: فنكأ القرحة قشرها قبل أن تبرأ فنكسها قال: ولم تنسني أوفى المصيبات بعده ... ولكنّ نكء القرح بالقرح أوجع ونكب عنه عدل ونكب الإناء أراق ما فيه والنكبة المصيبة وأثرها بليغ ومنه الريح النكباء وهي التي تهب بين الصبا والشمال خاصة. ونكت الأرض بقضيبه أو بأصبعه ومرّ الفرس ينكت إذا نبا عن الأرض في عدوه ونكت العظم أخرج مخه وفلان نكّات في الأعراض أي طعّان فما يستعمله العامة قريب من الصحيح. ونكث الحبل والسواك والسأف في أصول الأظفار وقد انتكث بنفسه أي انتقض واختل وهذه نكاثة الحبل: لما انتكثت من طرفه ونكاثة السواك لما تشعّث من رأسه، ومن مجازه نكث العهد والبيعة نقضهما وهو نكاث للعهود. ونكح المرأة واستنكحها. قال النابغة: وهم قتلوا الطائي بالحجر عنوة ... أبا جابر واستنكحوا أم جابر واستنكح النوم عيونهم. قال عمر بن أبي ربيعة: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 225 واستنكح النوم الذين تخافهم ... ورمى الكرى بوّابهم فتجدّلا ونكد فلانا حاجته منعه إياها أو لم يعطه إلا القليل منها ونكد الغراب استقصى في شحيحه ونكد العيش بكسر الكاف اشتد وعسر ونكد عيشه بالتشديد أي جعله نكدا وعطاء منكود ومنكّد أي قليل غير مهنأ. قال: وأعط ما أعطيته طيبا ... لا خير في المنكود والناكد ونكّد عطاءه بالمنّ. وأنكر الشيء ونكره واستنكره وقيل نكر بالكسر أبلغ من أنكره وهذا غريب وقيل: نكر بالقلب وأنكر بالعين، قال الأعشى: وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا ونكزت الحية تنكز بأنفها ونكز البحر غاض. ونكش البئر نزفها أو أخرج ما فيها من الطين فما تستعمله العامة لا غبار عليه. ونكص على عقبيه معروف ويقال: فلان حظه ناقص، وجده ناكص. ونكف منه بكسر الكاف واستنكف: امتنع وانقبض أنفا وحمية. ونكل عن اليمين وعن العدو نكولا ونكلته عن كذا فطمته ونكلت به بالتشديد أصبته بنازلة أو جعلت غيره ينكل أن يفعل مثل فعله والقعاب النكال. ونكهته تشممت ريح فيه ونكه الشارب في وجهه ولا يخفى ما يحدثه من أثر وقد يأتي بمعنى الطيب يقال هو طيب النكهة وقد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 226 استعملها أبو الشمقمق في المعنيين بقوله يهجو داود بن بكر وكان والي الأهواز: وله لحية تيس ... وله منقار نسر وله نكهة ليث ... خالطت نكهة صقر ونكيت في العدو نكاية إذا أكثرت الجراح، تقول: فلان قليل النكاية طويل الشكاية، قال: قليل النكاية أعداءه ... يراعي الفرار يراخي الأجل الإعراب: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ) كلام مستأنف مسوق لاستعراض حال الإنسان كيف يستحيل إلى ضعف بعد قوة وإلى نقص بعد تمام. ومن اسم شرط جازم ونعمره فعل الشرط والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به وننكسه جواب الشرط والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به وفي الخلق متعلقان بننكسه أو بمحذوف حال والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق ولا نافية ويعقلون فعل مضارع مرفوع وفاعله. (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) كلام مستأنف مسوق للرد على من زعموا أن القرآن شعر. وما نافية وعلمناه فعل ماض وفاعل ومفعول به والشعر مفعول به ثان وما عطف وينبغي فعل مضارع معطوف على علمناه وله متعلقان بينبغي وسيأتي مزيد بيان حول هذا الموضوع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 227 (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) إن نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر وذكر خبر وقرآن عطف على ذكر ومبين صفة. (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) اللام للتعليل وينذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تدل عليه قرينة الكلام أي أنزل عليه لينذر ومن مفعول به وجملة كان صلة واسم كان ضمير مستتر تقديره هو وحيا خبرها ويحق عطف على لينذر والقول فاعل والمراد به العذاب وعلى الكافرين متعلقان بيحق. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) الهمزة للاستفهام التقريري وقد تقدم أن في هذا التركيب وجهين صحيحين أو لهما أن أصل التركيب وألم يروا ولكن لما كان الاستفهام له الصدارة قدمت الهمزة على الواو، والوجه الثاني أن يكون الكلام على حاله والواو عاطفة على محذوف يقتضيه السياق وقد جرينا على هذا الوجه في أكثر ما قدمناه والتقدير ألم يتفكروا ولم يروا وقد أعدناه هنا لطول العهد به. ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل والرؤية علمية وأنا وما في حيزها سدت مسد مفعولي يروا وأن واسمها وجملة خلقنا خبرها وخلقنا فعل وفاعل ولهم متعلقان بخلقنا أي لأجلهم وانتفاعهم ومما متعلقان بمحذوف حال وجملة عملت صلة والعائد محذوف أي عملته وأيدينا فاعل وأنعاما مفعول خلقنا والفاء عاطفة وهم مبتدأ ولها متعلقان بمالكون ومالكون خبر هم وهي كالابل والبقر والغنم والخيل والحمير. (وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) وذللناها فعل ماض وفاعل ومفعول ولهم متعلقان بذللناها والفاء للتفريع ومنها خبر مقدم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 228 وركوبهم مبتدأ مؤخر وفيها متعلقان بيأكلون ويأكلون فعل مضارع مرفوع وفاعل. (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ) الواو عاطفة ولهم خبر مقدم وفيها حال ومنافع مبتدأ مؤخر ومشارب عطف على منافع وهو جمع مشرب مصدر ميمي واسم مكان والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة كما تقدم ولا نافية ويشكرون فعل مضارع وفاعل. (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) الواو عاطفة على مقدر يستدعيه السياق أي ما فعلوا الشكر. واتخذوا فعل أمر وفاعل ومن دون الله في موضع المفعول الثاني لاتخذوا وآلهة مفعوله الأول ولعل واسمها وجملة ينصرون خبرها والواو نائب فاعل وجملة الرجاء حالية أي حال كونهم راجين النصر من آلهتهم. (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) لا نافية ويستطيعون فعل مضارع وفاعل، أسند ضمير العقلاء إلى آلهتهم تنزيلا لها منزلة العقلاء ونصرهم مفعول به والواو للحال وهم مبتدأ ولهم حال من جند لأنه كان في الأصل صفة له وقدمت عليه وجند خبرهم ومحضرون خبر ثان لهم أو نعت لجند. (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) الفاء الفصيحة أي ان علمت ما تقدم وأيقنت أنهم يعلّقون أطماعهم الفارغة على ما يستوجب الخسران ويستدعي تقويض الأحلام وتبديد الأوهام فلا يحزنك قولهم. ولا ناهية ويحزنك فعل مضارع مجزوم بلا والكاف مفعول به وقولهم فاعل ثم علل النهي فقال: إنا بكسر الهمزة ولو فتحت لفسد المعنى، وان واسمها وجملة نعلم خبرها والفاعل مستتر تقديره نحن وما مفعول به وهي موصولة أو مصدرية وجملة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 229 يسرون لا محل لها على كل حال أي الذي يسرونه أو أسرارهم وما يعلنون عطف على ما يسرون أي والذي يعلنون أو واعلانهم وللزمخشري فصل ممتع بين كسر همزة إن وفتحها نورده في باب الفوائد. الفوائد: حاول بعض المنتصرين للنثر، الطاعنين على الشعر، أن يحتج بأن القرآن كلام الله تعالى منثور، وان النبي صلى الله عليه وسلم غير شاعر لقوله تعالى: «وما علمناه الشعر وما ينبغي له» ويرى أنه قد أبلغ في الحجة، ولكن الواقع أن الله تعالى لما بعث رسوله أميا غير شاعر إلى قوم يعلمون منه حقيقة ذلك حين استوت الفصاحة واشتهرت البلاغة آية للنبوة، وحجة على الخلق، وإعجازا للمتعاطين، وجعله منثورا ليكون أظهر برهانا لفضله على الشعر الذي يترتب على صاحبه أن يكون قادرا على ما يحبه من الكلام، وتحدي جميع الناس من شاعر وغيره بمثل مثله فأعجزهم ذلك، فمن هنا قال الله تعالى «وما علمناه الشعر وما ينبغي له» أي لتقوم عليكم الحجة ويصح قبلكم الدليل، ويدحض أباطيلكم البرهان، والمعنى: ان القرآن ليس بشعر، وما هو من الشعر في شيء وأين هو عن الشعر؟ والشعر إنما هو كلام موزون مقفى يدل على معنى فأين الوزن؟ وأين التقفية؟ وأين المعاني التي ينتحيها الشعراء عن معانيه؟ وأين نظم كلا منهم عن نظمه وأساليبه؟ فإذن لا مناسبة بينه وبين الشعر، قال الزمخشري: «فإن قلت فقوله: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 230 وقوله: هل أنت إلّا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت قلت: ما هو إلا كلام من جنس كلامه الذي كان يرمي به على السليقة من غير صنعة ولا تكلف إلا أنه اتفق ذلك من غير قصد إلى ذلك ولا التفات منه إليه أن جاء موزونا كما يتفق في كثير من إنشاءات الناس في خطبهم ورسائلهم ومحاوراتهم أشياء موزونة لا يسميها أحد شعرا ولا يخطر ببال المتكلم ولا السامع أنها شعر، وإذا فتشت في كل كلام عن نحو ذلك وجدت الواقع في أوزان البحور غير عزيز، على أن الخليل ما كان يعد المشطور من الرجز شعرا» . قلت: وقد تقدم في موضع آخر بحث مستفيض عن الشعر فجدد به عهدا. بين كسر همزة إن وفتحها: وقال الزمخشري في صدد قوله تعالى: «فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون» : «فإن قلت: فما تقول فيمن يقول: إن قرأ قارئ أنا نعلم بالفتح انتقضت صلاته وإن اعتقد ما يعطيه من المعنى كفر؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يكون على حذف لام التعليل وهو كثير في القرآن وفي الشعر وفي كل كلام وقياس مطّرد، وهذا معناه ومعنى الكسر سواء، وعليه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: ان الحمد والنعمة لك، كسر أبو حنيفة وفتح الشافعي وكلاهما تعليل. والثاني أن يكون بدلا من قولهم كأنه قيل فلا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 231 يحزنك أنا نعلم ما يسرون وما يعلنون، وهذا المعنى قائم مع المكسورة إذا جعلتها مفعولة للقول فقد تبين أن تعلّق الحزن بكون الله عالما وعدم تعلقه لا يدوران على كسر إن وفتحها وإنما يدوران على تقديرك، فتفصل إن فتحت بأن تقدر معنى التعليل ولا تقدر البدل كما أنك تفصل بتقدير معنى التعليل إذا كسرت ولا تقدر معنى المفعولية ثم إن قدرته كاسرا وفاتحا على ما عظم فيه من الخطب ذلك القائل فما فيه إلا نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن على كون الله عالما بسرهم وعلانيتهم وليس النهي عن ذلك مما يوجب شيئا ألا ترى إلى قوله تعالى: «فلا تكونن ظهيرا للكافرين، ولا تكونن من المشركين، ولا تدع مع الله إلها آخر» . [سورة يس (36) : الآيات 77 الى 83] أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 232 اللغة: (خَصِيمٌ) : مخاصم مجادل والخصومة الجدل قال في القاموس: «خاصمه مخاصمة وخصومة فخصمه يخصمه غلبه وهو شاذ لأن فاعلته ففعلته يرد يفعل منه إلى الضم إن لم تكن عينه حرف حلق فإنه بالفتح كفاخره ففخره يفخره وأما المعتل كوجدت وبعت فيرد إلى الكسر إلا ذوات الواو فإنها ترد إلى الضم كراضيته فرضوته أرضوه وخاوفني فخفته أخوفه وليس في كل شيء يقال نازعته لأنهم استغنوا عنه بغلبته واختصموا تخاصموا والخصم المخاصم والجمع خصوم وقد يكون للاثنين والجمع والمؤنث، والخصيم المخاصم والجمع خصماء وخصمان ورجل خصم كفرح مجادل والجمع خصمون ومن قرأ «وهم يخصمون» أراد يختصمون فقلب التاء صادا فأدغم ونقل حركته إلى الخاء ومنهم من لا ينقل ويكسر الخاء لاجتماع الساكنين وأبو عمرو يختلس حركة الخاء اختلاسا وأما الجمع بين الساكنين فلحن، والخصم بالضم الجانب والزاوية والناحية وطرف الزاوية الذي بحيال العزلاء في مؤخرها والجمع أخصام وخصوم واخصام العين ما ضمت عليه الأشفار» وإنما نقلنا لك هذه المادة بطولها لفائدتها ولنبين لك مدى الوهم الذي وقع فيه صاحب المنجد فقد خلط فيها خلطا عجيبا وجعل الأخصام جمعا للخصم والخصيم وهو كما رأيت وهم من أوهام هذا الكتاب العجيب!! (رَمِيمٌ) : بالية وفي المختار «رم بالفتح يرم بالكسر إذا بلي وبابه ضرب» فهو اسم لا صفة ولذلك لم يؤنث وقد وقع خبرا لمؤنث، ولا هو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول. وإيضاح هذا الكلام أن فعيلا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 233 بمعنى فاعل لا تلحق التاء في مؤنثه إلا إذا بقيت وصفية وما هنا انسلخ عنها وغلبت عليه الاسمية أي صار بالغلبة اسما لما بلي من العظام. الإعراب: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) كلام مستأنف مسوق لتقبيح إنكارهم البعث وقد سما الزمخشري في تقرير هذا المعنى كما سيأتي في باب الفوائد. والهمزة للاستفهام الإنكاري التعجبي، والواو عاطفة وقد تقدم القول فيها مسهبا ولم حرف نفي وقلب وجزم وير فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والإنسان فاعل وأنا وما في حيزها سدت مسد مفعولي ير لأن الرؤية هنا علمية وأن واسمها وجملة خلقناه خبرها وخلقناه فعل وفاعل ومفعول به ومن نطفة جار ومجرور متعلقان بخلقناه والفاء حرف عطف وإذا فجائية وهو مبتدأ وخصيم خبر ومبين صفة وجملة إذا هو خصيم مبين عطف على جملة لم ير الإنسان داخلة معها في حيز الإنكار والتعجب. (وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ) الواو عاطفة وضرب فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ولنا متعلقان بضرب ومثلا مفعول به ونسي عطف على ضرب وخلقه مفعول به والعطف داخل في حيز التعجب والإنكار أو الواو للحال بتقدير قد أي وقد نسي خلقه. (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) من اسم استفهام مبتدأ وجملة يحيي العظام خبر والواو حالية وهي مبتدأ ورميم خبر والجملة في موضع نصب على الحال. (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) جملة يحييها مقول القول وهو فعل مضارع ومفعول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 234 به والذي فاعل وجملة أنشأها صلة وأول مرة نصب على الظرف متعلق بأنشأها والواو استئنافية أو حالية وهو مبتدأ وبكل متعلقان بعليم وعليم خبر هو. (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) الذي بدل من الذي الآنفة الذكر وجملة جعل صلة ولكم في موضع المفعول الثاني ومن الشجر الأخضر حالا لأنه كان في الأصل صفة لنارا ونارا مفعول جعل الأول، فإذا الفاء عاطفة وإذا فجائية وأنتم مبتدأ ومنه متعلقان بتوقدون وجملة توقدون خبر أنتم. (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أليس الذي أنشأها أول مرة وليس الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا وليس الذي خلق السموات والأرض بقادر، وليس فعل ماض ناقص والذي اسمها وجملة خلق السموات والأرض صلة والباء حرف جر زائد وقادر مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس وعلى حرف جر وأن وما في حيزها في محل جر بعلى والجار والمجرور متعلقان بقادر وفاعل مستتر تقديره هو ومثلهم مفعول به. (بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) حرف جواب لإثبات النفي والواو عاطفة على ما يفيده الإيجاب أي بلى هو قادر على ذلك وهو الخلاق، وهو مبتدأ والخلاق خبر والعليم خبر ثان. (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) إنما كافة ومكفوفة وأمره مبتدأ وإذا ظرف مستقبل وجملة أراد مضاف إليها الظرف وشيئا مفعول به وأن وما في حيزها خبر أمره وله متعلقان بيقول وجملة كن مقول القول وكن فعل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 235 أمر تام وفاعله مستتر تقديره أنت والفاء عاطفة ويكون فعل مضارع مرفوع لأنه وفاعله جملة في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف والجملة عطف على أمره وقرىء بالنصب عطفا على يقول. (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) الفاء الفصيحة وسبحان مفعول مطلق لفعل محذوف والذي مضاف إليه وبيده خبر مقدم وملكوت كل شيء مبتدأ مؤخر والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول وإليه الواو عاطفة وإليه متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. البلاغة: حسن البيان: في قوله: «وضرب لنا مثلا ونسي خلقه» الآيات. حسن البيان، وحقيقته إخراج المعنى في أحسن الصور الموضحة له وإيصاله إلى فهم المخاطب بأقرب الطرق وأسهلها، وقد تأتي العبارة عنه من طريق الإيجاز وقد تأتي من طريق الإطناب بحسب ما تقتضيه الحال، وقد أتى بيان الكتاب العزيز في هذه الآية من الطريقين فكانت جامعة مانعة في الاحتجاج القاطع للخصم، وقد أتى منفصلا عما قبله لأنه سبحانه ذكر المثل وليس في الكلام كله لا قبله ولا بعده ما خرج مخرج المثل ولا ما يصح أن يكون مثلا وهو أن أمية بن خلف أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم نخر في يده وقال يا محمد أنت تزعم ربك يحيي هذا بعد أن صار إلى هذه الحال فنزلت، وفي رواية أنه العاصي بن وائل وقيل هو أبي بن خلف الجمحي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 236 وقد آن أن ننقل الفصل البليغ الذي أورده الزمخشري في صدد هذه الآيات قال: «قبح الله عز وجل إنكارهم البعث تقبيحا لا ترى أعجب منه وأبلغ وأدل على تمادي كفر الإنسان وإفراطه في جحود النعم وعقوق الأيادي، وتوغله في الخسة، وتغلغله في القحة حيث قرر أن عنصره الذي خلقه منه هو أخس شيء وأمهنه وهو النطفة المذرة الخارجة من الإحليل الذي هو قناة النجاسة ثم عجب من حاله بأن يتصدى مثله على مهانة أصله ودناءة أوله لمخاصمة الجبار، وشرز صفحته لمجادلته، ويركب متن الباطل ويلج ويمحك ويقول: من يقدر على إحياء الميت بعد ما رمت عظامه ثم يكون خصامه في ألزم وصف له وألصقه به وهو كونه منشأ من موات وهو ينكر إنشاءه من موات وهي المكابرة التي لا مطمح وراءها. وروي أن جماعة من قريش منهم أبي بن خلف الجمحي وأبو جهل والعاصي بن وائل والوليد بن المغيرة تكلموا في ذلك فقال لهم أبي ألا ترون إلى ما يقول محمد إن الله يبعث الأموات ثم قال: واللات والعزّى لأصيرن إليه ولأخصمنه، وأخذ عظما باليا فجعل يفته بيده وهو يقول: يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمّ! قال صلى الله عليه وسلم نعم ويبعثك ويدخلك جهنم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 237 (37) سورة الصّافات مكيّة وآياتها ثنتان وثمانون ومائة [سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) اللغة: (دُحُوراً) : مصدر دحره أي طرده وأبعده وهو من باب خضع. وللدال مع الحاء فاء وعينا للفعل معنى القذف والطرد والدفع فمن ذلك دح الشيء في الأرض أي دسه فيها ودح الطعام بطنه ملأه حتى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 238 يسترسل إلى أسفل ودح الرجل: دعّه في قفاه والعامة تستعمله بهذا المعنى فيقولون: دحّه على ظهره فهي من العامي الفصيح. ودحرج الشيء فتدحرج: أي قلبه وأداره على نفسه متتابعا في حدور فانقلب. ودحس بين القوم أفسد بينهم ودحس الشيء ملأه ودحس برجله فحص ويقال ما بي من داحس وهو تشعث الإصبع وسقوط الظفر وما تسميه العامة ورم حار في طرف الإصبع فهي عربية فصيحة قال مزرّد: تشاخت إبهاماك إن كنت كاذبا ... ولا برئا من داحس وكناع وخرج الحجاج في بعض الليلي فسمع صوتا هائلا فقال: إن كان هذا صاحب عائر أو قادح أو داحس فلا تحدث شيئا وإلا فأخرج لسانه من قفاه أي صاحب رمد أو وجع ضرس، ويقال للرجل والدابة إذا أصابهما الجرح فارتكضا للموت: تركته يفحص ويدحص الأرض برجله. ودحضت رجله زلقت دحضا ودحوضا وأدحض فلان قدمه ومزلقة مدحاض وهذه مدحضة القدم ودحض الحجة أبطلها. ودحقه يدحقه من باب فتح دحقا: طرده وأبعده ودحقت الرحم بساء الفحل رمت به فلم تقبله ودحقت الحامل بولدها أجهضته وولد دحيق وقيل: دحقت به: ولدته وأصابها دحاق وهو أن تخرج رحمها بعد الولادة وهي دحوق وداحق وأدحقه الله باعده من الخير وهو دحيق تقول: أسحقه الله وأدحقه وهو سحيق دحيق. ودحل: توارى في دحل وهو حفرة غامضة ضيقة الأعلى واسعة الأسفل تقول: طلبوا بالذحول فتواروا في الدحول ودحل البئر: حفر في جوانبها ونصب الصائد الدواحيل وهي مصائد للحمر الواحد داحول وبئر دحول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 239 ذات تلحف وهو تكسر جوانبها مما أكلها من الماء فما يستعمله العامة منها محرف ولم يرد في اللغة بهذا المعنى إلا على مجاز بعيد وتسميتهم أخيرا المدحلة بالمعنى الشائع فيه تسامح ولكننا نتسامح به أيضا. ودحمه دحما دفعه دفعا شديدا فاستعمال العامة لها بهذا المعنى لا غبار عليه. ودحمس الليل أظلم أو ألقى بظلامه على كل شيء. ودحمل به دحرجه على الأرض. ودحا الله الأرض: افترشها وبسطها ودحا المطر الحصى عن وجه الأرض أي دفعها وبابه نصر وفتح يقال دحا يدحو ودحى يدحى وليس معنى البسط أنها ليست كالكرة ولكنها ممدودة متسعة كما يأخذ الخباز الفرزدقة فيدحوها. قال ابن الرومي: ما أنسى لا أنسى خبازا مررت به ... يدحو الرّقاقة مثل اللمح بالبصر ما بين رؤيتها في كفه كرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... في لجة الماء يرمي فيه بالحجر وهذا من أعاجيب لغتنا العربية الشريفة. (واصِبٌ) : دائم وفي المختار وصب الشيء يصب بالكسر وصوبا دام ومنه قوله تعالى «وله الدين واصبا» وقوله تعالى «ولهم عذاب واصب» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 240 (فَأَتْبَعَهُ) : في المختار: تبعه من باب طرب إذا مشى خلفه أو مرّ به فمضى معه وكذا اتبعه وهو افتعل وأتبعه على أفعل وقال الأخفش: تبعه وأتبعه بمعنى مثل ردفه وأردفه ومنه قوله تعالى «فأتبعه شهاب ثاقب» . (ثاقِبٌ) : أي يثقبه أو يحرقه ونقل القرطبي في تفسير الثاقب قولين: قيل بمعنى المضيء وقيل بمعنى المستوقد من قوله: اثقب زندك أي استوقد نارك وقال البيضاوي: ثاقب مضيء كأنه يثقب الجو بضوئه» ولهذه المادة عجائب في التنويع والتصرف ففي الأساس واللسان: «ثقب الشيء بالمثقب وثقب القداح عينه ليخرج الماء النازل وثقب اللّآل الدر، ودر مثقب وعنده در عذارى: لم يثقّبن وثقبّن البراقع لعيونهن قال المثقب العبدي: أرين محاسنا وكننّ أخرى ... وثقبن الوصاوص للعيون وبه سمي المثقّب. وكوكب ثاقب ودرّيء: شديد الإضاءة والتلألؤ كأنه يثقب الظلمة فينفذ فيها ويدرؤها ورجل ثقيب وامرأة ثقيبة مشبهان للهب النار في شدة حمرتهما وفيهما ثقابة وحسب ثاقب: شهير، ورجل ثاقب الرأي إذا كان جزلا نظّارا، وأتتني عنك عين ثاقبة أي خبر يقين وثقب الطائر إذا حلق كأنه يثقب السكاك وثقّب الشيب في اللحية أخذ في نواحيها. الإعراب: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) الواو حرف قسم وجر والصافات مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 241 والصافات اسم فاعل من صف قيل هم الملائكة المصطفون في السماء يسبحون لهم مراتب يقومون عليها صفوفا كما يصطف المصلون وقيل هم المجاهدون وقيل هم المصلون وقيل هي الطير الصافات أجنحتها كقوله والطير صافات، وفي الصافات ضمير مستتر هو الفاعل والمفعول به محذوف أي نفوسها أو أجنحتها وصفا مفعول مطلق مؤكد. (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) الفاء حرف عطف، قال الزمخشري: «فإن قلت ما حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات؟ قلت: إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود كقوله: يا لهف زيابة للحارث الصا ... بح فالغانم فالآيب كأنه قيل الذي أصبح فغنم فآب، وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك خذ الأفضل فالأكمل واعمل الأحسن فالأجمل، وإما على ترتب موصوفاتها في ذلك كقوله: رحم الله المحلقين فالمقصرين، فعلى هذه القوانين الثلاثة ينساق أمر الفاء العاطفة في الصفات، وسيأتي تعقيب مفيد على هذا التقرير في باب البلاغة. والزاجرات عطف على الصافات والمراد بها قيل نفوس العلماء لأنها تزجر العصاة بالنصائح والمواعظ أو الملائكة ترجر السحاب أي تسوقه وزجرا مصدر مؤكد أيضا. (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) قيل أراد نفوس العلماء لأنها تتلو آيات الله وتدرس شرائعه وقيل نفوس قواد الغزاة في سبيل الله التي تصف الصفوف وتزجر الخيل وتتلو الذكر مع ذلك لا تشغلها عنه تلك الشواغل وذكرا مفعول مطلق لأنها في معنى التاليات ويجوز أن تكون مفعولا به للتاليات، وسيأتي معنى القسم بهذه الأشياء في باب الفوائد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 242 (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) الجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وإن واسمها واللام المزحلقة وواحد خبرها. (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) رب السموات بدل من واحد أو خبر ثان أو خبر لمبتدأ محذوف وما عطف على السموات والظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول ورب المشارق عطف على رب السموات وسيأتي سر إعادة الرب وعدم ذكر المغارب في باب البلاغة. (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) كلام مستأنف مسوق لتقرير لطائف صنعه وبديع خلقه. وان واسمها وجملة زينا خبرها وزينا فعل ماض ونا فاعل والسماء مفعول به والدنيا صفة أي القريبة منكم والتي تتراءى لأعينكم وهي الجديرة بالتدبر والاعتبار وبزينة جار ومجرور متعلقان بزينا والكواكب عطف بيان أو بدل لزينة وهناك قراءات أخرى وأعاريب طريفة سنوردها في باب الفوائد. (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) الواو عاطفة وحفظا في نصبه أوجه أرقاها من جهة المعنى ما نحا إليه الزمخشري قال: «وحفظا مما حمل على المعنى لأن المعنى إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا من الشيطان كما قال تعالى: «ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين» ويجوز أن يقدر الفعل المعلل كأنه قيل وحفظا من كل شيطان زيناها بالكواكب وقيل وحفظناها حفظا» وهذا الوجه الثاني أسهل من حيث الاعراب وقال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين: «وحفظا إما منصوب على المصدر بإضمار فعل أي حفظناها حفظا وإما على المفعول من أجله على زيادة الواو والعامل فيه زينا أو على أن يكون العامل مقدرا أي لحفظها زيناها أو على الحمل على المعنى المتقدم أي إنا خلقنا السماء الدنيا زينة وحفظا» واقتصر أبو البقاء على المفعولية المطلقة ومن كل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 243 شيطان متعلقان بحفظا إن لم يكن مصدرا مؤكدا وبالمحذوف إن جعل مصدرا مؤكدا ويجوز أن يكون صفة لحفظا. (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) في إعراب هذه الجملة كلام كثير ونقاش طويل نرجئه إلى باب الفوائد. ولا نافية ويسمعون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل وإلى الملأ الأعلى متعلقان بيسمعون وسيأتي سر هذا التعدي في باب الفوائد، والأعلى صفة للملأ ويقذفون الواو عاطفة ويقذفون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل ومن كل جانب متعلقان بيقذفون أي من أي جهة صعدوا ليسترقوا السمع. (دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) دحورا مفعول من أجله أي يقذفون للدحور أو مدحورين على الحال أو مفعول مطلق وينوب عن المصدر مرادفه والقذف والطرد متقاربان والواو عاطفة ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وواصب نعت لعذاب. (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) إلا أداة حصر واستثناء لأن الكلام تام منفي ومن في محل رفع بدل من الواو على الأول أو في محل نصب على الاستثناء على الثاني ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا فيتعين النصب على الاستثناء والخطفة مفعول مطلق فهو مصدر معرف بأل الجنسية أو العهدية، فأتبعه الفاء عاطفة وأتبعه فعل ومفعول به مقدم وشهاب فاعل مؤخر وثاقب نعت لشهاب. البلاغة: التقديم والتأخير: أثبتنا في باب الإعراب تقرير الزمخشري عن الفاء العاطفة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 244 للصفات وقد انتهى الزمخشري من تقريره الى القول، فعلى هذا إن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتيب الصفات في التفاضل وإن ثلثته فهي للدلالة على ترتيب الموصوفات فيه، ومعنى توحيدها أن تعتقد أن صنفا مما ذكر في التفاسير المذكورة جامع للصفات الثلاث، على أن الأول هو الأفضل أو على العكس، ومعنى تثليثها أن تجعل كل صفة لطائفة ويكون التفاضل بين الطوائف إما أن الأول هو الأفضل أو على العكس. ووجهة الزمخشري قوية وتقريره ممتع مفيد ولكنه لم يبين وجه كل واحد منهما وخلاصة ما يقال فيه أن للعرب في التقديم مذهبان أولهما: 1- الاعتناء بالأهم فهم يقدمون ما هو أولى بالعناية وأجدر بأن يقرع السمع. 2- الترقي من الأدنى إلى الأعلى، ومنه قوله: بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... علي ومنهم أحمد المتخير ولا يقال إن هذا إنما ساغ لأن الواو لا تقتضي رتبة فإن هذا غايته أنه عذر وما ذكرناه بيان لما فيه من مقتضى البديع والبلاغة. كلمة عامة في التقديم والتأخير: هذا وقد عقد عبد القاهر فصلا مطولا في كتابه دلائل الإعجاز عن التقديم والتأخير يرجع إليه القارئ إن شاء، ونلخص هنا ما قاله علماء المعاني في صدد التقديم والتأخير فمن المعلوم أنه لا يمكن النطق بأجزاء الكلام دفعة واحدة بل لا بد من تقديم بعض الأجزاء وتأخير البعض وليس شيء منها في نفسه أولى بالتقدم من الآخر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 245 لاشتراك جميع الألفاظ من حيث هي ألفاظ في درجة الاعتبار فلا بد لتقديم هذا على ذاك من داع يوجبه وهذه الدواعي كثيرة فمنها: 1- التشويق إلى المتأخر إذا كان المتأخر مشعرا بغرابة كقول أبي العلاء: والذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحدث من جماد 2- تعجيل المسرة أو المساءة نحو العفو عنك صدر به الأمر أو القصاص حكم به القاضي. 3- كون المتقدم محط الإنكار والتعجب نحو: أبعد طول التجربة تنخدع؟ 4- النص على عموم السلب أو سلب العموم فالأول يكون بتقديم أداة العموم على أداة النفي نحو: كل ذلك لم يقع أي لم يقع هذا ولا ذاك والثاني يكون بتقديم أداة النفي على أداة العموم نحو: لم يكن كل ذلك أي لم يقع المجموع فيحتمل ثبوت البعض ويحتمل نفي كل فرد. 5- التخصيص نحو: ما أنا قلت، وإياك نعبد. 6- ومما يرى عبد القاهر تقديم الاسم فيه كاللازم (مثل) و (غير) في نحو قوله: مثلك يثني المزن عن صوبه ... ويسترد الدمع عن غربه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 246 وقول أبي تمام: وغيري يأكل المعروف سحتا ... وتشجب عنده بيض الأيادي وفي التعبير الأول لا يقصد بمثل الى إنسان سوى الذي أضيف إليه ولكنهم يعنون أن كلّ من كان مثله في الحال والصفة كان من مقتضى القياس، وموجب العرف والعادة أن يفعل ما ذكر وأن لا يفعل وكذلك في التعبير الثاني لا يراد بغير أن يومىء الى إنسان فيخبر عنه بأنه يفعل بل لم يرد إلا أن يقول: لست ممن يأكل المعروف سحتا. الفوائد: 1- الواو في هذا التركيب: مذهب سيبويه والخليل في مثل «والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى» ان الواو الثانية وما بعدها عواطف وغير الخليل وسيبويه يذهب الى أنها حروف قسم، فوقوع الفاء في «والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا» موقع الواو والمعنى واحد إلا أن ما تزيده الفاء من ترتيبها دليل واضح على أن الواو الواقعة في مثل هذا السياق للعطف لا للقسم. 2- معنى القسم: اختلف الناس في المقسم به والراجح هو أن المقسم به هذه الأشياء لظاهر اللفظ فالعدول عنه خلاف الدليل وأما النهي عن الحلف بغير الله فهو نهي للمخلوق عن ذلك، والقول الثاني أن المقسم به هو رب هذه الأشياء لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله تعالى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 247 فلا بد من إضمار كلمة «رب» وتقدير الكلام ورب الصافات صفا إلخ وعلى كل حال ففي هذا القسم تنويه بهذه الأشياء وتعظيم لها وسيرد المزيد من هذا الحديث. 3- في إعراب «بزينة الكواكب» : قال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين: «قوله بزينة الكواكب» قرأ أبو بكر بتنوين زينة ونصب الكواكب وفيه وجهان أحدهما أن تكون الزينة مصدرا وفاعله محذوف تقديره بأن زين الله الكواكب في كونها مضيئة حسنة في أنفسها، والثاني أن الزينة اسم لما يزان به كالليقة لما تلاق به الدواة فتكون الكواكب على هذا منصوبة بإضمار أعني أو تكون بدلا من سماء الدنيا بدل اشتمال أي كواكبها أو من محل بزينة، وحمزة وحفص كذلك إلا أنهما خفضا الكواكب على أن يراد بزينة ما يزان به والكواكب بدل أو بيان للزينة والباقون بإضافة زينة الى الكواكب وهي تحتمل ثلاثة أوجه أحدها أن تكون إضافة أعم إلى أخص فتكون للبيان نحو ثوب خز والثاني أنها مصدر مضاف لفاعله أي بأن زينت الكواكب السماء بضوئها والثالث أنه مضاف لمفعوله أي بأن زينها الله بأن جعلها مشرقة مضيئة في نفسها. 4- إعراب جملة لا يسمعون: أفاض المعربون والمفسرون والنحاة في إعراب هذه الجملة، ونورد هنا مختارات من أقوال المشهورين منهم ونبدأ بالزمخشري: «فإن قلت لا يسمعون كيف اتصل بما قبله؟ قلت: لا يخلو من أن يتصل بما قبله على أن يكون صفة لكل شيطان أو استئنافا فلا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 248 تصح الصفة لأن الحفظ من شياطين لا يسمعون ولا يتسمعون لا معنى له وكذلك الاستئناف لأن سائلا لو سأل: لم تحفظ من الشياطين فأجيب بأنهم لا يسمعون لم يستقم فبقي أن يكون كلاما منقطعا مبتدأ اقتصاصا لما عليه حال المسترقة للسمع وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا الى كلام الملائكة أو يتسمعوا وهم مقذوفون بالشهب مدحورون عن ذلك، إلا أن من أمهل حتى خطف خطفة واسترق استراقة فعندها تعاجله الهلكة باتباع الشهاب الثاقب» ومضى الزمخشري في تقريره قائلا: «فإن قلت: هل يصح قول من زعم أن أصله لئلا يسمعوا فحذف اللام كما حذفت في قولك جئتك أن تكرمني فبقي أن لا يسمعوا فحذفت أن وأهدر عملها كما في قول طرفة: ألا أيها ذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن اشهد اللذات هل أنت مخلدي قلت: كل واحد من هذين الحذفين غير مردود على انفراده فأما اجتماعهما فمنكر من المنكرات على أن صون القرآن عن مثل هذا التعسف واجب» . وتعقبه ابن المنير صاحب الانتصاف فقال: «كلا الوجهين مستقيم والجواب عن إشكاله الوارد على الوجه الأول أن عدم سماع الشيطان سببه الحفظ منه فحال الشيطان حال كونه محفوظا منه هي حاله حال كونه لا يسمع وإحدى الحالين لازمة للأخرى فلا مانع أن يجتمع الحفظ منه وكونه موصوفا بعدم السماع في حالة واحدة لا على أن عدم السماع ثابت قبل الحفظ بل معه وقسمه. ونظير هذه الآية قوله تعالى: وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، فقوله مسخرات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 249 حال مما تقدمه العامل فيه الفعل الذي هو سخر ومعناه مستقيم لأن تسخيرها يستلزم كونها مسخرة فالحال التي سخرت فيها هي الحال التي كانت فيها مسخرة لا على معنى تسخيرها مع كونها مسخرة قبل ذلك، وما أشار إليه الزمخشري في هذه الآية قريب من هذا التفسير إلا أنه ذكر معه تأويلا آخر كالمستشكل لهذا الوجه فجعل مسخرات جمع مسخر مصدر كممزّق وجعل المعنى وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر أنواعا من التسخير وفيما ذكرناه كفاية ومن هذا النمط: ثم أرسلنا رسلنا، وهم ما كانوا رسلا إلا بالإرسال وهؤلاء ما كانوا لا يسمعون إلا بالحفظ وأما الجواب على إشكاله الثاني فورود حذفين في مثل قوله تعالى: يبين الله لكم أن تضلوا، وأصله لئلا تضلوا فحذف اللام ولا جميعا من محليهما» . وقال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين: «وهذه الجملة منقطعة عما قبلها في الإعراب ولا يجوز فيها أن تكون صفة لشيطان على المعنى إذ يصير التقدير من كل شيطان ما رد غير سامع أو مستمع وهو فاسد ولا يجوز أيضا أن يكون جوابا لسؤال سائل لم تحفظ من الشيطان إذ يفسد معنى ذلك وقال بعضهم: أصل الكلام لئلا يسمعوا فحذفت اللام وإن وارتفع الفعل وفيه تعسف، وقد وهم أبو البقاء فجوز أن تكون صفة وأن تكون حالا وأن تكون مستأنفة فالأولان ظاهرا الفساد والثالث إن عني به الاستئناف البياني فهو فاسد أيضا وإن أراد الانقطاع على ما قدمته فهو صحيح. أما عبارة أبي البقاء التي شجبها السمين فهي: «قوله تعالى: لا يسمعون جمع على معنى كل وموضع الجملة جر على الصفة أو نصب على الحال أو مستأنف وعدّاه بإلى حملا على معنى يصفون» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 250 أما ابن هشام فقد عقد في المغني تنبيها خاصا حول هذه الجملة فقال: من الاستئناف ما قد يخفى وله أمثلة كثيرة أحدها لا يسمعون من قوله تعالى: وحفظا من كل شيطان ما رد لا يسمعون الى الملأ الأعلى، فإن الذي يتبادر الى الذهن أنه صفة لكل شيطان أو حال منه وكل منهما باطل إذ لا معنى للحفظ من شيطان لا يسمع وإنما هي للاستئناف النحوي ولا يكون استئنافا بيانيا لفساد المعنى أيضا، وقبل يحتمل أن الأصل لئلا يسمعوا ثم حذفت اللام كما في جئتك أن تكرمني ثم حذفت أن فارتفع الفعل كما في قوله: ألا أيها ذا الزاجري احضر الوغى ... ...... فحين رفع أحضر، واستضعف الزمخشري الجمع بين الحذفين، فإن قلت اجعلها حالا مقدرة أي وحفظا من كل شيطان مارد مقدرا عدم سماعه بعد الحفظ قلت الذي يقدر وجود معنى الحال هو صاحبها كالممرور به في قولك مررت برجل معه صقر صائدا به غدا أي مقيدا حال المرور به أن يصيد غدا، والشياطين لا يقدرون عدم السماع ولا يريدونه. ملاحظة هامة: الاستئناف قسمان: بياني ونحوي: أما البياني فهو ما كان جوابا لسؤال مقدر نحو قوله تعالى: «هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا: سلاما قال سلام قوم منكرون» فإن جملة القول الثانية جواب لسؤال مقدر تقديره فماذا قال لهم ولهذا فصلت عن الأولى فلم تعطف عليها، وأما النحاة فقالوا: هي المقتطعة عما قبلها سواء كانت جوابا عن سؤال أم لا، فالاستئناف عندهم أعم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 251 هذا وقد ردّ الدماميني على ابن هشام فقال: إذا كانت للاستئناف النحوي فيكون قد أخبر عن الشياطين المتحفظ منهم بعدم السماع وحينئذ يعود الإشكال بأنه كيف يتحفظ من شيطان لم يسمع في نفس الأمر، إذ المتحفظ منه من يسمع، فإن قلت: إن المراد لا يسمعون بعد الحفظ قلنا قدر ذلك في الصفة ويكون المعنى لا غبار عليه فما بالك قدرته في الاستئناف النحوي دون الصفة مع أن المعنى على كل حال ظاهر فهذا تحكم. وأجاب الشمني بأنه إخبار عن حال الشياطين لا يوصف كونه محفوظا منهم وفيه أنه لا يصح الإخبار عنهم بعدم السماع مع قطع النظر عن الحفظ لأنهم يحفظون في نفس الأمر وما الى عدم السماع إلا من الحفظ وإلا لما كان للحفظ معنى. والذي حدانا إلى إيراد هذه الأقوال ما فيها من رياضة ذهنية ولعل ابن المنير كفانا مئونة الرد على هذه الأقوال فارجع إليه وتمعن فيه فإنه قد أصاب المحز. فرق دقيق: قال الزمخشري: «فإن قلت أي فرق بين سمعت فلانا يتحدث وسمعت إليه يتحدث، وسمعت حديثه والى حديثه؟ قلت: المعدى بنفسه يفيد الإدراك والمعدى بإلى يفيد الإصغاء مع الإدراك» . [سورة الصافات (37) : الآيات 11 الى 19] فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 252 اللغة: (فَاسْتَفْتِهِمْ) : فاستخبرهم يقال استفتى استفتاء العالم في مسألة: سأله أن يفتيه فيها والفتوى والفتوى والفتيا اسم من أفتى العالم إذا بيّن الحكم والجمع الفتاوي والفتاوى. (لازِبٍ) : لازم لاصق يقال لزب يلزب لزوبا من باب دخل: اشتد وثبت ولزب به: لصق ولزب يلزب لزبا من باب تعب ولزب يلزب لزبا ولزوبا من باب كرم الطين: لزق وصلب ولزب الشيء: دخل بعضه في بعض واللازم اسم فاعل الثابت يقال صار الأمر ضربة لازب أي صار لازما ثابتا وطين لازب يلزق باليد لاشتداده وفي المختار: «تقول: صار الشيء لازبا أي ثابتا وهو أفصح من لازما» . وقال النابغة: ولا تحسبون الخير لا شر بعده ... ولا تحسبون الشر ضربة لازب (داخِرُونَ) : صاغرون يقال دخر يدخر من باب فتح ودخر يدخر من باب تعب دخرا ودخورا أي ذل وصغر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 253 الإعراب: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) الفاء الفصيحة أي أن شئت أن تبكتهم وترد عليهم في أمر اثبات المعاد فاستفتهم لأن الفرق بيّن والبون بعيد بين المعاد وهو الأجزاء الأصلية كما سيأتي ولك أن تجعلها الفاء العاطفة المعقبة أي استفتهم عقب عدّ هذه الأشياء المذكورة آنفا. واستفتهم فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والفاعل مستتر وجوبا تقديره أنت والهاء مفعول به والهمزة للاستفهام وهم مبتدأ وأشد خبر وخلقا تمييز وأم حرف عطف وهي هنا متصلة عطفت من على هم وجملة خلقنا صلة الموصول. (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) إن واسمها وجملة خلقناهم خبر وخلقناهم فعل وفاعل ومفعول ومن طين جار ومجرور متعلقان بخلقناهم ولازب نعت لطين، وناهيك بهذا دليلا على ضعفهم وهو أن أمرهم وضآلة شأنهم وأن من كان بهذه المثابة لا يتأتى له أن يتكبر ويتطاول. (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) بل حرف إضراب وعطف والمعطوف عليه مقدر دل عليه الاستفهام أي هم لا يقرون، وعجبت فعل وفاعل والخطاب للنبي والمتعلق محذوف أي من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة. وفي قراءة بضم التاء وإسناد العجب الى الله تعالى محال لأن العجب روعة تعتري الإنسان عند استعظامه الشيء وذلك على الله تعالى محال ولكن الكلام جرى على طريق تخيل العجب وافتراضه على طريق المشاكلة وقد تقدمت لها أمثلة. والواو حالية وجملة يسخرون خبر لمبتدأ محذوف أي وهم يسخرون والجملة نصب على الحال. (وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ذكروا في محل جر بإضافة الظرف إليها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 254 وذكروا بالبناء للمجهول والتشديد والواو نائب فاعل ولا نافية وجملة لا يذكرون لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم أي وديدنهم عدم الاتعاظ بشيء مهما يكن جديرا بالاعتبار. (وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) عطف على ما تقدم والمراد بالآية المعجزة التي تدعو الى الإذعان ولكن هؤلاء لا تؤثر فيهم المعاجز ومعنى الاستسخار دعوة بعضهم لبعض بالسخرية أو أن زيادة السين والتاء لمجرد المبالغة في السخر. (وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل وإن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وسحر خبر هذا ومبين نعت أي ظاهر للعيان والجملة مقول القول. (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) الجملة مقول قول محذوف أيضا أي وقالوا منكرين للبعث، والهمزة للاستفهام الإنكاري وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة متنا في محل جر بإضافة الظرف إليها وكنا فعل ماض ناقص ونا اسمها وترابا خبرها وعظاما عطف على ترابا والهمزة للاستفهام الإنكاري أيضا وان واسمها واللام المزحلقة ومبعوثون خبرها. (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) الهمزة للاستفهام والواو حرف عطف وآباؤنا معطوف على محل إن واسمها أو على الضمير في مبعوثون وإنما جاز العطف مع أن ما بعد همزة الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله أن الهمزة الثانية مؤكدة للأولى فهي في النية مقدمة فصحّ عمل ما قبلها فيما بعدها، ولك أن تعرب آباؤنا مبتدأ محذوف الخبر والتقدير أو آباؤنا يبعثون أيضا وقرىء أو بسكون الواو فهي حرف عطف وليس هناك همزة استفهام وفيما يلي تقرير السمين عن هذه الآية: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 255 «قوله أو آباؤنا قرأ ابن عامر بسكون الواو على أنها أو العاطفة المقتضية للشك والباقون بفتحها على أنها همزة استفهام دخلت على واو العطف وهذا الخلاف جار أيضا في الواقعة وقد تقدم مثل هذا في الأعراف في قوله: «أو أمن أهل القرى» فمن فتح الواو أجاز في أو آبائنا وجهين أحدهما أن يكون معطوفا على محل ان واسمها والثاني أن يكون معطوفا على الضمير المستتر في لمبعوثون واستغنى بالفصل بهمزة الاستفهام ومن سكنها تعين فيه الأول دون الثاني على قول الجمهور لعدم الفاصل» . (قُلْ: نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت ونعم حرف جواب والواو للحال وأنتم مبتدأ وداخرون خبر والجملة نصب على الحال والعامل فيها نعم بالنظر لمعناها أي نعم تبعثون وأنتم داخرون. (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) الفاء الفصيحة لأنها واقعة في جواب شرط مقدر تقديره إذا كان ذلك فإنما، وإنما كافة ومكفوفة وهي مبتدأ وزجرة خبر وواحدة صفة وهي ضمير مبهم لأنه لا يرجع الى شيء وإنما يوضحه خبره، وأجازوا أن تعود هي على البعثة المدلول عليها بسياق الكلام لما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازا. والزجرة الصيحة المخيفة قال: زجر أبي عروة السباع إذا ... أشفقن أن يختلطن بالغنم يريد تصويته بها. والفاء عاطفة وإذا فجائية وهم مبتدأ وجملة ينظرون خبر ومفعوله محذوف أي ينظرون ما يفعل بهم أو هي بمعنى ينظرون. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 256 [سورة الصافات (37) : الآيات 20 الى 26] وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) الإعراب: (وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ) الواو استئنافية وقالوا فعل وفاعل ويا حرف تنبيه أو المنادى محذوف وويلنا مصدر لا فعل له من لفظه أو منادى وجملة النداء مقول قولهم وجملة هذا يوم الدين يحتمل أن تكون من تتمة مقولهم ويحتمل أن يتم الوقف على ويلنا والجملة مستأنفة فتكون من قول الملائكة لهم وهذا مبتدأ ويوم الدين خبره. (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) هذا مبتدأ ويوم الفصل خبر ويحتمل أن تكون الجملة من تتمة مقولهم ويكون قوله تكذبون التفاتا من التكلم الى الخطاب والذي صفة ليوم وكنتم كان واسمها وبه متعلقان بتكذبون وجملة تكذبون خبر كنتم. (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ) خطاب من الله تعالى للملائكة أو خطاب بعضهم لبعض. واحشروا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والذين مفعول به وجملة ظلموا صلة واسم الموصول عبارة عن المشركين ومفعول ظلموا محذوف تقديره أنفسهم وأزواجهم عطف على الموصول أو مفعول معه وما عطف أيضا أو مفعول معه وكان واسمها وجملة يعبدون خبرها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 257 (مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) من دون الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال والفاء عاطفة واهدوهم فعل أمر وفاعل ومفعول به والى صراط الجحيم متعلقان باهدوهم. (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) وقفوهم عطف على ما تقدم أي واحبسوهم عند الصراط وإن واسمها ومسؤولون خبرها والجملة تعليل للأمر. (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) الجملة مقول قول محذوف أي ويقال توبيخا لهم. وما اسم استفهام مبتدأ ولكم خبر وجملة لا تناصرون حالية ولا نافية وتناصرون فعل مضارع حذفت إحدى تاءيه والأصل لا تتناصرون أي لا ينصر بعضكم بعضا. (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) بل حرف إضراب وعطف وهم مبتدأ واليوم ظرف متعلق بمستسلمون ومستسلمون خبر هم أي قد أسلم بعضهم بعضا وخذله عن عجز. الفوائد: يجوز في المضارع المبدوء بتاءين زائدتين الإدغام والفكّ ونورد هنا مناقشة بين علماء العربية نورد خلاصتها لفائدتها وطرافتها فقد ذكر ابن مالك في شرح الكافية وتبعه ابنه في شرح الخلاصة انك إذا أدغمت التاء الأولى في الثانية اجتلبت همزة الوصل ليتوصل بها الى النطق بالتاء المسكنة للادغام فتقول في تتجلى اتجلى ورد ابن هشام في أوضح المسالك وتبعه الشيخ خالد الأزهري عليهما بقولهما: «وفيه نظر فإنه لم يخلق الله أحدا من الفصحاء فيما نعلم أدخل همزة وصل في أول الفعل المضارع وإنما ادغام هذا النوع في الوصل دون الابتداء قال الحوفي: فإن وقف ابتدئ بالإظهار، ولا يجوز إدخال ألف الوصل عليه لأن ألف الوصل لا تدخل على الفعل المضارع، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 258 وذكر الناظم- أي ابن مالك- في بعض كتبه هذه المسألة على الصواب فقال: يجوز ادغام تاء المضارعة في تاء أخرى بعد مد أو حركة نحو ولا تيمموا وتكاد تميز» . ورد عليهما بعض العلماء فقال: في هذا النقد نظر لأن ابن مالك وابنه من أجلّ علماء العربية وقد ذكرا أنه يجوز الإدغام في الابتداء وتجتلب همزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن ولا يخلو حالهما من أمرين إما أن يكون استندا فيه الى فهم ذلك من لغة العرب أو استنباط ذلك منها لعدم ما يناقضه وينافيه وعلى كل لا يحسن الرد عليهما بمجرد عدم العلم بأن الله لم يخلق همزة وصل في أول الفعل المضارع لأنهما مثبتان والراد عليهما ناف والمثبت مقدم على النافي ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ولا تظن بهما أنهما أقدما على ما ذهبا إليه بمجرد التشهي من غير استناد الى شيء يعتمدان عليه ويستندان إليه لأن سوء الظن بالأئمة غير لائق كيف وقد نقل الثقات أن ابن مالك قال: طالعت الصحاح فلم أستفد منه إلا ثلاث مسائل ولا يضرهما عدم ذكرهما المستند في ذلك صريحا وإن ذكراه تلويحا، قال ابن المصنف: ومنهم من يدغم ويسكن أوله ويدخل عليه همزة وصل فيقول اتجلى لأنهما ثقتان مؤتمنان وقد ذكر صاحب القاموس في فصل الجيم من باب النون لما تكلم على جيان: «ومنها إماما العربية ابن مالك وأبو حيان» . [سورة الصافات (37) : الآيات 27 الى 34] وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 259 الإعراب: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) الواو استئنافية وأقبل فعل ماض وبعضهم فاعل وعلى بعض متعلقان بأقبل وجملة يتساءلون حالية أي يتلاومون وينحي بعضهم باللائمة على بعض. (قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) قالوا فعل وفاعل وان واسمها وجملة كنتم خبرها وكان واسمها وجملة تأتوننا خبرها وتأتوننا فعل مضارع وفاعل ومفعول به وعن اليمين حال من فاعل تأتونا واليمين إما أن يراد بها الجارحة تعبيرا بها عن القوة وأما الحلف لأن المتعاقدين بالحلف يؤكدون حلفهم بأن يتصافحوا باليمين ويتماسحوا بها. وهناك أقوال كثيرة ضربنا عنها صفحا ويرجع إليها في المطولات وخلاصة المعنى إنكم غررتم بنا وأضللتمونا. (قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وهذا أحد أجوبة المتبوعين الخمسة وأولها وهو إضراب ابطالي لما ادعاه التابعون أي انكم لم تتصفوا بالإيمان في وقت من الأوقات. وقالوا فعل وفاعل وبل إضراب ابطالي ولم حرف نفي وقلب وجزم وتكونوا فعل مضارع مجزوم بلم والواو اسمها ومؤمنين خبرها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 260 (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) وهذا هو الجواب الثاني وهو مبني على افتراض أنهم أضلوهم فهم لم يجبروهم عليه. وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولنا خبرها المقدم وعليكم حال ومن حرف جر زائد وسلطان مجرور لفظا اسم كان محلا. (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) بل إضراب ابطالي أيضا وكنتم كان واسمها وقوما خبرها وطاغين نعت لقوما وهو الجواب الثالث. (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) وهذا هو الجواب الرابع والفاء حرف عطف وحق فعل ماض وعلينا جار ومجرور متعلقان بحق وقول ربنا فاعل وان واسمها واللام المزحلقة وذائقون خبرها والجملة الاسمية تعليل لما تقدم ومفعول ذائقون محذوف أي العذاب والفاعل مستتر تقديره نحن. (فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) الفاء عاطفة وأغويناكم فعل وفاعل ومفعول به وهذا هو الجواب الخامس وان واسمها وجملة كنا خبرها وكان واسمها وغاوين خبرها. (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) الفاء الفصيحة أي إن شئت أن تعرف مصائر الأتباع والرؤساء المتبوعين، وان واسمها ويومئذ ظرف متعلق بمحذوف حال وإذ ظرف أضيف إلى مثله والتنوين عوض عن جملة أي يوم إذ يتساءلون ويتلاومون ويتخاصمون، وفي العذاب متعلقان بمشتركون ومشتركون خبر انهم. (إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) إن واسمها وكذلك نعت لمصدر محذوف مقدم على فعله وجملة نفعل خبر إنا وبالمجرمين متعلقان بنفعل. [سورة الصافات (37) : الآيات 35 الى 49] إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 261 اللغة: (بِكَأْسٍ) : يقال للزجاجة فيها الخمر كأس وتسمى الخمر نفسها كأسا، قال الأعشى: وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها لكي يعلم الناس أني امرؤ ... أتيت المعيشة من بابها والكأس تطلق على الزجاجة فيها الخمر وعلى الخمر مجازا مشهور وهي مؤنثة بدليل ضميرها وصفتها وتجمع على كئوس وأكؤس وكاسات وكئاس، يقول الأعشى: ورب كأس شربتها مع لذة أو لأجل لذة فضرتني فشربت كأسا أخرى تداويت من الأولى بها ليعلم الناس أني مجرب للأمور، وكنى عن ذلك بقوله: «أتيت المعيشة من بابها» وشبه المعيشة مع أسبابها المناسبة لها بدار لها باب على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 262 طريق الاستعارة المكنية واثبات الباب تخييل ومن هذا المعنى أخذ أبو نواس قوله المشهور: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء ويروى عن الأخفش: «كل كأس في القرآن فهي الخمر» وقال أبو حيان: «الكأس ما كان من الزجاج فيه خمر أو نحوه من الأنبذة ولا يسمى كأسا إلا وفيه خمر وإلا فقدح وقد تسمى الخمر كأسا تسمية للشيء باسم محله» . (مَعِينٍ) : قال أبو حيان: «اسم فاعل من معن بضم العين كشريف من شرف» أي من شراب معين أو نهر معين ظاهر للعيون أو خارج من العيون وهو صفة للماء من عان الماء إذا نبع وصف به خمر الجنة لأنها تجري كالماء وسنتبسط في هذه الكلمة لأنها تستعمل اليوم كثيرا لشكل هندسي فنقول: جاء في معاجم اللغة في مادة معن ما يلي: معن يمعن من باب فتح الماء ومعن يمعن من باب ظرف معنا ومعونا: جرى جريا سهلا فهو معين ومعن الفرس: تباعد في عدوه ومعن المطر الأرض تتابع عليها فأرواها ومعن يمعن من باب شرب معنا المكان أو النبت: روي من الماء والمعين الماء الجاري ويقال ماء معين أي جار وفي مادة عين «الماء المعين: الظاهر الذي تراه العين جاريا على وجه الأرض وعين معيونة لها مادة غزيرة من الماء» أما الشكل الهندسي فالأرجح إنه المعين بضم الميم وتشديد الياء المكسورة فهو اسم فاعل من عين المضعفة الياء وهو في الهندسة شكل مسطح متساوي الأضلاع الأربعة المستقيمة المحيطة به غير قائم الزوايا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 263 (غَوْلٌ) : ما يغتال العقول يقال غاله يغوله غولا إذا أفسده، ومنه الغول الذي في تكاذيب العرب وفي أمثالهم «الغضب غول الحلم» ، وغالته الخمر: شربها فذهبت بعقله أو بصحة بدنه والغول مصدر والصداع والسكر وبعد المفازة والمشقة وما انهبط من الأرض والتراب الكثير. (يُنْزَفُونَ) : بالبناء للمجهول من نزف الشارب إذا ذهب عقله ويقال للسكران نزيف ومنزوف ويقال للمطعون نزف فمات إذا خرج دمه كله ونزحت الركية حتى نزفتها وفي أمثالهم «أجبن من المنزوف ضرطا» . وقصة هذا المثل: ان رجلين خرجا في فلاة فلاحت لهما شجرة فقال أحدهما: أرى قوما قد رصدونا فقال الآخر: إنما هي عشرة فظنه يقول عشرة فجعل يقول وما غناء اثنين عن عشرة ويضرط حتى مات ويروى من وجه آخر أن نسوة لم يكن لهن رجل فزوجت إحداهن رجلا كان ينام الصبحة فإذا أتينه بصبوح ونبهنه قال: لو نبهتنني لعاديه فلما رأين ذلك قلن إن صاحبنا لشجاع تعالين حتى نجربه فأتينه فأيقظنه فقال كعادته فقلن هذه نواصي الخيل فجعل يقول الخيل الخيل ويضرط حتى مات وفيه أقوال أخرى ضربنا عنها صفحا. وفي الصحاح: «نزفت ماء البئر إذا نزحته كله ونزفت هي يتعدى ولا يتعدى ونزفت أيضا على ما لم يسم فاعله» . (قاصِراتُ الطَّرْفِ) : حابسات الأعين على أزواجهن لا ينظرن الى غيرهم ويجوز أن يكون من باب الصفة المشبهة أي قاصرات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 264 أطرافهن كمنطلق اللسان وأن يكون من باب اسم الفاعل على أصله وسيأتي الفرق بينهما في الاعراب. (عِينٌ) : نجل العيون جمع عيناء والنجل جمع نجلاء وهي التي اتسع شقها سعة غير مفرطة. الإعراب: (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) إن واسمها وجملة كانوا خبرها وكان واسمها وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة قيل في محل جر بالإضافة ولهم متعلقان بقيل ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وجملة لا إله إلا الله مقول قول محذوف أي قولوا لا إله إلا الله وقد تقدم إعراب كلمة التوحيد مفصلا وجملة يستكبرون خبر كانوا وجواب إذا محذوف دل عليه ما قبله. (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) ويقولون عطف على يستكبرون والهمزة للاستفهام الانكاري وان واسمها واللام المزحلقة وتاركو خبر إن ولشاعر متعلقان بتاركوا أي لأجل شاعر ومجنون صفة. (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) إضراب ابطالي وجاء فعل وفاعل مستتر وبالحق متعلقان بجاء وصدق المرسلين عطف على جاء بالحق. (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) إن واسمها وسيأتي سر هذا الالتفات في باب البلاغة واللام المزحلقة وذائقو العذاب خبر ان والأليم صفة. (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة وما نافية وتجزون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وإلا أداة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 265 حصر وما مفعول به ثان وهو على حذف مضاف أي جزاء ما وجملة كنتم تعملون صلة ما وجملة تعملون خبر كنتم. (إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) إلا أداة استثناء بمعنى لكن لأن الاستثناء منقطع وعباد الله مستثنى من الواو في تجزون والمخلصين صفة لعباد الله. (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) كلام مستأنف لتقرير ما أعد لعباد الله المخلصين وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم ورزق مبتدأ مؤخر ومعلوم صفة لرزق ونائب الفاعل مستتر تقديره وقته أو معلوم ما يتميز به من خصائص منها الديمومة ومحض اللذة وطيب الطعم، وحسن الرداء والمنظر وجملة لهم رزق معلوم خبر أولئك. (فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ) فواكه بدل أو عطف بيان للرزق بدل كل من كل وسيأتي المزيد من مزايا هذا البدل في باب البلاغة والواو عاطفة أو حالية وهم مبتدأ ومكرمون خبر. (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) متعلقان بمكرمون أو هو خبر ثان أو هما متعلقان بمحذوف في محل نصب على الحال. (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) على سرر متعلقان بمتقابلين ومتقابلين حال أو كلاهما حال وفي الكلام تصوير لمجالس الشراب سيأتي المزيد منه في باب البلاغة. (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) الجملة صفة لمكرمون أو حال من الضمير في متقابلين أو جملة مستأنفة وعليهم متعلقان بيطاف وبكأس ناب مناب المفعول المطلق وقد تقدم بحث ذلك مفصلا ومن معين لصفة لكأس. قال الضحاك كل كأس في القرآن فهي الخمر. (بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) وبيضاء صفة ثانية لكأس ولذة صفة ثالثة لكأس وصفت بالمصدر مبالغة أو على حذف المضاف أي ذات لذة أو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 266 هي تأنيث اللذ يقال لذ الشيء فهو لذ ولذيذ كقولك رجل طب أي طبيب، قال: لذّ كطعم الصرخدي تركته ... بأرض العدا من خشية الحدثان فاللذ وصف واللذة مؤنثة وهي اسم للكيفية القائمة بالنفس واسم للشيء اللذيذ والصرخد موضع بالشام ينسب إليه الشراب والحدثان مصدر كالحدث إلا أنه يدل على التجدد والتكرر يقول: ورب شيء لذيذ يعني النوم طعمه كطعم الشراب تركته بأرض الأعداء خوف نزول المكاره بي. (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) الجملة صفة رابعة لكأس ولا نافية وفيها خبر مقدم وغول مبتدأ مؤخر ولا عطف وهم مبتدأ وعنها متعلقان بينزفون وجملة ينزفون خبر هم وهو مبني للمجهول. (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ) الواو عاطفة والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وقاصرات الطرف مبتدأ مؤخر والطرف مضاف إليه مرفوع المحل على أن قاصرات صفة مشبهة أو منصوب المحل على أن قاصرات اسم فاعل وعين صفة لقاصرات الطرف (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) صفة ثانية لقاصرات وإذا اعتبرت قاصرات صفة كانت صفة ثالثة وكأن واسمها وبيض خبرها ومكنون صفة وسيأتي بحث هذا التشبيه في باب البلاغة. البلاغة: 1- الالتفات: في قوله «إنكم لذائقو العذاب الأليم» فقد التفت من الغيبة الى الخطاب لمجابهتهم بالغضب وانه بلغ أقصى آماده وحدوده. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 267 2- الإيجاز: وفي قوله: «فواكه» وإبداله من رزق إيجاز قصر دل على أنهم قد بلغوا غاية ما يتمناه المتمني ويغتبط به المغتبط، فالفواكه مساوية للرزق فهي تشبه الخبز واللحم لأن أكلهم لا لإقامة الصحة وحفظها وإنما هو للتلذذ والتفكه فأجسامهم هناك محكمة لا يعتورها وهن ولا يتطرق إليها ضعف أو فتور. وهناك إيجاز آخر بقوله معلوم فقد نابت هذه الكلمة عن الأوقات والمدد واندرجت فيها العشايا والأصائل والبكر، كما نابت عن الطعوم المتفاوتة والروائح المتباينة التي تختلف في المظهر وتتفق في طيبها وتفاوح أرجها المسكر. 3- التجسيد: والصورة الفنية الرائعة تبدو في قوله «على سرر متقابلين» وليس أشهى للشاربين في أويقات الصبوح أو الغبوق وفي البكر والأماسي من أن يتقابلوا فالتقابل أتم للسرور وأدعى الى الحبور وسيأتي أيضا تبادلهم للأحاديث والمتع. 4- الإيجاز أيضا: وفي وصف الخمر إيجاز بليغ وهو قوله «لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون» فقد جمعت هاتان الكلمتان جميع عيوب خمر أهل الناس التي حرمت بسببها من مغص أو صداع أو خمار أو عربدة أو لغو أو تأثيم أو غير ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 268 5- التشبيه المرسل: وفي قوله «كأنهن بيض مكنون» تشبيه مرسل والمراد بالبيض هنا بيض النعام، والمكنون من كننته أي جعلته في كن والعرب تشبه المرأة به في لونه وهو بياض مشرب بعض صفرة وهو الذي نطلق عليه اليوم اللون الكافوري. وأول من شبه المرأة بالبيضة امرؤ القيس بقوله: وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهو بها غير معجل والنساء يشبهن بالبيض من ثلاثة أوجه أحدها بالصحة والسلامة عن الطمث ومنه قول الفرزدق: خرجن إلي لم يطمثن قبلي ... وهن أصح من بيض النعام والثاني في الصيانة والستر لأن الطائر يصون بيضه ويحصنه، والثالث في صفاء اللون ونقائه لأن البيض يكون صافي اللون نقيه إذا كان تحت الطائر. هذا وهو من التشبيهات التي رغب المحدثون عنها اليوم وإن كانت بديعة في ذاتها لأن البيئة لم تعد تستسيغ تلك التشبيهات. التشبيه بين البيئات المختلفة: ولإيضاخ الفرق بين البيئات نقول كان العرب يستحسنون تشبيه الأصابع والبنان بدودة تكون في الرمل وتسمى جماعتها بنات النقا فمن ذلك قول امرئ القيس: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 269 وتعطو برخص غير شثن كأنه ... أساريع ظبي أو مساويك إسحل فقد شبه البنانة بالأسروعة أي دودة الرمل. وقال ذو الرمة: خزاعيب أمثال كأن بنانها ... بنات النقا تخفي مرارا وتظهر فهي كأحسن البنان لينا وبياضا وطولا واستواء ودقة وحمرة رأس كأنه ظفر قد تخضب. إلا أن النفس ما لبثت أن اجتوت هذا التشبيه فعدل أبو نواس عنه بقوله: تعاطيكها كف كأن بنانها ... إذا اعترضتها العين صف مداري وابن الرومي أيضا بقوله: سقى الله قصرا بالرصافة شاقني ... بأعلاه قصريّ الدلالي رصافي أشار بقضبان هي الدر قمعت ... يواقيت حمرا فاستباح عفافي أو قول عبد الله بن المعتز: أشرن على خوف بأغصان فضة ... مقومة أثمارهن عقيق وهكذا يختلف التشبيه باختلاف البيئات. وسيأتي المزيد من هذا البحث الهام وحسبنا الآن ما قدمناه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 270 [سورة الصافات (37) : الآيات 50 الى 61] فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) الإعراب: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) الفاء عاطفة والجملة معطوفة على يطاف عليهم والمعنى يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشرب، قال: وما بقيت من اللذات إلا ... أحاديث الكرام على المدام فيقبل بعضهم على بعض والبيت للفرزدق يقول ما بقيت لذة من اللذات إلا لذة أحاديث الكرام أو ما بقيت شهوة من الشهوات اللذيذة إلا أحاديث الكرام على الخمر وأتى بحرف الاستعلاء لأن الشراب يكون بين أيديهم والحديث من أفواههم فوقه. وأقبل بعضهم فعل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 271 وفاعل وعلى بعض جار ومجرور متعلقان بأقبل وجملة يتساءلون حالية والتعبير بصيغة الماضي للتأكيد والدلالة على تحقق الوقوع وتلك عادة الله في أخباره. (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) قال قائل فعل وفاعل ومنهم صفة لقائل أي من أهل الجنة وإن واسمها وجملة كان خبرها وجملة إن واسمها وخبرها مقول القول ولي خبر كان مقدم وقرين اسمها مؤخر أي كان لي في الدار العاجلة صاحب. (يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) جملة يقول صفة لقرين والهمزة للاستفهام الانكاري وإن واسمها واللام المزحلقة ومن المصدقين خبر إن والجملة مقول القول. (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة متنا في محل جر بإضافة الظرف إليها وكنا فعل ماض ناقص ونا اسمها وترابا خبرها وعظاما عطف على ترابا والهمزة للاستفهام وإن واسمها واللام المزحلقة ومدينون خبر إن أي مجزيون ومحاسبون. (قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) قال فعل ماض ناقص والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود على ذلك القائل من أهل الجنة أي قال لإخوانه وهل حرف استفهام وأنتم مبتدأ ومطلعون خبره والاستفهام معناه الأمر أي تعالوا تنطلع من كوى الجنان لنطّلع على حال أهل النار. (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) الفاء عاطفة واطلع فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو يعود على ذلك القائل، فرآه فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به أي رأى قرينه وفي سواء الجحيم متعلقان برآه أي في وسطها ولك أن تعلق الجار والمجرور بمحذوف حال ولعله أولى أي مرتطما في وسط جهنم. (قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) قال فعل ماض وفاعل مستتر وتالله التاء حرف قسم وجر وهو مع مجروره متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 272 وإن مخففة من الثقيلة ولك أن تعملها فيكون اسمها محذوفا أي انك وجملة كدت خبرها ويجوز أن تهملها فتكون جملة كدت جواب القسم لا محل لها وقد سبق أن قلنا أن إن إذا خففت فالأكثر أن تدخل على كاد كما تدخل على كان ونحوه واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، وتردين فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والنون للوقاية والياء مفعول به وحذفت الياء تبعا لسنة المصحف. (وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) الواو عاطفة ولولا حرف امتناع لوجود ونعمة مبتدأ وربي مضاف إليه وخبر المبتدأ محذوف وجوبا والتقدير موجودة واللام واقعة في جواب لولا وكان واسمها ومن المحضرين خبرها أي من الذين أحضروا العذاب كما أحضرته أنت وأمثالك. (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) الهمزة للاستفهام والفاء عاطفة على محذوف تقديره أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين وما نافية حجازية ونحن اسمها والباء حرف جر زائد وميتين مجرور بالباء لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما. (إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) إلا أداة حصر والاستثناء مفرغ وموتتنا مفعول مطلق وقيل هو استثناء منقطع فينصب على الاستثناء والأولى صفة أي الموتة التي في الدنيا والواو حرف عطف وما نافية حجازية ونحن اسمها وبمعذبين الباء حرف جر زائد ومعذبين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما. (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) إن واسمها واللام المزحلقة وهو مبتدأ أو ضمير فصل والفوز خبر هو والجملة خبر إن، أو خبر إن والعظيم صفة للفوز. (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) يحتمل أن يكون من كلامه ترغيبا للمكلفين في عمل الطاعات ويحتمل أن يكون من كلام بعضهم لبعض الجزء: 8 ¦ الصفحة: 273 وقيل يبعد الاحتمال الثاني قوله فليعمل العاملون فإن العمل والترغيب فيه إنما يكون في الدنيا. وعلى كل حال فالجار والمجرور متعلقان بيعمل وهذا مضاف إليه والفاء الفصيحة أي إن تبين حقيقة حال أهل الجنة فليعمل، واللام لام الأمر ويعمل فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والعاملون فاعل. [سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 74] أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) اللغة: (نُزُلًا) : النزل بضمتين أو بضم النون وسكون الزاي: المنزل وما هيء للضيف والجمع أنزال والنزل أيضا بضمتين: الطعام ذو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 274 البركة والمنزل والقوم النازلون وريع ما يزرع ونماؤه والعطاء والفضل وقد استعير للحاصل من الشيء وحاصل الرزق المعلوم اللذة والسرور وحاصل شجرة الزقوم الألم. (الزَّقُّومِ) : قال في القاموس: «الزقم اللقم والتزقّم التلقم وأزقمه فازدقمه: أبلعه فابتلعه والزقوم كتنور: الزبد بالتمر وشجرة بجهنم ونبات بالبادية له زهر ياسميني الشكل وطعام أهل النار» وقال في الأساس: «تقول: من أنكر أن يقوم أطعمه الله الزقوم، ويقال: إن أهل إفريقية يسمون الزبد بالتمر: زقوما وهو من قولهم: أنه ليزقم اللقم، ويتزقمها ويزدقمها: يبتلعها وبات يتزقّم اللبن إذا أفرط في شربه» . وفي الخازن: والزقوم ثمر شجرة خبيثة مرة كريهة الطعم يكره أهل النار على تناولها فهم يتزقمونه على أشد كراهية وقيل هي شجرة تكون بأرض تهامة من أخبث الشجر. وسيأتي المزيد من الحديث عن شجرة الزقوم في باب البلاغة. (طَلْعُها) : الطلع حقيقة اسم لثمر النخيل في أول بروزه، فإطلاقه على ثمر هذه الشجرة مجاز بالاستعارة كما سيأتي في باب البلاغة، والطلع من النخل شيء يخرج كأنه نعلان مطبقان والحمل بينهما منضود وما يبدو من ثمرته في أول ظهورها. (شوبا) : بفتح الشين وهو مصدر على أصله وقيل يراد به اسم المفعول ويدل له قراءة بعضهم لشوبا بالضم، قال الزجاج: المفتوح مصدر والمضموم اسم بمعنى المشوب كالنقض بمعنى المنقوض والفعل منه شابه يشوبه من باب قال إذا خلطه فهو الخلط. (حَمِيمٍ) : ماء حار وهو المقصود هنا ويطلق على الماء البارد فهو من الأضداد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 275 الإعراب: (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) الجملة مقول قول محذوف يعود إلى ذكر الرزق المعلوم أي قل لهم يا محمد على سبيل الإنكار والتوبيخ والتهكم أذلك خير نزلا، فالهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي وذلك مبتدأ وخير خبر ونزلا تمييز لخير وأم حرف عطف وشجرة الزقوم عطف على ذلك وقال الزمخشري: «وانتصاب نزلا على التمييز، ولك أن تجعله حالا كما تقول: أثمر النخلة خير بلحا أم رطبا» . (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) إن واسمها وجملة جعلنا خبر وجعلناها فعل وفاعل ومفعول به أول وفتنة للظالمين مفعول به ثان وللظالمين صفة لفتنة أي ابتلاء وتعذيبا ومحنة لهم لأنهم قالوا النار تحرق الشجر فكيف تنبته. (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) إن واسمها وشجرة خبرها وجملة تخرج صفة لشجرة وفي أصل الجحيم متعلقان بتخرج. (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) طلعها مبتدأ وجملة التشبيه خبر وكأن واسمها ورؤوس الشياطين خبر كأن. (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) الفاء عطف وان واسمها واللام المزحلقة وآكلون خبر إن ومنها متعلقان بآكلون فمالئون الفاء عاطفة للترتيب مع التعقيب ومالئون معطوف على آكلون ومنها متعلقان بمالئون والبطون مفعول مالئون لشدة جوعهم. (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وان حرف مشبه بالفعل ولهم خبرها المقدم وعليها متعلقان بمحذوف حال واللام المزحلقة وشوبا اسمها المؤخر ومن حميم صفة لشوبا. (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وان واسمها واللام المزحلقة والى الجحيم خبرها. (إِنَّهُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 276 أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ) الجملة تعليل لما سبق من ابتلائهم بأفانين العذاب، وان واسمها وجملة ألفوا خبرها وآباءهم مفعول ألفوا الأول وضالين مفعول ألفوا الثاني. (فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) الفاء تعليلية وهم مبتدأ وعلى آثارهم متعلقان بيهرعون وجملة يهرعون خبر هم والاهراع السير الشديد بحثّ وانزعاج. وفي المصباح هرع وأهرع بالبناء للمفعول فيهما إذا أعجل. (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وضل فعل ماض مبني على الفتح وقبلهم ظرف متعلق بمحذوف حال وأكثر الأولين فاعل. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل وفيهم جار ومجرور متعلقان بأرسلنا ومنذرين مفعول به. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) الفاء الفصيحة وانظر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وعاقبة اسمها المؤخر والمنذرين بفتح الذال مفعول به. (إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) إلا أداة استثناء بمعنى لكن لأن الاستثناء منقطع وعباد الله مستثنى والمخلصين صفة. البلاغة: حفلت هذه الآيات بضروب من البلاغة سنبسط القول فيها وسننقل لك خلاصات وافية لما أورده أساطين البلاغة في صددها فأول ما فيها من فنون: 1- التشبيه برؤوس الشياطين: وهو تشبيه طلع شجرة الزقوم برؤوس الشياطين وهو تشبيه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 277 خيالي وقد سبق ذكره فيما قدمناه من أقسام التشبيه، ونورد لك هنا خلاصة ما قاله ابن رشيق فيه: «واعلم أن التشبيه على ضربين: تشبيه حسن وتشبيه قبيح فالتشبيه الحسن هو الذي يخرج الأغمض الى الأوضح فيفيد بيانا والتشبيه القبيح ما كان خلاف ذلك» قال الرماني: «وشرح ذلك ما تقع عليه الحاسة أوضح مما لا تقع عليه الحاسة، والمشاهد أوضح من الغائب فالأول في العقل أوضح من الثاني، والثالث أوضح من الرابع وما يدركه الإنسان من نفسه أوضح مما يعرفه من غيره، والقريب أوضح من البعيد في الجملة، وما قد ألف أوضح مما لم يؤلف» ثم انتقل ابن رشيق الى التشبيه الوارد في الآية فقال: «قال الله عز وجل: «طلعها كأنه رؤوس الشياطين» فقال قوم إن شجرة الزقوم وهي أيضا الأستن لها صورة منكرة وثمرة قبيحة يقال لها رؤوس الشياطين» والأستن كما يقول المجد: «الأستن والأستان بفتح الهمزة وسكون السين فيهما، أصول الشجر يغشو في منابته فإذا نظر إليه الناظر شبهه بشخوص الناس» الى أن يقول: «والأجود الأعرف انه شبه بما لا يشك انه منكر وقبيح لما جعل الله عز وجل في قلوب الإنس من بشاعة صور الجن» . فصل رائع للجاحظ: وكم كنا نتمنى أن يكون كتاب «نظم القرآن» موجود بين أيدينا لنطلع على الفصل الرائع الذي كتبه الجاحظ بصدد هذا التشبيه ولكن الكتاب فقد مع ما فقد من آثارنا العربية فلا بد لنا من أن ننقل شذرات منه وردت في كتبه الأخرى، فقد جاء في كتاب الحيوان ما نصه: «وليس ان الناس رأوا شيطانا قط على صورة ولكن لما كان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 278 الله تعالى قد جعل في طباع جميع الأمم استقباح جميع صور الشياطين واستسماجه وكراهيته وقد أجرى على ألسنة جميعهم ضرب المثل في ذلك رجع بالإيحاش والتنفير وبالإخافة والتقريع إلى ما قد جعله الله في طباع الأولين والآخرين وعند جميع الأمم على خلاف طبائع جميع الأمم وهذا التأويل أشبه من قول من زعم من المفسرين أن رؤوس الشياطين نبات ينبت باليمن» . وتعرض الجاحظ لهذا التشبيه مرة أخرى فقال: «فزعم ناس أن رؤوس الشياطين ثمر شجرة تكون ببلاد اليمن لها منظر كريه والمتكلمون لا يعرفون هذا التفسير وقالوا: ما عنى إلا رؤوس الشياطين المعروفين بهذا الاسم من فسقة الجن ومردتهم فقال أهل الطعن والخلاف: لس يجوز أن يضرب المثل بشيء لم نره فنتوهمه ولا وصفت لنا صورته في كتاب ناطق أو خبر صادق، ومخرج الكلام يدل على أن التخويف بتلك الصورة والتفزيع منها، وعلى أنه لو كان شيء أبلغ في الزجر من ذلك لذكره فكيف يكون الشأن كذلك والناس لا يفزعون إلا من شيء هائل شنيع قد عاينوه أو صوّره لهم واصف صدوق اللسان بليغ في الوصف ونحن لم نعافيها ولا صوّرها لنا صادق، وعلى أن أكثر الناس من هذه الأمم التي لم تعايش أهل الكتابين وحملة القرآن من المسلمين، ولم تسمع الاختلاف لا يتوهمون ذلك، ولا يقفون عليه، ولا يفزعون منه فكيف يكون ذلك وعيدا عاما؟ قلنا: وإن كنا نحن لم نر شيطانا قط ولا صور رؤوسها لنا صادق بيده ففي إجماعهم على ضرب المثل بقبح الشيطان حتى صاروا يضعون ذلك في مكانين أحدهما أن يقولوا: لهو أقبح من الشيطان، والوجه الآخر أن يسمى الجميل شيطانا على جهة التطيّر له كما تسمى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 279 الفرس الكريمة شوهاء، والمرأة الجميلة صمّاء وقرناء وخنساء وجرباء وأشباه ذلك على جهة التطيّر له، ففي إجماع المسلمين والعرب وكل من لقيناه على ضرب المثل بقبح الشيطان دليل على أنه في الحقيقة أقبح من كل قبيح» . لقد فصل الجاحظ في المقال وجوه التشبيه وتصرف الأسلوب القرآني في المشبه به ووجه الشبه ينتزعه من غير مدرك بالحس اعتمادا على ثبوته في الإدراك عن طريق العادة والعرف وتناقل الناس له، وقد أجاز الجاحظ مثل هذا التشبيه وبين وجهته وناقش آراء غيره في التشبيه في ضرورة الاعتماد على الحس البصري لتصوير المعنى في الذهن، ومنذ ذلك العهد أو قبله بقليل اهتم الناس بهذين النوعين من التشبيه وتابعوهما في القرآن وفي البيان عامة ودارت بحوث البلاغة حول هذه النقطة وتفرعت من هذين النوعين أنواع أخرى، وهكذا كان لهذه الآبة ومثلها أثر في تنبيه الناس إلى التشبيه، فبحثه فيها أبو عبيدة وجدّد الجاحظ البحث وتوسّع فيه وظلت الآية على رأس الشواهد في التشبيه المعنوي في كتب النقد والبلاغة بعدهما. ورفض الجاحظ تفسير اللغويين الحسي، وهو يتفق ووجهة نظر أهل الظاهر في التفسير ويعارض وجهة أهل النظر من المتكلمين والمعتزلة أيضا وقد فسر أولئك رؤوس الشياطين برؤوس نبات ينبت باليمن أو شجر كريه المنظر أو حيات قبيحة الشكل وكلها مدلولات مادية لكلمة شيطان قد يكون لها أصل من الواقع وقد تكون من ابتكار هؤلاء، وهي على الحالين لا تبلغ في أثرها في النفس مبلغ صورة الشيطان التي تثب الى الخيال وتجمع كل سمات الفزع والقبح وإن تكن غير واضحة وضوح النبات والشجر والحيات وهذا الغموض يضفي عليها مزيدا من التخويف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 280 لهذا كان تفسير الجاحظ أكثر إدراكا لمرمى التعبير القرآني في النفوس وهو إدراك له قيمته من الوجهة النقدية ذلك هو أثر الأدب في النفس وهي لفتات جاءت عابرة في كتب الأقدمين وأولاها النقد الحديث عنايته، وهو يذكر أمثلة من التشبيه بالحيوان في القرآن وذلك لغلبة صفة ما في كل نوع منها أراد السياق إبرازها فيضرب الله مثلا بالعنكبوت في وهن البيت وضعفه والحمار في الجهل والغفلة وفي قلة المعرفة وغلظ الطبيعة والقرد في القبح والتشويه ونذاله النفس. ولعل هذه الآية أو قل هذا التشبيه هو الذي حدا بأبي عبيدة الى تأليف كتابه «مجاز القرآن» الذي لم نطلع عليه ولكن ذكره ابن النديم صاحب «الفهرس» والخطيب صاحب «تاريخ بغداد» وابن الأنباري في «نزهة الألباء» وياقوت في «إرشاد الأريب» وابن خلكان في «الوفيات» والسيوطي في «بغية الوعاة» ويذكر ياقوت أن أبا عبيدة ألف كتاب «المجاز» عام ثمانية وثمانين ومائة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم يذكر على لسان أبي عبيدة: «أرسل إليّ الفضل بن الربيع في الخروج إليه سنة ثمان وثمانين ومائة فقدمت الى بغداد واستأذنت عليه فأذن لي وهو في مجلس له طويل عريض فيه بساط واحد قد ملأه وفي صدره فرش عالية لا يرتقى إليها إلا على كرسي ثم دخل علي رجل في زي الكتاب له هيئة فأجلسه الى جانبي وقال له: أتعرف هذا قال: لا، قال هذا أبو عبيدة علامة أهل البصرة، أقدمناه لنستفيد من علمه فدعا له الرجل وقرّظه لفعله هذا وقال: إني كنت مشتاقا إليك وقد سألت عن مسألة أفتأذن لي أن أعرفك إياها؟ فقلت: هات، قال: قال الله عز وجل: «طلعها كأنه رؤوس الشياطين» وانما يقع الوعد والإيعاد بما عرف مثله وهذا مما لم يعرف، فقلت: إنما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 281 كلم الله تعالى العرب على قدر كلامهم أما سمعت قول امرئ القيس: أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال وهم لم يروا الغول قط ولكنهم لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به. فاستحسن الفضل ذلك واستحسنه السائل وعزمت في ذلك اليوم أن أضع كتابا في القرآن في مثل هذا وأشباهه وما يحتاج إليه من علمه فلما رجعت الى البصرة عملت كتابي الذي سميته «المجاز» . وعبارة السمين بهذا الصدد: «قوله: كأنه رؤوس الشياطين، فيه وجهان أحدهما أنه حقيقة وأن رأس الشياطين شجر بعينه بناحية تسمى الاستن وهو شجر مرّ منكر الصورة سمته العرب بذلك تشبيها برؤوس الشياطين في القبح ثم صار أصلا يشبه به وقيل الشياطين: صنف من الحيات، وقيل: هو شجر يقال له الصرم فعلى هذا قد خوطب العرب بما تعرفه وهذه الشجرة موجودة فالكلام حقيقي والثاني أنه من باب التمثيل والتخيل وذلك أن كل ما يستنكر ويستقبح في الطباع والصورة يشبه بما يتخيله الوهم وإن لم يره، والشياطين وإن كانوا موجودين لكنهم غير مرئبين للعرب إلا أنه خاطبهم بما ألفوه من الاستعارات» . أما الزمخشري فقد جمع بين الأقوال كلها ولكنه قدم ما هو أولى فقال بأسلوبه الممتع: «والطلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجر الزقوم من حملها إما استعارة لفظية أو معنوية وشبه برؤوس الشياطين دلالة على تناهيه في الكراهة وقبح المنظر لأن الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس لاعتقادهم أنه شر محض لا يخلطه خير فيقولون في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 282 القبيح الصورة كأنه وجه شيطان، كأنه رأس شيطان وإذا صوره المصورون جاءوا بصورته على أقبح ما يقدروا هوله كما أنهم اعتقدوا في الملك انه خير محض لا شرّ فيه فشبهوا به الصورة الحسنة قال الله تعالى: «ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم» وهذا تشبيه تخييلي، وقيل الشيطان حية عرفاء لها صورة قبيحة المنظر هائلة جدا، وقيل إن شجرا يقال له الأستن خشنا مرا منتنا منكر الصورة يسمى ثمره رؤوس الشياطين وما سمت العرب هذا الثمر برؤوس الشياطين إلا قصدا الى أحد التشبيهين ولكنه بعد التسمية بذلك رجع أصلا ثالثا يشبه به. 2- سر العطف ب «ثم» : وفي قوله «ثم ان لهم عليها لشوبا من حميم» سر لطيف المأخذ، دقيق المسلك، قلّ من يتفطن إليه، فإن في معنى التراخي وجهين: أحدهما: انهم يملئون البطون من شجر الزقوم وهو حارّ يحرق بطونهم ويزيد في عطشهم وغلتهم فلا يسقون إلا بعد ملي تعذيبا بذلك العطش ثم يسقون ما هو أحر من العطش وهو الشراب المشوب بالحميم، والوجه الثاني أنه ذكر الطعام بتلك الكراهة والبشاعة ثم ذكر الشراب بما هو أوغل في الكراهة وأبعد في البشاعة فجاء بثم للدلالة على تراخي حال الشراب عن حال الطعام ومباينة صفته لصفته في الزيادة عليه ومعنى الثاني انه يذهب بهم عن مقارهم ومنازلهم في الجحيم وهي الدركات التي اسكنوها الى شجرة الزقوم فيأكلون إلى أن يملئوا بطونهم ويسقون بعد ذلك ثم يرجعون الى دركاتهم، ومعنى التراخي في ذلك واضح المفهوم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 283 [سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 82] وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) الإعراب: (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) كلام مستأنف مسوق للشروع في تفصيل ما أجمل فيما سبق. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ونادانا نوح فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر، والفاء عاطفة واللام جواب قسم محذوف وجواب كل من القسين محذوف، لدلالة السياق عليه والتقدير والله لقد نادانا نوح لما يئس من إيمان قومه بعد أن استنزف ألف سنة إلا خمسين عاما بين أظهرهم فلم يزدادوا إلا عتوا واستكبارا ونفورا فأجبناه أحسن إجابة فو الله لنعم المجيبون نحن. ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح والمجيبون فاعل نعم والمخصوص بالمدح محذوف تقديره نحن وهذه هي الأولى من قصص ست ستأتي تباعا. (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الواو عاطفة ونجيناه فعل وفاعل ومفعول به وأهله عطف على الهاء أو مفعول معه ومن الكرب جار ومجرور متعلقان بنجيناه العظيم نعت للكرب. (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) وجعلنا عطف على نجيناه وذريته مفعول به وهم ضمير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 284 فصل لا محل له والباقين مفعول جعلنا الثاني. (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) الواو عاطفة وتركنا فعل وفاعل وعليه صفة للمفعول المحذوف أي ثناء كائنا عليه وفي الآخرين في موضع نصب مفعول به ثان لتركنا وقيل في إعراب هذه الآية غير ذلك. (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) سلام مبتدأ وسوغ الابتداء به ما فيه من معنى الدعاء وعلى نوح خبر متعلق بمحذوف صفة لسلام أو متعلق بما تعلق به الأول وجملة سلام على نوح في العالمين مفسرة لتركنا. وقال السمين: «قوله سلام على نوح مبتدأ وخبر وفيه أوجه: أحدها أنه مفسر لتركنا أي تركنا عليه شيئا وهو هذا الكلام وقيل ثم قول مقدر أي فقلنا سلام وقيل ضمن تركنا معنى قلنا وقيل سلط تركنا على ما بعده، قال الزمخشري: وتركنا عليه في الآخرين هذه الكلمة وهي سلام على نوح في العالمين يعني يسلمون عليه تسليما ويدعون له وهو من الكلام المحكي كقولك سورة أنزلناها وهذا الذي قاله قول الكوفيين جعلوا الجملة في محل نصب مفعولا بتركنا لا انه ضمن معنى القول بل هو على معناه بخلاف الوجه قبله وهو أيضا من أقوالهم» . (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) إن واسمها وكذلك نعت لمصدر محذوف وجملة نجزي خبر إنا وفاعل نجزي مستتر تقديره نحن والمحسنين مفعول به لنجزي والجملة تعليل لمجازاة نوح بتلك التكرمة السامية وهي خلود ذكره وتسليم العالمين عليه أبد الدهر. (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) تعليل للإحسان بالإيمان تنويها بشأن الإيمان وتشريفا له وحثا على الازدياد منه. وان واسمها ومن عبادنا خبرها والمؤمنين نعت لعبادنا. (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) عطف على نجيناه وأهله فالترتيب حقيقي لأن نجاتهم حصلت قبل غرق الباقين ولكن بينهما تراخيا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 285 [سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 113] وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 286 اللغة: (شِيعَتِهِ) : في المختار: «الشيعة أتباع الرجل وأنصاره» وفي المصباح: «الشيعة: الأتباع والأنصار وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة ثم صارت الشيعة اسما لجماعة مخصوصة والجمع شيع سدرة وسدر والأشياع جمع الجمع» وفي الأساس: «شيّعته يوم رحيله وشايعتك على كذا: تابعتك عليه وتشايعوا على الأمر وهم شيعته وشيعه وأشياعه وهذا الغلام شيع أخيه: ولد بعده، وآتيك غدا أو شيعه قال: قال الخليط: غدا تصدّعنا ... أو شيعه أفلا تشيّعنا وأقمت عنده شهرا أو شيع شهر وكان معه مائة رجل أو شيع ذلك ونزلوا موضع كذا أو شيعه، وشاع الحديث والسر وأشاعه صاحبه ورجل مشياع مذياع وقطرت قطرة من اللبن في الماء فتشيع فيه: تفرق، وأشاعت الناقة بولها وأشاعت به وجاءت الخيل شوائع: متفرقة، وتشايعت الإبل وله صهم في الدار شائع ومشاع وشيّع بالإبل وشايع بها: صاح بها ومنه قيل لنفاخ الراعي: الشياع وشايع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 287 بهم الدليل فأبصروا الهدى: نادى بهم. ومن المجاز شيعنا شهر رمضان بصوم الستة وشيّعت النار بالحطب وأعطني شياعا كما تقول: شبابا لما تشيّع به وتشبّ، وشيّع هذا بهذا: قوه به، قال الراعي: إليك يقطع أجواز الفلاة بنا ... نصّ تشيعه الصّهب المراسيل ورجل مشيّع القلب: للشجاع، وقد شيّع قلبه بما يركب كلّ هول وشاع في رأسه الشيب وشاعكم الله تعالى بالسلام وشاعكم السلام قال: ألا يا نخلة في ذات عرق ... برود الظل شاعكم السلام» لمحة عن الشيعة: وقول صاحب المصباح: «اسم لجماعة مخصوصة» يقصد الشيعة أقدم الفرق الإسلامية وقد ظهروا بمذهبهم السياسي في آخر عصر عثمان ونما وترعرع في عهد علي وقوام هذا المذهب أن الإمامة ليست من مصالح العامة التي تفوض الى نظر الأمة ويتعين القائم بها بتعيينهم بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام ولا يجوز لنبي إغفالها وتفويضها الى الأمة بل يجب عليه تعيين الإمام لهم ويجب أن يكون معصوما عن الكبائر والصغائر وان علي بن أبي طالب كان هو الخليفة المختار من النبي وانه أفضل الصحابة. ولها فرق كثيرة يرجع إليها في الملل والنحل للشهرستاني والفصل في الملل والنحل لابن حزم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 288 (فَراغَ) : مال في خفية وأصله من روغان الثعلب وهو تردده وعدم ثبوته، وفي المختار: «راغ الثعلب من باب قال وروغانا بفتحتين والاسم منه الرواغ بالفتح وأراغ وارتاغ أي طلب وأراد، وراغ الى كذا مال إليه سرا وحاد، وقوله تعالى: «فراغ عليهم ضربا باليمين أي أقبل وقال الفراء: مال عليهم. وفلان يراوغ في الأمر مراوغة» . (يَزِفُّونَ) : يسرعون في المشي من زفيف النعام ويزفون من أزفّ إذا دخل في الزفيف أو من أزفّه إذا حمله على الزفيف أي يزف بعضهم بعضا، وفي الأساس: «زف العروس إلى زوجها وهذه ليلة الزّفاف، وزف الظليم وزفزف وزفت الريح وزفزفت زفيفا وزفزفة وهي سرعة الهبوب والطيران مع صوت، وريح زفزف، وزفزفته الريح حرّكته وبات مزفزفا، وأنشدني سلامة بن عياش الينبعي بمكة يوم الصّدر: فبتّ مزفزفا قد أنشبتني ... رسيسة ورد بينهم أحاحا لعلمي أن صرف البين يضحي ... ينيل العين قرّتها لماحا ومن المجاز: زفوا إليه: أسرعوا ويقال للطائش الحلم: قد زفّ رأله، وجئته زفة أو زفتين مرة أو مرتين وهي المرة من الزفيف كما أن المرة من المرور» . (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) : صرعه على شقه فوقع أحد جنبيه على الأرض تواضعا على مباشرة الأمر بصبر وجلد وفي المصباح: «والجبين ناحية الجبهة من محاذاة النزعة الى الصدغ وهما جبينان عن يمين الجبهة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 289 وشمالها قاله الأزهري وابن فارس وغيرهما فتكون الجبهة بين جبينين وجمعه جبن بضمتين مثل بريد وبرد وأجبنة مثل أسلحة» وفي القاموس: «تله تلا من باب قتل فهو متلول وتليل صرعه أو ألقاه على عنقه وخده» . (الْجَحِيمِ) : النار الشديدة الوقود وقيل كل نار على نار وجمر فوق جمر فهي جحيم، وفي القاموس: «الجحيم النار الشديدة التأجج وكل نار بعضها فوق بعض كالجحمة وتضم، وكل نار عظيمة في مهواة والمكان الشديد الحر كالجاحم، وجحمها كمنعها أوقدها فجحمت ككرمت جحوما وكفرح جحما وجحيما اضطرب والجاحم الجمر الشديد الاشتعال» . الإعراب: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) الواو عاطفة عطفت القصة الثانية على القصة الأولى ولك أن تجعلها استئنافية فتكون الجملة مستأنفة مسوقة للشروع في قصة إبراهيم بعد قصة نوح. وان حرف مشبه بالفعل ومن شيعته خبرها المقدم واللام المزحلقة وإبراهيم اسمها المؤخر. (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) لك أن تعلق الظرف بفعل محذوف تقديره اذكر ولك أن تعلقه بما في الشيعة من معنى الاشتقاق فهو معمول له لما فيه من معنى المتابعة، وجملة جاء في محل جر بإضافة الظرف إليها والفاعل مستتر تقديره هو يعود على إبراهيم وربه مفعول به وبقلب متعلقان بجاء وسليم صفة. (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ) الظرف الثاني بدل من الظرف الأول وأجاز أبو البقاء أن يكون ظرفا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 290 لسليم أو لجاء وجملة قال في محل جر بالإضافة والفاعل ضمير مستتر تقديره هو ولأبيه متعلقان بقال وماذا تقدم اعرابها كثيرا فما مبتدأ وذا اسم موصول خبر أو هي بكاملها اسم استفهام في محل نصب مفعول مقدم لتعبدون وجملة تعبدون لا محل لها على الأول وجملة ماذا مقول القول على الثاني. (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي وإفكا في نصبه أوجه أحدها أنه مفعول من أجله أي أتريدون آلهة دون الله إفكا فآلهة مفعول به ودون الله ظرف متعلق بتريدون وقدمت معمولات الفعل اهتماما به لأنه مكافح لهم بأنهم على إفك وباطل وبهذا الوجه بدأ الزمخشري والجلال والثاني أنه مفعول به بتريدون ويكون آلهة بدلا منه جعلها نفس الإفك مبالغة فأبدلها منه وفسره بها والثالث انه حال من فاعل تريدون أي أتريدون آلهة آفكين أو ذوي إفك. (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) الفاء عاطفة وما اسم استفهام للانكار والتوبيخ أي ليس لكم سبب ولا عذر يحملكم على الظن وهو في محل رفع مبتدأ وظنكم خبره وبرب العالمين متعلقان بظنكم وفي البيضاوي: «والمعنى إنكار ما يوجب ظنا فضلا عن قطع يصدّ عن عبادته أو يجوز الإشراك به أو يقتضي الأمن من عقابه على طريقة الإلزام وهي كالحجة على ما قبله» . (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) الفاء عاطفة ونظر فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ونظرة مفعول مطلق وفي النجوم متعلق بنظر، قيل الكلام على حذف مضاف أي في علم النجوم ولم يقل الى النجوم مع أن النظر إنما يتعدى بإلى لأن «في» تأتي بمعنى «إلى» لقوله تعالى «فردوا أيديهم في أفواههم» أي إليها وقيل إن نظر ضمن معنى فكر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 291 وهو يتعدى بفي. (فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) الفاء عاطفة وقال فعل ماض وفاعل مستتر وإني إن واسمها وسقيم خبرها وإن وما في حيزها في محل نصب مقول القول وسيأتي الكلام في تجويز الكذب على إبراهيم. (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) الفاء عاطفة وتولوا فعل ماض وفاعل وعنه متعلقان بتولوا ومدبرين حال من الواو في تولوا. (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ) الفاء عاطفة وراغ فعل ماض وفاعل والى آلهتهم متعلقان براغ فقال عطف على راغ والهمزة للاستفهام ولا نافية وتأكلون فعل مضارع مرفوع وفاعل وجملة الاستفهام مقول القول. (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) ما اسم استفهام مبتدأ ولكم خبر وجملة لا تنطقون في محل نصب على الحال وجملة مالكم مقول قول محذوف والتقدير فلم ينطقوا فقال مالكم لا تنطقون. (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) الفاء عاطفة على محذوف تقديره فلم يجيبوا فراغ وعليهم جار ومجرور متعلقان براغ وضربا مصدر واقع موقع الحال أي فراغ عليهم ضاربا أو مصدر لفعل مقدر أي يضرب ضربا والجملة في محل نصب على الحال وباليمين متعلقان بضربا أو بعامله. (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) الفاء عاطفة وأقبلوا فعل ماض والواو فاعل وإليه متعلقان بأقبلوا وجملة يزفون في محل نصب على الحال من فاعل أقبلوا ويجوز تعلق إليه به. (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وتعبدون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وما مفعول به وجملة تنحتون صلة والعائد محذوف، ويجوز أن تكون ما مصدرية أي نحتكم، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة أي منحوتكم، وقيل استفهامية للتوبيخ أي وأي شيء تعملون. (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 292 الواو حالية والله مبتدأ وجملة خلقكم خبر والكاف مفعول به والواو عاطفة وما يجوز أن تكون موصولة أو مصدرية وقيل هي استفهامية للتوبيخ أي وأي شيء تعملون وقيل هي نافية أي أن العمل في الحقيقة ليس لكم فأنتم لا تعملون شيئا، وسيأتي مزيد بحث في هذا التركيب الذي شجر فيه الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة، وجملة والله خلقكم حال ومعناها أتعبدون الأصنام على حالة تنافي ذلك وهي أن الله خالقكم وخالقهم جميعا ويجوز أن تكون الواو استئنافية والجملة مستأنفة. (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) قالوا فعل وفاعل وابنوا فعل أمر والواو فاعل والجملة مقول القول وله متعلقان بابنوا وبنيانا مفعول به، فألقوه عطف على ابنوا وهو فعل أمر والواو فاعل والهاء مفعول به وفي الجحيم متعلقان بألقوه. (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) الفاء عاطفة وأرادوا فعل ماض وفاعل وبه متعلقان بأرادوا وكيدا مفعول به، فجعلناهم عطف على فأرادوا وهو فعل وفاعل ومفعول به أول والأسفلين مفعول به ثان لجعلناهم. (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) الواو عاطفة على محذوف تقديره فخرج من النار سالما وقال، وان واسمها وذاهب خبرها والى ربي متعلقان بذاهب والسين حرف استقبال ويهدين فعل مضارع مرفوع بضمة مقدرة على الياء والنون للوقاية وياء الضمير المحذوفة لرعاية الفواصل مفعول به أي سيهديني وسيأتي معنى ذهابه الى ربه في باب الفوائد. (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) رب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وقد تقدمه له نظائر وهب فعل دعاء وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت ولي متعلقان بهب ومن الصالحين صفة لمفعول به محذوف أي ولدا من الصالحين. (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 293 حَلِيمٍ) الفاء عاطفة على محذوف تقديره فاستجبنا له، وبشرناه فعل ماض وفاعل ومفعول به وبغلام متعلقان ببشرناه وحليم صفة وفي الكلام إيجاز سيأتي في باب البلاغة. (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) الفاء استئنافية ولما حينية أو رابطة وبلغ فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو والظرف متعلق بمحذوف حال وعبارة الزمخشري: «فإن قلت بم يتعلق معه؟ قلت: لا يخلو إما أن يتعلق ببلغ أو بالسعي أو بمحذوف فلا يصح تعلقه ببلغ لاقتضائه بلوغهما معا حد السعي ولا بالسعي. لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه فبقي أن يكون بيانا كأنه لما قال فلما بلغ السعي أي الحد الذي يقدر فيه على السعي قيل مع من فقال مع أبيه والمعنى في اختصاص الأب انه أرفق الناس به وأعطفهم عليه وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله لأنه لم تستحكم قوته ولم يصلب عوده» . (قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى) جملة قال لا محل لها لأنها جواب لما ويا حرف نداء وبني منادى مضاف لياء المتكلم وان واسمها وجملة أرى خبرها وفي المنام متعلقان بأرى وإن واسمها وجملة أذبحك خبرها وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي رأى الحلمية، فانظر الفاء الفصيحة وانظر فعل أمر وفاعله مستتر وجوبا تقديره أنت وماذا ترى يجوز أن تكون ماذا مركبة استفهامية فتكون منصوبة بتري وما بعدها في محل نصب بانظر لأنها معلقة له ويجوز أن تكون ما استفهامية وذا موصولة فتكون ماذا مبتدأ وخبرا والجملة معلقة أيضا وأن تكون ماذا بمعنى الذي فتكون معمولا لأنظر وترى فعل مضارع من الرأي لا من رؤية العين ولا المتعدية الى مفعولين بل كقولك هو يرى رأي الخوار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 294 (قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) يا حرف نداء وأبت منادى مضاف الى ياء المتكلم المعوض عنها بالتاء وقد تقدم القول فيها وافيا مرارا والتاء في محل جر لأن المعوض عنه كذلك وافعل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وما اسم موصول مفعول افعل وجملة تؤمر صلة والعائد محذوف تقديره ما تؤمر به فحذف الجار كما حذف في قولك أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ويجوز أن تكون ما مصدرية أي أمرك على إضافة المصدر للمفعول والسين حرف استقبال وتجدني فعل مضارع مرفوع والنون للوقاية والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت والياء مفعول به ومن الصابرين في موضع المفعول الثاني. (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وأسلما فعل ماض والألف فاعل أي استسلما وخضعا وانقادا لأمر الله، وتله الواو عاطفة وتله فعل ماض وفاعل مستتر تقديره هو أي إبراهيم والهاء مفعول به وللجبين متعلقان بمحذوف حال وجواب لما محذوف تقديره ظهر صبرهما أو أجزلنا لهما أجرهما أو كان ما كان مما تنطق به الحال. وقال الكوفيون والأخفش الجواب وتله للجبين بزيادة الواو وقيل وناديناه بزيادة الواو أيضا والأول أرجح. (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ) الواو عاطفة وناديناه فعل وفاعل ومفعول به وأن مفسرة لأن النداء فيه معنى القول دون حروفه ويا حرف نداء وإبراهيم منادى مفرد علم مبني على الضم. (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) قد حرف تحقيق وصدقت فعل وفاعل والرؤيا مفعول به وإن واسمها وكذلك نعت لمصدر محذوف مقدم على عامله وجملة نجزي المحسنين خبر إن وجملة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 295 إنا تعليل لما منّ عليهما من الفرج بعد الشدة والرجاء بعد اليأس. (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) إن واسمها واللام المزحلقة وهو مبتدأ أو ضمير فصل والبلاء خبر هو أو خبر إن والمبين نعت للبلاء. (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) الواو عاطفة وفديناه فعل وفاعل ومفعول به والجملة معطوفة على ناديناه وبذبح جار ومجرور متعلقان بفديناه والذبح اسم ما يذبح كبشا كان أم وعلا وعظيم صفة لذبح. (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) تقدم إعراب نظير هذه الآية ومفعول تركنا محذوف وفي الآخرين صفة لهذا المحذوف أي ثناء حسنا. (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) سلام مبتدأ وعلى إبراهيم خبر وساغ الابتداء بالنكرة لما فيها من معنى الدعاء وجملة سلام على إبراهيم مقول قول محذوف أي يقال له هذا في الآخرين. (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) كذلك نعت لمصدر محذوف ونجزي المحسنين فعل مضارع وفاعل ومفعول به. (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) إن واسمها ومن عبادنا خبر والمؤمنين صفة والجملة تعليلية لا محل لها. (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) الواو حرف عطف وبشرناه فعل وفاعل ومفعول به وبإسحاق متعلقان ببشرناه ونبيا حال من إسحق ومن الصالحين صفة لنبيا أو حال ثانية، وورودها على سبيل الثناء والتقريظ لأن كل نبي لا بد أن يكون صالحا. (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) وباركنا عطف على ما تقدم وعليه متعلقان بباركنا وعلى إسحق عطف على عليه (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) من ذريتهما خبر مقدم ومحسن مبتدأ مؤخر وظالم عطف على محسن ولنفسه متعلقان بظالم ومبين صفة لظالم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 296 البلاغة: انطوت هذه الآية على فنون شتى نورد أهمها فيما يلي: 1- في قوله «فقال إني سقيم» فن الرمز والإيماء وهو أن يريد المتكلم إخفاء أمر ما في كلامه فيرمز في ضمنه رمزا إما تعمية للمخاطب وتبرئة لنفسه وتنصلا من التبعة وإما ليهتدي بواسطته الى طريق استخراج ما أخفاه في كلامه وقد كان قوم إبراهيم نجّامين فأوهمهم أنه استدل بأمارة في علم التنجيم على انه يسقم فقال: إني سقيم أي مشارف للسقم وهو الطاعون وكان أغلب الأسقام عليهم وكانوا يخافون العدوى فقال ذلك ليوجسوا خوفا ويتفرقوا عنه فهربوا منه الى عيدهم وتركوه في بيت الأصنام ليس معه أحد ففعل بالأصنام ما فعل، وقد يوهم ظاهر الكلام أنه ارتكب بذلك جريرة الكذب والأنبياء معصومون عنه والصحيح أن الكذب حرام إلا إذا عرض عنه وورّى، ولقد نوى ابراهيم أن من في عنقه الموت سقيم ومنه المثل: «كفى بالسلامة داء» وقال لبيد: كانت قناتي لا تلين لغامز ... فألا منها الإصباح والإمساء فدعوت ربي بالسلامة جاهدا ... ليصحني فإذا السلامة داء يصف لبيد قوته زمن الشباب ثم ضعف حال المشيب بتتابع الأزمان عليه وانه طلب فسحة الأجل فكانت سبب اضمحلاله. والقناة الرمح استعارها لإقامته أو قوته على طريق الاستعارة التصريحية والليونة، والغمز ترشيح للاستعارة والغمز الجس باليد، ومات رجل فالتف عليه الناس وقالوا مات وهو صحيح فقال أعرابي أصحيح من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 297 الموت في عنقه وقيل أراد بقوله إني سقيم النفس لكفركم، على أن بعض الناس قد جوزه في المكيدة في الحرب والتقية وإرضاء الزوج والصلح بين المتخاصمين والمتهاجرين وسيأتي المزيد من هذه القصة الفريدة في باب الفوائد. 2- الإيجاز: في قوله «فبشرناه بغلام حليم» إيجاز قصر وقد تقدم تعريفه، فقد انطوت هذه البشارة الموجزة على ثلاث: أن الولد ذكر، وأنه يبلغ أوان الحلم، وانه يكون حليما، وأي حلم أدل على ذلك من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح فلم يضطرب ولم يتخاذل ولم يعترض على مشيئة أبيه بل قال: «ستجدني إن شاء الله من الصابرين» ثم استسلم لذلك ولم يكن ليدور له في خلد أن الله سيفديه وسيهيئ له كبش الفداء. الفوائد: 1- من هو الذبيح؟ اختلف المفسرون في المأمور بذبحه فعن ابن عباس وابن عمر وجماعة من التابعين انه إسماعيل وحجتهم فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا ابن الذبيحين» وقال له أعرابي يا ابن الذبيحين فتبسم فسئل عن ذلك فقال: إن عبد المطلب لمّا حفر بئر زمزم نذر الله لئن سهل الله له أمرها ليذبحنّ أحد ولده فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا له: أفديناك بمائة من الإبل ففداه بمائة من الإبل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 298 والثاني إسماعيل، واحتجوا أيضا بأن الله وصفه بالصبر دون إسحق في قوله تعالى: «وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كلّ من الصابرين» وهو صبره على الذبح، وعن علي بن أبي طالب وابن مسعود والعباس وعطاء وعكرمة وغيرهم أنه إسحق وعليه أهل الكتابين اليهود والنصارى، والحجة فيه أن الله تعالى أخبر خليله ابراهيم حين هاجر الى الشام بأنه استوهبه ولدا ثم أتبع ذلك البشارة بغلام حليم ثم ذكر رؤياه بذبح ذلك الغلام المبشر به ويدل عليه كتاب يعقوب الى يوسف الذي جاء فيه: «من يعقوب إسرائيل الله بن إسحق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله» وقال الزجاج: «الله أعلم أيهما الذبيحين» وهذا مذهب ثالث وهو الوقف عن الجزم بأحد القولين وتفويض علم ذلك إلى الله تعالى ولعل هذا أولى فإن هذه المسأله ليست من العقائد التي كلفنا بمعرفتها فهيي مما ينفع علمه ولا يضر جهله والله أعلم. هذا وللمفسرين والمؤرخين كلام طويل في قصة الذبح يرجع إليها في المطولات. 2- مناقشة بين أهل السنة والمعتزلة: وهناك مناقشة يجدر بنا تلخيصها بين أهل السنة والمعتزلة لطرافتها ولعلاقتها الوثيقة بالإعراب فقد تساءل الزمخشري حول قوله تعالى: «والله خلقكم وما تعملون» فقال: «كيف يكون الشيء الواحد لله تعالى معمولا لهم، وأجاب بأن هذا كما يقال عمل النجار الباب فالمراد عمل شكله لا جوهره وكذلك الأصنام جواهرها مخلوقة لله تعالى وأشكالها وصورها معمولة لهم فإن قلت: ما منعك أن تكون ما مصدرية لا موصولة ويكون المعنى والله خلقكم وعملكم كما يقول المجبرة» وأجاب: بأن «أقرب ما يبطل به هذا السؤال بعد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 299 بطلانه بالحجج العقلية أن معنى الآية يأباه فإن الله تعالى احتج عليهم بأنه خلق العابد والمعبود فكيف يعبد المخلوق المخلوق على أن العابد فيهما هو الذي عمل صورة المعبود» قال: ولو قلت والله خلقكم وعملكم لم يكن للكلام طباق وشيء آخر وهو أن قوله وما تعملون شرحه في قوله أتعبدون ما تنحتون ولا يقال في أن ما هذه موصولة فالتفرقة بينهما تعسف وتعصب» قال: «فإن قلت اجعلها موصولة ومعناها وما تعملونه من أعمالكم وحينئذ توافق الأولى في أنها موصولة فلا يلزمني التفرقة بينهما» وأجاب «بل الإلزامان في عنقك لا يفكهما إلا الإذعان للحق وذلك أنك وان جعلتها موصولة فهي واقعة عندك على المصدر الذي هو جوهر الضم وفي ذلك فكّ للنظم وتبتير كما لو جعلتها مصدرية» . وتعقبه ابن المنير فقال: «يتعين حملها على المصدرية وذلك انهم لم يعبدوا هذه الأصنام من حيث كونها حجارة ليست مصورة فلو كان كذلك لم يتعاونوا في تصويرها ولا اختصوا بعبادتهم حجرا دون حجر فدل أنهم إنما يعبدونها باعتبار أشكالها وصورها التي هي أثر عملهم ففي الحقيقة انهم عبدوا عملهم وصلحت الحجة عليهم بأنهم مثله مع أن المعبود كسب العابد وعمله فقد ظهر أن الحجة قائمة عليهم على تقدير أن تكون ما مصدرية أوضح قيام وأبلغه فإذا ثبت ذلك فليتتبع كلامه بالإبطال أما قوله: إنها موصولة وان المراد بعملهم لها عمل أشكالها فمخالف للظاهر فإنه مفتقر الى حذف مضاف في موضع اليأس يكون تقديره: والله خلقكم وما تعملون شكله وصورته بخلاف توجيه أهل السنة فإنه غير مفتقر الى حذف البتة ثم إذا جعل المعبود نفس الجوهر فكيف يطابق توبيخهم ببيان أن المعبود من عمل العابد مع موافقته على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 300 أن جواهر الأصنام ليست من عملهم فما هو من عملهم وهو الشكل ليس معبودا لهم على هذا التأويل وما هو معبودهم وهو جوهر الصنم ليس من عملهم فلم يستقر له قرار في أن المعبود على تأويله من عمل العابد وعلى ما قررناه يتضح، واما قوله ان المطابقة تنفكّ على تأويل أهل السنة بين ما ينحتون وما يعملون فغير صحيح فإن لنا أن نحمل الأولى على المصدرية وانهم في الحقيقة انما عبدوا نحتهم لأن هذه الأصنام وهي حجارة قبل النحت لم يكونوا يعبدونها فلما عملوا فيها النحت عبدوها ففي الحقيقة ما عبدوا سوى نحتهم الذي هو عملهم فالمطابقة إذن حاصلة والإلزام على هذا أبلغ وأمتن ولو كان كما قال لقامت لهم الحجة ولقالوا كما يقول الزمخشري مكافحين لقوله والله خلقكم وما تعملون: لا ولا كرامة ولا يخلق الله ما نعمل نحن لأنا علمنا التشكيل والتصوير وهذا لم يخلقه الله، وكانوا يجدون الذريعة الى اقتحام الحجة» . 3- معنى الذهاب الى ربه: اختلف في معنى قوله «إني ذاهب الى ربي سيهدين» والأكثرون على أن هذه الآية أصل في الهجرة والعزلة أي إني مهاجر من بلد قومي ومولدي الى حيث أتمكن من عبادة ربي فإنه سيهديني سواء السبيل وفي سين الاستقبال إيذان بأن الفعل واقع لا محالة. [سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 122] وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 301 الإعراب: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) كلام مستأنف مسوق للشروع في القصة الثالثة ولك أن تجعل الواو عاطفة على ما سبق، واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ومننا فعل وفاعل وعلى موسى وهارون متعلقان بمننا أي أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من المزايا الدينية والدنيوية. (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الواو عاطفة ونجيناهما عطف على مننا وهو فعل وفاعل ومفعول به والميم والألف حرفان دالان على التثنية وقومهما مفعول معه أو معطوف على الضمير في نجيناهما ومن الكرب متعلقان بنجيناهما والعظيم صفة للكرب والمراد به استعباد فرعون إياهم وسومه إياهم سوء العذاب. (وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) عطف على ما تقدم وجمع الضمير لأنه عائد على موسى وهارون وقومهما، فكانوا الفاء عاطفة وكان واسمها وهم ضمير فصل لا محل له والغالبين خبر كانوا، وأجاز بعضهم أن يكون هم تأكيدا للواو أو بدلا منها. (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) عطف على ما تقدم أيضا والكتاب مفعول به ثان والمستبين نعت للكتاب والمراد به التوراة وما اشتملت عليه من تشريعات وأحكام. (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) عطف على ما تقدم والصراط مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض كما تقدم والمستقيم نعت للصراط. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 302 (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) تقدم إعرابها أكثر من مرة. (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) سلام مبتدأ وعلى موسى وهارون خبره (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ان واسمها وكذلك نعت لمصدر محذوف وجملة نجزي المحسنين خبر إنا وقد تقدمت لها نظائر. (إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) إن واسمها ومن عبادنا خبر والمؤمنين نعت. الفوائد: حقيقة القول في موسى: الصحيح أن موسى علم أعجمي غير مشتق وقول بعضهم انه مشتق من أوسيت الشجر أي أخذت ما عليه من الورق ضعيف ورد ابن السراج هذا كله وقال: من اشتق شيئا من لغة العجم من لغة العرب كان بمنزلة من ادعى أن الطير ولد الحوت، ومع كون موسى أعجميا اختلف في وزنه فقال سيبويه وزنه مفعل وهو قول أبي عمرو، وقال الكسائي: وزنه فعلى واحتج لسيبويه بأن زيادة الميم أولا أكثر من زيادة الألف آخرا ورد الفارسي على الكسائي بصرفه في النكرة ولو كانت فعلى لكانت ألفه للتأنيث ولا يصرف نكرة أيضا ومن جوز فعلل في الأبنية كما صار إليه الأخفش يجوز عنده كون ألفه للإلحاق فيصرف في النكرة وتقول في جمعه بالواو والنون موسون وموسين بفتح السين عند البصريين والكوفيين إن كان وزنه مفعلا وتقول على طريقة الكسائي موسون بضم السين قبل الواو وموسين بكسر السين قبل الياء، هذا كله في موسى اسم لواحد من بني آدم وأما الموسى التي يحلق بها الشعر فعربية ثم قيل إنها مشتقة من أسوت الشيء إذا أصلحته، والأصل مؤسى بالهمزة فأبدلت الهمزة واوا وقيل من أوسيت حلقت وهذا أشهر ولا أصل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 303 لواوه على هذا في الهمزة والمشهور تأنيثها وقيل هو مذكر ووزنها على الباعث فعلى فيمتنع الصرف سواء سميت بها أو لم تسم إلا إذا اثبت فعللا فيصرف في النكرة والله أعلم. [سورة الصافات (37) : الآيات 123 الى 132] وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) اللغة: (بَعْلًا) : بعل اسم صنم لهم من ذهب وبه سمي البلد أيضا مضافا الى بك اسم البلد في الأصل ثم لما عبد فيها هذا الصنم المسمى ببعل سميت بعلبك وفي تاج العروس: «قال الأزهري: هما اسمان جعلا اسما وأحدا لمدينة بالشام والنسبة إليها بعلي أو بكي على ما ذكر في عبد شمس» وعبارة الزمخشري: «أتدعون بعلا وهو علم لصنم كان لهم كمناة وهبل وقيل كان من ذهب وكان طوله عشرين ذراعا وله أربعة أوجه فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياءه فكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس وهم أهل بعلبك من بلاد الشام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 304 وبه سميت مدينتهم بعلبك وقيل البعل الرب بلغة اليمن يقال: من بعل هذه الدار أي من ربها؟» وسيأتي المزيد من هذه القصة في باب الفوائد. (تَدْعُونَ) : تنادون. (تَذَرُونَ) : تتركون وسمعنا عمن له نصاب في العربية أن كلمتي ذر ودع أمران في معنى الترك إلا أن دع أمر للمخاطب بترك الشيء قبل العلم به وذر أمر له بتركه بعد ما علمه، وروي أن بعض الأئمة سأل الإمام الرازي عن قوله تعالى: «أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين» لم لم يقل وتدعون أحسن الخالقين وهذا أقرب من الفصاحة للمجانسة بينهما فقال الإمام لأنهم اتخذوا الأصنام آلهة وتركوا الله بعد ما علموا أن الله ربهم ورب آبائهم الأولين استكبارا فلذلك قيل لهم: وتذرون ولم يقل وتدعون، هذا وقد أمات العرب ماضي دع وذر ومصدرهما ولكن روي في الحديث: «لتنتهين أقوام من ودعهم الجمعات» أي عن تركهم الجمعات. وقال في القاموس: ودعه أي اتركه أصله ودع كوضع وقد أميت ماضيه وإنما يقال في ماضيه تركه وجاء في الشعر ودعه وهو مودوع وقرئ شاذا: «ما ودعك ربك وهي قراءته صلى الله عليه وسلم» وقال الجوهري: ولا يقال وادع وينافيه وروده في الشعر والقراءة به إلا أن يحمل قولهم وقد أميت ماضيه على قلة الاستعمال فهو شاذ استعمالا صحيح قياسا. (إِلْ ياسِينَ) : قال الزمخشري: «قرىء على الياسين وادريسين وادارسين وادريسين على أنها لغات في الياس وإدريس ولعل لزيادة الياء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 305 والنون في السريانية معنى» وقيل المراد بياسين هذا الياس المتقدم فعلى هذا هو مفرد مجرور بالفتحة لأنه غير منصرف للعلمية والعجمة وقيل هو ومن آمن معه فجمعوا معه تغليبا كقولهم للمهلب المهلبون فعلى هذا هو مجرور بالياء لأنه جمع مذكر سالم. الإعراب: (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) عطف أو استئناف لذكر القصة الرابعة، وان واسمها والياس علم أعجمي وستأتي ترجمته في باب الفوائد واللام المزحلقة والمرسلين خبر. (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بفعل محذوف تقديره اذكر، واختار بعضهم تعليقه بالمرسلين وجملة قال في محل جر بإضافة الظرف إليها ولقومه جار ومجرور متعلقان بقال والهمزة للاستفهام ولا نافية وتتقون فعل مضارع مرفوع وفاعل والجملة مقول القول. (أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) الهمزة للاستفهام الانكاري وتدعون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وبعلا مفعول به والواو عاطفة وتذرون عطف على تدعون ويجوز أن تكون حالية والجملة في محل نصب على الحال وأحسن الخالقين مفعول به. (اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) لفظ الجلالة بدل من أحسن الخالقين فهو منصوب وربكم بدل من الله ورب آبائكم الأولين عطف فالكلمات الثلاث منصوبة وقرئ بالرفع على أنها أخبار لمبتدأ محذوف أي هو أو الله مبتدأ وربكم خبره ورب آبائكم الأولين عطف على ربكم. (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) الفاء عاطفة وكذبوه فعل وفاعل ومفعول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 306 به والفاء في فإنهم الفصيحة وان واسمها واللام المزحلقة ومحضرون خبر إن. (إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) إلا أداة استثناء وعباد الله استثناء متصل من فاعل فكذبوه والمخلصين نعت لعباد الله. (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) تقدم إعرابها قريبا فجدد به عهدا. (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) تقدم إعرابها. (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) تقدم اعرابها أيضا. الفوائد: في قصة الياس النبي طرافة ومتعة وتصوير فني ليكون وسيلة للتأثير الوجداني فهي تخاطب حاسة الوجدان الدينية بلغة الجمال الفنية لأن القصة في القرآن ليست عملا فنيا مستقلا في موضوعه وطريقة أدائه وعرضه وسرد حوادثه، وقبل أن نبدأ بتلخيص القصة كما روتها السير نبدأ بذكر لمحة عن الياس النبي فقد ذكر أهل التفسير أنه نبي من أنبياء بني إسرائيل قال محمد بن اسحق: «هو الياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران والله أعلم» وجاء في المنجد للآداب والعلوم انه إيليا النبي من أنبياء بني إسرائيل حارب العبادات الوثنية التي أدخلتها في إسرائيل ايزابيل زوجة آحاب فنفي الى صرفت حيث رد الى الحياة ابن امرأة أرملة وبإذن الله أهطل المطر على الأرض بعد انقطاعه عنها ثلاث سنوات قرب جبل الكرمل وخذل كهنة بعل وعشروت وأمر بقتلهم فلحقته ايزابل بوابل غضبها فهرب الى صحراء سيناء ثم عاد فتنبأ لآحاب بانتقام الله عليه لأنه اغتال نابوت وأخذ كرمه رفع الى السماء على مركبة نارية خلفه بالنبوة تلميذه اليشع. وفيما يلي ما ذكره محمد بن اسحق وعلماء السير والأخبار ملخصا: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 307 لما قبض الله حزقيل النبي عظمت الأحداث في بني إسرائيل وظهر فيهم الفساد ونصبوا الأصنام فبعث الله إليهم الياس نبيا وكان يوشع لما فتح الشام قسمها على نبي إسرائيل وان سبطا منهم حصل في قسمته بعلبك ونواحيها وعليهم ملك يومئذ اسمه ارحب وكان قد أضل قومه وكان له صنم من ذهب اسمه بعل فغضب الملك على الياس وهمّ بتعذيبه وقتله فلما أحس الياس بالشر خرج هاربا ولاذ بشواهق الجبال وصعيد المغاور وظل سبع سنين هائما يفترش الأرض ويتوسد الحجارة ويأكل من نبات الأرض وثمار الشجر وكانوا قد وضعوا عليه العيون فلما طال عليه الأمر وضاق ذرعا دعا ربه فقيل انظر يوم كذا وكذا فاخرج الى موضع كذا فما جاءك من شيء فاركبه فخرج الياس ومعه اليسع حتى إذا كان بالموضع الذي أمر به إذ أقبل فرس من نار فوثب عليه فانطلق به الفرس فناداه يا الياس ما تأمرني؟ فقذف إليه الياس بكسائه من الجو فكان ذلك علامة استخلافه إلى آخر تلك القصة البديعة التي تصور الجهاد في سبيل العقيدة والثبات على المبدأ. [سورة الصافات (37) : الآيات 133 الى 138] وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) الإعراب: (وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وهذه هي القصة الخامسة، والواو استئنافية أو عاطفة وإن واسمها واللام المزحلقة ومن المرسلين خبرها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 308 (إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) الظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر وجملة نجيناه من الفعل والفاعل والمفعول في محل جر بإضافة الظرف إليها وأهله مفعول معه أو عطف على الهاء وأجمعين تأكيد. (إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) إلا أداة استثناء وعجوزا مستثنى وفي الغابرين صفة. (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ودمرنا الآخرين فعل ماض وفاعل ومفعول به وهم كفار قومه. (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ) الواو عاطفة أو حالية وان واسمها واللام المزحلقة وتمرون فعل مضارع وفاعل وعليهم متعلقان بتمرون ومصبحين حال وهي تامة. (وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) الواو عاطفة وبالليل عطف على مصبحين فهو حال أخرى والحال هنا محمول على المكان والباء للملابسة والهمزة داخلة على مقدر عطف عليه قوله فلا تعقلون والتقدير تشاهدون ذلك فلا تعقلون أي تعتبرون به. [سورة الصافات (37) : الآيات 139 الى 156] وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 309 اللغة: (أَبَقَ) : هرب من قومه بغير إذن ربه وهو للعبد خاصة إذ يهرب من سيده ولكن أطلق على يونس على طريق الاستعارة التصريحية التبعية أو على طريق المجاز المرسل والعلاقة هي استعمال المقيد في المطلق وفي المصباح: «أبق العبد أبقا من بابي تعب وقتل في لغة والأكثر من باب ضرب إذا هرب من سيده من غير خوف ولا كد والإباق بالكسر اسم منه فهو آبق والجمع أبّاق مثل كافر وكفار» . (الْمُدْحَضِينَ) : المغلوبين بالقرعة، وساهم أي قارع وغالب أهل السفينة بالقرعة، وستأتي قصة يونس مختصرة في باب الفوائد. (مُلِيمٌ) : داخل في الملامة يقال: ألام فلان إذا فعل ما يلام عليه وفي المصباح: «لامه لوما من باب قال: عذله فهو ملوم على النقص والفاعل لائم والجمع لوم مثل راكع وركع وألامه بالألف لغة فهو ملام والفاعل مليم والاسم الملامة والجمع ملاوم واللائمة مثل الملامة وألام الرجل إذا فعل ما يستحق عليه اللوم وتلوّم تلوما: تمكث. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 310 (العراء) : المكان الخالي لا شجر فيه ولا شيء يغطيه وهو مشتق من العري وهو عدم السترة شبهت الأرض الجرداء بذلك لعدم استتارها بشيء العرا بالقصر الناحية ومنه اعتراه أي قصد عراه وعبارة القاموس: «العراء الفضاء لا يستتر فيه بشيء وجمعه إعراء وأعرى سار فيه وأقام» . (يَقْطِينٍ) : قال في القاموس: «ما لا ساق له من النبات ونحوه وبهاء: القرعة الرطبة» وعبارة الزمخشري: «واليقطين كل ما ينسدح على وجه الأرض ولا يقوم على ساق كشجرة البطيخ والقثاء والحنظل وهو يفعيل من قطن بالمكان إذا أقام به وقيل هو الدباء» وانما خص القرع لأنه يجمع بين برد الظل ولين الملمس وكبر الورق وان الذباب لا يقربه. الإعراب: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) استئناف أو عطف مسوق لسرد القصة السادسة وهي قصة يونس عليه السلام وسأتي خلاصة وافية عنها في باب الفوائد، وان واسمها واللام المزحلقة ومن المرسلين خبر إن. (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) إذ ظرف للمرسلين أي هو من المرسلين حتى في هذه الحالة وجملة أبق في محل جر باضافة الظرف إليها والى الفلك جار ومجرور متعلقان بأبق والمشحون نعت. (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) الفاء عاطفة وساهم فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو فكان عطف على فساهم واسمها مستتر تقديره هو ومن المدحضين خبر كان. (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) الفاء عاطفة على محذوف يدرك من سياق الكلام أي فألقوه في البحر فالتقمه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 311 الحوت، وقيل فألقى نفسه في الماء. والتقمه فعل ومفعول به مقدم والحوت مبتدأ مؤخر والواو للحال وهو مبتدأ ومليم خبر والجملة في محل نصب على الحال والمعنى أنه أتى ما يستحق عليه اللوم. (فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) الفاء عاطفة ولولا حرف امتناع لوجود وان وما في حيزها مبتدأ خبره محذوف وجوبا وأن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو ومن المسبحين خبرها. (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) اللام واقعة في جواب لولا ولبث فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وفي بطنه متعلقان بلبث أو بمحذوف حال أي مستقر والى يوم متعلقان بلبث وجملة يبعثون مضاف إليها الظرف ويبعثون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) الفاء عاطفة على محذوف أي أمرنا الحوت بنبذه فنبذناه، ونبذناه فعل وفاعل ومفعول به وبالعراء متعلقان بنبذناه والواو حالية وهو مبتدأ وسقيم خبر أي معتل مما حلّ به. (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) وأنبتنا عطف على فنبذناه وعليه متعلقان بأنبتنا وشجرة مفعول به ومن يقطين نعت لشجرة. (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) الواو حرف عطف وأرسلنا فعل وفاعل ومفعول به والى مائة ألف متعلقان بأرسلناه وأو حرف عطف ويزيدون فعل مضارع مرفوع وسيأتي القول مفصلا في «أو» في باب الفوائد. (فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) الفاء عاطفة وآمنوا فعل ماض مبني على الضم والواو فاعل والفاء عاطفة ومتعناهم فعل وفاعل ومفعول به والى حين متعلقان بمتعناهم. (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) الفاء حرف عطف عطفت هذه الجملة على قوله فاستفتهم وان بعد المدى قال البيضاوي: «فاستفتهم: معطوف على مثله في أول السورة فأمر أولا باستفتائهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 312 عن وجه انكار البعث وساق الكلام في تقديره جارا لما يلائمه من القصص موصولا بعضها ببعض ثم أمر باستفتائهم عن وجه القسمة حيث جعلوا لله البنات ولأنفسهم البنين في قولهم الملائكة بنات الله» وقد تقدم أن الفاء الأولى هي الفصيحة لأنها واقعة في جواب شرط مقدر وقد ثار نقاش حول هذا العطف البعيد سنفصل فيه القول في باب الفوائد. واستفتهم فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به والهمزة للاستفهام الإنكاري وسيأتي معناه في باب البلاغة ولربك خبر مقدم والبنات مبتدأ مؤخر والواو حرف عطف ولهم خبر مقدم والبنون مبتدأ مؤخر. (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) أم حرف عطف معادلة للهمزة كأن المستفهم يدعي ثبوت أحد الأمرين ويطلب تعيينه منهم قائلا: أي هذين الأمرين تدعونه. وخلقنا فعل وفاعل والملائكة مفعول به وإناثا حال والواو للحال وهم مبتدأ وشاهدون خبر والجملة نصب على الحال. (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ) كلام مستأنف مسوق لإبطال مذهبهم الفاسد ببيان انه افك صريح لا دليل يدعمه وألا أداة تنبيه وان واسمها ومن إفكهم متعلقان بيقولون واللام المزحلقة وجملة يقولون خبر إنهم. (وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ولد الله فعل وفاعل والجملة مقول قولهم والواو للحال وان واسمها واللام المزحلقة وكاذبون خبرها. (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) الهمزة المفتوحة للاستفهام الانكاري استغنى بها عن همزة الوصل في التوصل للنطق بالساكن، واصطفى فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو يعود على الله والبنات مفعول به وعلى البنين متعلقان باصطفى بعد تضمينه معنى أفضل. (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) ما اسم استفهام ولكم خبر أي ما ثبت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 313 واستقر لكم على جهة الإنكار والجملة مستأنفة وكيف اسم استفهام في محل نصب على الحال أو المفعولية المطلقة وتحكمون فعل مضارع وفاعل والجملة مستأنفة أيضا فليس لإحدى الجملتين تعلق بالأخرى. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري أيضا والفاء عاطفة على محذوف مفهوم من السياق أي أعميتم عن الحقائق وضللتم عن الشواهد، ولا نافية وتذكرون فعل مضارع مرفوع وفاعل وأصله تتذكرون ومفعول تذكرون محذوف تقديره أنه منزه عن الولد. (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) أم حرف عطف بمعنى بل فهو للاضراب الانتقالي ولكم خبر مقدم وسلطان مبتدأ مؤخر ومبين نعت لسلطان. البلاغة: في هذه الآيات يبدو الأسلوب المكي واضح الدلالة، ظاهر المفهوم، مرهف العاطفة فقد تكرر فيه الاستفهام الانكاري، ناعيا عليهم جهلهم المفرط في الغباء، القائم على ثلاث جهالات: أولاها التجسيم لأن الولادة من خصائص الأجسام وثانيتها تفضيل أنفسهم على ربهم حيث جعلوا أوضع الجنسين في اصطلاحهم ومفهومهم له وأرفعهما لهم وتلك جهالة ما بعدها جهالة وثالثتها أنهم استهانوا بأكرم خلق الله وأقربهم إليه حيث أنثوهم وقد كانوا يتعايرون بوصف الأنوثة ويعتبرونه من دلائل المهانة وسمات الخسة. الفوائد: 1- اختلف في «أو» هذه اختلافا كثيرا فقال الفراء: معناها بل يزيدون فتكون عنده للإضراب ويكون الإخبار الأول بحسب ما يظهر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 314 للناس إذا رأوهم والثاني إضراب لما في الواقع ونفس الأمر فالمعنى أرسلناه الى جماعة يحزرهم الناس مائة الف وهم أزيد من ذلك وفيه نكتة جليلة وهي الانتقال من الأدنى الى الأعلى لما له من الوقع في النفس ولفت النظر إليه بخلاف ما إذا أخبر بالأعلى من أول الأمر، وقال بعض الكوفيين هي بمعنى الواو، أما البصريون فلهم فيها أقوال: 1- قيل هي للإبهام. 2- وقيل هي للتخيير أي إذا رآهم الرائي تخير بين أن يقول هم مائة ألف أو يقول هم أكثر، قال ابن هشام: نقل ابن الشجري هذا القول عن سيبويه وفي ثبوته عنه نظر ولا يصح التخيير بين شيئين الواقع أحدهما. 3- وقيل هي للشك مصروفا الى الرائي. 4- وقيل إنها للإباحة أي لك أن تحزرهم وتقدر عددهم كيف تشاء. 5- وقيل هي للشك بمعنى أن أصدق الحادسين يشك في عددهم. وأحسن ما قرأناه قول الزمخشري: في مرآى الناظر أي إذا رآها الرائي قال هي مائة ألف أو أكثر والغرض الوصف بالكثرة. 2- العطف البعيد: قوله «فاستفتهم» الآية معطوف على ما قبله وهو قوله «فاستفتهم أهم أشد خلقا» وقد منع النحاة الفصل بجملة فما بالك بجمل بل بسورة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 315 ولكن ما استقبحه النحاة وارد في عطف المفردات وأما الجمل فلاستقلالها يغتفر فيها وهذا الكلام لتلاحمه وتعانقه صار بمثابة الجملة الواحدة فانتفى عنه البعد. 3- خلاصة قصة يونس: غاضب ذو النون قومه لما لم ينزل بساحتهم العذاب الذي وعدهم به فذهب مغاضبا وكان من حقه أن لا يذهب فقد كان ضيق العطن قليل الذرع ولما ركب السفينة وقفت في لج البحر فقال ملاحوها هنا عبد أبق من سيده تظهره القرعة وكان من عادتهم أن السفينة إذا كان منها آبق أو مذنب لم تسر وكان ذلك بدجلة لأنه أرسل الى أهل نينوى من أرض الموصل فلما ساهم أي قارع أهل السفينة كان من المغلوبين بالقرعة فألقوه في البحر فابتلعه الحوت إلى آخر تلك القصة البديعة. [سورة الصافات (37) : الآيات 157 الى 164] فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) اللغة: (الْجِنَّةِ) : بكسر الجيم الملائكة سموا بذلك لاجتنانهم عن الأبصار وفي الأساس: «جنة: ستره فاجتنّ واستجن بجنة: استتر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 316 بها واجتن الولد في البطن وأجنّته الحامل، وحبذا مجن ابن أبي ربيعة» . الإعراب: (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الفاء الفصيحة وأتوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وبكتابكم متعلقان به وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص والتاء اسمها وصادقين خبرها وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله. (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق للانحاء عليهم باللائمة واستركاك عقولهم، بأن من نسبوهم إلى الله تعالى يعلمون مصائرهم المحزنة. وجعلوا فعل وفاعل والظرف متعلق بمحذوف مفعول به ثان لجعلوا وبين الجنة عطف ونسبا مفعول جعلوا الأول فهي حكاية يجب أن تذيع وتشيع لتكون شاهد على حقيقة خبالهم. (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) الواو حالية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وعلمت الجنة فعل وفاعل وإن واسمها واللام المزحلقة ومحضرون خبرها وإن وما في حيزها سدت مسد مفعولي علمت وإنما كسرت همزتها لدخول اللام في خبرها والضمير في انهم لمحضرون للكفرة والمعنى انهم يقولون ما يقولون في الملائكة والحال أن الملائكة عالمون انهم في ذلك القول الهراء كاذبون. (سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) سبحان الله مفعول مطلق لفعل محذوف وعما متعلقان بسبحان وجملة يصفون صلة والعائد محذوف والجملة معترضة وهي مسوقة لحكاية تنزيه الملائكة الله سبحانه عما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 317 وصفه به المشركون. (إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) إلا أداة استثناء وعباد الله المخلصين استثناء منقطع من المحضرين كأنهم ليسوا منهم والمستثنى منه إما فاعل جعلوا وإما فاعل يصفون وإما ضمير محضرون أي لكن عباد الله المخلصين ناجون ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا واختاره أبو البقاء وليس ببعيد. (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ، ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) الفاء تعليلية وان واسمها والواو واو المعية وما موصول مفعول معه وقد سدت مسد خبر إن أي انكم وآلهتكم قرناء لا تزالون تعبدونها على حد قولك كل رجل وصنيعته أي مقترنان، وسيأتي تفصيل هذه القاعدة في باب الفوائد. وما نافية حجازية وأنتم اسمها وعليه متعلقان بفاتنين والباء حرف جر زائد وفاتنين خبر ما ويجوز أن تكون ما معطوفة على اسم ان وجملة ما أنتم خبر إن والمعنى على هذا انكم ومعبودكم ما أنتم ولا هو فغلب المخاطب، يقال فتن فلان على فلان امرأته أي أفسدها عليه ورجح الزمخشري والبيضاوي هذا الوجه. (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) إلا أداة حصر ومن مفعول فاتنين والاستثناء مفرغ ويجوز أن تقدر مفعولا لفاتنين أي أحد فتكون إلا أداة استثناء ومن مستثنى من المفعول المحذوف وهو مبتدأ وصال خبر مرفوع بالضمة المقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين والجحيم مضاف إليه وقد أفرد حملا على لفظ من كما أفرد هو والجملة صلة الموصول. (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) الواو استئنافية وما نافية ومنا خبر مقدم والمبتدأ محذوف أقيمت صفته مقامه والتقدير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 318 وما منا أحد إلا له مقام معلوم كقوله: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني أي أنا ابن رجل جلا الأمور. ويجوز أن تكون منا صفة لمحذوف هو المبتدأ والخبر جملة إلا له مقام معلوم وإلا أداة حصر وله خبر مقدم ومقام مبتدأ مؤخر ومعلوم صفة وعبارة القرطبي: «وأنزل الله تعالى حكاية عن قول الملائكة: وما منا إلا له مقام معلوم والتقدير عند الكوفيين وما منا إلا من له مقام معلوم فحذف الموصول وهو من وتقديره عند البصريين، وما منا ملك إلا له مقام معلوم أي مكان معلوم في العبادة» . الفوائد: يجب حذف الخبر إذا كان المبتدأ معطوفا عليه اسم بواو هي نص في المعية نحو كل رجل وضيعته أي حرفته سميت بذلك لأن صاحبها يضيع فيها وكل صانع وما صنع فكل مبتدأ وصانع مضاف إليه وما صنع معطوف على المبتدأ والخبر محذوف وجوبا أي مقترنان وإنما حذف لدلالة الواو وما بعدها على المصاحبة والاقتران، أما إذا لم يكن هناك نص على المعية فيجوز حذفه ويجوز ذكره ومن الثاني قول الفرزدق: تمنوا لي الموت الذي يشعب الفتى ... وكل امرئ والموت يلتقيان فآثر ذكر الخبر وهو جملة يلتقيان. ويشعب: يفرق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 319 [سورة الصافات (37) : الآيات 165 الى 173] وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) الإعراب: (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة ونحن مبتدأ أو ضمير فصل والصافون خبر نحن والجملة الاسمية خبر إنا أو الصافون خبر انا أي نقف صفا واحدا في الصلاة أو في ساحة الجهاد ومفعول الصافون محذوف أي نصفّ أقدامنا. (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) عطف على الآية السابقة. (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) الواو عاطفة وإن مخففة من الثقيلة مهملة، أو اسمها ضمير الشأن وجملة كانوا خبرها إن أعملت، وكان واسمها واللام الفارقة وجملة يقولون خبر كان وجملة لو وما في حيزها مقول قولهم ولو شرطية وان وما في حيزها فاعل لفعل محذوف أي ثبت وان حرف مشبه بالفعل والظرف متعلق بمحذوف خبر أن المقدم وذكرا اسمها المؤخر ومن الأولين نعت لذكرا. (لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) اللام واقعة في جواب لو وكان واسمها وعباد الله خبرها والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والمخلصين نعت لعباد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 320 الله. (فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) الفاء الفصيحة وكفروا فعل ماض وفاعل والفاء عاطفة وسوف حرف استقبال ويعلمون فعل مضارع مرفوع وفاعل. (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) كلام مستأنف مسوق لتقرير الوعيد وتصويره بالقسم لتأكيده والعناية به واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وسبقت كلمتنا فعل وفاعل ولعبادنا متعلقان بسبقت والمرسلين نعت لعبادنا. (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) إن واسمها واللام المزحلقة وهم مبتدأ أو ضمير فصل والمنصورون خبر هم والجملة خبر إنهم أو خبر إنهم وضمير الفصل لا محل له. َ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) عطف على نظيرتها الآنفة الذكر. الفوائد: عودة الى ضمير الفصل: تقدم في هذا الكتاب بحث ضمير الفصل ونضيف هنا الى ما تقدم ان تسمينه ضميرا مجاز لمشابهة صورته، وقد اتفق جمهور البصريين على انه ملغى لا محل له لكنهم اختلفوا مع ذلك في كونه اسما أو حرفا فقال جمهورهم هو اسم ألغي كما ألغيت أسماء الأفعال وأل الموصولة، وقال بعضهم هو حرف وذلك لا ستنكارهم خلو الاسم عن الإعراب لفظا ومحلا ولأن الغرض به دفع التباس الخبر الذي بعده بالوصف وهذا هو معنى الحرف يعني إفادة المعنى في غيره فلذا صار حرفا وانخلع عنه لباس الاسمية نظير كاف الخطاب فإنه لما تجرد عن معنى الاسمية ودخل في معنى الحرف وهو إفادته في غيره الجزء: 8 ¦ الصفحة: 321 وقيل له محل من الإعراب وهو مذهب الكوفيين ويقولون هو توكيد لما قبله فإن ضمير الرفع قد يؤكد به المنصوب والمجرور نحو ضربتك أنت ومررت بك أنت. [سورة الصافات (37) : الآيات 174 الى 182] فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182) اللغة: (بِساحَتِهِمْ) : بفنائهم، قال الفراء: العرب تكتفي بذكر الساحة عن القوم، وأصل الساحة الفناء الخالي من الأبنية وجمعها سوح فألفها منقلبة عن واو فتصغر سويحة والجمع والتصغير يردان الأشياء الى أصولها. وقال الراغب: إنها من ذوات الياء حيث عدها في مادة سيح ثم قال الراغب: «الساحة المكان الواسع ومنه ساحة الدار والسائح الماء الجاري في الساحة وساح فلان في الأرض مر مر السائح ورجل سائح وسياح» وعلى هذا يكون لها مادتان ولكن كلام الراغب فيه قصور. وفي الأساس ذكرها في مادة سوح ونص عبارته: «عمر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 322 الله تعالى بك ساحتك، وتقول احمرّ اللّوح، واغبرّت السوح إذا وقع الجدب وقال أبو ذؤيب: وكان سيان أن لا يسرحوا نعما ... أو يسرحوه بها واغبرت السوح ولم يذكر في الأساس الساحة في مادة سيح فهما مادتان. وفي القاموس أورد الساحة من بنات الواو فقال: «الساحة الناحية وفضاء بين دور الحي والجمع ساح وسوح وساحات» ولم يذكرها في مادة ساح يسيح سيحا وسيحانا إلخ. الإعراب: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) الفاء الفصيحة أي إن تبينت حقيقة أمرهم فتول عنهم وتول فعل أمر مبني على حذف حرف العلة أي أعرض عنهم والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت وعنهم متعلقان بتول وحتى حرف غاية وجر وحين مجرور بحتى والجار والمجرور متعلقان بتول. (وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) الواو عاطفة وأبصرهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به أي إذا نزل بساحتهم العذاب والفاء رابطة لجواب الطلب وسوف حرف استقبال ويبصرون فعل مضارع وفاعل والمفعول به محذوف أي ما يحيق بهم جزاء كفرهم. (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) الهمزة للاستفهام ومعنى الاستفهام هنا التهديد والوعيد والفاء عاطفة على محذوف يقدر بحسب المقام وبعذابنا متعلقان بيستعجلون ويستعجلون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 323 (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط ونزل فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو أي العذاب وبساحتهم متعلقان بنزل والفاء رابطة لجواب إذا وساء فعل جامد لإنشاء الذم وصباح المنذرين فاعل والمخصوص بالذم محذوف تقديره صباحهم وقيل إن ضمير ساء يعود على المخصوص وان التمييز محذوف وان المذكور مخصوص لا فاعل وسيأتي المزيد من هذا البحث. (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) عطف على ما تقدم وقد سبق اعراب هذه الآية المكررة. (وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) تقدم اعرابها وحذف مفعول أبصر اختصارا لدلالة الأول عليه. (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) سبحان ربك مفعول مطلق لفعل محذوف ورب العزة بدل وعما متعلقان بسبحان وجملة يصفون صلة ما. (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) سلام مبتدأ ساغ الابتداء به لما فيه من معنى الدعاء وعلى المرسلين خبر. (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الحمد مبتدأ ولله خبر ورب العالمين بدل أو صفة. البلاغة: في قوله «فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين» استعارة تمثيلية فقد شبه العذاب النازل بهم بعد ما أنذروا به فلم يبالوا الانذار، وأصموا آذانهم عنه بجيش أنذر بهجومه قومه بعض نصاحهم فلم يكترثوا لإنذاره ولم يتخذوا الأهبة والاحتياط وما عسى أن ينجيهم من هول الكارثة ويمكنهم من تفادي ويلاتها الطارئة وإنما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 324 خصص الصباح لأنه كان من عادة مساعيرهم وكماتهم الإغارة فسميت الغارة صباحا لأنها تقع فيه عادة ولهذا استفصح العرب هذه الآية. الفوائد: كل فعل ثلاثي متصرف تام مثبت قابل للتفاوت مبني للمعلوم وليس الوصف منه على وزن أفعل فعلاء صالح للتعجب منه فإنه يجوز استعماله على فعل بضم العين إما بالأصالة كظرف وشرف أو بالتحويل بأن يكون في الأصل مفتوح العين كضرب وقتل أو مكسورها كعلم وفهم بضم العين فيهن وإنما حولت لتلحق بأفعال الغرائز ولتصير قاصرة وجامدة ثم يجري حينئذ مجرى نعم وبئس في إفادة المدح والذم وفي حكم الفاعل وحكم المخصوص تقول في المدح فهم الرجل زيد وفهم رجلا زيد وفي الذم خبث الرجل عمرو وخبث رجلا عمرو ومن أمثلته ساء فإنه في الأصل سوأ بالفتح من السوء ضد السرور من ساءه الأمر يسوءه إذا أحزنه فهو متعد متصرّف فحول الى فعل بالضم فصار قاصرا ثم ضمن معنى بئس فصار جامدا قاصرا محكوما لفاعله بما يحكم لفاعل بئس تقول ساء الرجل زيد وفي التنزيل «وساءت مرتفقا» ومما يحتمل الفاعلية والتميز «ساء ما يحكمون» وقد تقدم بحثه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 325 (38) سورة ص مكية وآياتها ثمان وثمانون [سورة ص (38) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) الإعراب: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) ص تقدم القول فيها مفصلا وسيرد مزيدا منه في باب الفوائد. والواو حرف قسم والقرآن مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف وجواب القسم محذوف على الأرجح تقديره إنه لمعجز أو لقد جاءكم الحق وسيرد المزيد من إعراب هذه الآية وما قيل فيها وذي الذكر نعت للقرآن ومعنى الذكر البيان أو الشرف أو الموعظة والذكرى وكلها صحيح. (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) بل حرف عطف وإضراب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 326 انتقالي والذين مبتدأ وكفروا صلته وفي عزة خبره وشقاق عطف على عزة أي تكبر وتجبر وشقاق أي امتناع عن قبول الحق. (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) كم خبرية في محل نصب مفعول مقدم لأهلكنا وأهلكنا فعل وفاعل ومن قبلهم متعلقان بأهلكنا ومن قرن تمييز كم الخبرية والمراد بالقرن الأمة، فنادوا الفاء عاطفة ونادوا فعل ماض والواو فاعل والواو حالية ولات حرف مشبه بليس وسيأتي القول عنها وعن التاء المتصلة بها مفصلا في باب الفوائد واسمها محذوف تقديره الحين وحين مناص خبرها أي نجاة. (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) الواو عاطفة وعجبوا فعل ماض والواو فاعل وأن مصدرية وهي مع ما في حيزها مصدر منصوب بنزع الخافض أي عجبوا من مجيء منذر ومنذر فاعل مؤخر ومنهم نعت لمنذر والواو حرف عطف وقال الكافرون فعل وفاعل وفيه وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا للكفر عليهم وامعانا في الغضب عليهم وإشعارا بأن كفرهم حداهم الى هذا القول وهذا مبتدأ وساحر خبر وكذاب خبر ثان أو نعت لساحر. (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) الهمزة للاستفهام التعجبي أي تعجبوا من هذا الحصر لأنهم قاسوا الغائب على الشاهد جهلا منهم وارتطاما بسوء الغفلة وجعل فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو والآلهة مفعول به أول وإلها مفعول به ثان وواحدا صفة وإن واسمها واللام المزحلقة وشيء خبرها وعجاب صفة لشيء. قال الجوهري: العجيب الأمر الذي يتعجب منه وكذلك العجاب بالضم والعجاب بالتشديد أكثر منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 327 الفوائد: 1- جواب القسم المحذوف وتقديره: تقدم القول مفصلا في فواتح السور ورجحنا أنها خبر لمبتدأ محذوف أي هذه صاد. وأما جواب القسم فقد اختلفوا فيه كثيرا وأصح ما رأيناه هو أنه محذوف وقد اقتصر عليه الزمخشري والبيضاوي، قال الحوفي تقديره: لقد جاءكم الحق وقال ابن عطية تقديره: ما الأمر كما تزعمون وقال الزمخشري تقديره: إنه لمعجز. 2- القول في لات: لات: هي إحدى الحروف العاملات عمل ليس وهي ما ولا ولات وإن لشبهها بها في النفي، وأما لات فأصلها لا النافية ثم زيدت عليها التاء لتأنيث اللفظ أو للمبالغة في معناه وخصت بنفي الأحيان، وزيادة التاء هنا أحسن منها في ثمت وربت لأن لا محمولة على ليس وليس تتصل بها التاء ومن ثم لم تتصل بلا المحمولة على إن وهي كلمتان عند الجمهور: لا النافية وتاء التأنيث وحركت لالتقاء الساكنين، وقال أبو عبيدة وابن الطراوة كلمة وبعض كلمة وذلك انها لا النافية والتاء الزائدة في أول الحين وقيل كلمة واحدة وهي فعل ماض وعلى هذا هل هي ماضي يليت بمعنى ينقص استعملت للنفي أو هي ليس بكسر الياء قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وأبدلت السين تاء قولا حكاهما في المغني وعملها إجماع من العرب، وله شرطان: كون معموليها اسمي زمان وحذف أحدهما والغالب في المحذوف هو الاسم نحو ولات حين مناص أي ليس الحين حين فرار، ومن القليل قراءة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 328 بعضهم برفع الحين على أنه اسمها وخبرها محذوف أي ليس حين فرار حينا لهم وقرىء أيضا ولات حين مناص بخفض حين فزعم الفراء أن لات تستعمل حرفا جارا لاسم الزمان خاصة كما أن مذ ومنذ كذلك. وقد جرى المتنبي على هذا القول بقوله: لقد تصبرت حتى لات مصطبر ... فالآن اقحم حتى لات مقتحم قال أبو البقاء: والجر به شاذ وقد جر به العرب وأنشدوا: طلبوا صلحنا ولات أوان ... فأجبنا أن لات حين بقاء [سورة ص (38) : الآيات 6 الى 11] وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 329 الإعراب: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) الواو عاطفة على محذوف سيأتي تقديره في باب الفوائد ويجوز أن تكون استئنافية والكلام مستأنف مسوق لتقرير تآمرهم بعد انصرافهم من مجلس اجتماعهم عند أبي طالب. وانطلق الملا فعل وفاعل ومنهم حال وأن مصدرية وهي مع ما بعدها في تأويل مصدر مقول قول محذوف أي انطلقوا بقولهم أن امشوا ورجح الزمخشري أن تكون مفسرة لانطلقوا لأنه متضمن معنى القول، قال الزمخشري: «لأن المنطلقين من مجلس التقاول لا بد لهم أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم» وعلى كل هي في موضع نصب على الحال أيضا والمعنى انطلقوا حال كونهم قائلين بعضهم لبعض ويجوز أن تكون مصدرية منصوبة هي ومدخولها بنزع الخافض أي بأن امشوا، واصبروا عطف على امشوا وعلى آلهتكم متعلقان باصبروا على حذف مضاف أي على عبادتها أي ليس لكم يدان في مغالبة محمد فما لكم إلا الصبر. وليس المراد بالانطلاق هنا المشي بل انطلاق ألسنتهم بهذا الكلام، كما انه ليس المراد المشي المتعارف بل الاستمرار على الشيء. (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) الجملة تعليل للأمر بالصبر وان واسمها واللام المزحلقة وشيء خبرها وجملة يراد صفة لشيء. (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) ما نافية وسمعنا فعل وفاعل وبهذا متعلقان بسمعنا والإشارة الى التوحيد الذي يدعو اليه محمد وفي الملة حال من هذا والآخرة نعت والمراد بها ملة عيسى عليه السلام وإن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر واختلاق خبر هذا أي افتعال ومحض كذب. (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) الهمزة للاستفهام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 330 الإنكاري وأنزل فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان بأنزل والذكر نائب فاعل ومن بيننا حال فهم أنكروا أن يتميز محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم وقد كرروا هذا المعنى كثيرا فقالوا: «لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم» قالوا ذلك ورددوه مرارا تنفيسا عن الغيظ الذي تجيش به نفوسهم والموجدة التي تعتلج في ضمائرهم. (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) بل إضراب انتقالي عن مقدر فكأنه قال: انكارهم للذكر ليس عن علم بل هم في شك منه. وهم مبتدأ وفي شك خبر ومن ذكري نعت لشك وبل إضراب انتقالي أيضا مسوق لبيان سبب الشك الذي ترسّب في ضمائرهم وهو أنهم لمّا يذوقوا العذاب ولو أنهم ذاقوه وعانوا بلاءه وكابدوا هو انه لصدقوا ولما لجئوا الى مدافعة اليقين بالشك. ولما حرف نفي وجزم ويذوقوا فعل مضارع مجزوم بلما والواو فاعل وعذاب مفعول به وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة لمراعاة الفواصل. (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) أم حرف عطف بمعنى بل فهي منقطعة وعندهم ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وخزائن رحمة ربك مبتدأ مؤخر والعزيز الوهاب صفتان لربك. (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أم حرف عطف بمعنى بل وعبارة الزمخشري والبيضاوي متشابهة قال البيضاوي: «كأنه لما أنكر عليهم التصرف في نبوته بأنه ليس عندهم خزائن رحمته التي لا نهاية لها أردف ذلك بأنه ليس لهم مدخل في أمر هذا العالم الجسماني الذي هو جزء يسير من خزائن رحمته فمن أين لهم أن يتصرفوا بها» ولهم خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 331 مؤخر وما عطف على السموات والأرض والظرف متعلق بمحذوف صلة ما. (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) الفاء الفصيحة أي هي جواب شرط مقدر تقديره إن زعموا ذلك فليصعدوا في المعارج الموصلة الى العرش حتى يستووا عليه، واللام لام الأمر ويرتقوا فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وفي الأسباب متعلقان بيرتقوا. (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) اختلف المعربون في إعراب هذه الآية اختلافا كثيرا لأنها تحمل عدة وجوه نورد أهمها فيما يلي: جند خبر لمبتدأ محذوف أي هم جند وما نكرة تامة صفة لجند على سبيل التحقير أي هم جند حقير فإن ما إذا كانت صفة تستعمل للتعظيم أو التحقير والثاني هو المراد ولك أن تعربها زائدة وهنالك اسم إشارة في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بمحذوف صفة لجند ومهزوم نعت ثالث لجند أو خبر ثان للمبتدأ المحذوف ويجوز أن يكون جند مبتدأ ساغ الابتداء به لوصفه وهنالك خبره واختار هذا الوجه أبو البقاء وسنورد لك عبارته في باب الفوائد ومن الأحزاب جار ومجرور متعلقان بمهزوم. الفوائد: 1- الفرق بين لمّا ولم: ونثبت هنا الفرق الدقيق بين لمّا ولم وبه يتبين لماذا أوثرت لمّا في قوله «بل لمّا يذوقوا عذاب» فهما تشتركان في أمور وهي الحرفية والاختصاص بالمضارع والنفي والجزم والقلب للمضي وجواز دخول همزة الاستفهام عليهما، وتنفرد لم عن لمّا بمصاحبة أداة الشرط الجزء: 8 ¦ الصفحة: 332 نحو «وإن لم تفعل فما بلغت رسالته» لأن الشرط يليه مثبت لم ولا يليه مثبت لمّا، وتنفرد لم عن لما أيضا بجواز انقطاع نفي منفيها نحو «هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا» لأن المعنى أنه قد كان بعد ذلك شيئا مذكورا، وتنفرد لمّا عن لم بجواز حذف مجزومها كقاربت المدينة ولما، أي ولمّا أدخلها، ولا يجوز ذلك في لم وحملوا قول إبراهيم بن علي بن محمد الهرمي على الضرورة وهو: احفظ وديعتك التي استودعتها ... يوم الأعازب إن وصلت وان لم أي وإن لم تصل، وتنفرد لما عن لم أيضا بتوقع ثبوت منفيها كقوله تعالى «بل لما يذوقوا عذاب» أي الى الآن ما ذاقوه وسوف يذوقونه، وفرق سيبويه بينها وبين لم في هذا الصدد بأن لم نفي لفعل يتوقع وجوده لم يقبل مثبته قد، ولما نفي لما يتوقع وجوده أدخل على مثبته قد، ومن الفرق الدقيق أنه لا يجوز أن تقول الحجر لم يتكلم ويجوز أن تقول الحجر لا يتكلم لأنه ما بعد لم يفيد التوقع وذلك مستحيل. 2- قصة إسلام عمر: يروي التاريخ أن هذه الآيات نزلت بعد إسلام عمر، ولإسلام عمر قصة محبوكة الحلقات فيها متعة، وفيها طرافة، ولكن لها روايات كثيرة وطرقا مختلفة نجتزىء منها برواية عطاء ومجاهد التي نقلها ابن اسحق عبد الله بن أبي نجيح وهي تذكر ان عمر قال: كنت للإسلام تباعدا، وكنت صاحب خمر في الجاهلية أصبها وأشربها وكان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 333 لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش، فخرجت أريد جلسائي أولئك فلم أجد منهم أحدا فقلت لو أنني جئت فلانا الخمار، فجئته فلم أجده، قلت لو أنني جئت الكعبة فطفت بها سبعا أو سبعين، فجئت المسجد أريد أن أطوف بالكعبة فإذا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قائم يصلي وكان إذا صلى استقبل الشام وجعل الكعبة بينه وبين الشام واتخذ مكانه بين الركنين: الركن الأسود والركن اليماني، فقلت حين رأيته والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول وقام بنفسي أنني لو دنوت منه أسمع لأروعنه فجئت من قبل الحجر، فلما سمعت القرآن رقّ قلبي فبكيت ودخلني الإسلام. ولما أسلم عمر شقّ ذلك على قريش فاجتمع خمسة وعشرون من صناديدهم فأتوا أبا طالب فقالوا أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء، يريدون الذين دخلوا في الإسلام، وجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فأحضره وقال له: يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء والانصاف فلا تمل كلّ الميل على قومك فقال النبي: ماذا تسألونني؟ فقالوا ارفضنا وأرفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك فقال: أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أمعطيّ أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم العجم قالوا: نعم وعشر أمثالها فقال: قولوا لا إله إلا الله، فقاموا وانطلق الملأ منهم. وقد تبيز بذلك العطف الذي ألمعنا إليه في اعراب وانطلق الملأ منهم إلخ ... 3- نص عبارة أبي البقاء: وعدناك بنقل نص عبارة أبي البقاء في إعراب قوله «جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب» قال: «جند مبتدأ وما زائدة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 334 وهنالك نعت ومهزوم الخبر ويجوز أن يكون هنالك اظرفا لمهزوم ومن الأحزاب يجوز أن يكون نعتا لمجند وأن يتعلق بمهزوم وأن يكون نعتا لمهزوم» . [سورة ص (38) : الآيات 12 الى 15] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) اللغة: (الْأَوْتادِ) : في المصباح: «الوتد بكسر التاء في لغة الحجاز وهي الفصحى وجمعه أوتاد وفتح التاء لغة وأهل نجد يسكنون التاء فيدغمون بعد القلب فيبقى ود ووتدت الوتد أتده وتدا من باب وعد أثبته بحائط أو بالأرض وأوتدته بالألف لغة» وفي الأساس: «ضرب الوتد والودّ والأوتاد بالميتدة ويقال: تد وتدك وأوتده وانتصب كأنه وتد وهو «أذل من وتد» ووتد واتد: ثابت ومن المجاز: وتد الله الأرض بالجبال وأوتدها ووتّدها والجبال أوتاد الأرض وقيل لأعرابي: ما النطشان؟ فقال: يوتد العطشان وروي: شيء نتد به كلامنا» وفي القاموس: «الوتد بالفتح والتحريك وككتف ما رز في الأرض أو الحائط من خشب وما كان في العروض على ثلاثة أحرف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 335 كعلى والهنيّة الناشزة في مقدّم الأذن والجمع أوتاد ووتد واتد تأكيد وأوتاد الأرض جبالها ومن البلاد رؤساؤها ومن الفم أسنانه» . (الْأَيْكَةِ) : الغيضة والأشجار الملتفة المجتمعة وقد تقدم القول فيها مبسوطا. (فَواقٍ) : بفتح الفاء وضمها أي رجوع وقد قرىء بهما معا فقيل هما نعتان بمعنى واحد وهو الزمان الذي بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع والمعنى مالها من توقف قدر فواق ناقة وفي الحديث: «العيادة قدر فواق ناقة» وفي المختار: «الفواق الزمن الذي بين الحلبتين لأنها تحلب ثم تترك ساعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب، يقال: ما أقام عنده إلا فواقا وفي الحديث: «العيادة قدر فواق ناقه» وقوله تعالى: من فواق يقرأ بالفتح أي مالها من نظرة وراحة وإفاقة» وعبارة الزمخشري في الكشاف: «مالها من فواق وقرىء بالضم مالها من توقف مقدار فواق وهو ما بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع يعني إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان كقوله تعالى: فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة، وعن ابن عباس: ما لها من رجوع وترداد من أفاق المريض إذا رجع الى الصحة وفواق الناقة ساعة ترجع الدرّ الى ضرعها يريد أنها نفخة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردد» ولهذه المادة خصائص عجيبة، أنها تتوزع على أنحاء شتى من المعاني وها نحن أولاء نقل لك خلاصة ما ورد في اللسان والأساس منها: «ما بقي في كنانتي إلا سهم أفوق وهو الذي في إحدى زنمتيه كسر أو ميل، وفوق السهم: جعل الوتر في فوقة عند الرمي، وتقول: لا زالت للخير موفقا، وسهمك في الكرم مفوّقا، وفوّقه: جعل له فوقا، وفاقه كسر فوقه، وفاق قومه: فضلهم، ورجل فائق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 336 في العلم وهو يتفوق على قومه وفوقته عليهم: افضلته، وأفاق فلان من المرض واستفاق وفلان مدمن لا يستفيق من الشراب، وتفوّق الفصيل أمه رضعها فواقا فواقا، وفوّقه الراعي. ومن المجاز تفوقت الماء: شربته شيئا بعد شيء، وتفوّقت مالي: أنفقته على مهل، قال: تفوّقت مالي من طريف وتالد ... تفوّقي الصهباء من حلب الكرم وتفوقت وردي: أخذته قليلا قليلا وأتيته فيقة الضحى وميعته، وخرجنا بعد أفاويق من الليل، ومجت السحابة أفاويقها وأرضعني أفاويق بره، وفوّقني الأماني وما أقام عنده إلا فواق ناقة وفيقة ناقة. ولعل في هذا غنية. الإعراب: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) كلام مستأنف مسوق لتقرير أحوال الطغاة وبيان مصائر العتاة. وكذبت فعل ماض وقبلهم ظرف متعلق بكذبت وقوم نوح فاعل وعاد عطف على قوم نوح وفرعون عطف أيضا وذو الأوتاد أي ذو الملك الثابت وسيأتي ذكر استعارة الأوتاد في باب البلاغة. (وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ) عطف أيضا وأولئك الأحزاب لك أن تجعل اسم الاشارة بدلا مما قبله والأحزاب بدل منه وإما أن تجعلها جملة مستقلة مؤلفة من مبتدأ هو اسم الإشارة والأحزاب خبره. (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ) إن نافية لا عمل لها لانتقاض النفي بإلا وكل مبتدأ وإلا أداة حصر وجملة كذب الرسل خبر كل، فحق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 337 الفاء حرف عطف وحق فعل ماض وعقاب فاعله مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة لمراعاة الفواصل. (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لتقرير عقاب كفار مكة بعد بيان عقاب من سبقوهم في الغواية. وما نافية وينظر فعل مضارع أي ينتظر وهؤلاء اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع فاعل وإلا أداة حصر وصيحة مفعول به وواحدة صفة لها وما نافية حجازية أو تميمية ولها خبر مقدم ومن حرف جر زائد وفواق اسم مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه اسم ما أو مبتدأ مؤخر. البلاغة: في قوله «ذو الأوتاد» استعارة تصريحية أي ذو الملك الثابت الموطّد وأصله من ثبات البيت المطنب بأوتاده، قال الرفادة الأودي: البيت لا يبتني إلا على عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد يقول: لا ينال الأمر إلا بتوفر أسبابه، شبه توقف الأمر على أسبابه وتوقف أسبابه بتوقف على أسبابه بتوقف ضرب الخيمة على انتصاب الأعمدة وتوقف انتصابها على اثبات الأوتاد المشدودة بالحبال وبعده: فإن تجمع أسباب وأعمدة ... وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 338 ثم قال: فإن اجتمعت الحبال المشدودة بالأوتاد الثابتة وانتصبت الأعمدة ووجد الساكن بلغ مراده وهو بمعنى الجمع فصح جمع ضميره ومعنى كادوا عالجوا يقال كاده كيدا أي عالجه علاجا والمعنى بلغوا الأمر الذي كادوه أي عالجوه لتحصيله. وقال الأسود ابن يعفر: ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد إياد جرت الرياح على مقر ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... في ظل ملك ثابت الأوتاد فإذا النعيم وكل ما يلهى به ... يوما يصير الى بلى ونفاد يقول: لا أتمنى بعدهم شيئا من الدنيا. ومحرق هو امرؤ القيس بن عمرو بن عدي اللخمي والإياد في الأصل تراب يجمع حول الحوض والبيت يحفظه من المطر والسيول من الأيد أي القوة أو هو ما أيد به الشيء مطلقا والكنف والجبل الحصين وإياد الجيش جناحاه أي ميمنته وميسرته والأيّد: القوي، وإياد هنا علم على ابن نزار ابن معد بن عدنان فهو أخو مضر وربيعة وأراد به في البيت القبيلة وروي وآل إياد عطفا على آل محرق وغني بالمكان كرضي: أقام به والبلى: الانمحاق، والنفاد: الفناء يقول: تركوا منازلهم وهي جملة مستأنفة لبيان نفي التأميل أو اعتراضية بين المتعاطفين وجملة: جرت الرياح مستأنفة مسوقة لبيان حال القبيلتين يقول: تفانوا فجرت الرياح على محل ديارهم وجريان الرياح على مقر الديار لانهدام الجدران التي كانت تمنع الرياح وذلك كناية عن موتهم وأشار الى أن فتاءهم كان سريعا كأنه دفعة واحدة بقوله: فكأنهم كانوا على ميعاد واحد ولقد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 339 أقاموا ردحا من الزمن بأرغد عيش وشبه الملك الذي به عزهم وصولتهم بخيمة مضروبة عليهم والظل ترشيح والأوتاد تخييل وإذا فجائية أي فظهر بغتة أن كل نعيم لا محال زائل. هذا وقيل لا استعارة في الآية وأن فرعون كان يتد لكل من يغضب عليه أربعة أوتاد يشد إليها يديه ورجليه ويعذبه حتى يموت والأول أولى وأبلغ. [سورة ص (38) : الآيات 16 الى 20] وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) اللغة: (قِطَّنا) : نصيبنا وحظنا من العذاب وأصله من قطّ الشيء أي قطعه ومنه قط القلم قالوا ذلك استهزاء أي عجل لنا قطعة مما وعدتنا به ويطلق على الصحيفة والصك قط لأنهما قطعتان وقيل للجائزة قط لأنها قطعة من العطية ويجمع على قطوط مثل حمل وحمول وعلى قططة مثل قرد وقردة وقرود وفي القلة على أقططة مثل قدح وأقدحة وأقداح وفي القاموس: «القط: القطع عامة أو عرضا أو قطع شيء صلب كالحقة كالاقتطاط والقصير الجعد من الشعر كالقطط محركة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 340 وقد قطط كفرح وقد قطّ يقط كيمل قططا محركة وقطاطة، والقطّاط: الخراط صانع الحقق» إلى أن يقول: «والقط بالكسر النصيب والصك وكتاب المحاسبة وجمعه قطوط والسنور وجمعه قطاط وقططه والساعة من الليل» وقال أبو عبيدة والكسائي: القط: الكتاب بالجوائز، وقال الأعشى: ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بغبطته يعطي القطوط ويأفق الإعراب: (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) كلام مستأنف مسوق لسرد أنماط من تمحلهم واستهزائهم بعد أن نزل قوله تعالى: «فأما من أوتي كتابه بيمينه» الآية وقالوا فعل وفاعل وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وعجّل لنا فعل أمر ولنا متعلقان به وفاعله مستتر وجوبا تقديره أنت وقطنا مفعول به وقبل يوم الحساب ظرف متعلق بعجل أيضا أو بمحذوف حال. (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) اصبر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعلى ما يقولون متعلقان باصبر وجملة يقولون صلة والعائد محذوف أي يقولونه واذكر عطف على اصبر أي تأس بقصة داود ومنّ نفسك عن إهمال أمر مصابرتهم وتحمل أذاهم لئلا يستهدف لما استهدف له وعبدنا مفعول به وداود بدل وذا الأيد نعت لداود أي صاحب القوة وقد تقدم شرح الأيد وجملة إنه أواب تعليل لكونه من أصحاب الأيد أي راجع الى مرضاة الله وان واسمها وخبرها. (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) إن واسمها وجملة سخرنا الجبال من الفعل والفاعل والمفعول خبر إنا وجملة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 341 يسبحن حالية من الجبال وسيأتي سر العدول عن مسبحات إلى يسبحن في باب البلاغة وبالعشي متعلقان بيسبحن والإشراق عطف على بالعشي أي غدوة وعشية وسيأتي حديث ابن عباس عن العشي والإشراق في باب البلاغة أيضا. (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) والطير عطف على الجبال أو مفعول به لفعل محذوف دل عليه ما قبله أي وسخرنا الطير ومحشورة حال أي مجموعة تسبح له وكل مبتدأ وساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم أي كل من الجبال والطير وله جار ومجرور متعلقان بأواب وأواب خبر كل أي رجاع مبالغة آئب أي راجع له بالتسبيح. (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) وشددنا ملكه فعل وفاعل ومفعول به أي قويناه بالجنود والحرس وآتيناه فعل وفاعل ومفعول به أول والحكمة مفعول به ثان وفصل الخطاب عطف على الحكمة وسيأتي معنى فصل الخطاب في باب البلاغة. البلاغة: انطوت في هذه الآيات فنون متعددة تبهر السامعين وإليك التفصيل. 1- العدول عن الاسمية الى الفعلية: في قوله «يسبحن» عدول عن الاسم الى الفعل، والنكتة فيه الدلالة على التجدد والحدوث شيئا بعد شيء وحالا بعد حال وكأن السامع حاضر تلك الحال يسمع تسبيحها ومثله قول الأعشى: لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء باليفاع تحرق ولو قال محرقة لم يكن له ذلك الوقع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 342 2- الطباق: وفي قوله «بالعشي والإشراق» طباق بديع بين صلاة العشاء وصلاة الضحى، وروي عن ابن عباس انه قال: كنت أمرّ بهذه الآية: بالعشي والإشراق ولا أدري ما هي حتى حدثتني أم هانىء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى وقال: يا أم هانىء هذه صلاة الإشراق، وعن طاوس عن ابن عباس أيضا: قال هل تجدون ذكر الضحى في القرآن؟ قالوا: لا، فقرأ: إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق، وعنه أيضا: ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية. 3- معنى فصل الخطاب: الفصل التمييز بين الشيئين وقيل للكلام المبين فصل بمعنى المفعول وأصله: انهم يقولون كلام ملتبس، وفي كلامه لبس والملتبس المختلط الذي لا يبين لتداخله أو معاظلته فقيل في نقيضه كلام فصل أي مفصول بعضه عن بعض وملخصه أن لا يخطىء مظان الوصل والفصل فلا يقف في كلمة الشهادة على المستثنى منه ولا يتلو قوله «ويل للمصلين» إلا موصولا بما بعده ولا «والله يعلم وأنتم» حتى يصله بقوله: «لا تعلمون» ونحو ذلك وكذلك مظان العطف وتركه والإضمار والإظهار والذكر والحذف والتكرار وغير ذلك من الفنون التي مرّ بك معظمها في هذا الكتاب ويجوز أن يكون الفصل بمعنى الفاعل أي الفاصل بين الحق والباطل وبين الصحيح والفاسد وبين السمين والغث. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 343 [سورة ص (38) : الآيات 21 الى 25] وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) اللغة: (تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) : قصدوا سوره ونزلوا من أعلاه والسور الحائط المرتفع والمحراب سبق تفسيره والخصم: المخاصم والمنازع وقد يقع للاثنين والجمع والمؤنث فيقال هما خصم وهم خصم وهي خصم لأنه مصدر في أصله وقد تقدم له نظير وهو ضيف في قوله: «حديث ضيف ابراهيم المكرمين» . (وَلا تُشْطِطْ) ولا تجر وهو بضم التاء وسكون الشين وكسر الطاء الأولى من اشطط يشطط أشطاطا إذا تجاوز الحد، قال أبو عبيدة: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 344 شططت في الحكم وأشططت فيه إذا جرت فهو مما اتفق فيه فعل وأفعل. (سَواءِ الصِّراطِ) : وسط الطريق الصواب ومحجته. (أَكْفِلْنِيها) : اجعلني كافلها والمراد ملكنيها وفي المختار: «كفل عنه بالمال لغريمه وأكفله المال ضممنه إياه وكفله إياه بالتخفيف فكفل هو من باب نصر ودخل وكفله إياه تكفيلا مثله» . (وَعَزَّنِي) : وغلبني في الجدال وأتى بحجاج لا أقدر على رده وفي المختار «وعز عليه غلبه وبابه رد وفي المثل «من عزيز» أي من غلب سلب والاسم العزة وهي القوة والغلبة وعزه في الخطاب وعازّه أي غلبه» وقال مجنون ليلى: قطاة عزها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح وقبله: كأن القلب ليلة قيل يغدى ... بليلى العامرية أو يراح شبه قلبه حين سمع برحيلها بحمامة أمسك الشرك جناحها في كثرة الخفقان. (الْخُلَطاءِ) : الشركاء الذين خلطوا أموالهم الواحد خليط. هذا وقد أوردت معاجم اللغة للخليط عدة معان منها المخالط والمشارك والقوم الذين أمرهم واحد والزوج والجار والصاحب وخليط الرجل مخالطه كالجليس المجالس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 345 الإعراب: (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) كلام مستأنف مسوق لإيراد قصة داود، وهل حرف استفهام معناه التعجب والتشويق الى استماع ما يرد بعده كما تقول لمن تخاطبه: هل تعلم ما وقع اليوم ثم تذكر له ما وقع، وأتاك نبأ الخصم فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وإذ ظرف لمضاف محذوف أي نبأ تخاصم الخصم إذ تسوروا وعبارة الزمخشري: «فإن قلت بم انتصب إذ؟ قلت لا يخلو إما أن ينتصب بأتاك أو بالنبإ أو بمحذوف، فلا يسوغ انتصابه بأتاك لأن إتيان النبأ رسول الله لا يقع إلا في عهده لا في عهد داود ولا بالنبإ لأن إتيان النبأ واقع في عهد داود فلا يصح إتيانه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أردت بالنبإ القصة في نفسها لم يكن ناصبا فبقي أن يكون منصوبا بمحذوف وتقديره وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم إذ ويجوز أن ينتصب بالخصم لما فيه من معنى الفعل» وجملة تسوروا مضاف إليها الظرف وتسوروا فعل ماض وفاعل والمحراب مفعول به. (إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ) إذ بدل من إذا الأولى وجملة دخلوا في محل جر بإضافة الظرف إليها وعلى داود متعلقان بدخلوا والفاء عاطفة وفزع فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ومنهم متعلقان بفزع. (قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) الجملة مستأنفة مسوقة للرد على سؤال نشأ من حكاية فزعه كأنه قيل فماذا قالوا لما شاهدوا أمارات الفزع مرتسمة على وجهه فقال قالوا. ولا ناهية وتخف فعل مضارع مجزوم بلا وفاعله مستتر تقديره أنت وخصمان خبر لمبتدأ محذوف أي نحن خصمان وجملة بغى صفة لخصمان وبعضنا فاعل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 346 وعلى بعض متعلقان ببغى. (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) الفاء الفصيحة واحكم فعل أمر وفاعله مستتر وبيننا ظرف متعلق باحكم وبالحق حال أو متعلقان باحكم أيضا ولا تشطط عطف على احكم واهد فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله مستتر تقديره أنت ونا مفعول به والى سواء الصراط متعلقان باهدنا. (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) إن واسمها وأخي بدل من هذا أو خبر إن وله خبر مقدم وتسع مبتدأ مؤخر والجملة خبر إن أو خبر ثان وتسعون عطف على تسع ونعجة تمييز ولي خبر مقدم ونعجة مبتدأ مؤخر وواحدة نعت وسيأتي حديث الكناية بالنعجة في باب البلاغة. (فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) الفاء عاطفة وقال فعل ماض وجملة أكفلنيها من الفعل والفاعل المستتر والمفعولين مقول القول وعزني عطف على فقال وفي الخطاب متعلقان بعزني. (قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) اللام جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق وظلمك فعل وفاعل مستتر والكاف مفعول به وبسؤال جار ومجرور متعلقان بظلمك ونعجتك مضاف اليه من إضافة المصدر الى مفعوله والفاعل محذوف أي بأن سألك نعجتك والى نعاجه متعلقان بمحذوف تقديره ليضمها. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) الواو عاطفة ويجوز أن تكون حالية وإن واسمها ومن الخلطاء نعت لكثيرا واللام المزحلقة ويبغي بعضهم فعل مضارع وفاعل وعلى بعض متعلقان بيبغي. (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) إلا أداة استثناء والذين مستثنى متصل وجملة آمنوا صلة وعملوا عطف على آمنوا والصالحات مفعول به والواو حالية وقليل خبر مقدم وما زائدة لتأكيد القلة وهم مبتدأ مؤخر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 347 (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) عطف على محذوف أي قال الملكان قضى الرجل على نفسه فتنبه. وظن داود فعل وفاعل وانما كافة ومكفوفة وهي مع مدخولها سدت مسد مفعولي وفتناه فعل ماض وفاعل ومفعول به، فاستغفر عطف على وظن وربه مفعول به وخر عطف أيضا والفاعل مستتر تقديره هو وراكعا حال وأناب عطف أيضا. (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) عطف أيضا وغفرنا فعل وفاعل وله متعلقان بغفرنا وذلك مفعول به أي ذلك الذنب، وان الواو عاطفة وأن حرف مشبه بالفعل وله خبر مقدم وعندنا ظرف متعلق بمحذوف في محل نصب على الحال واللام المزحلقة وزلفى اسم إن وحسن مآب عطف على زلفى. البلاغة: في قوله «إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة» الآية كناية عن المرأة فقد كانوا يكنون عن المرأة بالنعجة والشاة في نحو قول عنترة: يا شاة ما قنص لمن حلت له ... حرمت علي وليتها لم تحرم وإنما ذكر امرأة أبيه وكان يهواها وقيل بل كانت جاريته فلذلك حرمها على نفسه وهذه الكناية تتمشى مع القول بأن القصة جارية مجرى التمثيل، وسنورد خلاصتها مع القصة الخرافية الموضوعة تحريرا للأذهان من الأساطير التي تتنافى مع طهارة الأنبياء ونزاهتهم. القصة كما يرويها المفسرون: كان أهل زمان داود يسأل بعضهم بعضا النزول له عن امرأته الجزء: 8 ¦ الصفحة: 348 إذا أعجبته فيتزوجها، وقد روي مثله عن الأنصار كانوا يواسون المهاجرين بمثل ذلك فوقعت عين داود على امرأة أوريا فأعجبته فسأله إيثاره بها ليتزوجها فاستحيا منه فنزل عنها فتزوجها وأولدها سليمان فقيل له مع كثرة نسائك لم يكن لك أن تسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة النزول عنها وكان الأفضل قهر الهوى، وقيل خطبها أوريا ثم خطبها داود فرغب إليه أهلها فاندرج في الخاطب على خطبة أخيه. وأما ما يذكر من أن داود تمنى منزلة آبائه فقيل له أنهم ابتلوا فصبروا فسأل الابتلاء ليصبر فقيل له انك تبتلى يوم كذا فاحترس ذلك اليوم وأغلق عليه محرابه فتمثل له الشيطان في صورة حمامة ذهب فمد يده ليأخذها لابن صغير له فطارت فتبعها فرأى امرأة جميلة قد نقضت شعرها فكتب الى أيوب بن حوريا صاحب بعث البلقاء أن ابعث أوريا وقدمه على التابوت وكان المتقدم يحرم عليه الرجوع حتى يفتح الله على يده أو يستشهد فقدم فسلم فأمر بتقديمه مرة أخرى وثالثة فقتل فلم يحزن عليه كما يحزن على الشهداء وتزوج امرأته المذكورة فهذه الرواية مما يقبح الحديث به عن متسم بصلاح من آحاد المسلمين فضلا عن بعض أعلام الأنبياء. وعن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب قال: من حدثكم بقصة داود كما يرويها القصاص جلدته مائة وستين حدّ الفرية مضاعفا. وروي أن عمر بن عبد العزيز حدثه رجل بذلك بحضرة عالم محقق فكذب الحديث وقال: إن كانت القصة على ما في كتاب الله فالتماس خلافها فرية وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها سترا لنبيه فما ينبغي لك إظهار ما ستره الله فقال عمر بن عبد العزيز: استماعي الى هذا الكلام أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 349 قال الزمخشري: والذي يدل عليه المثل الذي ضربه الله أن قصته ليست إلا طلبه الى زوج المرأة أن ينزل له عنها فقط ثم نبه الزمخشري على مجيء الإنكار على طريقة التمثيل والتعريض دون التصريح وذلك أن التعريض داع الى التأمل والتنبيه الى وجه الخطأ مع ما فيه من اجتناب المجاهرة في الإنكار والتوبيخ وألقاه بطريق التمثيل ليستقبح ذلك من غيره فيجعله مقياسا لاستقباح ذلك من نفسه مع البقاء على الحشمة كما أوصى بذلك في سياسة الوالد لولده إذا حصلت منه هنة منكرة قال: وجاء ذلك على وجه التحاكم ليحكم بقوله لقد ظلمك فتقوم الحجة عليه محكمة. وقال: وقوله وهل أتاك جاء على وجه الاستفهام تنبيها على أن هذه القصة قصة عجيبة من حقها أن تشيع ولا تخفى على أحد وتشويقا الى سماعها أيضا. وقال في الخطاب يحتمل أن يكون من المخاطبة ومعناه أتاني بما لم أقدر على ردّه من الجدال ويحتمل أن يكون من الخطبة مفاعلة أي خطبت فخطب على خطبتي فغلبني والمفاعلة لأن الخطبة صدرت عنهما جميعا. وقال في ذكر النعاج إنها تمثيل فكان تحاكمهم تمثيلا وكلامهم أيضا تمثيلا لأنه أبلغ لما تقدم وللتنبيه على أن هذا أمر يستحيا من التصريح وأنه مما يكنى عنه لسماجة الإفصاح به وللستر على داود عليه السلام ووجه التمثيل فيه أن مثلت قصة أوريا برجل له نعجة ولخليطه تسع وتسعون فأراد أن يتمها مائة بالنعجة المذكورة فإن قلت طريقة التمثيل إنما تستعمل على جعل الخطاب من الخطابة فإن كان من الخطبة فما وجهه؟ قال الوجه حينئذ أن تجعل النعجة استعارة للمرأة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 350 كما استعاروا لها الشاة في قوله: يا شاة ما قنص لمن حلت له ... البيت ... قال: والفرق بين التمثيل والاستعارة انه على التمثيل يكون الذي سبق الى فهم داود عليه السلام أن التحاكم على ظاهره وهو التخاصم في النعاج التي هي البهائم ثم انتقل بواسطة التنبيه الى فهم انه تمثيل لحاله وعلى الاستعارة يكون فهم عنهما التحاكم في النساء المعبر عنهن بالنعاج كناية ثم استشعر أنه المراد بذلك. قلت: ونقل بعضهم أن هذه القصة لم تكن من الملائكة وليست تمثيلا وإنما كانت من البشر إما خليطين في الغنم حقيقة وإما كان أحدهما موسرا وله نسوان كثيرة من المهائر والسراري والثاني معسر وما له إلا امرأة واحدة فاستنزله عنها وفزع داود وخوفه أن يكونا مغتالين لأنهما دخلا عليه في غير وقت القضاء وما كان ذنب داود إلا أنه صدق أحدهما على الآخر ونسبه الى الظلم قبل مسألته. قلت: إنما قصد هذا القائل بما قال تنزيه داود عن ذنب يبعثه عليه شهوة النساء فأخذ الآية على ظاهرها وصرف الذنب الى العجلة في نسبة الظلم الى المدعى عليه لأن الباعث على ذلك في الغالب إنما هو التهاب الغضب وكراهيته أخف مما يكون عليه الباعث عليه الشهوة والهوى ولعل هذا القائل يؤكد رأيه في الآية بقوله تعالى عقبها وصية لداود عليه السلام: «يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى» فما جرت العناية بتوصيته فيما يتعلق بالأحكام إلا والذي صدر منه أولا وبان منه من قبيل ما وقع له في الحكم بين الناس. وعبارة أبي حيان: «والظاهر ابقاء لفظ النعجة على حقيقتها من كونها أنثى الضأن ولا يكنى بها عن المرأة ولا ضرورة تدعو الى ذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 351 لأن ذلك الإخبار كان صادرا من الملائكة على سبيل التصوير للمسألة فمثلوا بقصة رجل له نعجة ولخليطه تسع وتسعون فأراد صاحبه تتمة الماء فطمع في نعجة خليطه وأراد انتزاعها منه وحاجّه في ذلك محاجّة حريص على بلوغ مراده ويدل على ذلك قوله: وان كثيرا من الخلطاء، وهذا التصوير والتمثيل أبلغ في المقصود وأدل على المراد» الى أن يقول: «وما حكى القصاص مما فيه غض من منصب النبوة طرحناه ونحن كما قال الشاعر: ونؤثر حكم العقل في كل شبهة ... إذا آثر الاخبار جلاس قصاص [سورة ص (38) : الآيات 26 الى 29] يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 352 الإعراب: (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لحكاية ما خوطب به داود بعد ما تقدم، ولك أن تقدر قولا محذوفا معطوفا على قوله غفرنا أو حال من فاعل غفرنا أي وقلنا أو قائلين، ويا حرف نداء وداود منادى مفرد علم مبني على الضم وإن واسمها وجملة جعلناك خبرها وجعلناك فعل ماض وفاعل ومفعول به أول وخليفة مفعول جعلنا الثاني وفي الأرض نعت لخليفة. (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) الفاء الفصيحة واحكم فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وبين الناس متعلقان بقوله فاحكم وبالحق حال. (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) الواو عاطفة ولا ناهية وتتبع فعل مضارع مجزوم بلا وفاعله مستتر تقديره أنت والهوى مفعول به والفاء هي فاء السببية لوقوعها في جواب النهي ويضلك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية والفاعل مستتر تقديره هو يعود على الهوى والكاف مفعول به وعن سبيل الله متعلقان بيضلك ولا مانع من جعل الفاء عاطفة ويضلك معطوف على تتبع. (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) الجملة تعليلية للنهي عن اتباع الهوى وان واسمها وجملة يضلون صلة الذين وعن سبيل الله متعلقان بيضلون ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر إن وشديد نعت لعذاب والباء حرف جر وما مصدرية مؤولة مع بعدها بمصدر مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي بسبب نسيانهم ويوم الحساب مفعول به لنسوا أو ظرف لقوله لهم عذاب شديد أو صفة ثانية له أي لهم عذاب شديد كائن في يوم القيامة بسبب نسيانهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 353 (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا) كلام مستأنف مسوق لتقرير مضمون ما تقدم من أمر البعث والحساب والجزاء. وما نافية وخلقنا فعل وفاعل والسماء مفعول به والأرض عطف على السماء وما بينهما عطف أيضا والظرف متعلق بمحذوف صلة ما وباطلا نعت لمصدر محذوف أي خلقا باطلا ويجوز أن يكون حالا من فاعل خلقنا أي مبطلين أو ذوي باطل. (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) ذلك اسم الاشارة مبتدأ أي خلقها باطلا وظن خبره والذين مضاف اليه وجملة كفروا صلة، فويل: الفاء عاطفة لترتيب ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل، وويل مبتدأ وللذين كفروا خبره وجملة كفروا صلة ومن النار صفة لويل. وفي وضع الموصول موضع ضمير هم اشعار بأنهم استحقوا النار بكفرهم. (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) أم عاطفة منقطعة وفيها معنى الاستفهام الإنكاري ونجعل فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر تقديره نحن والذين آمنوا مفعول نجعل الأول وآمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا والكاف اسم بمعنى مثل في محل نصب مفعول به ثان لنجعل وفي الأرض متعلقان بالمفسدين. (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) عطف على ما تقدم وفي الإنكار إبطال لما يدعونه من أن الجزاء غير وارد لأنه لو صح كلامهم لاستوت عند الله حال من أصلح أو أفسد ومن اتقى أو فجر. (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) كتاب خبر لمبتدأ محذوف أي هذا كتاب وجملة أنزلناه صفة وإليك جار الجزء: 8 ¦ الصفحة: 354 ومجرور متعلقان بأنزلناه ومبارك نعت ثان ومنعه بعضهم بحجة أن النعت غير الصريح لا يتقدم على النعت الصريح فهو عندهم خبر ثان أو خبر مبتدأ محذوف، وقرىء مباركا بالنصب على الحال اللازمة، وليدبروا اللام لام التعليل ويدبروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والواو فاعل والجار والمجرور متعلقان بأنزلناه وآياته مفعول به أي ليتفكروا فيها وليذكر عطف على ليدبروا وأولوا الألباب فاعل. [سورة ص (38) : الآيات 30 الى 40] وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 355 اللغة: (الصَّافِناتُ) : جمع صافنة وهي القائمة على ثلاث وإقامة الأخرى على طرف الحافر من رجل أو يد وفي المختار: «الصافن من الخيل القائم على ثلاث قوائم وقد أقام الرابعة على طرف الحافر وقد صفن الفرس من باب جلس والصافن من الناس الذي يصف قدميه وجمعه صفون» وعبارة الزمخشري «الصفون لا يكاد يكون في الهجن وإنما هو في العراب الخلّص وقيل وصفها بالصفون والجودة ليجمع ما بين الوصفين المحمودين واقفة وجارية يعني إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها وإذا جرت كانت سراعا خفافا في جريها» . (الْجِيادُ) جمع جواد وهو السابق وقيل جمع جيد، وفي أدب الكاتب لابن قتيبة «ويقال للفرس عتيق وجواد وكريم ويقال للبرذون والبغل والحمار فاره والسوابق من الخيل أولها السابق ثم المصلي وذلك لأن رأسه عند صلا السابق ثم الثالث والرابع كذلك الى التاسع والعاشر السّكيت ويقال أيضا السّكّيت مشددا فما جاء بعد ذلك لم يعتد به والفسكل الذي يجيء في الحلبة آخر الخيل» هذا ما أورده ابن قتيبة وقد سموا الثالث المتلى لأنه يتلى الثاني وسموا الرابع التالي وسموا الخامس المرتاح وسموا السادس العاطف وسموا السابع المؤمل وسموا الثامن الحظي وسموا التاسع اللطيم. (مَسْحاً) : المسح: القطع وفي المختار «ومسحه بالسيف قطعه» (بِالسُّوقِ) : جمع ساق ومن غريب أمر الساق أن له العديد من المعاني فأولها وهو المراد هنا أنه ما بين الكعب والركبة مؤنث وجمعه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 356 سوق وسيقان وأسوق وساق الشجرة جذعها، ومن معانيه ساق الحمام والغراب نباتان وساق حر ذكر القماري ويقال كشف الأمر عن ساقه أي اشتدّ وعظم وقامت الحرب على ساق أي اشتدت وولدت المرأة ثلاثة بنين على ساق واحدة أي بعضهم في إثر بعض لا جارية بينهم والحديث في هذه المادة يطول فنحيل القارئ الى المعاجم. (رُخاءً) : لينة طيبة لا تزعزع. (أَصابَ) : أراد وقصد وفي الكشاف «حكى الأصمعي عن العرب: أصاب الصواب، فأخطأ الجواب. وعن رؤبة أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة فخرج إليهما فقال: أين تصيبان؟ فقالا: هذه طلبتنا ورجعا ويقال أصاب الله بك خيرا» وفي الأساس: «وأصاب الله تعالى بك خيرا: أراده رخاء حيث أصاب» . (الْأَصْفادِ) : الأغلال وفي القاموس «صفده يصفده من باب ضرب يصفده: شده وأوثقه كأصفده وصفّده والصفد محركة العطاء والوثاق وبلا لام بلد بالشام وككتاب ما يوثق به الأسير من قد أو قيد والأصفاد: القيود» فلا معنى لقول بعض المفسرين ردا على الجلال الذي فسر الأصفاد بالقيود إذ قال ذلك المفسر: «من المعلوم أن القيد يكون في الرجل فلا يلتئم هذا التفسير مع قوله يجمع أيديهم إلخ فلو فسر الأصفاد بالأغلال لكان أوضح» . وفي المختار: «صفده شده وأوثقه من باب ضرب وكذا صفده تصفيدا والصفد بفتحتين والصفاد بالكسر ما يوثق به الأسير من قد وقيد وغل والأصفاد القيود واحدها صفد» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 357 الإعراب: (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبسط قصة سليمان بعد أن بسط قصة داود ووهبنا فعل ماض وفاعل ولداود متعلقان بوهبنا وسليمان مفعول ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح والعبد فاعله والمخصوص بالمدح محذوف لتقدم ذكره أي هو وإنه أواب إن واسمها وخبرها والجملة تعليل للمدح علل كونه ممدوحا بكونه أوابا رجاعا إليه بالتوبة أو مسبحا مؤوبا للتسبيح مرجعا له لأن كل مؤوب أواب. (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) إذ: يجوز أن يكون ظرفا لأواب وأن يكون العامل فيه نعم وأن يكون منصوبا بمقدر أي اذكر يا محمد وقت وقوع هذه القصة وجملة عرض في محل جر بإضافة الظرف إليها وعليه متعلقان بعرض وبالعشي متعلقان بمحذوف حال أي كائنا في ذلك الوقت والصافنات نائب فاعل والجياد نعت والأولى أن يكون المفعول محذوفا أي الخيل والصافنات الجياد صفتين للخيل والظاهر أن العرض قد استهواه، وخيل إليه أنه يستطيع الاعتماد على هذه الخيل المطهمة في جهاده العدو إرضاء لربه فشغله حينا من الوقت عن ذكر الله تعالى وكان به لهجا. (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) الفاء عاطفة وقال فعل ماض وفاعله مستتر وان واسمها وجملة أحببت خبرها وأحببت ليست جارية على معناها الأصيل وإنما هي متضمنة معنى فعل يتعدى بعن بمعنى آثرت وحب الخير مفعول به لذلك الفعل أو مفعول مطلق وقيل مفعول من أجله وعبارة السمين: حب الخير فيه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 358 أوجه أحدها أنه مفعول أحببت لأنه بمعنى آثرت و «عن» على هذا بمعنى «على» والثاني أن حب مصدر على حذف الزوائد والناصب له أحببت والثالث أنه مصدر تشتهي أي حبا مثل حب الخير والرابع أنه ضمن معنى أنبت فلذلك تعدى بعن والخامس أن أحببت بمعنى لزمت والسادس أن أحببت من أحب البعير إذا سقط وبرك من الاعياء والمعنى قعدت عن ذكر ربي فيكون حب الخير على هذا مفعولا من أجله وعن ذكر ربي متعلقان بأحببت والإضافة من إضافة المصدر الى المفعول أي عن أن أذكر ربي أو الى الفاعل أي عن أن يذكرني ربي وسيأتي المزيد من بحث هذه الآية في باب البلاغة، وحتى حرف غاية وجر وتوارت فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هي أي الشمس وقيل الخيل وبالحجاب متعلقان بتوارت. (رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) ردوها فعل أمر وفاعل ومفعول به والجملة مقول قول محذوف أي قال ردوها وعلي متعلقان بردوها فطفق عطف على محذوف أي فردوها وطفق فعل ماض من أفعال الشروع وهي تعمل عمل كان واسمها ضمير مستتر تقديره هو ومسحا مفعول مطلق لفعل محذوف أي يمسح مسحا والجملة خبر طفق وبالسوق متعلقان بمسحا والأعناق عطف على بالسوق وسيأتي قول للامام فخر الدين الرازي طريف جدا خالف فيه جمهرة المفسرين وهو جدير بالاعتبار فانظره في باب الفوائد. (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) الواو استئنافية واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وفتنا فعل وفاعل وسليمان مفعول به وألقينا عطف على فتنا وعلى كرسيه جار ومجرور متعلقان بألقينا وجسدا مفعول به ثم أناب عطف أيضا ولكنه بعد تراخ وسيأتي القول في فتنة سليمان ومناقشتها. (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 359 لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) رب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وهب فعل أمر للدعاء ولي متعلقان به وملكا مفعول به وجملة لا ينبغي صفة لملكا ولأحد متعلقان بينبغي ومن بعدي صفة لأحد. (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) الجملة تعليلية للدعاء بالمغفرة والهبة وان واسمها وأنت ضمير فصل أو مبتدأ والوهاب خبر إن أو خبر أنت والجملة خبر إنك. (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) الفاء عاطفة على محذوف يفهم من مضمون الكلام أي فاستجبنا له دعاءه وأعدنا له هذا الملك السليب وسخرنا فعل وفاعل وله متعلقان بسخرنا والريح مفعول به وجملة تجري بأمره في محل نصب على الحال من الريح ورخاء حال من الضمير في تجري وحيث ظرف متعلق بتجري أو بسخرنا وجملة أصاب في محل جر بإضافة الظرف إليها. (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) الواو حرف عطف والشياطين عطف على الريح وكل بناء بدل من الشياطين وغواص عطف على بناء. (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) وآخرين عطف على كل بناء أدخل معه في حكم البدل وهو بدل الكل من الكل ومقرنين نعت لآخرين أي قرن بعضهم مع بعض في الأصفاد. (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) الجملة مقول قول محذوف أي وقلنا له، وهذا مبتدأ وعطاؤنا خبر فامنن الفاء الفصيحة وامنن فعل أمر أي أعط منه من شئت وأو حرف عطف للتخيير وأمسك فعل أمر معطوف على امنن وبغير حساب متعلقان بعطاؤنا أي أعطيناك بغير حساب ولا تقدير وفيه إلماع الى كثرة العطاء أو متعلقان بامنن أو أمسك ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف نصبا على الحال مما تقدم أي حال كونك غير محاسب عليه لأنه يتعالى عن الحساب والضبط. (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) تقدم إعراب مثله كثيرا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 360 الفوائد: القول في هذه الآيات وفي فتنة سليمان بالخيل والجياد لا يتسع له صدر هذا الكتاب وهو خارج عن نطاقه ولكننا سنحاول الالماع الى هذه الفتنة وما قيل فيها وما نسج حولها من أكاذيب وأضاليل لفّقتها اليهودية الضالعة مع الأهواء، وقبل أن نشرع في ذلك ننقل فصلا للإمام فخر الدين الرازي أطاح بكل الأضاليل التي لابست هذا القصص الموشى بنسج الخيال قال: «التفسير الحق المطابق لألفاظ القرآن أن نقول: إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم كما انه كذلك في ديننا ثم ان سليمان عليه السلام احتاج الى غزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر باجرائها وذكر أنني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس وإنما أحبها لأمر الله تعالى وتقوية دينه وهو المراد بقوله: عن ذكر ربي ثم انه عليه الصلاة والسلام أمر باعدائها وإجرائها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره ثم أمر برد الخيل إليه وهو قوله: ردوها علي فلما عادت طفق يمسح سوقها وأعناقها والغرض من ذلك المسح أمور: الأول تشريفها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو، الثاني أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والمملكة يبلغ الى أنه يباشر الأمور بنفسه، الثالث أنه كان أعلم الناس بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها من غيره فكان يمسحها ويمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض، فهذا التفسير الذي ذكرنا ينطبق على لفظ القرآن ولا يلزمنا شيء من تلك المنكرات والمحظورات والعجب من الناس كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة فإن قيل: فالجمهور قد فسروا الآية بتلك الوجوه فما قولك فيه؟ فنقول لنا هاهنا مقامان: المقام الأول أن ندعي أن لفظ الآية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 361 لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي ذكروها وقد ظهر والحمد لله أن الأمر كما ذكرنا ظهورا لا يرتاب عاقل فيه والمقام الثاني أن يقال: هب أن لفظ الآية لا يدل عليه إلا أنه كلام ذكره الناس وان الدلائل الكثيرة قد قامت على عصمة الأنبياء ولم يدل دليل على صحة هذه الحكايات» . أسطورة خاتم سليمان: هذا وما يروى عن فتنة سليمان من حديث الخاتم والشياطين وعبادة الوثن في بيت سليمان فقد أبي العلماء المحققون قبوله وقالوا انه من نسج خيال اليهود، فقد روت الأساطير أن سليمان بلغه خبر صيدون وهذه مدينة في بعض الجزر وان بها ملكا عظيم الشأن معتصما بالبحر لا يقدر عليه أحد فخرج اليه تحمله الريح حتى أناخ بها بجنوده من الجن والإنس فقتل ملكها وأصاب بنتا له من أحسن الناس وجها فاصطفاها لنفسه وأسلمت وأحبها وكانت لا يرقا دمعها حزنا على أبيها فأمر الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها فكستها مثل كسوته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن له كعادتهن إبان حياته فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة ثم خرج وحده الى فلاة وفرش له الرماد فجلس عليه تائبا متضرعا وكانت له أم ولد يقال لها أمينة إذا دخل عليها للطهارة وضع خاتمه عندها وكان ملكه في خاتمه فوضعه عندها يوما وأتاها الشيطان المارد الذي دل سليمان على الماس حين أمر ببناء بيت المقدس واسمه صخر، على صورة سليمان فقال يا أمينة خاتمي فتختم به وجلس على كرسي سليمان وعكفت عليه الطير والجن والإنس ولما أتى سليمان لطلب الخاتم أنكرته وطردته فعرف أن الخطيئة أدركته فكان يدور على البيوت يتكفف فإذا قال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 362 أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه ثم عمد الى السماكين ينقل لهم السمك فيعطونه كل يوم سمكتين فمكث على ذلك أربعين صباحا عدد ما عبد الوثن في بيته فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان وسأل آصف نساء سليمان فقلن: ما يدع امرأة منّا في دمها ولا يغتسل من جنابة، ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة ووقعت السمكة في يد سليمان فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم فتختم به ووقع ساجدا ورجع اليه ملكه وأمر الشياطين أن يأتوه بصخر فأتوه به فأدخله في جوف صخرة وسد عليه بأخرى ثم أوثقها بالحديد والرصاص ثم أمر به فقذف في البحر الى آخر تلك الأسطورة التي تشبه ما يصوره خيال شهر زاد في ألف ليلة وليلة من حكايات الجن وأساطير القماقم وغيرها وما أجمل ما يقوله القاضي عياض في هذا الصدد: «لا يصح ما نقله الأخباريون من تشبه الشيطان به وتسلطه على ملكه وتصرفه في أمته بالجور في حكمه» . والذي عليه علماء الإسلام أن سبب فتنته ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال سليمان لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كلهن تأتي بفارس مجاهد في سبيل الله تعالى فقال له صاحبه: قل إن شاء الله فلم يقل إن شاء الله فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهن امرأة إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل وايم الله الذي نفسي في يده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا» قال الزمخشري «وهذا ونحوه مما لا بأس به» بقي قوله: «وألقينا على كرسيه جسدا» ما هو؟ ما حقيقته؟ إن الذين يروون الأسطورة على علاتها كالجلال وغيره من أكابر العلماء يقولون: إنه الجني صخر والذين ينكرون الأسطورة يحارون في الجسد الذي ألقي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 363 على كرسيه فتارة يقولون: انه الشق الذي ولدته المرأة قالوا: «والشق هو الجسد الذي القي على كرسيه حين عرض عليه وهو عقوبته ومحنته لأنه لم يستثن لما استغرقه من الحرص وغلب عليه من التمني وقيل: نسي أن يستثني كما صح في الحديث لينفذ أمر الله ومراده فيه، وقيل: إن المراد بالجسد الذي ألقي على كرسيه أنه ولد له ولد فاجتمعت الشياطين وقال بعضهم لبعض: إن عاش له ولد لم ننفك من البلاء فسبيلنا أن نقتل ولده أو نخبله فعلم بذلك سليمان فأمر السحاب فحمله فكان يربيه في السحاب خوفا من الشياطين فبينما هو مشتغل في بعض مهماته إذ ألقي الولد ميتا على كرسيه فعاتبه الله على خوفه من الشياطين حيث لم يتوكل عليه في ذلك فتنبه لخطئه فاستغفر ربه فذلك قوله عز وجل: «وألقينا على كرسيه جسدا» إلخ ... » . على أن المسألة ليست مما يمكن البت فيه أو الترجيح بالرأي وإنما هي مسائل تاريخية تضاربت فيها الأقوال والله أعلم. المراد بالخير: واختلف العلماء والمفسرون أيضا في المراد بالخير بقوله: «إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي» الآية فقال قوم هو المال مستدلين بقوله تعالى «إن ترك خيرا» أي مالا وقوله «إنه لحب الخير لشديد» وقيل هو مجاز والمراد به الخيل التي شغلته وأنسته ذكر ربه أو سمى الخيل خيرا كأنها نفس الخير لتعلق الخبر بها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» وقال أيضا في زيد الخيل حين وفد عليه وأسلم: «ما وصف لي رجل فرأيته الجزء: 8 ¦ الصفحة: 364 إلا كان دون ما بلغني إلا زيد الخيل وسماه زيد الخير» وفي القرطبي: «يعني بالخير الخيل والعرب تسميها كذلك ويعاقب بين الراء واللام فتقول انهملت العين وانهمرت وختلت وخترت، قال الفراء: الخير في كلام العرب والخيل واحد» . ومن الكلام البليغ الذي رمق الشعراء سماءه قوله تعالى: «هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب» فقد كان سليمان يقرن مردة الشياطين بعضهم في بعض في القيود والسلاسل للتأديب والكف عن الفساد وعن السدي كان يجمع أيديهم الى أعناقهم في الجوامع، والصفد القيد وسمي به العطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه ومنه قول علي ابن أبي طالب: «من برّك فقد أسرك ومن جفاك فقد أطلقك» وقال أبو تمام الطائي من قصيدة يمدح بها أبا سعيد الثغري: همي معلقة عليك رقابها ... مغلولة إن العطاء إسار وتبعه أبو الطيب فقال من قصيدة يمدح بها سيف الدولة: وقيدت نفسي في ذراك محبة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا [سورة ص (38) : الآيات 41 الى 44] وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 365 اللغة: (بِنُصْبٍ) : النصب بضم فسكون وبفتح فسكون وبضمتين الداء والبلاء قيل جمع نصب كاسد وأسد وقيل هو لغة في النصب وقد تقدم كلام كثير في هذه المادة. (ضِغْثاً) : حزمة من حشيش وقضبان وفي القاموس: «والضغث بالكسر قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس واضطعثه: احتطبه وأضغاث أحلام رؤيا لا يصح تأويلها لاختلاطها (وقد تقدم القول فيها) والتضغيث ما بلّ الأرض والنبات من المطر» وفي المثل «ضغث على إباله» والإبالة بالتشديد الحزمة من الحشيش والحطب ومعناه بلية على أخرى ويضرب أيضا مثلا للرجل يحمل صاحبه المكروه ثم يزيده منه. الإعراب: (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ) عطف على اذكر عبدنا داود ولم يذكر ذلك في قصة سليمان لكمال الاتصال بين سليمان وداود كأن قصتهما قصة واحدة. واذكر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعبدنا مفعول اذكر وأيوب بدل أو عطف بيان لعبدنا وإذ الظرف بدل اشتمال من أيوب وجملة نادى في محل جر بإضافة الظرف إليها والفاعل مستتر تقديره هو يعود على داود وربه مفعول به. (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) أن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي بأني مسني الشيطان حكاية لكلامه الذي نادى ربه به بعبارته وإلا لقيل انه مسه، ومسني الشيطان فعل ماض ومفعول به الجزء: 8 ¦ الصفحة: 366 مقدم وفاعل مؤخر وبنصب متعلقان بمسني وعذاب عطف على نصب وسيأتي سر إسناد المس الى الشيطان مع عصمة الأنبياء عن مس الشيطان إياهم وتسلطه عليهم في باب الفوائد كما يأتي فيه ما ذكر من سبب بلائه. (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) كلام مقول قول محذوف أي وقيل له، واركض فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ومعنى اركض اضرب وبرجلك جار ومجرور متعلقان باركض ومفعول اركض محذوف أي الأرض وفي معاجم اللغة: «ركض الأرض والثوب ضربهما برجله» أي فهو متعد بهذا المعنى، وهذا مبتدأ ومغتسل خبر وهو اسم مكان للماء الذي يغتسل به سمي الماء باسم مكانه مجازا علاقته المحلية وبارد صفة لمغتسل وشراب عطف. (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) عطف على ما تقدم مما اقتضاه المقام كأنه قيل فاغتسل وشرب فكشفنا بذلك ما به من ضر ومسحنا عنه ما ألمّ به من أوصاب. ووهبنا فعل وفاعل وله متعلقان بوهبنا وأهله مفعول به ومثلهم عطف على أهله والظرف متعلق بمحذوف حال أي كائنا معهم ورحمة مفعول من أجله ومنّا صفة لرحمة وذكرى عطف على رحمة أي ان الهبة كانت للرحمة له وللتذاكير لأولي الألباب ولأولي نعت لذكرى والألباب مضاف إليه. (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) وخذ عطف على ما تقدم وبيدك متعلقان بخذ وضغثا مفعول به، فاضرب عطف على خذ وبه متعلقان باضرب والمفعول محذوف أي امرأتك ولا تحنث عطف على اضرب ولا ناهية وتحنت فعل مضارع مجزوم بلا وسيأتي القول في ضرب امرأته في باب الفوائد. (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 367 إن واسمها وجملة وجدناه فعل وفاعل ومفعول به أول وصابرا مفعول به ثان ونعم العبد فعل وفاعل والمخصوص بالمدح محذوف للعلم به أي هو وإنه أواب إن واسمها وخبرها والجملة تعليل لمدحه. الفوائد: إنما أسند ما مسّه من نصب وعذاب الى الشيطان مع انه من البداءة الأولية أن الشيطان لا يسلط على الأنبياء تأدبا مع الله لأن الشيطان كان يوسوس اليه ويغريه على الكراهة والجزع، وذكر في سبب بلاء أيوب أن رجلا استغاثه على ظالم فلم يغثه وقيل كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه وقيل أعجب بكثرة ماله، أما قصة ضرب امرأته فقد كان حلف في مرضه ليضربن امرأته مائة إذ برأ وذلك لا بطائها عليه يوما. وفي القرطبي: «وفي سبب حلفه أربعة أقوال: أحدها: ما حكاه ابن عباس أن إبليس لقيها في صورة طبيب فدعته الى مداواة أيوب فقال أداويه على أنه إذا برىء يقول أنت شفيتني لا أريد جزاء سواه، قالت نعم فأشارت على أيوب بذلك فحلف ليضربنها وقال: ويحك ذلك الشيطان. ثانيها: ما حكاه سعيد بن المسيب أنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه به من الخبز فخاف خيانتها فحلف ليضربنها. ثالثها: ما حكاه يحيى بن سلام وغيره أن الشيطان أغواها أن تحمل أيوب على أن يذبح سخلة تقربا إليه وأنه يبرأ فذكرت ذلك له فحلف ليضربنها إن عوفي مائة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 368 رابعها: أنها باعت ذوائبها برغيفين إذ لم تجد شيئا تحمله الى أيوب وكان أيوب يتعلق بها إذا أراد القيام فلهذا حلف ليضربنها فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثا فيضربها به فأخذ شماريخ قدر مائة فضربها بها ضربة واحدة» . وقصة صبر أيوب تدخل في حيز أغراض القصص في القرآن، وأسمى أغراضها إنشاء العقيدة الدينية الخاصة المجردة وموطن هذه العقيدة الخالدة هو الضمير والوجدان فلم يكن الداعي الى الاستمساك بالصبر والاعتصام به مجردا لقداسته الدينية ولكن اتساع الآفاق النفسية وانفتاح منافذ المعرفة أمام النفس. [سورة ص (38) : الآيات 45 الى 48] وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) الإعراب: (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) الواو عاطفة اذكر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت أي اذكر يا محمد صبرهم على ما أصابهم وثباتهم على عقائدهم وتأسّ بهم وعبادنا مفعول به وإبراهيم بدل أو عطف بيان واسحق ويعقوب عطف على ابراهيم وأولي الأيد أي أصحاب الأيدي مفعول به سيأتي القول مسهبا في معنى أولي الأيد في باب البلاغة والأبصار عطف على الأيد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 369 (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) الجملة تعليلية لما وصفوا به من علو الرتبة وسموها بالعلم والعمل، وان واسمها وجملة أخلصناهم خبر أنا وبخالصة متعلقان بأخلصناهم والباء إما للسببية إن كان أخلصناهم بمعنى جعلناهم خالصين وإما للتعدية إن كان أخلصناهم بمعنى خصصناهم وخالصة صفة لموصوف محذوف أي بخصلة خالصة وذكرى الدار يجوز فيها أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف أو بدل من خالصة وإذا اعتبرت خالصة مقدرا بمعنى الإخلاص فتكون ذكرى مفعولا به لخالصة وإذا كانت مصدرا بمعنى الخلوص فتكون ذكرى فاعلا لها فقد تمت لها أربعة أوجه وأما إضافة ذكرى الى الدار فمن إضافة المصدر إلى المفعول أي ذكرهم الدار الآخرة وهناك قراءة متعددة يرجع إليها في المطولات. (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) وانهم ان واسمها وعندنا ظرف متعلق بمحذوف حال ولمن اللام المزحلقة ومن المصطفين خبر إنهم والأخيار صفة. (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) واذكر عطف على ما تقدم واذكر إسماعيل فعل وفاعل مستتر ومفعول به واليسع وذا الكفل معطوفان على إسماعيل وكل مبتدأ ساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم ومن الأخيار خبر. البلاغة: الكناية في قوله «أولي الأيد والأبصار» وهي كناية عن العمل الصالح قال الزمخشري «أولي الأعمال والفكر كأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة ولا يجاهدون في الله ولا يفكرون أفكار ذوي الديانات ولا يستبصرون في حكم الزمنى الذين لا يقدرون على إعمال جوارحهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 370 والمسلوبي العقول الذين لا استبصار بهم» وفيه أيضا فن التعريض بأن من لم يكن من عمال الله ولا من المستبصرين في دين الله خليق بالتوبيخ وأسوأ المذام، والأيدي جمع يد وهي الجارحة فالكناية بها لأن جميع الأعمال تزاول بها وإذا كانت جمعا ليد بمعنى النعمة فهي مجاز مرسل علاقته السببية وقد تقدم بحث ذلك لأن اليد هي سبب النعمة وإنما حذفت الياء في خط المصحف اجتزاء عنها بالكسرة وفسر بعضهم الأيد بمعنى القوة وهي وإن كانت جائزة من حيث اللغة إلا أن المقام يضعف استعمالها بهذا المعنى، قال الزمخشري «وتفسيره بالأيد من التأييد قلق غير ممكن» . [سورة ص (38) : الآيات 49 الى 60] هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 371 اللغة: (قاصِراتُ الطَّرْفِ) : حابسات العين على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم. (أَتْرابٌ) : أسنانهن واحدة، سمين بذلك كأن التراب مسهن في وقت واحد ويقول البيضاوي «أتراب لأزواجهن لدات لهم أي مساويات لأزواجهم في السن فإن التحاب بين الأقران أثبت ورجح الزمخشري أن يكون التسلوي بينهن دون أزواجهن وفي القاموس: «والترب بالكسر اللدة والسن ومن ولد معك وهي تربي وتاربتها: صارت تربها» قال عمر بن أبي ربيعة: أبرزوها مثل المهاة تهادى ... من خمس كواعب أتراب وقد نظم بعضهم معاني هذه المادة فقال: وضع تراب فوق صك ترب ... ضرب ترائب كذا والتّرب مثلك سنا والتراب التّرب ... ترائب الشخص عظام الصدر ومصدر لترب الشيء التّرب ... وجمع ترب الشخص في العمر التّرب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 372 وجمع تربة بضم التّرب ... أي قطعة من التراب فادر (وَغَسَّاقٌ) : ما يسيل من صديد أهل النار وفي القاموس: «وغسق الجرح سال منه ماء أصفر» وقيل الحميم يحرق بحرّه والغساق يحرق ببرده. الإعراب: (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) كلام مستأنف مسوق للإيذان بانتهاء ما تقدم من قصص والشروع في موضوع آخر. وهذا مبتدأ وذكر خبر وإن الواو استئنافية وإن حرف مشبه بالفعل وللمتقين خبرها المقدم واللام المزحلقة وحسن مآب اسمها المؤخر. (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) جنات عدن بدل أو عطف بيان لحسن مآب ومفتحة حال من جنات عدن والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل ولهم متعلقان بمفتحة والأبواب نائب فاعل لمفتحة لأنه اسم مفعول وقال الزمخشري في صدد إعراب هذه الآية: «ومفتحة حال والعامل فيها ما في للمتقين من معنى الفعل وفي مفتحة ضمير الجنات والأبواب بدل من الضمير تقديره مفتحة هي الأبواب كقولهم ضرب زيد اليد والرجل وهو من بدل الاشتمال وقرىء جنات عدن مفتحة بالرفع على أن جنات عدن مبتدأ ومفتحة خبره أو كلاهما خبر مبتدأ محذوف أي هو جنات عدن هي مفتحة لهم» . (مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) متكئين حال من الهاء في لهم والعامل فيها مفتحة وفيها متعلقان بمتكئين وجملة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 373 يدعو إما مستأنفة لبيان حالهم فيها ويجوز أن تكون حالية مما ذكر وفيها حال من فاعل يدعون أي حال كونهم فيها وبفاكهة متعلقان بيدعون والاقتصار على الفاكهة يفيد الإيذان بأن مطاعمهم هناك ليست للتغذي وإقامة الجسم ولكن لمحض اللذة والتفكه وكثيرة صفة وشراب عطف على فاكهة. (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ) الواو عاطفة والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وقاصرات الطرف مبتدأ مؤخر وأتراب صفة لقاصرات. (هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ) اسم الاشارة مبتدأ وما خبر وجملة توعدون صلة وليوم الحساب متعلقان بتوعدون واللام للتعليل أي لأجل يوم الحساب وأرى انه يجوز اعراب ما بدلا من اسم الإشارة وليوم الحساب هو الخبر ولعله أولى. (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) إن واسمها واللام المزحلقة ورزقنا خبر إن وما نافية حجازية أو تميمية وله خبر مقدم ومن حرف جر زائد ونفاد اسم مجرور لفظا بمن في محل رفع اسم ما المؤخر أو مبتدأ مؤخر. (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) هذا مبتدأ محذوف الخبر أو خبر لمبتدأ محذوف والكلام مستأنف وقد تقدم نظيره قريبا، قال ابن الأثير: «هذا في هذا المقام من الفصل الذي هو خير من الوصل وهي علاقة وكيدة بين الخروج من الكلام الى كلام آخر» والواو عاطفة وإن حرف مشبه بالفعل وللطاغين خبرها المقدم واللام المزحلقة وشر مآب اسم إن المؤخر. (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ) بدل من شر مآب أو عطف بيان له وجملة يصلونها حالية وهو مفعول مضارع والواو فاعل والهاء مفعول به ولك أن تعرب جهنم مفعولا بفعل محذوف دل عليه يصلونها والفاء الفصيحة أي إن أردت أن تعلم حقيقة جهنم فهي بئس المهاد وبئس فعل جامد لإنشاء الذم والمهاد فاعل والمخصوص محذوف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 374 تقديره هي. (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) هذا مبتدأ وحميم وغساق خبراه وجملة فليذوقوه معترضة والفاء اعتراضية واللام لام الأمر ويذوقوه فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والواو فاعل والهاء مفعول به وقد اضطربت أقوال المعربين في هذه الآية كثيرا وفيما يلي ما قاله أبو البقاء: «هذا هو مبتدأ وفي الخبر وجهان أحدهما فليذوقوه مثل قولك زيد اضربه وقال قوم هذا ضعيف من أجل الفاء وليست في معنى الجواب كالتي في قوله: والسارق والسارقة فاقطعوا، فأما حميم على هخا الوجه فيجوز أن يكون بدلا من هذا وأن يكون خبرا لمبتدأ محذوف أي هو حميم وأن يكون خبرا ثانيا والوجه الثاني أن يكون حميم خبر هذا وفليذوقوه معترض بينهما وقيل هذا في موضع نصب أي فليذوقوه هذا ثم استأنف فقال حميم أي هو حميم وأما غساق فيقرأ بالتشديد مثل كفار وصبار وبالتخفيف اسم للمصدر أي ذو غسق أو يكون فعال بمعنى فاعل» . (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) وآخر عطف على حميم وغساق ومن شكله نعت له وأزواج خبر لمبتدأ محذوف أي هي أو صفة للثلاثة. (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) الجملة مقول قول محذوف أي ويقال لهم عند دخولهم النار وهذا مبتدأ وفوج خبر ومقتحم صفة لفوج ومعكم ظرف متعلق بمحذوف صفة ثانية لفوج أو حال من الضمير من مقتحم أو من فوج لأنه وصف ولا نافية ومرحبا منصوب على المصدر وبهم متعلقان بمرحبا وفي الجملة المنفية وجهان أحدهما أنها مستأنفة سيقت للدعاء عليهم بضيق المكان أو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 375 حالية أي هذا فوج مقتحم مقولا لهم لا مرحبا بهم وفي القرطبي: «فقالت السادة لا مرحبا بهم أي لا اتسعت منازلهم في النار والرحب السعة ومنه رحبة المجد وغيره وهو بمعنى الدعاء ولذلك نصب» وقال أبو عبيدة: العرب تقول لا مرحبا بك أي لا رحبت عليك الأرض ولا اتسعت وجملة انهم صالو النار تعليل لاستيجابهم الدعاء عليهم وان واسمها وصالوا النار خبرها. (قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ) قالوا فعل وفاعل والضمير يعود على الاتباع وبل حرف إضراب وأنتم مبتدأ ولا مرحبا مقول قول محذوف هو الخبر أي يقال لكم، وأنتم مبتدأ وجملة قدمتموه خبره وقدمتموه فعل ماض والتاء فاعل والميم علامة جمع الذكور والواو لإشباع ضمة الميم والهاء مفعول به ولنا جار ومجرور متعلقان بقدمتموه، فبئس الفاء عاطفة وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والقرار فاعل والمخصوص بالذم محذوف أي النار. [سورة ص (38) : الآيات 61 الى 66] قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 376 الإعراب: (قالُوا: رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) قالوا فعل وفاعل وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء ومن اسم موصول مبتدأ وجملة قدّم خبر والفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وجملة فزده خبر والأولى أن يكون من مفعولا لفعل محذوف يفسره ما بعده أي فزد من قدّم او الهاء مفعول به أول وعذابا مفعول به ثان وضعفا نعت لعذاب أي مضاعفا وفي النار ظرف لزده أو حال من الهاء أي فزده كائنا في النار أو نعت ثان لعذابا. (وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) قالوا فعل وفاعل والضمير يعود على كفار مكة كأبي جهل وأمية بن اخلف وغيرهما، وما اسم استفهام مبتدأ ولنا متعلقان بمحذوف خبر وجملة لا نرى حالية وفاعل نرى ضمير مستتر تقديره نحن ورجالا مفعول به وأرادوا بهم فقراء المسلمين وكان واسمها وجملة كنّا صفة لرجالا وجملة نعدهم خبر كنّا أي نحسبهم في الدنيا ومن الأشرار متعلقان بنعدهم. (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) الهمزة للاستفهام الإنكاري وهمزة الوصل سقطت استغناء عنها واتخذناهم فعل ماض وفاعل ومفعول به أول وسخريا مفعول به ثان كأنهم أنكروا على أنفسهم ما كانوا يتخذونه في الدنيا وسخريا يقرأ بكسر السين وضمها والياء للنسب فالسخري أقوى من السخر كما قيل في الخصوص خصوصية للدلالة على قوة ذلك، فافهمه فإنه جيد، وأم حرف عطف متصل بقوله مالنا وزاغت عنهم الأبصار فعل وفاعل وعنهم متعلقان بزاغت فلم نرهم ومنهم عمار بن ياسر وبلال وصهيب وسلمان وجملة اتخذناهم مستأنفة، ونرى من المفيد أن ننقل عبارة الزمخشري قال: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 377 «أم زاغت عنهم الأبصار: له وجهان من الاتصال أحدهما أن يتصل بقوله ما لنا أي ما لنا لا نراهم في النار كأنهم ليسوا فيها بل زاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها قسموا أمرهم بين أن يكونوا من أهل الجنة وبين أن يكونوا من أهل النار إلا انه خفي عليهم مكانهم والوجه الثاني أن يتصل باتخذناهم سخريا إما أن تكون أم متصلة على معنى أي الفعلين فعلنا بهم الاستسخار منهم أم الازدراء بهم والتحقير وأن أبصارنا كانت تعلو عنهم وتقتحمهم على معنى إنكار الأمرين جميعا على أنفسهم، وعن الحسن: كل ذلك قد فعلوا اتخذوهم سخريا وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم، وإما أن تكون منقطعة كقولك: إنها الإبل أم شاء، وأزيد عندك عمرو» . (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) إن واسمها أي الذي حكيناه عنهم واللام المزحلقة وحق خبر وتخاصم أهل النار بدل من حق أو خبر لمبتدأ محذوف وجملة المبتدأ المحذوف وخبره مفسرة لاسم الاشارة وسيأتي معنى التخاصم في باب البلاغة. (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) إنما كافة ومكفوفة وأنا مبتدأ ومنذر خبر والواو حرف عطف وما نافية ومن حرف جر زائد وإله مجرور لفظا مرفوع بالابتداء محلا وإلا أداة حصر والله خبر والواحد القهار صفتان لله. (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) رب نعت أو بدل وما بينهما عطف على السموات والأرض والعزيز الغفار نعتان أيضا. البلاغة: 1- في قوله «إن ذلك لحق تخاصم أهل النار» تشبيه تقاولهم وما يدور بينهم من حوار ويتبادلونه من سؤال وجواب بما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 378 يجري بين المتخاصمين من نحو ذلك لأن قول الرؤساء لتابعيهم لا مرحبا بهم وقول التابعين بل أنتم لا مرحبا بكم لا يعدو الخصومة التي يتراشقها المتخاصمون. 2- فائدة الحرف الزائد في كلام العرب إما معنوية وإما لفظية فالمعنوية تأكيد المعنى الثابت وتقويته وأما اللفظية فتزيين اللفظ وكونه بزيادتها أفصح أو كون الكلمة أو الكلام بها يصير مستقيم الوزن أو حسن السجع أو غير ذلك ولا يجوز خلو الزيادة من اللفظية والمعنوية معا وإلا لعدت عبثا وقد تجتمع الفائدتان في حرف وقد تنفرد إحداهما عن الأخرى. الفوائد: تغييرات النسبة: ذكرنا في الإعراب أن السخري أقوى من السخر والخصوصية أقوى من الخصوص ونذكر هنا أن النسب يحدث في الاسم تغييرات: 1- زيادة ياء النسب في آخره وهذه الياء المشددة حرف بمنزلة تاء التأنيث لا موضع لها من الإعراب. 2- كسر ما قبلها. 3- جعل الياء منتهى الاسم. وإنما تطرق التغيير في اللفظ لتغيير المعنى، ألا ترى أنك إذا نسبت الى علم استحال نكرة بحيث تدخله أداة التعريف كالتثنية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 379 والجمع وصار صفة بمنزلة المشتق بعد الجود ويرفع الاسم بعده على الفاعلية أما مظهرا أو مضمرا تقول مررت برجل تميمي أبوه وآخر هاشمي جده، وإذا نسبت الى المصدر زدته قوة كما في قولك سخريا. [سورة ص (38) : الآيات 67 الى 78] قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) الإعراب: (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) قل فعل وفاعله مستتر تقديره أنت يا محمد وتكرير القول لتأكيد النبأ وتضخيمه، وهو مبتدأ ونبأ خبر وعظيم صفة. (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) الجملة نعت ثان للنبأ ويجوز أن تجعلها مستأنفة للفت الانتباه الى فداحة ما يرتكبونه من جريرة الإعراض عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 380 ذلك النبأ وهو القرآن وما حفل به من شرائع وتعاليم وأنتم مبتدأ وعنه متعلقان بمعرضون ومعرضون خبر أنتم. (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) كلام مستأنف مسوق لتأكيد أنه نبأ عظيم وارد من الله تعالى وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولي خبر كان المقدم ومن حرف جر زائد وعلم مجرور بمن لفظا في محل رفع اسم كان المؤخر وبالملا متعلقان بعلم على تقدير مضاف أي بأنباء الملا واختصامهم والأعلى صفة للملا وإذ ظرف ماض متعلق بالمصدر أيضا وقال الزمخشري: «بمحذوف لأن المعنى ما كان لي بكلام الملا الأعلى وقت اختصامهم» وجملة يختصمون في محل جر بإضافة الظرف إليها وقيل الضمير في يختصمون عائد على قريش أي يختصمون في أمر الملا الأعلى لأن ذلك أمر تنوء العقول دون معرفته والمدار في الإحاطة به على الوحي. (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) إن نافية ويوحى فعل مضارع مبني للمجهول وإلي متعلق بيوحى وإلا أداة حصر وانما كافة ومكفوفة وقد سدت مع مدخولها مسد نائب فاعل يوحى أي ما يوحى إلى إلا الانذار والقصر اضافي وقد تكرر هنا وقد تقدم بحث القصر وأنا مبتدأ ونذير خبر ومبين نعت. (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) إذ بدل من إذ يختصمون ويجوز أن تنصبها بأذكر محذوفا وجملة قال ربك في محل جر بإضافة الظرف إليها وإن وما بعدها مقول قول وإن واسمها وخالق خبرها وبشرا مفعول به لخالق ومن طين نعت لبشرا وقد أغنى بهذا الوصف عن النعوت البشرية كلها وتلك هي براعة الإيجاز. (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 381 معنى الشرط وسويته فعل ماض وفاعل ومفعول به والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها ونفخت عطف على سويته وفيه متعلقان بنفخت وكذلك قوله من روحي والمعنى وأحييته وجعلته حساسا، فقعوا الفاء رابطة لجواب أذا وقعوا فعل أمر وفاعل وله متعلقان بساجدين وساجدين حال والمراد بالسجود التكرمة والاحترام. (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) الفاء عاطفة وسجد الملائكة فعل وفاعل وكلهم تأكيد أول وأجمعون تأكيد ثان، قال الزمخشري: «كل للإحاطة وأجمعون للاجتماع فأفادا معا أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا سجد وأنهم سجدوا في وقت واحد غير متفرقين في أوقات» . (إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) إلا أداة استثناء وإبليس مستثنى متصل أو منقطع وذهب الزمخشري مذهبا غريبا قال: «فإن قلت كيف استثنى إبليس من الملائكة وهو من الجن؟ قلت قد أمر بالسجود معهم فغلبوا عليه في قوله فسجد الملائكة ثم استثنى كما يستثنى الواحد منهم استثناء متصلا وجملة استكبر مستأنفة لبيان كيفية امتناعه من السجود وكان عطف على استكبر واسم كان مستتر تقديره هو يعود على إبليس ومن الكافرين خبر كان (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) قال فعل ماض وفاعله يعود على الله تعالى ويا حرف نداء وإبليس منادى مفرد علم مبني على الضم وما اسم استفهام مبتدأ وجملة منعك خبر وأن وما في حيزها منصوب على أنه مفعول ثان لمنع وأن حرف مصدري ونصب وتسجد فعل مضارع منصوب بأن وفاعله مستتر تقديره أنت واللام حرف جر وما اسم موصول مجرور باللام وجملة خلقت صلة والعائد محذوف أي خلقته وبيدي متعلقان بخلقت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 382 (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي وهمزة الوصل سقطت استغناء عنها واستكبرت فعل وفاعل وأم عاطفة متصلة ولا يمنع من ذلك اختلاف الفعلين، قال سيبويه: «وتقول أضربت زيدا أم قتلته فالابتداء هنا بالفعل أحسن لأنك إنما تسأل عن أحدهما لا تدري أيهما كان ولا تسأل عن موضع أحدهما كأنك قلت: أي ذلك كان؟» وكنت كان واسمها ومن العالين خبرها أي من المتكبرين. (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) أنا مبتدأ وخير خبر ومنه متعلقان بخير والجملة مقول القول وخلقتني فعل وفاعل ومفعول به ومن نار متعلقان بخلقتني وخلقته من طين عطف على خلقتني من نار. (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) قال فعل ماض والفاعل هو يعود على الله تعالى، فاخرج الفاء الفصيحة واخرج فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ومنها متعلقان باخرج، فإنك الفاء تعليل للأمر بالطرد وان واسمها ورجيم خبرها. (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) عطف على فإنك رجيم وان حرف مشبه بالفعل وعليك خبرها المقدم ولعنتي اسمها المؤخر والى يوم الدين متعلقان بمحذوف حال أي مستمرة ومعنى الانتهاء استمرارها في الدنيا حتى إذا كان يوم الدين تضاعفت عليه حتى لتكاد الأولى تنسى فكأنها انتهت لتستأنف من جديد. البلاغة: في قوله «ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي» تغليب لليدين على غيرهما من الجوارح التي تباشر بها الأعمال لأن ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه حتى قيل في عمل القلب هو مما عملت يداك على المجاز الجزء: 8 ¦ الصفحة: 383 وحتى قيل في المثل «يداك أو كتا وفوك نفخ» وقد أبى فريق من أهل السنة أن يكون من المجاز كالشيخ أبي الحسن الأشعري واحتجوا بأن نعم الله لا تحصى فكيف تحصر بالتثنية وهذا حق، على أن إمام الحرمين وغيره من أهل السنة جوّزوا حملها على المجاز وأجابا عما ذكره الشيخ أبو الحسن بأن المراد نعمة الدنيا والآخرة وهذا مما يحقق تفضيله على إبليس إذ لم يخلق إبليس لنعمة الآخرة وعلى أن المراد القدرة فالتثنية تعظيم ومثل ذلك كثير في اللغة. [سورة ص (38) : الآيات 79 الى 88] قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) الإعراب: (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) قال: فعل ماض وفاعله مستتر يعود الى إبليس، فأنظرني الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدر وتقديره إذا جعلتني رجيما فأمهلني، وانظرني فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 384 والنون للوقاية والياء مفعول به والى يوم متعلقان بأنظرني وجملة يبعثون في محل جر بإضافة الظرف إليها طلب فسحة لاغواء بني آدم. (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) الفاء عاطفة لترتيب مضمون الجملة على الإنظار والباء حرف جر وقسم وعزتك مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف واللام واقعة في جواب القسم وأغويناهم جملة لا محل لها وأغويناهم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا ومفعول به وأجمعين تأكيد. (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) إلا أداة استثناء وعبادك مستثنى ومنهم حال والمخلصين نعت لعبادك (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) الفاء استئنافية والحق مبتدأ خبره محذوف تقديره قسمي أو مني أو خبر المبتدأ محذوف أي هو الحق والحق مفعول مقدم لأقول أي لا أقول إلا الحق يعني أن تقديم المفعول أفاد الحصر أو هو مصدر مؤكد لمضمون قوله لأملأن وجملة والحق أقول اعتراضية بين القسم وجوابه. وقد قرىء بنصب الحق الأول. (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) اللام جواب للقسم وأملأن فعل مضارع مبني على الفتح والفاعل مستتر تقديره أنا والجملة خبر الحق أو لا محل لها لأنها جواب قسم ولم تتمحض لجواب القسم لأنه غير نص في اليمين بخلاف لعمرك ولهذا لم يحذف الخبر ووجوبا وجهنم مفعول به ومنك متعلقان بأملأن وممن تبعك عطف على منك وجملة تبعك صلة من ومنهم حال وأجمعين تأكيد للضمير في منهم أو للكاف في منك وما عطف عليه، قال الزمخشري: «فإن قلت أجمعين تأكيد لماذا؟ قلت: لا يخلو أن يؤكد به الضمير في منهم أو الكاف في منك مع من تبعك ومعناه لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين لا أترك أحدا منهم» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 385 (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) ما نافية وأسألكم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وعليه متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لأجر وتقدم عليه ومن حرف جر زائد وأجر مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول أسألكم والواو عاطفة أو حالية وما نافية حجازية وأنا اسمها ومن المتكلفين خبرها أي المتصنعين المتصفين بما ليسوا من أهله حتى أنتحل النبوة وأتقوّل القرآن. (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) إن نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر وذكر خبر هو وللعالمين صفة لذكر. (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وتعلمن فعل مضارع مرفوع لأن نون التوكيد لم تباشره وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لالتقاء الساكنين والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين أيضا فاعل والنون نون التوكيد الثقيلة ونبأه مفعول به وبعد حين ظرف متعلق بتعلمن وعلم بمعنى عرف فهو متعد لواحد وهو نبأه ويجوز أن تكون على بابها فيكون المفعول الثاني بعد حين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 386 (39) سورة الزمر مكية وآياتها خمس وسبعون [سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) الإعراب: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) تنزيل مبتدأ والكتاب مضاف اليه ومن الله خبر والعزيز الحكيم نعتان ويجوز أن يكون تنزيل خبرا لمبتدأ محذوف أي هذا تنزيل ومن الله متعلقان بالمصدر أو بمحذوف خبر بعد خبر أو بمحذوف حال من الكتاب. (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) ان واسمها وجملة أنزلنا خبر والجملة مستأنفة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 387 مسوقة لبيان المنزل عليه وما يترتب عليه بعد نزوله وإليك متعلقان بأنزلنا والكتاب مفعول به وبالحق حال من الفاعل أو المفعول أي ملتبسين بالحق أو ملتبسا بالحق. (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) الفاء الفصيحة واعبد الله فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به ومخلصا حال وله متعلقان بمخلصا والدين مفعول به. (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) كلام مستأنف مقرر لما قيله وألا أداة تنبيه واستفتاح ولله خبر مقدم والدين مبتدأ مؤخر والخالص نعت. (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى) والذين الواو استئنافية والذين مبتدأ وجملة اتخذوا صلة الموصول ومن دونه حال أو مفعول به ثان وأولياء مفعول به أول وجملة ما نعبدهم مفعول لقول محذوف هو خبر الذين أي يقولون وما نافية ونعبدهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وإلا أداة حصر وليقربونا اللام للتعليل ويقربونا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والواو فاعل ونا مفعول به والى الله متعلقان بيقربونا وزلفى مصدر مؤكد على غير المصدر ولكنه ملاق لعامله في المعنى والتقدير ليزلفونا زلفى وأجاز أبو البقاء أن يعرب حالا مؤكدة. (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ان واسمها وجملة يحكم خبرها وأجاز بعضهم أن يكون قوله إن الله يحكم بينهم خبر الذين فيكون موضع القول المضمر نصبا على الحال أي قائلين ذلك، وبينهم ظرف متعلق بيحكم وفيما متعلقان بيحكم أيضا وهم مبتدأ وفيه متعلقان بيختلفون وجملة يختلفون خبرهم والجملة الاسمية صلة ما. (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) إن واسمها وجملة لا يهدي خبرها وفاعل يهدي مستتر يعود على الله ومن مفعول به وهو مبتدأ وكاذب كفار خبران له والجملة الاسمية صلة من. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 388 الفوائد: حروف التنبيه «ها» و «ألا» و «أما» والفرق بين «أما» و «ألا» أن «أما» للحال أو للماضي و «ألا» للاستقبال تقول: أما ان زيدا عاقل، تريد أنه عاقل في الحال ولا تقول ألا، وتقول ألا ان زيدا لا يخاف أي في المستقبل ولا تقول أما، والفرق بينهما وبين «ها» أنهما لا يدخلان إلا أول الكلام على الجملة بخلاف «ها» فتدخل على الضمير وأسماء الإشارة وإن لم تكن في أول الكلام وتدخل «أما» على القسم و «ألا» كثيرا على النداء. إذا تقرر هذا فهل تكون هنا للاستقبال مع أن كون الدين لله هو في كل زمان؟ والجواب أن المراد هنا الاستقبال بالنسبة لمن يعتنقون الدين الخالص، على أنهما يتعاوران أي تأتي «ألا» لمجرد الاستفتاح ولا يكون التنبيه مقصودا. [سورة الزمر (39) : الآيات 4 الى 6] لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 389 اللغة: (يُكَوِّرُ) : التكوير: اللف واللي يقال كار العمامة على رأسه وكورها وفيه أوجه- كما يقول الزمخشري-: 1- ان الليل والنهار خلفة يذهب هذا ويغشى مكانه هذا فكأنما ألبسه ولف عليه كما يلف اللباس على اللابس ومنه قول ذي الرمة في وصف السراب: تلوى الثنايا بحقويها حواشيه ... لي الملاء بأبواب التفاريج والثنايا: العقبات والحقو الخصر والحواشي الجوانب والملاء جمع ملاءة وهي الجلباب والتفاريج جمع تفراج وهو الباب الصغير والثوب من الديباج، وأسند اللي الى الثنايا لأنها سبب الالتواء، شبه إحاطة جوانبه وتراكمه في جوانب العقبة بلي الجلباب في أبواب التفاريج. 2- ان كل منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار. 3- ان هذا يكر على هذا كرورا متتابعا فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على إثر بعض. الإعراب: (لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) لو حرف شرط غير جازم وأراد فعل ماض والله فاعل وأن وما في حيزها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 390 مفعول أراد واللام رابطة لجواب لو واصطفى فعل ماض وفاعله هو أي الله تعالى والجملة لا محل لها ومما متعلق باصطفى وجملة يخلق صلة ما وما مفعول به وجملة يشاء صلة ما والعائد محذوف أي يشاؤه (سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) سبحانه مفعول مطلق لفعل محذوف تنزيه له تعالى عن أن يكون له أحد ما نسبوا إليه، وهو مبتدأ والله خبره والواحد القهار نعتان الله. (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) خلق فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله تعالى والسموات مفعول به والأرض عطف على السموات وبالحق حال. (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) الجملة حالية أو مستأنفة مبينة لكيفية تصرفه في السموات والأرض، والليل مفعول به وعلى النهار متعلقان بيكور ويكور النهار على الليل عطف على مثيلتها. (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) وسخر الشمس والقمر عطف على خلق السموات والأرض وكل مبتدأ وجملة يجري خبر ولأجل متعلقان بيجري ومسمى نعت لأجل وألا أداة تنبيه تصدرت الجملة لإظهار مدى الاهتمام بها، والاعتناء بفحواها وهو مبتدأ والعزيز الغفار خبران لهو. (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) خلقكم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به ومن نفس جار ومجرور متعلقان بخلقكم وواحدة نعت لنفس والمراد بها آدم ثم حرف للترتيب والتراخي وسيأتي سر العطف بها في باب البلاغة وجعل فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله تعالى ومنها متعلقان بجعل لأنه بمعنى خلق وزوجها مفعول به. (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) وأنزل عطف على خلقكم ولكم متعلقان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 391 بمحذوف حال ومن الأنعام متعلقان بأنزل وثمانية أزواج مفعول به وقد تقدم معنى الزوجين في سورة الأنعام. (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) الجملة حالية أو استئنافية مبينة لكيفية خلق ما ذكر، ويخلقكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وفي بطون أمهاتكم متعلقان بيخلقكم وخلقا مفعول مطلق ومن بعد خلق صفة له ويجوز أن يتعلق بيخلقكم فيكون المصدر لمجرد التأكيد، قال البيضاوي: «أي حيوانا سويا من بعد عظام مكسوة لحما من بعد عظام عارية من بعد مضغ من بعد علق من بعد نطف، وفي ظلمات متعلقان بخلق المجرور الذي قبله ولا يجوز تعلقه بخلقا المنصوب لأنه مصدر مؤكد فلا يعمل ولا بيخلق لأنه تعلق به جار مثله ولا يتعلق حرفان متحدان لفظا ومعنى إلا بالبدلية والعطف فإن جعلت في ظلمات بدلا من في بطون أمهاتكم بدل اشتمال لأن البطون مشتملة عليها ويكون بدلا بإعادة العامل جاز ذلك وسيأتي المراد بالظلمات الثلاث في باب الفوائد. (ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) ذلكم مبتدأ والله خبره الأول وربكم خبره الثاني وله خبر مقدم والملك مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر ثالث وجملة لا إله إلا هو خبر رابع وقد تقدم إعراب كلمة الشهادة مفصلا، فأنى الفاء استئنافية وأنى اسم استفهام متعلق بمحذوف حال وتصرفون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. البلاغة: في قوله «ثم جعل منها زوجها» عطف «ثم» التي تفيد الترتيب مع التراخي في الوجود، وظاهر الأمر يتنافى مع ذلك لأن خلق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 392 حواء من آدم سابق على خلقنا منه، وقد استشكل علماء البيان والمفسرون هذا العطف وأجابوا بأجوبة نوردها ثم ترجح ما هو أقرب إلى الرجحان قال الزمخشري: «فإن قلت ما وجه قوله ثم جعل منها زوجها وما يعطيه من معنى التراخي؟ قلت: هما آيتان من جملة الآيات التي عددها دالّا على وحدانيته وقدرته وتشعيب هذا الخلق الفائت للحصر من نفس آدم وخلق حواء من قصرياه (والقصريان ضلعان يليان الترقوتين) إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرة والأخرى لم تجر بها عادة ولم تخلق أنثى غير حواء من قصيري رجل فكانت أدخل في كونها آية وأجلب لعجب السامع فعطفها بثم على الآية الأولى للدلالة على مباينتها لها فضلا ومزية وتراخيها عنها فيما يرجع الى زيادة كونها آية فهو من التراخي في الحال والمنزلة لا من التراخي في الوجود» . وقال غيره: «المعطوف متعلق بمعنى واحدة فثم عاطفة عليه لا على خلقكم فمعناه خلقكم من نفس واحدة أفردت بالإيجاد ثم شفعت بزوج فكانت هاهنا على بابها لتراخي الوجود» . ونرى أن كلا الوجهين مستقيم ويصح حمل العطف عليه. وهنا وقع ابن هشام في خطأ التلاوة فأورد هذه الآية بلفظ «هو الذي خلقكم من نفس واحدة» إلخ.. وقد أوردها شاهدا على أن قوما خالفوا في معناها وهو الترتيب تمسكا بها قال: «والجواب عن الآية من خمسة أوجه: (أحدها) أن العطف على محذوف أي من نفس واحدة أنشأها ثم جعل منها زوجها. (الثاني) ان العطف على واحدة على تأويلها بالفعل أي من نفس توحدت أي انفردت ثم جعل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 393 منها زوجها. (الثالث) ان الذرية أخرجت من ظهر آدم عليه الصلاة والسلام كالذر ثم خلقت حواء من قصيراه. (الرابع) ان خلق حواء من آدم لما لم تجر عادة بمثله جيء بثم إيذانا بترتبه وتراخيه في الإعجاب وظهور القدرة لا لترتيب الزمن وتراخيه. (الخامس) ان ثم لترتيب الأخبار لا لترتيب الحكم وانه يقال بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب أي ثم أخبرك أن الذي صنعته أمس أعجب. الفوائد: أراد بقوله «في ظلمات ثلاث» ظلمة البطن، وظلمة الرحم بفتح الراء وكسر الحاء، والرحم بكسر الراء وسكون الحاء مؤنثة وهي مستودع الجنين في أحشاء الحبلى، وظلمة المشيمة وهي كما في المصباح «وزان كريمة وأصلها مفعلة بسكون الفاء وكسر العين لكن ثقلت الكسرة على الياء فنقلت الى الشين وهي غشاء ولد الإنسان. وقال ابن الأعراب ي: يقال لما يكون فيه الولد المشيمة والكيس والغلاف والجمع مشيم بحذف الهاء ومشايم مثل معيشة ومعايش ويقال لها من غيره السلا» . [سورة الزمر (39) : الآيات 7 الى 8] إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 394 الإعراب: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) إن حرف شرط جازم وتكفروا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والفاء رابطة وإن واسمها وخبرها والجملة جواب الشرط وعنكم متعلقان بغني وان تشكروا عطف على أن تكفروا ويرضه جواب الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به بضم وسكونها وبإشباع ودونه. (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الواو حرف عطف ولا نافية وتزر فعل مضارع مرفوع ووازرة فاعل ووزر مفعول به أي لا تحمل نفس وزر نفس أخرى وأخرى مضاف اليه على حذف منعوت أي نفس أخرى ثم حرف عطف للتراخي والى ربكم خبر مقدم ومرجعكم مبتدأ مؤخر والفاء حرف عطف وينبئكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وبما متعلقان بينبئكم وكنتم كان واسمها وجملة تعملون خبرها وجملة كنتم تعملون صلة الموصول (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) إن واسمها وخبرها وبذات الصدور متعلقان بعليم والجملة تعليل للتنبئة بالأعمال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 395 (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) الواو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط ومسّ فعل ماض مبني على الفتح والإنسان مفعول به مقدم وضر مبتدأ مؤخر والمراد بالضر جميع المكاره وجملة دعا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وربه مفعول به ومنيبا حال واليه متعلقان بمنيبا. (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) ثم حرف عطف للتراخي وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة خوله في محل جر بإضافة الظرف إليها وخوله فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله تعالى والهاء مفعوله الأول ونعمة مفعوله الثاني ومنه صفة لنعمة ولك أن تعلقه بخوّله وجملة نسي لا محل لها والفاعل مستتر تقديره هو يعود على الإنسان وما مفعول به وجملة كان صلة ما واسم كان مستتر يعود على الإنسان وجملة يدعو خبر كان وإليه متعلقان بيدعو ومن قبل متعلقان بمحذوف حال ويجوز في ما أن تكون مصدرية أي نسي كونه داعيا. (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) وجعل عطف على نسي وفاعله مستتر يعود على الإنسان ولله متعلقان بمحذوف هو مفعول جعل الثاني وأندادا مفعول جعل الأول وليضل اللام للتعليل ويضل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وقيل اللام للعاقبة وهي تتمشى مع قراءة يضل بفتح اللام وهما قراءتان سبعيتان وعن سبيله متعلقان بيضل. (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وتمتع فعل أمر أيضا وفاعل مستتر والجملة مقول القول والمقصود بالأمر التهديد وبكفرك متعلقان بتمتع وقليلا ظرف زمان أو مفعول مطلق صفة لمصدر محذوف وجملة إنك من أصحاب النار تعليل للأمر بالتمتع وإن واسمها ومن أصحاب النار خبرها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 396 [سورة الزمر (39) : الآيات 9 الى 10] أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) اللغة: (قانِتٌ) : قائم بوجائب الطاعات ووظائفها ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة طول القنوت» وهو القيام فيها ومنه القنوت في الوتر لأنه دعاء المصلي قائما وفي القاموس: «القنوت: الطاعة والسكوت والدعاء والقيام في الصلاة والإمساك عن الكلام وأقنت دعا على عدوه وأطال القيام في صلاته وأدام الحج وأطال الغزو وتواضع لله تعالى وامرأة قنيت بينة القناتة قليلة الطعم وسقاء قنيت مسيّك» وقول القاموس مسيك بكسر الميم وسكون السين أي يمسك الماء. (آناءَ) : جمع إنى بكسر الهمزة والقصر كمعى بكسر الميم والقصر والجمع أمعاء وفي المصباح: «الآناء على أفعال هي الأوقات وفي واحدها لغتان: إني بكسر الهمزة والقصر وإني بوزن حمل» وفي المختار: «وآناء الليل: ساعاته قال الأخفش واحدها إنى مثل معى وقيل واحدها إني وإنو يقال مضى من الليل أنيان وأنوان» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 397 الإعراب: (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) أم يجوز أن تكون متصلة ومعادلها محذوف تقديره الكافر خير أم الذي هو قانت وقد دخلت على من الموصولة فأدغمت الميم في الميم، أو منقطعة فتقدر ببل والهمزة أي بل أمن هو قانت كغيره؟ وقرىء بالتخفيف فالهمزة للاستفهام الانكاري، وعلى كل فمن اسم موصول مبتدأ خبره محذوف كما تقدم وهو مبتدأ وقانت خبره والجملة صلة من وآناء الليل ظرف متعلق بقانت وساجدا حال وقائما عطف عليه وجملة يحذر الآخرة حال ثالثة وجملة يرجو رحمة ربه عطف على جملة يحذر الآخرة. (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) هل حرف استفهام معناه الإنكار ويستوي الذين فعل مضارع وفاعل وجملة يعلمون صلة والذين لا يعلمون عطف على الذين يعلمون، وفي هذه الآية تنزيل المتعدي منزلة القاصر ولا يقدر المفعول في قوله يعلمون لأن المقدر كالموجود أي هل يستوي من ثبتت له حقيقة العلم ومن لم تثبت له والاستفهام إنكاري أي لا يستويان لأن المقصود بيان ثبوت الفعل للفاعل لا بيان وقوعه على المفعول وإيضاح الفرق بين المنزل وغيره أن قولك فلان يعطى لبيان كونه معطيا فيكون كلاما مع من جهل أصل الإعطاء وقولك فلان يعطي الدنانير لبيان جنس ما يتناوله الإعطاء لا لبيان كونه معطيا ويكون كلاما مع من ثبت له أصل الإعطاء لا مع من جهل إعطاء.. (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) إنما كافة ومكفوفة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 398 ويتذكر فعل مضارع مرفوع وأولو الألباب فاعل والجملة مستأنفة مسوقة لبيان عدم تأثير ما تقدم من قوارع وزواجر في قلوبهم لاختلال عقولهم. (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) يا حرف نداء وعبادي منادى مضاف والذين صفة لعبادي وجملة آمنوا صلة الذين والجملة مقول القول واتقوا ربكم فعل أمر وفاعل ومفعول به. (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ) للذين خبر مقدم وجملة أحسنوا صلة وفي هذه متعلقان بأحسنوا والدنيا بدل من اسم الاشارة وحسنة مبتدأ مؤخر وأرض الله مبتدأ وواسعة خبر. (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) الجملة تعليل لما تقدم ترغيبا في الصبر وإنما كافة ومكفوفة والصابرون نائب فاعل وأجرهم مفعول به ثان وبغير حساب حال من الأجر. ولو لم يكن في الصبر إلا ما جاء في هذه الآية لكان في ذلك كفاية وفي الحديث: «انتظار الفرج بالصبر عبادة» وقيل لعلي بن أبي طالب: أي شيء أقرب الى الكفر؟ قال ذو فاقة لا صبر له، ومن كلامهم: «الصبر مرّ لا يتجرعه إلا حر» وكان عبد الله بن المقفع يقول: «إذا نزل بك أمر مهم فانظر فإن كان لك فيه حيلة فلا تعجز، وإن كان مما لا حيلة فيه فلا تجزع» وما أحسن قوله: تعجز وتجزع وهذا الذي يسمى قلب البعض وهو معدود عند أرباب البديع من الجناس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 399 [سورة الزمر (39) : الآيات 11 الى 18] قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) الإعراب: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) إن واسمها وجملة أمرت خبرها والجملة مقول القول وأمرت فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض المتعلق بأمرت ومخلصا حال وله متعلقان بمخلصا والدين مفعول به. (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) وأمرت عطف على أمرت الأولى ولأن أكون متعلقان بأمرت أي بأن أكون فاللام بمعنى الباء واسم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 400 أكون مستتر تقديره أنا وقيل اللام للتعليل أي لأجل أن أكون وللزمخشري تقرير مطول بهذا الصدد ننقله في باب الفوائد لأهميته وأول خبر أكون والمسلمين مضاف اليه. (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) إن واسمها وجملة أخاف خبر وفاعل أخاف مستتر تقديره أنا وإن شرطية وعصيت فعل وفاعل وهو في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف دل عليه ما قبله أي فإني أخاف وعذاب يوم مفعول أخاف وعظيم صفة ليوم. (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) لفظ الجلالة مفعول مقدم لأعبد وأعبد فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا ومخلصا حال وله متعلقان بمخلصا وديني مفعول مخلصا أي ليكون سالما من الشرك والرياء وكل ما يشوب الأعمال مما يفسدها. (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) الفاء الفصيحة واعبدوا فعل أمر الغاية منه التهديد والوعيد والواو فاعل وما مفعول به وجملة شئتم صلة ومن دونه حال. (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) إن واسمها والذين خبرها وجملة خسروا صلة الذين وأنفسهم مفعول به وأهليهم عطف على أنفسهم ويوم القيامة ظرف لخسروا أو حال من أهليهم يعني أزواجهم وخدمهم. (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) ألا أداة تنبيه وذلك مبتدأ وهو مبتدأ ثان والخسران خبر هو والجملة خبر ذلك والمبين صفة للخسران ولك أن تجعل هو ضمير فصل لا محل له وسيأتي مزيد من القول في هذه الآية في باب البلاغة. (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) لهم خبر مقدم ومن فوقهم حال وظلل مبتدأ مؤخر وفي الكلام إبهام سيأتي تقريره في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 401 باب البلاغة ومن النار صفة لظلل ومن تحتهم ظلل عطف على من فوقهم ظلل. (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) ذلك مبتدأ أي ذلك العذاب وجملة يخوف الله به خبر وعباده مفعول يخوف ويا حرف نداء وعباد منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة اتباعا لرسم المصحف والفاء الفصيحة واتقون فعل أمر والواو فاعل والنون للوقاية وياء المتكلم المحذوفة لما تقدم مفعول به. (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى) الذين مبتدأ وجملة اجتنبوا صلة والطاغوت مفعول به وقد تقدم القول فيه وأنه يطلق على الواحد والجمع وعلى المذكر والمؤنث وأن يعبدوها مصدر مؤول في محل نصب بدل اشتمال من الطاغوت أي عبادتها وسيأتي مزيد من القول في الطاغوت في باب البلاغة ولهم خبر مقدم والبشرى مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر الذين. (فَبَشِّرْ عِبادِ) الفاء الفصيحة وبشر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعباد مفعول به وعلامة نصبه فتحه مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اتباعا لرسم المصحف وفيه إظهار الضمير أي فبشرهم اهتماما بهم. (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) الذين صفة لعباد وجملة يستمعون صلة والقول مفعول به والفاء عاطفة ويتبعون عطف على يستمعون وأحسنه مفعول به. (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) أولئك مبتدأ والدين خبر والاشارة الى الموصوفين بما ذكر وجملة هداهم الله صلة وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ ثان أو ضمير فصل وأولو الألباب خبر هم والجملة خبر أولئك أو خبر أولئك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 402 البلاغة: 1- التهويل: في قوله «ألا ذلك هو الخسران المبين» تهويل رائع فقد جعل الجملة مستأنفة وصدرها بحرف التنبيه ووسط ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر وعرف الخسران كأنه مما تعورف أمره واشتهر هوله ووصفه بالمبين فجعل خسرانهم غاية في الفظاعة ونهاية في الشناعة. 2- المبالغة: وفي تشبيه الشيطان بالطاغوت وجوه ثلاثة من المبالغة: 1- تسميته بالمصدر كأنه نفس الطغيان. 2- بناؤه على فعلوت وهي صيغة مبالغة كالرحموت وهي الرحمة الواسعة والملكوت وهو الملك الواسع. 3- والشبه الثالث تقديم لامه على عينه ليفيد اختصاصه بهذه التسمية. الفوائد: وعدناك بنقل الفصل الممتع الذي عقده الزمخشري في إعراب قوله «إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين، وأمرت لأن أكون من المسلمين» قال: «فإن قلت كيف عطف أمرت على أمرت وهما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 403 واحد؟ قلت: ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء والأمر به ليحرز القائم به قصب السبق في الدين شيء، وإذا اختلف وجها الشيء ومنعتا ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت لأن أفعل ولا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح كأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه، كما عوض السين في اسطاع عوضا من ترك الأصل الذي هو أطوع، والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله وأمرت أن أكون من المسلمين وأمرت أن أكون من المؤمنين أن أكون أول من أسلم وفي معناه أوجه: أن أكون أول من أسلم في زماني ومن قومي لأنه أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام وحطمها وأن أكون أول الذين دعوتهم الى الإسلام إسلاما وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره لأكون مقتدى بي في قولي وفعلي جميعا ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون وأن أفعل ما أستحق به الأولوية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب» فتأمله فإنه من غرر الأقوال. [سورة الزمر (39) : الآيات 19 الى 21] أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 404 اللغة: (يَنابِيعَ) : في المختار: «نبع الماء: خرج وبابه قطع ودخل ونبع ينبع بالكسر نبعانا بفتح الباء لغة أيضا والينبوع عين الماء ومنه قوله تعالى «حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا» والجمع الينابيع» فما يقوله العامة وهو «نبع» مولّد غير معروف وإنما النبع مصدر وشجر تتخذ منه السهام والقسي يقال: قرعوا النبع بالنبع أي تلاقوا وتطاعنوا وما رأيت أصلب منه نبعا أي أشد منه. (يَهِيجُ) : ييبس ويتم خفافه لأنه إذا تم جفافه حان له أن يثور عن منابته ويذهب وفي المختار: «وهاج النبت يهيج هياجا بالكسر يبس» وفي المصباح: «وهاج البقل يهيج اصفر» . (حُطاماً) : فتاتا وفي المصباح «حطم الشيء حطما من باب تعب فهو حطم إذا تكسر ويقال للدابة إذا أسنت حطمة ويتعدى بالحركة يقال حطمته حطما من باب ضرب فانحطم وحطمته بالتشديد مبالغة» . الإعراب: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء حرف عطف على محذوف يدل عليه السياق والتقدير أأنت مالك أمرهم فمن حق عليه العذاب فأنت تنقذه، ومن شرطية أو موصولة في محل رفع بالابتداء والخبر محذوف فقدره الجزء: 8 ¦ الصفحة: 405 أبو البقاء كمن نجا وقدره الزمخشري فأنت مخلصه حذف لدلالة أفأنت تنقذه وقدره غيره تتأسف عليه، والهمزة الثانية للاستفهام وأعيدت لتأكيد الإنكار والفاء رابطة وأنت مبتدأ وجملة تنقذ خبر ومن في النار مفعول به وقد أوقع الظاهر موقع المضمر وهو من في النار وكأن الأصل أفأنت تنقذه، وأنت مبتدأ وجملة تنقذ خبر ومن في النار مفعوله فالآية على هذا جملة واحدة، واعترض بجمع الاستفهام والشرط ولا مساغ لهذا الاعتراض لأن أداة الاستفهام داخله على جملة محذوفة عطفت عليها جملة الشرط ولم تدخل على جملة الشرط وسيأتي مزيد من القول في هذه الآية في باب البلاغة. (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) لكن حرف عطف وإضراب بمعنى بل وليست للاستدراك لانه لم يسبقها نفي فالكلام إضراب عن موضوع الى موضوع مغاير للأول، والذين مبتدأ وجملة اتقوا صلة وربهم مفعول به ولهم خبر مقدم وغرف مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر الذين ومبنية صفة لغرف أي بنيت بناء المنازل وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة ثانية أو حال من غرف. (وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ) وعد الله مصدر مؤكد لفعل محذوف دل عليه قوله لهم غرف لأنه في معنى وعدهم الله ذلك ولا نافية ويخلف الله الميعاد فعل مضارع وفاعل ومفعول به. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لتمثيل الحياة الدنيا وسرعة زوالها والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 406 حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تر أو مفعولها لأنها قلبية أو بصرية وان واسمها وجملة أنزل خبرها ومن السماء متعلقان بأنزل وماء مفعول به، فسلكه الفاء عاطفة وسلك فعل ماض مبني على الفتح وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى، وينابيع ان كان بمعنى المنبع ظرف للمصدر المحذوف أي سلكه سلوكا في ينابيع فلما أقيم مقام المصدر جعل انتصابه على المصدر، وإن كان بمعنى النابع كان انتصابه على الحال أي نابعات، واعترض الشهاب الخفاجي على الحالية فقال «الحالية لا تخلو من الكدر لأن حقه حينئذ أن يقال من الأرض وفي الأرض على الوجهين صفة لينابيع، قلت: ولا أرى مانعا من نصب ينابيع على التمييز على حد قوله «وفجرنا الأرض عيونا» ولم يذكره أي واحد ممن تصدوا لإعراب القرآن، ومنطوق كلام الزمخشري يؤيد هذا الإعراب قال: «عيونا ومسالك ومجاري كالعروق في الأجسام» وأحجم الكثيرون عن إعراب ينابيع لدقتها، وفي الشوكاني: «فسلكه ينابيع في الأرض: أي فأدخله وأسكنه فيها، والينابيع جمع ينبوع من نبع الماء ينبع، والينبوع عين الماء والأمكنة التي ينبع فيها الماء فهو على الوجه الثاني منصوبا بنزع الخافض، قال مقاتل: فجعله عيونا وركايا في الأرض» (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ويخرج فعل مضارع والعدول إليه عن الماضي كما يقتضيه أسلوب العطف لاستحضار الصورة وبه متعلقان بيخرج وزرعا مفعول به ومختلفا نعت لزرعا وألوانه فاعل لمختلف. (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا) ثم يهيج عطف على ثم يخرج فتراه الفاء حرف عطف والهاء مفعول به الجزء: 8 ¦ الصفحة: 407 ومصفرا حال لأن الرؤية بصرية. (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) عطف على ما تقدم ويجعله حطاما فعل مضارع وفاعل مستتر والهاء مفعول به أول وحطاما مفعول به ثان وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وذكرى اسمها المؤخر ولألي الألباب صفة لذكرى أو متعلقان بنفس الذكرى لأنها بمعنى التذكرة. البلاغة: في قوله «أفأنت تنقذ من في النار» مجاز مرسل علاقته السببية فقد أطلق السبب وأراد المسبب والمعنى أفأنت تهديه بدعائك له الى الايمان فتنقذه من النار. [سورة الزمر (39) : الآيات 22 الى 23] أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) اللغة: (تَقْشَعِرُّ) : اقشعر جلده: ارتعد وتقبّض وتخشن وتغير لونه فهو مقشعر، واقشعرت السنة: أمحلت وأجدبت، واقشعرت الأرض: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 408 تقبضت وتجمعت إذا لم ينزل عليها المطر، ويقال اقشعر الشعر أي قام وانتصب من فزع أو برد والمصدر الاقشعرار وقال الزمخشري: «اقشعر الجلد إذا تقبض تقبضا شديدا وتركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس مضموما إليها حرف رابع وهو الراء ليكون رباعيا دالا على معنى زائد، وسيأتي مزيد تفصيل لهذه المادة في باب البلاغة. الإعراب: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) كلام مستأنف مسوق ليجري مجرى التعليل لما قبله من تخصيص الذكرى بأولي الألباب والهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على جملة مقدرة أي أكل الناس سواء ومن موصولة أو شرطية في محل رفع مبتدأ فعلى الأول يكون خبرها محذوفا تقديره كمن طبع على قبله وعلى الثاني يكون خبرها فعل الشرط وجوابه معا والفاء عاطفة على كل حال وهو مبتدأ وعلى نور خبر ومن ربه صفة لنور. (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الفاء رابطة وويل مبتدأ وساغ الابتداء لما فيها من معنى الدعاء بالعذاب والخسران وللقاسية خبر وقلوبهم فاعل للقاسية ومن ذكر الله متعلقان بالقاسية ومن إما للتعليل أي من أجل ذكره وقيل من بمعنى عن والمعنى غلظت عن قبول الذكر وأولئك مبتدأ وفي ضلال مبين خبره. (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) لفظ الجلالة مبتدأ، وسيأتي سر التقديم في باب البلاغة، وجملة نزل أحسن الحديث خبر وكتابا بدل من أحسن الحديث ويجوز أن يكون حالا منه أي قرآنا متشابها ومتشابها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 409 نعت أول ومثاني نعت ثان، وقد مرّ معنى هذه الكلمة وسيأتي مزيد من النكت البلاغة في باب البلاغة. (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ) جملة تقشعر نعت ثالث ومنه متعلقان بتقشعر وجلود الذين يخشون ربهم صلة وثم حرف عطف للتراخي وتلين جلودهم فعل مضارع وفاعل وقلوبهم عطف على جلودهم والى ذكر الله متعلقان بتلين لأنه متضمن معنى تسكن وتطمئن الى ذكر الله. (ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) ذلك مبتدأ وهدى الله خبر أو بدل من اسم الاشارة وجملة يهدي إما حال أو خبر وبه متعلقان بيهدي ومن يشاء مفعول به وجملة يشاء صلة والاشارة الى الكتاب فالجملة حال منه. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل نصب مفعول مقدم ليضلل والله فاعل والفاء رابطة وما نافية أو نافية حجازية وله خبر أو خبر هاد المقدم ومن حرف جر زائد وهاد مبتدأ مؤخر مرفوع محلا أو اسم ما مجرور لفظا وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين. البلاغة: 1- في قوله «مثاني» : وصف الواحد بالجمع لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل، ألا تراك تقول القرآن أسباع وأخماس وسور وآيات وأقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات، ونظيره قولك الإنسان عظام وعروق وأعصاب، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 410 وأجاز الزمخشري وجها لطيفا آخر قال: «ويجوز أن لا يكون مثاني صفة ويكون منصوبا على التمييز من متشابها كما تقول رأيت رجلا حسنا شمائل والمعنى متشابهة مثانيه» . 2- فائدة التكرير: وفائدة التثنية والتكرير ترسيخ الكلام في الذهن فإن النفوس تملّ عادة من الوعظ والتنبيه وتسأم النصيحة بادىء الأمر، ففي تكرير النصح والموعظة تعويد لها على استساغة ذلك والعمل به وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكرر عليهم ما يعظ وينصح به ثلاثا وسبعا أحيانا ليركز ذلك في نفوسهم والمعلم النابه لا يفتا يردد ما يلقيه على طلابه من دروس حتى يصبح مستساغا إليهم هشا في نفوسهم بعد أن كان صعبا ممجوجا. 3- التجسيد الحي: وفي قوله «تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله» نكت بلاغية بديعة وأهمها التجسيد الحي، أراد سبحانه أن يجسد فرط خشيتهم فعرض عليك صورة من الجلد اليابس وصورة من الشعر الواقف، ألا نقول: وقف شعر رأمنه من الخوف، وفي ذكر الجلود وحدها أولا وقرنها بالقلوب ثانيا لأن ذكر الخشية التي محلها القلوب مستلزم لذكر القلوب فكأنه قيل تقشعر جلودهم وتخشى قلوبهم في أول الأمر فإذا ذكروا الله وذكروا رحمته وسعتها استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم وبالقشعريرة لينا في جلودهم. وقيل المعنى أن القرآن لما كان في غاية الجزالة والبلاغة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 411 فكانوا إذا رأوا عجزهم عن معارضته اقشعرت الجلود منه إعظاما له وتعجبا من حسنه وبلاغته ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله. [سورة الزمر (39) : الآيات 24 الى 28] أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) الإعراب: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الهمزة للاستئناف الإنكاري والفاء عاطفة على جملة مقدرة تفهم من مضمون السياق أي أكل الناس سواء فمن يتقي، ومن اسم موصول في محل رفع مبتدأ وجملة يتقي بوجهه صلة وسوء العذاب مفعول به ويوم القيامة ظرف متعلق بيتقي وخبر من محذوف تقديره كمن أمن من العذاب وسيأتي معنى الاتقاء بالوجه في باب البلاغة. (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) وقيل عطف على يتقي أي ويقال لهم ذوقوا وإنما عدل إلى الماضي للدلالة على تحقق وقوع القول ويجوز أن تكون الواو حالية والجملة في محل نصب على الحال من ضمير يتقي وللظالمين متعلقان بقيل وفيه وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالظلم وجملة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 412 ذوقوا مقول القول وما مفعول ذوقوا وكنتم تكسبون كان واسمها وخبرها والجملة صلة ما. (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان ما أصاب الكافرين من قبلهم من عذاب دنيوي، وكذب الذين فعل وفاعل ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صلة الذين، فأتاهم العذاب عطف على ما تقدم وأتاهم فعل ومفعول به مقدم والعذاب فاعل مؤخر ومن حييث متعلقان بأتاهم وجملة لا يشعرون في محل جر بإضافة الظرف إليها. (فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) الفاء عاطفة وأذاقهم الله فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر والخزي مفعول به ثان وفي الحياة الدنيا متعلقان بأذاقهم أو بمحذوف حال. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) الواو عاطفة واللام لام الابتداء وعذاب الآخرة مبتدأ وأكبر خبر ولو شرطية وكان واسمها وجملة يعلمون خبرها وجواب لو محذوف دل عليه ما قبله ومفعول يعلمون محذوف أيضا تقديره عذابها. (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وضربنا فعل وفاعل وللناس متعلقان بضربنا على أنه مفعول به ثان لأن ضرب متضمن معنى جعل وفي هذا القرآن حال ومن كل مثل نعت لمفعول ضربنا الأول أي مثلا كائنا من كل مثل ولعل واسمها وجملة يتذكرون خبرها. (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) قرآنا حال موطئة لأنها ذكرت توطئة للنعت بالمشتق بينما هي جامدة وهي حال من القرآن والاعتماد فيها على الصفة وقال اللقاني: «قرآنا مصدر بمعنى القراءة فهي مؤولة بمقروءا عربيا فهو مصدر والمصدر الحال يؤول بمشتق» وقال الصفاقسي: «قيل الحال قرآنا وعربيا توطئة ومعنى التوطئة أن الاسم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 413 الجامد لما وصف بما يجوز أن يكون حالا صلح أن يكون حالا» وعلى هذا تضبط موطأة بفتح الطاء وقال السمين: «الثالث أن ينتصب على الحال من القرآن على أنها حال مؤكدة وتسمى حالا موطئة لأن الحال في الحقيقة عربيا وقرآنا توطئة له نحو جاء زيد رجلا صالحا» وهكذا قرر الزمخشري. وأجاز الزمخشري وغيره أن ينتصب قرآنا على المدح لأنه لما كان نكرة امتنع اتباعه للقرآن وأجاز أبو البقاء أن ينتصب بيتذكرون. وغير ذي عوج نعت ثان لقرآنا وسيأتي معناه في باب البلاغة ولعلهم يتقون لعل واسمها وجملة يتقون خبرها. البلاغة: 1- الكناية أو المجاز التمثيلي: في قوله «أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب» كناية عن عدم الاتقاء لأن الوجه لا يتقى به وأما الذي يتقى به فهما اليدان وهما مغلولتان ولو لم يغلا لكان يدفع بهما عن الوجه لأنه أعز أعضائه وقيل هو مجاز تمثيلي لأن الملقى في النار لم يقصد الاتقاء بوجهه ولكنه لم يجد ما يتقي به النار غير وجهه ولو وجد لفعل فلما لقيها بوجهه كانت حاله حال المتقي بوجهه فعبر عن ذلك بالاتقاء من باب المجاز التمثيلي وهو جميل أيضا. قال النابغة: سقط النصيف ولم تردوا إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 414 2- معنى العوج: تقدم معنى العوج في الكهف وأن العوج بالكسر مختص بالمعاني دون الأعيان والسرّ فيه، فارجع إليه هناك وقيل المراد بالعوج الشك واللبس، قال: وقد أتاك يقين غير ذي عوج ... من الإله وقول غير مكذوب وعلى كل حال ففي الكلام استعارة تصريحية. [سورة الزمر (39) : الآيات 29 الى 32] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) اللغة: (مُتَشاكِسُونَ) : متنازعون مختلفون قال الزمخشري: «والتشاكس والتشاخس الاختلاف تقول: تشاكست أحواله وتشاخست أسنانه» وفي المختار: «رجل شكس بوزن فلس أي صعب الخلق وقوم شكس بوزن قفل وبابه سلم وحكى الفراء شكس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 415 بكسر الكاف وهو القياس قلت: وقوله تعالى: فيه شركاء متشاكسون أي مختلفون عسرو الأخلاق» وفي الصحاح: «رجل شكس بالتسكين أي صعب الخلق وقوم شكس مثل رجل صدق وقوم صدق وقد شكس بالكسر من باب سلم شكاسة وحكى الفراء: رجل شكس بكسر الكاف وهو القياس» . وللشين والسين إذا كانتا فاء ولاما للكلمة خاصة الصلابة والامتناع وسوء الخلق: يقال شئس كفرح أي صلب فهو شئس وشأس، والشحس بالفتح شجر مثل العتم إلا أنه أطول ولا تتخذ منه القسي ليبسه، والشخس الاضطراب والاختلاف وقد تقدم، والشرس محركة سوء الخلق وشدة الخلاف كالشراسة والأشرس الجريء في القتال والأسد وهذا جمل لم يشرس أي لم يرض، والشس الأرض الصلبة كأنها حجر واحد، والشطس: الدهاء والعلم به والشطسي كجمحيّ الرجل المنكر المارد الداهية، والشمس معروفة وليس هناك أمنع منها وشمس الفرس شموسا وشماسا منع ظهره فهو شامس وشموس والشموس الخمر لأنه تجعل شاربها شموسا، والشموس محركة: النظر بمؤخر العين تكبرا أو تغيظا كالتشاوس. وهذا من غريب أمر لغتنا الشريفة. (سَلَماً) : مصدر سلم وقرىء سالما على أنه اسم فاعل أي خالصا. الإعراب: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا) كلام مستأنف مسوق لتمثيل من يعبد آلهة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 416 كثيرة ومن يعبد إلها واحدا. وضرب الله فعل وفاعل ومثلا مفعول به ورجلا بدل من مثلا وقد تقدم إعراب نظيره، وقال الكسائي: انتصب رجلا على إسقاط الخافض أي مثلا في رجل. وفيه خبر مقدم وشركاء مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صفة رجلا ومتشاكسون نعت لشركاء ورجلا عطف على رجلا وسلما نعت بالمصدر على سبيل المبالغة ولرجل متعلقان بالمصدر وهو حرف استفهام ويستويان فعل مضارع وفاعل ومثلا تمييز محول عن الفاعل أي لا يستوي مثلهما وأفرد التمييز لاقتصاره عليه في الأول وقرىء مثلين لمطابقة حالي الرجلين. (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الحمد مبتدأ ولله خبر والجملة الاسمية معترضة لأن قوله بل أكثرهم لا يعلمون إضراب انتقالي مرتبط بقوله هل يستويان وأكثرهم مبتدأ وجملة لا يعلمون خبر. (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) جملة مستأنفة مسوقة للرد عليهم فقد كانوا يتربصون موته ويستبطئونه فأخبر الله تعالى أن الموت يعمهم جميعا فلا معنى للتربص والاستبطاء ولا مبرر لشماتة فان بفان، وإنك ميت إن واسمها وخبرها وإنهم ميتون عطف على ما تقدم وسيأتي مزيد من الكلام على هذه الآية في باب البلاغة. (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وان واسمها ويوم القيامة ظرف متعلق بيختصمون وعند ربكم ظرف متعلق بمحذوف حال وسيأتي معنى الاختصام في باب الفوائد. (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ) الفاء عاطفة ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ ومعناه النفي أي لا أحد وممن متعلقان بأظلم وجملة كذب على الله صلة من وكذب بالصدق عطف على كذب على الله وإذ جاءه ظرف متعلق لكذب بالصدق أي كذب بالقرآن وقت مجيئه وجملة جاءه في محل جر بإضافة الظرف إليها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 417 (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) الهمزة للاستفهام التقريري وليس فعل ماض ناقص وفي جهنم خبرها المقدم ومثوى اسمها المؤخر وللكافرين صفة لمثوى أو بنفس مثوى لأنه اسم مكان من ثوى أي أقام. البلاغة: 1- فن المثل: في قوله «ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء» الآية فن إرسال المثل فقد شبه حال من يعبد آلهة شتى بمملوك اشترك فيه شركاء شجر بينهم خلاف شديد وخصام مبين وهم يتجاذبونه ويتعاورونه في شتى آرابهم ومتباين أهوائهم فهو يقف متحيرا لا يدري لأيهم ينحاز ولأيّهم ينصاع وأيهم أجدر بأن يطيعه وحال من يعبد إلها واحدا فهو متوفر على خدمته يلبي كل حاجاته ويصيخ سمعا لكل ما ينتدبه إليه ويطلبه منه. 2- الفرق بين ميت وميّت: قال الفراء: «الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت والميت بالتخفيف من فارقته الروح» ولذلك لم يخفف في الآية لأنه لمّا يمت ولمّا يموتوا بالنسبة لنزول الآية، وقال الزمخشري: «والفرق بين الميت والمائت أن الميت صفة لازمة كالسيد وأما المائت فصيغة حادثة تقول زيد مائت غدا كما تقول سائد غدا أي سيموت وسيسود وإذا قلت زيد ميت فكما تقول حي في نقيضه فيما يرجع الى اللزوم والثبوت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 418 والمعنى في قوله: إنك ميت وإنهم ميتون إنك وإياهم وإن كنتم أحياء فأنتم في عداد الموتى لأنّ ما هو كائن فكأن قد مات» . الفوائد: وهذه نبذة لا مندوحة عن إيرادها في معنى الاختصام: فقد جاء عن عبد الله بن الزبير قال: لما نزلت: ثم انكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قال الزبير يا رسول الله أتكون علينا الخصومة؟ بعد الذي بيننا في الدنيا قال نعم فقال: إن الأمر إذن لشديد» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وقال ابن عمر رضي الله عنهما عشنا برهة من الدهر وكنا نرى أن هذه الآية نزلت في أهل الكتابين: ثم انكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قلنا: كيف نختصم وديننا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: نعم هذا هو. وعن أبي بكرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قال القسطلاني في شرحه: أي فضرب كل واحد منهما الآخر إذا كان قتالهما بلا تأويل، بل على عداوة دنيوية أو طلب ملك مثلا فأما من قاتل أهل البغي أو دفع الصائل فقتل فلا، أما إذا كانا صحابيين فأمرهما عن اجتهاد لإصلاح الدين وفيه أن من عزم على المعصية أثم وإن لم يفعلها. وفي رواية إذا المسلمان جمل أحدهما على أخيه السلاح فهما على حرف جهنم فإذا قتل أحدهما صاحبه دخلاها جميعا قال: فقلنا أو قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد قتل صاحبه، رواه البخاري ومسلم، قال العلماء: معنى كونهما في النار أنهما يستحقان ذلك ولكن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 419 أمرهما الى الله تعالى إن شاء عاقبهما ثم أخرجهما من النار كسائر الموحدين وإن شاء عفا عنهما فلم يعاقبهما أصلا وقيل: هو محمول على من استحل ذلك، وذهب جمهور الصحابة والتابعين الى وجوب نصر الحق وقتال الباغين واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد بل ثبت أنه يؤجر أجرا واحدا وان المصيب يؤجر أجرين وجعل هؤلاء الوعيد المذكور في الحديث على من قاتل بغير تأويل سائغ بل بمجرد طلب الملك. وقد أخرج البزّار في حديث «القاتل والمقتول في النار» زيادة تبين المراد وهي: «إذا اقتتلتم على الدنيا فالقاتل والمقتول في النار» ويؤيده ما أخرجه مسلم بلفظ: «لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس زمان لا يدري القاتل فيم قتل؟ ولا المقتول فيم قتل؟ فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: الهرج: القاتل والمقتول في النار» هذا والكلام في هذا الباب طويل يرجع فيه الى المطولات لأنه خارج عن نطاق هذا الكتاب. [سورة الزمر (39) : الآيات 33 الى 38] وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 420 الإعراب: (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) الواو استئنافية والذي مبتدأ وجملة جاء بالصدق صلة وصدق عطف على الصلة والذي جنس المراد به بالنسبة للصلة الأولى محمد وبالنسبة للصلة الثانية المؤمنون ولذلك روعي معنى الذي في أولئك هم المتقون، وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل والمتقون خبر أولئك والجملة الاسمية خبر الذي ويؤيد هذا المعنى قراءة ابن مسعود «والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به» . (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) لهم خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وجملة يشاءون صلة وعند ربهم ظرف متعلق بمحذوف حال والجملة خبر ثان للذي وذلك مبتدأ وجزاء المحسنين خبر والجملة نصب على الحال. (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) اللام للتعليل ويكفر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ولام التعليل ومجرورها متعلقان بمحذوف أي يسر لهم ذلك ليكفروا ولك أن تعلق اللام ومدخولها بالمحسنين فتكون للعاقبة أي فكانت عاقبتهم التكفير والله فاعل يكفر وعنهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 421 متعلقان بيكفر وأسوأ مفعول به والذي مضاف إليه وجملة عملوا صلة وليس المراد هنا باسم التفضيل معناه على بابه وإنما هي من إضافة الشيء الى بعضه من غير تفضيل ومنه قولهم الأشج والناقص أعدل بني مروان لأن اسم التفضيل لو كان على بابه لاقتضى نظم الكلام انه يكفر عنهم أقبح السيئات فقط وهذا غير مراد طبعا. (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) عطف على ما تقدم وأجرهم مفعول به ثان ليجزيهم وما قيل في معنى اسم التفضيل وهو أسوأ يقال هنا في معنى اسم التفضيل وهو أحسن لأنه تعالى لا يجزيهم على أفضل الحسنات فقط. (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) الهمزة للاستفهام التقريري لأن همزة الإنكار إذا دخلت على النفي أثبتته بطريق المبالغة وليس واسمها والباء حرف جر زائد وكاف مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس وعبده مفعول كاف والمراد به النبي أو الجنس عامة ويؤيده قراءة حمزة والكسائي: عباده. (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) لك في الواو أن تجعلها للحال فتكون الجملة حالية والمعنى أليس الله كافيك حال تخويفهم إياك هذا إذا أراد بالعبد نبيه صلى الله عليه وسلم ولك أن تجعلها استئنافية فتكون الجملة مستأنفة مسوقة لتفنيد ما يعمدون إليه من تخويف بالأصنام، ويخوفونك فعل مضارع ومفعول به وبالذين متعلقان بيخوفونك ومن دونه متعلقان بمحذوف هو الصلة ومن يضلل الله فما له من هاد تقدم إعرابها بنصها قريبا فجدد به عهدا. (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) الجملة معطوفة على الجملة السابقة والإعراب متشابه والهمزة للاستفهام التقريري وليس واسمها وبعزيز الباء حرف جر زائد وعزيز مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس وذي انتقام نعت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 422 (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية وسألتهم فعل وفاعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة خلق السموات والأرض خبر والجملة في محل نصب مفعول به ثان لسألتهم المعلقة عن العمل بالاستفهام واللام واقعة في جواب القسم وجواب الشرط محذوف وفقا للقاعدة المشهورة ويقولن فعل مضارع معرب لعدم مباشرة نون التوكيد له وقد تقدمت له نظائر كثيرة والله خبر لمبتدأ محذوف أي هو الله أو مبتدأ والخبر محذوف أي خلقها. (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) الهمزة للاستفهام والفاء الفصيحة ورأيتم بمعنى أخبروني وقد تقدم القول فيها مفصلا أكثر من مرة وما تدعون مفعول رأيتم الأول ومن دون الله حال، ويجوز أن تكون الفاء عاطفة على مقدر أي أتفكرتم بعد ما أقررتم به فرأيتم ... (إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ) إن شرطية وأرادني الله فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وهو في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف وجملة الشرط اعتراضية والجملة الاستفهامية هل هن كاشفات مفعول رأيتم الثاني وهن مبتدأ وكاشفات ضره خبر. (أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) عطف على الجملة السابقة وقرىء بتنوين كاشفات وممسكات ونصب ضره ورحمته على المفعولية لاسمي الفاعل. (قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) حسبي الله مبتدأ وخبر أو بالعكس والجملة مقول القول وعليه متعلقان بيتوكل ويتوكل المتوكلون فعل مضارع وفاعل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 423 [سورة الزمر (39) : الآيات 39 الى 42] قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) الإعراب: (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) يا حرف نداء وقوم منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة واعملوا فعل أمر وفاعل وعلى مكانتكم حال وسيأتي معنى الاستعارة هنا في باب البلاغة وان واسمها وخبرها وفي الكلام حذف أي على مكانتي والفاء عاطفة وسوف حرف استقبال وتعلمون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل. (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) من اسم موصول مفعول تعلمون والعلم هنا بمعنى المعرفة فينصب مفعولا واحدا وجملة يأتيه صلة وعذاب فاعل يأتيه وجملة يخزيه صفة لعذاب ويحل عطف على يخزيه وعليه متعلقان بيحل وعذاب فاعل يحل ومقيم نعت أي دائم ثابت. (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ) إن واسمها وجملة أنزلنا خبرها وعليك متعلقان بأنزلنا والكتاب مفعول به وللناس متعلقان بأنزلنا أي لأجلهم وبالحق حال أي متلبسا به فهو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 424 من الفاعل أو من المفعول. (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) الفاء عاطفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ واهتدى فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة ولنفسه خبر لمبتدأ محذوف أي فهدايته لنفسه والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر المبتدأ وجملة ومن ضل فإنما يضل عليها عطف على نظيرتها. (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) الواو عاطفة وما نافية حجازية وأنت اسمها وعليهم متعلقان بوكيل والباء حرف جر زائد ووكيل مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما. (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) الله مبتدأ وجملة يتوفى الأنفس خبر وحين موتها متعلق بيتوفى والواو حرف عطف والتي معطوف على الأنفس وجملة لم تمت في منامها صلة وفي منامها ظرف ليتوفى والمعنى ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها أي يتوفاها حين تنام ومنه قوله تعالى: «وهو الذي يتوفاكم بالليل» . (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) الفاء عاطفة ويمسك فعل مضارع معطوف على يتوفى والتي مفعول يمسك وجملة قضى عليها الموت صلة والموت مفعول قضى ويرسل عطف على يمسك والأخرى مفعول به وإلى أجل متعلقان بيرسل أو بيمسك ومسمى نعت لأجل. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبر مقدم واللام المزحلقة وآيات اسم إن ولقوم صفة لآيات وجملة يتفكرون نعت لقوم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 425 البلاغة: في قوله «قل يا قوم اعملوا على مكانتكم» الآية استعارة تصريحية فقد شبهت الحال بالمكان القارّ فيه، ووجه الشبه ثباتهم في تلك الحال بثبات المتمكن في مكانه. [سورة الزمر (39) : الآيات 43 الى 46] أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) الإعراب: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ) أم حرف عطف بمعنى بل واتخذوا فعل ماض والواو فاعل أي قريش ومن دون الله مفعول اتخذوا الثاني وشفعاء مفعول اتخذوا الأول. (قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري ومدخولها محذوف تقديره أيشفعون والواو حالية ولو شرطية وكان واسمها وجملة لا يملكون خبرها والجملة في موضع نصب على الحال والمعنى أيشفعون في حالة كونهم لا يملكون ولا يعقلون وشيئا مفعول به أو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 426 مفعول مطلق وقد تقدم القول فيها ولا يعقلون عطف على لا يملكون، وجواب لو محذوف تقديره تتخذونهم أي وان كانوا بهذه الصفة تتخذونهم. (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) لله خبر مقدم والشفاعة مبتدأ مؤخر واللام للملك أي انه مختص بها لا يملكها أحد إلا بتمليكه وجميعا حال وله خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأ مؤخر ثم حرف عطف للترتيب والتراخي وإليه متعلقان بترجعون. (وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متعلق بالجواب وجملة ذكر الله في محل جر بإضافة الظرف إليها والله نائب فاعل ووحده حال وعلى المصدر عند الخليل وسيبويه، وجملة اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة لا محل لها لأنها جواب إذا. (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) عطف على ما تقدم ومن دونه صلة الذين وإذا الفجائية وقد جرينا على أنها حرف فلا تحتاج إلى عامل وإذا كانت ظرف زمان أو مكان كانت معمولة لما بعدها وهم مبتدأ وجملة يستبشرون أي يستبشرون وقت ذكر الذين من دونه. (قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) اللهم منادى والميم المشددة عوض عن يا وقد تقدم بحث ذلك مفصلا وفاطر السموات والأرض منادى مضاف وهناك أعاريب أخرى سيرد الكلام عنها مفصلا في باب الفوائد وكذلك قوله عالم الغيب والشهادة. (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أنت مبتدأ وجملة تحكم خبر وبين عبادك الظرف متعلق بتحكم وفيما متعلقان بتحكم أيضا وكانوا كان واسمها وجملة يختلفون خبر كانوا وفيه متعلقان بيختلفون وجملة كانوا إلخ صلة ما. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 427 الفوائد: 1- عودة إلى «اللهم» : مذهب الخليل وسيبويه أن هذا الاسم لا يوصف لأنه صار عندهم مع الميم بمنزلة الصوت أي غير متمكن في الاستعمال وذهب المبرد والزجاج إلى جواز وصفه بمرفوع على اللفظ ومنصوب على المحل وجعل فاطر السموات والأرض صفة له، قال أبو حيان: والصحيح مذهب سيبويه لأنه لم يسمع مثل اللهم الرحيم ارحمنا والآية ونحوها محتملة للنداء. وقال ابن هشام: «وإنما قال في قل اللهم فاطر السموات والأرض: إنه على تقدير يا ولم يجعله صفة على المحلّ لأن عنده أن اسم الله سبحانه وتعالى لما اتصلت به الميم المعوضة عن حرف النداء أشبه الأصوات فلم يجز نعته» أي فقد صار مثل هلا إذا الميم بمنزلة صوت مضموم الى اسم الله مع بقائهما على معنييهما. 2- الاستبشار والاشمئزاز: قال الزمخشري: «الاستبشار أن يمتلىء قلبه سرورا حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلّل والاشمئزاز أن يمتلىء غما حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه» . [سورة الزمر (39) : الآيات 47 الى 49] وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 428 الإعراب: (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) كلام مستأنف مسوق لبيان نمط من أنماط الهول الذي ينتظرهم والعذاب الشديد الذي أعد لهم. ولو شرطية وأن وما في حيزها فاعل لفعل محذوف على الأرجح وقد تقدم تقرير ذلك أكثر من مرة، وللذين خبرها المقدم وما اسمها المؤخر وفي الأرض صلة ما وجميعا حال ومثله عطف على ما ومعه ظرف متعلق بمحذوف حال واللام واقعة في جواب لو وافتدوا فعل وفاعل وبه متعلقان بافتدوا ومن سوء العذاب متعلقان بافتدوا أيضا ويوم القيامة الظرف حال من فاعل افتدوا أي حال كونهم في ذلك اليوم العصيب. (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) كلام معطوف على جملة ولو أن للذين ظلموا الآية وبدا فعل ماض ولهم متعلقان به ومن الله حال وما فاعل وجملة لم يكونوا صلة ما وجملة يحتسبون خبر يكونوا والعائد محذوف أي يحتسبونه. (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) عطف على ما تقدم ولك أن تجعل الكلامين مستأنفا مسوقا لإبراز وعيدهم في أبلغ ما يكون الوعيد والتهديد وإعرابها مماثل لما تقدم. (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا) الفاء عاطفة لترتيب ما بعدها من المناقضة على ما سبق ذكره وسيأتي السر في إيثار الفاء مع أنها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 429 تقدمت في أول السورة معطوفة بالواو وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط ومس الإنسان ضر فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وجملة دعانا لا محل لها لأنها جواب إذا. (ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة خولناه في محل جر بإضافة الظرف إليها وخولناه فعل وفاعل ومفعول به ونعمة مفعول به ثان ومنّا صفة لنعمة وجملة قال لا محل لها وإنما كافة ومكفوفة وأوتيته فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل والهاء مفعول به وذكر الضمير لأن النعمة بمعنى الإحسان والعطاء ولك أن تعمل ان فتجعل ما موصولة في محل نصب اسمها وعلى علم خبرها والأول أرجح وعلى علم متعلقان بمحذوف حال أي حال كوني عالما أني سأعطاه لما أتمتع به من جدارة واستحقاق. (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) بل إضراب انتقالي وهي مبتدأ وفتنة خبر أي مقالته المذكورة أو النعمة وهذا أرجح، ولكن الواو حالية ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها. قال الفراء: أنّث الضمير في قوله هي لتأنيث الفتنة ولو قال: بل هو فتنة لجاز، وتذكير الأول في قوله أوتيته باعتبار معناها. البلاغة: إنما عطف قوله فإذا مس الإنسان ضر في آخر السورة بالفاء وفي أولها بالواو لأن هذه نشأت عن قوله وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم أي أنهم يشمئزون عن ذكر الله ويستبشرون بذكر الآلهة. أما الأولى فلم تنشأ عما قبلها وإنما هو وصف الكلام اقتضى عطفها بالواو لمناسبة ما قبلها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 430 [سورة الزمر (39) : الآيات 50 الى 52] قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) الإعراب: (قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) قد حرف تحقيق وقالها فعل ماض ومفعول به مقدم والهاء عائدة على مقالتهم وهي: إنما أوتيته عن علم لأنها كلمة والذين فاعله ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صلة الموصول. (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) الفاء عاطفة وما نافية وأغنى فعل ماض وعنهم متعلقان به وما فاعل أغنى وجملة كانوا صلة وكان واسمها وجملة يكسبون خبرها. (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) الفاء عاطفة وأصابهم سيئات فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وما موصولة أو مصدرية في محل جر بالإضافة. (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) الواو عاطفة والذين مبتدأ وجملة ظلموا صلة ومن هؤلاء حال وجملة سيصيبهم سيئات ما كسبوا خبر الذين، وما هم: ما نافية حجازية وهم اسمها والباء حرف جر زائد ومعجزين مجرور بالباء لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 431 (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو عاطفة على محذوف تقديره أقالوها ولم يعلموا ولم حرف نفي وقلب وجزم ويعلموا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يعلموا وان واسمها وجملة يبسط الرزق خبرها ولمن متعلقان بيبسط وجملة يشاء صلة ويقدر عطف على يبسط. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) إن وخبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها المؤخر ولقوم صفة لآيات وجملة يؤمنون صفة لقوم. [سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 59] قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 432 الإعراب: (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان أن الإنابة مطلوبة لأن الفسحة عظيمة للمسرف. ويا عبادي منادى مضاف إلى ياء المتكلم المفتوحة وقرىء يا عباد بكسرها وقد تقدم حكم المنادى المضاف لياء المتكلم والذين نعت لعبادي وجملة أسرفوا صلة وعلى أنفسهم متعلقان بأسرفوا ولا ناهية وتقنطوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل ومن رحمة الله متعلقان بتقنطوا. وقنط من باب تعب وسلم فيجوز كسر نونه وفتحها في المضارع وقد قرىء بهما وفي المختار: «القنوط: اليأس وبابه جلس ودخل وطرب وسلم فهو قنط وقنوط وقانط» وقد قرىء بالضم شذوذا. (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) إن واسمها وجملة يغفر خبرها والجملة تعليل للنهي عن القنوط ولذلك قيل: هذه أرجى آية في القرآن وسيأتي بيان ما فيها من أفانين البلاغة، والذنوب مفعول به وجميعا حال وذلك بعد التوبة من الشرك وإن واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والغفور الرحيم خبران لإن أو لهو والجملة خبر إن. (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) وأنيبوا الواو عاطفة وأنيبوا فعل أمر وفاعله وإلى ربكم متعلقان بأنيبوا وأسلموا عطف أيضا وله متعلقان بأسلموا ومن قبل متعلقان بمحذوف حال وأن وما في حيزها مصدر مؤول مضاف الى الظرف ويأتيكم فعل مضارع منصوب بأن والكاف مفعول به مقدم والعذاب فاعل مؤخر وثم حرف عطف للترتيب مع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 433 التراخي وتؤمرون فعل مضارع مرفوع لأنه لم يعطف على يأتيكم وسيأتي السر في ذلك في باب البلاغة. (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) واتبعوا عطف على وأنيبوا وأحسن مفعول به لاتبعوا وما اسم موصول مضاف لأحسن وجملة أنزل إليكم صلة ومن ربكم متعلقان بأنزل أيضا. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) من قبل متعلقان بمحذوف حال وأن وما في حيزها في محل جر بالإضافة وبغتة حال والواو حالية وأنتم مبتدأ وجملة لا تشعرون خبر والجملة نصب على الحال. (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) أن وما في حيزها في محل نصب مفعول لأجله، وقدّره الزمخشري كراهة أن تقول وقدّره أبو البقاء أنذر ناكم مخافة أن تقول، ونفس فاعل تقول وسيأتي السر في تنكيرها في باب البلاغة ويا حرف نداء وحسرتا منادى مضاف لياء المتكلم المنقلبة ألفا وأصله يا حسرتي أي ندامتي وعلى ما فرطت أي على تفريطي فما مصدرية والمصدر المؤول مجرور بعلى والجار والمجرور متعلقان بحسرتا وفي جنب الله متعلقان بفرطت وسيأتي بحث هذه الكناية في باب البلاغة. (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) الواو للحال وان مخففة من الثقيلة أي والحال أني وكان واسمها واللام الفارقة ومن الساخرين خبر كنت ومحل الجملة نصب على الحال. (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أو حرف عطف وتقول عطف على أن تقول ولو شرطية وأن وما في حيزها فاعل لفعل محذوف تقديره ثبت وأن واسمها وجملة هداني خبرها واللام واقعة في جواب لو وكان واسمها ومن المتقين خبرها والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط جازم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 434 (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أو تقول عطف على ما تقدم والفاعل مستتر تقديره هي يعود على نفس وأو للتنويع لما تقوله النفس في ذلك اليوم العصيب تعللا بما لا يفيد ولا يسفر عن فائدة ولو شرطية وأن وما في حيزها فاعل لفعل محذوف وأن وخبرها المقدم وكرة اسمها المؤخر، فأكون: الفاء عاطفة وأكون معطوف على كرة فهو عطف على اسم خالص من التقدير بالفعل وقد تقدمت الإشارة إليه وإما تكون الفاء للسببية وأكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية الواقعة جوابا للتمني المفهوم من قوله لو أن لي كرة والفرق بين الوجهين أنه على الأول يكون فيه الكون من جملة المتمنى وعلى الثاني يكون فيه الكون مترتبا على حصول المتمنى لا متمنى. (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) بلى حرف جواب جاء لرد النفي الذي تضمنه قول القائل لو أن الله هداني وقد حرف تحقيق وجاءتك آياتي فعل ومفعول به وفاعل فكذبت بها عطف على جاءتك وكنت كان واسمها ومن الكافرين خبرها. البلاغة: 1- في قوله: «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم» فنون متنوعة من علمي البديع والبيان نلخصها فيما يلي: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 435 1- إقباله سبحانه عليهم وفي ذلك منتهى الاطمئنان لهم لمحو ما سبق لهم من ذنوب وأوضار والإشعار بأن أمامهم مندوحة من الوقت لاستدراك ما فرط ورأب ما انصدع. 2- نداؤهم، وفي ذلك من التودّد إليهم والتلطف بهم ما يهيب بذوي المسكة من العقول منهم الى المبادرة بالإنابة والرجوع بالتوبة. 3- إضافتهم إليه إضافة تشريف لهم، وأنهم خلقاء بآصرة العبودية يمتون بها اليه سبحانه، وذلك كاف لمقابلتهم ذلك بالمثل وإعلان التوبة للازدلاف اليه بها. 4- إضافة الرحمة الى أخص أسمائه تعالى وأجلها وأنها هي الأصل في معاملته لعباده. 5- إعادة الظاهر بلفظه في قوله إن الله يغفر الذنوب جميعا. 6- الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله من رحمة الله لتخصيص الرحمة بالاسم الكريم كما تقدم آنفا. 7- إبراز الجملة من قوله إنه هو الغفور الرحيم مؤكدة بأن وبضمير الفصل وبالصفتين المودعتين للمبالغة فهذه سبعة فنون كاملة في آية واحدة. 2- الإيضاح: وذلك في قوله «ثم لا تنصرون» فلقائل أن يقول لم لم يعطف تنصرون على أن يأتيكم المنصوب والجواب عن هذا الإشكال انه أراد- وهو أعلم- العدة بإخبارهم أنه لن ينصرهم أبدا في الاستقبال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 436 ما داموا مصرين على عدم الإنابة محجمين عن الإسلام وقد تقدمت آية مماثلة لها في هذا الفن في سورة آل عمران. 3- التنكير: والسر في تنكير النفس في قوله «أن تقول نفس» التقليل، لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكافر وانها نفس متميزة من الأنفس بهذه السمة من اللجاج في الكفر وربما أريد بها التكثير على حد قول الأعشى: ورب بقيع لو هتفت بجوه ... أتاني كريم ينفض الرأس مغضبا يريد كراما كثيرين لا كريما واحدا ومثله: رب بلد قطعت، ورب بطل قارعت وهو يقصد بلادا وأبطالا. 4- الكناية: في قوله «على ما فرطت في جنب الله» والجنب الجانب يقال: أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته وفلان لين الجنب والجانب ثم قالوا فرط في جنبه وفي جانبه يريدون في حقه، قال جميل بن معمر: أما تتقين الله في جنب وامق ... له كبد حرى عليك تقطع غريب مشوق مولع بادكاركم ... وكل غريب الدار بالشوق مولع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 437 يستعطف جميل صاحبته بثينة ويتوجع إليها مما نابه فيها أي أما تخافين الله في جنب وامق أي في حقه الواجب عليك فالجنب كناية عن ذلك والوامق الشديد المحبة يعني نفسه وحرى أي ذات حر واحتراق، وتقطع: أصله تتقطع والادكار أصله الاذتكار قلبت تاء الافتعال دالا مهملة وأدغمت الذال المعجمة فيها، وخاطبها خطاب جمع المذكر تعظيما لها وفي البيت الثاني رد العجز على الصدر وهو من بديع الكلام. وهذه الكناية تسمى كناية نسبة، وقد تقدم القول في أقسام الكناية، لأنك إذا أثبتّ الأمر في مكان الرجل وحيّزه فقد أثبتّه فيه، قال زياد الأعجم: إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج يعني انه مختص بهذه الصفات لا توجد في غيره ولا خيمة هناك ولا ضرب أصلا. الفوائد: ألف الفصل: ألف الفصل تزاد بعد واو الجماعة مخافة التباسها بواو النسق مثل: «وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له» ومثل: كفروا ووردوا، ألا ترى أنهم لو لم يدخلوا الألف بعد الواو ثم اتصلت بكلام بعدها ظن القارئ أنها كفر وورد فحيزت الواو لما قبلها بألف الفصل، ولما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 438 فغلوا ذلك في الأفعال التي تنقطع واوها من الحروف قبلها نحو ساروا وجاءوا فعلوا ذلك في الأفعال التي تتصل واوها بالحروف قبلها نحو كانوا وبانوا ليكون حكم هذه الواو في كل موضع حكما واحدا. [سورة الزمر (39) : الآيات 60 الى 66] وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) اللغة: (بمفازة) : المفازة: الفلاة المهلكة سميت باسم المنجاة على سبيل التفاؤل، وفوّز المسافر: ركب المفازة ومضى فيها، قال حسان: لله درّ رافع أنّى اهتدى ... فوّز من قراقر إلى سوى وفوّز بإبله، وفوّز الرجل مات فصار في مفازة ما بين الدنيا والآخرة من البرزخ الممدود أو لأن المفازة صارت اسما للمهلكة فأخذ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 439 منها فوّز بمعنى هلك، وفاز سهمه وخرج له سهم فائز إذا غلب، وفاز بفائزة هنيّة وأجيز بجائزة سنية. وقد سموا اللديغ سليما تفاؤلا ببرئه كما سموا القافلة للمسافرين تفاؤلا بأوبتهم. (مَقالِيدُ) : المقاليد جمع مقلاد مثل مفتاح ومفاتيح أو مقليد مثل منديل ومناديل والكلام من باب الكناية وعبارة القاموس: «والإقليد برة الناقة والمفتاح كالمقلاد والمقلد وشريط يشد به رأس الجلة وشيء يطوّل مثل الخيط من الصّفر يقلد على البرة وعلى خوق القرط كالقلاد والعنق وجمعه أقلاد، وناقة قلداء: طويلتها، وكسكيت ومصباح: الخزانة، وضاقت مقالده ومقاليده ضاقت عليه أموره وكمنبر: الوعاء والمخلاة والمكيال وعصا في رأسها اعوجاج» الى أن يقول: «والقلاده: ما جعل في العنق، وتقلد: لبسها» . على أن الزمخشري وغيره من علماء اللغة يقولون إن أصل الكلمة فارسي، قال في الكشاف: «له مقاليد السموات والأرض أي هو مالك أمرها وحافظها وهو من باب الكناية لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي يملك مقاليدها ومنه قولهم ألقيت إليه مقاليد الملك وهي المفاتيح ولا واحد لها من لفظها وقيل مقلد ويقال إقليد وأقاليد والكلمة أصلها فارسية فإن قلت: ما للكتاب العربي المبين وللفارسية؟ قلت: التعريب أحالها عربية كما أخرج الاستعمال المهمل من كونه مهملا» . الإعراب: (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) الواو استئنافية والظرف متعلق بتري وترى فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنت والذين مفعوله وجملة كذبوا على الله صلة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 440 ووجوههم مبتدأ ومسودة خبر والجملة الاسمية في محل نصب حال من الموصول لأن الرؤية بصرية ويجوز أن تكون الرؤية قلبية فتكون الجملة في موضع المفعول الثاني لترى والكذب على الله معناه نسبة الشريك إليه. (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) الهمزة للاستفهام التقريري وليس وخبرها المقدم ومثوى اسمها المؤخر وللمتكبرين نعت لمثوى والجملة تعليلية لاسوداد وجوههم. (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ) الواو عاطفة وينجي الله الذين فعل مضارع وفاعل ومفعول به وجملة اتقوا صلة وبمفازتهم متعلقان بينجي لأنها سببية ففوزهم بالفلاح سبب النجاة. (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لا نافية ويمسهم السوء فعل مضارع ومفعول به وفاعل والواو عاطفة ولا نافية وهم مبتدأ وجملة يحزنون خبر وجملة لا يمسهم السوء لا محل لها لأنها مفسرة للمفازة كأنه قيل: ما مفازتهم فقيل لا يمسهم السوء ولا يبعد أن تكون في موضع نصب على الحال من الذين اتقوا وأجاز الزمخشري أن تكون مستأنفة. (اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) الله مبتدأ وخالق كل شيء خبر وهو مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بوكيل ووكيل خبر هو والجملة مستأنفة. (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) له خبر مقدم ومقاليد السموات والأرض مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة أيضا. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين مبتدأ وجملة كفروا بآيات الله صلة وهم مبتدأ والخاسرون خبره والجملة خبر الذين ولك أن تجعل هم ضمير فصل لا محل له كما تقدم والجملة معطوفة على وينجي الله الذين آمنوا عطف أحد المتقابلين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 441 على الآخر ولا يمنع من هذا العطف كون المعطوف جملة اسمية والمعطوف عليه جملة فعلية. (قُلْ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف وغير الله نصب بأعبد وجملة تأمروني اعتراض وسيأتي الكلام في حذف النون وأعبد فعل مضارع والأصل تأمرونني أن أعبد فحذف أن وارتفع أعبد كما ارتفع في قول طرفة: ألا أيها ذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن اشهد اللذات هل أنت مخلدي وفيما يلي النص الكامل لإعراب أبي البقاء لهذه الآية: «أفغير الله، في اعرابها أوجه، أحدها: أنه منصوب بأعبد مقدما عليه وقد ضعف هذا الوجه من حيث كان التقدير أن أعبد فعند ذلك يفضي الى تقديم الصلة على الموصول وليس بشيء لأن أن ليست في اللفظ فلا يبقى عملها فلو قدرنا بقاء حكمها لأفضى الى حذف الموصول وبقاء صلته وذلك لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، والوجه الثاني أن يكون منصوبا بتأمروني وأعبد بدلا منه والتقدير قل أفتأمروني بعبادة غير الله عز وجل وهذا من بدل الاشتمال ومن باب أمرتك الخير، والثالث أن غير منصوب بفعل محذوف أي أفتلزموني غير الله وفسره فيما بعد، وقيل لا موضع لأعبد من الاعراب وقيل هو حال والعمل على الوجهين الأولين وأما النون فمشددة على الأصل وقد خففت بحذف الثانية وقد ذكر نظائره» ونون تأمروني نون الرفع كسرت للمناسبة وحذفت نون الوقاية لاجتماع المثلين وقرىء بسكون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 442 الياء وفتحها فالقراءات أربع وكلها سبعية. وأيها منادى نكرة مقصودة مبني على الضم والهاء للتنبيه والجاهلون بدل من أيها. (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) اللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وأوحي فعل ماض مبني للمجهول وإليك سد مسد نائب الفاعل وقيل نائب الفاعل محذوف يدل عليه سياق الكلام أي أوحي إليك التوحيد والى الذين عطف على إليك ومن قبلك متعلقان بمحذوف صلة الموصول. (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) اللام موطئة للقسم أيضا وإن شرطية وأشركت فعل ماض في محل جزم فعل الشرط واللام واقعة في جواب القسم وهذا القسم وجوابه جواب القسم الأول وأما جواب الشرط فمحذوف على حد قول ابن مالك: واحذف لدى اجتماع شرط وقسم ... جواب ما أخرت فهو ملتزم ويحبطن فعل ماض مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وعملك فاعل ولتكونن عطف على ليحبطن واسم تكونن مستتر تقديره أنت ومن الخاسرين خبر. (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) كلام معطوف على مقدر دل عليه السياق أي فلا تشرك، والله نصب بفعل محذوف دل عليه فاعبد أي إن كنت عاقلا فاعبد الله والفاء الفصيحة واعبد فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وكن عطف على اعبد واسم كن مستتر تقديره أنت ومن الشاكرين خبر كن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 443 الفوائد: أفرد سيبويه في كتابه فصلا خاصا لهذا التركيب وهو «بل الله فاعبد» وهذه خلاصته: الأصل فيه فاعبد الله ثم حذفوا الفعل الأول اختصارا فلما وقعت الفاء أولا استنكروا الابتداء بها ومن شأنها التوسط بين المعطوف والمعطوف والمعطوف عليه فقدموا المفعول وصارت متوسطة لفظا ودالة على أن ثم شرطا محذوفا اقتضى وجودها ولتعطف عليه ما بعدها ويضاف إلى هذه الغاية في التقديم فائدة الحصر كما تقدم من إشعار التقديم بالاختصاص. [سورة الزمر (39) : الآيات 67 الى 75] وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 444 الإعراب: (وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) كلام مستأنف مسوق لتصوير قدرته تعالى وما نافية وقدروا الله فعل وفاعل ومفعول به أي ما علموا كنهه وما عرفوه حق معرفته، وحق قدره نصب على المفعولية المطلقة. (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) الواو للحال والأرض مبتدأ وجميعا حال وقبضته خبره والجملة حال من الله ويوم القيامة ظرف متعلق بمحذوف حال من قبضته أو هي متعلقة بها على تضمينها معنى مقبوضة والسموات مبتدأ ومطويات خبر وبيمينه متعلقان بمطويات وعبارة أبي البقاء: «والأرض مبتدأ وقبضته الخبر وجميعا حال من الأرض والتقدير إذا كانت مجتمعة قبضته أي مقبوضة فالعامل في إذا المصدر لأنه بمعنى المفعول، وقد ذكر أبو علي في الحجة: التقدير ذات قبضته وقد رد عليه ذلك وأن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 445 المضاف إليه لا يعمل فيما قبله وهذا لا يصح لأنه الآن غير مضاف اليه وبعد حذف المضاف لا يبقى حكمه ويقرأ قبضته بالنصب على معنى في قبضته وهو ضعيف لأن هذا الظرف محدود فهو كقولك زيد الدار، والسموات مطويات مبتدأ وخبر وبيمينه متعلقان بالخبر ويجوز أن يكون حالا من الضمير في الخبر وأن يكون خبرا ثانيا وقرىء مطويات بالكسر على الحال وبيمينه الخبر وقيل الخبر محذوف أي والسموات قبضته» هذا وسيأتي مزيد من القول في هذه الآية في باب البلاغة. (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) سبحانه مفعول مطلق لفعل محذوف وتعالى فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله تعالى وعما متعلقان بتعالى وجملة يشركون صلة ما. (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) الواو حرف عطف على ما تقدم وعبر عما سيأتي بالماضي لتحقق وقوعه ونفخ فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو يعود على النافخ قيل هو إسرافيل أو اسرافيل وجبريل وفي الصور متعلقان بنفخ فصعق عطف على نفخ ومن فاعل وفي السموات ومن في الأرض صلة من وإلا أداة استثناء ومن مستثنى واختلف في المستثنى من هم؟ على أقوال متعددة يرجع إليها في المطولات وجملة شاء الله صلة من. (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي لبعد ما بين النفختين ونفخ فعل ماض مبني للمجهول وفيه متعلقان بنفخ وأخرى نائب فاعل نفخ على حد قوله تعالى «فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة» ويجوز أن يكون الجار والمجرور هو القائم مقام نائب الفاعل وأخرى صفة لمصدر محذوف نابت عنه أي فهي مفعول مطلق والفاء عاطفة وإذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 446 الفجائية لا محل لها وهم مبتدأ وقيام خبر وجملة ينظرون خبر ثان ومعنى ينظرون يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت المشدوه إذا فاجأه خطب. (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ) الواو عاطفة وأشرقت الأرض فعل وفاعل وبنور ربها متعلقان بأشرقت ووضع الكتاب عطف على ما تقدم ووضع فعل ماض مبني للمجهول والكتاب نائب فاعل وأل في الكتاب للجنس أي أعطي كل واحد كتابه أي صحائف أعماله المدونة فيها حسناته أو سيئاته. (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) وجيء عطف على ما تقدم أيضا وبالنبيين متعلقان بجيء والشهداء عطف على النبيين وقضي فعل ماض مبني للمجهول وبينهم إما ناب مناب الفاعل وإما متعلق بقضي ونائب الفاعل محذوف مقدر من المصدر المفهوم أي وقضي القضاء وبالحق متعلقان بمحذوف حال والواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يظلمون خبر والجملة في محل نصب على الحال. (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) ووفيت عطف أيضا وكل نفس نائب فاعل وما مفعول به ثان لوفيت وجملة عملت صلة ولك أن تجعل ما مصدرية أي عملها فيكون المصدر المؤول هو المفعول الثاني والواو حالية أو عاطفة وهو مبتدأ وأعلم خبر وبما متعلقان بأعلم وجملة يفعلون صلة. (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) الواو عاطفة وسيق الذين فعل ماض مبني للمجهول والذين نائب فاعل وجملة كفروا صلة وإلى جهنم متعلقان بسيق وزمرا حال وهي جمع زمرة والزمرة الجماعة واشتقاقها من الزمر وهو الصوت لأن الجماعة يكون لها صوت دائما يقال زمر يزمر من بابي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 447 دخل وضرب أي غنّى بالنفخ في القصب ونحوه. (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) حتى ابتدائية وقد تقدم القول مطولا في حتى وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة جاءوها في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة فتحت أبوابها لا محل لها لأنها جواب إذا وأبوابها نائب فاعل. (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ) وقال عطف على فتحت ولهم متعلقان بقال وخزنتها فاعل قال والهمزة للاستفهام التقريري الإنكاري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويأت فعل مضارع مجزوم بلم والكاف مفعول به ورسل فاعل ومنكم صفة لرسل وجملة يتلون صفة ثانية أو حال وعليكم متعلقان بيتلون وآيات ربكم مفعول يتلون. (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) وينذرونكم عطف على يتلون ولقاء يومكم مفعول به ثان أو نصب بنزع الخافض ويومكم مضاف للقاء وأراد به وقت دخولهم النار وقد جاء استعمال اليوم والأيام مستفيضا في أوقات الشدة وهذا نعت ليومكم أو بدل منه. (قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) بلى حرف جواب لإثبات النفي أي بلى أتونا وتلوا علينا والواو عاطفة ولكن حرف استدراك مهملة وحقت كلمة العذاب فعل وفاعل وعلى الكافرين متعلقان بحقت. (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) جملة مستأنفة وجملة ادخلوا مقول القول وأبواب جهنم مفعول به على السعة وخالدين حال وفيها متعلقان بخالدين والفاء استئنافية وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم ومثوى المتكبرين فاعله والمخصوص بالذم محذوف أي هي. (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 448 تقدم إعرابها بنصها وسيأتي الفرق بين السوقين في باب البلاغة. (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) حتى الابتدائية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة جاءوها في محل جر بإضافة الظرف إليها وجوابها هنا محذوف لأنه في صفة أهل الجنة فدل بحذفه على أنه شيء لا يكتنه ولا يحيط به الوصف والواو عاطفة وجملة وفتحت أبوابها معطوفة على جاءوها وسيأتي مزيد من القول فيها. (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) الواو عاطفة وقال لهم خزنتها فعل وفاعل وسلام مبتدأ وعليكم خبره وطبتم فعل وفاعل، فادخلوها الفاء تعليلية وادخلوها فعل وفاعل ومفعول وخالدين حال. (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) كلام معطوف على جواب إذا المحذوف أي دخلوها وقالوا، والحمد مبتدأ ولله خبره والجملة مقول القول والذي نعت وجملة صدقنا صلة وهي فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به أول ووعده مفعول به ثان. (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) جملة وأورثنا عطف على صدقنا والأرض مفعول به ثان وجملة نتبوأ حال من مفعول أورثنا والفاعل مستتر تقديره نحن ومن الجنة متعلقان بمحذوف حال وحيث ظرفية على بابها متعلقة بنتبوأ أو مفعول نتبوأ قال الزمخشري: «يكون لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وزيادة على الحاجة فيتبوأ من جنته حيث يشاء ولا يحتاج الى جنة غيره» والفاء استئنافية ونعم أجر العاملين تقدم إعرابها. (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) كلام مستأنف مسوق لوصف الملائكة المقربين في ذلك اليوم وترى الملائكة فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وحافين حال أي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 449 محدقين محيطين بالعرش مصطفين بحافته وجوانبه ومن حول العرش متعلقان بحافين وجملة يسبحون بحمد ربهم حال ثانية. (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الواو عاطفة وقضي فعل مبني للمجهول وبينهم ظرف نائب عن فاعل الفاعل أو متعلق بقضي ونائب الفاعل مصدر مفهوم من الفعل أي قضي القضاء وبالحق حال والضمير في بينهم يرجع الى العباد والملائكة معا وقيل عطف على قضي وجملة الحمد لله رب العالمين مقول القول. البلاغة: تميز ختام سورة الزمر بذكر أحوال القيامة والتحميد والتسبيح كما تميز بالجزالة في اللفظ ولسنا نعني بالجزالة أن يكون اللفظ وحشيا متوعرا عليه عنجهية البداوة بل نعني بها أن يكون اللفظ متينا قويا على عذوبة في الفم وحلاوة جرسه في السمع، ولو نظرنا الى قوارع القرآن عند ذكر الحساب والعذاب والميزان والصراط وعند ذكر الموت ومفارقة الدنيا وما جرى هذا المجرى فإننا لا نرى شيئا من ذلك وحشي الألفاظ ولا متوعرا موغلا في الجساوة والنبو، وسنعمد الى إيضاح ما ورد فيها من فنون. 1- المجاز: فأولها المجاز في قوله «والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه» فإن قبض الله الأرض عبارة عن قدرته وإحاطته بجميع مخلوقاته، يقال: فلان في قبضتي يعني انه في قدرته باعتبار ما يئول اليه لأن القابض يتصرف بما يقبضه كيف يشاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 450 والقبضة المرة من القبض والمراد بالأرض الأرضون السبع يشهد لذلك شاهدان أولهما قوله جميعا والثاني قوله السموات، وطي السموات والأرض مجاز أيضا ليس يريد به طيا كما نفهمه وإنما المراد به الذهاب والفناء، واليمين في كلام العرب تأتي بمعنى القدرة والملك كما قدمنا. 2- الفرق بين السوقين: وفي قوله «وسيق» بالنسبة لأهل النار وأهل الجنة إذ عبر عن الذهاب بالفريقين جميعا بلفظ واحد فن دقيق المسلك وهو أن يأتي المتكلم بكلمة واحدة فتكون تارة دالة على الهوان والعقاب ثم يأتي بها ثانية فتكون دالة على الإكرام وحسن الثواب، وما أجمل قول الزمخشري في هذا الصدد قال: «فإن قلت كيف عبر عن الذهاب بالفريقين جميعا بلفظ السوق؟ قلت: المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان والعنف كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا الى حبس أو قتل والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين وحثها إسراعا الى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك فشتان ما بين السوقين» . الفوائد: 1- أقوال المعربين في جواب إذا: أفاض المعربون كثيرا في جواب إذا والسر في مجيء الواو بقوله «حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها» وقد أوردنا في باب الإعراب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 451 ما اخترناه، أما السمين فقد لخص أقوال المعربين بقوله: «في جواب إذا ثلاثة أوجه أحدها قوله وفتحت والواو زائدة وهو رأي الكوفيين والأخفش وإنما جيء هاهنا بالواو دون التي قبلها لأن أبواب السجون مغلقة إلى أن يجيئها صاحب الجريمة فتفتح له ثم تغلق عليه فناسب ذلك عدم الواو فيها بخلاف أبواب السرور والفرح فإنها تفتح انتظارا لمن يدخلها والثاني أن الجواب محذوف قال الزمخشري وحقه أن يقدر بعد خالدين يعني لأنه لا يجيء بعد متعلقات الشرط ما عطف عليه والتقدير: اطمأنوا وقدره المبرد سعدوا وعلى هذين الوجهين فتكون الجملة من قوله وفتحت أبوابها في محل نصب على الحال وسمى بعضهم هذه الواو واو الثمانية قال لأن أبواب الجنة ثمانية وكذا قالوا في قوله تعالى: وثامنهم كلبهم وقيل تقديره حتى إذا جاءوها جاءوها وفتحت أبوابها يعني ان الجواب بلفظ الشرط ولكنه يزيد بتقييده بالحال فلذلك صح» . 2- فصل ممتع للرماني: هذا وننقل فيما يلي خلاصة وافية للفصل الذي عقده علي بن عيسى الرماني في تفسيره الكبير المفقود، وكم يؤسفنا أن يضيع هذا الكتاب بين سمع الأرض وبصرها، ولكن الذي يعزينا أن السيوطي نقل عنه كثيرا وذكره كل من ترجم للمؤلف فقد كان الرماني نحويا متكلما وكان شيخ العربية في زمانه شغوفا بالمنطق حتى غلب عليه في جميع تآليفه وكلامه، قيل للصاحب: هلا صنفت تفسيرا؟ فقال: وهل ترك لنا علي بن عيسى شيئا؟ وكان الرماني نفسه يقول: «تفسيري بستان تجتني منه ما تشتهي» وقد اشتهر تفسيره بين الناس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 452 وكثر ذكره في كتبهم ولم يصل إلينا هذا التفسير فهو يقول في صدد دراسته لسر الجمال في القرآن عند ما يتحدث عن هذه الآية: «كأنه قيل حصلوا على النعيم المقيم الذي لا يشوبه التنغيص والتكدير وإنما صار الحذف في مثل هذا أبلغ من الذكر لأن النفس تذهب فيه كل مذهب ولو ذكر الجواب لقصر عن الوجه الذي تضمنه البيان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 453 (40) سورة غافر مكية وآياتها خمس وثمانون [سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) اللغة: (حم) : تقدم القول في أوائل السور بما يغني عن المزيد ونضيف هنا الآن ما قاله الجوهري: «وآل حم سور في القرآن فأما قول العامة الحواميم فليس من كلام العرب» وقال أبو عبيدة: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 454 «الحواميم سور في القرآن على غير قياس» قال «والأولى أن تجمع بذوات حم» ويتلخص من هذا أن هذه السور السبع تسمى الحواميم وتسمى آل حم وتسمى ذوات حم فلها جموع ثلاثة خلافا للجوهري الذي أنكر الأول وقال الكميت يمدح آل البيت: وجدنا لكم في آل حم آية ... تأولها منا تقي ومعرب فهو بمعنى ذوات أي في السور المنسوبة إلى هذا اللفظ ومن المعلوم أن لفظ آل كما يطلق على الأهل يطلق بمعنى ذو فيذكر قبل ما لا يصح تثنيته وجمعه من الأسماء المركبة المركبة ونحوها كتأبط شرا، فإذا أرادوا تثنيته وجمعه وهو جملة لا يتأتى فيها ذلك ولم يعهد مثله في كلام العرب زادوا قبله لفظ آل أو ذو فقالوا: جاءني آل تأبط شرا أو ذو تأبط شرا أي الرجلان أو الرجال المسمون بذلك ومنه آل حم بمعنى الحواميم في قول الكميت الآنف الذكر. (التَّوْبِ) : في المختار: «التوب الرجوع عن الذنب وبابه قال وتوبة أيضا وقال الأخفش التوب جمع توبة كدوم ودومة» . (الطَّوْلِ) : الفضل والزيادة والانعام الواسع في الصحاح: «والطول بالفتح: المن يقال منه طال يطول من باب قال إذا امتن عليه» وقال الماوردي: «الفرق بين المن والفضل أن المن عفو عن ذنب والتفضل إحسان غير مستحق» . الإعراب: (حم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) تقدم القول في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 455 إعراب فواتح السور وأيسر ما فيه أنها خبر لمبتدأ مضمر أو مبتدأ والخبر ما بعدها، وتنزيل الكتاب مبتدأ ومن الله خبره والعزيز العليم صفتان. (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) هذه صفات أيضا للجلالة وسيأتي في باب الفوائد ما قيل في المغايرة بين بعض الصفات والموصوف من حيث التعريف والتنكير. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) يجوز أن تكون هذه الجملة صفة كما قال أبو البقاء ولكن يرد عليه أن الجملة لا تكون صفة للمعارف ويمكن أن يريد أنه صفة لشديد العقاب فالأولى أن تكون جملة مستأنفة وأن تكون حالا لازمة وقد تقدم إعراب كلمة الشهادة مفصلا، وإليه خبر مقدم والمصير مبتدأ مؤخر. (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) ما نافية ويجادل فعل مضارع مرفوع وفي آيات الله متعلقان بيجادل وإلا أداة حصر والذين فاعل وجملة كفروا صلة. (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) الفاء الفصيحة ولا ناهية ويغررك فعل مضارع مجزوم بلا والكاف مفعول به وتقلبهم فاعل وفي البلاد متعلقان بتقلبهم والمعنى إذا ثبت عندك أن المجادلين في آيات الله كفار فلا تغترر بتقلبهم في البلاد بالتجارات المربحة فإنهم مأخوذون بكفرهم. (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) كذبت فعل ماض والتاء للتأنيث وقبلهم ظرف متعلق بمحذوف حال وقوم نوح فاعل والأحزاب عطف على قوم نوح وهم قوم عاد وثمود وفرعون وغيرهم ومن بعدهم متعلقان بمحذوف حال. (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) وهمت عطف على كذبت وكل أمة فاعل وبرسولهم متعلقان بهمت واللام للتعليل ويأخذوه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والواو فاعل والهاء مفعول به ومعنى ليأخذوه ليتمكنوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 456 من الإيقاع به. (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) وحاولوا عطف على همت وبالباطل متعلقان بمحذوف حال وليدحضوا اللام للتعليل ويدحضوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وبه متعلقان بيدحضوا والحق مفعول به، فأخذتهم عطف على جادلوا، فكيف: الفاء عاطفة وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وعقاب اسم كان مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اتباعا لرسم المصحف. (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) الكاف يجوز أن تكون نعتا لمصدر محذوف وقد تقدم تقرير ذلك أكثر من مرة ويحتمل أن تكون خبر لمبتدأ محذوف أي والأمر كذلك وكلمة ربك فاعل وعلى الذين كفروا متعلقان بحقت وأنهم أصحاب النار المصدر المؤول في محل رفع بدل من كلمة ربك أو في محل نصب بنزع الخافض وهو لام التعليل. الفوائد: 1- التغاير بين الموصوف والصفة: من مباحث النحو الجليلة وقوع التغاير، في الظاهر، بين الموصوف والصفة فلقائل أن يقول: كيف جاز وصف المعرفة وهو الله سبحانه بغافر الذنب وقابل التوب وشديد العقاب لأن هذه الثلاث مشتقات، وإضافة المشتق لا تفيده تعريفا فمن ثم وقع التغاير المشار إليه، وقد أجاب سيبويه عن ذلك بقوله: «إن كل ما إضافته غير محضة يجوز أن تجعل محضة وتوصف به المعارف إلا الصفة المشبهة» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 457 أما الكوفيون فلم يستثنوا الصفة المشبهة أيضا فقالوا في نحو حسن الوجه إنه يجوز أن تصير إضافته محضة، فعلى مذهبهم يصح أن تكون الثلاث نعوتا، وعلى مذهب سيبويه يعرب شديد العقاب بدلا، وفيما يلي تقرير الزمخشري بهذا الصدد قال: «فإن قلت: كيف اختلفت هذه الصفات تعريفا وتنكيرا والموصوف معرفة يقتضي أن يكون مثله معارف؟ قلت: أما غافر الذنب وقابل التوب فمعرفتان لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين وانه يغفر الذنب ويقبل التوب الآن أو غدا حتى يكونا في تقدير الانفصال فتكون إضافتهما غير حقيقية وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه فكان حكمهما حكم إله الخلق ورب العرش وأما شديد العقاب فأمره مشكل لأنه في تقدير شديد عقابه لا ينفك من هذا التقدير وقد جعله الزجاج بدلا وفي كونه بدلا وحده بين الصفات نبو ظاهر والوجه أن يقال لما صودف بين هؤلاء المعارف هذه النكرة الواحدة فقد آذنت بأن كلها أبدال غير أوصاف ومثل ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على مستفعلن فهي محكوم عليها بأنها من بحر الرجز فإن وقع فيها جزء واحد على متفاعلن كانت من الكامل، ولقائل أن يقول هي صفات وإنما حذف الألف واللام من شديد العقاب ليزاوج ما قبله وما بعده لفظا فقد غيروا كثيرا من كلامهم عن قوانينه لأجل الازدواج .... على أن الخليل قال في قولهم ما يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذلك وما يحسن بالرجل خير منك أن يفعل كذا، أنه على نية الألف واللام كما كان الجماء الغفير على نية طرح الألف، واللام ومما سهل ذلك الأمن من اللبس وجهالة الموصوف. ويجوز أن يقال قد تعمد تنكيره وإبهامه للدلالة على فرط الشدة وعلى مالا شيء أدهى منه وأمرّ لزيادة الإنذار. ويجوز أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 458 يقال هذه النكتة هي الداعية الى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريق الابدال» . 2- نكتة زيادة الواو: وفي زيادة الواو في قوله وقابل التوب نكتة جليلة وهي إفادة الجمع بين رحمتي مغفرة الذنب وقبول التوب، وروي أن عمر بن الخطاب افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام فقيل له تتايع في هذا الشراب فقال عمر لكاتبه اكتب من عمر الى فلان سلام عليك وأنا أحمد الله الذي لا إله إلا هو، بسم الله الرحمن الرحيم حم إلى قوله إليه المصير وختم الكتاب وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة، فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول قد وعدني الله أن يغفر لي وحذرني عقابه فلم يبرح يرددها حتى بكى ثم نزع فأحسن النزوع وحسنت توبته فلما بلغ عمر قال هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاكم قد زلّ زلة فسددوه ووفقوه وادعوا له الله أن يتوب عليه ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه. قلت: وما فعله عمر رضي الله عنه يجب أن يكون مثالا يحتذى في حسن الأدب وطريقة الهداية التي تهدي بالتي هي أحسن وتتفادى الغلظة والشدة في القول وسوء التنديد بما يفعله المذنب. 3- الجدال مذموم إلا في الحق: وفي قوله «ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا» إلماع الى ما ينطوي عليه الجدال المذموم لادحاض الحق وإطفاء نور الله، أما الجدال في الآيات لإزالة مشكلها وحل ملتبسها ومقارعة العلماء في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 459 استنباط معانيها وطرق إعرابها وحسن بيانها فأمر محمود بل هو مطلوب مفروض وعلى هذا الأساس ورد قوله صلى الله عليه وسلم: «إن جدالا في القرآن كفر» فقد أورده منكرا للتمييز بين جدال وجدال. 4- البدلية في قوله «إنهم من أصحاب النار» : أعربنا «انهم من أصحاب النار» بدلا من كلمة ربك ولم نوضح نوع البدل والظاهر أنه يصح أن يكون بدلا مطابقا أو بدل اشتمال فإذا نظرنا الى اللفظ كان مطابقا لاتحاد مدلوله مع مدلول البدل وإذا اعتبرنا المعنى كان بدل اشتمال لأن معناه وعيده إياهم، وحكمه الأزلي بشقائهم. [سورة غافر (40) : الآيات 7 الى 9] الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) الإعراب: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) الذين مبتدأ وجملة يحملون العرش صلة ومن حوله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 460 عطف على الذين وحوله ظرف متعلق بمحذوف صلة الذين وجملة يسبحون بحمد ربهم خبر الذين وبحمد متعلقان بمحذوف حال أي ملابسين للحمد ويؤمنون به عطف على يسبحون والبحث في معنى حملة العرش ومن هم يرجع إليه في المطولات. (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) ويستغفرون عطف على ما قبله وللذين متعلقان بيستغفرون وجملة آمنوا صلة وربنا منادى مضاف حذف منه حرف النداء وهو مقول قول محذوف في محل نصب على الحال أي قائلين، ووسعت فعل وفاعل وكل شيء مفعول به ورحمة وعلما تمييزان والتمييز هنا محول عن الفاعل أي وسعت رحمتك كل شيء ووسع علمك كل شيء. (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) الفاء الفصيحة واغفر فعل أمر وفاعله أنت وللذين متعلقان باغفر وجملة تابوا صلة والمعنى فاغفر للذين علمت منهم التوبة واتباع السبيل القويمة، واتبعوا سبيلك عطف على للذين تابوا وقهم: ق فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والهاء مفعول به أول وعذاب الجحيم مفعول به ثان. (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) ربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وأدخلهم عطف على ما تقدم وأدخلهم فعل أمر للدعاء والفاعل مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به أول وجنات عدن مفعول به ثان على السعة والتي صفة وجملة وعدتهم صلة التي ومن في محل نصب عطف على مفعول أدخلهم أو على مفعول وعدتهم وقال الفراء والزجاج «نصبه من مكانين إن شئت على الضمير في أدخلهم وإن شئت على الضمير في وعدتهم وجملة صلح صلة» والأول أرجح ومن آبائهم وما عطف عليه في محل نصب حال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 461 (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إن واسمها وأنت مبتدأ أو ضمير فصل والعزيز الحكيم خبران لأنت والجملة خبر انك أو خبران لإن وأنت لا محل لها كما تقدم. (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) الواو عاطفة وقهم فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت ومفعول به والسيئات مفعول به ثان والواو عاطفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وتق فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والسيئات مفعول به ويومئذ الظرف متعلق بتق وإذ مضاف ليوم والتنوين عوض من جملة محذوفة وقصده من الكلام السابق أي يوم إذ تدخل من تشاء الجنة ومن تشاء النار والفاء رابطة لجواب الشرط وقد حرف تحقيق ورحمته فعل وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها. (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ذلك مبتدأ وهو مبتدأ ثان والفوز العظيم خبر ويجوز إعراب هو ضمير فصل لا محل له والإشارة الى ما ذكر من الرحمة ووقاية السيئات. البلاغة: في قوله «ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم» فن طريف من فنون البلاغة أطلق عليه فن «الاسجال بعد المغالطة» وهو أن يقصد المتكلم غرضنا من ممدوح فيأتي بألفاظ تقرر بلوغه ذلك الغرض إسجالا منه على الممدوح به، وبيان ذلك أن يشترط شرطا يلزم من وقوعه وقوع ذلك الغرض ثم يخبر بوقوعه مغالطة وإن لم يكن قد وقع بعد ليقع المشروط، وقد يقع الاسجال لغير مغالطة وهذا النوع هو الذي وقع في الكتاب العزيز وقد تقدم بحثه ومثاله في آل عمران، أما النوع الأول فيقع في الشعر كقول ابن نباتة السعدي: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 462 جاء الشتاء وما عندي له عدد ... إلا ارتعادي وتصفيقي بأسناني فإن هلكت فمولانا يكفنني ... هبني هلكت فهبني بعض أكفاني [سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 12] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان أحوال الكفرة بعد دخولهم النار. وإن واسمها وجملة كفروا صلة الذين وجملة ينادون خبر إن وينادون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل، والمنادون هم الملائكة بعد أن مقت الكفار أنفسهم وهم يكتوون بنار جهنم، واللام لام الابتداء ومقت الله مبتدأ والاضافة من إضافة المصدر لفاعله والمفعول به محذوف أي إياكم وأكبر خبر ومن مقتكم متعلقان بأكبر وأنفسكم مفعول مقتكم. (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) إذ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 463 ظرف متعلق بمقت الله وإن توسط بينهما الخبر لأن الظروف يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها ومنع ذلك أبو البقاء لما تقدم وجعل الظرف متعلقا بفعل محذوف تقديره مقتكم إذ تدعون، وجملة تدعون في محل جر بإضافة الظرف إليها وتدعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو هي نائب الفاعل وإلى الإيمان متعلقان بتدعون، فتكفرون الفاء عاطفة وتكفرون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والمعنى المتحصل من الآية أنهم عند ما يزجون في غيابات النار ويذوقون الهول من احتراقهم بها ينطلقون بالملامة بعضهم على بعض ويتراشقون التهم ويلقي كل واحد الملامة على الآخر فيدعون من مكان سحيق أن مقت الله إياكم أو أنفسكم الأمّارة بالسوء إذ تدعون في الدنيا من جهة الأنبياء فلا تصيخون للسمع، ولا تبالون بالنصح والإرشاد، سادرين في مطاوعة أهوائكم الجموح. (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) قالوا فعل وفاعل وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وأمتنا فعل ماض والتاء فاعل ونا ضمير متصل في نصب مفعول به واثنتين مفعول مطلق ناب عدده عن المصدر أي إماتتين اثنتين وكذلك وأحييتنا اثنتين، واعترفنا فعل وفاعل وبذنوبنا متعلقان باعترفنا، فهل الفاء عاطفة وهل حرف استفهام والى خروج خبر مقدم ومن حرف جر زائد وسبيل مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ مؤخر. (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) ذلكم مبتدأ والاشارة الى العذاب وبأنه خبر وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة دعي في محل جر بإضافة الظرف إليها والله نائب فاعل ووحده حال وجملة كفرتم لا محل لها لأنها جواب إذا وجملة الشرط الجزء: 8 ¦ الصفحة: 464 وجوابه خبر أنه والمراد كفرتم بالتوحيد. (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) الواو عاطفة وإن شرطية ويشرك فعل الشرط مجزوم وهو فعل مضارع مبني للمجهول وبه سد مسد نائب الفاعل وتؤمنوا جواب الشرط والفاء عاطفة لأن هذا الكلام من جملة ما يقال لهم في الآخرة والحكم مبتدأ والله خبره والعلي الكبير صفتان. البلاغة: 1- المجاز المرسل: في قوله «ربنا أمتنا اثنتين» مجاز مرسل لأن المراد بالميتتين الاثنتين خلقهم أمواتا أولا واماتتهم عند انقضاء آجالهم ثانيا والمراد بالإحياءتين الاحياءة الأولى واحياءة البعث وقد أوضح سبحانه ذلك بقوله: «وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم» ففي تسمية خلقهم أمواتا إماتة مجاز لأنه باعتبار ما كان، وقد أوضح ذلك الزمخشري أبلغ إيضاح في فصله الممتع بهذا الصدد ننقله بنصه لنفاسته قال: «فإن قلت كيف صح أن يسمى خلقهم أمواتا إماتة، قلت: كما صح أن تقول: سبحان من صغر حجم البعوضة وكبر حجم الفيل، وقولك للحفار ضيّق فم الركية ووسّع أسفلها وليس ثم نقل من صغر الى كبر ولا عكسه ولا من ضيق الى سعة ولا عكسه وإنما أرد الإنشاء على تلك الصفات والسبب في صحته أن الكبر والصغر جائزان معا على المصنوع الواحد من غير ترجح لأحدهما وكذلك الضيق والسعة فإذا اختار الصانع أحد الجائزين وهو متمكن منهما على السواء فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر فجعل صرفه منه كنقله منه» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 465 2- الاستفهام بمعنى اليأس: وفي قوله «فهل الى خروج من سبيل» في هذا الاستفهام يأس مقنط واستحالة مفرطة كأنهم لفرط ما يكابدونه يتمنون الخروج من هذا الأسى المطبق من الهول المستحكم ولكن أي تمن؟ إنه تمني من غلب عليه اليأس والقنوط وتنكير خروج للدلالة على أي خروج كان سواء أكان سريعا أم بطيئا وإنما يقولون ذلك تعللا وتحيرا ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك وهو قوله «ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم» ومعناه أن السبب يعود إلى كفركم فلا تطمعوا في زوال ما أنتم فيه لأنه جريرتكم وعلى أنفسكم تقع الملامة وقد تعلق الشعراء بأهداب هذا التعبير البديع فقال بعضهم: هل الى نجد وصول ... وعلى الخيف نزول وقصدهم أن هذا أمر غلب فيه اليأس على الطمع وحيل بين المتمني وما يتمناه. [سورة غافر (40) : الآيات 13 الى 18] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 466 اللغة: (الْآزِفَةِ) : القيامة سميت بذلك لأزوفها أي لقربها من أزف الرحيل أي قرب وفي المصباح: «أزف الرحيل أزفا من باب تعب وأزوفا دنا وقرب وأزفت الآزفة القيامة» وفي الأساس: أزف الرحيل: دنا وعجل ومنه أقبل يمشي الأزفى بوزن الجمزى وكأنه من الوزيف والهمزة عن واو، وساءني أزوف رحيلهم وأزف رحيلهم .... والآزفة القيامة لأزوفها. قال هدبة: وبادرها مصر العشيّة قرمها ... ذر البيت يغشاه من القرّ آزف (الْحَناجِرِ) : في المختار: «والحنجرة بالفتح والحنجور بالضم الحلقوم» وفي القاموس: «والحنجور السفط الصغير وقارورة للذريرة والحلقوم كالحنجرة والحناجر جمعه» . الإعراب: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) كلام مستأنف مسوق للتدليل على أن الحكم له سبحانه وهو مبتدأ والذي خبر وجملة يريكم صلة وآياته مفعول به وينزل لكم عطف على يريكم ومن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 467 السماء متعلقان بينزل للدلالة على تجدد الإراءة والتنزيل وديمومتهما واستمرارهما. (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) الواو عاطفة وما نافية ويتذكر فعل مضارع مرفوع وإلا أداة حصر ومن فاعل وجملة ينيب صلة. (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) الفاء الفصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر فادعوا، ولفظ الجلالة مفعول به ومخلصين حال وله جار ومجرور متعلقان بمخلصين والدين مفعول به والواو حالية ولو شرطية وكره الكافرون فعل وفاعل والمفعول به محذوف أي إخلاصكم أو دعوتكم. (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) رفيع الدرجات خبر لمبتدأ محذوف وذو العرش خبر ثان وجملة يلقي الروح خبر ثالث أي الله ومن أمره متعلقان بيلقي أو بمحذوف حال من الروح أي الوحي أي حال كونه ناشئا من أمره والمراد بالروح الوحي وسيأتي السبب في تسميته بذلك في باب البلاغة وعلى من متعلقان بيلقي وجملة يشاء صلة ومن عباده حال، ولينذر اللام للتعليل وينذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بيلقي وفاعل ينذر يجوز أن يكون الله أو الروح أو من يشاء ويوم مفعول به لينذر والتلاق مضاف اليه وحذفت الياء اتباعا لرسم المصحف وقرىء بإثباتها وسمي يوم القيامة بيوم التلاق لأن الخلائق تلتقي فيه. (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) يوم بدل من يوم التلاق بدل كل من كل وهم مبتدأ وبارزون خبر والجملة الاسمية في محل جر بإضافة الظرف إليها فحركة يوم حركة اعراب على المشهور وسيأتي تقرير ذلك في باب الفوائد وجملة لا يخفى حال من ضمير بارزون أو خبر ثان وقيل هي مستأنفة ورجح الزمخشري الحالية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 468 ولعله على صواب وعلى الله متعلقان بيخفى ومنهم حال لأنه كان في الأصل صفة لشيء وشيء فاعل يخفى. (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به فالجملة مقول قول محذوف أي يقوله تعالى ويجيب نفسه والقول معطوف على ما قبله أو مستأنف في جواب سؤال مقدر كأنه قيل فماذا يكون حينئذ فقيل يقال لمن الملك. ولمن خبر مقدم والملك مبتدأ مؤخر واليوم ظرف متعلق بالملك ولله خبر لمبتدأ محذوف تقديره الملك لله والواحد القهار نعتان لله وقال الزمخشري: «ينادي مناد فيقول لمن الملك اليوم فيجيبه أهل المحشر لله الواحد القهار» . (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) الظرف متعلق بتجزى والكلام تتمة للمقول وتجزى فعل مضارع مبني للمجهول وكل نفس نائب فاعل وبما متعلقان بتجزى وما موصولة أو ظرفية. (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لا نافية للجنس وظلم اسمها المبني على الفتح واليوم ظرف متعلق بمحذوف خبر وإن واسمها وخبرها والجملة تعليل لعدم الظلم أي أنه تعالى لا يشغله حساب عن حساب فهو سريع في حسابه عادل في حكمه. (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ) الواو عاطفة على ما تقدم وأنذرهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به أول ويوم الآزفة مفعول به ثان وإذ بدل من يوم الآزفة والقلوب مبتدأ ولدي الحناجر ظرف متعلق بمحذوف خبر والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها وكاظمين حال من القلوب وعوملت الحناجر في جمعها بالياء والنون معاملة أصحابها وسيأتي تقرير الزمخشري في باب البلاغة. (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 469 يُطاعُ) الجملة حال من أصحاب القلوب وما نافية حجازية أو مهملة وللظالمين خبر مقدم ومن حرف جر زائد وحميم اسم ما المؤخر أو مبتدأ ولا شفيع عطف على حميم وجملة يطاع صفة لشفيع وفي الكلام مجاز سيأتي تفصيله في باب البلاغة. البلاغة: 1- في قوله «يلقي الروح من أمره» مجاز مرسل لأن المراد بالروح الوحي وسمي الوحي روحا لأنه يجري من القلوب مجرى الأرواح من الأجساد فهو مجاز مرسل علاقته السببية وجعله الزمخشري استعارة تصريحية وليس ببعيد. 2- التمثيل: وفي قوله «إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين» استعارة تمثيلية لتجسيد الهول في ذلك اليوم الذي تكون فيه مشارفتهم للنار فعند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارها فتلصق بحناجرهم فلا هي تخرج فيموتوا ويستريحوا ولا هي ترجع إلى مواطنها فيتنفسوا الصعداء ويتروحوا ولكنها معترضة كالشجا. 3- عكس الظاهر: وفي قوله «ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع» عكس الظاهر وقد تقدم ذكر هذا الفن أكثر من مرة إذ لا شفيع لهم أصلا فضلا عن أن يكون مطاعا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 470 4- قول الزمخشري في كاظمين: وقال الزمخشري: «فإن قلت: بم انتصب كاظمين؟ قلت: هو حال عن أصحاب القلوب على المعنى لأن المعنى إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها ويجوز أن يكون حالا عن القلوب وان القلوب كاظمة على غم وكرب فيها مع بلوغها الحناجر وانما جمع الكاظم جمع السلامة لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء كما قال تعالى: «رأيتهم لي ساجدين» وقال: فظلت أعناقهم لها خاضعين» . الفوائد: إضافة الزمان الى الجمل: يجوز في الزمان إذا أضيف الى جملة الإعراب على الأصل والبناء فإن كان ما وليه فعلا مبنيا فالبناء أرجح للتناسب أو لشبه الظرف حينئذ بحرف الشرط في جعل الجملة التي تليه مفتقرة إليه والى غيره كقول النابغة الذبياني: على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت: ألما أصح والشيب وازع يروى على حين بالخفض على الاعراب وعلى حين بالفتح على البناء وهو الأرجح لكونه مضافا الى مبني أصالة وهو عاتبت وقد يكون البناء حالة عارضة فيجزي لأمر كذلك كقوله: لأجتذبن منهن قلبي تحلما ... على حين يستصبين كل حليم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 471 يروى بخفض حين على الاعراب وفتحه على البناء لكونه مضافا الى مبني وهو يستصبين فإنه مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث وماضيه استصبيت فلانا إذا جعلته في عداد الصبيان وإن كان ما وليه فعلا مضارعا معربا أو جملة اسمية فالإعراب أرجح من البناء وهو واجب عند البصريين لعدم التناسب وإنما قلنا بأرجحية الاعراب لأن نافعا وهو من كبار القراء قرأ «هذا يوم ينفع» بالفتح على البناء لا على الاعراب وأجاب جمهور البصريين بأن الفتحة فيه ليست فتحة بناء وإنما هي فتحة إعراب مثلها في صمت يوم الخميس والتزموا لأجل ذلك أن تكون الاشارة ليست لليوم وإلا لزم كون الشيء ظرفا لنفسه ولهذا قال الفارسي وابن مالك بأرجحية الاعراب، قال في الخلاصة: وقبل فعل معرب أو مبتدأ ... أعرب ومن بنى فلن يفندا [سورة غافر (40) : الآيات 19 الى 22] يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 472 الإعراب: (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) الجملة خبر رابع للمبتدأ المحذوف الذي أخبر برفيع الدرجات وما بعده أو هو خبر من أخبار هو الذي يريكم أو هي في محل نصب على الحال أو هي تعليلية لا محل لها. ويعلم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره هو أي الله تعالى وخائنة الأعين مفعول به والإضافة بمعنى من أي الخائنة من الأعين فعلى هذا تكون خائنة نعت لمحذوف أي العين الخائنة ويجوز أن تكون الخائنة مصدرا كالعاقبة والكاذبة أي يعلم خيانة الأعين، وسيأتي مزيد بحث عن هذا التعبير في باب البلاغة، والواو حرف عطف وما عطف على خائنة الأعين وجملة تخفي الصدور صلة ما. (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) الواو حرف عطف والله مبتدأ وجملة يقضي بالحق خبره وبالحق متعلقان بيقضي أو بمحذوف حال أي ملتبسا به. (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الواو عاطفة والذين مبتدأ وجملة يدعون صلة ومن دونه متعلقان بيدعون والعائد محذوف أي يدعونهم من دونه بمعنى يعبدونهم وجملة لا يقضون بشيء خبر الذين وان واسمها وهو مبتدأ أو ضمير فصل والسميع البصير خبر ان لهو أو لإن. (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) الهمزة للاستفهام الانكاري أنكر عليهم عدم الاعتبار بأحوال غيرهم والواو عاطفة على مقدر يقتضيه المقام أي أغفلوا ولم يسيروا ولم حرف نفي وقلب وجزم ويسيروا فعل مضارع مجزوم بلم وفي الأرض متعلقان بيسيروا، فينظروا الفاء سببية أو عاطفة وينظروا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 473 منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية أو مجزوم عطف على يسيروا وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر مقدم لكان وعاقبة اسمها والجملة في محل نصب على المفعولية لينظروا وجملة كانوا صلة الذين ومن قبلهم خبر كانوا. (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) كان واسمها وهم ضمير فصل لا محل له وأشد خبرها وساغ دخول ضمير الفصل بين معرفة ونكرة وهو لا يقع إلا بين معرفتين لأن النكرة هنا- وهي أشد- بمثابة المعرفة من حيث امتناع دخول أل عليها لأن اسم التفضيل المقرون بمن لا تدخل عليه أل ومنهم متعلقان بأشد وقوة تمييز وآثارا عطف على قوة وفي الأرض صفة لآثارا وجعله الزمخشري منصوبا بمقدر أي أكثر آثارا على حد قوله «متقلدا سيفا ورمحا» (فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ) الفاء عاطفة وأخذهم الله فعل ومفعول به وفاعل وبذنوبهم متعلقان بأخذهم والباء للسببية أي بسبب ذنوبهم والواو حرف عطف وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولهم خبرها المقدم ومن الله متعلقان بواق ومن حرف جر زائد وواق مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه اسم كان المؤخر. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ) ذلك مبتدأ والاشارة للأخذ والباء حرف جر للسببية وأن ومدخولها في محل جر بالباء والجار والمجرور خبر ذلك وأن واسمها وجملة تأتيهم خبر كانت واسمها مستتر تقديره هي ورسلهم فاعل تأتيهم وبالبينات متعلقان بتأتيهم فكفروا عطف على تأتيهم فأخذهم الله عطف على قوله فكفروا. (إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) تعليل للأخذ وان واسمها وقوي خبر أول وشديد العقاب خبر ثان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 474 البلاغة: فن الفرائد: في قوله «يعلم خائنة الأعين» فن الفرائد وهو من فنون البديع والمختص بالفصاحة دون البلاغة لأنه عبارة عن إتيان المتكلم في كلامه بلفظة تتنزل منزلة الفريدة من حب العقد وهي الجوهرة التي لا نظير لها تدل على جزالة منطقه، وعظم فصاحته، وقوة عارضته، وأصالة عربية بحيث تكون هذه اللفظة لو سقطت من الكلام عزت على الفصحاء غرابتها وهي كثيرة في القرآن وقد مر الكثير منها وهي هنا في لفظة «خائنة» فإنها بمفردها سهلة مستساغة كثيرة الجريان على الألسن فلما أضيفت الى الأعين حصل لها من غرابة التركيب ما جعل لها في النفوس هذا الوقع بحيث لا يتاح الإتيان بمثلها ولا يكاد يقع ذو فكر سليم وذهن مستقيم على شبهها، وقد شغلت هذه الكلمة كبار العلماء وأرباب الفصاحة وسنورد أقوالا منها، فقال ابن عباس: «هو الرجل يكون جالسا مع القوم فتمر المرأة فيسارقهم النظر إليها» وقال مجاهد: «هي مسارقة نظر الأعين الى ما قد نهى الله عنه» وقال الضحاك «هي قول الإنسان ما رأيت وقد رأى» وقال السدي: «إنه الرمز بالعين» وقال سفيان: «هو النظرة بعد النظرة» وقال الفراء: «خائنة الأعين هي النظرة الثانية وما تخفي الصدور النظرة الأولى» وقال ابن عباس: «وما تخفي الصدور أي هل يزني بها لو خلا بها أو لا» وقيل «وما تخفي الصدور تكنّه وتضمره» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 475 [سورة غافر (40) : الآيات 23 الى 27] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) الإعراب: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في قصة موسى مع فرعون واللام جواب القسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل وموسى مفعول به وبآياتنا متعلقان بأرسلنا وسلطان عطف على بآياتنا ومبين نعت، ولك أن تعلق بآياتنا بمحذوف حال أي ملتبسا بآياتنا ولعله أولى. (إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا: ساحِرٌ كَذَّابٌ) إلى فرعون متعلقان بأرسلنا وهامان وقارون عطف على فرعون، فقالوا عطف على أرسلنا وساحر كذاب خبر ان لمبتدأ محذوف أي هو ساحر كذاب. (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) الفاء استئنافية ولما ظرفية حينية أو رابطة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 476 حرفية وجاءهم فعل ومفعول به وفاعل مستتر وبالحق متعلقان بجاءهم ومن عندنا متعلقان بمحذوف حال وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وهو لما واقتلوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة مقول القول وأبناء الذين مفعول به وجملة آمنوا صلة ومعه ظرف مكان متعلق بآمنوا واستحيوا عطف على اقتلوا أي استبقوا ونساءهم مفعول به. (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) الواو حالية وما نافية وكيد الكافرين مبتدأ وإلا أداة حصر وفي ضلال خبر كيد. (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) الواو عاطفة وقال فرعون فعل ماض وفاعل وذروني فعل أمر وفاعل ومفعول به والجملة مقول القول وأقتل فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب وفاعل مستتر تقديره أنا يعود على القائل وهو فرعون لأن قومه كانوا يكفونه عن قتله تهوينا لأمره واستصغارا لشأنه، وليدع الواو عاطفة واللام لام الأمر ويدع فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والمقصود بالأمر هنا التعجيز بزعمه وربه مفعول به. (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) الجملة تعليل لمطالبته بقتل موسى وإن واسمها وأن وما في حيزها مفعول أخاف وأن حرف مصدري ونصب ويبدل فعل مضارع منصوب بأن ودينكم مفعول به وأو حرف عطف وأن يظهر عطف على أن يبدل وفي الأرض متعلقان بيظهر والفساد مفعول يظهر. (وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) الواو عاطفة وقال موسى فعل وفاعل وان واسمها وجملة عذت خبرها والجملة مقول القول ومن كل متكبر متعلقان بعذت وجملة لا يؤمن نعت لمتكبر وبيوم الحساب متعلقان بيؤمن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 477 [سورة غافر (40) : الآيات 28 الى 29] وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) الإعراب: (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) كلام مستأنف مسوق لإيراد الحل الملائم للعقدة القصصية بعد أن عاذ موسى بربه ليكفيه شر هذا اللعين. وقال رجل فعل ماض وفاعل ومؤمن نعت لرجل ومن آل فرعون نعت ثان إن كان الرجل قبطيا والتقدير وقال رجل مؤمن منسوب من آل فرعون وإن كان الرجل إسرائيليا فمن متعلقة بيكتم في موضع المفعول الثاني ليكتم والأول أرجح، وجملة يكتم إيمانه صفة ثالثة لرجل وسيأتي مزيد بحث عن هذا الرجل والإعراب في باب الفوائد. (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) الهمزة للاستفهام الانكاري وتقتلون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل ورجلا مفعول به وأن وما في حيزها في محل نصب مفعول لأجله أي لأجل هذا القول من غير روية وتدبر وتأمل، وأجاز الزمخشري أن يكون ظرفا على تقدير مضاف أي وقت أن يقول، وردّ المعربون ذلك بأنه لا يجوز أن يطرد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 478 هذا التقدير في المصدر المؤول قالوا: إن ذلك إنما يكون مع المصدر المصرح به نحو جئتك مقدم الحاج وخفوق النجم لامع المقدر فلا تقول أجيئك أن يصيح الديك تريد وقت صياحه، وسيرد مزيد بحث في هذا الموضوع في باب الفوائد. وربي مبتدأ والله خبره أو بالعكس والجملة مقول القول والواو حالية وقد حرف تحقيق وجاءكم فعل ماض وفاعل مستتر تقديره هو والكاف مفعول به وبالبينات متعلقان بجاءكم ومن ربكم في موضع نصب على الحال. (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) الواو عاطفة وإن شرطية ويك فعل الشرط وعلامة جزمه السكون المقدر على النون المحذوفة للتخفيف واسمها ضمير مستتر تقديره هو وكاذبا خبرها، فعليه الفاء رابطة لجواب الشرط وعليه خبر مقدم وكذبه مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط وجملة إن يك صادقا يصيبكم بعض الذي يعدكم عطف على الجملة السابقة، وبعض فاعل يصيبكم وجملة يعدكم صلة. (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) ان واسمها وجملة لا يهدي خبرها ومن مفعول به وهو مبتدأ ومسرف خبر وكذاب خبر ثان والجملة صلة من. (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) هذا من تتمة كلام الرجل المؤمن ويا حرف نداء وقوم منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة ولكم خبر مقدم والملك مبتدأ مؤخر واليوم ظرف متعلق بما تعلق به الخبر وظاهرين حال من الضمير في لكم وفي الأرض متعلقان بظاهرين أي غالبين في الأرض. (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا) الفاء الفصيحة ومن اسم استفهام مبتدأ وجملة ينصرنا خبر ومن بأس الله متعلقان بينصرنا وإن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 479 شرطية وجاءنا فعل الشرط والجواب محذوف دل عليه ما قبله أي فمن ينصرنا وفاعل جاءنا يعود على بأس الله. (قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) قال فرعون فعل وفاعل وما نافية وأريكم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وإلا أداة حصر وما اسم موصول مفعول أريكم وجملة أرى صلة الموصول أي ما أشير عليكم إلا بما أشير به على نفسي ولا أعلمكم إلا ما علمت. (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) عطف على ما تقدم وسبيل الرشاد مفعول ثان لأهديكم أو نصب بنزع الخافض. البلاغة: الكلام المنصف: في قوله تعالى: «أتقتلون رجلا أن يقول ... الآية» الكلام المنصف وقد استوفاه الزمخشري في تحليله الممتع وسنلخص ما قاله مع تعليق يقتضيه المقام: فقد استدرجهم هذا الرجل المؤمن باستشهاده على صدق موسى عليه السلام من عند من تنسب اليه الربوبية ببينات عدة لا ببينة واحدة وأتى بها معرفة ليلين بذلك جماحهم ويكسر من سورتهم ثم أخذهم بالاحتجاج بطريق التقسيم فقال لا يخلو أن يكون صادقا أو كاذبا فإن يك كاذبا فضرر كذبه عائد عليه أو صادقا فأنتم مستهدفون لإصابتكم ببعض ما يعدكم به وإنما ذكر بعض مع تقدير أنه نبي صادق والنبي صادق في جميع ما يعد به لأنه سلك معهم طريق المناصحة لهم والمداراة فجاء بما هو أقرب إلى تسليمهم وأدخل في تصديقهم له ليسمعوا منه، فهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 480 ليريهم أنه لم يتكلم كلام المتعصب له، المتحيز الى جانبه وكذلك قدم الكاذب على الصادق لهذا الغرض، ويشبه موقف هذا الرجل المؤمن إلى حد بعيد موقف أبي بكر فقد طاف عليه الصلاة والسلام بالبيت فلقوه فأخذوا بمجامع ردائه وقالوا أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا؟ فقال عليه السلام: أنا ذلك فجاء أبو بكر فالتزمه وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم رافعا صوته وعيناه تسفحان حتى أرسلوه. الفوائد: قد يجعل المصدر ظرفا: قد يجعل المصدر حينا لسعة الكلام فيقال كان ذلك مقدم الحاج وخفوق النجم بمعنى مغيبه وخلافة فلان وصلاة العصر ومنه سير عليه ترويحتين وانتظر به نحر جزورين وقوله تعالى وادبار النجوم، وإنما يفعلون ذلك توسعا وإيجازا: فالتوسع بجعل المصدر حينا وليس من أسماء الزمان، والإيجاز الاختصار بحذف المضاف إذ التقدير في قولك خفوق النجم وصلاة العصر وقت خفوق النجم ووقت صلاة العصر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، واختص هذا التوسع بالأحداث لأنها منقضية كالأزمنة وليست ثابتة كالأعيان فجاز جعل وجودها وانقضائها أوقاتا للأفعال وظروفا لها كأسماء الزمان ومعنى سير عليه ترويحتين زمن ترويحتين ومعنى وانتظر به نحر جزورين أي زمن نحر جزورين والمراد مدة هذا الزمن، والترويحتين تثنية الترويحة واحدة التراويح في الصلاة يقال صلى ترويحتين وصلى خمس ترويحات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 481 وهي أزمنة موقتة تقع في جواب متى من حيث هي موقتة فيقال متى سير عليه فيقال خفوق النجم ومقدم الحاج وصلاة العصر وتقع في جواب كم من حيث كانت مدة معلومة فإذا قيل كم سير عليه جاز أن يكون جوابه مقدم الحاج وخلافة فلان إن شئت رفعته بفعل ما لم يسم فاعله وإن شئت نصبته على الظرف كل ذلك عربي جيد، فأما قوله: «وادبار النجوم» قرىء بكسر الهمزة وفتحها فمن كسر كانت مصدرا جعل حينا توسعا فهو من باب خفوق النجم ومقدم الحاج ومن فتح الهمزة كانت جمع دبر على حد قفل وأقفال أو دبر على طنب وأطناب وقد استعمل ذلك ظرفا كقولك: جئتك في دبر كل صلاة وفي أدبار الصلوات، قال الشاعر: على دبر الشهر الحرام بأرضنا ... وما حولها جدّت عليه سنون تلمّع فقراءة من كسر الهمزة أدخل في الظرفية في قراءة من فتح ولذلك يقل ظهور في مع المكسورة بخلاف من فتح. [سورة غافر (40) : الآيات 30 الى 35] وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 482 الإعراب: (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) الواو عاطفة وقال الذي آمن فعل ماض وفاعل وجملة آمن صلة وهو الذي قال: أتقتلون رجلا إلخ. ويا حرف نداء وقوم منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وان واسمها وجملة أخاف خبر وعليكم متعلقان بأخاف ومثل مفعول به ويوم الأحزاب مضاف اليه. (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) مثل عطف بيان أو بدل لمثل الأول ودأب مضاف إليه ولا بد من تقدير مضاف محذوف أي مثل جزاء وعادة من كفر قبلكم من تعذيبهم في الدنيا وما بعده عطف عليه ومن بعدهم صلة الموصول. (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) الواو عاطفة وما نافية حجازية ولفظ الجلالة اسمها وجملة يريد خبرها وظلما مفعول به والعباد نعت لظلما يعني أن تدميرهم كان استحقاقا بما اجترحوه واقترفوه من آثام. (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) عطف على إني أخاف ويوم التناد مفعول أخاف وهو يوم القيامة والتناد بحذف الياء وإثباتها في كل من الوصل والوقف وذلك لفظا أما خطا فهي محذوفة وقد تقدم في الأعراف أنه يكثر في ذلك اليوم العصيب نداء أصحاب الجنة النار وبالعكس والنداء بالسعادة لأهلها وبالشقاوة لأهلها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 483 (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يوم بدل من يوم الأول وجملة تولون في محل جر بإضافة الظرف إليها ومدبرين حال وما نافية حجازية ولكم خبرها المقدم ومن الله متعلقان بعاصم ومن حرف جر زائد وعاصم اسم ما والجملة في محل نصب على الحال ولك أن تهمل ما لتقدم خبرها ومن يضلل الله فما له من هاد تقدم إعرابها بنصها قريبا فجدد به عهدا. (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ) كلام معطوف على ما تقدم لأنه من تمام وعظ مؤمن آل فرعون ذكّرهم بعتو آبائهم على الأنبياء وقيل هو من كلام موسى فيكون مستأنفا. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وجاءكم يوسف فعل ماض ومفعول به وفاعل ومن قبل متعلقان بمحذوف حال أي من قبل موسى فبناء الظرف على الضم لأن المضاف اليه منوي معناه وبالبينات متعلقان بجاءكم. (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) الفاء عاطفة وما زلتم فعل ماض وناقص والتاء اسمها وفي شك خبرها ومما صفة لشك وجملة جاءكم صلة وبه متعلقان بجاءكم. (حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا) حتى حرف غاية لقوله ما زلتم وإذا ظرف متضمن معنى الشرط وجملة هلك في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة قلتم لا محل لها لأنها جواب إذ ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويبعث فعل مضارع منصوب بلن ولفظ الجلالة فاعل ومن بعده حال ورسولا مفعولا به. (كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) كذلك نعت لمصدر محذوف وقد تقدم كثيرا ويضلل الله فعل مضارع وفاعل ومن مفعول به وهو مبتدأ ومسرف مرتاب خبران له والجملة الاسمية صلة. (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 484 مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) هذه الآية شغلت المعربين كثيرا وتشعبت أقوالهم فيها وأوصل السمين أوجه الاعراب فيها إلى عشرة مما يضيع القارئ في متاهاته ولعل أولاها بالذكر وأقربها الى المعقول ما ذكره أبو حيان قال ما نصه: «والأولى في إعراب هذا الكلام أن يكون الذين مبتدأ وخبره كبر والفاعل ضمير المصدر المفهوم من يجادلون وهذه الصفة موجودة في فرعون وقومه ويكون الواعظ لهم قد عدل عن مخاطبتهم الى الاسم الغائب لحسن محاورته لهم واستجلاب قلوبهم وأبرز ذلك في صورة تذكرهم فلم يخصهم بالخطاب وفي قوله كبر ضرب من التعجب والاستعظام لجدالهم» . ونورد فيما يلي الاعراب الذي اختاره الزمخشري قال: «الذين يجادلون بدل من من هو مسرف فإن قلت: كيف جاز إبداله منه وهو جمع وذاك موحد؟ قلت لأنه لا يريد مسرفا واحدا فكأنه قال: كلّ مسرف وجاز إبداله على معنى من لا على لفظها فإن قلت فما فاعل كبر؟ قلت: ضمير من هو مسرف، فإن قلت: أما قلت هو جمع ولهذا أبدلت منه الذين يجادلون؟ قلت: بل هو جمع في المعنى وأما اللفظ فموحد فحمل البدل على معناه والضمير الراجع إليه على لفظه وليس ببدع أن يحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى وله نظائر، ويجوز أن نرفع الذين يجادلون على الابتداء ولا بد في هذا الوجه من حذف مضاف يرجع اليه الضمير في كبر تقديره جدال الذين يجادلون كبر مقتا، ويحتمل أن يكون الذين يجادلون مبتدأ وبغير سلطان أتاهم خبرا وفاعل كبر قوله كذلك أي كبر مقتا مثل ذلك الجدال ويطبع الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 485 كلام مستأنف ومن قال كبر مقتا عند الله جدالهم فقد حذف الفاعل والفاعل لا يصح حذفه» . أما أبو البقاء فقد قال ما نصه: «الذين يجادلون فيه أوجه أحدها أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين وهم يرجع على قوله من هو مسرف لأنه في معنى الجمع والثاني أن يكون مبتدأ والخبر يطبع الله والعائد محذوف أي على كل قلب متكبر منهم وكذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وما بينهما معترض مسدد والثالث أن يكون الخبر كبر مقتا أي كبر قولهم مقتا والرابع أن يكون الخبر محذوفا أي معاندون ونحو ذلك والخامس أن يكون منصوبا بإضمار أعني» هذا وسنورد في باب الفوائد مناقشة سريعة لهذه الأقوال. هذه ومقتا تمييز محول عن الفاعل أي كبر مقت جدالهم وفيما يلي عبارة السمين: «كبر مقتا يحتمل أن يراد به التعجب والاستعظام وأن يراد به الذم كبئس وذلك أنه يجوز أن يبني فعل بضم العين مما يجوز التعجب منه ويجري مجرى نعم وبئس في جميع الأحكام وفي فاعله ستة أوجه» الى أن يقول: «الثاني أنه يعود على جدالهم المفهوم من يجادلون كما تقدم» الى أن يقول: «الخامس أن الفاعل ضمير يعود على ما بعده وهو التمييز نحو نعم رجلا زيد وبئس غلاما عمرو وعند الله ظرف لكبر» وكذلك نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الطبع ويطبع الله فعل مضارع وفاعل وعلى كل قلب متعلق بيطبع وقلب مضاف ومتكبر مضاف إليه أي على كل قلب شخص متكبر وجبار نعت ثان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 486 الفوائد: 1- مناقشة قيمة: ذكر الزمخشري أن «من» في «من هو مسرف» عوملت معاملة لفظها من بعد معاملة معناها وقد استغرب أهل العربية هذا لأن فيه إبهاما بعد إيضاح وهذا غير لائق ببيان القرآن لأن البلاغيين يرون العكس والصواب أن يجعل الضمير في قوله كبر راجعا الى مصدر الفعل المتقدم وهو قوله يجادلون تقديره كبر جدالهم مقتا ويجعل الذين مبتدأ على تأويل حذف المضاف تقديره جدال الذين يجادلون في آيات الله والضمير في قوله كبر مقتا عائد الى الجدال المحذوف والجملة مبتدأ وخبر ومثله في حذف المصدر المضاف وبناء الكلام عليه قوله تعالى: «أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله» على أحد تأويله ومثله كثير. 2- كل قلب: كل لعموم الضلال جمع القلب لا لعموم القلوب أي شملت الضلالة جميع أجزاء القلب فلم يبق فيه محل للاهتداء والمعروف أن كلّا إذا دخلت على نكرة مطلقا أو على معرفة مجموعة تكون لعموم الأفراد وإذا دخلت على معرفة مفردة تكون لعموم الأجزاء وهنا عوملت الإضافة غير المحضة معاملة الإضافة المحضة. [سورة غافر (40) : الآيات 36 الى 46] وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 487 اللغة: (صَرْحاً) : الصرح- كما في المصباح- بيت واحد يبنى مفردا طولا ضخما، وقال في الكشاف: «الصرح البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بعد، اشتقوه من صرح الشيء إذا ظهر وهذه المادة عجيبة في مدلولها إنها تدل في جميع مشتقاتها على الظهور الجزء: 8 ¦ الصفحة: 488 والإبانة، قالوا: لبن صريح: ذهبت رغوته وخلص وعربي صريح من عرب صرحاء: غير هجناء ونسب صريح وكأس صراح: لم تمزج وصرّحت الخمرة: ذهب عنها الزبد ولقيته مصارحة: مجاهرة وصرّح النهار: ذهب سحابه وأضاءت شمسه قال الطرماح في وصف ذئب: إذا امتلّ يعدو قلت ظلّ طخاءة ... ذرى الريح في أعقاب يوم مصرح وصرح بما في نفسه وبني صرحا وصروحا وقعد في صرحة داره: في ساحتها. (الْأَسْبابَ) : جمع سبب وأسباب السموات مراقيها أو نواحيها أو أبوابها والسبب أيضا الحبل وما يتوصل به الى غيره وقد جمع زهير بينهما بقوله: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... وإن يرق أسباب السماء بسلم والسبب أيضا من مقطعات الشعر حرف متحرك وحرف ساكن أو حرفان متحركان والأول يسمى خفيفا والثاني ثقيلا» . (تَبابٍ) : خسار وهوان وفي القاموس «التبّ والتّبب والتّباب والتبيب والتتبيب: النقص والخسار وتبّا له، وتبّا تبيبا مبالغة» . (لا جَرَمَ) : تقدم بحثها وسيأتي مزيد تفصيل عنها في باب الفوائد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 489 الإعراب: (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) الواو عاطفة وقال فرعون فعل وفاعل ويا حرف نداء وهامان منادى مفرد مبني على الضم وابن فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة مقول قول فرعون ولي متعلقان بمحذوف حال أو بابن وصرحا مفعول به ولعل واسمها وجملة أبلغ الأسباب خبر لعل. (أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) أسباب السموات بدل من الأسباب بدل كل من كل وفائدة البدل أن الشيء إذا أبهم ثم أوضح كان تفخيما لشأنه وهذا هو مراد فرعون، فأطلع الفاء فاء السببية وأطلع فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية جوابا للأمر وهو ابن أو جوابا للترجي وهو لعلي أبلغ وقرىء بالرفع على أن الفاء عاطفة فهو داخل في حيز الترجي وسيأتي مزيد بحث عنه في باب الفوائد والى إله موسى متعلقان بأطلع واني الواو عاطفة وإن واسمها واللام المزحلقة وأظنه فعل مضارع والهاء مفعول به أول وكاذبا مفعول به ثان والجملة خبر إن. (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) الكاف نعت لمصدر محذوف وزين فعل ماض مبني للمجهول ولفرعون متعلقان بزين وسوء عمله نائب فاعل وصدّ عطف على زين وصد فعل ماض مبني للمجهول بضم الصاد وفتحها وكلتا القراءتين سبعية وعن السبيل متعلقان بصد. (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) الواو عاطفة أو حالية وما نافية وكيد فرعون مبتدأ وإلا أداة حصر وفي تباب خبر كيد. (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) عطف على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 490 ما تقدم وقال الذي فعل ماض وفاعل وجملة آمن صلة ويا قوم نداء تقدم إعرابه واتبعون فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية وياء المتكلم المحذوفة لأنها من ياءات الزوائد في محل نصب مفعول وأهدكم فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وسبيل الرشاد مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض والرشاد اسم للمصدر لرشد. (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) سيأتي في باب البلاغة سر تكرير النداء واقترانه بالواو في النداء الثالث كما سيأتي. وإنما كافة ومكفوفة وهذه مبتدأ والحياة بدل والدنيا نعت ومتاع خبر وان الآخرة إن واسمها وهي ضمير فصل أو مبتدأ ودار القرار خبر إن أو خبر هي والجملة خبر إن. (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) من اسم شرط جازم مبتدأ وعمل فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وسيئة مفعول به والفاء رابطة ولا نافية ويجزى فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وإلا أداة حصر ومثلها مفعول يجزى الثاني. (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) . الواو عاطفة ومن شرطية مبتدأ وعمل فعل ماض فعل الشرط وصالحا مفعول به أو نعت لمصدر محذوف أي عملا صالحا ومن ذكر حال أو أنثى عطف على من ذكر، وهو مؤمن الواو للحال وهو مبتدأ ومؤمن خبر والجملة نصب على الحال. (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) الفاء رابطة وأولئك اسم إشارة مبتدأ وجملة يدخلون الجنة خبر أولئك والجملة في محل جزم جواب الشرط وجملة يرزقون حال والواو نائب فاعل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 491 وفيها حال وبغير نعت للمفعول به المحذوف أي يرزقون رزقا واسعا بلا حساب ولا تبعة. (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) عطف على ما تقدم وما اسم استفهام مبتدأ ولي خبره وجملة أدعوكم حالية والى النجاة متعلقان بأدعوكم وتدعونني الى النار عطف على أدعوكم الى النجاة. (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) جملة تدعونني بدل وجملة وتدعونني بمثابة التعليل ولأكفر اللام للتعليل وأكفر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والفاعل مستتر تقديره أنا وبالله متعلقان بأكفر وأشرك عطف على لأكفر وما مفعول به وجملة ليس لي به علم صلة وليس فعل ماض ناقص ولي خبرها المقدم وبه متعلقان بعلم وعلم اسم ليس المؤخر. (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) الواو عاطفة وأنا مبتدأ وجملة أدعوكم خبر وإلى العزيز الغفار متعلقان بأدعوكم. (لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) لا نافية وجرم فعل ماض بمعنى حق ووجب وأن وما في حيزها فاعل جرم أي حق ووجب بطلان دعوته وأن واسمها وحقها أن تكتب مفصولة لأن ما اسم موصول بمعنى الذي لكنها رسمت موصولة اتباعا لسنة المصحف وجملة تدعونني صلة وإليه متعلقان بتدعونني وجملة ليس خبر أن وله خبر ليس المقدم ودعوة اسمها المؤخر وفي الدنيا نعت ولا في الآخرة عطف على في الدنيا. (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) عطف على ما تقدم وأن واسمها والى الله خبرها وان المسرفين عطف أيضا وهم ضمير فصل لا محل له أو مبتدأ وأصحاب النار خبر أن أو خبر هم والجملة خبر أن. (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 492 الفاء الفصيحة والسين حرف استقبال وتذكرون فعل مضارع والواو فاعل وما مفعول به وجملة أقول صلة ولكم متعلقان بأقول وأفوض عطف وأمري مفعول به والى الله متعلقان بأفوض أي إذا نزل بكم العذاب. (إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) إن واسمها وبصير خبرها وبالعباد جار ومجرور متعلقان ببصير. (فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) الفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق أي لما توعدوه بالقتل وقصدوه به فعلا هرب منهم ولاذ بالمغاور وشعاب الجبال فطلبوه فلم يقدروا عليه فوقاه الله. ووقاه الله فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وسيئات مفعول به ثان أو نصب بنزع الخافض وما مصدرية أو موصولة أي سيئات مكرهم به أو سيئات الذي مكروا به وحاق فعل ماض وبآل فرعون متعلقان بحاق وسوء العذاب فاعل. (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) النار خبر مبتدأ محذوف أي هو أي سوء العذاب ويجوز أن تعرب بدلا من سوء العذاب ويجوز أن تعرب مبتدأ وجملة يعرضون خبر وعلى الوجهين الأولين تعرب جملة يعرضون حالا وقرىء النار بالنصب على الاختصاص بفعل محذوف وعليها متعلقان بيعرضون وغدوا وعشيا ظرفان متعلقان بيعرضون أيضا. (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) الظرف متعلق بقول محذوف أي يقال لهم يوم تقوم الساعة وجملة أدخلوا مقول القول ويجوز أن يتعلق بأدخلوا أي ادخلوا يوم تقوم الساعة وعلى هذين الوجهين يكون الوقف تاما على قوله وعشيا ويجوز أن يكون معطوفا على الظرفين قبله فيكون متعلقا بيعرضون والوقف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 493 على هذا الوجه على قوله الساعة وادخلوا مقول قول مقدر أي يقال لهم كذا وكذا وأدخلوا فعل أمر من أدخل وآل فرعون مفعول به أول وأشد العذاب مفعول به ثان وقرىء أدخلوا بهمزة الوصل من دخل يدخل فآل فرعون حينئذ منادى حذف منه حرف النداء وأشد العذاب مفعول به. البلاغة: في تكرير نداء قومه مبالغة في التنبيه والتحدي وقرع العصا وإمحاض النصيحة والإيقاظ من سنة الغفلة، كأنما عز عليه أن يستهدفوا للمصير المحزن الذي سيصيرون إليه وكأنه مترجح بين التلطف بهم لأن ما يحزنهم يحزنه وما يسوءهم يسوءه فهم قومه على كل حال، وقد سدروا في متاهات الغفلة وقد سبق تقرير هذا الموقف في مناصحة إبراهيم لأبيه عند ما كرر نصيحته إليه متلطفا بقوله: يا أبت مكررا. هذا وقد جيء بالواو في النداء الثالث خلافا لأن النداء الثاني بمثابة بيان للأول وتفسير له فأعطي حكمه في عدم دخول الواو عليه وأما الثالث فداخل على كلام ليس بتلك المثابة. الفوائد: 1- في نصب قوله «فأطلع» ثلاثة أوجه: أ- انه جواب للأمر وهو قوله ابن لي فنصب بأن مضمرة بعد الفاء في جوابه ومثاله في الشعر قول أبي النجم العجلي: يا ناق سيري عنقا فسيحا ... إلى سليمان فنستريحا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 494 ب- إنه جواب للترجي والى هذا نحا الزمخشري قال: «وقرىء فأطلع بالنصب على أنه جواب الترجي تشبيها للترجي بالتمني» . ج- انه معطوف على التوهم لأن خبر لعل كثيرا ما جاء مقرونا بأن في النظم والنثر فمن نصب توهم أن الفعل المرفوع الواقع خبرا منصوب بأن والعطف على التوهم كثير وان كان غير مقيس. 2- لا جرم: بسطنا القول في هود حول «لا جرم» وأوردنا الأوجه المستفيضة فيها وقد اخترنا في الإعراب ما ذهب إليه الخليل وسيبويه وجمهور البصريين فتكون «لا» ردا لما دعاه إليه قومه و «جرم» بمعنى كسب أي وكسب دعاؤهم إليه بطلان دعوته أي ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته، ويجوز أن يكون «لا جرم» نظير «لا بد» من الجرم وهو القطع فكما أنك تقول لا بد لك أن تفعل، والبد من التبديد الذي هو التفريق ومعناه لا مفارقة لك من فعل كذا فكذلك «لا جرم» معناه لا انقطاع لبطلان دعوة الأصنام بل هي باطلة أبدا. [سورة غافر (40) : الآيات 47 الى 52] وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 495 اللغة: (يَتَحاجُّونَ) : يتخاصمون يقال: حاجّه حجاجا ومحاجّة ومحاجة: خاصمه والمحجاج الكثير الخصومة. (تَبَعاً) : جمع تابع كخدم جمع خادم أو هو مصدر وصف به. (جَهَنَّمَ) سيأتي القول فيها في باب البلاغة. الإعراب: (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) الواو استئنافية وإذ ظرف لما مضى متعلق بفعل محذوف تقديره اذكر يا محمد لقومك وجملة يتحاجون في محل جر بإضافة الظرف إليها وفي النار متعلقان بيتحاجون والفاء تفريعية لتفصيل التحاج والتخاصم ويقول الضعفاء فعل مضارع وفاعل وللذين متعلقان بيقول وجملة استكبروا صلة. (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ) إن واسمها وجملة كنا خبرها والجملة مقول القول وكان واسمها ولكم متعلقان بمحذوف صفة لتبعا أو متعلقان به إذا اعتبر مصدرا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 496 فهل الفاء عاطفة وهل حرف استفهام وأنتم مبتدأ ومغنون خبره وعنا متعلقان بمغنون ونصيبا مفعول لمغنون أي دافعون عنا نصيبا من النار، وعبارة أبي البقاء «نصيبا منصوب بفعل دل عليه مغنون تقديره: هل أنتم دافعون عنا أو مانعون ويجوز أن يكون في موضع المصدر كما كان شيء كذلك ألا ترى الى قوله تعالى: «لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا» فشيئا في موضع غنى فكذلك نصيبا» ومن النار صفة لنصيبا. (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) قال الذين فعل ماض وفاعل وجملة استكبروا صلة الذين وإنا إن واسمها وكلّ مبتدأ ساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم وفيها خبر كل والجملة خبر إن وان واسمها وجملة قد حكم خبر إن وبين العباد ظرف متعلق بحكم. (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) الواو عاطفة وقال الذين فعل ماض وفاعل وفي النار متعلقان بمحذوف صلة الذين ولخزنة جهنم متعلقان بقال ووضع جهنم موضع الضمير للتهويل وسيأتي مزيد من هذا البحث في باب البلاغة وادعوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وربكم مفعول به والجملة مقول القول ويخفف فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب وعنا متعلقان بيخفف ويوما ظرف متعلق بيخفف أيضا ومن العذاب صفة لمحذوف هو مفعول يخفف أي يخفف عنا شيئا من العذاب في يوم. (قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ؟) قالوا فعل وفاعل والضمير يعود لخزنة جهنم والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 497 والواو عاطفة على مقدر أي ألم تنتهوا عن هذا ولم تك تأتيكم، ولم حرف نفي وقلب وجزم وتك فعل مضارع مجزوم وعلامة جزمه السكون المقدر على النون المحذوفة للتخفيف واسم تك مستتر وجملة تأتيكم خبر ورسلكم فاعل تأتيكم وقد تنازعه كل من تك وتأتيكم فأعطى فاعلا للثاني وأضمر في الأول ويجوز العكس وبالبينات متعلقان بتأتيكم (قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) قالوا فعل وفاعل وبلى حرف جواب لإثبات النفي وقالوا فعل وفاعل أيضا، فادعوا الفاء الفصيحة وادعوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والواو للحال وما نافية ودعاء مبتدأ والكافرين مضاف اليه وإلا أداة حصر وفي ضلال خبر دعاء. (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) تعليل لضياع دعائهم لأنه مسلوب الحجة وان واسمها واللام المزحلقة وجملة ننصر رسلنا خبر إنا والذين عطف على رسلنا وجملة آمنوا صلة وفي الحياة الدنيا متعلقان بننصر ولا يقدح في هذا التأكيد ما يبدو أنهم يغلبون في بعض الأحيان ابتلاء وامتحانا فإن العبرة بالعواقب والأمور بخواتيمها، ويوم يقوم الاشهاد عطف على في الحياة الدنيا أي لننصرنهم في الحياة الدنيا وفي يوم القيامة وجملة يقوم الاشهاد في محل جر بإضافة الظرف إليها والأشهاد جمع شاهد كصاحب وأصحاب. (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) يوم بدل من يوم قبله وجملة لا ينفع في محل جر بإضافة الظرف إليها والظالمين مفعول به ومعذرتهم فاعل والواو عاطفة ولهم خبر مقدم واللعنة مبتدأ مؤخر ولهم سوء الدار عطف على لهم اللعنة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 498 البلاغة: في قوله «لخزنة جهنم» فيه- كما قلنا- وضع الظاهر موضع المضمر للتهويل ويحتمل أن جهنم هي أبعد النار غورا من قولهم بئر جهنام أي بعيدة القعر، وكان النابغة يسمي الجهنام لبعد غوره في الشعر، والأول أظهر والتفخيم فيه من وجهين: أحدهما وضع الظاهر موضع المضمر والثاني ذكره وهو شيء واحد بظاهر غير الأول أفظع منه لأن جهنم أفظع من النار إذ النار مطلقة وجهنم أشدها، هذا وقد جاء في القاموس ما نصه: «وركية جهنّام مثلثة الجيم وجهنم كعملّس بعيدة القعر وبه سميت جهنم أعاذنا الله تعالى منها» قال شارحه: «قوله وبه سميت جهنم جرى على أنها عربية لم تجر للتأنيث والتعريف وجرى يونس وغيره على أنها أعجمية لا تجري للتعريف والعجمة» وقوله لم تجر بمعنى لم تنصرف وهي عبارة سيبويه واصطلاح البصريين المنصرف وغير المنصرف واصطلاح الكوفيين المجري وغير المجري. [سورة غافر (40) : الآيات 53 الى 59] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 499 الإعراب: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) كلام مستأنف مسوق لإيراد نموذج عظيم من نماذج النصر الذي وعد الله به أنبياءه وأولياءه في الدنيا واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل وموسى مفعول به والهدى مفعول به ثان وأورثنا عطف على آتينا وهو فعل وفاعل وبني إسرائيل مفعول به أول والكتاب مفعول به ثان. (هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) هدى وذكرى نصب على أنهما مفعول من أجله أي لأجل الهدى والذكرى أو على أنهما مصدران في موضع الحال ولأولي الألباب نعت لذكرى أو هو متعلق بذكرى. (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) الفاء الفصيحة أي إن عرفت هذه الحقيقة الثابتة وهي أن الله ينصر رسله وأولياءه فاصبر يا محمد على أذى قومك وإن واسمها وخبرها واستغفر لذنبك عطف على فاصبر أي واستدرك المفرطات بذنبك وقيل الكلام على حذف مضاف أي لذنب أمتك. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) عطف أيضا وبحمد ربك حال وبالعشي والإبكار متعلقان بسبح. (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) إن واسمها وجملة يجادلون خبر إن وفي آيات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 500 الله متعلقان بيجادلون وبغير سلطان حال أي حال كونهم غير مستندين في جدالهم الى حجة إلا المكابرة واللجاج وهما سلاحان مغلولان وجملة أتاهم نعت لسلطان. (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) إن نافية وفي صدورهم خبر مقدم وإلا أداة حصر وكبر مبتدأ مؤخر والجملة خبر إن وما نافية حجازية وهم اسمها وببالغيه الباء حرف جر زائد وبالغيه مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما والجملة نعت لكبر أي ببالغي مقتضى كبرهم وهو التعاظم. (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الفاء الفصيحة واستعذ فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وبالله متعلقان باستعذ وان واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والسميع البصير خبر إن. (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) اللام لام الابتداء وخلق السموات والأرض مبتدأ وأكبر خبر ومن خلق الناس متعلقان بأكبر ولكن الواو للحال ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها وسيأتي سر تلاحم هذا القول مع ما قبله في باب البلاغة. (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ) الواو عطف على ما تقدم وما نافية ويستوي الأعمى فعل مضارع وفاعل والبصير عطف على الأعمى والذين آمنوا عطف على الأعمى والبصير وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات جملة معطوفة داخلة في حيز الصلة ولا المسيء الواو عاطفة ولا زائدة للتوكيد والمسيء عطف على ما قبله وسيأتي ترتيب هذه المنسوقات في باب البلاغة وقليلا مفعول مطلق أو ظرف زمان وما زائدة وتتذكرون فعل مضارع مرفوع وفاعله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 501 (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) إن واسمها واللام المزحلقة وآتية خبرها ولا نافية للجنس وريب اسمها وفيها خبرها والجملة خبر ثان لأن ولكن أكثر الناس لا يؤمنون تقدم إعراب هذه الجملة قبل قليل فجدد به عهدا. البلاغة: 1- فن الإلجاء: في قوله «لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس» فن رفيع من فنون البلاغة وهو فن الإلجاء وهو أن يبادر المتكلم خصمه بما يلجئه الى الاعتراف بصحته وبهذا صح التحامه مع ما قبله من الكلام فإن مجادلتهم في آيات الله كانت مشتملة على أمور كثيرة من الجدال والمغالطة واللجاج والسفسطة وفي مقدمتها إنكار البعث وهو في الواقع أصل المجادلة ومحورها الذي عليه تدور، فبادر سبحانه الى مبادهتهم بما يسقط في أيديهم، ويقطع عليهم طرق المكابرة والمعاندة وهو خلق السموات والأرض وقد كانوا مقرين بأن الله خالقها وبأنها خلق عظيم فخلق الناس بالقياس شيء هين ومن قدر على خلقها مع عظمها كان ولا شك على خلق الإنسان الضعيف أقدر وبه أقمن. هذا والأولوية في هذا الاستشهاد على درجتين: إحداهما أن القادر على العظيم هو على الحقير أقدر وثانيهما أن مجادلتهم كانت في البعث وهو الإعادة وما من ريب في أن الابتداء أعظم وأبهر من الإعادة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 502 2- فن حسن النسق: وفي قوله «وما يستوي الأعمى والبصير» الآية فن حسن النسق وفي ترتيب النسق ثلاث طرق إحداها أن يجاور المناسب ما يناسبه كهذه الآية فالأعمى يجاور البصير وهذان الوصفان مستعاران لمن غفل عن معرفة الحق في مبدئه ومعاده وقدم الأعمى في نفي التساوي لمجيئه بعد صفة الذم في قوله ولكن أكثر الناس لا يعلمون والذين آمنوا وعملوا الصالحات أي المحسن يجاور المسيء وقدم الذين آمنوا لمجاورته للبصير وناهيك بهذه المجاورة شرفا للمؤمن، وثاني الطريقتين أن يتأخر المتقابلان كقوله تعالى «مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع» وثالثتهما أن يقدم مقابل الأول ويؤخر مقابل الآخر كقوله تعالى: «وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور» وهذه الطرق الثلاث يتخير المتكلم في إيرادها حسب مقتضى الحال ووفق نواميس البلاغة وطرائقها والله أعلم. الفوائد: لام الابتداء: تفيد أمرين: أولهما توكيد مضمون الجملة ولهذا زحلقوها في باب إن عن صدر الجملة كراهية ابتداء الكلام بمؤكدين، وثانيهما تخليص المضارع للحال. وتدخل باتفاق في موضعين: 1- على المبتدأ نحو: «لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 503 2- بعد إن وتدخل في هذا الباب على ثلاثة باتفاق: الاسم نحو «إن ربي لسميع الدعاء» والمضارع لشبهه به نحو «وإن ربك ليحكم بينهم» والظرف نحو «وإنك لعلى خلق عظيم» وعلى ثلاثة باختلاف: الماضي الجامد نحو (إن زيدا لعسى أن يقوم) والماضي المقرون بقد والماضي المتصرف المجرد من قد. ومن لام الابتداء لام القسم نحو «لينبذن في الحطمة» ونحو «ولسوف يعطيك ربك فترضى» . [سورة غافر (40) : الآيات 60 الى 63] وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللغة: (داخِرِينَ) : صاغرين وفي المصباح: «دخر الشخص يدخر بفتحتين دخورا: ذل وهان وأدخرته بالألف للتعدية» . الإعراب: (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) كلام مستأنف مسوق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 504 لبيان فضل الدعاء أي العبادة وسيرد في باب البلاغة المجاز في هذه الكلمة وقال ربكم فعل ماض وفاعل وادعوني فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به والجملة مقول القول، واستجب فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب ولكم متعلقان باستجب. (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) إن واسمها وجملة يستكبرون صلة الذين عن عبادتي متعلقان بيستكبرون وجملة سيدخلون خبر إن وجهنم مفعول به على السعة وداخرين حال. (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) الله مبتدأ والذي خبره وجملة جعل صلة ولكم متعلقان بجعل لأنه بمعنى خلق والليل مفعول به ولتسكنوا اللام للتعليل وتسكنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والواو فاعل وفيه متعلقان بتسكنوا والنهار عطف على الليل ومبصرا حال. (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) إن واسمها واللام المزحلقة وذو فضل خبر إن وعلى الناس متعلقان بفضل ولكن الواو عاطفة ولكن واسمها وجملة لا يشكرون خبر لكن. (ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) اسم الإشارة مبتدأ والاشارة الى المعلوم المتميز بالأفعال المقتضية لربوبيته والله خبر أول وربكم خبر ثان وخالق كل شيء خبر ثالث (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) تقدم إعراب كلمة الشهادة مفصلا فجدد به عهدا والجملة خبر رابع والفاء الفصيحة وأنى اسم استفهام بمعنى كيف في محل نصب حال وتؤفكون أي تصرفون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل أي فكيف تصرفون عن الإيمان بعد ما قامت البراهين على ربوبيته؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 505 (كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) الكاف نعت لمصدر محذوف أي مثل إفك هؤلاء إفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون، والذين نائب فاعل وجملة كانوا صلة الموصول وكان واسمها وبآيات الله متعلقان بيجحدون وجملة يجحدون خبرها. البلاغة: 1- المجاز والمشاكلة: في قوله «وقال ربكم ادعوني أستجب لكم» مجاز مرسل علاقته السببية لأن الدعاء سبب العبادة وفي قوله أستجب لكم مشاكلة لأن الإثابة مترتبة عليها وإنما جعلنا الكلام مجازا بقرينة قوله بعد ذلك «إن الذين يستكبرون عن عبادتي» ويؤيد هذا المجاز حديث النعمان بن بشير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاء هو العبادة» وقرأ هذه الآية، وقول ابن عباس: أفضل العبادة الدعاء، على أن بعضهم حمل الآية على الظاهر وقال إن الدعاء هو السؤال والتضرع وسيأتي في باب الفوائد مزيد بحث في هذا الصّدد. 2- الإسناد المجازي: وفي قوله «الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا» إسناد مجازي فقد أسند الإبصار الى النهار لأنه يبصر فيه ولأن الإبصار في الحقيقة لأهل النهار وقرن الليل بالمفعول لأجله والنهار بالحال لأن كل واحد منهما يؤدي مؤدّى الآخر لأنه لو قيل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 506 لتبصروا فيه فاتت الفصاحة الكامنة في الإسناد المجازي، ولو قيل ساكنا- والليل يجوز أن يوصف بالسكون على الحقيقة- لم تتميز الحقيقة من المجاز. 3- وضع الظاهر موضع المضمر: وفي قوله «ولكن أكثر الناس لا يشكرون» وسع الظاهر موضع المضمر فقد كان السياق يقتضي أن يقول ولكن أكثرهم لا يشكرون فلا يتكرر ذكر الناس ولكن في هذا التكرير تخصيصا لكفران النعمة بهم وانهم هم المتميزون بهذه الصفة المنبوّة على الطباع تتوالى عليهم النعم وتترادف الآلاء، ويتهيأ لهم كل ما يصبون إليه من مناعم العيش وهم مصرون على الجحود والنكران، أليست هذه سمة الناس في مختلف الظروف والأحوال؟ وقد كرر سبحانه تقرير ذلك فقال: «إن الإنسان لربه لكنود» وقال «إن الإنسان لظلوم كفار» . الفوائد: 1- قال الإمام أبو القاسم القشيري في رسالته «اختلف الناس في أن الأفضل الدعاء أم السكوت والرضا؟ فمنهم من قال: الدعاء عبادة للحديث: «ان الدعاء هو العبادة» ولأن الدعاء إظهار الافتقار الى الله تعالى، وقالت طائفة: السكوت والخمود تحت جريان الحكم أتم، والرضا بما سبق به القدر أولى، وقال قوم يكون صاحب دعاء بلسانه ورضا بقلبه ليأتي بالأمرين جميعا» قال القشيري: «والأولى أن يقال الأوقات مختلفة، ففي بعض الأحوال الدعاء أفضل من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 507 السكوت وهو الأدب، وفي بعض الأحوال السكوت أفضل من الدعاء وهو الأدب وإنما يعرف ذلك بالوقت فإذا وجد في قلبه إشارة الى الدعاء فالدعاء أولى به وإذا وجد إشارة الى السكوت فالسكوت أنم» . فإن قيل: كيف قال تعالى «ادعوني أستجب لكم» وقد يدعو الإنسان كثيرا فلا يستجاب له؟ وقيل في الجواب: «الدعاء له شروط منها: الإخلاص في الدعاء، وأن لا يدعو وقلبه لاه ومشغول بغير الدعاء، وأن يكون المطلوب بالدعاء مصلحة للإنسان، وأن لا يكون فيه قطيعة رحم فإذا كان الدعاء بهذه الشروط كان حقيقا بالإجابة فإما أن يعجلها له وإما أن يؤخرها له، يدل عليه ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من رجل يدعو الله تعالى بدعاء إلا استجيب له فإما أن يعجل له في الدنيا وإما أن يؤخر له في الآخرة وإما أن يكفّر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدعو بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل قالوا: يا رسول الله وكيف يستعجل؟ قال: يقول: دعوت فما استجاب لي» . وأورد الغزالي سؤالا آخر قال: «فإن قيل: فما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا مردّ؟ فاعلم أن من جملة القضاء ردّ البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لردّ البلاء ووجود الرحمة كما أن الترس سبب لدفع السلاح، والماء سبب لخروج النبات من الأرض، فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان فكذلك الدعاء والبلاء، وليس من شرط الاعتراف بالقضاء أن لا يحمل السلاح وقد قال الله تعالى: «وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم» فقدر الله تعالى الأمر وقدر سببه» . وهذا سؤال قد تكون الإجابة متقدمة عليه وقد روينا في كتاب الترمذي: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 508 «من سره أن يستجيب الله تعالى له عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء» ومعنى سره: أعجبه وأوقعه في الفرح والسرور وأن يستجيب الله فاعل سره ومفعول يستجيب محذوف أي دعاءه وقوله عند الشدائد ظرف للاستجابة أي حصول الأمور الشديدة من المكروهات، والكرب بضم ففتح جمع كربة وهي الغم يأخذ بالنفس، وقوله فليكثر الدعاء إلخ جواب الشرط، ولرخاء بفتح الراء سعة العيش وحسن الحال وإنما كان كذلك لأن إكثاره في وقت الرخاء يدل على صدق العبد في عبوديته والتجائه الى ربه في جميع أحواله وانه يشكره في الرخاء كما يشكره في الشدة ويتوجه إليه بكليته ليكون له عدة. وقال الإمام أبو حامد الغزالي في الاحياء: «آداب الدعاء عشرة: والأول أن يترصّد الأزمان الشريفة كيوم عرفة وشهر رمضان ويوم الجمعة والثلث الأخير من الليل ووقت الأسحار، الثاني أن يغتنم الأحوال الشريفة كحالة السجود والتقاء الجيوش ونزول الغيث وإقامة الصلاة وبعدها، الثالث استقبال القبلة ورفع اليدين ويمسح بهما وجهه في آخره، الرابع خفض الصوت بين المخافتة والجهر، الخامس أن لا يتكلف السجع، السادس التضرع والخشوع والرهبة، السابع أن يجزم بالطلب ويوقن بالإجابة، الثامن أن يلح في الدعاء ويكرره ثلاثا ولا يستبطىء الإجابة، التاسع أن يفتتح الدعاء بذكر الله تعالى، العاشر هو الأصل في الإجابة وهو التوبة ورد المظالم والإقبال على الله تعالى» . 2- لمحة عن القشيري: اقتبسنا في هذا الفصل قبسة من الرسالة القشيرية ولإتمام الفائدة يحسن بنا أن نورد لمحة موجزة عنها وعن مؤلفها لأنها تمدنا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 509 بصورة كاملة عن التصوف ورجاله منذ ظهر التصوف في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري حتى عصر المؤلف، وتعتبر على الرغم من صغر حجمها نسبيا أفضل وثيقة علمية وتاريخية في موضوعها، وقبل تلخيص الرسالة لا بد من الإشارة الى صاحبها فهو الشيخ عبد الكريم بن هوازن المعروف بزين الإسلام أبي القاسم القشيري ولد سنة 376 هـ ولد في بيت عربي قح فقد كان أبوه قشيريا من قبيلة قشير بن كعب التي وردت خراسان زمن الأمويين وكانت أمه سلمية وخاله أبو عقيل السلمي من وجوه دهاقين ناحية استوا قريبا من نيسابور وفي هذه المنطقة عاش أجداده الأقربون، ونحن لا نعلم إلا القليل عن طفولته الأولى ولكننا نعلم أن أباه مات وهو صغير فعهد بأمر تربيته الى أبي القاسم اليماني الذي كان صديقا لأسرة القشيري فقرأ عليه الأدب والعربية ثم انتقل الى نيسابور حيث أخذ العلم عن بعض الأجلاء من علمائها وحضر مجلس الأستاذ الشهير أبي علي الحسن بن علي الدقاق الذي كان من كبار مشايخ الصوفية في عصره فأعجب القشيري به واستحسن كلامه وسلك طريقته فقبله الشيخ وأشار عليه بتعلّم العلم فحضر دروس الشيخ أبي بكر محمد بن بكر الطوسي ثم الأستاذ أبي بكر بن نورك الذي توفي سنة 406 هـ وكان أصوليا كبيرا وبعد وفاته اختلف الى الأستاذ أبي اسحق الأسفراييني وجمع بين طريقته وطريقة ابن نورك ثم نظر بعد ذلك في كتب القاضي أبي بكر الباقلاني المتوفى سنة 403 هـ وهو مع كل هذا يداوم على حضور مجلس أبي علي الدقاق إلى أن اختاره لصحبته وزوّجه من ابنته ولما مات الأستاذ أبو علي صحب الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي المؤرخ الصوفي الكبير وأصبح شيخ خراسان غير منازع في الفقه على مذهب الإمام الشافعي والكلام على مذهب الإمام أبي الحسن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 510 الأشعري كما كانت له الصدارة في الحديث والأدب واللغة وقد وصف الباخرزي المتوفى سنة 467 مقدرته على الوعظ المؤثر بقوله: «ولو قرع الصخر بسياط تحذيره لذاب، ولو ربط إبليس في مجلس تذكيره لتاب، وله فصل الخطاب في فضل المنطق المستطاب» . ويبدو أن الشهرة الواسعة التي تمتع بها القشيري في نيسابور قد أثارت الحقد والحسد في نفوس فقهاء هذه المدينة فشرعوا يعدون العدة للحطّ من قدره وذلك بتلفيق الاتهامات وإذاعة الأكاذيب حوله وقد نجحوا في مسعاهم وحلت بالقشيري محنة شديدة لقي فيها ألوانا من العنت والآلام والتشريد ونحيل القارئ الى طبقات السبكي ليقرأ تفاصيل تلك المحنة التي دامت خمس سنين إلى أن ردّ عليه عضد الدولة شرفه والتأم شمل مجلسه كما كان. خلاصة الرسالة القشيرية: تتألف الرسالة من الأقسام الرئيسية الآتية: 1- مقدمة يشرح فيها الباعث على تأليفه الرسالة فقد لاحظ أن بعض صوفية عصره قد ضلوا سبل الرشاد فعقد النية على وضع كتاب يرجع فيه بالتصوف الى سيرته الأولى، ويخلصه من البدع التي تسربت إليه وهذه هي عبارته نوردها بنصها لما فيها من روعة التصوير لهذه المأساة، يقول: «اعلموا رحمكم الله أن المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم، ولم يبق في زماننا هذا من هذه الطائفة إلا أثرهم كما قيل: أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 511 ويذكر القشيري في هذه المقدمة أيضا بيانا بأصول العقائد الإيمانية التي دان بها أوائل الصوفية وبنوا قواعد أمرهم في الطريق عليها ثم يلخص وجهة نظره في تسع مسائل يرجع إليها من يشاء في رسالته. 2- وهو قسم يترجم فيه لطائفة من الصوفية مبتدئا بإبراهيم ابن أدهم ومنتهيا بأحمد بن عطاء. 3- وهو تفسير ألفاظ تدور بين الصوفية وبيان ما يشكل منها. 4- وهو في أدب الطريق وما يعرض للسالك من عقبات في سفره الى الله. 5- خاتمة بها وصيته للمريدين. هذا وقد كانت الرسالة موضع عناية الدارسين وقد وضعت عليها عدة شروح أشهرها شرح الشيخ زكريا الأنصاري. [سورة غافر (40) : الآيات 64 الى 68] اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 512 الإعراب: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان تفضله تعالى المتعلق بالمكان بعد بيان تفضله المتعلق بالزمان والله مبتدأ والذي خبره وجملة جعل صلة ولكم متعلقان بمحذوف حال والأرض مفعول به أول وقرارا مفعول به ثان لأن الجعل هنا بمعنى التصيير وإذا اعتبرت بمعنى الخلق كانت قرارا حالا بمعنى مستقرة والسماء بناء عطف على ما تقدم وصوركم فعل وفاعل مستتر ومفعول به، فأحسن عطف على صوركم وصوركم مفعول به ومعنى كون السماء بناء إنها مبنية كالقبة المضروبة في نظر العين. (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ) ورزقكم عطف على ما تقدم ومن الطيبات متعلقان برزقكم وذلكم مبتدأ والله خبر وربكم خبر ثان. (فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) الفاء حرف عطف وتبارك فعل ماض والله فاعل ورب العالمين نعت الله. (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) هو مبتدأ والحي خبر وكلمة الشهادة التي تقدم اعرابها خبر ثان فادعوه الفاء الفصيحة وادعوه فعل أمر وفاعل ومفعول به ومخلصين حال وله متعلقان بمخلصين والدين مفعول لمخلصين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 513 (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) تقدم إعرابها في مستهل الكتاب والجملة مقول لقول محذوف هو حال من فاعل فادعوه أي قائلين الحمد لله إلخ ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة على أنها من كلامه ذاته سبحانه. (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) إن واسمها وخبرها مقول القول وجملة نهيت خبر إن والتاء نائب فاعل وأن أعبد المصدر المؤول في محل نصب بنزع الخافض أي عن عبادة الذين تدعون وجملة تدعون صلة ومن دون الله حال ولما ظرف بمعنى حين أو رابطة وجاءني البينات فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وجملة جاءني في محل جر بإضافة الظرف إليها. (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) عطف على نهيت وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي بالإسلام ولرب العالمين متعلقان بأسلم. (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) هو مبتدأ والذي خبر وجملة خلقكم صلة ومن تراب متعلقان بخلقكم والكلام مستأنف مسوق لبيان كيفية تكون البدن وما بعده عطف عليه. (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا) عطف أيضا ويخرجكم فعل مضارع وفاعل وطفلا حال من الكاف في يخرجكم. (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً) عطف أيضا واللام للتعليل وتبلغوا منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره ثم يبقيكم وكذلك لتكونوا شيوخا وشيوخا خبر كان وقرىء بضم الشين وكسرها. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) الجملة مستأنفة ومنكم متعلقان بمحذوف خبر ل «من» ومن قبل متعلقان بيتوفى (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الواو عاطفة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 514 ولتبلغوا الجار والمجرور متعلقان بمحذوف أيضا تقديره ونفعل ذلك ونحوه وأجلا مفعول به ومسمى نعت ولعلكم تعقلون عطف على قوله لتبلغوا أشدكم. (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة يحيي ويميت صلة، فإذا الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة قضى في محل جر بإضافة الظرف إليها وأمرا مفعول به، فإنما الفاء رابطة وإنما كافة ومكفوفة ويقول فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره هو وله متعلقان بيقول وكن فعل أمر تام وفاعل مستتر تقديره أنت والفاء استئنافية وجملة يكون خبر لمبتدأ محذوف أي فهو يكون وقرىء فيكون بفتحها على أن الفاء سببية والفاعل ضمير مستتر تقديره هو. الفوائد: كائنا ما كان: اختلف في كان وكائنا في قولك: لأضربنه كائنا ما كان فقال الفارسي: هما تامان في الموضعين وما مصدرية وهي وما بعدها فاعل كائنا أي كونه وقيل هما ناقصان في الموضعين وفي كائنا ضمير هو اسمه وخبره ما وهي موصولة وصلتها كان واسمها وخبرها واسمها ضمير مستتر فيها وخبرها محذوف تقديره إياه واسم كائن المستتر فيه وخبر كان عائدان على الشخص المضروب وتقدير الكلام حينئذ لأضربنه كائنا الذي كان إياه وكائنا حال من مفعول لأضربنه وفيه اطلاق ما على العاقل وهو جائز ويجوز أن تكون ما نكرة موصوفة وقد يقال من كان فيكون الكلام جاريا على وجهه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 515 [سورة غافر (40) : الآيات 69 الى 76] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) اللغة: (السَّلاسِلُ) : جمع سلسلة وهي الدائرة من حديد ونحوه تتصل أجزاؤها أو حلقاتها بعضها ببعض ومنه سلاسل البرق أي ما استطال منه في عرض السحاب وسلاسل الكتاب: سطوره، قال الراغب: وتسلسل الشيء اضطرب كأنه تصور منه تسلسل متردد فتردد لفظه تنبيه على تردد معناه وماء سلسل أي متردد في مقره. (يُسْجَرُونَ) : يوقدون من سجر التنور إذا ملأه بالوقود. الإعراب: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) الهمزة للاستفهام التقريري التعجبي ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 516 مجزوم بإلى والفاعل مستتر تقديره أنت والى الذين متعلقان بتر أي تنظر وجملة يجادلون بآيات الله صلة وأنى اسم استفهام في محل نصب حال ويصرفون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل ومتعلقه محذوف أي يصرفون عن الإيمان بالكلية. (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) الذين بدل من الذين الأولى وكذبوا صلة وبالكتاب متعلقان بكذبوا وبما عطف على بالكتاب وجملة أرسلنا صلة وبه متعلقان بأرسلنا ورسلنا مفعول به والفاء استئنافية وسوف حرف استقبال ويعلمون فعل مضارع مرفوع والجملة مستأنفة مسوقة للتهديد، هذا ويجوز أن تعرب الذين خبرا لمبتدأ محذوف فيكون محلها الرفع أو منصوبا على الذم ويجوز أن يكون مبتدأ خبره فسوف يعلمون والفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط. (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بيعلمون أو هي في محل نصب مفعول به ليعلمون ولا يتنافى كون الظرف ماضيا وسوف يعلمون مستقبلا ففي جعلها مفعولا به تفاد من استحالة عمل المستقبل في الزمن الماضي، ولك أن تقول لا منافاة لأن الأمور المستقبلة لما كانت في أخبار الله تعالى متيقنة مقطوعا بها عبر عنها بلفظ ما كان ووجد والمعنى على الاستقبال. وعبارة السمين «ولا حاجة لإخراج إذ عن موضوعها بل هي باقية على دلالتها على المضي وهي منصوبة بقوله فسوف يعلمون، نصب المفعول به أي فسوف يعلمون يوم القيامة وقت الأغلال في أعناقهم أي وقت سبب الأغلال وهي المعاصي التي كانوا يفعلونها في الدنيا كأنه قيل سيعرفون وقت معاصيهم التي تجعل الأغلال في أعناقهم وهو وجه صحيح غاية ما فيه التصرف في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 517 إذ تجعلها مفعولا به ولا يضرنا ذلك فإن المعربين غالب أوقاتهم يقولون منصوب باذكر مقدرا ولا تكون حينئذ إلا مفعولا به لاستحالة عمل المستقبل في الزمن الماضي وجوزوا أن تكون منصوبة باذكر مقدر أي اذكر لهم وقت الأغلال ليخافوا وينزجروا فهذه ثلاثة أوجه خيرها أوسطها» . وعبارة أبي البقاء: إذ ظرف زمان ماض والمراد بها الاستقبال هنا لقوله تعالى: فسوف يعلمون، والأغلال مبتدأ وفي أعناقهم خبر والسلاسل عطف على الأغلال والظرف في نية التأخير عنهما فهو خبر عنهما معا وجملة يسحبون حال أو مبتدأ وخبره جملة يسحبون والرابط مقدر تقديره بها وقرىء بنصب السلاسل ويسحبون بفتح الياء فهو مفعول مقدم ليسحبون. وعبارة الزمخشري: «وعن ابن عباس والسلاسل يسحبون بالنصب وفتح الياء على عطف الجملة الفعلية على الاسمية وعنه والسلاسل يسحبون بجر السلاسل ووجهه أنه لو قيل إذ أعناقهم في الأغلال مكان قوله إذ الأغلال في أعناقهم لكان صحيحا مستقيما فلما كانتا عبارتين متعقبتين حمل قوله والسلاسل على العبارة الأخرى ونظيره: مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا بين غرابها كأنه قيل بمصلحين وقرىء وبالسلاسل يسحبون» فهو على قراءة الجر من باب عطف التوهم وقد تقدم بحثه. وعندئذ يكون فيه فن القلب وهو كثير شائع في كلامهم وقد تقدم بحثه وفيه عطف التوهم بعد ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 518 (فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) في الحميم متعلقان بيسحبون، ثم حرف عطف للتراخي وفي النار متعلقان بيسجرون والجملة عطف على ما قبلها. (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ) ثم قيل أي ثم يقال أو يقولون وصيغة الماضي لتحقق وقوع القول ولهم متعلقان بقيل وأين اسم استفهام في محل نصب على الظرفية المكانية والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وما اسم موصول مبتدأ مؤخر وجملة كنتم صلة وجملة تشركون خبر كنتم. (مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) من دون الله حال وقالوا فعل وفاعل وجملة ضلوا عنا مقول القول (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ) بل حرف إضراب انتقالي ولم حرف نفي وقلب وجزم ونكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم واسمها مستتر تقديره نحن وجملة ندعو خبرها ومن قبل حال وشيئا مفعول به وكذلك نعت لمصدر محذوف ويضل الله الكافرين فعل مضارع وفاعل ومفعول به. (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) اسم الإشارة مبتدأ والإشارة للإضلال أو العذاب وبما خبر وجملة كنتم صلة وجملة تفرحون خبر كنتم وفي الأرض متعلقان بتفرحون وبغير الحق حال. (وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) عطف على قوله كنتم تفرحون والمرح هو الفرح أو أشده كما في المصباح. (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) ادخلوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة مقول قول محذوف وأبواب جهنم مفعول به على السعة وخالدين حال وفيها متعلقان بخالدين والفاء عاطفة وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم ومثوى المتكبرين فاعل بئس والمخصوص بالذم محذوف أي هي ولم بقل مدخل المتكبرين لإفادة الديمومة والخلود بلفظ الثواء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 519 الفوائد: رسمت «أين» مفصولة من «ما» في المصحف ووصلت في مواضع أخرى، وعبارة ابن الجزري ( «فأينما كالنحل صل» أي صل «أين» مع «ما» في قوله تعالى «أينما تولوا فثم وجه الله» بالبقرة كالنحل أي كما تصله بها في قوله «أينما يوجهه لا يأت بخير» بالنحل «ومختلف في الأحزاب والنساء وصف» أي والاختلاف في «أين ما كنتم تعبدون» في الشعراء و «أينما ثقفوا» في الأحزاب و «أينما تكونوا يدرككم الموت» في النساء وصف أي ذكر أي ذكره أهل الرسم وما عدا الثلاثة نحو «فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا» و «أين ما كنتم تدعون من دون الله» في الأعراف و «أين ما كنتم تشركون» في غافر و «أين ما كانوا» في المجادلة مقطوع) . [سورة غافر (40) : الآيات 77 الى 78] فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) الإعراب: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) الفاء الفصيحة أي إن بدا لك منهم ما بدا من صد وإعراض فلا تبتئس واصبر فإننا سننتقم لك منهم. واصبر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وإن واسمها وخبرها تعليل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 520 للأمر بالصبر. (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) الفاء عاطفة وإن الشرطية مدغمة في ما الزائدة ونرينك فعل الشرط مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم والفاعل مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به وبعض الذي مفعول به ثان وجملة نعدهم صلة الذي، أو نتوفينك عطف على نرينك والفاء رابطة، وإلينا يرجعون: إلينا متعلقان بيرجعون والجملة جواب للشرط الثاني وهو نتوفينك وجواب الشرط الأول والتقدير فإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب وهو القتل والأسر يوم بدر فذاك أو أن نتوفينك قبل يوم بدر فإلينا يرجعون يوم القيامة فننتقم منهم أشد الانتقام. وإنما حذف جواب الأول دون الثاني لأن الأول إن وقع فذاك غاية الأمل في إنكائهم فالثابت على تقدير وقوعه معلوم وهو حصول المراد على التمام وأما إن لم يقع ووقع الثاني وهو توفيه قبل حلول المجازاة بهم فهذا هو الذي يحتاج إلى ذكره للتسلية وتطمين النفس على أنه وإن تأخر جزاؤهم عن الدنيا فهو حتم في الآخرة ولا بد منه. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل ورسلا مفعول به ومن قبلك نعت لرسلك أو متعلقان بأرسلنا ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة قصصنا صلة وعليك متعلقان بقصصنا ومنهم من لم نقصص عليك عطف على الجملة الأولى وهي نعت لرسلا أو مستأنفة. (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) الواو عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولرسول خبر كان المقدم وأن وما في حيزها اسمها المؤخر وبآية متعلقان بيأتي وإلا أداة حصر وبإذن الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 521 استثناء من أعم الأحوال. (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة جاء أمر الله في محل جر باضافة الظرف إليها وجملة قضي بالحق لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ونائب فاعل قضي مستتر تقديره هو أي الأمر وبالحق حال أي ملتبسا بالحق وخسر فعل ماض وهنالك اسم إشارة في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بخسر والمبطلون فاعل خسر. الفوائد: ضمير النكرة نكرة أم معرفة؟ تساءل بعضهم عن الضمير في قوله «منهم من قصصنا» والعائد على قوله «رسلا» أهو نكرة أم معرفة؟ وأجاب بأنه نكرة لأن مدلوله كمدلول المرجوع إليه وهو نكرة فوجب أيضا أن يكون الراجع نكرة إذ التنكير والتعريف باعتبار المعنى والصحيح انه معرفة لأن الهاء في قولك: «جاءني رجل وضربته» ليست شائعة شياع رجل لأنها تدل على الرجل الجائي خاصة لا على رجل والذي يحقق ذلك أنك تقول جاءني رجل ثم تقول: أكرمني الرجل ولا تعني بالرجل سوى الجائي ولا خلاف في أن الرجل معرفة فوجب أن يكون الضمير معرفة أيضا لأنه بمعناه. [سورة غافر (40) : الآيات 79 الى 85] اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 522 الإعراب: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ) كلام مستأنف مسوق لتعديد بعض آلائه سبحانه، والله مبتدأ والذي خبره وجملة جعل صلة ولكم متعلقان بجعل لأنها بمعنى خلق والأنعام مفعول به، وقد تقدم تفسيرها في سورة الأنعام ولا معنى لتخصيص الإبل وحدها، ولتركبوا اللام للتعليل وتركبوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بجعل لأنها علة الخلق ومنها متعلقان بتركبوا أي من بعضها فمن للتبعيض ولا معنى لجعلها ابتدائية ومنها تأكلون عطف على ما تقدم (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) الجملة معطوفة. (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) وعليها متعلقان بتحملون وعلى الفلك عطف على وعليها. َ يُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ) ويريكم آياته عطف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 523 على جعل لكم الأنعام وآياته مفعول به ثان، فأي: الفاء عاطفة وأي مفعول مقدم لتنكرون وقدم وجوبا لأن لأسماء الاستفهام الصدارة وتنكرون فعل مضارع مرفوع والاستفهام للتوبيخ قال الزمخشري: «وقد جاءت على اللغة المستفيضة وقولك فأية آيات الله قليل لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب وهي في أي أغرب» قلت وقد ورد تأنيثها كثيرا ومنه قول الكميت: بأي كتاب أم بأية سنة ... ترى حبهم عارا علي وتحسب (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كلام مستأنف مسوق للشروع في توبيخهم والهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي والفاء عاطفة على مقدر أي أعجزوا فلم يسيروا في الأرض أي في نواحيها وأطرافها والفاء فاء السببية وينظروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية والواو فاعل وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وعاقبة اسمها المؤخر ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صلة الموصول. (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لبيان مبدأ أحوالهم وعواقبها وكان واسمها وأكثر خبرها ومنهم متعلقان بأكثر وقوة تمييز وآثارا عطف على قوة وفي الأرض نعت لآثارا. (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) الفاء عاطفة وما نافية أو استفهامية في محل نصب مفعول أغنى المقدم وأغنى فعل ماض وعنهم متعلقان بأغنى وما الثانية موصولة أو مصدرية ومحلها الرفع على الفاعلية أي لم يغن عنهم أو أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 524 (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) الفاء هذه هي الفاء الثانية من أربع فاءات متعاقبة فالأولى للعطف كما قلنا بيّنت عاقبة كثرتهم وشدة قوتهم. والثانية عاطفة أيضا تشير الى تفصيل ما أبهم من عدم الإغناء ولما ظرف بمعنى حين أو رابطة وجاءتهم رسلهم فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل وبالبينات متعلقان بجاءتهم وجملة فرحوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعندهم ظرف متعلق بمحذوف صلة ما ومن العلم حال (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وحاق عطف على فرحوا وبهم متعلقان بحاق وما موصولة فاعل وجملة كانوا صلة وكان واسمها وبه متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون خبر كانوا وسيأتي معنى هذا الكلام في باب البلاغة. (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) وهذه هي الفاء الثالثة وهي لمجرد العطف والتعقيب أي التي تجعل ما بعدها تابعا لما قبلها واقعا عقبه ولما حينية ورأوا فعل ماض وفاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها وبأسنا مفعول به وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة آمنا مقول القول وبالله متعلقان بآمنا ووحده حال. (وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) وكفرنا عطف على آمنا وبما متعلقان بكفرنا وجملة كنا صلة ما وكان واسمها وبه متعلقان بمشركين ومشركين خبر كنا. (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) وهي الفاء الرابعة وهي للعطف وجملة يك معطوفة على آمنّا كأنه قيل فآمنوا فلم ينفعهم إيمانهم وقد أفادت العطف مع التفسير، ويك فعل مضارع ناقص مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون المقدر على النون المحذوفة للتخفيف واسمها مستتر تقديره هو أي الشأن وجملة ينفعهم خبرها وايمانهم فاعل ينفعهم ويجوز رفع إيمانهم اسما لكان وجملة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 525 ينفعهم خبرها المقدم وليست المسألة من باب التنازع ولما حينية وجملة رأوا بأسنا في محل جر بإضافة الظرف إليها. (سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) سنة الله مصدر مؤكد لفعل مقدر من لفظه أي سن تعالى بهم سنة من قبلهم ويجوز أن يكون منصوبا على التحذير أي احذروا سنة الله في المكذبين والتي صفة لسنة وجملة قد خلت صلة وفي عباده متعلقان بخلت أي مضت في عباده والواو استئنافية وخسر فعل ماض وهنالك اسم إشارة في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بخسر والكافرون فاعل خسر وقد استعير ظرف المكان للزمان أي وخسروا وقت رؤية اليأس ويجوز ابقاؤه على أصله. البلاغة: فن التهكم: في قوله «فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم» الآية فن التهكم وهو في الأصل تهدم البناء، يقال تهكمت البئر إذا انهدمت والغضب الشديد والتندم على الأمر الفائت وهو في اصطلاح البيانيين الاستهزاء والسخرية من المتكبرين لمخاطبتهم بلفظ الإجلال في موضع التحقير، والبشارة في موضع التحذير، والوعد في موضع الوعيد، والعلم في موضع الجهل، تهاونا من القائل بالمقول له واستهزاء به، وقد تقدمت الاشارة الى هذا الفن كثيرا في كتابنا، قال الزمخشري: «أراد العلم الوارد على طريق التهكم في قوله تعالى: بل ادّارك علمهم في الآخرة، وعلمهم في الآخرة أنهم كانوا يقولون لا نبعث ولا نعذب وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت الى ربي إن لي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 526 عنده للحسنى، وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت الى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا، وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به البينات وعلم الأنبياء كما قال عز وجل: كل حزب بما لديهم فرحون» وما أجمل قول الحماسي: أتاني من أبي أنس وعيد ... فثل تغيظ الضحاك جسمي ثل أهلك، والتغيظ: الغيظ، وكني عن أبي أنس بالضحاك الذي كان ملكا قصدا للاستهزاء. الفوائد: حذف نون مضارع كان المجزوم: تقدم القول في حذف نون مضارع كان المجزوم بشرط كونه مجزوما بالسكون غير متصل بضمير نصب ولا بساكن، وقد وقع ذلك في التنزيل في ثمانية عشر موضعا، وقد سمع في الشعر حذفها إذ وليها ساكن، قال الخنجر بن صخر الأسدي: فإن لم تك المرآة أبدت وسامة ... فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم فحذف النون مع ملاقاة الساكن، والمرآة بكسر الميم ومدّ الهمزة آلة الرؤية فكأنه نظر وجهه فيها فلم يره حسنا فتسلى بأنه يشبه الضيغم وهو الأسد، والوسامة بفتح الواو: الحسن والجمال وحمله جمهور النحاة على الضرورة واستشهد بقول النجاشي: فلست يأتيه ولا أستطيعه ... ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 527 فحذف نون لكن ضرورة واستدل الفراء بهذا البيت على أن لكن المشددة مركبة وأصلها لكن ان فطرحت الهمزة للتخفيف ونون لكن للساكنين ومن طريف ما يروى عن هذا البيت أن النجاشي الشاعر عرض له ذئب في سفره فحكى أنه دعا الذئب الى الطعام وقال له: هل لك من أخ يعني نفسه يواسيك بطعامه بغير من ولا بخل فقال له الذئب دعوتني الى شيء لم تفعله السباع قبلي من مؤاكلة بني آدم ولست بآتيه ولا أستطيعه ولكن إن كان في مائك الذي معك فضل عما تحتاج اليه فاسقني منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 528 (41) سورة فصلت مكية وآياتها اربع وخمسون [سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) الإعراب: (حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) حم خبر لمبتدأ محذوف وتنزيل خبر لمبتدأ محذوف أيضا أي هو تنزيل ومن الرحمن الرحيم متعلقان بتنزيل وأجاز الزجاج أن يكون تنزيل مبتدأ وقوله كتاب الآتي خبره وساغ الابتداء بتنزيل لأنه تخصص بالصفة وعليه درج الجزء: 8 ¦ الصفحة: 529 الجلال وشراحه وما ذكرناه أولا أولى (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) كتاب بدل من تنزيل أو خبر بعد خبر وجملة فصلت آياته صفة للكتاب أي ميزت وجعلت تفاصيل في شتى المعاني وآياته نائب فاعل وقرآنا حال من كتاب وعربيا نعت وأجاز الزمخشري إعراب قرآنا بالنصب على الاختصاص ولقوم متعلقان بفصلت وجملة يعلمون نعت لقوم وأعرب الزمخشري لقوم بقوله: «والأجود أن يكون صفة مثل ما قبله» . (بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) يجوز أن يكونا نعتين لقرآنا وأن يكونا حالين إما من كتاب وإما من آياته وإما من الضمير المنوي في قرآنا، فأعرض الفاء عاطفة على فصلت وأكثرهم فاعل، فهم الفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة لا يسمعون خبرهم. (وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) الواو عاطفة أو استئنافية وقالوا فعل ماض وفاعل وقلوبنا مبتدأ وفي أكنة خبر أي أغطية ومما متعلقان بمحذوف أي تمنعنا مما تدعونا وقال أبو البقاء: «هو محمول على المعنى إذ معنى في أكنة أنها محجوبة عن سماع ما تدعونا إليه ولا يجوز أن يكون نعتا لأكنة لأن الأكنة الأغشية وليست الأغشية مما يدعو إليه» وهذا كلام شامل لا يعين الاعراب ولهذا جنحنا إلى تقدير تمنعنا وقريب من الوجه الذي اخترناه قول زاده في حاشيته على البيضاوي: «في الكلام حذف تقديره في أكنة تمنعنا من فهم ما تدعونا إليه فحذف المضاف» فما يتعلق به مما هو النعت لأكنة. ولواو حرف عطف وفي آذاننا خبر مقدم ووقر مبتدأ مؤخر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 530 (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) الواو حرف عطف ومن بيننا خبر مقدم وبينك معطوف على بيننا وحجاب مبتدأ مؤخر، فاعمل الفاء الفصيحة أي إن عرفت ما قلناه لك ووعيته فاعمل، وإننا إن واسمها وعاملون خبرها أي فاستمر على دعوتك فإننا مستمرون على ديننا وهو الإشراك وسيأتي مزيد بسط لهذا الكلام في باب البلاغة. (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) إنما كافة ومكفوفة وأنا مبتدأ وبشر خبر ومثلكم نعت وجملة يوحى نعت ثان لبشر، وإلي متعلقان بيوحى ونائب الفاعل أن وما بعدها وأنما كافة ومكفوفة وهي مع مدخولها نائب فاعل يوحى وإلهكم مبتدأ وإله خبر وواحد نعت. (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) الفاء الفصيحة واستقيموا فعل أمر وفاعل وهو متضمن معنى توجهوا ولذلك عدي بإلى واستغفروه عطف على فاستقيموا وويل الواو عاطفة وويل مبتدأ ساغ الابتداء به لما فيه من معنى الدعاء وللمشركين خبر والذين نعت وجملة لا يؤتون الزكاة صلة ولا يتنافى عطف الاسمية على الفعلية لأن الأول متجدد وهو عدم إيتاء الزكاة والثاني مستمر وهو الكفر (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) الواو عاطفة وهم مبتدأ وبالآخرة متعلقان بهم وهم الثانية تأكيد للأولى وكافرون خبرهم. البلاغة: اشتملت الآية «وقالوا قلوبنا في أكنة» الى قوله «عاملون» على نكت بلاغية تستحق أن تكتب بذوب التبر ففيها ثلاث استعارات تمثيلية لنبو قلوبهم عن إدراك ما يدعوهم اليه واعتقاده ومج أسماعهم له وامتناع مواصلتهم وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسول. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 531 1- فأولها الحجاب الحائل الخارج فقد شبهوا قلوبهم بالشيء المحوى المحاط بالغطاء المحيط له. 2- وثانيها حجاب الصمم فقد شبهوا أسماعهم بآذان بها صمم من حيث أنها تمج الحق ولا تميل الى استماعه. 3- وثالثها وأقصاها الحجاب الذي أكن القلب والعياذ بالله فقد شبهوا حال أنفسهم مع الرسول بحال شيئين بينهما حجاب عظيم يمنع من وصول أحدهما الى الآخر فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها فلم تدع هذه الآية حجابا مرتخيا إلا سدلته ولم تبق لهؤلاء الأشقياء مطمعا ولا صريخا إلا استلبته. هذا ولا بد من الاشارة الى ما تضمنته من إشارات فهي تفيد الابتداء والمعنى أن حجابا ابتدأ منّا وابتدأ منك. أما بين فقد تكررت ومعناها واحد وقد وهم الزمخشري فجعل بين الثانية غير الأولى لأنه جعل الأولى بجهتهم والثانية بجهته وليس الأمر كما ظنه بل بين الأولى هي الثانية بعينها وهي عبارة عن الجهة المتوسطة بين المضافين وتكرارها إنما كان لأن المعطوف مضمر محفوظ فوجب تكرار حافظه وهو بين والدليل على هذا أنه لا تفاوت بين أن تقول جلست بين زيد وعمرو وبين أن تقول جلست بين زيد وبين عمرو وإنما كان ذكرها مع الظاهر جوازا ومع المضمر وجوبا لما بيناه فإذا وضح ذلك فموقع من هاهنا كموقعها في قوله تعالى: «وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا» وذلك للإشعار بأن الجهة المتوسطة مثلا بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ الحجاب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 532 الفوائد: منع الزكاة وسرها: تساءل المفسرون جميعا: لم خص تعالى من أوصاف المشركين منع الزكاة مقرونا بالكفر بالآخرة، وأجابوا بأسئلة متشابهة فحواها أن أحب شيء إلى الإنسان ماله وهو شقيق روحه فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على ثباته واستقامته وصدق نيته ونصوع طويته، ونص عبارة الزمخشري في هذا الصدد: «ألا ترى الى قوله عز وجل: «مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم» أي يثبتون أنفسهم ويدلون على ثباتها بإنفاق الأموال» هذا ولو استعرضنا معنى اسم الزكاة لوجدناه يرمز الى أسمى الخصائص وأعلاها فهي تطهر المال من الخبث وتنقيه من الآفات وتبعد النفس عن رذيلة البخل، وتنميها على فضيلة الكرم وتستجلب بها البركة، وتزيد المتصدق ثناء ومدحا ويكفر جاحدها ويقاتل الممتنعون من أدائها وتؤخذ منهم وإن لم يقاتلوا قهرا، وعن أنس بن مالك قال: «أتى رجل من تميم الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني ذو مال كثير وذو أهل ومال وحاضرة فأخبرني كيف أصنع وكيف أنفق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تخرج الزكاة من مالك فإنها طهرة تطهرك وتصل أقرباءك وتصرف حق المسكين والجار والسائل» . [سورة فصلت (41) : الآيات 8 الى 12] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 533 الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) كلام مستأنف مسوق لذكر ما أعد للصالحين بعد ما ذكر ما أعد للجاهلين، وإن واسمها وجملة آمنوا صلة وعملوا عطف على آمنوا والصالحات مفعول به منصوب بالكسرة ولهم خبر مقدم وأجر مبتدأ مؤخر وغير ممنون نعت والجملة الاسمية خبر إن ومعنى غير ممنون: غير مقطوع وقيل غير ممنون به عليهم. (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) الهمزة للاستفهام الإنكاري وإن واسمها واللام المزحلقة وجملة تكفرون خبر إن وبالذي متعلقان وبتكفرون وجملة خلق الأرض صلة وفي يومين متعلقان بخلق والمراد مقدار يومين أو في نوبتين كل نوبة أسرع مما يكون في يوم. (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) الواو عاطفة وتجعلون عطف على تكفرون وله في محل نصب مفعول تجعلون الثاني وأندادا مفعوله الأول وذلك مبتدأ والإشارة الى الذي باعتبار اتصافه بما دلت عليه الصلة ورب العالمين خبره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 534 (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها) الواو عاطفة على الأصح فقد منع أبو البقاء وغيره العطف قال: «وجعل فيها هو مستأنف غير معطوف على خلق لأنه لو كان معطوفا عليه لكان داخلا في الصلة ولا يجوز ذلك لأنه فصل بينهما بقوله تعالى: وتجعلون الى آخر الآية وليس من الصلة في شيء» ويمكن أن يرد على ذلك بأن قوله وتجعلون وإن كان معطوفا على تكفرون فهو بمثابة الاعتراض بين المتعاطفين والاعتراض كثيرا ما يأتي بينهما فالحق الذي لا مرية فيه أنه معطوف على خلق الأرض فهو من جملة الصلة وفيها في محل المفعول الثاني ورواسي مفعول جعل الأول، ولك أن تعلق الجار والمجرور بجعل على أنه بمعنى خلق فهو ينصب مفعولا واحدا ومن فوقها نعت لرواسي وما أجمل وقع هذا النعت لئلا يتوهم أنها من تحتها فتكون ممسكة لها ومانعة من الميدان ثم لتكون الجبال معروضة للناظرين بحيث تحتاج هي والأرض الى ممسك لها وبارك فيها عطف على جعل فيها. (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) وقدر فيها عطف على ما تقدم أي أرزاق أهلها ومعايشهم وفي أربعة أيام متعلقان بقدر أي في تمام ومقدار أربعة أيام وسواء نصب على المصدر أي استوت الأيام الأربعة استواء لا تزيد ولا تنقص وقرىء بالجر على الوصف وبالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف وللسائلين متعلقان بسواء بمعنى مستويات للسائلين أو بمحذوف كأنه قيل: هذا الحصر لأجل من سأل في كم يوم خلقت الأرض وما فيها أو متعلقان بمقدر أي قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين والمحتاجين إليها من المقتاتين. وأجاز أبو البقاء إعراب سواء حلا بعد أن ذكر الأوجه المتقدمة وهو جائز على أنه حال من الضمير في أقواتها أو فيها أو من الأرض. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 535 (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) ثم حرف عطف للترتيب الإخباري لا الزماني واستوى فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وإلى السماء متعلقان باستوى من قولك استوى الى مكان كذا إذا قصده وتوجه إليه توجها مستقيما لا يلوي غلى شيء والواو للحال وهي مبتدأ ودخان خبر وسيأتي معنى هذا التشبيه في باب البلاغة. (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) الفاء عاطفة وقال فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله تعالى ولها متعلقان بقال وللأرض عطف على لها وائتيا فعل أمر مبني على حذف النون وألف الاثنين فاعل وطوعا وكرها مصدران في موضع الحال أي طائعتين أو كارهتين وسيأتي مزيد بحث عن هذه الآية في باب البلاغة. (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) الفاء عاطفة وقضاهن فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وسبع سموات مفعول ثان لقضاهن لأنه ضمن معنى صير ويجوز أن يكون منصوبا على الحال من مفعول قضاهن فتكون قضى بمعنى صنع أي معدودة ويجوز أن يكون منصوبا على البدلية من الضمير ويجوز أن يكون تمييزا وإليه جنح الزمخشري قال «ويجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسرا لسبع سنوات على التمييز» ويعني الزمخشري بقوله مبهما أنه لا يعود على السماء لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى بخلاف كونه حالا أو مفعولا ثانيا، وأوحى عطف على فقضاهن وفي كل سماء متعلقان بأوحى وأمرها مفعول به. (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) وزينا عطف على ما تقدم على طريق الالتفات كما سيأتي في باب البلاغة وزينا فعل وفاعل والسماء مفعول به والدنيا نعت وبمصابيح متعلقان بزينا أي بنجوم وحفظا مفعول مطلق لفعل محذوف أي وحفظناها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 536 حفظا من استراق الشياطين السمع للشهب وأجاز الزمخشري أن يكون مفعولا لأجله على المعنى كأنه قال وخلقنا المصابيح زينة وحفظا وذلك مبتدأ والاشارة الى ما ذكر كله بتفاصيله وتقدير العزيز العليم مضاف إليه. البلاغة: 1- التشبيه البليغ الصوري: في قوله «ثم استوى الى السماء وهي دخان» تشبيه بليغ صوري لأن صورتها صورة الدخان في رأي العين والمراد بالدخان البخار الذي تتشكل منه الطبقات الهوائية فلا منافاة مع أحدث نظريات العلم. 2- الاستعارة المكنية: وفي قوله استوى الى السماء استعارة مكنية فالمستعار الاستواء والمستعار منه كل جسم مستو والمستعار له هو الحق عز وجل وقد تقدم تفصيل هذه الاستعارة كثيرا فتدبره. 3- وفي قوله «فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين» فنون شتى نجملها بما يلي: أ- إسناد القول للأرض والسماء وتوجيه الخطاب لهما من باب المجاز العقلي والقصد من هذا المجاز تصوير قدرته سبحانه واستحالة امتناعهما من ذلك لا إثبات للطوع والكره لهما، ويجوز أن يكون هذا من باب الاستعارة المكنية فقد شبههما بكائنين حين عاقلين ثم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 537 حذف المشبه به وأثبت شيئا من لوازمه لتمثيلهما بأمر المطاع وإجابة الطائع كما تقول نطقت الحال بكذا بدل دلت فيجعل الحال كالانسان الذي يتكلم في الدلالة والبرهان ثم يتخيل له النطق الذي هو من لازم المشبه به وينسب اليه. ب- الطباق بين طوعا وكرها. ج- تغليب المذكر العاقل على المؤنث أو التنزيل منزلته في قوله «قالتا أتينا طائعين» . 4- الالتفات: وفي قوله «وزينا السماء الدنيا بمصابيح الآية» التفات من الغيبة الى التكلم فقد أسند التزيين الى ذاته سبحانه لإبراز مزيد العناية بالتزيين المذكور. [سورة فصلت (41) : الآيات 13 الى 16] فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 538 اللغة: (صَرْصَراً) : قال الزمخشري: «الصرصر: العاصفة التي تصرصر أي تصوت في هبوبها وقيل: الباردة التي تحرق بشدة بردها، تكرير لبناء الصر وهو البرد الذي يصر أي يجمع ويقبض» وفي القاموس «الصرة بالكسر شدة البرد أو البرد كالصرّ فيهما وأشد الصياح وبالفتح الشدة من الكرب والحرب والحر ... وصرّ يصرّ من باب ضرب صرّا وصريرا صوّت وصاح شديدا» وقال ابن قتيبة صرصر يجوز أن يكون من الصرّ وهو البرد ويجوز أن يكون من صر الباب وأن يكون من الصرة وهي الصيحة ومنه فأقبلت امرأته في صره» وقال الراغب: «صرصر لفظه من الصر وذلك يرجع الى الشد لما في البرودة من التعقّد» . وللصاد مع الراء فاء وعينا للكلمة معنى الشدة والظهور النصوع، فصرب: جاء بضربة تزري الوجه وتقول: جزى الله بضربة، من جاءنا بصربة، وصرح بما في نفسه وبنى صرحا وصروحا وقعد في صرحة داره أي في ساحتها وصرحت الخمرة: ذهب عنها الزبد، والصراخ: صوت المستغيث وصوت المغيث إذا خرج بقومه للإغاثة قال سلامة: إنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له قرع الظنابيب أي كان الغياث له، وهذا يوم صرد وصرد ويوم صرد وقد صرد يومنا وليلة صردة ورجل صرد وريح مصراد باردة شديدة البرد، وصرعته تركته صريعا وتركتهم صرعى وصرعهم ريب المنون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 539 وليس أشد من ذلك وبات صريع الكأس، قال مسلم بن الوليد صريع الغواني: هل العيش إلا أن أروح مع الصبا ... وأغدو صريع الراح والأعين النجل وحفظك الله من صرف الزمان وصروفه وتصاريفه، وزرع صريم ومصروم مجزوز وصرم النخل واصطرمه، وماء صريّ مجموع. ولا يجتمع إلا ليظهر، قال ذو الرمة: صرى آجن يزوي له المرء وجهه ... ولو ذاقه ظمآن في شهر ناجر وهذا من الغريب الذي يبز اللغات. (نَحِساتٍ:) بكسر الحاء وسكونها وهما قراءتان سبعيتان أي مشئومات عليهم فأما الكسر فهو صفة على فعل وفعله فعل بكسر العين أيضا يقال نحس فهو نحس كفرح فهو فرح وأشر فهو أشر وأما السكون فهو مصدر وصف به كرجل عدل ولكن يشكل على هذه القراءة جمعه فإن الفصيح في المصدر الموصوف به أن يوحد وكأن المسوغ له اختلاف أنواعه في الأصل. الإعراب: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) كلام مستأنف على طريق الالتفات، مسوق لتحذيرهم بعد إعراضهم، وللالتفات سر بليغ نورده في باب البلاغة، وإن شرطية وأعرضوا فعل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 540 ماض والواو فاعل والفعل في محل جزم فعل الشرط، فقل الفاء رابطة وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وأنذرتكم فعل ماض وفاعل ومفعول به، وعبّر بالماضي وسياق الكلام يقتضي الاستقبال للدلالة على تحقق الإنذار، وصاعقة مفعول به ثان ومثل نعت لصاعقة. (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) الظرف متعلق بصاعقة لأنها بمعنى العذاب وجملة جاءتهم الرسل في محل جر بإضافة الظرف إليها ومن بين أيديهم متعلقان بجاءتهم ومن خلفهم عطف عليه أي من جميع جوانبهم أو من جهة الزمان الماضي بالإنذار ومن جهة المستقبل بالتحذير وأعربه بعضهم متعلقا بمحذوف حال من الرسل أي حال كون الرسل من بين أيدي عاد وثمود ومن خلفهم ورجح الزمخشري الأول في تفسيره لمعناه قال: «أي أتوهم من كل جانب واجتهدوا بهم وأعملوا فيهم كل حيلة وتقول استدرت بفلان من كل جانب فلم يكن لي فيه حيلة» . (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) يجوز في أن هذه ثلاثة أوجه: أحدها أن تكون مخففة من الثقيلة أصله أنه لا تعبدوا أي بأن الشأن والحديث قولنا لكم لا تعبدوا وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره قائلين وهو حال من الرسل ولا ناهية وتعبدوا فعل مضارع مجزوم بلا وإلا أداة حصر ولفظ الجلالة مفعول به، والوجه الثاني أن تكون مصدرية تنصب الفعل المضارع ولا نافية وتعبدوا فعل مضارع منصوب بأن بعد لا النافية فإن لا النافية لا تمنع عمل العامل فيما بعدها، والوجه الثالث أن تكون مفسرة لأن مجيء الرسل يحمل القول وتكون الجملة لا محل لها لأنها مفسرة. (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) قالوا فعل ماض وفاعل ولو حرف شرط غير جازم وشاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 541 ربنا فعل وفاعل والمفعول به محذوف تقديره إرسال الرسل والأحسن أن يقدر من جنس جوابها أي لو شاء ربنا إنزال ملائكة بالرسالة إلى الإنس لأنزل إليهم بها ملائكة والفاء الفصيحة وان واسمها وبما متعلقان بكافرون وجملة أرسلتم به صلة وكافرون خبر إن والمعنى فإذ أنتم بشر ولستم ملائكة فإننا لا نؤمن بكم. (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) الفاء استئنافية والكلام مستأنف مسوق للشروع في حكاية ما يختص به كل واحد منهما وأما حرف شرط وتفصيل وعاد مبتدأ والفاء رابطة لجواب أما وجملة استكبروا خبر عاد وفي الأرض متعلقان باستكبروا وبغير الحق حال. (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) وقالوا عطف على فاستكبروا ومن اسم استفهام مبتدأ وأشد خبر والجملة مقول القول ومنا متعلقان بأشد وقوة تمييز. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو حرف عطف وجملة لم يروا معطوفة على مقدر يقتضيه السياق أي اغفلوا وضلوا ولم يروا وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يروا لأنها بمعنى العلم وأن واسمها والذي نعت وجملة خلقهم صلة وهو مبتدأ وأشد خبر ومنهم متعلقان بأشد وقوة تمييز والجملة خبر أن. (وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) عطف على قوله فاستكبروا أيضا والجملة المعطوفة والمعطوف عليه المقدر اعتراض وبآياتنا متعلقان بيجحدون لأنه متضمن معنى يكفرون. (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) الفاء عاطفة وأرسلنا فعل وفاعل وعليهم متعلقان بأرسلنا وريحا مفعول به وصرصرا نعت وفي أيام نعت ثان أو حال ونحسات نعت لأيام، ولنذيقهم اللام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 542 للتعليل ونذيقهم فعل مضارع منصوب بأن بعد لام التعليل والهاء مفعول به والجار والمجرور متعلقان بأرسلنا وعذاب الخزي مفعول به ثان لنذيقهم وهو من إضافة الموصوف الى صفته وسيأتي تفصيله في باب البلاغة وفي الحياة متعلقان بنذيقهم والدنيا نعت للحياة. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) الواو استئنافية واللام للابتداء وعذاب الآخرة مبتدأ وأخزى خبر والواو عاطفة وهم مبتدأ وجملة لا ينصرون خبر وينصرون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. البلاغة: اشتملت هذه الآيات على أفانين متعددة من البلاغة نوردها فيما يلي: 1- الالتفات في قوله: «فإن أعرضوا» الآية فقد خاطبهم أولا بقوله: «أئنكم» بيد أنهم لم يأبهوا لخطابه ولم يستوعبوا نصحه فالتفت من الخطاب إلى الغيبة لأنهم فعلوا الإعراض فليس له إلا أن يعرض عن خطابهم ليصح التلاؤم، ويناسب اللفظ المعنى، وهذا من أرفع أنواع البلاغة وأرقاها وكم للالتفات من أسرار. 2- العدول عن المضارع المستقبل إلى الماضي بقوله «فقد أنذرتكم» للدلالة على أن ما ينذرهم به أمر متحقق لا مندوحة عنه. 3- الاسناد المجازي في قوله «عذاب الخزي» فإنه أضاف العذاب إلى الخزي الذي هو الذل، والخزي الذي هو الذل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 543 والاستكانة في الأصل صفة المعذب ولكنه جنح الى وصف العذاب به للمبالغة فهو كما قلنا في الاعراب من اضافة الموصوف الى صفته. 4- المشاركة في قوله «ولعذاب الآخرة أخزى» وجعل الخزي هذه المرة خبرا للمشاكلة على حد قول الشاعر: «قلت اطبخوا لي جبة وقميصا» وقد تقدم بحث هذا الفن. 5- في قوله «فاستحبوا العمى على الهدى» استعارة تصريحية فقد شبه الكفر بالعمى لأن الكافر ضال عن القصد، متعسف الطريق كالأعمى، وشبه الإيمان بالهدى لأن المؤمن مهتد الى محجة القصد وسواء السبيل ثم حذف المشبه في كليهما وأثبت المشبه به. 6- الطباق بين العمى الهدى وقد تقدم. [سورة فصلت (41) : الآيات 17 الى 25] وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 544 اللغة: (يُوزَعُونَ) : يحبس أولهم على آخرهم أي يستوقف سوابقهم حتى يلحق بهم تواليهم وتشير الى معنى الكثرة وفي معاجم اللغة: «وزع يزع من باب فتح ووزع يزع من باب ضرب فلان وبفلان: كفه ومنعه ووزع الجيش حبس أولهم على آخرهم يقال رأيته يزع الجيش أي يرتبهم ويسويهم ويصفهم للحرب» وقد تقدم ذكر هذه المادة. (يَسْتَعْتِبُوا) : يطلبوا العتبي أي الرضا والرجوع لهم إلى ما يحبون جزعا مما هم فيه. (قَيَّضْنا) : هيأنا، وأصل التقييض التيسير والتهيئة، والمقايضة المعاوضة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 545 الإعراب: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) عطف على قوله فأما عاد وأما حرف شرط وتفصيل وثمود مبتدأ وجملة فهديناهم الخبر والفاء عاطفة واستحبوا عطف على هديناهم والعمى مفعول به وعلى الهدى متعلقان باستحبوا لأنه متضمن معنى آثروا (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) الفاء عاطفة وأخذتهم فعل ماض ومفعول به مقدم وصاعقة العذاب فاعل مؤخر والهون نعت للعذاب أو بدل منه وبما متعلقان بأخذتهم والباء معناها السببية وما موصولة وجملة كانوا صلة وكان واسمها وجملة يكسبون خبرها والعائد محذوف أي بالذي كانوا يكسبونه من شركهم وتكذيبهم نبيهم صالحا. (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) الواو حرف عطف ونجينا فعل وفاعل والذين مفعول به وجملة آمنوا صلة وكانوا عطف على آمنوا وكان واسمها وجملة يتقون خبرها. (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) الواو استئنافية ويوم مفعول لفعل محذوف تقديره اذكر يوم وجعله أبو البقاء ظرفا لما دل عليه بعده وهو قوله تعالى «فهم يوزعون» كأنه قال يمنعون يوم نحشر، وليس ببعيد، وجملة يحشر في محل جر بالإضافة وأعداء الله نائب فاعل والى النار متعلقان بيحشر والفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة يوزعون خبر. (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) حتى حرف غاية وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط متعلق بجوابه وهو شهد وما زائدة لتأكيد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 546 الشهادة وما المزيدة تؤكد معنى ما اتصلت به في النسبة التي تعلقت به وهنا أكدت ظرفية الوقت المحدد للشهادة وجملة جاءوها في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة شهد لا محل لها وعليهم متعلقان بشهد وسمعهم فاعل وأبصارهم وجلودهم معطوفان على سمعهم وبما متعلقان بشهد أيضا وجملة كانوا صلة ما وجملة يعملون خبر كان. (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل ولجلودهم متعلقان بقالوا واللام حرف جر وما اسم استفهام مجرور بما ولذلك حذفت ألفها والجار والمجرور متعلقان بشهدتم وعلينا متعلقان بشهدتم والجملة مقول القول والاستفهام هنا للتوبيخ والتعجب من هذا الأمر (قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) قالوا فعل وفاعل وأنطقنا الله فعل ماض ومفعول به وفاعل والجملة مقول القول والذي صفة لله وجملة أنطق كل شيء صلة الذي. (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) الواو عاطفة وهو مبتدأ وجملة خلقكم خبر وأول مرة ظرف متعلق بخلقكم وإليه متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) عطف على ما تقدم وما نافية وكنتم كان واسمها وجملة تستترون خبرها وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بتستترون أي من أن يشهد عليكم لأن تستترون لا يتعدى بنفسه وقيل هو مفعول لأجله أي لأجل أن يشهد عليكم سمعكم وعليكم متعلقان بيشهد وسمعكم فاعل ولا أبصاركم ولا جلودكم عطف على سمعكم أي ما كان استتاركم خيفة أن تشهد عليكم جوارحكم لأنكم لم تكونوا تتصورون شهادتها بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء أصلا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 547 (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة ولكن حرف استدراك مهمل وظننتم فعل وفاعل وان وما في حيزها سدت مسد مفعولي ظننتم وان واسمها وجملة لا يعلم خبرها وكثيرا مفعول به ومما نعت لكثير وجملة تعملون صلة والعائد محذوف أي تعملونه. (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) الواو عاطفة وذلكم مبتدأ وظنكم خبر والذي ظننتم نعت أو بدل وبربكم متعلقان بظننتم وجملة أرداكم خبر ثان ويجوز إعراب ظنكم بدلا من ذلكم أو ظنكم خبر وجملة أرداكم حال فأصبحتم عطف على أرداكم وأصبح واسمها ومن الخاسرين خبرها. (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) الفاء استئنافية وإن شرطية ويصبروا فعل الشرط والفاء رابطة والنار مبتدأ ومثوى خبر ولهم نعت لمثوى. (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) عطف على الجملة السابقة وما نافية حجازية وهم اسمها ومن المعتبين خبرها. (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) فعل وفاعل ولهم متعلقان بقيضنا وقرناء مفعول به أي يلازمونهم ويستولون عليهم استيلاء القيض على البيض، والقيض قشر البيض الأعلى اليابس على البيضة أو هي التي خرج ما فيها من فرخ أو ماء وموضعهما المقيض، فزينوا فعل وفاعل ولهم متعلقان بزينوا وما مفعول به والظرف متعلق بمحذوف صلة ما وأيديهم مضاف إليه وما خلفهم عطف على ما بين أيديهم. (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) الواو عاطفة وحق فعل ماض وعليهم متعلقان بحق والقول فاعل وفي أمم متعلقان بمحذوف حال أي كائنين في جملة أمم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 548 أو مندرجين وهو حال من الضمير في عليهم ومثل هذا التعبير قول عروة بن أذينة: إن تك عن أحسن الضيعة مأ ... فوكا ففي آخرين قد أفكوا يقول: إن تكن مأفوكا أي مصروفا ومنقلبا عن أحسن العطاء فلا عجب فأنت في جملة أناس آخرين قد أفكوا وصرفوا عن الإحسان. وجملة قد خلت صفة لأمم ومن قبلهم متعلقان بخلت ومن الجن والانس نعت ثان لأمم أو حال لأنها وصفت وان واسمها وجملة كانوا خبرها وكان واسمها وخاسرين خبر كان وجملة إن وما بعدها تعليلية لاستحقاقهم العذاب. البلاغة: الكناية: في قوله (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) كناية عن موصوب فقد كنى عن الفروج بالجلود وقيل أراد بالجلود الجوارح عامة والعطف من عطف العام على الخاص فليس في الكلام كناية إذن، فالجلود هنا تفسّر حقيقة ومجازا، أما الحقيقة فيراد بها الجلود مطلقا، وأما المجاز فيراد بها الفروج خاصة وهذا هو الجانب البلاغي الذي يرجح جانب المجاز على الحقيقة لما فيه من لطف الكناية عن المكنى عنه. [سورة فصلت (41) : الآيات 26 الى 29] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 549 اللغة: (الْغَوْا فِيهِ:) فعل أمر من لغي بالكسر يلغى بالفتح وفيها معنيان أحدهما أنه من لغى إذا تكلم باللغو وهو مالا فائدة فيه والثاني انه من لغي بكذا إذا رمى به فتكون في بمعنى الباء أي ارموا به وانبذوه، وإما أن يكون من لغى بالفتح يلغى بالفتح أيضا، حكاه الأخفش وكان قياسه الضم كغزا يغزو ولكنه فتح لأجل حرف الحلق وقرىء بضم الغين من لغا يلغو كدعا يدعو، هذا ما قرره السمين، وعبارة الزمخشري «والغوا فيه بفتح الغين وضمها يقال لغى يلغى ولغا يلغو واللغو الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته» . الإعراب: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) كلام مستأنف مسوق لتقرير حالهم ومكابرتهم عند قراءة القرآن وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة ولا ناهية وتسمعوا فعل مضارع مجزوم بلا والجملة مقول القول ولهذا متعلقان بتسمعوا والقرآن بدل والغوا فعل أمر وفاعل وفيه متعلقان بالغوا ولعل واسمها وجملة تغلبون خبرها والمراد بالغلبة حمله على السكوت عن القراءة لئلا يستهوي القلوب ويستميلها بقراءة ما لم يعهده من بيان. (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً) الفاء الفصيحة أي إن استمرءوا ذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 550 واستمروا فيه فلنذيقن، واللام موطئة للقسم ونذيقن فعل مضارع مبني على الفتح واجب التأكيد والفاعل مستتر تقديره نحن والذين مفعول به وجملة كفروا صلة وعذابا مفعول به وشديدا نعت. (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) عطف على ما تقدم وأسوأ الذي كانوا يعملون مفعول ثان لنجزينهم. (ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ) ذلك مبتدأ والإشارة الى المذكور من الأمرين وهما قوله فلنذيقن وقوله ولنجزينهم وجزاء أعداء الله خبر والنار بدل أو عطف بيان من جزاء، واعترض بعضهم على هذا الإعراب بأن علامة البدل صحة حلوله محل المبدل منه فيصير التقدير ذلك النار وهذا لا يصح ولذلك ينبغي العدول عن الإعراب الأرجح الى المرجوح وهو أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره سيأتي فيما بعد. (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) لهم خبر مقدم وفيها حال ودار الخلد مبتدأ مؤخر والجملة إما خبر النار بناء على إعرابها مبتدأ أو في محل نصب حال أو مستأنفة مستقلة مقررة لما قبلها وهذا أقعد بمكان البلاغة كما سيأتي، وجزاء مفعول مطلق منصوب بفعل مقدر وهو مصدر مؤكد أي يجزون جزاء أو منصوب بالمصدر المذكور قبله والمصدر ينصب بمصدر مثله وقد تقدمت له نظائر ولك أن تجعل جزاء مصدرا واقعا موقع الحال وبما متعلقان بجزاء الثاني أو الأول وجملة كانوا صلة وجملة يجحدون خبر كانوا وبآياتنا متعلقان بيجحدون لتضمنه معنى يكفرون وذلك خير من جعلها زائدة. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) الواو استئنافية وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وأرنا فعل أمر مبني على حذف حرف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 551 العلة ونا مفعول به أول واللذين مفعول به ثان لأن الرؤية بصرية وقد عديت الى اثنين بالهمزة وجملة أضلّانا صلة ومن الجن والإنس حال قيل هما إبليس وقابيل الأول سن الكفر والثاني سن القتل بغير حق لأنه قتل أخاه كما تقدم. (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) نجعلهما فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به أول وتحت أقدامنا الظرف في موضع المفعول الثاني، ليكونا اللام للتعليل ويكونا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والألف اسمها ومن الأسفلين خبرها والجار والمجرور متعلقان بفعل الرؤية لأنه تعليل لها. البلاغة: 1- في قوله «فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا» استعارة مكنية وقد تقدم اجراؤها كثيرا. 2- وفي قوله «لهم فيها دار الخلد» تجريد، وهو أن ينتزع من أمر ذي بال صفة أمر آخر مثله في تلك الصفة مبالغة لكماله فيها، فقد انتزع من النار دارا أخرى سماها دار الخلد. أقسام التجريد: واعلم أن للتجريد أقسام ذكرها علماء البيان، وسنحاول أن نورد ما قالوه فيها على سبيل الإيجاز: 1- فمنه ما يكون بمن التجريدية كقولهم لي من فلان صديق حميم أي قد بلغ فلان حدا من الصداقة يصح معه أن يستخلص منه آخر مثله فيها، ومثاله من الشعر قول القاضي الفاضل: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 552 تمد الى الأعداء منها معاصما ... فترجع من ماء الكلى بأساور 2- ومنه ما يكون بالباء التجريدية الداخلة على المنتزع منه نحو قولهم: لئن سألت فلانا لتسألن به البحر، بالغ في اتصافه بالسماحة حتى انتزع منه بحرا في السماحة. 3- ومنه ما يكون بدخول باء المعية والمصاحبة في المنتزع كقول ابن هانىء: وضربتم هام الكماة ورعتم ... بيض الخدور بكل ليث مخدر وقول أبي تمام: هتك الظلام أبو الوليد بغرة ... فتحت لنا باب الرجاء المقبل بأتم من قمر السماء إذا بدا ... بدرا وأحسن في العيون وأجمل وأجل من قيس إذا استنطقته ... رأيا وألطف في الأمور وأجزل هذا والمراد بأتم من قمر السماء نفس أبي الوليد كما لا يخفى. 4- ومنه أن يكون بدخول في على المنتزع منه أو مدخول ضميره كالآية التي نحن بصددها «لهم فيها دار الخلد» أي في جهنم وهي دار الخلد لكنه انتزع منها دارا أخرى مبالغة، وقول المتنبي: تمضي المواكب والأبصار شاخصة ... منها الى الملك الميمون طائره الجزء: 8 ¦ الصفحة: 553 قد حرن في بشر في تاجه قمر ... في درعه أسد تدمى أظافره فإن الأسد هو نفس الممدوح لكنه انتزع منه أسدا آخر تهويلا لأمره ومبالغة في اتصافه بالشجاعة. 5- ومنه أن يكون بدخول بين كقول ابن النبيه: يهتزّ بين وشاحيها قضيب نقا ... حمائم الحلي في أفنانه صدحت 6- ومنه أن يكون بدون توسط شيء كقول قتادة بن سلمة الحنفي: فلئن بقيت لأرحلن بعزة ... تحوي الغنائم أو يموت كريم يعني بالكريم نفسه فكأنه انتزع من نفسه كريما مبالغة في كرمه ولذا لم يقل أو أموت، وقول أبي تمام: ولو تراهم وإيانا وموقفنا ... في مأتم البين لاستهلاكنا زجل من حرقة أطلقتها فرقة أسرت ... قلبا ومن غزل في نحره عذل وقد طوى الشوق في أحشائنا بقرا ... عينا طوتهن في أحشائها الكلل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 554 ومراده بالبقر العين الذين أخبر عنهم أولا بقوله ولو تراهم فكأنه انتزع منهم موصوفين بهذه الصفة مبالغة فيها. 7- ومنه أن ينتزع الإنسان من نفسه شخصا آخر مثله في الصفة التي سيق لها الكلام ثم يخاطبه كقول أبي الطيب المتنبي: لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم تسعد الحال أراد بالحال الغنى فكأنه انتزع من نفسه شخصا آخر مثله في فقد الخيل والمال والحال، ومنه قول الأعشى: ودّع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل وقول أبي نواس الممتع: يا كثير النوح في الدمن ... لا عليها بل على السكن سنة العشاق واحدة ... فإذا أحببت فاستنن ومراده الخطاب مع نفسه ولذلك قال بعده: ظنّ بي من قد كلفت به ... فهو يجفوني على الظّن بات لا يعنيه ما لقيت ... عين ممنوع من الوسن رشأ لولا ملاحته ... خلت الدنيا من الفتن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 555 تقسيم آخر للتجريد: وقسمه آخرون الى قسمين فقط وهما: تجريد محض وتجريد غير محض فالأول، وهو المحض، أن يأتي بكلام هو خطاب لغيرك وأنت تريد به نفسك كقول الحيص بيص في مطلع قصيدة له: إلام يراك المجد في زيّ شاعر ... وقد بخلت شوقا فروع المنابر كتمت بعيب الشعر حلما وحكمة ... ببعضهما ينقاد صعب المفاخر أما وأبيك الخير انك فارس ... المقال ومحيي الدارسات الغوابر وأنك أعييت المسامع والنهى ... بقولك عما في بطون الدفاتر فهذا من محاسن التجريد ألا ترى أنه أجرى الخطاب على غيره وهو يريد نفسه كي يتمكن من ذكر ما ذكره من الصفات الفائقة وعدّ ما عدّه من الفضائل التائهة، وكل ما يجيء من هذا القبيل فهو التجريد المحض. وأما القسم الثاني، وهو غير المحض، فإنه خطاب لنفسك لا لغيرك، وبين هذا القسم والذي قبله فرق ظاهر وذاك أولى بأن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 556 يسمى تجريدا لأن التجريد لائق به وهذا هو نصف تجريد لأنك لم تجرد به عن نفسك شيئا وإنما خاطبت نفسك بنفسك كأنك فصلتها عنك وهي منك، ومما جاء منه قول عمرو بن الاطنابة: أقول لها وقد جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي وقول الآخر وقد قتل أخواه ابنا له فقدم إليه أخوه ليقتاد منه فألقى السيف من يده وأنشأ يقول: أقول للنفس تأساء وتعزية ... إحدى يديّ أصابتني ولم ترد كلاهما خلف من فقد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي وذكر أبو علي الفارسي كلاما جميلا بصدد التجريد فقال: «إن العرب تعتقد أن في الإنسان معنى كامنا فيه كأنه حقيقته ومحصوله فتخرج ذلك المعنى إلى ألفاظها مجردا من الإنسان كأنه غيره وهو هو بعينه نحو قولهم: لئن لقيت فلانا لتلقين به الأسد ولئن سألته لتسألن به البحر وهو عينه الأسد والبحر لا أن هناك شيئا منفصلا عنه أو متميزا منه» ثم قال «وعلى هذا النمط كون الإنسان يخاطب نفسه حتى كأنه يقاول غيره كما قال الأعشى: ودّع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 557 وهو الرجل نفسه لا غيره. وقد عقب ابن الأثير على ما ذكره أبو علي فقال: «والذي عندي أنه أصاب في الثاني ولم يصب في الأول لأن الثاني هو التجريد، ألا ترى أن الأعشى جرد الخطاب عن نفسه وهو يريدها وأما الأول وهو قوله لئن لقيت فلانا لتلقين به الأسد ولئن سألته لتسألن به البحر فإن هذا تشبيه مضمر الأداة إذ يحسن تقدير أداة التشبيه فيه» الى أن يقول: «ويبطل على أبي علي قوله أيضا من وجه آخر وذاك أنه قال: إن العرب تعتقد أن في الإنسان معنى كامنا فيه كأنه حقيقته ومحصوله فتخرج ذلك المعنى الى ألفاظها مجردا من الإنسان كأنه غيره وهو هو، وهذا ينتقض بقولنا لئن رأيت الأسد لترين منه هضبته. ولئن لقيته لتلقينّ منه الموت فإن الصورة التي أوردها في الإنسان وزعم أن العرب تعتقد أن ذلك معنى كامن فيه قد أوردنا مثلها في الأسد فتخصيصه بالإنسان باطل وكلا الصورتين ليس بتجريد وإنما هو تشبيه مضمر الأداة» . والذي نراه أن ابن الأثير تحامل على أبي علي لأن كون هذا المثال من التشبيه المضمر الأداة لا يمنع كونه تجريدا في وقت واحد. وحسبنا ما تقدم. [سورة فصلت (41) : الآيات 30 الى 36] إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 558 اللغة: (يَنْزَغَنَّكَ) : النزغ والنسغ بمعنى وهو شبه النخس والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه ببعثه على ما لا ينبغي والمراد الوسوسة وفي معاجم اللغة: نزغ ينزغ من باب ضرب نزغا بين القوم أفسد ويقال نزغ الشيطان بينهم أي أغرى بعضهم ببعض ونزغه الشيطان الى المعاصي أي حثه ونزغ الشيطان وساوسه وما يحمل الإنسان على المعاصي. الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان حال المؤمنين في الدنيا والآخرة بعد بيان حال الكافرين. وان واسمها وجملة قالوا صلة وربنا مبتدأ والله خبر والجملة مقول القول وثم حرف عطف للتراخي في الزمان واستقاموا فعل ماض وفاعل وجملة تتنزل عليهم الملائكة خبر إن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 559 (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أن مصدرية أو مخففة فعلى الأول يصح أن تكون لا ناهية وأن تكون نافية وتخافوا منصوب بأن وعلى الثاني لا يصح إلا أن تكون مخففة ولا ناهية وعلى كل حال هي ومدخولها منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بمحذوف في موضع الحال أي قائلين، وعلى هذا لا يبعد احتمال كونها مفسرة لأن التنزيل فيه معنى القول ولا تحزنوا عطف على لا تخافوا وأبشروا فعل أمر معطوف على ما قبله وبالجنة متعلقان بأبشروا والتي نعت وجملة كنتم صلة وكان واسمها وجملة توعدون خبر كنتم. (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) تتمة مقول قول الملائكة ونحن مبتدأ وأولياؤكم خبر وفي الحياة الدنيا متعلقان بأولياؤكم لأنه جمع ولي من الولاية وهي الحفظ أي نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا وفي الآخرة ويجوز تعليقه بمحذوف حال وفي الآخرة عطف. (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) الواو عاطفة ولكم خبر مقدم وفيها متعلقان بمحذوف حال والضمير يعود على الجنة وما مبتدأ مؤخر وجملة تشتهي أنفسكم صلة ولكم فيها ما تدعون عطف على الجملة السابقة وتدعون من الدعاء بمعنى الطلب والتمني وفي المصباح: «ادعيت الشيء تمنيته وادعيته طلبته» (نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) نزلا حال مما تدعون والنزل تقدم شرحه وهو القرى الذي يهيأ لاكرامة وسمي به المكان مجاز فهو مصدر وقال أبو البقاء: «نزلا فيه وجهان أحدهما هو مصدر في موضع الحال من الهاء المحذوفة أو من ما أي لكم الذي تدعونه معدا وما أشبهه ومن نعت له والثاني هو جمع نازل مثل صار وصبر فيكون حالا من الواو في تدعون أو من الكاف في لكم فعلى هذا يتعلق من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 560 بتدعون أي يطلبونه من غفور أو بالظرف أي استقر ذلك من غفور فيكون حالا من ما» هذا وقد نصبه الجلال بجعله مقدرا. (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ. وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الواو عاطفة ومن اسم استفهام مبتدأ ومعناه النفي أي لا أحد أحسن وأحسن خبر وقولا تمييز وممن متعلقان بأحسن وجملة دعا الى الله صلة من وجملة وعمل صالحا عطف على دعا الى الله، وجعلها أبو حيان حالية وليس ثمة ما يمنع ذلك، وصالحا مفعول به أو نعت لمصدر محذوف أي عمل عملا صالحا وقال عطف على ما قبله وإنني من المسلمين إن واسمها وخبرها في موضع نصب لأنها مقول القول. (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) كلام مستأنف مسوق لتشريع المعاملة بين البشر بعد بيان حسن المعاملة بين العبد وبين ربه ولا نافية وتستوي الحسنة فعل مضارع وفاعل ولا السيئة عطف على الحسنة وادفع فعل أمر وبالتي متعلقان بادفع والتي صفة لموصوف محذوف أي بالخصلة وهي مبتدأ وأحسن خبر والجملة صلة وفي هذا الكلام تأويلان ألمع إليهما البيضاوي تبعا للكشاف قال: «أي ادفع السيئة حيث اعترضتك بالتي هي أحسن منها وهي الحسنة على أن المراد بالأحسن الزائد مطلقا أو ادفع بالتي هي أحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات» واختار الجلال الأول ومثل له بقوله: «كالغضب بالصبر والجهل بالحلم والإساءة بالعفو» . (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) قالوا ان الفاء هي التعليلية الدالة على أن ما بعدها علة ما قبلها وأرى أن الفصيحة هنا أولى لأنها جواب شرط مقدر والتقدير أي إذا دفعت بالتي هي أحسن فإذا الذي، وإذا للمفاجأة ولا بد من جعلها ظرفا للمكان لمعنى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 561 التشبيه وهذا مبني على القول باسميتها وجاز تقدم هذا الظرف على عامله المعنوي لأنه يتسع في الظروف ما لا يتسع في غيرها والذي مبتدأ وبينك ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وعداوة مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صلة، وكأنه كان واسمها وولي حميم خبران كأن والجملة التشبيهية في رفع خبر الذي وعبارة أبي البقاء «كأنه ولي فيه وجهان أحدهما حال من الذي بصلته والذي مبتدأ وإذا للمفاجأة وهي خبر المبتدأ أي فبالحضرة المعادي مشبها للولي الحميم والفائدة تحصل من الحال والثاني أن يكون خبر المبتدأ وإذا ظرف لمعنى التشبيه والظرف يتقدم على العامل المعنوي» . (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) الواو حرف عطف وما نافية ويلقاها فعل مضارع مبني للمجهول والهاء مفعول به ثان والضمير يعود على الخصلة الحسنة وهي مقابلة السيئة بالحسنة وإلا أداة حصر والذين نائب فاعل يلقاها وجملة صبروا لا محل لها لأنها صلة. (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) عطف على سابقتها مماثلة لها في اعرابها. (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الواو عاطفة وإن شرطية أدغمت نونها في ما الزائدة وينزغنك فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم فعل الشرط والكاف مفعول به مقدم ومن الشيطان حال لأنه كان في الأصل صفة لنزغ ونزغ فاعل مؤخر، فاستعذ الفاء رابطة واستعذ فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت وبالله متعلقان باستعذ وان واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والسميع العليم خبران لإن أو لهو والجملة خبر إن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 562 البلاغة: في قوله «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا» إيجاز بليغ لأن الاستقامة كلمة شملت جميع صفات التقوى قال عمر: الاستقامة: أن تستقم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب وأنت تعلم ما ينطوي تحت الأمر والنهي من أوامر ومناه. وأقل انحراف عن الطريق المستقيم يخرجه عن استقامته، ذلك لأن الخط المستقيم هو أقصر بعد بين نقطتين فهو لا يحتمل الانجراف ولو كان أدنى من اليسير. وفي الآيات من الطباق وجناس الاشتقاق ما لا يخفى فلذلك اكتفينا بالإشارة إليها. [سورة فصلت (41) : الآيات 37 الى 39] وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) اللغة: (رَبَتْ) : انتفخت وعلت قبل أن تنبت ويقال للموضع المرتفع ربوة ورابية وسيأتي مزيد من شرحه في باب البلاغة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 563 الإعراب: (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) كلام مستأنف مسوق لإيراد أربع آيات من آياته تعالى ومن آياته خبر مقدم والليل مبتدأ مؤخر وما بعده عطف عليه. (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) لا ناهية وتسجدوا فعل مضارع مجزوم بلا وللشمس متعلقان بتسجدوا ولا للقمر عطف، واسجدوا لله عطف آخر والذي نعت لله وجملة خلقهن صلة والضمير يعود الى الآيات ولذلك عبّر عن الأربع بضمير الإناث مع أن فيها ثلاثة مذكرة والعادة تغليب المذكر على المؤنث لأنه لما قال ومن آياته فنظم الأربعة في سلك الآيات صار كل واحد منها آية فعبّر عنها بضمير الإناث. وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص والتاء اسمها وهو فعل الشرط وإياه مفعول مقدم لتعبدون وجملة تعبدون خبر كنتم وجواب الشرط محذوف تقديره فاسجدوا له. (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) الفاء عاطفة وإن شرطية واستكبروا فعل ماض وفاعله وهو في محل جزم فعل الشرط، فالذين الفاء تعليل لجواب الشرط المحذوف وتقديره فدعهم وشأنهم والذين مبتدأ وعند ربك الظرف متعلق بمحذوف صلة الذين والظرفية هنا مكانة وتشريف وهي تعبير عن الزلفى والكرامة وجملة يسبحون خبر الذين وله متعلقان بيسبحون والليل والنهار متعلقان بيسبحون أيضا والواو عاطفة أو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يسأمون خبر. (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) الواو عاطفة على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 564 ما سبق ومن آياته خبر مقدم وأن وما في حيزها مبتدأ مؤخر وانك ان واسمها وجملة ترى الأرض خبر وخاشعة حال أي يابسة لا نبات فيها، وسيأتي مزيد من هذا البحث في باب البلاغة، ولك أن تجعل الرؤية علمية فتكون خاشعة مفعولا به ثانيا، فإذا الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة أنزلنا في محل جر بإضافة الظرف إليها وعليها متعلقان بأنزلنا والماء مفعول به وجملة اهتزت لا محل لها وربت عطف على اهتزت. (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تعليل لاهتزاز الأرض اليابسة وربوها وإن واسمها وجملة أحياها صلة واللام المزحلقة ومحيي الموتى خبر إن وإن واسمها وعلى كل شيء متعلقان بقدير وقدير خبرها. البلاغة: في قوله «أنك ترى الأرض خاشعة» استعارة مكنية فقد استعير الخشوع وهو التذلل والتقاصر لحال الأرض عند قحطها وجفافها كما استعير الهمود لها في قوله «وترى الأرض هامدة» وكذلك يسري القول على الاهتزاز والربو، يقال اهتز الإنسان أي تحرك، وربت أي انتفخت وعلت قبل أن تنبت وعلى هذا التقدير يكون في الكلام تقديم وتأخير وتقديره ربت واهتزت، والاهتزاز والربو قد يكونان قبل الخروج من الأرض وقد يكونان بعد خروج النبات الى وجه الأرض فربوها ارتفاعها، وقيل: اهتزت أي تحركت حركة عظيمة فكان كمن يعالج ذلك بنفسه وربت أي تشققت فارتفع ترابها وخرج منها النبات وسما في الجو مغطيا لوجهها وتزخرفت بذلك النبات كأنها بمنزلة المختال في زيه لما كانت قبل ذلك كالذليل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 565 الفوائد: 1- تأثير القرآن في نفس عتبة: أدركت قريش أن أساليبها في صد الدعوة الاسلامية عن المصي في طريقها لم تنجح وانه لا بد من اللجوء الى عمل آخر فتشاوروا على عادتهم وانتدبوا عتبة بن ربيعة لكي يذهب الى النبي صلى الله عليه وسلم يفاوضه في ترك الدعوة على أن يجمعوا له الأموال حتى يصير أغنى قريش ثم يجعلوا له الرياسات التي يصبح بها أرفعهم مقاما وأعزهم ملكا أو يلتمسوا له الطب حتى يبرأ من هذا الذي يأتيه فينطقه بكلام عجيب، وقد استمع النبي الى عتبة صابرا، فلما انتهى قال له: أفرغت يا أبا الوليد؟ فقال: نعم، قال له النبي: فاستمع مني، ثم أخذ يتلو عليه قوله تعالى: «حم تنزيل من الرحمن الرحيم» ومضى رسول الله يتلو على زائره سورة فصلت حتى انتهى الى قوله تعالى: «ومن آياته الليل والنهار» الآية ولما تلا هذه الآية سجد لربه سجودا طويلا ثم رفع رأسه واستوى في مجلسه وأخذ يكمل السورة حتى إذا فرغ منها نظر الى عتبة فإذ هو ملق يديه خلف ظهره يصغي في هدوء وقد بلغت الآيات منه مبلغا عظيما، قال له النبي: - قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك. فلم يعقب عتبة بكلمة وانصرف مهموما يفكر أعمق تفكير في هذا الذي سمع، فما أن رأت قريش صاحبها حتى قال بعضهم لبعض: - فحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا له: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 566 - ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: - ورائي اني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس. فقالت قريش: - سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه! فأشاح عنهم وقال: - هذا رأيي فيكم فاصنعوا ما بدا لكم. 2- موضع السجدة: اختلف في موضع السجدة، فهو عند الشافعي «تعبدون» لذكر لفظة السجدة قبلها وعند أبي حنيفة «يسأمون» لأنها تمام المعنى. [سورة فصلت (41) : الآيات 40 الى 44] إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 567 اللغة: (يُلْحِدُونَ) : بضم الياء مضارع ألحد في دين الله أي جار وعدل وقرىء بفتح الياء مضارع لحد من باب قطع لغة فيه وقال في الكشاف: «يقال ألحد الحافر ولحد إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق فاستعير للانحراف في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة. ولم يصب الزمخشري في تقييد المستعار له بقوله في آيات القرآن، فإنها في الآية الكريمة مستعارة للانحراف من جهة الصحة والاستقامة مطلقا لا للانحراف عنها في آيات الله وإلا لما احتيج الى قوله في آياتنا، ومن هنا يبدو الفرق بين الملحد والزنديق والدهري والمنافق. (أَعْجَمِيًّا) : تقدم بحث هذه الكلمة ونضيف هنا ما قالوه في يائه قال أبو حيان: «الياء للمبالغة في الوصف وليس النسب فيه حقيقيا» وقال الرازي في لوامحه: «فهي كياء كرسي» والأعجمي هو الذي لا يفصح ولا يفهم كلامه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 568 الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) كلام مستأنف مسوق لبيان حال الملحدين وإن واسمها وجملة يلحدون صلة الموصول وفي آياتنا متعلقان بيلحدون وجملة لا يخفون علينا خبر إن. (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) الهمزة للاستفهام التقريري والفاء عاطفة على مقدر يقتضيه السياق ومن اسم موصول مبتدأ وجملة يلقى في النار صلة من وخير خبرها وأم حرف عطف ومن عطف على من الأولى وجملة يأتي صلة وآمنا حال وكان السياق يقتضي أن يقول أم من يدخل الجنة ولكن عدل عن مقتضى السياق ليصرح بأمنهم وانتفاء الخوف عنهم وذلك أثلج لصدورهم وأقر لعيونهم ويوم القيامة متعلق بيأتي أو بآمنا. (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) اعملوا فعل أمر والمراد به التهديد لهم والواو فاعل وما مفعول به وجملة شئتم صلة ما وجملة إنه تعليل للأمر وان واسمها وبما تعملون متعلقان ببصير وبصير خبر إن. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) الجملة بدل من جملة إن السابقة وان واسمها وجملة كفروا بالذكر صلة ولما حينية أو رابطة وجاءهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به، وفي خبر إن وجوه أظهرها أنه محذوف تقديره لا يخفون علينا ويؤيد هذا الوجه كون إن الثانية بدلا من إن الأولى فيسري عليها ما يسري على الأولى والقاعدة ان المحكوم به على البدل محكوم به على المبدل منه وذكر المعربون أوجها أخرى نورد خلاصتها فيما يلي: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 569 1- انه محذوف لفهم المعنى وتقديره معذبون أو مهلكون وهو وجه سديد أيضا. 2- انه محذوف قدره الجلال بقوله: نجازيهم. 3- انه موجود مذكور وهو قوله فيما بعد «أولئك ينادون» . 4- انه موجود مذكور وهو قوله: «لا يأتيه الباطل» والعائد محذوف أي لا يأتيه الباطل منهم نحو المشمش منوان بدرهم أي منون منه وتكون أل عوضا من الضمير في رأي الكوفيين تقديره إن الذين كفروا بالذكر لا يأتيه باطلهم. 5- ان الخبر قوله ما يقال لك والعائد محذوف تقديره: إن الذين كفروا بالذكر ما يقال لك في شأنهم الا ما قد قيل للرسل من قبلك. وانه الواو حالية وان واسمها واللام المزحلقة وكتاب خبرها وعزيز نعت والجملة نصب على الحال أي ممتنع عن ان ينال منه أحد بحماية الله وكلاءته ويؤيده قوله تعالى «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» فلا يستطيع أحد أن يبطله أو يخرمه، (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) الجملة نعت ثان للكتاب ولا نافية ويأتيه الباطل فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ومن بين يديه متعلقان بيأتيه ولا من خلفه عطف على من بين يديه وتنزيل خبر رابع ومن حكيم متعلقان بتنزيل وحميد نعت لحكيم. (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) كلام مستأنف مسوق لتسليته صلّى الله عليه وآله على ما يناله من أذاهم وما نافية ويقال فعل مضارع مبني للمجهول ولك متعلق بيقال وإلا أداة حصر وما نائب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 570 فاعل أي إلا مثل الذي وقد حرف تحقيق وقيل للرسل صلة ومن قبلك حال. (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) إن واسمها واللام المزحلقة وذو مغفرة خبرها وعقاب أليم عطف على ما تقدم. (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) كلام مستأنف مسوق للرد على تساؤلهم: هلا أنزل القرآن بلغة العجم ولو شرطية وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به وقرآنا مفعول به ثان وأعجميا نعت واللام واقعة في جواب الشرط وجملة قالوا لا محل لها ولولا حرف تحضيض أي هلا وفصلت فعل ماض مبني للمجهول وآياته نائب فاعل والمعنى بنيت بلسان نفهمه ونفقهه، أأعجمي الهمزة للاستفهام الانكاري وأعجمي خبر لمبتدأ محذوف أي أهو أي القرآن أعجمي والمرسل به عربي وفيه قراءات بتحقيق الهمزة الثانية وقبلها ألفا ممدودة ويقرأ بهمزة واحدة وفتح العين على النسب الى عجم ويجوز أن يعرب أأعجمي مبتدأ والخبر محذوف تقديره أأعجمي وعربي يستويان. (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) قل فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت أي قل في الرد عليهم وهو مبتدأ وللذين آمنوا حال لأنه كان نعتا وتقدم، وهدى وشفاء خبر هو أي انه هاد لهم وشاف لما في صدورهم وكاف في درء الشبه ولهذا ورد معجزا بلسانهم وسيأتي تفصيل واف لهذا الموضوع في باب البلاغة. (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) والذين الواو عاطفة والذين مبتدأ وجملة لا يؤمنون صلة والعائد محذوف أي به وفي آذانهم خبر مقدم ووقر مبتدأ مؤخر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 571 ولا بد من تقدير رابط أي منه والجملة خبر الذين وهو مبتدأ وعليهم متعلقان بمحذوف حال ولا يتعلق بالمصدر لتقدمه عليه وعمى مبتدأ مؤخر وأولئك مبتدأ وجملة ينادون خبر ومن مكان متعلقان بينادون وبعيد نعت لمكان وسيأتي معنى هذا الكلام في باب البلاغة. البلاغة: 1- الطباق: «أأعجمي وعربي» طباق بديع يحتمل معنيين أولهما أن الإنكار واقع على كون القرآن أعجمي والرسول عربي وثانيهما أن القرآن أعجمي والمرسل إليهم أو إليه عربي وإنما جاء مفردا والمرسل إليهم هم أمة العرب لأن مبنى الإنكار على تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه لا على أن المكتوب إليه واحد أو جماعة فوجب أن يجرد لما سبق إليه من الغرض ولا يوصل به ما يخل غرضا آخر، ألا تراك تقول وقد رأيت لباسا طويلا على امرأة قصيرة: اللباس طويل واللابس قصير، ولو قلت واللابسة قصيرة جئت بما هو لكنة وفضول قول لأن الكلام يقع في ذكورة اللابس وأنوثته وانما وقع في غرض وراءهما فصح الطباق. 2- التشبيه البليغ: وفي قوله «قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء» تشبيه بليغ، جعل القرآن نفس الهدى ونفس الشفاء يهديهم الى سبل الرشاد ويشفيهم من أوصاب الجنون والالتياث. 3- الاستعارة التمثيلية: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 572 وفي قوله «أولئك ينادون من مكان بعيد» استعارة تمثيلية شبهت حالهم في النبوّ عن قبول مواعظ القرآن ودلائله بحال من ينادى من مكان بعيد فكما انه لا يفهم ولا يقبل قول المنادي فكذلك هؤلاء لا يقبلون دعوة من دعاهم الى الرشد والصلاح لاستيلاء الضلالة عليهم. [سورة فصلت (41) : الآيات 45 الى 48] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) اللغة: (أَكْمامِها) : جمع كم بكسر الكاف وهو وعاء الثمر أو ما يسمى فنيا الكأس، وفي الكشاف «الكم بكسر الكاف وعاء الثمر» ولكن قال الراغب في مفرداته: «الكم ما يغطي اليد من القميص وما يغطي الثمرة وجمعه أكمام» فكلام الراغب يدل على مضموم الكاف إذ جعله مشتركا بين كم القميص وكم الثمرة، ولا جدال في كم القميص أنه بالضم فلعل في وعاء الثمرة لغتين دون كم القميص جمعا بين قول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 573 الزمخشري وقول الراغب، أما معاجم اللغة فتفرق بين كم الثوب وكم الثمر فنصوا على ضم الأول وكسر الثاني قال في القاموس: «الكم بالضم مدخل اليد ومخرجها من الثوب والجمع أكمام وكممة وبالكسر وعاء الطلع وغطاء النور كالكمامة والكمة بالكسر فيهما والجمع أكمة وأكمام وكمام» ويؤخذ من الأساس وغيره من المعاجم الكبرى ما يلي لتتدبره: الكم بضم الكاف مدخل اليد ومخرجها من الثوب جمعه أكمام وكممة بكسر الكاف، والكمة بضم الكاف القلنسوة المدورة وكل ظرف غطيت به شيئا وألبسته إياه فصار له كالغلاف. والكم بكسر الكاف الغلاف الذي يحيط بالزهر أو الثمر أو الطلع فيستره ثم ينشق عنه جمعه أكمة وأكمام وكمام وأكاميم ومن ذلك أكمام الزرع أي غلفها التي يخرج منها. وأكمة الخيل: مخاليها المعلقة على رؤوسها الواحد منها كمام والكمامة بكسر الكاف غطاء الزهر ووعاء الطلع، والكمامة أيضا بالكسر والكمال ما يكم به فم الحيوان لئلا يعض أو يأكل الى آخر هذه المادة المطولة. (مَحِيصٍ) : مهرب من حاص يحيص حيصا إذا هرب. الإعراب: (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان أن الاختلاف في أمر الكتب المنزلة ليس بدعا فهو قديم في الأمم، واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 574 وموسى مفعول به أول والكتاب مفعول به ثان والفاء عاطفة واختلف فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر وفيه متعلقان باختلف. (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) الواو عاطفة ولولا حرف امتناع لوجود وكلمة مبتدأ محذوف الخبر وجملة سبقت نعت لكلمة ومن ربك متعلقان بسبقت واللام واقعة في جواب لولا وقضي فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر يعود على المصدر المفهوم من قضي أي القضاء وبينهم ظرف متعلق بقضي والضمير في بينهم يعود على كفار قومه، وانهم الواو حاليه وان واسمها واللام المزحلقة وفي شك خبر إن ومنه متعلقان بمحذوف نعت ومريب نعت ثان. (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) من اسم شرط جازم مبتدأ وعمل فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وصالحا مفعول به أو نعت لمصدر محذوف وقد تقدمت له نظائر والفاء رابطة لجواب الشرط ولنفسه متعلقان بفعل محذوف تقديره نفع أو عمل ويجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف أي فالعمل الصالح لنفسه، ومن أساء فعليها عطف على ما تقدم وإعرابه مماثل له والواو يصح أن تكون حالية أو عاطفة وما نافية حجازية وربك اسمها وبظلام الباء حرف جر زائد وظلام مجرور لفظا منصوب محلّا على انه خبر ما وللعبيد متعلقان بظلام، ويصح أن تكون ظلام صيغة نسب كتمّار وبقّال وخبّاز كما سيأتي تفصيها في باب الفوائد ويصح أن تكون صيغة مبالغة وعلى الأول يكون معناه ليس بذي ظلم وقد رجحه غير واحد من المعربين. (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) اليه جار ومجرور متعلقان بيرد ويرد فعل مضارع مبني للمجهول وعلم الساعة نائب فاعل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 575 (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) الواو عاطفة وما نافية وتخرج فعل مضارع مرفوع ومن حرف جر زائد وثمرة مجرور بمن لفظا في محل رفع فاعل تخرج ومن أكمامها متعلقان بتخرج وقرىء من ثمرات. وقيل ما موصولة في محل جر عطف على الساعة أي علم الساعة وعلم التي تخرج، ومن الأولى للاستغراق ومن الثانية لابتداء الغاية والواو حرف عطف وما نافية وتضع فعل مضارع مرفوع ومن حرف جر زائدة وأنثى مجرور لفظا في محل رفع فاعل وإلا أداة حصر وبعلمه استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي إلا مقرونا بعلمه. (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) الظرف متعلق باذكر محذوفا فهو مفعول به أو انه ظرف لمضمر يقصر البيان عنه وجملة يناديهم في محل جر بإضافة الظرف إليها وأين اسم استفهام في محل نصب على الظرفية المكانية وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم وشركائي مبتدأ مؤخر وقالوا فعل وفاعل وآذناك فعل ماض وفاعل ومفعول به أي أعلمناك الآن وعبارة أبي البقاء: «هذا الفعل يتعدى الى مفعول بنفسه والى آخر بحرف جر وقد وقع النفي وما في خبره موقع الجار والمجرور وقال أبو حاتم يوقف على آنذاك ثم يبتدأ فلا موضع للنفي» . وما نافية ومنّا خبر مقدم ومن حرف جر زائد وشهيد مجرور لفظا في محل رفع مبتدأ مؤخر. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) الواو عاطفة وضل فعل ماض وعنهم متعلقان بضل وما فاعل وجملة كانوا صلة وكان واسمها وجملة يدعون خبر كانوا ومن قبل حال. (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) الواو عاطفة وظنوا فعل ماض وفاعل وما نافية ولهم خبر مقدم ومن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 576 حرف جر زائد ومحيص مجرور لفظا في محل رفع مبتدأ مؤخر والنفي معلق للظن عن العمل لفظا مع بقائه محلا وجملة النفي سدت مسد المفعولين لآذناك لأنها بمعنى أعلمناك كما سدت. جملة النفي السابقة مسد المفعول الثاني لآذناك وعبارة أبي البقاء: «وأما قوله تعالى: وظنوا فمفعولاها قد أغنى عنهما ما لهم من محيص وقال أبو حاتم يوقف على ظنوا ثم أخبر عنهم بالنفي» . الفوائد: النسبة على وزن فعّال وفاعل: اعلم أن العرب نسبوا على غير المنهاج المعروف في النسبة وذلك لأنهم لم يأتوا بياء النسبة ولكنهم يبنون بناء يدل على نحو ما دلت عليه ياء النسبة كقولهم لصاحب البتوت وهي الأكسية وواحدها بت: بتّات، ولصاحب الثياب: ثواب، ولصاحب البزّ: بزّاز، ولصاحب العاج عوّاج، ولصاحب الجمال التي ينقل عليها: جمّال، ولصاحب الحمير التي ينقل عليها: حمّار، وللصيرفي: صراف، وهو أكثر من أن يحصى كالعطّار والنقّاش، وهذا النحو إنما يعملون فيما كان صنعة ومعالجة للتكثير إذ صاحب الصنعة مداوم لصنعته فجعل له البناء الدّال على التكثير وهو فعّال بتضعيف العين لأن التضعيف للتكثير. وما كان من هذا ذا شيء وليس بصنعة يعالجها أتوا بها على صيغة فاعل وذلك لأن فاعلا هو الأصل وإنما يعدل عنه الى فعال للمبالغة فإذا لم ترد المبالغة جيء به على الأصل لأنه ليس فيه تكثير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 577 قالوا لذي الدرع: دارع، ولذي النبل: نابل، ولذي النشاب: ناشب، ولذي اللبن: لابن، ولذي التمر: تامر. وقال الحطيئة: وغررتني وزعمت أنّك لابن بالصيف تامر أي ذو لبن وذو تمر. وإن كان شيء من هذه الأشياء صنعة وما شا يداومها صاحبها نسب على فعّال فيقال لمن يبيع اللبن والتمر: لبّان وتمّار، ولمن يرمي بالنبل: نبال. قال امرؤ القيس: وليس بذي رمح فيطعنني به ... وليس بذي سيف وليس بنبال وربما جمعوا بين اللفظين في شيء واحد، قال الحطيئة: دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطّاعم الكاسي والمراد المطعوم المكسوّ، وهذا القبيل وإن كان كثيرا واسعا ليس بالقياس بل هو مقتصر على السماع فلا يقال لبائع البر: برار: ولا لصاحب الفاكهة: فكاه، وحمل عليه كثير من المحققين كما قال ابن مالك «وما ربك بظلام للعبيد» أي بذي ظلم والذي حملهم على ذلك أن النفي منصبّ على المبالغة فيثبت أصل الفعل والله تعالى منزه عن ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 578 [المجلد التاسع] بسم الله الرحمن الرحيم [تتمة سورة فصلت] [سورة فصلت (41) : الآيات 49 الى 54] لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) الإعراب: (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) كلام مستأنف للشروع في وصف الإنسان في حالتي شدته ورخائه. ولا نافية ويسأم الإنسان فعل مضارع وفاعل ومن دعاء الخير متعلقان بيسأم (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) الواو عاطفة وإن شرطية ومسّه فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والهاء مفعول به والشر فاعل والفاء رابطة للجواب ويئوس خبر لمبتدأ محذوف أي فهو يئوس وقنوط خبر ثان. والفرق بين اليأس الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 والقنوط وكلاهما بمعنى قطع الرجاء من رحمة أن اليأس من منعات القلب والقنوط ظهور آثاره على ظاهر البدن وقيل هما مترادفان من غير فارق بينهما، وفي المختار: «اليأس القنوط وقد يئس من الشيء من باب فهم وفيه لغة أخرى يئس ييئس بالكسر فيهما وهي شاذة ورجل يئوس، ويئس أيضا بمعنى علم في لغة النخع ومنه قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) ، وآيسه الله من كذا فاستيئس منه بمعنى أيس» وفي المختار أيضا: «أيس منه لغة في يئس وبابهما فهم وآيسه منه غيره بالمدّ مثل أيأسه وكذا أيسه بتشديد الياء تأييسا» وفيه أيضا: «القنوط: اليأس وبابه جلس ودخل وطرب وسلم فهو قنط وقنوط وقانط فأما قنط يقنط بالفتح فيهما، وقنط يقنط بالكسر فيهما فإنما هو على الجمع بين اللغتين» وعبارة الكشاف: «فيئوس قنوط بولغ فيه من طريقين من طريق بناء فعول ومن طريق التكرير. والقنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر أي يقطع الرجاء من فضل الله وروحه وهذه صفة الكافر بدليل قوله تعالى: (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) ، (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية وأذقناه فعل ماض وفاعل ومفعول به والجملة في محل جزم فعل الشرط ورحمة مفعول به ثان ومن بعد نعت لرحمة أو متعلقان بأذقناه وضرّاء مضاف إليه وجرّ بالفتحة لأنه ممنوع من الصرف لألف التأنيث الممدودة واللام جواب القسم وجواب الشرط محذوف لسدّ جواب القسم مسدّه على القاعدة المشهورة وهذا مبتدأ ولي خبر واللام للاستحقاق أي أستحقه بعملي (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) الواو عاطفة وما نافية وأظن فعل مضارع والفاعل مستتر والساعة مفعول أظن الأول وقائمة مفعولها الثاني والواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية ورجعت في محل جزم الشرط وإلى ربي متعلقان برجعت وإن وما في حيزها جواب القسم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 ولي خبر إن وعنده حال واللام المزحلقة والحسنى اسم إن وجملة إن لي عنده للحسنى لا محل لها لأنها جواب القسم لسبقه الشرط (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) الفاء الفصيحة لأنها جواب لقول الكافر ولئن رجعت، واللام موطئة للقسم وننبئنّ فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والذين مفعول به وجملة كفروا صلة وبما في محل نصب مفعول ثان لننبئنّ و «ما» يحتمل أن تكون موصولة أو مصدرية ولنذيقنّهم عطف على فلننبئنّ ومن عذاب في موضع المفعول الثاني وغليظ نعت (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة أنعمنا في محل جر بإضافة الظرف إليها وعلى الإنسان متعلقان بأنعمنا وجملة أعرض لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ونأى بجانبه عطف على أعرض والجار والمجرور متعلقان بنأى لأن اللام للتعدية وفيما يلي نص عبارة الزمخشري عن هذا التعبير قال: «فإن قلت: حقق لي معنى قوله تعالى: ونأى بجانبه، قلت: فيه وجهان: أن يوضع جانبه موضع نفسه كما ذكرنا في قوله تعالى «على ما فرطت في جنب الله» أن مكان الشيء وجهته ينزل منزلة الشيء نفسه ومنه قوله: ذعرت به القطا ونفيت عنه ... مقام الذئب كالرجل اللعين يريد ونفيت عنه الذئب ومنه «ولمن خاف مقام ربه جنتان» إلى أن يقول: فكأنه قال: ونأى بنفسه كقولهم في المتكبر ذهب بنفسه وذهبت به الخيلاء كلّ مذهب وعصفت به الخيلاء وأن يراد بجانبه عطفه ويكون عبارة عن الانحراف والازورار كما قالوا «ثنى عطفه وتولى بركنه» وفي قراءة وناء بجانبه فالهمزة مؤخرة عن الألف (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة مسه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 الشر في محل جر بإضافة الظرف إليها، فذو: الفاء رابطة وذو دعاء خبر لمبتدأ محذوف وعريض نعت لدعاء وسيأتي في باب البلاغة معنى هذا النعت (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أرأيتم: أي أخبروني عن حالتكم العجيبة وقد تقدم القول في أرأيتم. ومفعول رأى الاول محذوف تقديره أرأيتم أنفسكم والثاني هو الجملة الاستفهامية وإن شرطية وكان فعل الشرط واسمها مستتر تقديره هو أي القرآن ومن عند الله خبر، ثم كفرتم عطف على كان من عند الله وجواب الشرط محذوف تقديره فأنتم أضلّ من غيركم أو ليس ثمة أضلّ منكم وجملة الشرط اعتراض بين المفعولين الأول والثاني ومن اسم استفهام مبتدأ وأضلّ خبر وممّن متعلقان بأضل وهو مبتدأ وفي شقاق بعيد خبر والجملة الاسمية صلة الموصول (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) السين للاستقبال ونريهم فعل مضارع ومفعول به أول وآياتنا مفعول به ثان والرؤية هنا بصرية فلذلك عدّيت إلى اثنين فقط وفي الآفاق حال من الآيات والآفاق جمع أفق وهو الناحية وهو كأعناق في عنق أبدلت همزته ألفا، ونقل الراغب «أنه يقال أفق بفتح الهمزة والفاء فيكون كجبل وأجبال والأفق الذي بلغ نهاية الكرم تشبيها في ذلك بالذاهب في الآفاق والنسبة إلى الأفق أفقي بفتحهما قلت: ويحتمل أنه نسبة إلى المفتوح واستغنوا بذلك عن النسبة إلى المضموم وله نظائر» وفي أنفسهم عطف على في الآفاق (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) حتى حرف غاية وجر ويتبين فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى وحتى وما بعدها متعلق بقوله سنريهم وأن وما في حيزها فاعل تبين (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي والواو حرف عطف على مقدر يقتضيه السياق أي ألم يغنهم ولم يكفهم والباء حرف جر زائد وربك مجرور لفظا مرفوع محلا والمفعول به محذوف أي أو لم يكفك ربك، وأن وما في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 حيزها بدل من ربك فيكون مرفوع المحل مجرور اللفظ وقيل الباء مزيدة في المفعول وأن ما بعدها في محل رفع فاعل أي أو لم يكف بربك شهادته وأن واسمها وشهيد خبرها وعلى كل شيء متعلقان بشهيد (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) تقدّم إعراب نظيرتها. البلاغة: في قوله «فذو دعاء عريض» استعارة مكنية تخييلية فقد استعير العرض لكثرة الدعاء وديمومته وهو من صفات الأجرام ويستعار له الطول أيضا ولكن استعارة العرض أبلغ لأنه إذا كان عرضه كذلك فما ظنك بطوله شبّه الدعاء بأمر يوصف بالامتداد ثم أثبت له العرض، والطول أطول الامتدادين فإذا كان عرضه بهذه المثابة فناهيك بطوله. الفوائد: الرجل اللعين: شيء ينصب وسط الزرع لإخافة الطيور، والبيت للشماخ وقبله: وماء قد وردت لأجل أروى ... عليه الطير كالورق اللجين ذعرت به القطا البيت. وأروى اسم حبيبة الشاعر واللجين: بفتح اللام وكسر الجيم ما يتساقط من الورق من اللجن وهو الدق لأنه يضربه الهواء أو الراعي فيسقط من الشجر وذعرت بفتحتين أي أخفت فيه القطا وخصّها لأنها أسبق الطير إلى الماء والرجل اللعين هو الصورة التي تنصب وسط الزرع تطرد عنه الطير والهوام، يقول: ورب ماء قد وردته لأجل محبوبتي على أن تجيء عنده فأراها وشبّه الطير حول الماء بورق الشجر المتساقط في الكدرة والكثرة والانتشار وكالرجل اللعين حال من ضمير الشاعر فيفيد أنه سبق القطا والذئب وقعد هناك، أو حال من الذئب أي على هيئة مفزعة وفيه دليل على شجاعة الشاعر وجرأته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 (42) سورة الشورى مكية وآياتها ثلاث وخمسون [سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) الإعراب: (حم. عسق.) تقدم القول في فواتح السور معنى وإعرابا (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الكاف نعت لمصدر محذوف ويوحي فعل مضارع مرفوع وإليك متعلقان بيوحي وإلى الذين عطف على إليك ومن قبلك صلة الذين والله فاعل والعزيز الحكيم نعتان لله وقرىء يوحى بالبناء للمجهول فنائب الفاعل هو الجار الجزء: 9 ¦ الصفحة: 10 والمجرور والله فاعل بفعل محذوف دلّ عليه يوحى كأن قائلا قال من الموحي فقيل الله (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) له خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي السموات صلة وما في الأرض عطف وهو مبتدأ والعليّ العظيم خبران لهو (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ) تكاد فعل مضارع من أفعال المقاربة والسموات اسمها وجملة يتفطرن خبرها ومن فوقهنّ متعلقان بيتفطرن ومعنى من الابتداء أي يتبدئ الانفطار من جهتهنّ الفوقانية لأن أعظم الآيات وأدلّها على العظمة والجلال هو الانفطار من تلك الجهة ويعلم انفطار السفلى بطريق الأولى. واختلف في عودة الضمير في فوقهنّ فقيل هو عائد على السموات أي يبتدىء انفطارهنّ من هذه الجهة ومن للابتداء متعلقة بيتفطرن كما ذكرنا وقيل أنه عائد على الأرضين لتقدم ذكر الأرض قبل ذلك وقيل أنه عائد على فرق الكفار والجماعات الملحدين (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) كلام مستأنف والملائكة مبتدأ وجملة يسبّحون خبره وبحمد ربهم حال أو متعلقان بيسبحون (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ويستغفرون عطف على يسبحون ولمن متعلقان بيستغفرون وفي الأرض صلة من وألا أداة تنبيه وإن واسمها وهو ضمير فصل والغفور الرحيم خبر ان لإن (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) والذين مبتدأ وجملة اتخذوا صلة ومن دونه في موضع المفعول الثاني وأولياء مفعول اتخذوا الأول والله مبتدأ وحفيظ خبر وعليهم متعلقان بحفيظ وما نافية حجازية وأنت اسمها وعليهم متعلقان بوكيل والباء حرف جر زائد ووكيل مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما وجملة الله حفيظ عليهم خبر الذين. [سورة الشورى (42) : الآيات 7 الى 9] وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 11 الإعراب: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) الكاف نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الإيحاء أوحينا وأوحينا فعل وفاعل وإليك متعلقان بأوحينا وقرآنا مفعول أوحينا وعربيا نعت. واختار الزمخشري أن تكون ذلك إشارة إلى معنى الآية قبلها من أن الله هو الرقيب عليهم وما أنت برقيب عليهم ولكن نذير لهم لأن هذا المعنى كرره الله في كتابه في مواضع جمة والكاف مفعول به لأوحينا وقرآنا عربيا حال من المفعول به أي أوحيناه إليك وهو قرآن عربي لا لبس فيه عليك لتفهم ما يقال لك ولا تتجاوز حدّ الإنذار وهو إعراب وجيه جميل. واللام للتعليل وتنذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وأم القرى مفعول به لتنذر، وأم القرى مكة، ومن عطف على أم القرى وحولها ظرف متعلق بمحذوف صلة من (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) وتنذر عطف على لتنذر ويوم الجمع مفعول به ثان لتنذر والمفعول الأول محذوف أي وتنذر الناس يوم الجمع أي عذابه فحذف المفعول الأول من الإنذار الثاني كما حذف المفعول الثاني من الإنذار الأول وتقديره العذاب ولا نافية للجنس وريب اسمها وفيه خبرها والجملة حال من يوم الجمع أو مستأنفة واختار الجزء: 9 ¦ الصفحة: 12 الزمخشري أن تكون معترضة والمراد بيوم الجمع يوم القيامة لأن الخلائق تجمع فيه وفريق مبتدأ وفي الجنة خبره وسوّغ الابتداء به التنويع والتفصيل وفريق في السعير عطف على ما تقدم ويجوز أن يكون فريق خبر لمبتدأ مضمر أي المجموعون (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) الواو استئنافية ولو شرطية وشاء الله فعل ماض وفاعل واللام واقعة في جواب لو وجملة جعلهم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والهاء مفعول به أول وأمة مفعول به ثان وواحدة نعت لأمة أي على دين واحد (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) الواو حالية ولكن حرف استدراك مهمل ويدخل مثل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو ومن مفعول به وجملة يشاء صلة والعائد محذوف وفي رحمته متعلقان بيدخل والظالمون مبتدأ وهو من باب وضع المظهر موضع المضمر ومقتضى الظاهر أن يقول ويدخل من يشاء في غضبه ولكنه عدل عن ذلك إلى ذكر الظالمين تسجيلا عليهم ومبالغة في الوعيد وما نافية ولهم خبر مقدم ومن حرف جر زائد وولي مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ مؤخر ولا نصير عطف على من ولي وجملة النفي خبر الظالمون (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) حرف عطف وهي منقطعة بمعنى بل واتخذوا فعل وفاعل ومن دونه في موضع المفعول الثاني وأولياء مفعول اتخذوا الأول (فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) اختلف في هذه الفاء فقال الزمخشري هي جواب شرط مقدّر أي الفصيحة كأنه قيل بعد إنكار كل ولي سواه إن أرادوا وليّا بحق فالله هو الوليّ بالحق لا وليّ سواه على شيء وقال أبو حيان في الردّ على الزمخشري: «لا حاجة إلى هذا التقدير لتمام الكلام بدونه» أي فهي لمجرد العطف أي عطف ما بعدها على ما قبلها وتبع أبا حيان أكثر المعربين وصرّح الجلال بأنها لمجرد العطف، وعندي أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 13 رأي الزمخشري أسدّ وأقرب لملاءمة الكلام بعضه لبعض والله مبتدأ وهو مبتدأ ثان أو ضمير فصل لا محل له والوليّ خبر هو والجملة خبر الله أو خبر الله وضمير الفصل لا محل له وهو مبتدأ ويحيي الموتى خبر وهو على كل شيء قدير عطف على ما تقدم أيضا. [سورة الشورى (42) : الآيات 10 الى 12] وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) اللغة: (يَذْرَؤُكُمْ) قال في القاموس: «ذرأ كجعل خلق والشيء كثره ومنه الذرية مثلثة لنسل الثقلين» وقال شارحه في التاج: «وقد يطلق على الآباء والأصول أيضا قال الله تعالى: إنّا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون والجمع ذراري كسراري» وقد تقدم القول فيه وسيأتي معنى تعديته بفي في باب الإعراب. (مَقالِيدُ) تقدم بحثه في سورة الزمر فجدّد به عهدا. الإعراب: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق لحكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين أي خالفكم فيه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 14 الكفار في أمر من أمور الدين أو الدنيا فحكم ذلك المختلف فيه مفوّض إلى الله تعالى. وما شرطية في محل رفع مبتدأ ويجوز أن تكون موصولة أيضا واختلفتم فعل الشرط وفيه متعلقان باختلفتم ومن شيء حال والفاء رابطة وحكمه مبتدأ وإلى الله متعلقان بمحذوف خبر أي مردود وراجع إلى الله (ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) ذلكم مبتدأ والله خبر ويجوز أن يكون بدلا من ذلكم وربي خبر ثان وعليه متعلقان بتوكلت والجملة خبر ثالث وإليه متعلقان بأنيب والجملة خبر رابع (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خبر خامس وقرىء بالجر قال أبو البقاء هو بدل من الهاء في عليه وقال الزمخشري نعت لقوله فحكمه إلى الله فتكون جملة ذلكم إلخ معترضة بين الموصوف وصفته (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) الجملة خبر سادس وجعل فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو ولكم في موضع المفعول الثاني إن كانت بمعنى التصيير ومتعلقان بجعل إن كانت بمعنى الخلق ومن أنفسكم حال لأنها كانت صفة لأزواجا وأزواجا مفعول جعل الأول ومن الأنعام أزواجا عطف على سابقتها وجملة يذرؤكم صفة لأزواجا وفيه متعلقان بيذرؤكم والضمير يعود على الجعل أو التدبير قال الزمخشري: «فإن قلت فما معنى يذرؤكم فيه وهلا قيل يذرؤكم به؟ قلت جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير، ألا تراك تقول للحيوان في خلق الأزواج تكثير كما قال تعالى «ولكم في القصاص حياة» (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) خبر سابع وليس فعل ماض ناقص والكاف زائدة ومثله مجرور لفظا منصوب محلا لأنه خبر ليس وشيء اسمها وهذا الذي درجنا عليه قول أكثر المعربين وهو المشهور عند النحاة وهناك مباحث طريفة طويلة في صددها نرجئها إلى باب الفوائد وهو مبتدأ والسميع البصير خبران لهو (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) له خبر مقدم ومقاليد السموات والأرض مبتدأ مؤخر والجملة خبر ثامن (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 15 يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) جملة يبسط الرزق خبر تاسع ويبسط فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو والرزق مفعول به ولمن متعلقان بيبسط وجملة يشاء صلة ويقدر عطف على يشاء وإن واسمها وعليم خبرها وبكل شيء متعلقان بعليم. الفوائد: في قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) اختلاف كثير بين كبار النحاة وسنورد هنا مجملا لأقوالهم جميعا على أن أسهل الأوجه هو ما ذكرناه نقلا عن جمهرتهم، وقال الشيخ بهاء الدين بن النحّاس في تعليقه على المقرب: قال أكثر الناس هي زائدة للتوكيد والمعنى والله أعلم ليس مثله شيء وقال جماعة من المحققين ليست بزائدة وإنما هي على بابها ومعنى الكلام والله أعلم نفي مثل المثل ويلزم من ذلك نفي المثل ضرورة وجوده سبحانه فإن قيل: لم توصل إلى نفي المثل بنفي مثل المثل وهلا نفى المثل من أول وهلة، فالجواب إن نفي المثل بنفي مثل المثل أبلغ وأفخم من قولنا أنت لا تفعل هذا لأنه نفي الشيء بذكر دليله فهو أبلغ من نفي الشيء بغير ذكر دليله. قلت: وقد قال بعضهم أنها ليست بزائدة ولم يعوّل على هذا الدليل بل قال مثل ومثل ساكنا ومتحركا سواء في اللغة كشبه وشبه فمثل هاهنا بمعنى مثل، قال الله تعالى: «ولله المثل الأعلى» ويكون المعنى ليس مثل مثله شيء وهو صحيح. وقال الشهاب الحلبي المعروف بابن السمين: «قوله ليس كمثله شيء في هذه الآية أوجه: أحدها وهو المشهور عند المعربين أن الكاف زائدة في خبر ليس وشيء اسمها والتقدير ليس شيء مثله قالوا: ولولا ادّعاء زيادتها للزم أن يكون له مثل وهو محال إذ يصير التقدير على أصالة الكاف ليس مثل مثله شيء فنفى المماثلة عن مثله فثبت أن له الجزء: 9 ¦ الصفحة: 16 مثلا ولا مثل لذلك المثل وهذا محال تعالى الله عن ذلك، وقال أبو البقاء: ولو لم تكن زائدة لأفضى ذلك إلى المحال إذ كان يكون المعنى أن له مثلا وليس لمثله مثل وفي ذلك تناقض لأنه إذا كان له مثل فلمثله مثل وهو هو مع أن إثبات المثل لله تعالى محال. قلت: وهي طريقة غريبة في تقرير الزيادة وهي طريقة حسنة الصناعة والثاني: أن مثل هي الزائدة كزيادتها في قوله تعالى بمثل ما آمنتم قال الطبري: كما زيدت الكاف في بعض المواضع وهذا ليس بجيد لأن زيادة الأسماء ليست بجائزة وأيضا يصير التقدير ليس كهو شيء، ودخول الكاف على الضمائر لا يجوز إلا في الشعر. الثالث: أن العرب تقول مثلك لا يفعل كذا يعنون المخاطب نفسه لأنهم يريدون المبالغة في نفي الوصف عن المخاطب فينفونها في اللفظ عن مثله فيثبت انتفاؤها عنه بدليلها، قال ابن قتيبة: العرب تقيم المثل مقام النفس فتقول مثلي لا يقال له هذا أي أنا لا يقال لي هذا. الرابع: أن يراد بالمثل الصفة وذلك أن المثل بمعنى المثل والمثل الصفة كقوله مثل الجنة فيكون المعنى ليس مثل صفته تعالى شيء من الصفات التي لغيره وهو محمل سهل» . وللراغب في مفرداته كلام لطيف يحسن إثباته هنا في المثل قال: «المثل أعمّ الألفاظ الموضوعة للمشابهة وذلك أن الند يقال لما يشارك في الجوهر فقط والشبه يقال فيما يشاركه في القدر والمساحة فقط والمثل في جميع ذلك ولهذا لما أراد الله نفي الشبه من كل وجه خصّه بالذّكر قال تعالى: ليس كمثله شيء» . وقال ابن هشام الأنصاري في كتابه الممتع «المغني» : «قال الأكثرون التقدير ليس شيء مثله إذ لو لم تقدّر زائدة صار المعنى ليس شيء مثل مثله فيلزم المحال وهو إثبات المثل وإنما زيدت لتوكيد نفي المثل لأن زيادة الحرف بمنزلة إعادة الجملة ثانيا قاله ابن جنّي ولأنهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 17 إذا بالغوا في نفي الفعل عن أحد قالوا مثلك لا يفعل كذا ومرادهم إنما هو النفي عن ذاته ولكنهم إذ نفوه عمّن هو أخصّ أوصافه فقد نفوه عنه وقيل الكاف في الآية غير زائدة ثم اختلف فقيل الزائد مثل كما زيدت في «فإن آمنوا بمثل ما آمنتم» قالوا وإنما زيدت هنا لتفصل الكاف من الضمير انتهى والقول بزيادة الحرف أولى من القول بزيادة الاسم بل زيادة الأسماء لم تثبت» . ونختم هذا البحث بقول الزمخشري في كشافه وقد قطعت جهيزة قول كل خطيب قال: «قالوا: مثلك لا يبخل فنفوا البخل عن مثله وهم يريدون نفيه عن ذاته قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية لأنهم إذا نفوه عمّن يسدّ مسدّه وعمّن هو على أخصّ أوصافه فقد نفوه عنه ونظيره قولك للعربي: العرب لا تخفر الذمم، كان أبلغ من قولك أنت لا تخفر ومنه قولهم قد أيفعت لداته وبلغت أترابه، يريدون إيفاعه وبلوغه، وفي حديث رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب: ألا وفيهم الطيب الطاهر لداته، والقصد إلى طهارته وطيبه، فإذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله: ليس كالله شيء وبين قوله ليس كمثله شيء إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها وكأنها عبارتان متعقبتان على معنى واحد وهو نفي المماثلة عن ذاته ونحو قوله عز وجل: «بل يداه مبسوطتان» فإن معناه بل هو جواد من غير تصوّر يد ولا بسط لها لأنها وقعت عبارة عن الجود لا يقصدون شيئا آخر حتى أنهم استعملوها فيمن لا يدله فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل ومن لا مثل له، ولك أن تزعم أن كلمة التشبيه كررت للتأكيد كما كررها من قال: وصاليات ككما يؤثفين، ومن قال: فأصبحت مثل كعصف مأكول» . وعقب ابن المنير القاضي على كلام الزمخشري فقال: «هذا الوجه الثاني مردود على ما فيه من الإخلال بالمعنى وذلك أن الذي يليق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 18 هنا تأكيد نفي المماثلة والكاف على هذا الوجه إنما تؤكد المماثلة وفرّق بين تأكيد المماثلة المنفية وبين تأكيد نفي المماثلة فإن نفي المماثلة المهملة عن التأكيد أبلغ وآكد في المعنى من نفي المماثلة المقترنة بالتأكيد إذ يلزم من نفي المماثلة غير المؤكدة نفي كل مماثلة ولا يلزم من نفي مماثلة محققة متأكدة بالغة نفي مماثلة دونها في التحقيق والتأكيد وحيث وردت الكاف مؤكدة للماثلة وردت في الإثبات فأكدته» إلى أن يقول: «والوجه الذي ذكره هو الوجه في الآية عنده وأتى بمطية الضعف في هذا الوجه الثاني بقوله: ولك أن تزعم فافهم» . [سورة الشورى (42) : الآيات 13 الى 15] شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 19 اللغة: (يَجْتَبِي إِلَيْهِ) يجتلب إليه، والاجتباء افتعال من الجباية وهي الجمع. قال الراغب: يقال جبيت الماء في الحوض أي جمعته ومنه قوله تعالى: يجبى إليه ثمرات كل شيء. والاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء قال تعالى: قالوا لولا اجتبيتها، واجتباء الله العبد تخصيصه إياه بغيض إلهي لتحصل له أنواع النعم بلا سعي منه. الإعراب: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) لك أن تجعله خبرا عاشرا، ولك أن تجعله كلاما مستأنفا مسوقا للشروع في تفصيل ما أجمله أولا. وشرع فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو ولكم متعلقان بشرع ومن الدين حال وما مفعول به وجملة وصى صلة وبه متعلقان بوصي ونوحا مفعول به والذي عطف على ما وجملة أوحينا صلة وإليك متعلقان بأوحينا (وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) عطف على ما تقدم أيضا وتخصيص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لإنافتهم وعلو شأنهم لأنهم أولو العزم من الرسل (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أن تفسيرية بمعنى أي لأنها سبقت بما فيه معنى القول دون حروفه وهو وصى، ويجوز أن تكون مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر في محل رفع خبرا لمبتدأ محذوف تقديره هو أن أقيموا، أو في محل نصب بدلا من الموصول وهو ما، أو في محل جر بدلا من الدين. وأقيموا الدين فعل أمر وفاعل ومفعول به والواو عاطفة ولا ناهية وتتفرقوا فعل مضارع مجزوم بلا وفيه متعلقان بتتفرقوا (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) كلام مستأنف وكبر فعل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 20 ماض وعلى المشركين متعلقان بكبر وما فاعل وجملة تدعوهم صلة وإليه متعلقان بتدعوهم والله مبتدأ وجملة يجتبي خبر وإليه متعلقان بيهدي ومن مفعول به وجملة يشاء صلة ويهدي عطف على يجتبي وإليه متعلقان بيهدي ومن مفعول به وجملة ينيب صلة (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان حال أهل الكتاب بعد الإشارة الإجمالية إلى أحوال أهل الشرك. وما نافية وتفرقوا فعل ماض وفاعل وإلا أداة حصر ومن بعد متعلقان بتفرقوا والاستثناء من أعمّ الأحوال فيتعلق بمحذوف حال أيضا وما مصدرية مؤولة مع ما في حيزها بمصدر مضاف إلى الظرف وجاءهم العلم فعل ماض ومفعول به وفاعل وبغيا مفعول لأجله أو مصدر مؤول بالمشتق فهو منصوب على الحال أي باغين وبينهم متعلق ببغيا أي لم يكن تفرقهم لقصور في البيان والحجج ولكن للبعي والظلم والاشتغال بالدنيا (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) الواو عاطفة ولولا حرف امتناع لوجود وكلمة مبتدأ محذوف الخبر وجملة سبقت نعت لكلمة ومن ربك متعلقان بسبقت وإلى أجل متعلقان بسبقت ومسمى نعت لأجل واللام واقعة في جواب لولا وقضي فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل المصدر المفهوم من قضي أي القضاء وبينهم متعلق بقضي والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) الواو حرف عطف ولك أن تجعلها حالية مبينة لكيفية كفر المشركين بالقرآن، وإن واسمها وجملة أورثوا صلة وأورثوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل والكتاب مفعول به ثان واللام المزحلقة وفي شك خبر إن ومنه نعت لشك ومريب نعت ثان (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) الفاء الفصيحة ولذلك متعلقان بادع والفاء الثانية تأكيد للفاء الأولى واللام بمعنى إلى أي إن عرفت هذا كله وأدركت نواجم التفرق فادع إلى الاتفاق على الملّة الحنيفية، واستقم عطف على ادع والكاف نعت لمصدر محذوف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 21 ويجوز في ما أن تكون مصدرية أو موصولة والاستقامة لزوم المنهج المستقيم وقد تقدم القول في الخط المستقيم وأن أقل انحراف يخرجه عن حدود استقامته (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ) الواو عاطفة ولا ناهية وتتبع فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت وأهواءهم مفعول به وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وجملة آمنت مقول القول وبما متعلقان بآمنت وجملة أنزل الله صلة والعائد محذوف أي أنزله الله ومن كتاب حال (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) عطف على آمنت واللام لام الصيرورة وأعدل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام الصيرورة وبينكم ظرف متعلق بأعدل وهذا أسلم من قول الجلال وشارحيه أن اللام بمعنى الباء وأن المصدرية مقدرة ، إذ لم نر اللام ترد بمعنى الباء ولم يذكر أحد من النحاة أن أن المصدرية تضمر بعد الباء وإنما المراد أن الأمر مفض إلى العدل بينكم (اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) لفظ الجلالة مبتدأ وربنا خبره ولكم عطف على ربنا ولنا خبر مقدّم وأعمالنا مبتدأ مؤخر ولكم خبر مقدم وأعمالكم مبتدأ مؤخر (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) لا نافية للجنس وحجة اسمها مبني على الفتح وبيننا ظرف متعلق بمحذوف خبر أي لا خصومة بيننا وبينكم لأن الباطل لجلج والحق أبلج وقد ظهر الحق وصرتم محجوجين فلا معنى لإيراد الحجج، والله مبتدأ وجملة يجمع خبر وبيننا ظرف متعلق بيجمع أي يوم القيامة وإليه خبر مقدم والمصير مبتدأ مؤخر. الفوائد: 1- لام التعليل أو الصيرورة: ينصب المضارع بأن مضمرة جوازا بعد اللام الجارّة وهي المسماة بلام التعليل أو لام العاقبة والصيرورة نحو وأمرنا لنسلم لرب العالمين ويجوز إظهار أن نحو وأمرت لأن أكون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 22 أول المسلمين فإن سبقت اللام بالكون المنفي وجب إضمار أن وسمّيت اللام لام الجحود وقد تقدم بحثها. 2- أولو العزم من الرسل: معنى أولو العزم من الرسل أي الذين تحملوا المشاق وصبروا على ما نالهم من إيذاء قومهم بعد أن تصدّوا لهدايتهم، وقد جمعهم بعضهم بقوله: محمد إبراهيم موسى كليمه ... فعيسى فنوح هم أولو العزم فاعلم [سورة الشورى (42) : الآيات 16 الى 19] وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) اللغة: (داحِضَةٌ) باطلة وفي المختار: دحضت حجته بطلت وبابه خضع وأدحضها الله ودحضت رجله زلقت وبابه قطع والإدحاض الإزلاق والدحض بفتح الدال وسكون الحاء المهملتين وبفتح الحاء أيضا وآخره ضاد معجمة هو الزلق وفي حديث رواه أحمد عن أبي أسماء «أنه دخل على أبي ذر وهو بالرّبذة وعنده امرأة سوداء مشنعة ليس عليها أثر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 23 المحاسن ولا الخلوق فقال: ألا تنظرون إلى ما تأمرني به هذه السويداء؟ تأمرني أن آتي العراق فإذا أتيت العراق مالوا عليّ بدنياهم وإن خليلي صلّى الله عليه وسلم عهد إليّ أن دون جسر جهنم طريقا ذا دحض ومزلّة وإنّا أن نأتي عليه وفي أحمالنا اقتدار واضطمار أحرى أن ينجو من أن نأتي عليه ونحن مواقير» . (مُشْفِقُونَ) خائفون. الإعراب: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) والذين مبتدأ وجملة يحاجّون صلة وفي الله متعلقان بيحاجّون وهو على حذف مضاف أي في دين الله ومن بعد حال وما مصدرية مؤولة مع ما في حيزها بمصدر مضاف إلى الظرف وله في موضع رفع نائب فاعل استجيب أو متعلق به ونائب الفاعل مستتر وحجتهم مبتدأ وداحضة خبر حجتهم والمبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول وهو اسم الموصول وعند ربهم ظرف متعلق بداحضة (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) الواو عاطفة وعليهم خبر مقدم وغضب مبتدأ مؤخر ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وشديد نعت لعذاب (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) الله مبتدأ والذي خبره وجملة أنزل الكتاب صلة وبالحق متعلقان بأنزل فالباء للملابسة أو بمحذوف حال والميزان عطف على الحق (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) الواو عاطفة وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة يدريك خبر ولعلّ واسمها وخبرها وجملة لعلّ الساعة قريب مفعول ثان لأدري لأنها علقت عن العمل بالترجّي ولا بدّ من تقدير مضاف أي لعلّ مجيء الساعة قريب ولا يقال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 24 إن قريب يستوي فيه المذكّر والمؤنث لأن فعيلا هنا بمعنى فاعل لا بمعنى مفعول وقال أبو البقاء «يجوز أن يكون ذكر على معنى الزمان أو على معنى البعث أو على النسب أي ذات قرب» قلت: وقد شبّهوا فعيلا التي بمعنى فاعل بالتي بمعنى مفعول فأسقطوا منها التاء فمن ذلك قوله تعالى: «إن رحمة الله قريب من المحسنين» وهو بمعنى مقترب شبّهوه بقتيل ونحوه وقيل إنما أسقطت منه التاء لأن الرحمة والرحم واحد فحملوا الخبر على المعنى ويؤيده قوله تعالى «هذا رحمة من ربي» وسيأتي بحث ما يستوي فيه المذكّر والمؤنث في باب الفوائد (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) يستعجل فعل مضارع مرفوع وبها متعلقان بيستعجل والذين فاعل وجملة لا يؤمنون بها صلة (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) الواو عاطفة والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة ومشفقون خبر ومنها متعلقان بمشفقون والواو عاطفة ويعلمون فعل مضارع مرفوع وأن وما في حيزها سدّت مسدّ مفعولي يعلمون (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) ألا أداة تنبيه وإن واسمها وجملة يمارون صلة وفي الساعة متعلقان بيمارون والمماراة الملاجة لأن كل واحد منها يمري ما عند صاحبه أي يستخرج واللام المزحلقة وفي ضلال خبر إن وبعيد نعت لضلال (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) الله مبتدأ ولطيف خبر وبعباده متعلقان بلطيف وجملة يرزق خبر ثان ومن مفعول به وجملة يشاء صلة والواو حرف عطف وهو مبتدأ والقوي خبر والعزيز خبر ثان. الفوائد: متى يستوي المذكر والمؤنث. يستوي المذكّر والمؤنث في خمسة أوزان: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 25 1- فعول: بفتح الفاء بمعنى فاعل كرجل صبور بمعنى صابر وامرأة صبور بمعنى صابرة وأما قولهم امرأة ملولة من الملل بمعنى مالّة فالتاء فيه ليست للفصل وإنما هي للمبالغة بدليل دخولها في المذكّر نحو رجل ملولة وأما امرأة عدوة فشاذ لخروجه عن القاعدة ومع ذلك فإنه محمول على صديقة كما في عكسه وهو حمل صديق على عدو في قوله «وأنت صديق» والقياس صديقة وهم يحملون الضدّ على ضدّه كما يحملون النظير على نظيره ولو كان فعول بمعنى مفعول لحقته التاء الفاصلة جوازا نحو جمل ركوب وناقة ركوبة. قال عنترة: فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سودا كخافية الغراب الأعصم 2- فعيل: بمعنى مفعول نحو رجل جريح وامرأة جريح بمعنى مجروحة وشذ ملحفة جديدة بالتاء فإنها بمعنى مجدودة ولحقتها التاء فإن كان فعيل بمعنى فاعل لحقته التاء الفاصلة نحو امرأة رحيمة وظريفة فإن قلت مررت بقتيلة بني فلان ألحقت التاء خشية الإلباس بين المذكّر والمؤنث لأنك لم تذكّر الموصوف المأمون معه الإلباس. 3- مفعال: بكسر الميم منحار يقال رجل منحار وامرأة منحار أي كثير النحر وشذ ميقانة من اليقين وهو عدم التردد يقال رجل ميقان لا يسمع شيئا إلا أيقنه وامرأة ميقانة. 4- فعيل: بكسر الميم كمعطير من العطر وشذ امرأة مسكينة لخروجه عن القاعدة ومع ذلك فإنه محمول على فقيرة وسمع امرأة مسكين على القياس حكاه سيبويه. 5- مفعل بكسر الميم وفتح العين كمغشم وهو الذي لا ينتهي عمّا يريده ويهواه من شجاعته ومدعس من الدعس وهو الطعن. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 26 [سورة الشورى (42) : الآيات 20 الى 21] مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) الإعراب: (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان الفرق بين عملي العاملين بأن من عمل للآخرة وفّق في عمله وضوعفت حسناته ومن كان عمله للدنيا أعطي شيئا منها لا ما يريده ويطمح إليه ولم يكن له نصيب في الآخرة. ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وكان فعل ماض واسمها يعود على من وجملة يريد خبر كان وحرث الآخرة مفعول يريد ونزد جواب الشرط وله متعلقان بنزد وفي حرثه متعلقان بنزد أيضا (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) جملة (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) عطف على الجملة السابقة والواو حالية أو عاطفة وما نافية ويجوز أن تكون حجازية عند من يجيز تقدم الخبر وله خبر مقدّم وفي الآخرة حال ومن حرف جر زائد ونصيب مبتدأ أو اسم ما (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) أم قدّرها بعضهم ببل الانتقالية وقدّرها الزمخشري ببل والهمزة للتقريع والتوبيخ ولهم خبر مقدم وشركاء مبتدأ مؤخر وجملة شرعوا نعت لشركاء ولهم متعلقان بشرعوا ومن الدين حال لأنه كان نعتا للمفعول أي شرعا من الدين والمقصود به الشرك الذي لم يأذن به الله وما مفعول به وجملة لم يأذن صلة وبه متعلقان بيأذن والله فاعل (وَلَوْلا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 27 كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) الواو عاطفة ولولا حرف امتناع لوجود وكلمة الفصل مبتدأ والخبر محذوف واللام واقعة في جواب لولا وجملة قضي بينهم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الواو استئنافية وإن واسمها ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم نعت وجملة لهم عذاب أليم خبر إن. البلاغة: الاستعارة التصريحية في قوله «من كان يريد حرث الآخرة» الآية استعارة تصريحية، شبّه ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة والنماء بالحرث، والحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض ويطلق على الزرع الحاصل منه ثم حذف المشبه وهو العمل وأبقى المشبه به وهو الحرث للدلالة على نتائج الأعمال وثمراتها وشبهه بالزرع من حيث أنه فائدة تحصل بعمل الدنيا ولذلك قيل: الدنيا مزرعة الآخرة. [سورة الشورى (42) : الآيات 22 الى 23] تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 28 الإعراب: (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) الخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية، والظالمين مفعول به ومشفقين حال لأن الرؤية بصرية ومما متعلقان بمشفقين وجملة كسبوا صلة والواو حالية وهو مبتدأ وواقع خبر وبهم متعلقان بواقع والجملة حال ثانية والضمير يعود على الكسب أو الإشفاق (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا وفي روضات الجنات خبر (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) لهم خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وجملة يشاءون صلة وعند ربهم ظرف للاستقرار العامل في لهم ويجوز أن يكون ظرفا ليشاءون، ومنع الزمخشري الثاني وذلك متبدأ وهو مبتدأ ثان والفضل خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول والكبير نعت ولك أن تجعل هو ضمير فصل لا محل له (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) اسم الإشارة مبتدأ والذين خبره وجملة يبشر الله عباده صلة والعائد محذوف أي يبشر به عباده والذين آمنوا نعت وعملوا الصالحات عطف على آمنوا (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) قل فعل أمر وفاعله مستتر أي قل جوابا لأولئك الذين تحاوروا فيما بينهم: أترون محمدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا؟ ولا نافية وأسألكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول وعليه حال وأجرا مفعول به ثان وإلا المودّة يجوز أن يكون استثناء متصلا أي لا أسألكم أجرا إلا هذا وهو أن تودّوا أهل قرابتي، ويجوز أن يكون منقطعا أي لا أسألكم أجرا قطّ ولكنني أسألكم أن تودّوا قرابتي الّذين هم قرابتكم، وفي القربى متعلقان بمحذوف حال أي ثابتة في القربى والقربى مصدر كالزلفى والبشرى وسيأتي مزيد من بحث هذه الآية (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 29 شَكُورٌ) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويقترف فعل مضارع فعل الشرط وحسنة مفعول به أي ومن يكتسب حسنة وأصل القرف الكسب يقال فلان يقرف لعياله كسبا من باب ضرب ونزد جواب الشرط وله متعلقان بنزد وفيها حال وحسنا مفعول به وإن واسمها وخبراها والجملة تعليلية. البلاغة: في قوله «إلا المودّة في القربى» مجاز مرسل علاقة المحلية ولذلك لم يقل إلا مودّة القربى أو إلا المودّة للقربى، فقد جعلوا مكانا للمودّة ومقرا لها كقولك لي في آل فلان مودة ولي فيهم هوى شديد تريد: أحبهم وهم مكان حبي ومحله. وقد اختلف في هذه الآية اختلافا كثيرا يرجع إليه في المطولات وأحسن ما قرأناه في صددها ما ذكره مجاهد وقتادة وخلاصته: والمعنى أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى وصلوا رحمي ولا تؤذوني. [سورة الشورى (42) : الآيات 24 الى 26] أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 30 الإعراب: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) أم حرف عطف وهي منقطعة بمعنى بل ويقولون فعل مضارع مرفوع وجملة افترى مقول القول وعلى الله متعلقان بافترى وكذبا مفعول به (فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) الفاء استئنافية أو عاطفة وإن شرطية ويشأ فعل الشرط والله فاعل ويختم جواب الشرط وعلى قلبك متعلقان بيختم وقد اختلف في معنى الختم فقال الزمخشري: «فإن يشإ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى تفتري عليه الكذب فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل ما لهم، وهذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله وأنه في البعد مثل الشرك بالله والدخول في جملة المختوم على قلوبهم» وهذا كلام جميل فيه نفح من البلاغة مسكر وقال الجلال «فإن يشإ الله يختم: يربط على قلبك بالصبر على أذاهم بهذا القول وغيره وقد فعل فمشيئة الختم هنا مقطوع بوقوعها» وهذا كلام جميل أيضا وارد في هذا المقام (وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) كلام مستأنف غير داخل في جزاء الشرط لأنه تعالى يمحو لباطل مطلقا وقد سقطت الواو لفظا لالتقاء الساكنين وسقطت في بعض المصاحف خطأ حملا له على اللفظ، ويمحو الله الباطل فعل مضارع وفاعل ومفعول به ويحقّ الحق عطف على يمحو الله الباطل وبكلماته متعلقان بيحق وإن واسمها وعليم خبرها وبذات الصدور متعلقان بعليم (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان قبول التوبة إذا استوفت شروطها الثلاثة إذا كانت المعصية بين العبد وربه وهي: 1- الإقلاع عن المعصية 2- الندامة على فعلها 3- العزم على عدم العودة إليها أبدا، فإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي أضيف إليها شرط رابع وهو 4- أن يبرأ من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 31 حق صاحبها، وهناك مباحث مطولة تتعلق بالتوبة يرجع إليها في المطولات. وهو مبتدأ والذي خبر وجملة يقبل التوبة صلة وعن عباده متعلقان بالتوبة و «عن» هنا إما بمعنى «من» أو أن القبول يتعدى إلى مفعول ثان بمن وعن لتضمنه معنى الأخذ والإبانة فتلضمنه معنى الأخذ يتعدى بمن، يقال قبلته منه أي أخذته، ولتضمنه معنى الإبانة والتفريق يتعدى بعن، يقال قبلته عنه أي أزلته وأبنته عنه، وسيأتي كلام لطيف لعلي بن أبي طالب في التوبة في باب الفوائد، ويعفو عن السيئات عطف على ما تقدم وكذلك قوله ويعلم ما تفعلون وقرئ بالياء (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) الواو عاطفة ويستجيب فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره يعود على الله تعالى والذين نصب بنزع الخافض أي ويستجيب للذين آمنوا فحذف الجار كما حذف في قوله «وإذا كالوهم» أي يثيبهم على طاعتهم ويزيدهم على الثواب تفضلا، وأجاز السمين أن يكون اسم الموصول فاعلا أي يجيبون ربهم إذا دعاهم والسين والتاء زائدتان وأجاز أن يكون مفعولا به بعد أن تقررت زيادة السين والتاء أي يجيب الله الذين آمنوا والأول أقوم. وعملوا الصالحات عطف على آمنوا دخل في حيز الصلة ويزيدهم عطف أيضا ومن فضله متعلقان بيزيدهم وإلى هذا الأخير ذهب السيوطي وأبو البقاء (وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) الكافرون مبتدأ ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وشديد نعت والجملة خبر الكافرون. الفوائد: التوبة وكلمة سيدنا علي: روى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبّر، فلما فرغ من صلاته قال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه يا هذا إن سرعة اللسان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 32 بالاستغفار توبة الكذابين وتوبتك تحتاج إلى التوبة، فقال يا أمير المؤمنين وما التوبة؟ قال اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة وردّ المظالم، وإذابة النفس في الطّاعة كما ربيتها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكة» . وأخرج الأصبهاني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: النادم ينتظر من الله الرحمة، والمعجب ينتظر المقت، واعلموا عباد الله أن كلّ عامل سيقدم على عمله ولا يخرج من الدنيا حتى يرى حسن عمله، وسوء عمله وإنما الأعمال بخواتيمها، والليل والنهار مطيتان فأحسنوا السير عليهما إلى الآخرة واحذروا التسويف فإن الموت يأتي بغتة، ولا يغترن أحدكم بحلم الله عزّ وجلّ فإن الجنة والنار أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرّا يره» . ومعنى الشراك: أحد سيور النعل التي تكون على وجهها، وهذا على سبيل التقريب والتفهيم إلى أن النعيم والعذاب مدرك بسرعة وبعد خروج الروح يرى المؤمن الطائع ثوابه، والعاصي عقابه، فالعاقل من تاب إلى الله وأسرع في الطاعة وجد في العبادة ولا يعلم انتهاء العمر إلا الله، فالنبي يرغّب المؤمن في التوبة رجاء إدراك رحمة الله وثوابه ويبغضه بالقنوط وينفره من الكبر والغرور كما قال تعالى: «اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 33 هذا وقد صوّر المتنبي التوبة والجنوح إلى المثل الأعلى بقوله الممتع: ومن يجد الطريق إلى المعالي ... فلا يذر المطي بلا سنام ولم أر في عيوب الناس عيبا ... كنقص القادرين على التمام [سورة الشورى (42) : الآيات 27 الى 31] وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) الإعراب: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لبيان أن بسط الرزق مفسدة للخلق، ولو شرطية وبسط الله الرزق فعل وفاعل ومفعول به ولعباده متعلقان ببسط واللام واقعة في جواب لو وجملة بغوا في الأرض لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وسيأتي بحث في معنى لو هنا وانتفاء البغي مع وجوده في باب الفوائد (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) الواو حالية ولكن حرف استدراك مهمل وينزل فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو وبقدر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 34 متعلقان بمحذوف حال وما مفعول به وجملة يشاء صلة وإن واسمها وبعباده متعلقان بخبير وخبير بصير خبران لإن (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) الواو عاطفة وهو مبتدأ والذي خبره وجملة ينزل الغيث صلة ومن بعد حال وما مصدرية وهي مع مدخولها في تأويل مصدر مجرور بالإضافة إلى الظرف أي من بعد قنوطهم وينشر رحمته عطف على ينزل الغيث وهو مبتدأ والولي الحميد خبراه (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) الواو عاطفة ومن آياته خبر مقدم وخلق السموات والأرض مبتدأ مؤخر وما في محل رفع أو جر فالأول معطوف على المضاف والثاني على المضاف إليه وهذا أرجح لسلامته من التقدير إذ لا بدّ من تقدير مضاف على الأول أي خلق ما بثّ وجملة بثّ صلة وفيهما متعلقان ببثّ ومن دابة في موضع نصب على الحال وسيأتي مزيد بحث عن هذه الآية في باب البلاغة (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) وهو مبتدأ وعلى جمعهم متعلقان بقدير وإذا ظرف مستقبل متعلق بجمعهم وجملة يشاء في محل جر بإضافة الظرف إليها وقدير خبر هو (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) الواو عاطفة وما شرطية وأصابكم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط ومن مصيبة حال والفاء رابطة وبما متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف أي فذلك بما كسبت وما موصولة مجرورة بالباء وجملة كسبت صلة وأيديكم فاعل، هذا ويجوز أن تكون ما موصولة والفاء داخلة في الخبر تشبيها للموصول بالشرط والواو عاطفة ويعفو فعل مضارع وفاعله مستتر يعود على الله وعن كثير متعلقان بيعفو (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) الواو عاطفة وما نافية حجازية وأنتم اسمها والباء حرف جر زائد ومعجزين مجرور لفظا منصوب محلا خبر ما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 35 وفي الأرض حال والواو عاطفة وما نافية أو حجازية ولكم خبر مقدم ومن دون الله حال ومن حرف جر زائد ووليّ مبتدأ مؤخر مرفوع محلا أو اسم ما ولا نصير عطف على من ولي. البلاغة: 1- صحة التفسير في قوله «وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا» الآية فن صحة التفسير وهو أن يأتي المتكلم في أول كلامه بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه إما أن يكون مجملا يحتاج إلى تفصيل أو موجها يفتقر إلى توجيه، أو محتملا يحتاج المراد منه إلى ترجيح لا يحصل إلا بتفسيره وتبيينه، ووقوع التفسير يأتي في الكلام على أنحاء تارة يأتي بعد الشرط أو بعد ما فيه معنى الشرط وطورا بعد الجار والمجرور كما في هذه الآية وقد جاءت صحة التفسير فيها مؤذنة بمجيء الرجاء بعد اليأس والفرج بعد الشدّة والمسرّة بعد الحزن ليكون ذلك أحلى موقعا في القلوب. 2- نسبة الشيء إلى الكل والمراد البعض في قوله «وما بثّ فيهما من دابة» نسبة الشيء إلى جميع المذكور والمراد إلى بعضه كقوله تعالى «يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان» وإنما يخرج من الملح، وقد ورد اختصاص الأرض بالدابة في موضع آخر قال تعالى: «إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار» ثم قال «وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبثّ فيها من كل دابة» فخصّ هذا الأمر بالأرض. الفوائد: 1- تقدّم في هذا الكتاب الكثير من مباحث «لو» وفي قوله «ولو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 36 بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض» يرد سؤال وهو: أن البغي حاصل بالفعل فكيف يصحّ انتفاؤه بمقتضى لو الامتناعية والجواب أن المراد بالنفي جميع الناس كما جعل الملزوم المنتفي أيضا البسط للجميع بدليل الواو التي تقتضي مطلق الجمع، وأورد الزمخشري سؤالا آخر وأجاب عنه وفيما يلي نص السؤال والجواب: «فإن قلت: قد نرى الناس يبغي بعضهم على بعض ومنهم مبسوط لهم ومنه مقبوض عنهم فإن كان المبسوط لهم يبغون فلم بسط لهم وإن كان المقبوض عنهم يبغون فقد يكون البغي بدون البسط فلم شرطه؟ قلت: لا شبهة في أن البغي مع الفقر أقل ومع البسط أكثر وأغلب وكلاهما سبب ظاهر للإقدام على البغي والإحجام عنه فلو عمّ البسط لغلب البغي حتى ينقلب الأمر إلى عكس ما عليه الآن» . 2- هل تدخل إذا على المضارع؟ يجوز دخول إذا على المضارع كما تدخل على الماضي قال الله تعالى «والليل إذا يغشى» ومنه «إذا يشاء» وقول الشاعر: وإذا ما أشاء أبعث منها ... آخر الليل ناشطا مذعورا وذلك لأن إذا ظرف للمستقبل فإذا دخل على الماضي كان مستقبلا أو على المضارع كان نصّا في الاستقبال، وواضح أن الشاعر جرّد من الناقة أمرا آخر لشدة سيرها فلذلك قال منها، وأصل المعنى أبعثهما في آخر الليل كالناشط وهو الثور الوحشي يخرج من أرض إلى أخرى والمذعور الخائف وهو كناية عن سريع السير جدا. [سورة الشورى (42) : الآيات 32 الى 35] وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 37 اللغة: (الْجَوارِ) السفن وهي بحذف الياء في الخط لأنها من ياءات الزوائد وبإثباتها وحذفها في اللفظ في كلّ من الوصل والوقف وقد قرىء بها جميعها، قال أبو حيان: «جمع جارية وهي صفة جرت مجرى الأسماء فوليت العوامل» وقال الشهاب الحلبي: فإن قلت الصفة متى لم تكن خاصة بموصوفيها امتنع حذف الموصوف، لا تقول: مررت بماش لأن المشي عامّ وتقول مررت بمهندس وكاتب، والجري ليس من الصفات الخاصة بالموصوف وهو السفن فلا يجوز حذفه والجواب أن محل الامتناع إذا لم تجر الصفة مجرى الجوامد بأن تغلب عليها الاسمية كالأبطح والأبرق وإلا جاز حذف الموصوف. (الأعلام) الجبال جمع علم قالت الخنساء: وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار وهو أحد معانيه الكثيرة. (رَواكِدَ) ثوابت لا تجري يقال ركد الماء ركودا من باب قعد سكن وكذلك الريح والسفينة والشمس إذا قام قائم الظهيرة وكل ثابت في مكان فهو راكد وركد الميزان: استوى وركد القوم: هدءوا. (يُوبِقْهُنَّ) يهلكهنّ يقال وبق يبق مثل وعد يعد ووبق يبق من باب تعب يتعب وبقا بسكون الباء ووبق يوبق وبقا بفتح الباء ووبوقا وموبقا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 38 واستوبق: هلك فهو وبق وأوبقه إيباقا أهلكه وذلّله وحبسه. الإعراب: (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) من آياته خبر مقدم والجوار مبتدأ مؤخر وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء المحذوفة خطا ولفظا أو خطا فقط وفي البحر حال وكالأعلام حال أيضا وقد تقدم في باب اللغة أن الجوار غلبت عليها الاسمية وعبارة أبي البقاء «الجوار مبتدأ أو فاعل ارتفع بالجار وفي البحر حال منه والعامل فيه الاستقرار ويجوز أن يتعلق بالجوار وكالأعلام على الوجه الأول حال ثانية وعلى الوجه الثاني هي حال من الضمير في الجوار» (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) إن شرطية ويشأ فعل الشرط والفاعل مستتر جوازا تقديره هو يعود على الله تعالى ويسكن جواب الشرط والريح مفعول به والفاء عاطفة ويظللن فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة في محل جزم عطف على يسكن الريح وهو بفتح اللام لأن الماضي بكسرها تقول ظللت قائما ونون النسوة اسم يظللن لأنه فعل ناقص ورواكد خبرها وعلى ظهره متعلقان برواكد (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسم إن ولكل نعت لآيات وصبّار مضاف إليه وشكور نعت لصبّار (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) أو حرف عطف ويوقهنّ عطف على يسكن أي يفرقهنّ بعصف الريح عليهن، قال الزمخشري: «فإن قلت علام عطف يوبقهنّ؟ قلت على يسكن لأن المعنى إن يشأ يسكن الريح فيركدن أو يعصفها فيفرقنّ بعصفها» أو بطروء خلل على أجهزتها، وبما متعلقان بيوبقهنّ ويجوز في ما أن تكون موصولة أو مصدرية والباء للسببية أي بسبب ما كسبوه من الذنوب ويعف عطف على يسكن أيضا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 39 والمعنى أو إن يشأ يهلك ناسا وينج ناسا على طريق العفو عنهم وعن كثير متعلقان بيعف (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) الواو حرف عطف ويعلم معطوف على تعليل مقدّر أي يفرقهم لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون، هكذا قدّره الزمخشري والجلال السيوطي، وردّ أبو حيّان قائلا «ويبعد تقديره لينتقم منهم لأن الذي ترتب على الشرط إهلاك قوم ونجاة قوم فلا يحسن تقدير العلة أحد الأمرين» وتعقبه الكرخي فقال في الردّ عليه والدفاع عن إعراب السيوطي: «بل يحسن تقديره لينتقم منهم كما قال شيخنا لأن المقصود تعليل الإهلاك فقط الذي قدّره السيوطي بقوله يفرقهم إذ هو المناسب للعلة المعطوفة وهي ويعلم، ودافع الزمخشري عن الإعراب الأول وهو العطف على التعليل المحذوف بقوله: ونحوه في العطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن ومنه قوله تعالى: «ولنجعله آية للناس» وقوله «وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت» أما الزجّاج فأعربه بالنصب على إضمار أن وتبعه أبو البقاء قال: لأن قبلها جزاء تقول: ما تصنع أصنع مثله وأكرمك بالنصب وإن شئت وأكرمك بالرفع على وأنا أكرمك وإن شئت وأكرمك بالجزم، قال الزمخشري: «وفي هذا الإعراب نظر لأن سيبويه قال في كتابه: «واعلم أن النصب بالفاء والواو في قوله: إن تأتني آتك وأعطيك ضعيف وهو نحو من قوله «وألحق بالحجاز فاستريحا» فهذا يجوز وليس بحدّ الكلام ولا وجهه إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلا لأنه ليس بواجب أنه يفعل إلا أن يكون من الأول فعل فلما ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه أجازوا فيه هذا على ضعفه» قال الزمخشري: «ولا يجوز أن تحمل القراءة المستفيضة على وجه ضعيف ليس بحد الكلام ولا وجهه ولو كانت من هذا الباب لما أخلى سيبويه منها كتابه وقد ذكر نظائرها من الآيات الجزء: 9 ¦ الصفحة: 40 المشكلة» هذا وقد قرىء ويعلم بالرفع على الاستئناف على أنه جملة اسمية أو فعلية فعلى كونها اسمية يكون الموصول مفعولا به والفاعل ضميرا مستترا يعود على مبتدأ مضمر أي وهو يعلم الذين استجابوا وعلى كونها فعلية يكون الموصول فاعلا، وقرىء بالجزم بالعطف على الجواب السابق كأنه قال: وإن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور: هلاك قوم ونجاة آخرين وتحذير آخرين، والذين فاعل أو مفعول به كما تقدم وجملة يجادلون صلة وفي آياتنا متعلقان بيجادلون وما نافية أو نافية حجازية ولهم خبر مقدم ومن حرف جر زائد ومحيص مجرور لفظا مرفوع محلا على الابتداء وعلى أنه اسم ما وجملة النفي سدّت مسدّ مفعولي يعلم المعلقة بالنفي عن العمل. البلاغة: الريح بين الإفراد والجمع تقدم في موضع آخر من هذا الكتاب أن الريح لم ترد مفردة في القرآن إلا عذابا، وقد حاول بعضهم أن يخرم هذا الإطلاق فقال إن قوله تعالى: «إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره» يخرم هذا الإطلاق لأن الريح المذكورة نعمة. قلت: وهذا فهم خاطئ بل إنه على العكس يؤكد سريان هذه القاعدة على إطلاقها لأنه صدّرها بإن الشرطية فأفهم ذلك أن الأصل في الريح المفردة العذاب وأنه إذا أراد الخروج بها عن إطلاقها قيدها بإن الشرطية حتى إذا تمّ ذلك أعاد الضمير عليها مجموعا فقال فيظللن رواكد أي الرياح، وقد أيد الحديث الشريف ما ذهبنا إليه من الإطلاق فقال: «اللهمّ اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 41 [سورة الشورى (42) : الآيات 36 الى 39] فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) الإعراب: (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) الفاء استئنافية وما شرطية في محل نصب مفعول به ثان مقدّم لأوتيتم والأول هو ضمير المخاطبين وهو نائب الفاعل ومن شيء بيان ل «ما» في محل نصب حال فمتاع: الفاء رابطة للجواب ومتاع خبر لمبتدأ محذوف أي فهو متاع الحياة الدنيا (وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الواو عاطفة وما موصولة في محل رفع مبتدأ وعند الله ظرف متعلق بمحذوف لا محل له من الإعراب لأنه صلة لما وخير خبر ما وأبقى وعطف على خير وللذين آمنوا متعلقان بأبقى وعلى ربهم متعلقان بيتوكلون وجملة يتوكلون عطف على آمنوا داخلة في حيز الصلة (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) والذين عطف على قوله للذين وجملة يجتنبون صلة وكبائر الإثم مفعول به والفواحش عطف على كبائر (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) الواو عاطفة وإذا ظرف متعلق بيغفرون وما زائدة وجملة غضبوا في محل جر بإضافة إذا إليها وهم مبتدأ وجملة يغفرون خبرهم والجملة بأسرها عطف على جملة يجتنبون داخلة في حيز الصلة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 42 والعطف من عطف الاسمية على الفعلية، ويشكل على هذا جواب إذا، وقد جعله أبو البقاء هم يغفرون وهو غير صحيح لأنه لو كان جوابا لاقترن بالفاء والأولى أنه محذوف تقديره يغفرون حذف لدلالة يغفرون الواقعة خبرا عليه (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) عطف على ما تقدم وجملة استجابوا صلة ولربهم متعلقان باستجابوا وأقاموا فعل وفاعل والصلاة مفعول به وأمرهم مبتدأ وشورى خبر وبينهم ظرف في موضع نصب على الحال وأفرد هذه الجملة بالذكر لمزيد الاهتمام بالشورى وتنويها بها. وقد اختلف في الشورى وأصح الأقوال أنها عامة ويجمعها نظام الحكم قالوا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر رضي الله عنه الخلافة شورى. ومما متعلقان بينفقون وجملة رزقناهم صلة (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) عطف على ما تقدم وهي في الإعراب كقوله «وإذا ما غضبوا هم ينتصرون» فيقال فيها ما قيل في تلك ويجوز هنا أن يكون هم تأكيدا للضمير المنصوب في أصابهم أكد بالضمير المرفوع وليس فيه إلا الفصل بين المؤكد والمؤكد بالفاعل والظاهر أنه جائز. [سورة الشورى (42) : الآيات 40 الى 43] وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 43 الإعراب: (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) الواو عاطفة وجزاء سيئة مبتدأ وسيئة خبر ومثلها نعت لسيئة وسيأتي معنى هذا الكلام وأسراره في باب البلاغة (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الفاء تفريعية ومن اسم شرط جازم مبتدأ وعفا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وأصلح عطف على عفا والفاء رابطة وأجره مبتدأ وعلى الله خبر والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من وجملة إنه لا يحب الظالمين تعليل وإن واسمها وجملة لا يحب الظالمين خبرها (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) الواو عاطفة واللام للابتداء ومن اسم شرط جازم مبتدأ وانتصر مثل ماض في محل جزم فعل الشرط وبعد ظلمه الظرف متعلق بانتصر وظلمه مضاف إليه والهاء مضافة إلى المصدر والإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله وتؤيده قراءة من قرأ من بعد ما ظلم بالبناء للمجهول والفاء رابطة للجواب وأولئك مبتدأ وما نافية وعليهم خبر مقدم ومن حرف جر زائد وسبيل مجرور لفظا مرفوع بالابتداء محلا والجملة خبر اسم الإشارة وجملة الإشارة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر المبتدأ وهو من (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) إنما كافّة ومكفوفة والسبيل مبتدأ وعلى الذين خبره وجملة يظلمون الناس صلة (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الواو عاطفة ويبغون عطف على يظلمون وفي الأرض متعلقان بيبغون وبغير الحق حال وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم. وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم نعت والجملة خبر أولئك وجملة الإشارة نصب على الحال (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) تقدم إعراب نظيرها قريبا فجدد به عهدا، نعم في الكلام حذف الفاء من قوله إن ذلك وهو جواب الشرط الجزء: 9 ¦ الصفحة: 44 فالأولى جعل من موصولة مبتدأ وقوله إن ذلك خبر، وإن واسمها واللام المزحلقة ومن عزم الأمور خبر. البلاغة: 1- جناس المزاوجة: في قوله «وجزاء سيئة سيئة مثلها» جناس المزاوجة اللفظي فإن السيئة الثانية ليست بسيئة وإنما هي مجازاة عن السيئة، سميت باسمها لقصد المزاوجة، ومثله في البقرة قوله تعالى «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم» فقد تقدم القول هناك أنه تعالى سمى جزاء الاعتداء اعتداء ليكون في نظم الكلام مزاوجة وبعضهم يعبّر عنها بالمشاكلة وبعض المحققين لا يجعله من ذلك الباب بل يقول: إن غرضه تعالى أن السيئة ينبغي أن تقابل بالعفو والصفح عنها فإن عدل عن ذلك إلى الجزاء كان ذلك سيئة مثل تلك السيئة وهذا الكلام لا يخلو من نفحة صوفية روحانية. 2- التهذيب: وفي هذه الآية فن التهذيب أيضا فإنها سلمت من المحذور الذي يقتضي تهذيبها، وتفصيل ذلك أنه عند ما يسند الفعل إلى الله تعالى ينبغي العدول عن إسناد الإساءة إليه كما في قوله «يجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى» فإن صحة المقابلة في هذا النظم أن يقال ليجزي الذين أساءوا بالإساءة حتى تصحّ مقابلته بقوله «ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى» لكن منع من ذلك التزام الأدب مع الله سبحانه في إسناد فعل الإساءة إليه أو الآية التي نحن بصددها فقد أمن فيها ذلك المحذور فأتى النظم على مقتضى البلاغة من مجيء تجنيس الازدواج فيه على وجهه من غير تغير إذ لا ضرورة تدعو إلى تغييره. وفي قوله «فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 45 فنّ رفيع وهو التهذيب أيضا فإن الانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز السيئة والاعتداء خصوصا في حالة الفوران والغليان والتهاب الحمية وفي هذا جواب لمن يتساءل ما معنى ذكر الظلم عقب العفو مع أن الانتصار ليس بظلم. ومن هذا الديباج الخسرواني قوله تعالى «وإذا أذقنا الإنسان منّا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدّمت أيديهم فإن الإنسان كفور» فلم يقل فإنه كفور ليسجل على هذا الجنس أنه موسوم بكفران النعم كما سيأتي قريبا، ومنه أيضا «وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم» فوضع الظالمين موضع الضمير الذي كان من حقه أن يعود على اسم إن فيقال ألا إنهم في عذاب مقيم فأتى هذا الظاهر تسجيلا عليهم بلسان ظلمهم وهذا من البديع الذي يسمو على طاقات المبدعين. الفوائد: حذف الفاء الرابطة: قد تحذف الفاء الرابطة في الندرة كقوله صلى الله عليه وسلم لأبيّ بن كعب لما سأله عن اللقطة: فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها، أخرجه البخاري، أو في الضرورة كقول حسان بن ثابت: من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشر بالشرّ عند الله مثلان أراد فالله يشكرها، وعن المبرد أنه منع ذلك مطلقا ولكنه وارد كثيرا كقوله: ومن لا يزل ينقاد للغي والصبا ... سيلفى على طول السلامة نادما أراد فسيلفى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 46 [سورة الشورى (42) : الآيات 44 الى 46] وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) الإعراب: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) الواو عاطفة ومن شرطية في محل نصب مفعول مقدم ويضلل فعل الشرط والله فاعله والفاء رابطة وما نافية وله خبر مقدم ومن حرف جر زائد وولي مجرور لفظا مرفوع محلا مبتدأ مؤخر ومن بعده صفة لولي (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) تقدم أن الخطاب عام شامل لكل من تتأتى له الرؤية. وترى فعل مضارع مرفوع والرؤية بصرية والظالمين مفعول به ولما حينية أو رابطة ورأوا العذاب فعل ماض وفاعل ومفعول به وجملة يقولون حالية وهل حرف استفهام وإلى مرد أي مرجع متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومن حرف جر زائد وسبيل مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ مؤخر (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) وتراهم عطف على ترى وجملة يعرضون حالية لأن الرؤية بصرية كما تقدم والواو نائب فاعل وعليها متعلقان بيعرضون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 47 والضمير في عليها يعود على النار التي دلّت عليها كلمة العذاب وخاشعين حال ثانية ومن الذل متعلقان بخاشعين أي من أجله وقد يعلق بينظرون ومن طرف متعلقان بينظرون وخفي نعت لطرف وهل المراد بالطرف العين أو المصدر؟ كلاهما يناسب للمقام وفي المختار: «وطرف بصره من باب ضرب إذا أطبق أحد جفنيه على الآخر والمرة منه طرفة يقال أسرع من طرفة عين» وسيأتي مزيد من بحث هذا التصوير المجسّد البارع في باب البلاغة (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الواو حرف عطف وقال الذين آمنوا فعل وفاعل وصلة وإن واسمها والذين خبرها وخسروا أنفسهم فعل وفاعل ومفعول به والجملة صلة وأهليهم عطف على أنفسهم ويوم القيامة ظرف متعلق بخسروا وأجاز الزمخشري أن يتعلق بقال أي يقولون يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) ألا أداة تنبيه وإن واسمها وفي عذاب خبرها ومقيم نعت والجملة من مقول قول الله تعالى ويحتمل أن يكون من كلامهم أيضا (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) الواو عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولهم خبر كان المقدم ومن حرف جر زائد وأولياء مجرور بمن لفظا في محل رفع على أنه اسم كان المؤخر وجملة ينصرونهم صفة لأولياء ومن دون الله حال (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) الواو عاطفة ومن شرطية في محل نصب مفعول مقدم ليضلل ويضلل فعل الشرط والله فاعل والفاء رابطة لجواب الشرط وما نافية وله خبر مقدم ومن حرف جر زائد وسبيل مجرور بمن لفظا في محل رفع مبتدأ مؤخر والمراد بالسبيل هنا الطريق الموصل إلى الحق في الدنيا أو إلى الجنة في الآخرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 48 البلاغة: في قوله «ينظرون من طرف خفي» تجسيد بارع وتصوير رائع لمن يقف أمام الموت الذي ينتظره والسيف مصلّت على رأسه يرأرىء بأجفانه ويحركها تحريكا ضعيفا خفيا يمكنه من مسارقة النظر فإن من ينظر إلى أمر مكروه يستهول أمره ويزوي ناظره عنه، بيد أنه لا يتمالك دون أن يرمق ما يكرهه وما يتوقع حدوثه رمقا سريعا. [سورة الشورى (42) : الآيات 47 الى 48] اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) الإعراب: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ) استجيبوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ولربكم متعلقان به أي أجيبوه بالتوحيد والعبادة ومن قبل متعلقان باستجيبوا أيضا وأن وما في حيزها مضافة إلى الظرف ويوم فاعل ولا نافية للجنس ومردّ اسمها المبني على الفتح وله خبرها ومن الله متعلقان بمرد لأنه مصدر ميمي والجملة صفة ليوم وأجاز بعضهم تعليق من الله بيأتي أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يتاح لأحد ردّه (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) ما نافية ولكم خبر مقدم، ومن ملجإ: من حرف جر زائد وملجإ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 49 مجرورا لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ ويومئذ الظرف متعلق بمحذوف حال وما لكم من نكير عطف على ما لكم من ملجإ، واختلف في معنى النكير فقيل هو بمعنى الإنكار كأنه مصدر أنكر على غير قياس، واكتفى في الأساس بقوله: «وشتم فلان فما كان عنده نكير» وجاء في القاموس ما يلى: «ونكر فلان الأمر كفرح نكرا محركة ونكرا ونكورا بضمهما ونكيرا» فأورده مصدرا لنكر وفي التهذيب «النكير اسم الإنكار الذي معناه التغير» ولذلك لفّق الزمخشري المعنى من كل المعاني فقال: «والنكير: الإنكار أي ما لكم مخلص من العذاب ولا تقدرون أن تنكروا شيئا مما اقترفتموه ودوّن في صحائف أعمالكم» وقال الزجاج: «معناه أنهم لا يقدرون أن ينكروا الذنوب التي يوقفون عليها» (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) الفاء استئنافية وإن شرطية وأعرضوا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والواو فاعل والفاء رابطة وما نافية وأرسلناك فعل وفاعل ومفعول به وعليهم متعلقان بحفيظا وحفيظا حال والمعنى وأرسلناك لتقسرهم على اتباع ما جئتهم، والأولى أن يكون جواب الشرط محذوفا والفاء عاطفة على الجواب المحذوف المقدّر بما يناسب المقام أي فلا تبتئس ولا تحاول اقتسارهم (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) إن نافية وعليك خبر مقدم وإلا أداة حصر والبلاغ مبتدأ مؤخر. قيل هذا منسوخ بآيات الأمر بالجهاد (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها) الواو عاطفة وإن واسمها وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة أذقناه في محل جر بإضافة الظرف إليها والإنسان مفعول به ومنّا حال لأنه كان في الأصل صفة لرحمة وتقدمت ورحمة مفعول به أي نعمة وجملة فرح بها لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة الشرط خبر إن (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) عطف على ما تقدم وإن شرطية وتصبهم فعل الشرط والضمير يعود على الإنسان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 50 باعتبار الجنس فجمعه باعتبار المعنى وسيئة فاعل تصبهم وبما متعلقان بتصبهم وما موصولة وجملة قدمت أيديهم صلة والعائد محذوف أي قدمته، وعبر بالأيدي لأن أكثر الأعمال تزاول بها، والفاء رابطة أو علة للجواب المقدّر والتقدير وإن تصبهم سيئة نسوا النعمة فورا وإن واسمها وخبرها وقد ذكرنا في باب البلاغة الآنف الذكر سر وقوع الظاهر موقع المضمر أي فإنه كفور. [سورة الشورى (42) : الآيات 49 الى 53] لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) الإعراب: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) كلام مستأنف لبيان سعة ملكه سبحانه، والملك بالضم الاستيلاء على الشيء والتصرّف به الجزء: 9 ¦ الصفحة: 51 حسب المشيئة. ولله خبر مقدّم وملك السموات والأرض مبتدأ مؤخر وجملة يخلق حال وما مفعول به ليخلق وجملة يشاء صلة (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) يهب فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى ولمن متعلقان بيهب وجملة يشاء صلة وإناثا مفعول به ويهب لمن يشاء الذكور عطف على الجملة الآنفة وجملة يهب لمن يشاء بدل من جملة يخلق ما يشاء بدل مفصل من مجمل (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) أو حرف عطف ويزوّجهم فعل مضارع وفاعل مستتر يعود عليه سبحانه ومفعول به وذكرانا وإناثا مفعول به ثان ليزوّجهم على تضمينه معنى التصيير أي يجعل أولاده ذكورا وإناثا بدليل ما بعده، واختار أبو البقاء والخطيب إعراب ذكرانا وإناثا حالين، ويجعل من يشاء عقيما عطف على ما تقدم وعقيما مفعول به ثان حتما وإن واسمها وعليّ خبرها الأول وقدير خبرها الثاني وسيأتي المزيد من بحث هذه الآية في باب البلاغة (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا) الواو حرف عطف أو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبيان كيفية تكليم الله لعباده، وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولبشر خبر كان المقدم وأن ومنصوبها اسمها وإلا أداة حصر ووحيا مصدر واقع موقع الحال أو مفعول مطلق لفعل محذوف وأو حرف عطف ومن وراء حجاب متعلقان بمقدر معطوف على المقدّر العامل في وحيا أي وإلا أن يكلم الله من وراء حجاب أو مسمعا من وراء حجاب، وأو حرف عطف ويرسل معطوف على اسم خالص من التقدير بالفعل وهو قوله وحيا فكأنه قال إلا موحيا أو مرسلا وأن يوحي وحيا أو يرسل رسولا. وقد شغلت هذه الآية المفسرين والنحاة وسنورد لك في باب الفوائد بحثا مسهبا في صددها (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) فيوحي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 52 عطف على يرسل وقد قرئا بالرفع على الاستئناف أي فهو يرسل ويوحي وبإذنه متعلقان بيوحي والوحي هو الإلهام والإشارة السريعة وما مفعول به وجملة يشاء صلة وإن واسمها وخبراها (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) الكاف نعت لمصدر محذوف أي مثل إيحائنا إلى غيرك وإليك متعلقان بأوحينا وروحا مفعول به ومن أمرنا نعت لروحا وقيل حال ومن تبعيضية أي حال كون هذا الروح وهو القرآن بعض ما نوحيه إليك لأن الموحى إليه لا ينحصر في القرآن (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) الجملة حال من الكاف في إليك وما استفهامية معلقة لتدري عن العمل في محل رفع مبتدأ والكتاب خبر والجملة في محل نصب سدّت مسدّ مفعولي تدري ولا الإيمان عطف على الكتاب (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) الواو حالية أو عاطفة ولكن حرف استدراك مهمل وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به ونورا مفعول به ثان وجملة نهدي به صفة لنورا ومن مفعول به وجملة نشاء صلة ومن عبادنا حال (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الواو عاطفة وإن واسمها واللام المزحلقة وجملة تهدي خبر ومفعول تهدي محذوف أي كل إنسان مكلف وإلى صراط مستقيم متعلقان بتهدي (صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) صراط الله بدل من الأول بدل المعرفة من النكرة والذي نعت لله وبه خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة وما في الأرض عطف على ما في السموات (أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) ألا أداة تنبيه وإلى الله متعلقان بتصير والأمور فاعل والمراد بالصيرورة هنا الديمومة. البلاغة: قد تستوعب هذه الآيات ما يعدل الصحائف التي استغرقتها السورة بكاملها ولكننا سنوجز قدر الطاقة مع تفادي الإخلال: ففي قوله «يهب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 53 لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوّجهم» الآية فن صحة التقسيم وقد تقدم الإلماع إليه وأنه استيفاء المتكلم جميع أقسام المعنى الذي هو شارع فيه بحيث لا يغادر منه شيئا فانه سبحانه إما أن يفرد العبد بهبة الإناث، أو بهبة الذكور، أو بهما جميعا، أو لا يهبه شيئا فقد وقعت صحة التقسيم في هذه الآية على الترتيب الذي تستدعيه البلاغة وهو الانتقال في نظم الكلام ورصفه من الأدنى الى الأعلى فقدّم هبة الإناث وانتقل إلى هبة الذكور ثم إلى هبة المجموع، وجاء في كل قسم من أقسام العطية بلفظ الهبة وأفرد معنى الحرمان بالتأخير لأن إنعامه على عباده أهمّ عنده، وتقديم الأهم واجب في كل كلام بليغ، والآية إنما سيقت للاعتداد بالنعم وإنما أتى بذكر الحرمان ليتكمل التمدح بالقدرة على المنع كما يمدح بالعطاء فيعلم أنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وعدل من لفظ الحرمان والمنع الى لفظ هو ردفه وتابعه وهو لفظ الجعل، وسيأتي ما يشبهه في سورة الواقعة مع مزيد من التفصيل فانظره هناك. هذا وهناك من الطباق ما لا يخفى مما تقدم بحثه كثيرا. الفوائد: 1- قبل أن نورد لك قاعدة نحوية هامة نورد ما قاله أعلام المفسرين والنحاة في إعراب قوله «وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا» الآية. وإليك خلاصة ما قاله الزمخشري: وما صحّ لأحد من البشر أن يكلمه الله إلا على ثلاثة أوجه: 1- إما على طريق الوحي وهو الإلهام والقذف في القلب أو المنام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 54 2- وإما على أن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام من غير أن يبصر السامع من يكلمه لأنه في ذاته غير مرئي. 3- وإما على أن يرسل إليه رسولا من الملائكة. إلى أن يقول «ووحيا وأن يرسل مصدران واقعان موقع الحال لأن أن يرسل في معنى إرسالا ومن وراء حجاب ظرف واقع موقع الحال أيضا كقوله تعالى: وعلى جنوبهم والتقدير: وما صحّ أن يكلم أحدا إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسلا» إلى أن يقول: «ومن جعل وحيا في معنى أن يوحي وعطف يرسل عليه على معنى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أي بأن يوحي أو بأن يرسل فعليه أن يقدر قوله أو من وراء حجاب تقديرا يطابقهما عليه نحو أو أن يسمع من وراء حجاب وقرىء أو يرسل رسولا فيوحي بالرفع على أو هو يرسل أو بمعنى مرسلا عطف على وحيا في معنى موحيا» . أما عبارة السمين: «قرأ نافع يرسل برفع اللام وكذلك فيوحي فسكنت ياؤه والباقون بنصبها فأما القراءة الأولى ففيها ثلاثة أوجه: 1- أحدها أنه رفع على إضمار مبتدأ أي أو هو يرسل. 2- والثاني أنه عطف على وحيا على أنه حال لأن وحيا في تقدير الحال أيضا فكأنه قال إلا موحيا أو مرسلا. 3- الثالث أن يعطف على ما يتعلق به من وراء إذ تقديره أو يسمع من وراء حجاب ووحيا في موضع الحال عطف عليه ذلك المقدّر المعطوف عليه أو يرسل والتقدير إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسلا. وأما الثانية ففيها ثلاثة أوجه: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 55 1- أحدها: أن يعطف على المضمر الذي يتعلق به من وراء حجاب إذ تقديره أو يكلمه من وراء حجاب وهذا الفعل المقدّر معطوف على وحيا والمعنى إلا بوحي أو إسماع من وراء حجاب أو إرسال رسول ولا يجوز أن يعطف على يكلمه لفساد المعنى، قلت إذ يصير التقدير وما كان لبشر أن يرسله الله رسولا فيفسد لفظا ومعنى، قال مكّي: لأنه يلزم منه نفي الرسل ونفي المرسل إليهم. 2- الثاني: أن ينصب بأن مضمرة وتكون هي وما نصبته معطوفين على وحيا ووحيا حال فتكون هنا أيضا حالا والتقدير إلا موحيا أو مرسلا. 3- الثالث: أنه عطف على معنى وحيا فإنه مصدر مقدر بأن والفعل والتقدير إلا بأن يوحى إليه أو بأن يرسل، ذكره مكّي وأبو البقاء. وقوله أو من وراء حجاب، العامة على الإفراد وابن أبي عبلة حجب جمعا وهذا الجار يتعلق بمحذوف تقديره أو يكلمه من وراء حجاب، وقد تقدم أن هذا الفعل معطوف على معنى وحيا أي إلا أن يوحي أو يكلمه، قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يتعلق من بيكلمه الموجودة في اللفظ لأن ما قبل الاستثناء لا يعمل فيما بعد إلا ثم قال: من متعلقة بيكلمه لأنه ظرف والظرف يتسع فيه» . وقال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون معطوفا على أن يكلمه لأنه يصير معناه ما كان لبشر أن يكلمه الله ولا أن يرسل إليه رسولا وهذا فاسد» . 2- نصب الفعل المضارع جوازا: ينصب الفعل المضارع جوازا بأن مضمرة بعد أحرف خمسة وهي: اللام الجارّة إذا لم يسبقها كون ناقص ماض منفي ولم يقترن الفعل بلا فإن سبقت اللام بالكون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 56 المذكور وجب إضمار أن وإن قرن الفعل بلا نافية أو زائدة مؤكدة وجب إظهارها لئلا يتوالى مثلان وهما لام كي ولام لا من غير إدغام وهو ركيك في الكلام نحو «لئلا يكون للناس عليكم حجة» بإدغام النون في لا النافية ونحو «لئلا يعلم أهل الكتاب» بإدغام النون في لا الزائدة المؤكدة وتسمى هذه اللام لام كي ولام العاقبة ولام التوكيد، والأحرف الأربعة الباقية من الأحرف الخمسة التي تضمر أن بعدها جوازا هي الواو وأو وثم والفاء إذا كان العطف بها على اسم ليس في تأويل الفعل وهو نوعان مصدر وغيره فغير المصدر كقول حصين بن حمام المري: ولولا رجال من رزام أعزة ... وآل سبيع أو أسوءك علقما فأسوءك معطوف على رجال وهو ليس في تأويل الفعل، ورزام حيّ من نمير، وعلقما منادى مرخم، والمصدر نحو: «وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا في قراءة غير نافع بالنصب بإضمار أن بعد أو والتقدير إلا وحيا أو إرسالا ووحيا مصدر ليس في تأويل الفعل، وقول ميسون بنت بجدل الكلابية زوج معاوية بن أبي سفيان وأم ابنه يزيد: ولبس عباءة وتقرّ عيني ... أحبّ إليّ من لبس الشفوف فتقرّ منصوب بأن مضمرة جوازا وهي والفعل في تأويل مصدر مرفوع بالعطف على لبس بالواو العاطفة على قولها قبله: لبيت تخفق الأرواح فيه ... أحبّ إليّ من قصر منيف ويقال قرّت عينه تقرّ إذا كان دمعها نادرا ولا يكون ذلك إلا في الفرح وهو مشتق من القرّ ويقال سخنت إذا كان دمعها حارّا ولا يكون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 57 إلا في الترح، وقوله: لولا توقع معتر فأرضيه ... ما كنت أوثر أترابا على أتراب فأرضيه منصوب بأن مضمرة جوازا بعد الفاء وان وأرضى في تأويل مصدر معطوف على توقع والتقدير لولا توقع معتر فإرضائي إياه وتوقع ليس في تأويل الفعل والمعتر المعترض للمعروف والأتراب جمع ترب بكسر التاء وهو من يولد معك في الوقت الذي تولد فيه فيساويك في سنك والمعنى لولا توقع من يصرف عن فعل المعروف وإرضاؤه ما آثر الشاعر المساوي لغيره في السن على المساوي له في سنّه، وقول أنس بن مدركة الخثعمي: إني وقتلي سليكا ثم أعقله ... كالثور يضرب لما عافت البقر فأعقله مضارع عقل منصوب بأن مضمرة جوازا بعد ثم وأن وأعقله في تأويل مصدر معطوف على قتلي والتقدير وقتلي سليكا ثم عقلي إياه وقتلي ليس في تأويل الفعل، وسليكا بالتصغير اسم رجل مفعول قتلي وكالثور خبر إن والمراد بالثور ذكر البقر لأن البقر تتبعه فإذا عاف الماء عافته فيضرب ليرد الماء فترد معه واعقله من عقلت القتيل: أعطيت ديّته، ولأبي العلاء رأي طريف في الثور قال هو ثور الطحلب وهو الذي يعلو على الماء فيصدر البقر عنه فيضرب به صاحب البقر ليفحص عن الماء فيشربه قال: وسمّاه بالثور وذكره مع البقر ليلغز به على السامع، على أن هذا محض تكلّف والصواب الأول. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 58 (43) سورة الزخرف مكية وآياتها تسع وثمانون [سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) الإعراب: (حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) حم: تقدم القول في فواتح السور معنى وإعرابا والواو واو القسم والكتاب مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم والمبين نعت للكتاب (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) إن واسمها وجملة جعلناه خبرها وجعلناه أي صيّرناه وفعل وفاعل ومفعول به وقرآنا مفعول به ثان وعربيا نعت ولعلّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 59 واسمها وجملة تعقلون خبرها وجملة إنّا جعلناه جواب القسم وقد استهوى هذا الجواب علماء البلاغة كما سيأتي. وأجاز الزمخشري أن يكون جعلناه بمعنى خلقناه جريا على قاعدة المعتزلة في القول بخلق القرآن وسيأتي حديث عنها في باب الفوائد فيكون قرآنا حالا من الهاء وجملة لعلكم تعقلون تعليلية لا محل لها لأن الترجّي مستعار لمعنى الإرادة أي جعلناه قرآنا عربيا إرادة أن تعقله العرب (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) الواو عاطفة والجملة معطوفة على جواب القسم فهي بمثابة جواب ثان وإن واسمها وفي أم الكتاب متعلقان بمحذوف خبرها والتقدير مثبت وأم الكتاب أصل الكتب أي اللوح المحفوظ قال تعالى: «بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ» ولدينا ظرف متعلق بمحذوف حال واللام المزحلقة وعليّ خبر ثان وحكيم خبر ثالث، واعترض بعضهم على هذا الإعراب لأن فيه تقديم الخبر غير المقرون باللام على المقرون بها قال أبو البقاء: «في أم الكتاب يتعلق بعلي واللام لا تمنع من ذلك ولدينا بدل من الجار والمجرور ويجوز أن يكون حالا من الكتاب أو من أم ولا يجوز أن يكون واحد من الظرفين خبرا لأن الخبر قد لزم أن يكون علي من أجل اللام ولكن يجوز أن يكون كل واحد منهما صفة للخبر فصارت حالا بتقدمها» (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف مقدّر بينها وبين الهمزة تقديره أنهملكم فنضرب، ونضرب فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره نحن وعنكم متعلقان بنضرب والذكر مفعول به أي القرآن وصفحا فيه أوجه أحدها أنه مصدر مرادف لمعنى نضرب لأنه يقال ضرب عن كذا وأضرب عنه بمعنى أعرض عنه وصرف وجهه عنه والثاني أنه منصوب على الحال من فاعل نضرب أي صافحين والثالث أنه منصوب على أنه ظرف بمعنى الجانب من قولهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 60 نظر إليه بصفح وجهه كما تقول ضع هذا الكتاب جانبا وامش جانبا والرابع أنه مفعول من أجله والمعنى أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به إعراضا عنكم وسيأتي مزيد من القول في هذه الآية. وأن مصدرية وقرىء بكسر الهمزة فهي شرطية فهي ومدخولها على الأول مفعول من أجله وعلى الثاني يكون كنتم فعل الشرط والجواب محذوف وعبارة الزمخشري: «فإن قلت كيف استقام معنى إن الشرطية وقد كانوا مسرفين على البت؟ قلت: هو من الشرط الذي ذكرت أنه يصدر عن المدلّ بصحة الأمر المتحقق لثبوته كما يقول الأجير: إن كنت عملت لك فوفّني حقّي وهو عالم بذلك ولكنه يخيل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحق فعل من له شك في الاستحقاق مع وضوحه استجهالا له» وكنتم: كان واسمها وقوما خبرها ومسرفين نعت (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) كم خبرية في محل نصب مفعول مقدّم لأرسلنا ومن نبي تمييز لكم الخبرية وفي الأولين متعلقان بأرسلنا (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الواو عاطفة وما نافية ويأتيهم فعل مضارع مرفوع ومفعول به مقدم ومن حرف جر زائد ونبي مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل وإلا أداة حضر وكان واسمها وبه متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون خبر كانوا (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) الفاء الفصيحة وأهلكنا فعل وفاعل وأشد مفعول به ومنهم متعلقان بأشد وبطشا تمييز على الأرجح وقيل حال من فاعل أهلكنا أي باطشين وأراه محض تكلّف، ومضى عطف على فأهلكنا ومثل الأولين فاعل مضى. البلاغة: 1- القسم في قوله «والكتاب المبين إنّا جعلناه» الآية فن التناسب، فقد أقسم بالقرآن وإنما يقسم بعظيم ثم جعل المقسم عليه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 61 تعظيم القرآن بأنه قرآن عربي مرجو له أن يعقل به العالمون فكان جواب القسم مصححا للقسم وتم التناسب بين القسم والمقسم به لأنهما من واد واحد، وقد تعلق الشعراء بأذيال هذه البلاغة العالية فأقسم أبو تمام بالثنايا إذ قال: وثناياك إنها إغريض ... ولآل توم وبرق وميض وأقاح منوّر في بطاح ... هزّه في الصباح روض أريض وارتكاض الكرى بعيني ... ك في النوم فنونا وما لعيني غموض فقد أقسم أبو تمام بالثنايا وهي مقدم أسنانها أنها أغريض فالقسم وجوابه متعلقان بشيء واحد، والإغريض- كما في الصحاح- الطلع وكل أبيض طري، والتوم واحدة تومة وهي حبة تعمل من الفضة كالدرة. 2- الاستعارة: وفي قوله «وإنه في أم الكتاب» استعارة تصريحية، وقد استعير لفظ الام للأصل وهو المشبه المحذوف لأن الأولاد تنشأ من الام كما تنشأ الفروع من الأصول وحكمة ذلك تمثيل ما ليس بمرئي حتى يصير مرئيا ولم تفد هذه الاستعارة سوى الظهور لأن الام أظهر للحس من الأصل. الفوائد: 1- فتنة خلق القرآن: كانت المعتزلة تقول بنفي صفات المعاني عن الله تعالى، ومنها الكلام، لأن إثباتها يؤدي إلى التشبيه وإلى تعدّد القديم وذلك ينافي التوحيد وكان من النتائج اللازمة لذلك أن قالوا: بأن القرآن كلام الله مخلوق، قال صاحب المواقف: «قالت المعتزلة: كلامه تعالى أصوات وحروف لكنها ليست قائمة بذاته بل يخلقها الله في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل أو النبي وهو حادث» وليست المعتزلة أول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 62 من قال بخلق القرآن، كما أنهم ليسوا أول من أنكر الصفات، بل إن أول من عرف بالقول بخلقه الجعد بن درهم بدمشق، وهو مؤدب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية وأخذ عنه ذلك القول جهم بن صفوان الترمذي زعيم فرقة الجهمية الجبرية فقال بخلقه إذ أن الجهمية تنكر الصفات وذكروا أن بشر بن غياث المريسي، وهو زعيم المريسية من فرق المرجئة، قال أيضا بخلق القرآن في عصر الرشيد ونهاه أبو يوسف عن ذلك فلم ينته فهجره وطرده من مجلسه وقال: لا تنتهي أو تفسد خشبة- يريد الصلب- ولما بلغ ذلك الرشيد قال عليّ إن أظفرني الله به أن أقتله وظل بشر مختفيا طول خلافة الرشيد ولم يظفر به مع شدّة طلبه له، وذكروا أيضا أن حفصا الفرد، وهو من أكابر المجبرة، قال بذلك القول وأن الشافعي ناظره وكفّره، وكان الناس في تلك المسألة، في عصر الرشيد، بين أخذ وترك حتى ولي المأمون فقال بخلقه وكان من أشد نصراء الاعتزال، ويطول بنا القول إن عمدنا إلى نقل مجريات هذه الفتنة فارجع إليها في مظانها الكثيرة إن شئت. على أننا لا نمرّ بهذا البحث دون أن نشير إلى محنة الإمام أحمد بن حنبل لذيوعها فنقول: أحضر المعتصم الإمام أحمد وعقد له مجلسا للمناظرة وفيه عبد الرحمن بن إسحق والقاضي أحمد بن داود وغيرهما فناظروه ثلاثة أيام ولم يزل معهم في جدال إلى اليوم الرابع فأمر المعتصم بضربه بالسياط، ولم يحل عن رأيه إلى أن أغمي عليه ونخسه عجيف بن عنبسة بالسيف ورمى عليه بارية (وهي الحصير المنسوج) وديس عليه ثم حمل إلى منزله بعد أن ضرب ثمانية وثلاثين سوطا وكانت مدة مكثه في السجن ثمانية وعشرين شهرا وارجع إلى تاريخ الطبري ووفيات الأعيان ومروج الذهب لتقرأ العجيب من أخبار هذه الفتنة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 63 2- وعدناك بأن نتحدث إليك عن أسلوب القرآن فنقول: احتوى القرآن على ألفاظ كثيرة وصفها بعض الصحابة والتابعين أنها من غير لغة العرب، كما ألّف العلماء في ذلك كتبا خاصة، ووجود المعرب في القرآن قضية علمية اختلف حولها العلماء اختلافا كبيرا على رأيين، أحدهما: الرأي الأول: وجود المعرب في القرآن وإلى ذلك ذهب بعض الصحابة والتابعين والعلماء منهم ابن عباس ووهب بن منبّه وابن مسعود وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وعطاء والضحاك والسدي وأبو عمران الجويني وعمرو بن شرحبيل وأبو موسى الأشعري والزمخشري وابن الحاجب والسيوطي وغيرهم. الرأي الثاني: أن القرآن لا يحتوي على غير العربي من الألفاظ وهو مذهب كثير من العلماء ومنهم الإمام الشافعي وأبو عبيدة وابن فارس وابن جرير الطبري والباقلاني والرازي وغيرهم. وليس مما يفيد كثيرا أن نعرض التفاصيل لكلا الرأيين وأدلتهما والردّ عليهما وإنما المفيد في ذلك فهم الأمور الآتية: 1- أن الدارسين المتأخرين قد ارتضوا الرواية التالية عن أبي عبيد القاسم بن سلام وكأنما وجدوا فيها حلا للقضية وخروجا من هذا الخلاف والرواية هي: قال أبو عبيد: وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغيرهم في أحرف كثيرة أنه من غير لسان العرب مثل (سجيل والمشكاة واليم والطور وأباريق واستبرق) وغير ذلك فهؤلاء أعلم بالتأويل من أبي عبيدة ولكنهم ذهبوا إلى مذهب، وذهب هذا إلى غيره وكلاهما مصيب إن شاء الله تعالى. وذلك أن هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل فقال أولئك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 64 على الأصل ثم لفظت به العرب بألسنتها فعربته فصار عربيا إياه فهي عربية في هذه الحال، أعجمية الأصل فهذا القول يصدق على الفريقين جميعا. وقد أورد هذه الرواية الجواليقي بعد أن أورد قول عبيدة: من زعم أن في القرآن لسانا سوى العربية فقد أعظم على الله القول واحتجّ بقوله تعالى: «إنّا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون» ثم نقل هذه الرواية من جاء بعد الجواليقي ودرس موضوع التعريب في القرآن كالسيوطي وغيره. 2- إنه سواء أكانت الألفاظ الواردة في القرآن من لغات أخرى أعجمية باعتبار الأصل عربية باعتبار الحال أو أعجمية باعتبار الأصل والحال فإن ورودها في القرآن يدل على أن العرب قد فهموها وتقبلوها وفهمهم لها يدل على شيوعها بينهم من قبل أن يأتيهم بها وهذا يثبت ما نحن بصدده من وجود الألفاظ المنقولة من لغات أخرى في الجاهلية ومن استمرار ذلك حين جاء الإسلام. 3- يبدو أن الذين رفضوا وجود المعرب في القرآن سيطر عليهم الوازع الديني أكثر من تقرير الواقع اللغوي ولذلك فإن السيوطي حين أورد هذه الألفاظ في كتابيه «المتوكلي فيما في القرآن من المعرب» و «المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب» ساق بين يديها أسانيد نسبتها إلى الصحابة والتابعين كأنما يتحرز هو أيضا من القول بذلك بنفسه وقد عدّد اللغات المنقول عنها تلك الألفاظ فأوصلها إلى عشر وهي الحبشية والفارسية والرومية والهندية والسريانية والعبرانية والنبطية والقبطية والتركية والزنجية والبربرية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 65 [سورة الزخرف (43) : الآيات 9 الى 14] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) اللغة: (بِقَدَرٍ) بمقدار أي يؤدي ما تحتاجون إليه فلا يكون قليلا لا ينفع ولا يكون كثيرا فيؤذي ويضرّ. (فَأَنْشَرْنا) أحيينا، وفي المصباح: «نشر الموتى نشورا حيوا، ونشرهم الله يتعدى ولا يتعدى ويتعدى بالهمزة أيضا فيقال أنشرهم الله ونشرت الأرض نشورا أيضا حييت وأنبتت ويتعدى بالهمزة فيقال أنشرتها إذا أحييتها بالماء» . (مُقْرِنِينَ) مطيقين يقال أقرن الشيء إذا أطاقه، قال ابن هرمة: وأقرنت ما حملتني ولقلما ... يطاق احتمال الصدّ يا دعد والهجر قال الزمخشري: «وحقيقة أقرنه وجده قرينته وما يقرن به لأن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 66 الصعب لا يكون قرينة للضعيف» وقال الأخفش وأبو عبيدة: «مقرنين ضابطين وقيل مماثلين في الأيدي والقوة من قولهم هو قرن فلان إذا كان مثله في القوة ويقال فلان مقرن لفلان أي ضابط له وأقرنت كذا أي أطقته وأقرن له أي أطاقه وقوي عليه كأنه صار له قرنا قال الله تعالى: «وما كنّا له مقرنين» أي مطيقين، وقال آخرون: وفي أصله قولان أحدهما أنه مأخوذ من الأقران يقال أقرن يقرن إقرانا إذا أطاق أو أقرنت كذا إذا أطقته وأحكمته كأنه جعله في قرن وهو الحبل فأوثقه به وشده والثاني أنه مأخوذ من المقارنة وهو أن يقرن بعضها ببعض في حبل تقول: قرنت كذا بكذا إذا ربطته به وجعلته قرينه. الإعراب: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية وسألتهم فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير رفع متحرك والتاء فاعل والهاء مفعول به (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) من اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة خلق السموات والأرض خبر والجملة الاستفهامية في محل نصب مفعول ثان لسألتهم المعلقة عن العمل بالاستفهام (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) اللام واقعة في جواب القسم لأنه المتقدم كما هي القاعدة ويقولنّ فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال وقد تقدمت له نظائر والواو المحذوفة فاعل والنون للتوكيد ولو كان مجزوما لكان الحذف للجازم لا لتوالي الأمثال وجملة خلقهنّ مقول القول وكرر الفعل للتأكيد والعزيز فاعل والعليم صفة وسيأتي مزيد من بحث هذه الآية في باب البلاغة (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) اسم الموصول صفة ثانية أو بدل وجملة جعل صلة ولكم متعلقان بجعل على أنها بمعنى خلق وإن كانت بمعنى صير الجزء: 9 ¦ الصفحة: 67 فيكون متعلقا بمحذوف حال والأرض مفعول به أول ومهدا مفعول به ثان أو حال (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا) عطف على ما تقدم ولكم متعلقان بجعل أو في موضع المفعول الثاني وفيها حال وسبلا مفعول به (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) لعل واسمها وجملة تهتدون خبرها (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) عطف على الموصول الأول وجملة نزل صلة ومن السماء متعلقان بنزل وماء مفعول به وبقدر في موضع نصب على الحال (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) الفاء عاطفة وأنشرنا عطف على نزل، وفيه التفات سيأتي سره في باب البلاغة، وبه متعلقان بأنشرنا وبلدة مفعول به وميتا صفة لبلدة وكذلك صفة لمصدر محذوف وتخرجون فعل وفاعل (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) عطف أيضا وجملة خلق الأزواج صلة وكلها تأكيد (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) عطف على خلق الأزواج داخل في حيز الصلة ولكم في موضع المفعول الثاني ومن الفلك حال والأنعام عطف على الفلك وما موصول مفعول به وجملة تركبون صلة والعائد محذوف أي ما تركبونه وسيأتي بحث عن فعل الركوب في باب الفوائد (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) اللام للتعليل والجار والمجرور متعلقان بجعل وتستووا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والواو فاعل وعلى ظهوره متعلقان بتستووا، ثم حرف عطف وتذكروا عطف على تستووا ونعمة ربكم مفعول تذكروا وإذا ظرف مستقبل متعلق بجوابه المحذوف والمدلول عليه بتذكروا وجملة استويتم في محل جر بإضافة الظرف إليها وعليه متعلقان باستويتم وذكر الضمير في ظهوره نظرا للفظ ما كما جمع الظهور لذلك (وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) وتقولوا عطف على ما تقدم وسبحان مفعول مطلق لفعل محذوف والذي مضاف إليه وجملة سخر صلة ولنا متعلقان بسخر وهذا مفعول به (وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) الواو للحال وما نافية وكان واسمها وله متعلقان بمقرنين ومقرنين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 68 خبر كنا (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) الواو حالية أيضا وسيأتي سرّ هذا الحال في باب البلاغة وإن واسمها وإلى ربنا متعلقان بمنقلبون واللام المزحلقة ومنقلبون خبر إن. البلاغة: انطوت هذه الآيات على أفانين من البلاغة نوجزها فيما يلي: 1- فأول فن فيها هو الحذف، فقد حذف الموصوف وهو الله تعالى وأقام صفاته مقامه لأن الكلام مجزأ فبعضه من قولهم وبعضه من قول الله تعالى فالذي هو من قولهم خلقهنّ وما بعده هو من قول الله تعالى وأصل الكلام أنهم قالوا خلقهنّ الله بدلالة قوله في آية أخرى: ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ الله ثم لما قالوا خلقهنّ الله وصف الله تعالى ذاته بهذه الصفات وأقيمت مقام الموصوف كأنه كلام واحد ونظير هذا أن تقول للرجل: من أكرمك من القوم؟ فيقول أكرمني زيد فتقول أنت واصفا له: الكريم الجوّاد المفضال الذي من صفته كذا وكذا. 2- الالتفات: والفن الثاني هو الالتفات فإنه لما وقع الانتقال من كلامهم إلى كلام الله عزّ وجلّ جاء أوله على لفظه الغيبة وآخره على الانتقال منها إلى التكلم في قوله فأنشرنا افتنانا في أفانين البلاغة ولتسجيل المنّة على عباده وقرع أسماعهم بها ومن هذا النمط في القرآن كثير. 3- سرّ الحال: والسر في قوله «وإنا إلى ربنا لمنقلبون» أنه كم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو طاح عن ظهرها فهلك وكم من راكبين في سفينة انكسرت بهم ففرقوا فلما كان الركوب بحد ذاته أمرا شديدا لخطورة مجهول المغبة والراكب مستهدف لأنواع المتالف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 69 وصنوف المخاطر كان من حقه أن لا ينسى أنه هالك لا محالة، وأنه منقلب إلى الله، ولن يتاح له الإفلات من قضائه إذا حمّ، ومن قدره إذا حلّ، والغاية من كل ذلك أن يكون منتبها إلى نفسه، غير مؤثر لدنياه على آخرته. الفوائد: من الأسرار التي تدق على الأفهام، مباحث تعدية الأفعال فالعرب يعدّون الفعل الواحد مرة بنفسه ومرة بواسطة، مثل سكرت وأخواته ويعدّون الأفعال المترادفة بآلات مختلفة مثل دعوت وصلّيت فإنك تقول: صلى النبيّ على آل أبي أوفى ولو قلت: دعا على آل أبي أوفى لأفهم عكس المقصود ولكن دعا لآل أبي أوفى، ويعدّون بعضهما إلى مفعولين ومرادفه إلى مفعول واحد كعلم وعرف فلا يترتب على الاختلاف بالتعدّي والقصور والاختلاف في المعنى، ويستنتج من هنا أن ركب باعتبار القبيلين معناه واحد وإن خصّ أحدهما باقتران الواسطة والآخر بسقوطها فالصواب أحد الأمرين، أما تقدير المتعلقين على ما هما عليه لو انفردا فيكون التقدير ما تركبونه وتركبون فيه والأقرب تعليله باعتبار التعدّي بنفسه ويكون هذا من تغليب أحد اعتباري الفعل على الآخر وهو أسهل من التغليب في قوله تعالى «فأجمعوا أمركم وشركاءكم» على أحد التأويلين فيه فإن التباين ثم ثابت بين الفعلين من حيث المعنى أعني جمع الأمر وجمع الشركاء ولكن لما تقاربا غلب أحدهما على الآخر ثم جعل المغلب هو المتعدي بنفسه. [سورة الزخرف (43) : الآيات 15 الى 19] وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 70 اللغة: (جُزْءاً) قال في القاموس: «الجزء: البعض ويفتح والجمع أجزاء وبالضم موضع ورمل، وجزأه كجعله: قسّمه أجزاء كجزّأه، وبالشيء اكتفى كاجتزأ وتجزأ، والشيء شدّه، والإبل بالرطب عن الماء: قنعت كجزئت بالكسر، وأجزأتها أنا وجزّأتها، وأجزأت عنك مجزأ فلان ومجزأته، ويضمّان: أغنيت عنك مغناه، والمخصف جعلت له جزأة أي نصابا، والخاتم في إصبعي أدخلته، والمرعى التفّ نبته، والأم ولدت الإناث، وشاة عنك: قضت لغة في جزت، والشيء إياي: كفاني، والجوازئ الوحش. «وجعلوا له من عباده جزءا» أي إناثا» وأنكره الزمخشري وقال إنه اصطناع لا لغة وفيما يلي نص عبارته: ومعنى من عباده جزءا أن قالوا: الملائكة بنات الله فجعلوهم جزءا له وبعضا منه كما يكون الولد بضعة من والده وجزءا له، ومن بدع التفاسير تفسير الجزء بالإناث وادّعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث وما هو إلا كذب على العرب ووضع مستحدث متحوّل، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه أجزأت المرأة ثم صنعوا بيتا: إن أجزأت حرة يوما فلا عجب ... زوجتها من بنات الأوس مجزئة قد يكون للزمخشري عذره في استبعاد هذا التفسير، ولكن عذره يصبح معدوما عند ما نذكر أن الزجّاج والمبرّد هما اللذان روياه وهما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 71 إماما اللغة العربية وحافظاها ومن إليهما المنتهى في معرفتها. (الْحِلْيَةِ) الزينة. الإعراب: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) الواو عاطفة على رأي الزمخشري لأنه جعل الكلام متصلا بقوله: ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض أي وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده جزءا فوصفوه بصفات المخلوقين ولك أن تجعلها مستأنفة. وجعلوا فعل وفاعل والجعل هنا بمعنى التصيير وله في موضع المفعول الثاني ومن عباده حال وجزءا مفعول جعلوا الأول (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) إن واسمها واللام المزحلقة وكفور خبر إن ومبين صفة أي مظهر لكفره (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) أم متصلة معطوف على استفهام محذوف المقصود منه الإنكار والتوبيخ والتقدير أتقولون أم اتخذ وقال بعضهم منقطعة بمعنى بل وقال آخرون بهما معا وكل صحيح وقد تقدم القول مطولا في أم. واتخذ فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ومما متعلقان بمحذوف هو مفعول اتخذ الثاني وجملة يخلق صلة وبنات مفعول اتخذ الأول وأصفاكم عطف على اتخذ وبالبنين متعلقان بأصفاكم (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما تقدم وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وبشّر فعل ماض مبني للمجهول وأحدهم نائب فاعل وبما متعلقان ببشر وجملة ضرب صلة وضرب متضمن معنى جعل فيتعلق للرحمن بمحذوف في موضع المفعول الثاني ومثلا مفعول ضرب الأول (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) ظل فعل ماض ناقص ووجهه اسمها ومسودّا خبرها والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والواو حالية وهو مبتدأ وكظيم خبر والجملة حالية (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 72 الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو حرف عطف عطفت الجملة على جملة مقدرة أي يجترئون ويبلغون أبعد الآماد في سوء الأدب ويجعلون لله من ينشّؤ في الحلية، فمن موصول مفعول به لفعل محذوف وقيل هي مبتدأ خبره محذوف تقديره جزءا وولدا، وجملة ينشّؤ صلة وينشّؤ مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر يعود على من، وفي الحلية متعلقان بينشّؤ، وفي الخصام متعلقان بمبين، وغير مبين خبر هو والجملة حالية وعبارة أبي البقاء: «فإن قلت المضاف إليه لا يعمل فيما قبله قيل إلا في غير لأن فيها معنى النفي فكأنه قال: وهو لا يبين في الخصام ومثله مسألة الكتاب: أنا زيدا غير ضارب وقيل ينتصب بفعل يفسره ضارب وكذا في الآية» وقيل هو من باب «على لا حب لا يهتدي بناره» أي لا منار له فيهتدي به أي لا يكون منها خصام وليس ببعيد. (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) الواو عاطفة وجعلوا فعل وفاعل والملائكة مفعول جعلوا الأول والذين نعت وهم مبتدأ وعباد الرحمن خبره والجملة صلة الذين وإناثا مفعول جعلوا الثاني (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) السين حرف استقبال وسيأتي سره في باب البلاغة وتكتب فعل مضارع مبني للمجهول وشهادتهم نائب فاعل ويسألون عطف على ستكتب. البلاغة: معنى الاستقبال: إنما ضجّ إلى الاستقبال فأتى بالسين الدّالة عليه ليتضمن الكلام معنى انفساح الوقت للتوبة وبناء الرجاء على الاستعطاف لقبولها قبل كتابة ما قالوا جريا على ما كانوا يعتقدون من تفضيل الذكور على الإناث ونسبة شرّ الجزأين وهو الإناث إلى الله، وفي هذا منتهى التسفيه لآرائهم لأنهم تجنّوا على نصفنا الثاني فنسبوا إليه الشرّ ونقصان العقل ثم تجنّوا على خالقهم بنسبتهم هذا الجزء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 73 الذي هو شر إليه، وعن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى فهجر البيت الذي فيه المرأة فقالت: ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا غضبان أن لا نلد البنينا ... ليس لنا من أمرنا ماشينا وإنما نأخذ ما أعطينا ... حكمة ربي ذي الجلال فينا [سورة الزخرف (43) : الآيات 20 الى 25] وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) اللغة: (يَخْرُصُونَ) في المصباح: «وخرص الكافر خرصا من باب قتل كذب فهو خارص» وفي القاموس والتاج «الخراص: الكذاب» وللخاء والراء فاء وعينا للكلمة سر عجيب أنهما تدلّان على المهانة والاستقذار وإحداث الأثر السيّء: فخرئ خرءا وخراءة وخروءا تغوط وسلح يقال: خرئت بينهم الضبع أي دخلت بينهم العداوة والمخراة والمخرأة: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 74 المكان الذي يخرأ فيه والجمع مخارئ، وخرب البيت ضد عمر وخرب الرجل: صار مشقوق الأذن أو مثقوبها فهو أخرب وهي خرباء، وخربش الكتاب أو العمل: أفسد، وهي من العامي الفصيح، وخربص أيضا بمعنى أخذ المال وذهب به عامية فصيحة أيضا، وخرت الأذن: ثقبها وخرّت الأرض عرفها ولم تخف عليه طرقها لأنه ذهب في أرجائها وخرب في أكنافها، والخرثاء من صفات المرأة المستقبحة فهي الضخمة الخاصرتين المسترخية اللحم، والخرتي بضم الخاء أردأ المتاع وسقطه وخرتي الكلام ما لا خير فيه، وخرج برز وهو معروف والخراج الولّاج بالتشديد كثير الخروج والولوج والخراج مثلثة الخاء الأتاوة وأصله ما يخرج من غلة الأرض والمال والخراج بضم الخاء كل ما يخرج بالبدن كالدمل والخارجي: من خلف السلطان والجماعة ومنه سمّيت الخوارج وهم سبع فرق من كبار الفرق الإسلامية، وخرخر النائم: غطّ، والخريدة اللؤلؤة التي لم تثقب، والخرور معروف وفيه مهانة لصاحبه، والخرازة مهنة ممتهنة وأخرسه الله معروف وأطعموا النفساء خرستها وهو طعامها خاصة وقد خرّست فتخرّست قال: فلله عينا من رأى مثل مقبسي ... إذا النفساء أصبحت لم تخرّس ورماه الله بخرساء وهي الداهية قال الأخطل: وكم أنقذتني من جرور حبالكم ... وخرساء لو يرمى بها الفيل تلبّدا وأصلها الأفعى، قال عنترة: عليهم كل محكمة دلاص ... كأن قتيرها أعيان خرس ورأيت عليه قميصا مثل خرشاء الحية رقة وصفاء وهو سلحها وهو يلقي من صدره خراشيّ منكرة وهي النخامة والبلغم، وخرط الورق قشره عن الشجرة اجتذابا له ووسمه على الخرطوم أذله وهم خراطيم القوم وشرب الخرطوم: السلامة لأنها أول ما ينعصر، قال الأخطل: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 75 جادت بها من ذوات القار مترعة ... كلفاء ينحتّ عن خرطومها المدر وفي العود خرع أي لين ورخاوة ومنه قيل للفاجرة الخريع قال: يزيد جمال الدّل منها رزانة ... وحلم إذا خفّ النساء الخرائع وهو رخو كالخروع، وخرف الثمار اجتناها وأخرفي لنا يا جارية، وخرق الثوب وخرّقه: وسّع شقّه وانخرق وتخرّق واتسع الخرق على الراقع وشاة خرقاء مثقوبة الأذن وقد خرق في عمله وفيه خرق وهو أخرق وهي خرقاء، وخرم الشيء خرقه واخترمهم الدهر وتخرمهم، قال أبو ذؤيب الهذلي: سبقوا هوى وأعنقوا لهواهم ... فتخرّموا ولكل جنب مصرع وهذا من أعاجيب لغتنا الشريفة. (أُمَّةٍ) طريقة تؤم وتقصد وتكسر همزتها. الإعراب: (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان نوع آخر من أنواع كفرهم، وقالوا فعل وفاعل ولو شرطية وشاء الرحمن فعل وفاعل والمفعول به محذوف وكثير حذفه بعد فعل المشيئة كما تقدم أي لو شاء عدم عبادة الملائكة ما عبدناهم وما نافية وعبدناهم فعل وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها لأنها واقعة في جواب لو (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) ما نافية ولهم خبر مقدم وبذلك حال لأنه كان في الأصل صفة ومن حرف جر زائد وعلم مبتدأ مؤخر ولك أن تجعل ما حجازية على رأي من يجيز تقديم خبرها على اسمها وإن نافية وهم مبتدأ وإلا أداة حصر ويخرّصون فعل مضارع مرفوع (أَمْ آتَيْناهُمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 76 كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) أم حرف عطف معادل للاستفهام في قوله اشهدوا خلقهم فهي متصلة وقال بعضهم أم منقطعة بمعنى همزة الاستفهام الإنكاري كأنه بعد أن نفى حجتهم العقلية أضرب عن الكلام إلى نفي حجتهم النقلية ورجح الشهاب الخفاجي هذا الوجه لبعده عن قوله شهدوا (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) بل حرف عطف وإضراب وقالوا فعل وفاعل وإن واسمها وجملة وجدنا آباءنا خبرها وجملة إن واسمها وخبرها مقول قولهم وعلى أمة في موضع المفعول الثاني لوجدنا (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) الواو عاطفة وإن واسمها وعلى آثارهم متعلقان بمهتدون ومهتدون خبرها وقيل على آثارهم هو الخبر أي ماشون ومهتدون خبر ثان ولعله أولى (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) الواو عاطفة وكذلك نعت لمصدر محذوف وقد تقدمت له نظائر وما نافية وأرسلنا فعل وفاعل ومن قبلك متعلقان بأرسلنا، في قرية متعلقان بمحذوف حال ومن حرف جر زائد ونذير مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول أرسلنا (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) إلا أداة حصر والاستثناء من أعمّ الأحوال وقال مترفوها فعل وفاعل وما بعده تقدم إعرابه (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) قال فعل ماض والفاعل ضمير مستتر تقديره هو والهمزة للاستفهام والواو حالية والتقدير أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم من الضلالة ولو شرطية وجئتكم فعل وفاعل ومفعول به وبأهدى متعلقان بجئتكم وسيأتي سرّ التفضيل في باب البلاغة ومما متعلقان بأهدى وجملة وجدتم صلة وعليه متعلقان بوجدتم (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) قالوا فعل وفاعل وإن واسمها وبما متعلقان بكافرون وجملة أرسلتم صلة الموصول وبه متعلقان بأرسلتم وكافرون خبر إنّا (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) الفاء حرف عطف وانتقمنا فعل وفاعل ومنهم متعلقان بانتقمنا، فانظر الفاء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 77 عاطفة وانظر فعل أمر وفاعله مستتر تقدره أنت وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر مقدّم لكان وكان فعل ماض ناقص وعاقبة المكذبين اسمها المؤخر. البلاغة: في قوله «قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنّا بما أرسلتم به كافرون» فن الإلجاء وهو أن يبادره المتكلم الخصم بما يلجئه إلى الاعتراف بحقيقة نفسه ودخيلة قلبه، فالتعبير في الآية بالتفضيل المقتضي أن ما عليه آباؤهم فيه هداية لم يكن إلا لإلجائهم إلى الاعتراف بحقيقة نيّاتهم التي يضمرونها كأنه يتنزل معهم إلى أبعد الحدود ويرخي لهم العنان إلى أقصى الآماد ليعترفوا بالتالي بمكابرتهم التي لا تجدي معها المناصحة في القول ولا ينفع في تذليلها الإتيان بالحجّة. [سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 32] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 78 اللغة: (بَراءٌ) بفتح الباء وألف وهمزة بعد الراء وهو مصدر في الأصل وقع موقع الصفة ولذلك استوى فيه المذكر والمؤنث والواحد والاثنان والجماعة وفي المختار: «وتبرأ من كذا فهو براء منه بالفتح والمدّ لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر كالسماع» وفي القاموس: «وأنا براء منه لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث أي بريء» . (عَقِبِهِ) ذريته وفي القاموس: «العقب: الجري بعد الجري والولد وولد الولد كالعقب ككتف» . (سُخْرِيًّا) بضم السين نسبة إلى السخرة وهي العمل بلا أجرة وفي القاموس «وسخره كمنعه سخريا بالكسر ويضم كلّفه ما لا يريد وقهره» وقد تقدم شرحها ويبعد أن تكون من السخرية التي هي الاستهزاء والتهكم خلافا لمن قال إنها من السخرية التي هي بمعنى الاستهزاء أي ليستهزئ الغني بالفقير. الإعراب: (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لتذكير العرب بحال جدّهم الأعلى، والظرف متعلق باذكر محذوفا وجملة قال إبراهيم في محل جر بإضافة الظرف إليها ولأبيه متعلقان بقال وقومه عطف على أبيه وجملة إنني برآء في محل نصب مقول للقول ومما متعلقان ببراء وجملة تعبدون صلة ما (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) إلا أداة استثناء والذي مستثنى والاستثناء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 79 منقطع كأنه قال لكن الذي فطرني فإنه سيهدين ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا بناء على أنهم كانوا يسركون مع الله الأصنام، وأجاز الزمخشري وغيره أن تكون إلا صفة بمعنى غير على أن «ما» في ما تعبدون موصوفة تقديره إنني برآء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني فهو نظير قوله تعالى «لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا» ورجح أبو حيان انقطاع الاستثناء إذ كانوا لا يعبدون الله مع أصنامهم. وجملة فطرني صلة للموصول والفاء تعليلية وإن واسمها وجملة سيهدين خبرها والسين للتأكيد لا للاستقبال أي يديم هدايتي لأنه تعالى هاديه في المستقبل والحال والمفعول به محذوف أي سيهديني لرعاية الفاصلة (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الواو حرف عطف وجعلها فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول والضمير يعود على إبراهيم وكلمة مفعول به ثان وباقية صفة وفي عقبه متعلقان بباقية، ولعلهم لعل واسمها وجملة يرجعون خبرها وسيأتي المراد بالكلمة الباقية في باب الفوائد (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) بل حرف إضراب وعطف والإضراب عن محذوف لا بدّ من تقديره ليتسلسل الكلام والتقدير وجعلها كلمة باقية في عقبه بأن وصّاهم بها رجاء أن يثوب إليها المشركون فلم يحصل ما ترجاه بل متعت هؤلاء الذين يمتّون بالنسبة إلى إبراهيم ولم أعاملهم بالعقوبة وأنسأت في آجالهم. وهؤلاء اسم إشارة مبني على الكسر في محل نصب مفعول به وآباءهم عطف على هؤلاء أو مفعول معه وحتى حرف غاية وجر، وسيأتي سر غاية التمتيع في باب البلاغة، وجاءهم الحق فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ورسول عطف على الحق ومبين صفة لرسول (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) الواو حرف عطف ولما رابطة أو حينية وجاءهم الحق فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وجملة قالوا لا محل لها لأنها واقعة في جواب شرط غير جازم وهذا مبتدأ وسحر خبره والجملة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 80 مقول قولهم وإنّا إن واسمها وبه متعلقان بكافرون وكافرون خبر إنّا (وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) الواو عطف على الكلام المتقدم وقالوا فعل وفاعل ولولا حرف تحضيض بمعنى هلّا ونزل فعل ماضي مبني للمجهول وهذا اسم إشارة نائب فاعل والقرآن بدل وعلى رجل متعلقان بنزل ومن القريتين صفة لرجل وعظيم صفة ثانية لرجل وسيأتي القول عنهما في باب الفوائد (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري تجهيلا لهم واستركاكا لعقولهم وهم مبتدأ وجملة يقسمون خبر ورحمة ربك مفعول يقسمون وكتبت رحمة ربك في المصحف بالتاء المفتوحة وسيأتي تفصيل ذلك في باب الفوائد (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) نحن مبتدأ وجملة قسمنا خبر وبينهم ظرف متعلق بقسمنا ومعيشتهم مفعول به وفي الحياة الدنيا متعلقان بمحذوف حال (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) الواو حرف عطف ورفعنا فعل وفاعل وبعضهم مفعول به وفوق بعض ظرف متعلق برفعنا ودرجات تمييز واللام للتعليل وقيل للصيرورة أو العاقبة ويتخذ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد اللام وبعضهم فاعل وبعضا مفعول به أول وسخريا مفعول به ثان ويترتب على هذا ما أفصح عنه الخازن بقوله: «يعني أنّا لو سوّينا بينهم في كل الأحوال لم يخدم أحد أحدا ولم يصر أحد منهم مسخرا لغيره وحينئذ يفضي ذلك إلى خراب العالم وفساد حال الدنيا» (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) الواو عاطفة أو حالية ورحمة ربك مبتدأ وخير خبر ومما متعلقان بيجمعون وجملة يجمعون صلة ما. البلاغة: في مجيء الإضراب بقوله تعالى «بل متّعت هؤلاء» الآية، وجعل الغاية للتمتع مجيء الحق نكتة بديعة لأنه ليس المقصود من الإضراب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 81 رد الكلام السابق ولكن المقصود هو التأكيد والاستمرار ليبيّن أنهم شغلوا عمّا جاءهم من الحق إذ لا مناسبة بين مجيء الحق والتمتيع، والمعنى أنهم شغلوا عن شكر المنعم فإنهم بدلا من أن ينصاعوا إلى الحق ويأخذوا بأسبابه، ويعكفوا عليه واستجلاء آلائه جاءوا بما هو شر من غفلتهم التي كانوا عليها. الفوائد: 1- المراد بالكلمة الباقية في عقب إبراهيم صلوات الله عليه كلمة التوحيد التي تكلم بها وهي قوله: إنني برآء مما تعبدون إلا الذي فطرني. 2- المراد بالقريتين مكة والطائف والمراد بالرجلين الوليد بن المغيرة المخزومي بمكة وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف لأن الرجل الشريف عندهم وحسب معتقداتهم السخيفة هو الذي يكون كثير المال والجاه ومحمد ليس كذلك فليست الرسالة لائقة به. 3- رسمت التاء مفتوحة في قوله «ورحمة ربك» في المصحف كما رسمت في الأعراف والروم وهود والبقرة. [سورة الزخرف (43) : الآيات 33 الى 39] وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 82 اللغة: (سُقُفاً) في القاموس: «السقف للبيت كالسقيف والجمع سقوف وسقف بضمتين» وعن الفراء جمع سقيفة وقرىء سقوفا جمعا على فعول نحو كعب وكعوب. (وَمَعارِجَ) جمع معرج بفتح الميم وكسرها وسمّيت المصاعد من الدرج معارج لأن المشي عليها مثل مشي الأعرج. (وَزُخْرُفاً) الزخرف الذهب والزينة، وقال ابن زيد: هو ما يتخذه الناس في منازلهم من الأمتعة والأثاث، وقال الحسن: النقوش وأصله الزينة يقال زخرفت الدار أي زينتها وتزخرف فلان أي تزين، وأوردت معاجم اللغة معاني عديدة للزخرف منها الذهب وحسن الشيء وزخرف الكلام أباطيله المموّهة وزخرف الأرض ألوان بناتها والجمع زخارف. (يَعْشُ) في القاموس: العشا مقصور سوء البصر في الليل والنهار والعمى عشا كرضي ودعا وفي المختار وعشا عنه أعرض وبابه عدا ومنه قوله تعالى: «ومن يعش عن ذكر الرحمن» قلت وفسره بعضهم في الآية بضعف البصر وقال أبو الهيثم والأزهري: عشوت إلى كذا أي قصدته وعشوت عن كذا أي أعرضت عنه فيفرّق بين إلى وعن مثل ملت إليه وملت عنه. (نُقَيِّضْ) نسبب ونقدّر يقال قيّض الله له كذا: قدّره له وقيض الله فلانا لفلان: جاءه به. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 83 الإعراب: (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) الواو استئنافية ولولا حرف امتناع لوجود وأن وما بعدها في تأويل مصدر مبتدأ محذوف الخبر والناس اسم يكون وأمة خبرها وواحدة صفة ومعنى كونهم أمة واحدة اجتماعهم على أمر واحد، وأريد به هنا الكفر بقرينة الجواب كما سيأتي (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) اللام رابطة للجواب وجعلنا فعل وفاعل ولمن في موضع المفعول الثاني وجملة يكفر صلة لمن وبالرحمن متعلقان بيكفر ولبيوتهم بدل اشتمال من لمن يكفر بإعادة الجار وسقفا مفعول جعلنا الأول ومن فضة صفة لسقفا ومعارج عطف على سقفا وعليها متعلقان بيظهرون ويظهرون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والجملة صفة لمعارج (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ) عطف على ما تقدم وتكرر لفظ البيوت لزيادة التقرير ولك أن تقدّر مقدرا لتنصب أبوابا وسررا فيكون من عطف الجمل (وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) وزخرفا عطف أيضا على سررا أو مفعول به لفعل محذوف أي وجعلنا لهم زخرفا وعطفه الزمخشري على محل من فضة كأنه قال سقفا من فضة وذهب أي بعضها كذا وبعضها كذا والواو عاطفة وإن نافية وكل ذلك مبتدأ ولما بالتشديد بمعنى إلا ومتاع الحياة الدنيا خبر وقرىء بتخفيف لما فإن عندئذ مخففة من الثقيلة مهملة واللام الفارقة وما زائدة (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) الواو حالية والآخرة مبتدأ وعند ربك ظرف متعلق بمحذوف حال وللمتقين متعلقان بمحذوف خبر الآخرة وفي هذا تقرير واف على أن العظيم حقا هو العظيم في الآخرة لا في الدنيا (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) كلام مستأنف مسوق لسرد مآل المعرضين عن ذكر الله وقيل هو متصل بقوله أول بالسورة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 84 أفنضرب عنكم الذكر صفحا، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويعش فعل الشرط وعن ذكر الرحمن متعلقان بيعش ونقيض جواب الشرط وجملتا الشرط والجزاء خبر من وله متعلقان بنقيض وشيطانا مفعول به لنقيض والفاء حرف عطف وهو مبتدأ وله حال لأنه كان في الأصل صفة لقرين وتقدمت عليه وقرين خبر (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) الواو عاطفة وإن واسمها واللام المزحلقة وجملة يصدّونهم خبر إن وعن السبيل متعلقان بيصدّونهم (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) الواو حالية أو عاطفة ويحسبون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون وأن واسمها وخبرها سدّت مسدّ مفعولي يحسبون وسيأتي سرّ الجمع في باب البلاغة (حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) حتى حرف غاية وجر وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط وجملة جاءنا في محل جر بإضافة الظرف إليها وفاعل جاءنا يعود على العاشي المأخوذ من يعش الآنف وجملة قال لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ويا حرف تنبيه أو حرف نداء والمنادى محذوف ظاهر التقدير وليت حرف تمن ونصب وبيني ظرف متعلق بمحذوف خبرها المقدم وبينك عطف على بيني وبعد المشرقين اسم ليست المؤخر وسيأتي معنى المشرقين في باب البلاغة (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) الفاء الفصيحة وبئس فعل ماض جازم لإنشاء الذم والقرين فاعل بئس والمخصوص بالذم محذوف تقديره أنت (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) كلام مستأنف مسوق لبسط ما يقال لهم في الآخرة ولن حرف نفي ونصب واستقبال وينفعكم فعل مضارع منصوب بلن واليوم ظرف متعلق بينفعكم وإذ ظرف لما مضى من الزمن بدل من اليوم ولا يقال إن إذ للمضي واليوم للحال فلا يجوز البدل لأن الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله وعلمه فكأن إذ مستقبلة وكأن اليوم ماض، قال ابن جنّي في مساءلته أبا علي: راجعت فيها مرارا وآخر ما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 85 حصل منه أن الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله وعلمه. وجملة ظلمتم في محل جر بإضافة الظرف إليها وأن وما بعدها في تأويل مصدر فاعل ينفعكم أي لن ينفعكم اشتراككم في العذاب كما ينفع الاشتراك في مصائب الدنيا حيث يتأسى المصاب بمثله وقيل الفاعل مستتر تقديره تمنّيكم وهو المدلول عليه بقوله «يا ليت بيني وبينه» أي لن ينفعكم تمنّيكم البعد ويؤيد إضمار الفاعل قراءة إنكم بالكسر فإنه استئناف يفيد التعليل إما بالفتح فأن وما بعدها في موضع نصب بنزع الخافض أي لأنكم والجار والمجرور متعلقان بينفعكم وفي العذاب متعلقان بمشتركون ومشتركون خبر إن. البلاغة: 1- النكرة الواقعة في سياق الشرط: في قوله: «ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا» الآية نكتة بديعة وهي أن النكرة الواقعة في سياق الشرط تفيد العموم ولذلك أعاد عليه الضمير مجموعا في قوله: «وإنهم ليصدّونهم» والثاني الواو في قوله «ويحسبون» والثالث الهاء في قوله إنهم. أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي أن قريشا قالت قيضوا لكل رجل من أصحاب محمد رجلا يأخذه فقيضوا لأبي بكر طلحة بن عبيد الله فأتاه وهو في القوم فقال أبو بكر: إلام تدعوني؟ قال: أدعوك إلى عبادة اللّات والعزّى قال أبو بكر: وما اللات؟ قال: أولاد الله، قال: وما العزّى؟ قال: بنات الله، قال أبو بكر فمن أمهم؟ فسكت طلحة ولم يجبه فقال لأصحابه: أجيبوا الرجل فسكت القوم. فقال طلحة: قم يا أبا بكر أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فأنزل الله: ومن يعش عن ذكر الرحمن، الآية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 86 2- وفي هذه الآية أيضا من التنكيت وهو أن يقصد المتكلم إلى شيء بالذكر دون غيره مما يسدّ مسدّه لأجل نكتة في المذكور ترجح مجيئه على سواه، فإن لقائل أن يقول لأي نكتة عدل عن لفظ الحقيقة فلم يقل: ومن يعرض عن ذكر الرحمن فاستعار لفظة العشا للضلال فنقول: النكتة في ذلك أن لفظ الاستعارة موفّ بالمعنى المراد بخلاف لفظ الحقيقة فإن الإعراض إعراضان: إعراض يرجى بعده الإقبال لأن المعرض متمكّن من الإقبال وذلك إعراض المؤمن المعتقد أحسن معتقد فيعرض له من الملاذّ التي تستغرق فكره وتشغل قلبه وعقله شغلا بتلك اللذة أو ضدها أو غيرها من أمور الدنيا فيعرض عن الذكر في تلك الحالة فمصاحبة الشيطان لذلك غير دائمة لأنه يمكن أن يؤوب إلى الله سبحانه ويتوب عن ذلك فيقبل على ما كان أعرض عنه من الذكر الذي عرف قديما طريقه واهتدى إلى سبيله وربي عليه أو لأجل عناية إلهية اقتضتها سابقة أزلية تجذبه إليه وإعراض ضلال عن طريق الرشد وسبيل الخير حتى لو قدّرنا أنه أراد الإقبال على الخير لمنعته منه سابقة الضلال والشقوة التي غلبت عليه، والمراد بالإعراض في الآية إعراض الضلال لا إعراض الغفلة فلا جرم أنه حسن استعارة العشا للضلال فيها وهذا المعرض هو الذي يقيض له مقارنة الشيطان أين كان وحيث كان وبذلك يتبين موضع النكتة التي رجّحت العدول عن لفظ الحقيقة إلى لفظ الاستعارة. 3- التغليب: وفي قوله: «بعد المشرقين» فن التغليب وهو شائع في كلامهم يغلبون الشيء على ما لغيره وذلك بأن يطلق اسمه على الآخر ويثنى بهذا الاعتبار لتناسب بينهما واختلاط فمثال التغليب للتناسب قولهم الأبوين للأب والأم ومنه قوله تعالى «ولأبويه لكل واحد منهما السدس» والمشرقين والمغربين والخافقين وهو محل الخفوق أي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 87 الغروب من خفق النجم أي غرب والقمرين في الشمس والقمر قال أبو الطيب: نشرت ثلاث ذوائب من شعرها ... في ليلة فأرت ليالي أربعا واستقبلت قمر السما بوجهها ... فأرتني القمرين في وقت معا أي الشمس وهو وجهها وقمر السماء، والقمران في العرف الشمس والقمر، وقيل إن منه قول الفرزدق: أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع وقيل إنما أراد محمدا والخليل عليهما الصلاة والسلام لأن نسبه يمتّ إليها، وقالوا العمرين في أبي بكر وعمر وقيل المراد عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز فلا تغليب، وأما الأول ففيه تغليب غلبوا الأخف وقيل لطول عمره، وقالوا العجاجين في رؤبة والعجاج، والمروتين في الصفا والمروة، ومثال التغليب للاختلاط قوله تعالى: «فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع» فإن الاختلاط حاصل في العموم السابق في قوله «كل دابة» ثم فصله فيما بعد وفي من يمشي على رجلين في عبارة التفصيل فإنه يضم الإنسان والطائر وقوله تعالى: «اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون» لأن لعل متعلقة بخلقكم لا باعبدوا لئلا يلزم تعليل الشيء بنفسه أي اعبدوا لأجل التقوى والتقوى هي العبادة وغلبوا المذكر على المؤنث حتى عدت منهم في قوله تعالى: «وكانت من القانتين» أي مريم وعدت من الذكور حيث جعلت بمثابتهم في التعبير بلفظ يخصّ به الذكور في أصل الوضع ولو لم يغلب لقال: من القانتات. الفوائد: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر في صحيح الترمذي: «عن أبي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 88 هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» . [سورة الزخرف (43) : الآيات 40 الى 45] أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) الإعراب: (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) كلام مستأنف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم أي إن هؤلاء صم فلا يمكنك إسماعهم وعمي فلا يمكنك هدايتهم، والهمزة للاستفهام الإنكاري التعجبي والفاء عاطفة على محذوف مقدر وأنت ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ وجملة تسمع خبر والصمّ مفعول به واو حرف عطف وجملة تهدي العمي عطف على تسمع الصمّ (وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الواو عاطفة ومن اسم موصول معطوف على العمي وجملة كان صلة من واسم كان ضمير مستتر تقديره هو وفي ضلال خبر كان ومبين صفة (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) الفاء عاطفة وإن شرطية أدغمت نونها في ما الزائدة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 89 ونذهبن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وهو في محل جزم فعل الشرط وبك متعلقان بنذهبنّ، فإنّا: الفاء رابطة لجواب الشرط وإن واسمها ومنهم متعلقان بمنتقمون ومنتقمون خبر إن وجملة فإنّا في محل جزم جواب الشرط (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) عطف على الجملة السابقة والذي مفعول نرينك الثاني وجملة وعدناهم صلة وإن واسمها وخبرها (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) الفاء الفصيحة أي إن علمت هذا وتأكدت منه فاستمسك، واستمسك فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وبالذي متعلقان باستمسك وجملة أوحي إليك صلة (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الجملة لا محل لها من الإعراب لأنها تعليل للأمر وإن واسمها وعلى صراط خبرها ومستقيم صفة (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) الواو عاطفة وإن واسمها واللام المزحلقة وذكر خبر إن ولك متعلقان بذكر أو صفة له ولقومك عطف على لك والواو عاطفة وسوف حرف تسويف وتسألون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) الواو عاطفة واسأل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ومن مفعول به وجملة أرسلنا صلة الموصول ومن قبلك متعلقان بأرسلنا ومن رسلنا حال وسيأتي بحث المجاز في هذا السؤال في باب البلاغة (أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) الجملة سدّت مسدّ مفعولي اسأل المعلقة عن العمل بالاستفهام والهمزة للاستفهام وجعلنا فعل وفاعل ومن دون الرحمن مفعول جعلنا الثاني وآلهة مفعول جعلنا الأول وجملة يعبدون صفة لآلهة ويعبدون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. البلاغة: المجاز في مساءلة الشعراء للديار والرسوم: في قوله «واسأل من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 90 أرسلنا من قبلك» مجاز مرسل فقد أوقع السؤال على الرسل مع أن المراد أممهم لعلاقة الهداية المفضية بهم إلى معرفة اليقين ويكثر في العربية السؤال الواقع مجازا حيث لا يصحّ السؤال على الحقيقة ومنه مساءلة الشعر الديار والرسوم والأطلال على حدّ قول عنترة: هلّا سألت الخيل يا ابنة مالك ... إن كنت جاهلة بما لم تعلمي وقيل هو على حذف مضاف فيكون مجازا بالحذف أي واسأل أمم من أرسلنا من قبلك وهلّا سألت راكبي الخيل، ويشهد لهذا التأويل وإرادة سؤال الأمم قوله تعالى «فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك» . [سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 56] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 91 الإعراب: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان شبهة أوردها فرعون على موسى كما أوردت قريش شبهة الفقر على محمد صلى الله عليه وسلم. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل وموسى مفعول به وبآياتنا حال فالباء للملابسة وإلى فرعون متعلقان بأرسلنا وملئه عطف على فرعون (فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) الفاء حرف عطف وإني: إن واسمها ورسول رب العالمين خبرها وجملة إن وما بعدها مقول القول (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) الفاء عاطفة على مقدر أي فطلبوا منه الآيات الدالّة على صدقه، ولما ظرفية حينية أو رابطة وجاءهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وبآياتنا متعلقان بجاءهم وإذا فجائية ولك أن تجعلها ظرفا معمولا لفعل المفاجأة الذي هو جواب لما ولك أن تجعلها حرفا، وفيما يلي نص عبارة أبي حيان بهذا الصدد قال: «قال الزمخشري: فإن قلت كيف جاز أن تجاب لما بإذا الفجائية؟ قلت: لأن فعل المفاجأة معها مقدّر وهو عامل النصب في محلها كأنه قيل: فلما جاءهم بآياتنا فاجئوا وقد ضحكهم انتهى. ولا نعلم نحويا ذهب إلى ما ذهب إليه هذا الرجل من أن إذا الفجائية تكون منصوبة بفعل مقدّر تقديره فاجأ بل المذاهب فيها ثلاثة مذاهب: أما إنها حرف فلا تحتاج إلى عامل أو ظرف مكان أو ظرف زمان فإن ذكر بعد الاسم الواقع بعدها خبر كانت منصوبة على الظرف والعامل فيها ذلك الخبر نحو خرجت فإذا زيد قائم تقديره وخرجت ففي المكان الذي خرجت فيه زيد قائم أو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 92 ففي الوقت الذي خرجت فيه زيد قائم وإن لم يذكر بعد الاسم أو ذكر اسم منصوب على الحال كانت إذا خبر للمبتدأ فإن كان الاسم جثة وقلنا إنها ظرف مكان كان الأمر واضحا نحو خرجت فإذا الأسد أي ففي الحضرة الأسد أو فإذا الأسد رابضا وإن قلنا إنها ظرف زمان كان على حذف مضاف لئلا يخبر الزمان عن الجثة نحو خرجت فإذا الأسد أي ففي الزمان حضور الأسد وما ادّعاه الزمخشري من إضمار فعل المفاجأة لم ينطق به ولا في موضع واحد ثم المفاجأة التي ادّعاها لا يدل المعنى على أنها تكون من الكلام السابق بل المعنى يدل على أن المفاجأة تكون من الكلام الذي فيه إذا تقول خرجت فإذا الأسد والمعنى ففاجأني الأسد وليس المعنى ففاجأت الأسد» وقد أوردنا القول في إذا الفجائية، وهم مبتدأ ومنها متعلقان بيضحكون وجملة يضحكون خبرهم (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) الواو عاطفة وما نافية ونريهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول ومن حرف جر زائد وآية مفعول به ثان لنريهم وإلا أداة حصر وهي مبتدأ وأكبر خبر ومن أختها متعلقان بأكبر والجملة صفة لآية وسيأتي المزيد من بحث هذا الكلام في باب البلاغة (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الواو عاطفة وأخذناهم فعل وفاعل ومفعول به وبالعذاب متعلقان بأخذناهم ولعل واسمها وخبرها (وَقالُوا: يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل ويا أيها نداء تقدم إعرابه والساحر بدل من أي أو نعت لها وادع فعل أمر مبني على حذف حرف العلة ولنا متعلقان بادع وربك مفعول به وبما متعلقان بادع وما يحتمل أن تكون موصولة وأن تكون مصدرية وجملة عهد صلة أو مؤولة بمصدر مجرور بالبناء وعندك ظرف متعلّق بعهد وإن واسمها ولمهتدون خبرها واللام المزحلقة (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) الفاء عاطفة على محذوف مقدّر أي فدعا موسى فلما كشفنا، ولما رابطة أو حينية وكشفنا فعل وفاعل وعنهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 93 متعلقان بكشفنا والعذاب مفعول به وإذا فجائية تقدّم القول فيها مفصلا وهم مبتدأ وجملة ينكثون خبرها (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ) الواو استئنافية أو عاطفة ونادى فرعون فعل وفاعل وفي قومه متعلقان بنادى، وسيأتي سر هذا النداء والظرفية في باب البلاغة، وقال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو والجملة تفسيرية ويا قوم منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة والهمزة للاستفهام التقريري وليس فعل ماض ناقص جامد ولي خبرها المقدم وملك مصر اسمها المؤخر وهذه الواو إما حالية فالجملة نصب على الحال وإما عاطفة وهذه عطف على ملك مصر وعلى الأول تكون هذه مبتدأ والأنهار بدل وجملة تجري خبر ومن تحتي متعلقان بتجري، أفلا: الهمزة للاستفهام والفاء عاطفة على مقدّر ولا نافية وتبصرون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) أم حرف عطف وهي منقطعة مقدّرة ببل والهمزة أي بل أنا خير فهي منقطعة لفظا متصلة معنى وقال الزمخشري والسيوطي: أم هذه متصلة لأن المعنى أفلا تبصرون أم تبصرون إلا أنه وضع قوله أنا خير منه موضع تبصرون لأنهم إذا قالوا له أنت خير كانوا عنده بصراء وهذا من إنزال السبب منزلة المسبّب. واعترض أبو حيان على الزمخشري بأن المعادل لا يحذف بعد أم إلا إن كان بعدها لفظ لا نحو أتقول أم لا أي أم لا تقول أما حذفه بدون لا كما هنا فلا يجوز على أنه جاء حذف أم والمعادل وهو قليل ومنه قول الشاعر: دعاني إليها القلب إني لأمره ... سميع فما أدري أرشد طلابها يريد أم غي. وقال أبو البقاء: «أم هنا منقطعة في اللفظ الوقوع الجملة بعدها وهي في المعنى متصلة معادلة إذ المعنى أنا خير منه أم لا» وسيأتي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 94 مزيد من هذا البحث في باب الفوائد، وأنا مبتدأ وخير خبر ومن هذا متعلقان بخير والذي بدل من اسم الإشارة وهو مبتدأ ومهين خبر والجملة صلة الذي (وَلا يَكادُ يُبِينُ) لك في الواو أن تجعلها عاطفة فالجملة معطوفة على صلة الموصول ولك أن تجعلها مستأنفة فالجملة لا محل لها أيضا وأجازوا أن تكون حالية ولا نافية ويكاد فعل مضارع ناقص من أفعال المقاربة واسمها ضمير مستتر تقديره هو وجملة يبين خبر يكاد أي يظهر كلامه (فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) الفاء عاطفة ولولا حرف تحضيض بمعنى هلّا وألقي فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان بألقي وأسورة نائب فاعل وهو جمع سوار ومن ذهب صفة لأسورة (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) أو حرف عطف وجاء فعل ماض ومعه ظرف متعلق بجاء والملائكة فاعل ومقترنين حال أي متتابعين يشهدون بصدقه (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) الفاء عاطفة واستخف فعل ماض أي استفز، وفي المختار: «استفزه الخوف: استخفه» وفي المصباح: «واستخف قومه: حملهم على الخفّة والجهل» وقومه مفعول به. فأطاعوه: الفاء عاطفة وأطاعوه فعل ماض وفاعل ومفعول به وإن واسمها وجملة كانوا خبرها وجملة إن تعليلية لا محل لها وقوما خبر كانوا وفاسقين صفة (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) الفاء عاطفة ولما حينية ظرفية أو رابطة وآسفونا فعل ماض وفاعل ومفعول به وهو منقول بالهمزة من أسف إذا غضب فعداه بالهمزة والمعنى فلما عملوا ما يوجب دالة الحلم ويثير الحفائظ، وجملة انتقمنا لا محل لها لأنها جواب لما ومنهم متعلقان بانتقمنا، فأغرقناهم عطف على انتقمنا وأجمعين تأكيد للهاء (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ) الفاء عاطفة وجعلناهم فعل وفاعل ومفعول به أول وسلفا مفعول به ثان أي سابقين متقدمين إلى العذاب ليتعظ بهم غيرهم ومثلا عطف على سلفا وللآخرين صفة لمثلا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 95 البلاغة: 1- في قوله «وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها» كلام جامع مانع يعني أنهنّ موصوفات بالكبر لا يكدن يتفاوتن فيه، قال الزمخشري: «وكذلك العادة في الأشياء التي تتلاقى في الفضل وتتفاوت منازلها فيه التفاوت اليسير أن تختلف آراء الناس في تفضيلها فيفضل بعضهم هذا وبعضهم ذاك فعلى ذلك بنى الناس كلامهم فقالوا أرأيت رجالا بعضهم أفضل من بعض وربما اختلفت آراء الرجل الواحد فيها فتارة يفضل هذا وتارة يفضل ذاك ومنه بيت الحماسة: من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري وقد فاضلت الأنمارية بين الكلمة من بنيها ثم قالت لما أبصرت مراتبهم متدانية قليلة التفاوت: ثكلتهم إن كنت أعلم أيّهم أفضل هم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها» فالوصف بالكبر مجاز وإن ذلك بالنسبة إلى الناظرين فيها. 2- المجاز أيضا: وفي قوله «ونادى فرعون في قومه» مجاز مرسل علاقته المحلية فقد جعل قومه محلا لندائه وموقعا له والمعنى أنه أمر بالنداء في مجامعهم وأماكنهم كما أن المراد من نادى فيها فأسند النداء إليه كقولك قطع الأمير اللص إذا أمر بقطعه. الفوائد: أم أيضا: قدّمنا في باب الإعراب لمحة عن أم وذكرنا في مواضع متقدمة من هذا الكتاب مباحث جليلة فيها وننقل هنا الفصل الممتع الذي عقده صاحب المغني بصددها مع تعليق مفيد عليه، قال ابن هشام: «سمع حذف أم المتصلة ومعطوفها كقول الهذلي: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 96 دعاني أيها القلب إني لأمره ... سميع فما أدري أرشد طلابها تقديره أم غي، كذا قالوا، وفيه بحث كما مر،- أي في الألف المفردة من أن الهمزة هنا كهل فلا تحتاج إلى معادل- وأجاز بعضهم حذف معطوفها بدونها فقال في قوله تعالى: «أفلا تبصرون أم» إن الوقف هنا وإن التقدير أم تبصرون ثم يبتدئ أنا خير وهذا باطل إذ لم يسمع حذف معطوف بدون عاطفه وإنما المعطوف جملة أنا خير ووجه المعادلة بينهما وبين الجملة قبلها أن الأصل أم تبصرون ثم أقيمت الاسمية مقام الفعلية والسبب مقام المسبّب لأنهم إذا قالوا له: أنت خير كانوا عنده بصراء وهذا معنى كلام سيبويه. فإن قلت: فإنهم يقولون أتفعل هذا أم لا والأصل أم لا تفعل، قلت: إنما وقع الحذف بعد لا ولم يقع بعد العاطف وأحرف الجواب تحذف الجمل بعدها كثيرا وتقوم هي في اللفظ مقام تلك الجمل فكأن الجملة هنا مذكورة لوجود ما يغني عنها» . وعبارة سيبويه في الكتاب: «هذا باب أم منقطعة وذلك قولك أعمرو عندك أم عندك زيد فهذا ليس بمنزلة أيّهما عندك، ألا ترى أنك لو قلت أيّهما عندك لم يستقم إلا على التكرير والتوكيد ويدلك على أن الآخر منقطع عن الأول قول الرجل إنها لا بل ثم يقول أم شاء فكما جاءت أم هنا بعد الخبر منقطعة كذلك تجيء بعد الاستفهام وذلك أنه حين قال: أعمرو عندك فقد ظن أنه عنده ثم أدركه مثل ذلك الظن في زيد بعد أن استغنى كلامه ثم قال ومثل ذلك: وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير كأن فرعون قال أفلا تبصرون أم أنتم بصراء فقوله أم أنا خير من هذا بمنزلة أم أنتم بصراء لأنهم لو قالوا أنت خير منه كان بمنزلة قولهم نحن بصراء فكذلك أم أنا خير بمنزلة أم أنتم بصراء» فقد حكم سيبويه بأن أم منقطعة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 97 [سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 62] وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) الإعراب: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان نوع آخر من لجاجهم وإمعانهم في المكابرة، ولما ظرفية حينية أو رابطة وضرب فعل ماض مبني للمجهول وابن مريم نائب فاعل ومثلا مفعول به ثان لأن ضرب ضمن معنى جعل ويجوز أن يعرب حالا أي ذكر ممثلا به وإذا فجائية تقدم القول فيها وقومك مبتدأ ومنه متعلقان بيصدون وجملة يصدون خبر قومك وهو بكسر الصاد أي ترتفع لهم جلبة وضوضاء فرحا وجذلا وضحكا مما سمعوا، وستأتي القصة في باب الفوائد وقرئ يصدون بالضم من الصدود أي الإعراض وقيل هما لغتان (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل والهمزة للاستفهام وآلهتنا مبتدأ وخير خبر وأم حرف عطف وهي متصلة وهو معطوف على آلهتنا (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) ما نافية وضربوه فعل وفاعل ومفعول به ولك متعلقان بضربوه وإلا أداة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 98 حصر وجدلا مفعول من أجله أي لأجل الجدال والمراء واللجاج لا لإظهار الحق ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال أي لا مجادلين وبل حرف إضراب وهم مبتدأ وقوم خبر وخصمون صفة لقوم (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) إن نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر وعبد خبر هو وجملة أنعمنا صفة لعبد وعليه متعلقان بأنعمنا وجعلناه عطف على أنعمنا ومثلا مفعول به ثان لجعلناه ولبني إسرائيل صفة لمثلا (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) الواو عاطفة ولو شرطية ونشاء فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره نحن واللام واقعة في جواب لولا وجعلنا فعل وفاعل ومنكم في موضع المفعول الثاني إن كانت جعلنا بمعنى صيّرنا وإن كانت بمعنى خلقنا فالجار والمجرور متعلقان بجعلنا وفي الأرض متعلقان بيخلفون وجملة يخلفون صفة لملائكة، وقال بعض النحويين: «من تكون للبدل أي لجعلنا بدلكم ملائكة وجعل من ذلك قوله تعالى «أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة» أي بدل الآخرة وقول الشاعر: أخذوا المخاض من الفصيل غلبة ... ظلما ويكتب للأمير أقالا أي بدل الفصيل والأولى أنها للتبعيض كما ذكرنا في الإعراض (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) الواو عاطفة وإن واسمها واللام المزحلقة وعلم خبر إنه وللساعة صفة لعلم أي شرط من أشراطها تعلم به فسمي الشرط علما لحصول العلم به والفاء الفصيحة ولا ناهية وتمترن فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة والمرية الشك (وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) الواو عاطفة واتبعوني فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء المحذوفة خطا اتّباعا لسنّة المصحف مفعول به وهذا مبتدأ وصراط خبر ومستقيم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 99 صفة (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) الواو عاطفة ولا ناهية ويصدنكم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وهو في محل جزم بلا والكاف مفعول به والشيطان فاعل وجملة إنه لكم عدوّ مبين تعليلية لا محل لها من الإعراب. الفوائد: من القصص الممتع ما يرويه المؤرخون بصدد هذه الآية «ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدّون» فقد ذكروا أنه لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم، امتعضوا من ذلك امتعاضا شديدا فقال عبد الله بن الزبعرى: يا محمد أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه السلام هو لكم ولجميع الأمم فقال: خصمتك ورب الكعبة أليست النصارى يعبدون المسيح واليهود يعبدون عزيرا وبنو مليح يعبدون الملائكة فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ففرحوا وضحكوا وارتفعت أصواتهم وذلك قوله تعالى: إذا قومك منه يصدون، ففند الله مكابرتهم بأنه إنما قصد به الأصنام ولم يقصد به الأنبياء والملائكة إلا أن ابن الزبعرى لما رأى كلام رسول الله محتملا لفظه وجه العموم مع علمه بأن المراد به أصنامهم ليس غير وجد للحيلة مساغا فصرف معناه إلى الشمول والإحاطة على طريق المماحكة واللجاج فتوقر رسول الله عن إجابته حتى أجاب عنه ربه بقوله: «إن الذين سبقت لهم منّا الحسنى أولئك عنها مبعدون» ، فدلّ به على أن الآية خاصة بالأصنام، هذه خلاصة القصة ولا بدّ من التنبيه إلى أن عبد الله بن الزبعرى صحابي مشهور وشاعر معروف وقد أسلم وحسن إسلامه وهذه القصة على تقدير صحتها كانت قبل إسلامه، والزبعرى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 100 بكسر الزاي وفتح الباء وسكون العين والراء المفتوحة والألف المقصورة ومعناه في اللغة السيئ الخلق. [سورة الزخرف (43) : الآيات 63 الى 65] وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) الإعراب: (وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان تعنت بني إسرائيل ولما رابطة أو حينية وجاء عيسى فعل ماض وفاعل وبالبيّنات متعلقان بجاء وجملة قال لا محل لها وجملة قد جئتكم بالحكمة مقول القول، ولأبين: الواو عاطفة واللام لام التعليل وأبين فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام التعليل والجار والمجرور معطوفان على بالحكمة وعبارة الشهاب: «قوله ولأبين لكم متعلق بمقدر أي وجئتكم لأبين ولم يترك العاطف ليتعلق بما قبله ليؤذن بالاهتمام بالعلّة حتى جعلت كأنها كلام برأسه» ولكم متعلقان بأبين وبعض الذي مفعول به لأبين وجملة تختلفون صلة وفيه متعلقان بتختلفون (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) لك أن تجعل الفاء عاطفة فيكون الكلام معطوفا على ما سبقه على أنه تتمة كلام عيسى ولك أن تجعلها استئنافية فيكون الكلام مستأنفا من الله للدلالة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 101 على طريق الطاعة ومحجتها الواضحة، واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وأطيعون عطف على فاتقوا والياء المحذوفة لمراعاة خط المصحف مفعول به (إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) الجملة تفسير لما تقدم من قوله وأطيعون وإن واسمها وهو مبتدأ وربي خبر والجملة خبر إن وربكم عطف على ربي والفاء الفصيحة واعبدوه فعل وفاعل ومفعول به وهذا مبتدأ وصراط خبر ومستقيم صفة (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) الفاء عاطفة واختلف الأحزاب فعل وفاعل ومن بينهم حال من الأحزاب (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) الفاء عاطفة وويل مبتدأ وقد تقدم أنها كلمة عذاب فلذلك ساغ الابتداء بها وللذين خبره ومن عذاب يوم أليم خبر ثان أو حال أي حال كونه كائنا من عذاب يوم القيامة. [سورة الزخرف (43) : الآيات 66 الى 73] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 102 اللغة: (الْأَخِلَّاءُ) جمع خليل وهو الصديق وفي المصباح: «الخليل الصديق والجمع أخلاء كأصدقاء وفي القاموس: «والخل بالكسر والضم الصديق المختص أو لا يضم إلا مع ود يقال: كان لي ودّا وخلّا والجمع أخلال كالخليل والجمع أخلّاء وخلّان أو الخليل الصادق أو من أصفى المودّة وأصحّها» واستدرك في التاج فقال: «قال ابن سيده وكسر الخاء أكثر ويقال للأنثى خل أيضا» . (تُحْبَرُونَ) تسرّون سرورا يظهر حباره أي أثره على وجوهكم، وقال الزجّاج: تكرمون إكراما يبالغ فيه والحبرة المبالغة فيما وصف بجميل وفي القاموس: «والحبر بفتحتين الأثر كالحبار بكسر أوله وفتحه» . (بِصِحافٍ) بقصاع قال الكسائي: «أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة وهي تشبع العشرة ثم الصحفة وهي تشبع الخمسة ثم المئكلة وهي تشبع الرجلين أو الثلاثة» . (وَأَكْوابٍ) جمع كوب وهو إناء لا عروة له قال قطرب: الإبريق لا عروة له وقال الأخفش: الإبريق لا خرطوم له وقيل كالإبريق إلا أنه لا أذن له ولا مقبض. وقال أبو منصور الجواليقي: «إنما كان بغير عروة ليشرب الشارب من أين يشاء لأن العروة ترد الشارب من بعض الجهات» وقال عدي: متكئا تصفق أبوابه ... يسعى عليه العبد بالكوب الإعراب: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) هل حرف استفهام معناه النفي أي لا ينظرون، وينظرون فعل مضارع مرفوع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 103 بثبوت النون والواو فاعل وإلا أداة حصر والساعة مفعول به وأن تأتيهم: المصدر المنسبك من أن وتأتيهم بدل من الساعة بدل اشتمال والمعنى هل ينظرون إلا إتيان الساعة وبغتة حال والواو للحال وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر والجملة حال ثانية (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الأخلاء مبتدأ ويومئذ ظرف منصوب بعدو أي تنقطع في ذلك اليوم كل آصرة أو خلّة بين المتخالين وتستحيل عداوة ومقتا وإذ ظرف مضاف إلى مثله والتنوين عوض عن الجملة وتقديرها يوم إذ تأتيهم الساعة وبعضهم مبتدأ ثان ولبعض متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لعدو وعدو خبر بعضهم والجملة الاسمية خبر الأخلاء وإلا أداة استثناء والمتقين مستثنى بإلا منصوب (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) الجملة مقول قول محذوف أي ويقال لهم ويا حرف نداء وعباد منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة مراعاة لخط المصحف ولا نافية وخوف مبتدأ وساغ الابتداء به لأنه سبق بنفي وعليكم خبر واليوم ظرف متعلق بمحذوف حال ولا عطف على ما تقدم وأنتم مبتدأ وتحزنون جملة فعلية في محل رفع خبر (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) الذين صفة لعبادي لأنه منادى مضاف وجملة آمنوا صلة الذين وبآياتنا متعلقان بآمنوا وكانوا كان واسمها ومسلمين خبرها والجملة معطوفة على الصلة، واختار بعضهم أن تكون الواو حالية والجملة في محل نصب على الحال من الواو وقال أنها آكد (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) ادخلوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجنة مفعول به على السعة وأنتم مبتدأ وأزواجكم عطف على أنتم وجملة تحبرون خبر أنتم (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) يطاف فعل مضارع مبني للمجهول وعليهم في موضع رفع نائب فاعل وبصحاف متعلقان بيطاف ومن ذهب صفة لصحاف وأكواب عطف على صحاف وذكر الذهب في الصحاف واستغنى به عن الإعادة في الأكواب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 104 كقوله تعالى «والذاكرون الله كثيرا والذاكرات» (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) الواو عاطفة وفيها خبر مقدم وما موصول مبتدأ مؤخر وجملة تشتهيه الأنفس صلة ما وتلذ الأعين عطف على الصلة داخلة في حيزها وأنتم مبتدأ وفيها متعلقان بخالدون وخالدون خبر أنتم (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة وتلك مبتدأ والجنة خبر والتي نعت للجنة وجملة أورثتموها صلة وبما متعلقان بأورثتموها وكنتم كان واسمها وجملة تعملون خبر كنتم (لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ) لكم خبر مقدم وفيها حال وفاكهة مبتدأ مؤخر وكثيرة صفة ومنها متعلقان بتأكلون وجملة تأكلون نصب لفاكهة، ويجوز أن تعرب الجنة بدلا من اسم الإشارة فتكون جملة لكم فيها فاكهة هي الخبر، وعبارة أبي حيان المتفقة مع عبارة الزمخشري هي: «وتلك الجنة مبتدأ وخبر والتي أورثتموها صفة أو الجنة صفة والتي أورثتموها وبما كنتم تعملون الخبر وما قبله صفتان فإذا كان بما الخبر تتعلق بمحذوف وعلى القولين الأولين يتعلق بأورثتموها» . البلاغة: حفلت هذه الآيات بضروب من البلاغة وأفانين من البيان نوجزها فيما يلي: 1- الإيجاز: وذلك في نداء الله تعالى لعباده، فقد اشتمل هذا النداء على أمور أربعة: 1- نفى عنهم الخوف 2- نفى عنهم الحزن 3- أمرهم بدخول الجنة 4- بشّرهم باستحواذ السرور على أنفسهم. 2- الإيجاز أيضا: وذلك في قوله تعالى «وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين» فقد حصر أنواع النعم لأنها لا تعدو أمرين اثنين: إما مشتهاة في القلوب وإما مستلذة في العيون، وجاء في الحديث: إن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 105 رجلا قال يا رسول الله أفي الجنة خيل فإني أحب الخيل، فقال: إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرسا من ياقوتة حمراء فتطير بك في أيّ الجنة شئت إلا فعلت فقال أعرابي يا رسول الله أفي الجنة إبل فإني أحب الإبل فقال يا أعرابي إن أدخلك الله الجنة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذّت عينك. 3- الالتفات: في قوله «وتلك الجنة التي أورثتموها» فقد التفت من الغيبة إلى الخطاب للتشريف والمخاطب كل واحد ممّن دخل الجنة ولذلك أفرد الكاف ولم يقل وتلكم مع أن مقتضى أورثتموها أن يقول وتلكم وذلك للإيذان بأن كل واحد من أهل الجنة مقصود بالذكر لذاته. 4- الاستعارة: فقد شبّه الجنة بالمال الموروث والتلاد الموفور ثم استعار له الإرث على طريق الاستعارة المكنية لأن كل عمل لا بد أن يلقى جزاءه إذ يذهب العمل ويبقى جزاؤه مع العامل، أو أنها شبّهت في بقائها على أهلها وإفاضة النعم السوابغ عليهم بالميراث الباقي لا ينضب له معين ولا ينتهي إلى نفاد. وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة ينادي مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدا ذلك قول الله عزّ وجلّ «ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون» رواه مسلم والترمذي. [سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 78] إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 106 اللغة: (يُفَتَّرُ) يخفف وفي القاموس: «فتر يفتر ويفتر فتورا وفتارا سكن بعد مدة ولان بعد شدّة وفتره تفتيرا وفتر الماء سكن» . (مُبْلِسُونَ) ساكتون سكوت يأس وفي المصباح: «أبلس الرجل إبلاسا سكت وأبلس سكن» . الإعراب: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) كلام مستأنف مسوق للشروع في الوعيد بعد الإفاضة في حديث الوعد وإن واسمها وفي عذاب جهنم خبر أول وخالدون خبر ثان ولك أن تعلّق الجار والمجرور بخالدون (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) الجملة حالية ولا نافية ويفتر فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو أي العذاب وعنهم متعلقان بيفتر والواو للحال وهم مبتدأ وفيه متعلقان بمبلسون ومبلسون خبرهم والجملة حال ثانية (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) الواو عاطفة وما نافية وظلمناهم فعل ماض وفاعل ومفعول به والواو حالية ولكن مخففة مهملة وكان واسمها وهم ضمير فصل لا محل له أو هو توكيد للواو والظالمين خبر كانوا (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) الواو عاطفة ونادوا فعل ماض وفاعل وعبر بالماضي عن المضارع إيذانا بحقيقة وقوعه فهو من باب أتى أمر الله، ويا مالك نداء، وسيأتي الحديث عن مالك وندائه في باب الفوائد، واللام لام الأمر ويقض فعل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 107 مضارع مجزوم بلام الأمر وعلينا متعلقان بيقض أي ليمتنا وربك فاعل (قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) إن واسمها وخبرها في موضع نصب مقول القول (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وجئناكم فعل وفاعل وبالحق متعلقان بجئناكم والواو حالية وإن واسمها وللحق متعلقان بكارهون وكارهون خبر إن. الفوائد: 1- قرأ علي وابن مسعود رضي الله عنهما يا مال بحذف الكاف للترخيم وقيل لابن عباس: إن ابن مسعود قرأ ونادوا يا مال فقال: ما أشغل أهل النار عن الترخيم وعن بعضهم أن الذي حسن الترخيم لأهل النار ضعفهم عن إتمام الاسم لأنهم في غنية عن الترخيم قال ابن جنّي: «وللترخيم في هذا الموضع سر وذلك أنهم لعظم ما هم عليه خفتت أصواتهم ووهنت قواهم وذلّت أنفسهم فكان هذا من موضع الاختصار ضرورة» قال الطيبي «قلت هذا اعتذار منه لقراءة ابن مسعود حيث ردّها ابن عباس بقوله: ما أشغل أهل النار عن الترخيم فإن ما للتعجب وفيه معنى الصدّ نظير قولك لمن كان في شدة واشتغل عنها بما لا يهمه: ما أشغلك عن هذا أما يصدّك عن هذا ما أنت فيه من الهول والشدّة» قلت والترخيم هو لغة التسهيل والتليين يقال صوت رخيم أي سهل لين، واصطلاحا حذف بعض الكلمة على وجه مخصوص وهو ثلاثة أنواع: 1- ترخيم النداء 2- ترخيم الضرورة 3- ترخيم التصغير، ومباحثها في كتب النحو. ومالك هو خازن النار أي رئيس سدنتها الماضي عليهم كلامه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 108 ومجلسه في وسط النار وفيها جسور تمر عليها ملائكة العذاب فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها. 2- الحديث المتعلق بالآية: وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب فيدفع إليهم بكلاليب الحديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم فيقولون ادعوا خزنة جهنم فيقولون «ألم تك تأتيكم رسلكم بالبيّنات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال» قال: فيقولون: ادعوا مالكا فيقولون: «يا مالك ليقض علينا ربك» قال فيجيبهم: إنكم ماكثون قال الأعمش: نبئت أن بين دعائهم وبين إجابة مالك إياهم ألف عام قال فيقولون: ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم فيقولون: «ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنّا قوما ضالّين، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنّا ظالمون» قال: فيجيبهم: «اخسئوا فيها ولا تكلمون» قال فعند ذلك يئسوا من كل خير وعند ذلك يأخذون في الزفير والحسرة والويل. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: إنّ أهل النار يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ثم يقول: إنكم ماكثون ثم يدعون ربهم فيقولون: «ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنّا ظالمون» فلا يجيبهم مثل الدنيا ثم يقول: «اخسئوا فيها ولا تكلمون» ثم ييئس القوم فما هو إلا الزفير والشهيق تشبه أصواتهم أصوات الحمير أولها شهيق وآخرها زفير. [سورة الزخرف (43) : الآيات 79 الى 89] أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 109 اللغة: (أَبْرَمُوا) أحكموا وفي المصباح: «وأبرمت العقد إبراما: أحكمته فانبرم هو وأبرمت الشيء دبرته» ويقال أبرم الحبل إذا أتقن فتله والمراد القتل الثاني وأما الأول فيقال له سحل وفي القاموس: السحل ثوب لا يبرم غزله كالسحيل، قال زهير يمدح هرم بن سنان والحارث بن عوف: يمينا لنعم السيدان وجدتما ... على كل حال من سحيل ومبرم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 110 الإعراب: (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) كلام مستأنف مسوق للانحاء باللائمة على المشركين لما بدر منهم، وأم منقطعة بمعنى بل فبل للإضراب والانتقال من توبيخ أهل النار وحكاية حالهم إلى حكاية جناية هؤلاء المشركين والهمزة للإنكار وأبرموا فعل ماض وفاعل وأمرا مفعول به والفاء عاطفة وإن واسمها وخبرها (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ؟) أم تقدم القول فيها ويحسبون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وأن وما بعدها سدّت مسدّ مفعولي تحسبون وجملة لا نسمع خبر أنّا وسرّهم مفعول نسمع ونجواهم عطف على سرّهم (بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) بلى حرف جواب أي نسمع ذلك والواو للحال ورسلنا مبتدأ ولديهم ظرف متعلق بيكتبون وجملة يكتبون خبر رسلنا والجملة حالية (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة مستأنفة مسوقة لتفنيد ما ورد من مزاعم لهم في أول السورة بأن لله ولدا من الملائكة وإن شرطية وكان فعل ماض ناقص وللرحمن خبرها المقدّم وولد اسمها المؤخر والفاء رابطة لجواب الشرط وأنا مبتدأ وأول العابدين خبر وسيأتي معنى تعليق العبادة بكينونة الولد في باب الفوائد (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) سبحان مفعول مطلق لفعل محذوف ورب السموات والأرض مضاف إليه ورب العرش بدل من رب الأولى وعمّا متعلقان بسبحان وجملة يصفون صلة ما (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) الفاء الفصيحة وذرهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به ويخوضوا جواب الطلب ولذلك جزم ويلعبوا عطف على يخوضوا، حتى حرف غاية وجر ويلاقوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والواو فاعل ويومهم مفعول به والذي صفة وجملة يوعدون صلة ويوعدون مضارع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 111 مبني للمجهول والواو نائب فاعل (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) الواو استئنافية وهو مبتدأ والذي خبره وفي السماء متعلقان بإله لأنه بمعنى معبود، ومثل له الزمخشري بقولهم هو حاتم طي حاتم في تغلب على تضمين معنى الجواد الذي شهر به كأنك قلت هو جواد في طي جواد في تغلب. وإله خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو والجملة صلة الذي وفي الأرض إله عطف على قوله في السماء إله وهو مبتدا والحكيم العليم خبران (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) الواو عاطفة وتبارك فعل ماض والذي فاعله وله خبر مقدم وملك السموات مبتدأ مؤخر والجملة صلة وما عطف على السموات والأرض والظرف متعلق بمحذوف هو الصلة (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) الواو عاطفة وعنده ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وعلم الساعة مبتدأ مؤخر وإليه متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ) الواو عاطفة ولا نافية ويملك فعل مضارع والذين فاعله وجملة يدعون صلة الموصول ومن دونه متعلقان بيدعون والشفاعة مفعول يملك (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) إلا أداة حصر ومن مستثنى من الذين وهو استثناء منقطع والمعنى ولا يملك آلهتهم ويعني بهم الأصنام والأوثان الشفاعة كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله ولكن من شهد بالحق وهو توحيد الله وهو يعلم ما شهد به هو الذي يملك الشفاعة ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا لأنه يكون المستثنى منه محذوفا كأنه قال ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة في أحد إلا فيمن شهد بالحق فهو استثناء من المفعول المحذوف على حدّ قول الشاعر: نجا سالم والنفس منه بشدقه ... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزر فهو استثناء من المشفوع فيهم. وجملة شهد بالحق صلة من وهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 112 الواو حالية أو عاطفة وهم مبتدأ وجملة يعلمون خبر (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية وسألتهم فعل ماض وفاعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة خلقهم خبر من وجملة الاستفهام المعلقة في محل نصب مفعول به ثان لسألتهم وليقولنّ اللام جواب القسم وجواب الشرط محذوف على القاعدة المعروفة وهي اجتماع قسم وشرط ويقولنّ فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة والله فاعل بفعل محذوف دلّ عليه موصول الاستفهام والتقدير خلقنا الله لأن القضية الشرطية لا تستدعي الوقوع ولا عدمه والدليل على أن المرفوع فاعل فعله محذوف لا مبتدأ أنه جاء عند عدم الحذف كقوله تعالى الآنف الذكر «ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهنّ العزيز العليم» على أن هذه الحجة قد تعارض بالمثل فيقال والدليل على أنه مبتدأ أنه قد جاء كذلك كقوله تعالى: «قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر- إلى قوله- قل الله ينجيكم منها» وما يقال أنه قدّم لإفادة الاختصاص ممنوع لأن الفاعل لا يجوز تقديمه على عامله على الأصح والأحسن أن يقال إن الحجة الفعلية في هذا الباب أكثر فالحمل عليها أولى. وقال ابن هشام: «يقول بعضهم في ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله إن اسم الله سبحانه وتعالى مبتدأ أو فاعل أي الله خلقهم أو خلقهم الله والصواب الحمل على الثاني بدليل ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ خلقهنّ العزيز الحكيم» وتعقبه الدماميني شارع المغني فقال «هذا معارض بقوله تعالى: قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه إلى أن قال: قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب» وتعقبه الشمني فقال: «وأقول لا يعارضه لأن الكلام إنما هو في خصوص الجواب الذي سنده خلق لا في كل جواب» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 113 والفاء عاطفة وأنى اسم استفهام بمعنى كيف في محل نصب على الحال ويؤفكون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل (وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) الواو للقسم وقيله أي قوله مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم والجواب إما محذوف أي لأفعلنّ بهم ما أريد وإما مذكور وهو قوله إن هؤلاء قوم لا يؤمنون كأنه قيل وأقسم بقيله يا رب وقيل هو معطوف على الساعة وفيه بعد وقرئ بالنصب قال الجلال السيوطي «ونصبه على المصدر بفعله المقدّر وقيل إن النصب بالعطف على سرهم ونجواهم وقيل إنه بالعطف على محل الساعة كأنه قيل إنه يعلم الساعة وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر ما بعده أو إن الخبر محذوف تقديره وقيله مسموع أو متقبل» وإن واسمها وخبرها وجملة لا يؤمنون صفة (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) الفاء الفصيحة واصفح فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعنهم متعلقان باصفح وقل عطف على فاصفح وسلام خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر سلام فسوف الفاء عاطفة وسوف حرف تسويف ويعلمون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والمفعول به محذوف للتفخيم أي مغبة أمرهم. الفوائد: وعدناك بالحديث عن تعليق العبادة بكينونة الولد وقد شجر بين المفسرين والمتكلمين جدال طويل في صددها وخاصة بين أهل السنّة والمعتزلة، فقال الزمخشري بأسلوبه البارع ما يلي: «قل إن كان للرحمن ولد وصحّ ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه وهذا كلام وارد على سبيل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 114 الفرض والتمثيل لغرض وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه وأن لا يترك الناطق به شبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد وذلك أنه علّق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها فكان المعلّق بها محالا مثلها فهو في صورة إثباته الكينونة والعبادة وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها» ثم أورد تهكما بأهل السنّة وأرخى للسانه العنان فأساء إلى الذات الإلهية إذ قال: «ونظيره أن يقول العدلي للمجبر إن كان الله خالقا للكفر في القلوب ومعذب عليه عذابا سرمدا فأنا أول من يقول هو شيطان وليس بإله فمعنى هذا الكلام وما وضع له أسلوبه ونظمه نفي أن يكون الله تعالى خالقا للكفر وتنزيهه عن ذلك وتقديسه ولكن على طريق المبالغة فيه من الوجه الذي ذكرنا مع الدلالة على سماجة المذهب وضلالة الذاهب إليه والشهادة القاطعة بإحالته والإفصاح عن نفسه بالبراءة منه وغاية النفار والاشمئزاز من ارتكابه» . وقد نوّه أبو حيان بإساءة الزمخشري فقال بعد أن نقل ما نقلناه من كلام الزمخشري: «ثم ذكر كلاما يستحق عليه التأديب بل السيف نزّهت كتابي عن ذكره» وهذا ليس بالردّ كما ترى بل فيه مقابلة المهاترة بالمهاترة والشطط بالشطط. وردّ الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير الإسكندري المالكي قاضي الإسكندرية المتوفى سنة 683 هـ على الزمخشري ردّا حسنا سلك فيه جادة النقد الصحيح فقال «لقد اجترأ عظيما واقتحم مهلكة في تمثيله بقول من سمّاه عدليا إن كان الله خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه فأنا أول القائلين إنه شيطان وليس بإله فلينتقم عليه ذلك بقول القائل: قد ثبت عقلا وشرعا أنه تعالى خالق لذلك في القلوب كما خلق الإيمان وفاء بمقتضى دليل العقل الدال على أن لا خالق إلا الله وتصديقا بمضمون قوله تعالى: «هل من خالق غير الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 115 وقوله: الله خالق كل شيء وإذا ثبتت هذه المقدمة عقلا ونقلا لزمه فرك أذنه وغلّ عنقه إذ يلحد في الله إلحادا لم يسبقه إليه أحد من عباده الكفرة ولا تجرأ عليه ما ردّ من مردّة الفجرة» إلى آخر هذا الرد الذي لم يخل من السباب والشتائم أيضا. ثم قال الزمخشري: «وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد المستقلة بالتوحيد على أبلغ وجوهه فقيل إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول العابدين الموحدين لله المكذبين قولهم بإضافة الولد إليه وقيل إن كان للرحمن ولد فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد» وقيل: هي إن النافية أي ما كان للرحمن ولد فأنا أول من قال بذلك وعبد ووحد وقد فنّد أبو حيان هذه الوجوه كلها بما لا يتّسع له صدر هذا الكتاب. وعبارة الشوكاني: «أي إن كان له ولد في قولكم وعلى زعمكم فأنا أول من عبد الله وحده لأن من عبد الله وحده فقد دفع أن يكون له ولد، كذا قال ابن قتيبة وقال الحسن والسدّي: إن المعنى ما كان للرحمن ولد ويكون قوله فأنا أول العابدين ابتداء كلام، وقيل المعنى: قل يا محمد إن ثبت لله ولد فأنا أول من يعبد هذا الولد الذي تزعمون ثبوته ولكنه يستحيل أن يكون له ولد وفيه نفي للولد على أبلغ وجه وأتم عبارة وأحسن أسلوب وهذا هو الظاهر من النظم القرآني، ومن هذا القبيل قوله تعالى: وإنّا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، ومثل هذا قول الرجل لمن يناظره إن ثبت ما تقوله بالدليل فأنا أول من يعتقده ويقول به، فتكون إن شرطية وهذا ما اخترناه ورجحه ابن جرير وغيره وهناك أقوال أخرى ضربنا عنها صفحا لأنها من التمحّل والتكلّف لا يليق بالقرآن الكريم أن يأتي بها أو يرمي إليها لأن القرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 116 (44) سورة الدخان مكيّة وآياتها تسع وخمسون [سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) الإعراب: (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) تقدم القول في مثلها في سورة الزخرف فجدّد به عهدا (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) إن واسمها وجملة أنزلناه خبرها وفي ليلة متعلقان بأنزلناه ومباركة نعت ليلة وجملة إنّا أنزلناه جواب القسم وإنّا إن واسمها وجملة كنّا خبرها وكان واسمها ومنذرين خبرها وجملة إنّا كنّا لا محل لها لأنها جواب القسم أيضا من غير عاطف أو مستأنفة أو تفسيرية لجواب القسم (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 117 حَكِيمٍ) الجملة مستأنفة أو صفة لليلة وعبارة الزمخشري غاية في إعرابها قال: «فإن قلت إنّا كنّا منذرين فيها يفرّق كل أمر حكيم ما موقع هاتين الجملتين؟ قلت هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان فسّر بهما جواب القسم الذي هو قوله تعالى: إنّا أنزلناه في ليلة مباركة كأنه قيل أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصا لأن إنزال القرآن من الأمور الحكيمة وهذه الليلة يفرق فيها كل أمر حكيم» وفيها متعلقان بيفرق ويفرق فعل مضارع مبني للمجهول وكل أمر نائب فاعل وحكيم صفة لأمر أي يفصل ويكتب كل أمر حكيم من أرزاق العباد وآجالهم وجميع شئونهم (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) أجازوا في أمرا وجوها عديدة ولم يترجح لنا وجه معين لنجزم به فنورد عبارة أبي البقاء ثم نورد بقية الأقوال في باب الفوائد قال: «في نصبه أوجه أحدها هو مفعول منذرين كقوله لينذر بأسا شديدا والثاني هو مفعول له والعامل فيه أنزلناه أو منذرين أو يفرق والثالث هو حال من الضمير في حكيم أو من أمر لأنه قد وصف أو من كل أو من الهاء في أنزلناه والرابع أن يكون في موضع المصدر أي فرقا من عندنا والخامس أن يكون مصدرا أي أمرنا أمرا ودلّ على ذلك ما يشتمل الكتاب عليه من الأوامر والسادس أن يكون بدلا من الهاء في فأنزلناه» ومن عندنا صفة لأمر أو متعلق بيفرق وإن واسمها وجملة كنّا مرسلين خبر إنّا (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أجازوا في رحمة خمسة أوجه متساوية الرجحان الأول المفعول لأجله والعامل فيه إما أنزلناه وإما أمرا وإما يفرق وإما منذرين والثاني أنه مصدر منصوب بفعل مقدّر أي رحمنا رحمة والثالث أنه مفعول بمرسلين والرابع أنه حال من ضمير مرسلين أي ذوي رحمة والخامس أنه بدل من أمرا فيجيء فيه ما تقدم، ومن ربك صفة لرحمة أو متعلق بنفس الرحمة وإن واسمها وهو مبتدأ أو ضمير فصل والسميع العليم خبران لهو أو لإنه وقد تقدمت له نظائر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 118 (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) رب السموات والأرض بدل من ربك وما عطف على السموات والأرض والظرف صلة الموصول وإن شرطية وكنتم في محل جزم فعل الشرط وموقنين خبر كنتم وجواب الشرط محذوف تقديره فأيقنوا بأن محمدا رسوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) الجملة خبر أيضا لأن، وربكم خبر رابع أو خبر لمبتدأ محذوف ورب آبائكم الأولين عطف على ما تقدم (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) إضراب عن محذوف كأنه قال فليسوا بموقنين بل هم في شكّ بحسب ضمائرهم وهم مبتدأ وفي شك خبر وجملة يلعبون حال. الفوائد: 1- ليلة القدر: المراد بالليلة المباركة ليلة القدر وقد اختلف فيها وفي تحديد موعدها وقيل ليلة النصف من شعبان ويمكن الرجوع في معرفتها إلى المطولات هذا ويتطلع المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها إلى ليلة القدر والاحتفال بها والحرص عليها والتعرّض لما يحتشد فيها من خير كثير وثواب كبير وليلة القدر من الشئون الدينية التي صحّ بها النص صحة لا تدع في صدر المؤمن ريبا أو حرجا وإن كان لم يرد معها ذلك السر الذي دعا المسلمين إلى تكريمها من أجله، والذي نراه أن ليلة القدر لم تكن ولن تكون بابا يفتح في السماء أو نورا يملأ فضاء البيت وإنما هي مبدأ لرحمة الله الشاملة التي استنفذت الإنسانية كلها من ربقة الطغيان وأخذت بأيدي الحيارى إلى مسالك واضحة المعالم شريفة الغايات والأهداف يستشعرون فيها برد الطمأنينة، وراحة السكينة واسترجاع الرشد العازب، وربما كان من أجل هذه المعاني الشريفة في ليلة القدر جعل قيامها سترا للعيوب وغفرانا للذنوب فقال رسول الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 119 صلى الله عليه وسلم من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. 2- أقوال المعربين في أمرا: قال الزمخشري: «أمرا من عندنا نصب على الاختصاص، جعل كل أمر جزلا بأن وصفه بالحكيم ثم زاده جزالة وكسبه فخامة بأن قال أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا كائنا من لدنا وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا، ويجوز أن يراد به الأمر الذي هو ضد النهي ثم إما أن يوضع موضع فرقانا الذي هو مصدر يفرق لأن معنى الأمر والفرقان واحد من حيث أنه إذا أحكم بالشيء وكتبه فقد أمر به أو يكون حالا من أحد الضميرين في أنزلناه إما من ضمير الفاعل أي أنزلناه آمرين أمرا أو من ضمير المفعول أي أنزلناه في حال كونه أمرا من عندنا بما يجب أن يفعل» . أما الشهاب السمين فقد قال فيه أوجه: أحدها أن ينتصب حالا من فاعل أنزلناه والثاني أنه حال من مفعوله أي أنزلناه آمرين أو مأمورا به والثالث أن يكون مفعولا له وناصبه إما أنزلناه وإما منذرين وإما يفرق والرابع أنه مصدر من معنى يفرق أي فرقا وهناك أقوال أخرى لا تخرج عن هذا النطاق. [سورة الدخان (44) : الآيات 10 الى 16] فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 120 اللغة: (بِدُخانٍ) الدخان معروف وقال أبو عبيدة: والدخان الجدب قال القتبي: سمي دخانا ليبس الأرض منه حتى يرتفع منها كالدخان وقياس جمعه في القلّة أدخنة وفي الكثرة دخنان نحو غراب وأغربة وغربان وشذوا في جمعه على فواعل فقالوا: دواخن كأنه جمع داخنة تقريبا كما شذّوا في عنان فقالوا عوانن وفي القاموس: والدخان كغراب وجبل ورمان الغبار والجمع أدخنة ودواخن ودواخين. الأعراب: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) الفاء الفصيحة وارتقب فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت ويوم مفعول به لارتقب وجملة تأتي السماء في محل جر بإضافة الظرف إليها وبدخان متعلقان بتأتي ومبين صفة لدخان وفي الدخان المذكور أقوال متشعبة يرجع إليها في مطولات كتب التفسير وملخصها: هو دخان يجيء يوم القيامة يصيب المؤمن (يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) الجملة في محل جر صفة لدخان أيضا أي يشملهم ويلبسهم والناس مفعول به وهذا مبتدأ وعذاب خبر وأليم صفة لعذاب والجملة مقول قول محذوف وجملة القول في محل نصب على الحال أي قائلين لربك (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) تتمة مقولهم وربنا منادى مضاف واكشف فعل أمر للدعاء والفاعل مستتر تقديره أنت وعنّا متعلقان باكشف والعذاب مفعول به وإن واسمها ومؤمنون خبرها والجملة تعليلية للدعاء (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) أنّى اسم استفهام بمعنى كيف في محل نصب على الظرفية وهو في محل رفع خبر مقدم ولهم حال والذكرى مبتدأ مؤخر، والاستفهام هنا محمول على غير حقيقته، بل المراد استبعاد أن يكون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 121 لهم الذكرى بقرينة قوله «وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه» أي كيف يذكرون ويتعظون ويفون بما وعدوا به من الإيمان عند كشف العذاب عنهم وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الادّكار من كشف الدخان وهو ما ظهر على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات البيّنات ومن الكتاب المعجز وغيره فلم يذكروا وأعرضوا عنه والواو حالية وقد حرف تحقيق وجاءهم رسول فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ومبين صفة (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) ثم حرف عطف وتولوا فعل وفاعل والعطف على محذوف أي فلم يذكروا ثم تولوا وعنه متعلقان بتولوا وقالوا عطف على تولوا ومعلم خبر لمبتدأ محذوف أي هو معلم بفتح اللام المشددة اسم مفعول من علم أي يعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في سورة النحل ومجنون خبر ثان (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ) إن واسمها وكاشفوا العذاب خبرها وقليلا ظرف زمان متعلق بكاشفوا وإن واسمها وعائدون خبرها (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) يوم ظرف متعلق بمحذوف دلّ عليه إنّا منتقمون أي ننتقم واقتصر على هذا الإعراب الزمخشري وأجاز غيره أن يكون بدلا من يوم تأتي وقيل منصوب بإضمار اذكر وقيل بمنتقمون وردّ الزمخشري هذا الوجه بأن إن تحجب عن ذلك وجملة نبطش في محل جر بإضافة الظرف إليها والبطشة مفعول مطلق والكبرى صفة وإن واسمها ومنتقمون خبرها. [سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 29] وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 122 اللغة: (فَتَنَّا) بلونا وامتحنّا أي فعلنا بهم فعل الممتحن الذي يريد أن يعلم بحقيقة ذلك الشيء، وذلك الامتحان كان بزيادة الرزق والتمكين في الأرض ففسدوا واستطالوا في الغيّ وركوب متن الضلال. (رَهْواً) قال في الكشاف: «الرهو فيه وجهان: أحدهما أنه الساكن قال الأعشى: يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل أي مشيا ساكنا على هنية، أراد موسى لما جاوز البحر أن يضربه بعصاه فينطبق كما ضربه فانفلق فأمر بأن يتركه ساكنا على هنية قارا على حاله من انتصاب الماء وكون الطريق يبسا لا يضربه بعصاه ولا يغير منه شيئا ليدخله القبط فإذا حصلوا فيه أطبقه الله عليهم. والثاني أن الرهو الفجوة الواسعة وعن بعض العرب أنه رأى جملا فالجا فقال سبحان الله رهو بين سنامين أي اتركه على حاله منفرجا» فهو في الأصل مصدر رها يرهو رهوا كعدا يعدو عدوا إما بمعنى سكن وإما بمعنى انفرج وانفتح الجزء: 9 ¦ الصفحة: 123 وفي المختار: «رها بين رجليه أي فتح وبابه عدا، ورها البحر سكن وبابه عدا أيضا» . (فاكِهِينَ) طيبي الأنفس أو أصحاب فاكهة كلابن وتامر وقد مرت هذه الصيغة وعبارة القاموس «الفاكهة الثمر كله والفاكهاني بائعها وكخجل آكلها والفاكه صاحبها وفكههم تفكيها أطرفهم بها والاسم الفكيهة والفكاهة بالضم وفكه كفرح فكها فهو فكه وفاكه طيب النفس ضحوك أو يحدّث صحبه فيضحكهم» . الإعراب: (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) كلام مستأنف مسوق للشروع في ضرب الأمثلة لهم بمن تقدمهم من الأقوام واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وفتنا فعل ماض وفاعل وقبلهم ظرف متعلق بفتنا وقوم فرعون مفعول به، وجاءهم: الواو عاطفة وجاءهم فعل ماض ومفعول به مقدم ورسول فاعل وكريم صفة (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أن يجوز أن تكون مفسّرة لأن مجيء الرسل متضمن معنى القول ويجوز أن تكون مصدرية وهي مع مدخولها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بجاءهم ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وجملة أدّوا إليّ خبر وعباد الله منادى مضاف محذوف منه حرف النداء فيكون المراد بعباد الله القبط، واختار الزمخشري أن تكون عباد الله مفعولا به وهم بنو إسرائيل يقول أدّوهم إليّ وأرسلوهم معي ويؤيد هذا ما جاء في سورة الشعراء «فأتيا فرعون فقولا إنّا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل» وإن واسمها ولكم متعلقان بمحذوف حال ورسول خبر إنّي وأمين صفة (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) الواو عاطفة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 124 وأن عطف على أن الأولى ويجوز فيها من الأوجه ما جاز في الأولى ولا ناهيه وتعلو فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون وعلى الله متعلقان بتعلوا وإن واسمها وجملة آتيكم خبرها وبسلطان متعلقان بآتيكم ومبين صفة والجملة تعليلية للنهي لا محل لها (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) الواو حرف عطف على بربي وإن واسمها وجملة عذت خبرها وربي متعلقان بعذت وربكم عطف على بربي وأن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بعذت أي من أن ترجمون وياء المتكلم المحذوفة مفعول ترجمون (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) الواو عاطفة وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتؤمنوا فعل الشرط والفاء رابطة وجملة اعتزلون في محل جزم جواب الشرط واقترنت الجملة بالفاء وجوبا لأنها طلبية ولا ترسم الياء أيضا لأنها من آيات الزوائد (فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) الفاء حرف عطف والكلام معطوف على مقدّر قدّره الجلال بقوله فلم يتركوه، ودعا ربه فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وأن ومدخولها في محل نصب بنزع الخافض أي بأن هؤلاء والجار والمجرور متعلقان بدعا وأن واسمها وخبرها ومجرمون صفة لقوم (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) الفاء الفصيحة وهي الواقعة جوابا لشرط مقدّر كأنه قال: إن كان الأمر كما تقول فأسر وبعبادي متعلقان بأسر وليلا ظرف زمان متعلق بأسر أيضا وإن واسمها وخبرها والجملة تعليل للأمر بالإسراء وهو السير ليلا (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) الواو عاطفة واترك فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ورهوا حال أو مفعول به ثان لاترك وإن واسمها وخبرها والجملة تعليل للأمر بالترك (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) الكلام مرتبط بمقدّر لا بدّ منه ليلتئم نظام الكلام والتقدير فاطمأن موسى بذلك فتمّ إغراقهم، وكم خبرية في محل نصب مفعول به مقدّم لتركوا ومن جنات الجزء: 9 ¦ الصفحة: 125 وعيون في محل نصب على الحال (وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) عطف على جنات وعيون والمقام الكريم يراد به مجالسهم الحافلة التي كانوا يقيمونها ومحافلهم الهانئة التي كانوا يلتفّون فيها (وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) عطف أيضا وهو من عطف العام على الخاص لأن النعمة لا تشمل جميع ما تقدم وغيره مما لم يذكر وجملة كانوا صفة لنعمة وفيها متعلقان بفاكهين وفاكهين خبر كانوا (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) كذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وقال الزمخشري: «الكاف منصوبة على مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها» فهي عنده في موضع المفعول المطلق وقال أبو البقاء تركا كذلك فجعله نعتا للترك المحذوف، والواو حرف عطف وأورثناها فعل وفاعل ومفعول به والجملة عطف على كم تركوا وقوما مفعول به ثان وآخرين نعت لقوما (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) الفاء عاطفة والكلام معطوف على جملة أغرقوا المقدّرة وبكت عليه السماء والأرض فعل وفاعل وما نافية وكانوا منظرين كان واسمها وخبرها. البلاغة: معنى بكت عليهم السماء والأرض: في قوله «فما بكت عليهم السماء والأرض» استعارة مكنية تخييلية شبّه السماء والأرض بمن يصحّ منه الاكتراث ثم حذف المشبه به وهو من يصحّ منه الاكتراث واستعار له شيئا من لوازمه وهو البكاء والمعنى أنهم لم يكونوا يعملون عملا صالحا ينقطع بهلاكه فتبكي الأرض لانقطاعه وتبكي السماء لأنه لم يصعد إليها شيء من ذلك العمل الصالح بعد هلاكهم وجعله بعضهم مجازا مرسلا عن الاكتراث بهلاك الهالك والعلاقة السببية، ذكر المسبب وأراد السبب فإن الاكتراث المذكور سبب يؤدي إلى البقاء عادة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 126 قال أبو حيان: فما بكت عليهم السماء والأرض استعارة لتحقير أمرهم وأنه لم يتغير عن هلاكهم شيء ويقال في التعظيم بكت عليه السماء والأرض وبكته الريح وأظلمت له الشمس وقال زيد بن مفزع: الريح تبكي شجوها ... والبرق يلمع في غمامه وقال جرير: فالشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا ولا مندوحة لنا عن أن نتناول بيت جرير بالشرح والإعراب فقد شغل النقاد كثيرا وهو من قصيدة يرثي بها عمر بن عبد العزيز وقبله: نعى النعاة أمير المؤمنين لنا ... يا خير من حج بيت الله واعتمرا حملت أمرا عظيما فاضطلعت به ... وقمت فيه بأمر الله يا عمرا فالشمس طالعة (البيت) وقوله يا خير حكاية قول النعاة أي قائلين يا خير ويحتمل أنه من كلام الشاعر ففيه التفات، والنعي النداء بالموت، والأمر العظيم الخلافة ومشاقها وأعباؤها شبهها بالأمر المحسوس الذي يحمل على طريق الاستعارة المكنية والتحميل تخييل للاستعارة، وأمر الله شرعه، وفي هذا البيت أقوال منها أن فيه تقديما وتأخيرا وأن نجوم الليل والقمر منصوبان بكاسفة لا بقوله تبكي وتقديره ليست بكاسفة نجوم الليل ولا القمر تبكي عليك وإذا كانت غير كاسفة لغيرها من الكواكب كانت غير مضيئة فهي سوداء مظلمة والزمان كله ليل وهذا في غاية ما يكون من المبالغات في المراثي ومن أجود ما قيل في الرثاء، وطالعة خبر الشمس وليست بكاسفة خبر ثان وتبكي عليك حال أو خبر ثالث ونجوم الليل مفعول كاسفة أي لم تكسف الشمس نجوم الليل لانطماسها وقلّة ضوئها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 127 من كثرة بكائها فلا تقدر على منع الكواكب من الظهور، ويحتمل أن نجوم الليل مفعول تبكي أي تغلب نجوم الليل في البكاء عليك وقيل روايته هكذا وهم والرواية الشمس كاسفة ليست بطالعة أي لا تطلع أبدا من حينئذ فالأوجه أن نجوم الليل مفعول تبكي وقيل ظرف له أي مدة نجوم إلخ وقيل نجوم مرفوع على الفاعلية والقمر مفعول معه، ونصب عمر مشكل لأنه علم مفرد فكان ينبغي أن يبنى على الضم وفيه وجوه منها أنه أراد يا عمر بن الخطاب أو يا عمر بن عبد العزيز والمنادى المضاف يكون منصوبا ثم قطع الإضافة لانتهاء الوزن ومنها أنه أراد يا عمراه على الندبة وحذف الهاء كما قيل في قوله تعالى: «يا أسفا على يوسف» وقيل غير ذلك مما يطول فيه القول وليس بطائل. [سورة الدخان (44) : الآيات 30 الى 37] وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) اللغة: (تُبَّعٍ) هو تبع الحميري الذي سار بالجيوش وحير الحيرة وبنى سمرقند وقيل هدمها كان مؤمنا وكان قومه كافرين ولذلك ذمّهم الله دونه وعبارة أبي حيان: «الظاهر أن تبعا هو شخص معروف وقع التفاضل بين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 128 قومه وقوم الرسول عليه الصلاة والسلام وإن كان لفظ تبع يطلق على كل من ملك العرب كما يطلق كسرى على من ملك الفرس وقيصر على من ملك الروم قيل اسمه أسعد الحميري وكنّي أبا كرب، وذكر أبو حاتم الرياشي أنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بتسعمائة سنة وروي أنه لما آمن بالمدينة كتب كتابا ونظم شعرا، أما الشعر فهو: شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم فلو مدّ عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عمّ وأما الكتاب فروى ابن إسحق وغيره أنه كان فيه: أما بعد فإني آمنت بك وبكتابك الذي أنزل عليك وأنا على دينك وسنّتك وآمنت بربك ورب كل شيء وآمنت بكل ما جاء من ربك من شرائع الإسلام فإن أدركتك فبها ونعمت وإن لم أدركك فاشفع لي ولا تنسني يوم القيامة فإني من أمتك الأولين وتابعتك قبل مجيئك وأنا على ملّتك وملّة أبيك إبراهيم عليه السّلام ثم ختم الكتاب ونقش عليه لله الأمر من قبل ومن بعد وكتب عنوانه: إلى محمد بن عبد الله نبيّ الله ورسوله خاتم النبيين ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم من تبع الأول. ويقال كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب خالد بن زيد فلم يزل عنده حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم. وكانوا يتوارثونه كابرا عن كابر حتى أدوه للنبي صلى الله عليه وسلم. وقال قوم ليس المراد بتبع رجلا واحدا إنما المراد ملوك اليمن وكانوا يسمّون التتابعة، قال الجوهري: «التتابعة ملوك اليمن والتبع الظل والتبع الظل والتبع ضرب من الطير» وعبارة الزمخشري: «وقيل لملوك اليمن التتابعة لأنهم يتبعون كما قيل الأقيال لأنهم يتقيلون» وفي مختار الصحاح: التقيل شرب نصف النهار. وسمي الظل تبعا لأنه يتبع الشمس. هذا وكان منهم سبعون تبعا، قال النعمان بن بشير الأنصاري: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 129 لنا من بني قحطان سبعون تبعا ... أطاعت لنا بالخرج منّا الأعاجم ومنّا سراة الناس هود وصالح ... وذو الكفل منّا والملوك الأعاظم وقيل كانوا ثمانين فلم يتفق له في الشعر هذا وتفاصيل أخبارهم مبثوثة في بطون كتب التاريخ المطوّلة فليرجع إليها من استهوته قراءة الأساطير الممتعة وما فيها من قصص عجيب. الإعراب: (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) كلام مستأنف مسوق لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم عمّا كان يكابده من قريش وإثلاج صدره بأن الله قادر على إنقاذه وإنقاذ أتباعه من أذاهم كما نجى بني إسرائيل من القبط وهو أمر كان بحسب الظاهر أمرا بعيد الوقوع. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ونجينا فعل وفاعل وبني إسرائيل مفعول به ومن العذاب متعلقان بنجينا والمهين صفة للعذاب (مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) من فرعون بدل من قوله من العذاب بإعادة الجار كأنه في نفسه كان عذابا مهينا لما كابدوه منه من عذاب وإهانة وقيل متعلقان بمحذوف حال من العذاب أي كائنا أو صادرا من فرعون، وإن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وعاليا خبرها ومن المسرفين خبر ثان لكان وجملة إن وما بعدها لا محل لها لأنها تعليلية (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق واخترناهم فعل وفاعل ومفعول به وعلى علم متعلقان بمحذوف حال وعلى بمعنى مع أي مع علمنا بأنهم يزيفون وتفرط منهم الفرطات وعلى العالمين متعلقان باخترناهم أو لكثرة الأنبياء منهم (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) عطف على ما تقدم وآتيناهم فعل وفاعل ومفعول ومن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 130 الآيات حال مقدّم وما مفعول به ثان لآتيناهم وفيه خبر مقدم وبلاء مبتدأ مؤخر ومبين صفة لبلاء والجملة صلة الموصول (إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ) إن واسمها واللام المزحلقة ويقولون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والجملة خبر إن وجملة إن هؤلاء مستأنفة مسوقة للحديث عن قريش بعد استطراد حديث بني إسرائيل (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) إن نافية وهي مبتدأ وإلا أداة حصر وموتتنا خبر هي والأولى نعت، وسيأتي معنى الميتة الأولى في باب الفوائد، والواو حرف عطف وما نافية حجازية ونحن اسمها وبمنشرين الباء حرف جر زائد ومنشرين خبرها منصوب محلا مجرور لفظا (فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الفاء الفصيحة أي إن كنتم صادقين فيما تقولون فعجّلوا لنا إحياء من مات من آبائنا لينهض دليلا على ما تعدّونه من قيام الساعة وبعث الموتى (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري وهم مبتدأ وخير خبر وأم حرف عطف وقوم تبع عطف على هم والذين عطف على قوم تبع ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صلة الذين، وجملة أهلكناهم حال من المعطوف والمعطوف عليه أو مستأنفة لا محل لها وإن واسمها وجملة كانوا مجرمين خبرها والمراد بالخيرية المفضلة القوة والمنعة في الدنيا، وجملة انهم كانوا مجرمين تعليلية لا محل لها لأنها تعليل لإهلاكهم. الفوائد: معنى الموتة الأولى أنهم لما وعدوا بعد الحياة الدنيا حالتين أخريين الأولى منهما الموت والأخرى حياة البعث أثبتوا الحالة الأولى وهي الموت ونفوا ما بعدها وسمّوها أولى مع أنهم اعتقدوا أن لا شيء بعدها لأنهم نزلوا جحدهم على الإثبات فجعلوها أولى على ما ذكرت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 131 لهم وهذا أولى من حمل الموتة الأولى على السابقة على الحياة الدنيا لوجهين أحدهما أن الاقتصار عليها لا يعتقدونه لأنهم يثبتون الموت الذي يعقب حياة الدنيا وحمل الحصر المباشر للموت في كلامهم على صفة تذكر لا على نفس الموت المشاهد لهم فيه عدول عن الظاهر بلا حاجة، الثاني أن الموت السابق على الحياة الدنيا لا يعبر عنه بالموتة فإن الموتة فعلة فيها إشعار بالتجدّد والطريان والموت السابق على الحياة الدنيا أمر مستصحب لم تتقدمه حياة طرأ عليها مع أن في بقية السورة قوله تعالى: «لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى» وإنما عنى بالموتة الأولى هنا الموت المتعقب للحياة الدنيا فقط. [سورة الدخان (44) : الآيات 38 الى 50] وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 132 اللغة: (مَوْلًى) في المختار: «المولى المعتق وابن العم والناصر والجار والحليف» . (شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) تقدم الكلام فيها في سورة الصافات فارجع إليها. (المهل) اسم يجمع معدنيات الجواهر كالفضة والحديد، والصفر ما كان منها ذائبا، والقطران الرقيق، والزيت الرقيق، والسم، والقيح، أو صديد الميت خاصة، وما يتحات عن الخبز من الرماد، وهو بضم الميم وأجازوا فتح الميم لأنهم سمعوا لغة قليلة فيه وإنما المهل بالفتح التؤدة والرفق. (الْحَمِيمِ) الماء الشديد الحرارة. (فَاعْتِلُوهُ) أي فقودوه بعنف وغلظة، والعتل هو أن يأخذ بتلابيب الرجل فيجر إلى حبس أو قتل ومنه العتل وهو الجافي الغليظ وفي المختار: «عتل الرجل جذبه جذبا عنيفا وبابه ضرب ونصر» فقولهم العتّال للذي ينقل الأحمال بالأجرة صحيح لا غبار عليه والحرفة العتالة. الإعراب: (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) كلام مستأنف مسوق للتدليل على صحة الحشر ووقوعه ولك أن تعطفه على ما قبله ليتناسق الكلام ويلتئم طرفاه. وما نافية وخلقنا السموات فعل وفاعل ومفعول به وما عطف على السموات والأرض وبينهما ظرف متعلق بمحذوف هو صلة ما ولاعبين حال من الفاعل (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الجملة مفسّرة لما قبلها وما نافية وخلقناهما فعل وفاعل ومفعول به وإلا أداة حصر وبالحق حال أي محقّين في ذلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 133 ليكون في ذلك برهان للعاقل والواو حالية ولكن حرف مشبه بالفعل للاستدراك وأكثرهم اسمها وجملة لا يعلمون خبرها (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) إن واسمها وميقاتهم خبرها وأجمعين تأكيد للضمير أي للناس جميعا (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يوم يجوز أن يكون بدلا من يوم الفصل وأن يكون ظرفا لما دلّ عليه الفصل أي يفصل بينهم يوم لا يغني، ولا يتعلق بالفصل نفسه لأنه قد أخبر عنه، وجملة لا يغني في محل جر بإضافة الظرف إليها ومولى فاعل وعن مولى متعلقان بيغني وشيئا مفعول به أو مفعول مطلق أي قليلا منه والواو حرف عطف ولا نافية وهم مبتدأ وجملة ينصرون خبر وهو مبني للمجهول والواو نائب فاعل (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ) إلا أداة حصر ومن في محل رفع بدل من الواو في ينصرون أي لا يمنع من العذاب إلا من رحمه الله، ويجوز أن ينصب على الاستثناء فيكون منقطعا على رأي الكسائي أي ولكن من رحم الله لا ينالهم ما يحتاجون فيه إلى من ينفعهم من المخلوقين أو متصلا تقديره لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين فإنه يؤذن لهم في الشفاعة فيشفعون في بعضهم وجملة رحم الله صلة الموصول (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) إن واسمها وهو مبتدأ أو ضمير فصل والعزيز الرحيم خبران لإن أو لهو والجملة خبر إن (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) إن واسمها والزقوم مضاف إليه وطعام الأثيم خبرها (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) كالمهل خبر ثان لإن وجملة يغلي حال من الزقوم أو من طعام الأثيم وقد تقدم بحث مجيء الحال من المضاف إليه لأنه كالجزء من المضاف وفي البطون متعلقان بيغلي والكاف ومجرورها نعت لمصدر محذوف أي تغلي غليانا مثل غليان الحميم (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) خذوه فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعله والهاء مفعوله والأمر للزبانية فالجملة مقول قول محذوف، فاعتلوه عطف على خذوه وإلى سواء الجحيم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 134 متعلقان باعتلوه أي إلى وسط الجحيم (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وصبّوا فعل أمر وفاعل وفوق رأسه ظرف متعلق بصبّوا وعذاب الجحيم مفعول به (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) الجملة مقول قول محذوف أي ويقال له ذق، وذق فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وإن واسمها وأنت مبتدأ أو ضمير فصل والعزيز الكريم خبران لإن أو لأنت وجملة إنك إلخ تعليلية وسيأتي سر هذا التعليل في باب البلاغة (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) إن واسمها وما خبرها وجملة كنتم صلة وبه متعلقان بتمترون وجملة تمترون خبر كنتم. البلاغة: 1- في قوله «ثم صبّوا فوق رأسه من عذاب الحميم» استعارة مكنية تخييلية فقد شبّه العذاب بالمائع ثم خيّل له بالصب. 2- وفي قوله «ذق إنك أنت العزيز الكريم» فن التهكم وقد تقدم أنه عبارة عن الإتيان بلفظ البشارة في موضع النذارة والوعد في مكان الوعيد تهاونا من القائل بالمقول له واستهزاء به وقد تقدمت أمثلته في مواضعها كقوله تعالى في النساء: «بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما» وهو أغيظ للمستهزأ به وأشد إيلاما له. [سورة الدخان (44) : الآيات 51 الى 59] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 135 اللغة: (السندس) هو ما رقّ من الديباج، والإستبرق ما غلظ منه، وهو تعريب استير قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف ساغ أن يقع في القرآن العربي المبين لفظ أعجمي؟ قلت إذا عرب خرج عن أن يكون أعجميا لأن معنى التعريب أن يجعل عربيا بالتصرّف فيه وتغييره عن منهاجه وإجرائه على أوجه الإعراب» وهناك سؤال آخر أورده الملحد ابن الراوندي وهو كيف وعد الله أهل الجنة بلبس الإستبرق وهو غليظ الديباج مع أنه عند أغنياء الدنيا عيب ونقص؟ والجواب أن غليظ ديباج الجنة لا يساويه غليظ ديباج الدنيا حتى يعاب كما أن سندس الجنة وهو رقيق الديباج لا يساويه سندس الدنيا، وقد أشبع أبو العلاء المعرّي في رسالة الغفران ابن الراوندي تهكما وسخرية. الإعراب: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) وإن واسمها وفي مقام خبرها وأمين نعت لمقامِ ي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) الجار والمجرور بدل من في مقام بإعادة الجار (يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ) الجملة إما خبر ثان لإن وإما حال من الضمير المستكن في الجار ومن سندس متعلقان بيلبسون ومتقابلين حال من الضمير في يلبسون وفي هذه الحال وصف جميل لمجالس أهل الجنة لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لدوران الأسرة بهم (كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) كذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وهذه الجملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه جيء بها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 136 للتقرير، وزوجناهم عطف على يلبسون وهو فعل ماض وفاعل ومفعول به وبحور متعلقان بزوجناهم وعين نعت لحور، وسيأتي في باب الفوائد وصف طريف للحور العين (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ) الجملة حال من الهاء في وزوجناهم ويدعون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وفيها حال وبكل متعلقان بيدعون أي يطلبون إحضارها لديهم وآمنين حال أي لا يخافون من مغبة أكلها (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) الجملة حال من الضمير في آمنين ولا نافية ويذوقون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون وفيها حال والموت مفعول به وإلا أداة استثناء والموتة مستثنى من الموت على أنه استثناء منقطع والأولى صفة، وسيأتي مزيد من القول في إعراب هذا الاستثناء في باب الفوائد (وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) الواو عاطفة ووقاهم فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله وعذاب الجحيم مفعول به ثان (فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فضلا مفعول مطلق لفعل محذوف وقيل مفعول من أجله والأول أقرب لأنه مصدر ملاق لعامله في المعنى أي تفضلنا بذلك فضلا ومن ربك صفة لفضلا وذلك مبتدأ وهو ضمير فصل والفوز خبر والعظيم نعت للفوز ويجوز أن يكون هو مبتدأ ثانيا والفوز خبره والجملة خبر اسم الإشارة (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) الفاء الفصيحة وإنما كافة ومكفوفة وإنما جعلناها فصيحة لأن الآية فذلكة للسورة فقد أفصحت عن مقدر، ويسّرناه فعل ماض وفاعل ومفعول به وبلسانك متعلقان بيسرناه ولعل واسمها وجملة يتذكّرون خبرها (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) الفاء الفصيحة أيضا أي إن لم يتعظوا ولم يؤمنوا به فارتقب، وارتقب فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ومفعوله محذوف تقديره هلاكهم وجملة إنهم مرتقبون تعليلية للأمر بالانتظار وإن واسمها وخبرها، فمفعول مرتقبون محذوف أيضا تقديره هلاكك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 137 الفوائد: 1- استثناء مشكل: قال الشهاب السمين «قوله إلا الموتة الأولى فيه أوجه: أحدها أنه استثناء منقطع أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها، والثاني أنه متصل وتأولوه بأن المؤمن عند موته في الدنيا بمنزلته في الجنة لمعاينته ما يعطاه منها أو لما يتيقنه من نعيمها، الثالث أن إلا بمعنى سوى، نقله الطبري وضعفه، قال ابن عطية وليس تضعيفه بصحيح بل كونها بمعنى سوى مستقيم متّسق، الرابع أن إلا بمعنى بعد واختاره الطبري وأباه الجمهور لأن مجيء إلا بمعنى بعد لم يثبت، وقال الزمخشري: فإن قلت كيف استثنيت الموتة الأولى المذوقة قبل دخول الجنة من الموت المنفي ذوقة فيها! قلت: أريد أن يقال لا يذوقون فيها الموت البتة فوضع قوله إلا الموتة الأولى موضع ذلك لأنه الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل فهو من باب التعليق بالمحال كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها في الجنة» أقول هذا الذي ذكره الزمخشري ونقله السمين مبني على أن الموتة بدل على طريقة البدل المجوز فيها البدل من غير الجنس وأما على طريقة الحجازيين فانتصبت الموتة استثناء منقطعا، وسرّ اللغة التميمية بناء النفي المراد على وجه لا يبقي للسامع مطمعا في الإثبات، فيقولون ما فيها أحد إلا حمار على معنى إن كان الحمار من الأحدين ففيها أحد فيعلقون الثبوت على أمر محال حتما بالنفي. 2- الحور العين: وعدناك بنقل وصف طريف للحور العين مقتبس من الحديث الشريف، وقبل أن نورد ما اخترناه من الأحاديث الواردة بهذا الصدد نقول الحور جمع حوراء وهي كما في القاموس وغيره من الحور بالتحريك وهو أن يشتد بياض العين ويسودّ سوادها وتستدير حدقتها وترقّ جفونها ويبيض ما حواليها، والعين جمع عيناء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 138 كحمراء فعين أصله بضم الغين بوزن قفل لكنها كسرت لتصحّ الياء أي واسعات الأعين وفيما يلي نص الحديث الذي اخترناه لهذا الوصف: «عن علي رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية «يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ... إلى آخرها قال قلت يا رسول الله ما الوفد إلا ركب قال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنهم إذا خرجوا من قبورهم استقبلوا بنوق بيض لها أجنحة عليها رحال الذهب شرك نعالهم نور يتلألأ كل خطوة منها مثل مدّ البصر وينتهون إلى باب الجنة فإذا حلقة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب وإذا شجرة على باب الجنة ينبع من أصلها عينان فإذا شربوا من أحدهما جرت في وجوههم بنضرة النعيم وإذا توضئوا من الأخرى لم تشعث أشعارهم أبدا فيضربون الحلقة بالصحيفة فلو سمعت طنين الحلقة يا علي فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل فتستخفها العجلة فتبعث قيّمها فيفتح له الباب فيقول لولا أن الله عزّ وجلّ عرفه نفسه لخرّ له ساجدا مما يرى من النور والبهاء فيقول: أنا قيّمك الذي وكلت بأمرك فيتبعه فيقفو أثره فيأتي زوجته فتستخفها العجلة فتخرج من الخيمة فتعانقه وتقول أنت حبّي وأنا حبّك وأنا الراضية فلا أسخط أبدا وأنا الناعمة فلا أبأس أبدا وأنا الخالدة فلا أظعن أبدا فيدخل بيتا من أساسه إلى سقفه مائة ألف ذراع مبني على جندل اللؤلؤ والياقوت طرائق حمر وطرائق خضر وطرائق صفر ما منها طريقة تشاكل صاحبها فيأتي الأريكة فإذا عليها سرير، على السرير سبعون فراشا على كل فراش سبعون زوجة على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من باطن الحلل يقضي جماعهن في مقدار ليلة تجري من تحتهم أنهار مطّردة، أنهار من ماء غير آسن صاف ليس فيه كدر وأنهار من عسل مصفى لم يخرج من بطون النحل وأنهار من خمر لذة للشاربين لم تعصره الرجال بأقدامها وأنهار من لبن لم يتغير طعمه لم يخرج من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 139 بطون الماشية فإذا اشتهوا الطعام جاءتهم طير بيض فترفع أجنحتها فيأكلون من جنوبها من أيّ الألوان شاءوا ثم تطير فتذهب وفيها ثمار متدلية إذا اشتهوها انبعث الغصن إليهم فيأكلون من أيّ الثمار شاءوا إن شاء قائما وإن شاء متكئا وذلك قوله «وجنى الجنتين دان» وبين أيديهم خدم كاللؤلؤ» رواه ابن أبي الدنيا في كتاب صفة الجنة عن الحارث، ونكتفي بهذا الحديث مجتزئين بها عن أحاديث كثيرة في هذا المعنى وسترد في مواضعها إن شاء الله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 140 (45) سورة الجاثية مكية وآياتها سبع وثلاثون [سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) الإعراب: (حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) تقدم القول في فواتح السور فجدّد به عهدا، وتنزيل الكتاب مبتدأ ومن الله خبره والعزيز الحكيم نعتان لله ويجوز أن يعرب تنزيل خبر لمبتدأ محذوف ومن الله متعلقان به (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) إن حرف مشبّه بالفعل وفي السموات خبر مقدّم واللام للتأكيد وآيات اسم أن وللمؤمنين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 141 صفة لآيات (وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) الواو عاطفة وفي خلقكم خبر مقدّم والواو عاطفة وما اسم موصول معطوف على خلقكم وجملة يبث صلة ومن دابة متعلقان بيبث أو بمحذوف حال أي يبثه كائنا من دابة وآيات مبتدأ مؤخر ولقوم صفة لآيات وجملة يوقنون صفة لقوم واختلاف عطف أيضا على خلقكم منزل تنزيله من أنه متعلق بمحذوف خبر مقدم وما عطف على اختلاف وأنزل الله فعل وفاعل والجملة صلة ما ومن رزق حال أو متعلق بأنزل، فأحيا عطف على أنزل وبه متعلقان بأحيا والأرض مفعول به وتصريف الرياح عطف على اختلاف وآيات مبتدأ مؤخر ولقوم صفة وجملة يعقلون صفة لقوم، ومن المفيد أن نورد هنا عبارة الزمخشري إذ استوفى القراءات في هاتين الآيتين قال: «وقرىء آيات لقوم يوقنون بالنصب والرفع على قولك إن زيدا في الدار وعمرا في السوق أو وعمرو في السوق وأما قوله آيات لقوم يعقلون فمن العطف على عاملين سواء نصبت أو رفعت فالعاملان إذا نصبت هما إن وفي أقيمت الواو مقامهما فعملت الجر في اختلاف الليل والنهار والنصب في آيات وإذا رفعت فالعاملان الابتداء وفي عملت الرفع. في آيات والجر في اختلاف، وقرأ ابن مسعود: وفي اختلاف الليل والنهار، فإن قلت: العطف على عاملين على مذهب الأخفش سديد لا مقال فيه وقد أباه سيبويه فما وجه تخريج الآية عنده؟ قلت فيه وجهان عنده: أحدهما أن يكون على إضمار في والذي حسّنه تقدم ذكره في الآيتين قبلها ويعضده قراءة ابن مسعود، والثاني أن ينتصب آيات على الاختصاص بعد انقضاء المجرور معطوفا على ما قبله أو على التكرير ورفعها بإضمار هي، وقرىء واختلاف الليل والنهار بالرفع» (تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) تلك مبتدأ وآيات الله خبر وجملة نتلوها حالية ويجوز أن تكون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 142 آيات الله بدلا من اسم الإشارة وجملة نتلوها هي الخبر وعليك متعلقان بنتلوها وبالحق حال أي ملتبسة بالحق (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) الفاء عاطفة وبأي متعلقان بيؤمنون والاستفهام إنكاري معناه النفي أي لا يؤمنون وحديث مضاف لأي وبعد الله ظرف متعلق بمحذوف نعت للحديث ويؤمنون فعل مضارع مرفوع. البلاغة: في قوله: إن في السموات إلى قوله يعقلون فن التخيير، وهو أن يأتي الشاعر أو الكاتب بأبيات أو جمل يسوغ فيها أن تقفى بقواف شتى فيتخير منها قافية يرجحها على سائرها، فالبلاغة في الآيات تقتضي أن تكون فاصلة الآية الأولى للمؤمنين لأنه سبحانه ذكر العالم بجملته حيث قال السموات والأرض ومعرفة ما في العالم من الآيات الدالة على أن المخترع قادر عليم حكيم ولا بدّ من التصديق أولا بالصانع حتى يصحّ أن يكون ما في المصنوع من الآيات دليلا على أنه موصوف بتلك الصفات والتصديق هو الإيمان وكذلك قوله تعالى في الآية الثانية لقوم يوقنون فإن خلق الإنسان وتدبير خلق الحيوان والتفكر في ذلك مما يزيده يقينا في معتقده الأول وكذلك معرفة جزئيات العالم من اختلاف الليل والنهار وإنزال الرزق من السماء وإحياء الأرض بعد موتها وتصريف الرياح يقتضي رجاحة العقل ليعلم أن من صنع هذه الجزئيات هو الذي صنع العالم الكلي بعد قيام البرهان، على أن للعالم الكلي صانعا مختارا فلذلك اقتضت البلاغة أن تكون فاصلة الآية الثالثة لقوم يعقلون وإن احتيج للعقل في الجميع إلا أن ذكره هنا أمتن بالمعنى من الأول. [سورة الجاثية (45) : الآيات 7 الى 11] وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 143 الإعراب: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) ويل مبتدأ وهي كلمة عذاب ولذلك ساغ الابتداء بها ولكل أفّاك خبره وأثيم نعت وهما صفتا مبالغة للكذب والإثم (يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ) جملة يسمع صفة لأفّاك أثيم أو حال من الضمير فيهما ولك أن تجعلها مستأنفة ويسمع آيات الله فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وجملة تتلى عليه حال من آيات الله وعليه متعلقان بتتلى (ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) ثم حرف عطف للترتيب والتراخي ويصرّ فعل مضارع معطوف على يسمع قال الزمخشري: «وأصله من إصرار الحمار عى العانة وهو أن ينحي عليها صارّا أذنيه» قلت: وفي الصحاح: «صرّ الفرس أذنيه ضمّهما إلى رأسه فإذا لم يوقعوا قالوا أصرّ الفرس بالألف» ومستكبرا حال من فاعل يصرّ وكأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وجملة لم يسمعها خبرها والجملة حال ثانية أي يصرّ حال كونه مثل غير السامع (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة علم في محل جر بإضافة الظرف إليها ومن آياتنا متعلقان بعلم أو بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لشيئا وشيئا مفعول به وجملة اتخذها لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والهاء مفعول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 144 اتخذ الأول وهزوا مفعول اتخذ الثاني (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) اسم الإشارة مبتدأ ولهم خبر مقدّم وعذاب مبتدأ مؤخر ومهين صفة لعذاب والجملة خبر لأولئك وجملة أولئك مستأنفة (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) من ورائهم خبر مقدم وجهنم مبتدأ مؤخر والواو اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدّام قال: أليس ورائي أن تراخت منيتي ... أدبّ مع الولدان أزحف كالنسر وسيرد المزيد من هذا البحث في باب البلاغة. (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً) الواو عاطفة ولا نافية ويغني فعل مضارع مرفوع وعنهم متعلقان بيغني وما موصول فاعل ويجوز أن تكون مصدرية فالمصدر المؤول هو الفاعل وشيئا مفعول به (وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ) عطف على ما كسبوا وما يجوز أيضا أن تكون موصولة أو مصدرية ومن دون الله حال لأنه كان في الأصل صفة لأولياء وأولياء مفعول اتخذوا الثاني والأول محذوف أي اتخذوه (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) الواو عاطفة ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وعظيم نعت لعذاب (هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) كلام مستأنف مسوق لبيان هداية القرآن وهذا مبتدأ وهدى خبر والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة الموصول وبآيات ربهم متعلقان بكفروا ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر والجملة خبر اسم الموصول ومن رجز صفة لعذاب والرجز مطلق العذاب وأليم صفة لرجز. البلاغة: التضاد: في قوله «من ورائه جهنم» التضاد وهو استعمال لفظ يحتمل المعنى وضدّه وهو مشترك بين المعنيين فيستعمل في الشيء وضدّه، والبيت الذي أوردناه شاهدا في باب الإعراب لعبيد بن الأبرص الجزء: 9 ¦ الصفحة: 145 والهمزة فيه للتقرير وقد توسع في الوراء حتى استعمل في كل غيب ومنه المستقبل وأدبّ أمشي بتؤدة وأن المصدرية مقدرة قبله لأنه اسم ليس وأزحف يحتمل أنه بدل من أدبّ وأن حال وكالنسر حال أيضا. الفوائد: عودة الضمير: مما يشكل فهمه لأول وهلة عودة الضمير في قوله «اتخذها هزوا» لأن ظاهر الكلام يوهم أنه عائد على شيء وهو مذكر ولكنه عدل عن اتخذه إلى اتخذها إشعارا بأنه إذا أحسّ بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات التي أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم خاص في الاستهزاء وبجميع الآيات ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه منها، وقال الزمخشري «ويحتمل وإذا علم من آياتنا شيئا يمكن أن يتشبث به المعاند ويجد له محملا يتسلق به على الطعن والغميزة افترصه واتخذ آيات الله هزوا وذلك نحو افتراص ابن الزبعرى قوله عزّ وجلّ: إنكم وما تدعون من دون الله حصب جهنم ومغالطته رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله خصمتك، ويجوز أن يرجع الضمير إلى شيء لأنه في معنى الآية كقول أبي العتاهية: نفسي بشيء من الدنيا معلقة ... الله والقائم المهدي يكفيها حيث أراد عتبة» هذا وقد كنى أبو العتاهية بالشيء عن جارية من حظايا المهدي اسمها عتبة ولذلك أعاد عليه الضمير مؤنثا وبعده: إني لأيأس منها ثم يطمعني ... فيها احتقارك للدنيا وما فيها ومعنى البيتين أنه لا يريد من الدنيا غير هذا الشيء والقائم بالأمر يكفيها أي يكفيني تلك الحاجة أو يكفي نفسي ما تريد والله بقطع الهمزة لأن أول المصراع محل ابتداء في الجملة، ثم أنا أيأس منها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 146 فأقطع طمعي منها ثم أطمع فيها ثانيا بسبب احتقارك للدنيا وما فيها وهو مدح بنهاية الكرم وروي أنه كتب ذلك في ثوب وأدرجه في برنية وأهداها للمهدي فهمّ بدفعها إليه فقالت الجارية أتدفعني إلى رجل مكتسب فأمر بملء البرنية مالا ودفعها إليه فقال للخزّان إنما أمر لي بدنانير فقال له الخزّان نعطيك دراهم واختلفا، فقالت لو كان عاشقا لما فرّق بينهما. [سورة الجاثية (45) : الآيات 12 الى 15] اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) الإعراب: (اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ) كلام مستأنف مسوق للاعتبار بتسخير البحر على عظمته والسفن الجارية فيه لمخلوق هو أضأل شيء بالنسبة لهما والله مبتدأ والذي خبره وجملة سخر صلة ولكم متعلقان بسخر والبحر مفعول به واللام للتعليل وتجري فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بتجري أيضا والفلك فاعل وبأمره حال (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) عطف على ما تقدم ولعلّ واسمها وخبرها (وَسَخَّرَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 147 لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) الواو عاطفة والجملة عطف على سابقتيها وجميعا حال من ما ووهم الجلال وتبع في إعرابه ابن مالك حيث عدّها من المؤكدات، فأعربها توكيدا لما الموصولة الواقعة مفعولا لسخر ولو كان كذلك لقيل جميعه ثم التوكيد بجمع قليل فلا يحمل عليه التنزيل، ومنه حال أي سخرها كائنة منه تعالى وحاصلة من عنده، وأجاز الزمخشري أن يتعلق بمحذوف خبر مبتدأ محذوف تقديره هي جميعا منه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام للتأكيد وآيات اسم إن المؤخر ولقوم صفة لآيات وجملة يتفكرون صفة لقوم (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وللذين متعلقان بقل وجملة آمنوا صلة الموصول لا محل لها ويغفروا فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب تشبيها بالشرط والجزاء كقولك قم تصب خيرا وقيل هو على حذف اللام وقيل على معنى قل لهم اغفروا يغفروا فهو جواب أمر محذوف دلّ عليه الكلام وقد تقدم القول مسهبا في قوله تعالى «قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة» في سورة إبراهيم فجدد به عهدا وللذين متعلقان بيغفروا وجملة لا يرجون صلة الموصول وأيام الله مفعول وسيأتي معنى أيام الله في باب الفوائد، وليجزي: اللام للتعليل ويجزي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بيغفروا لأنه علّة لها وقوما مفعول به والفاعل مستتر تقديره هو يعود على الله وبما متعلقان بيجزي وما يجوز أن تكون موصولة أو مصدرية وكان واسمها وجملة يكسبون خبرها، وسيأتي سر تنكير قوما في باب البلاغة (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) من شرطية في محل رفع مبتدأ والجملة مستأنفة مسوقة لبيان كيفية الجزاء وعمل فعل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 148 ماض في محل جزم فعل الشرط والفاعل مستتر يعود على من وصالحا مفعول به أو نعت لمصدر محذوف. البلاغة: في قوله تعالى «ليجزي قوما بما كانوا يكسبون» التنكير فقد نكر قوما وهم معروفون، وقد اختلف الرواة وأصحاب السير فيهم مما يمكن الرجوع إليه في مظانه وإنما جنح إلى التنكير تعظيما لهم وثناء عليهم إذ المراد فيهم عمر بن الخطاب على أرجح الأقوال كأنما قال إن هؤلاء الذين يضبطون أنفسهم، ويحتملون الأذى بصبر وثبات هم قوم أيّ قوم وهو ينتظم في باب التجريد وقد قدّمناه مفصلا بأقسامه. الفوائد: أيام الله: المراد بقوله «لا يرجون أيام الله» أي الوقائع المشهورة التي انتصر الحق فيها على الباطل وأديل الباطل بالجهاد، وهذا جري على أساليب العرب إذ يقولون أيام العرب لوقائعهم المشهورة على حدّ قول السموأل: وأيامنا مشهورة في عدونا ... لها غرر معلومة وحجول وقال ظالم بن البراء الفقيمي في يوم ذي بهدى بوزن سكرى: ونحن غداة يوم ذوات بهدى ... لدى الوتدات إذ غشيت تميم ضربنا الخيل بالأبطال حتى ... تولت وهي شاملها الكلوم وقال جرير للأخطل، يعيّره بذلك اليوم: هل تعرفون بذي بهدى نوار سنا ... يوم الهذيل بأيدي القوم منتشر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 149 وارجع إلى الأغاني والعمدة ففيهما تفصيل واف لأيام العرب في الجاهلية والإسلام. [سورة الجاثية (45) : الآيات 16 الى 21] وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) الإعراب: (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) كلام مستأنف مسوق لإعلام النبي صلى الله عليه وسلم أن السبيل التي يتمشى عليها قومه هي السبيل التي تمشى عليها من تقدمهم من الأمم. واللام جواب للقسم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 150 المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل وبني إسرائيل مفعول به أول والكتاب مفعول به ثان والحكم والنبوّة معطوفان على الكتاب (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) ورزقناهم عطف على آتينا وهو فعل وفاعل ومفعول به ومن الطيبات متعلقان برزقناهم وفضلناهم على العالمين عطف على ما تقدم ومعنى التفضيل أنه لم يؤت غيرهم مثل ما آتيناهم (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) عطف أيضا وبينات مفعول به ثان وعلامة نصبه الكسرة لأنه جمع مؤنث سالم ومن الأمر صفة لبيّنات أي دلائل ظاهرة في أمر الدين، فما الفاء عاطفة وما نافية واختلفوا فعلى وفاعل وإلا أداة حصر ومن بعد متعلقان باختلفوا وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالإضافة وجاءهم العلم فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وبغيا مفعول من أجله وبينهم ظرف متعلق بمحذوف صفة لبغيا (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) إن واسمها وجملة يقضي خبرها وبينهم ظرف متعلق بيقضي ويوم القيامة متعلق بمحذوف حال وفيما متعلقان بيقضي أيضا وجملة كانوا صلة وجملة يختلفون خبر كان وفيه متعلقان بيختلفون (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي والكلام مستأنف وجعلناك فعل وفاعل ومفعول به أول وعلى شريعة في موضع المفعول الثاني والشريعة في الأصل ما يرده الناس من المياه والأنهار فاستعير ذلك للدين والعبادة لأن العباد يردون ما تحيا به نفوسهم ومن الأمر نعت لشريعة والفاء عاطفة واتبعها فعل أمر وفاعل ومفعول به (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الواو حرف عطف ولا ناهية وتتبع فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وأهواء مفعول به والذين مضاف إليه وجملة لا يعلمون صفة (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) الجملة لا محل لها لأنها تعليل للنهي عن اتباع أهوائهم وإن واسمها وجملة لن يغنوا خبرها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 151 وعنك متعلقان بيغنوا ومن الله متعلقان بيغنوا أيضا وشيئا مفعول (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) الواو عاطفة وإن واسمها وبعضهم مبتدأ وأولياء بعض خبر والجملة خبر إن والله مبتدأ ووليّ المتقين خبر (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) هذا مبتدأ وبصائر خبره وجمع الخبر باعتبار ما ينطوي عليه المبتدأ وهو القرآن من آيات ودلائل واضحات وللناس صفة لبصائر وهدى ورحمة معطوفان على بصائر ولقوم نعت وجملة يوقنون نعت لقوم والجملة كلها مستأنفة (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أم منقطعة بمعنى الهمزة وبل والكلام مستأنف مسوق لبيان تغاير حالي المسيئين والمحسنين، وحسب فعل ماض والذين فاعله وجملة اجترحوا السيئات صلة وأن وما في حيزها في تأويل مصدر سدّت مسدّ مفعولي حسب ونجعلهم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن والهاء مفعول نجعل الأول وكالذين في موضع المفعول الثاني وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) سواء حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهما كالذين آمنوا والمعنى أحسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم مثل الذين آمنوا وعملوا الصالحات في حال استواء محياهم ومماتهم والاستفهام بمعنى الإنكار والنفي ومحياهم فاعل بسواء وساء فعل ماض للذم وما هنا مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر هو فاعل ساء أو ما نكرة تامة بمعنى شيء في محل نصب على التمييز وفاعل ساء مستتر تقديره هو. الفوائد: 1- مبكاة العابدين: هذه الآية «أم حسب الذين اجترحوا السيئات» إلخ، تسمى مبكاة العابدين، وعن تميم الداري رضي الله عنه أنه كان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 152 يصلي ذات ليلة عند المقام فبلغ هذه الآية فجعل يبكي ويردّد إلى الصباح ساء ما يحكمون، وكان الفضيل بن عياض يقول لنفسه: ليت شعري من أيّ الفريقين أنت؟ 2- قراءة ثانية للآية: هذا وقد قرىء سواء محياهم ومماتهم بالرفع فسواء خبر مقدّم ومحياهم مبتدأ مؤخر وقد اختلف في إعراب هذه الجملة فقال الزمخشري أنها بدل من الكاف لأ الجملة تقع مفعولا ثانيا فكانت في حكم المفرد وردّ عليه أبو حيان قائلا: «وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري من إبدال الجملة من المفرد قد أجازه أبو الفتح واختاره ابن مالك وأورد على ذلك شواهد على زعمه ولا يتعين فيها البدل» إلى أن يقول «والذي يظهر لي أنه إذا قلنا بتشبث الجملة بما قبلها أن تكون الجملة في موضع الحال والتقدير أم حسب الكفار أن مصيرهم مثل المؤمنين في حال استواء محياهم ومماتهم ليسوا كذلك بل هم مفترقون أي افتراق في الحالتين وتكون هذه الحال مبينة ما انبهم في المثلية الدال عليها الكاف التي هي في موضع المفعول الثاني» . [سورة الجاثية (45) : الآيات 22 الى 26] وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 153 الإعراب: (وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) لك أن تجعل الكلام معطوفا على ما تقدم ليكون بمثابة الدليل على نفي الاستواء بين الفريقين ولك أن تجعله استئنافا مسوقا لهذه الغاية. وخلق الله السموات فعل وفاعل ومفعول به والأرض عطف على السموات وبالحق حال من الفاعل أو المفعول (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الواو عاطفة واللام للتعليل وتجزى فعل مضارع منصوب بأن مقدرة بعد لام التعليل والكلام معطوف على قوله بالحق لأن كلا من الباء واللام تكونان للتعليل فكان الخلق معللا بالجزاء واختار الزمخشري أن يكون معطوفا على معلل محذوف تقديره ليدل بها على قدرته ولتجزى كل نفس، واختار ابن عطية أن تكون لام العاقبة أو الصيرورة أي وصار الأمر منها من حيث اهتدى بها قوم وضلّ بها آخرون وليس ببعيد، والواو للحال وهم مبتدأ وجملة لا يظلمون خبر والجملة في محل نصب على الحال (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ) الهمزة للاستفهام المقصود به الأمر أي أخبرني، ورأيت فعل وفاعل ومن مفعول رأيت الأول والثاني محذوف تقديره مهتديا وجملة اتخذ صلة الموصول وإلهه مفعول أول لاتخذ وهواه مفعولها الثاني وأضله الله فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وعلى علم حال من المفعول وهو أولى من جعله من الفاعل كما أعربه الجلال والمعنى أضله الله وهو عالم بالحق لأن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 154 المبالغة فيه أشد والتشنيع والتنديد به أكثر (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) عطف على ما تقدم وقد تقدم الكلام على هذه الآية في البقرة (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) الفاء عاطفة ومن اسم استفهام بمعنى النفي، أي لا أحد يهديه، في محل رفع مبتدأ وجملة يهديه خبر ومن بعد الله متعلقان بيهديه والهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف مقدر أي تصرّون على الغيّ ولا نافية وتذكرون فعل مضارع حذفت إحدى تاءيه (وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لتفنيد مزاعمهم إذ كانوا يزعمون أن هلاك الأنفس منوط بمرور الأيام والليالي، وسيرد المزيد من هذا البحث في باب الفوائد، وما نافية وهي مبتدأ وإلا أداة حصر وحياتنا مبتدأ والدنيا خبر وجملة نموت مستأنفة مسوقة لإيراد المزيد من عقائدهم الفاسدة وجملة نحيا عطف عليها والواو حالية وما نافية ويهلكنا فعل مضارع ومفعول به مقدم وإلا أداة حصر والدهر فاعل يهلكنا (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) الواو للحال وما نافية ولهم خبر مقدم وبذلك متعلقان بعلم ومن حرف جر زائد وعلم مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ مؤخر وإن نافية وهم مبتدأ وإلا أداة حصر وجملة يظنون خبرهم (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة تتلى في محل جر بإضافة الظرف إليها وهو مبني للمجهول وعليهم متعلقان بتتلى وآياتنا نائب فاعل وبيّنات حال أي واضحات الدلالة وما نافية وكان فعل ماض ناقص وحجتهم خبر كان المقدّم وإلا أداة حصر وأن قالوا أن ومدخولها في تأويل مصدر في محل رفع اسم كان المؤخر والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وائتوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وبآبائنا متعلقان بائتوا والجملة مقول القول وإن حرف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 155 شرط جازم وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف تقديره فائتوا وصادقين خبر كنتم (قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) قل فعل أمر والله مبتدأ وجملة يحييكم خبر ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي للإشارة إلى المدة الفاصلة بين الحياة والموت ويميتكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول ثم حرف عطف كما تقدم ويجمعكم فعل مضارع وفاعل مستتر والكاف مفعول وإلى يوم القيامة متعلقان بيجمعكم ولا نافية للجنس وريب اسمها وفيه خبرها والجملة حال من يوم القيامة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الواو حالية ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها. الفوائد: الدهر في اللغة مدة بقاء العالم، من دهرهم أمر أي أصابهم به الدهر وفي القاموس «ودهرهم أمر كمنع نزل بهم مكروه وهم مدهور بهم ومدهورون» وكان من شأن العرب إذا ضربهم سوء نسبوه للدهر اعتقادا منهم أنه الفعّال لما يريد، وترى أشعارهم ناطقة بشكوى الدهر حتى يوجد ذلك في أشعار المسلمين، قال ابن دريد في مقصورته: يا دهر إن لم تك عتبى فاتئد ... في إروادك والعتبى سوا وقد فند أبو العلاء في لزومياته آراء الدهريين فقال: ودان أناس بالجزاء وكونه ... وقال رجال إنما أنتم بقل وهذا رد على الدهريين الذين يقولون: إن العالم قديم بالطبع لم يزل كذلك ولم يحدث بإحداث محدث والناس كالنبات ينبتون ويعودون بالموت هشيما، وقال أبو العلاء في الرد على ابن الراوندي وكتابه التاج في رسالة الغفران ومما قاله: «وأما ابن الراوندي فلم يكن إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 156 المصلحة بمهدي وأما تاجه فلا يصلح أن يكون نعلا، وهل تاجه إلا كما قالت الكاهنة: أف وتف، وجورب وخف» وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تسبّوا الدهر فإن الله هو الدهر» أي لأنه تعالى هو الفعّال لما يريد لا الدهر والحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة. [سورة الجاثية (45) : الآيات 27 الى 31] وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) اللغة: (جاثِيَةً) يقال جثا على ركبتيه جثّوا ورأيته جاثيا بين يديه ورأيتهم جثيا عنده وفي الحديث: «أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله تعالى يوم القيامة» وتجاثوا على الركب فأجاثى خصمه مجاثاة وصار فلان جثوة من تراب قال طرفة: ترى جثوتين من تراب عليهما ... صفائح صمّ من صفيح منضّد أي أرى قبر البخيل والجواد كومتين من تراب عليهما حجارة عراض صلاب فيما بين قبور عليها حجارة عراض قد نضدت وعبارة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 157 القرطبي: «وفي الجاثية تأويلات خمسة: الأول قال مجاهد مستوفزة وقال سفيان المستوفز الذي لا يصيب الأرض منه إلا ركبتاه وأطراف أنامله قال الضحاك: وذلك عند الحساب، الثاني مجتمعة قاله ابن عباس وقال الفرّاء: المعنى وترى أهل كل دين مجتمعين، الثالث متميزة قاله عكرمة، الرابع خاضعة بلغة قريش، الخامس باركة على الركب قاله الحسن، والجثو الجلوس على الركب يقال جثا على ركبتيه يجثو ويجثى جثوا وجثيا على فعول فيهما وقد مضى في مريم، وأصل الجثوة الجماعة من كل شيء ثم قيل هو خاص بالكفّار قاله يحيى بن سلام وقيل إنه عامّ للمؤمن والكافر انتظارا للحساب وقد روى سفيان بن عيينة عن عمر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كأني أراكم بالركب جاثين دون جهنم» هذا وقرىء جاذية بالذال والجذو أشد استيفازا من الجثو لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه. (نَسْتَنْسِخُ) أي نستكتب الملائكة أعمالكم، وفي الأساس: «نسخت كتابي من كتاب فلان وانتسخته واستنسخته بمعنى ويكون الاستنساخ بمعنى الاستكتاب «إنّا كنّا نستنسخ» وهذه نسخة عتيقة ونسخ عتق» والمعنى نأمر الملائكة بنسخ ما كنتم تعملون وإثباته فليس المراد بالنسخ إبطال شيء وإقامة آخر مقامه. الإعراب: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لتعميم القدرة بعد تخصيصها بالإحياء والإماتة والجمع لأن معنى المالك أن يتصرف بما يملك كما يشاء، ولله خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأ مؤخر (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) الواو استئنافية ويوم ظرف متعلق بيخسر وجملة تقوم الساعة في محل جر بإضافة الظرف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 158 إليها ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله وهو بدل من يوم تقوم والتنوين في يومئذ تنوين عوض عن جملة أي يوم تقوم الساعة وقيل العامل في ويوم تقوم ما يدل عليه الملك قالوا لأن السماء والأرض يتبدلان فكأنه قيل ولله ملك السموات والأرض والملك يوم القيامة ويومئذ على هذا منصوب بيخسر ويخسر المبطلون فعل وفاعل (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) الواو عاطفة وترى فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنت وكل أمة مفعول به أول إن كانت الرؤية علمية ولكن سياق الكلام يرجح كونها بصرية وجاثية مفعول به ثان على الأول وحال على الثاني وكل أمة مبتدأ وجملة تدعى إلى كتابها خبر (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) اليوم ظرف متعلق بتجزون وتجزون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وما مفعول به ثان لتجزون والجملة مقول قول محذوف أي يقال لهم اليوم تجزون وكان واسمها وجملة تعملون خبرها والجملة صلة ما (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ) هذا مبتدأ وكتابنا خبر وجملة ينطق خبر ثان أو في موضع النصب على الحال ويجوز أن يكون كتابنا بدلا من هذا وجملة ينطق خبر هذا وبالحق حال وعليكم متعلقان بينطق، وسيأتي معنى نطق الكتاب في باب البلاغة (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إن واسمها وجملة كنّا خبر إنّا وجملة نستنسخ خبر كنّا وما مفعول به وجملة كنتم صلة ما وجملة تعملون خبر كنتم (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) الفاء عاطفة وأما حرف شرط وتفصيل للمجمل المفهوم من قوله ينطق عليكم بالحق أو لتجزون والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة للموصول وعملوا الصالحات عطف على آمنوا، فيدخلهم الفاء رابطة لجواب أما وجملة يدخلهم ربهم في رحمته خبر الذين (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) تقدم إعرابها كثيرا (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) الواو عاطفة وأما حرف شرط وتفصيل والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة وجواب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 159 أما محذوف تقديره فيقال لهم والهمزة للاستفهام والفاء عاطفة على الجواب المحذوف ولم حرف نفي وقلب وجزم وتكن فعل مضارع مجزوم بلم والمعنى ألم يأتكم رسلي فلم تكن، وآياتي اسم تكن وجملة تتلى عليكم خبرها (فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) الفاء عاطفة واستكبرتم فعل وفاعل وكنتم كان واسمها وقوما خبرها ومجرمين نعت لقوما. البلاغة: 1- الاستعارة المكنية: في قوله «هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق» استعارة مكنية، شبّه الكتاب بشاهد يؤدي شهادته بالحق وحذف المشبه به واستعار له شيئا من لوازمه وهو النطق بالشهادة. 2- وفي قوله: «فيدخلهم في رحمته» مجاز مرسل علاقته الحالية أي في جنته لأن الرحمة لا يحلّ فيها الإنسان لأنها معنى من المعاني وإنما يحلّ في مكانها فاستعمال الرحمة في مكانها مجاز أطلق فيه الحال وأريد المحل فعلاقته الحالية. [سورة الجاثية (45) : الآيات 32 الى 37] وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 160 الإعراب: (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) الواو عاطفة والكلام معطوف على ما سبق لأنه من جملة ما يقال لهم، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وقيل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وإن واسمها وخبرها والجملة مقول القول والساعة مبتدأ وجملة لا ريب فيها خبره وقيل الساعة عطف على محل إن واسمها معا لأن لإن واسمها موضعا وهو الرفع بالابتداء وقرئ والساعة بالنصب عطف على الوعد والجملة في محل نصب سدّت مسدّ مفعولي ندري لأنها علقت بالاستفهام وجملة قلتم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وما نافية وندري فعل مضارع مرفوع وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ والساعة خبره (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) إن نافية ونظن فعل مضارع مرفوع وإلا أداة حصر وظنا مفعول مطلق وهذا التركيب من المشكلات التي دندن المعربون والمفسرون حولها، وسنورد لك المزيد منها في باب الفوائد، والواو حرف عطف وما نافية حجازية ونحن اسمها والباء حرف جر زائد ومستيقنين مجرور بالباء لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الواو استئنافية وبدا فعل ماض ولهم متعلقان ببدا وسيئات فاعل وما مضاف إليه وجملة عملوا صلة ما وحاق بهم عطف على بدا لهم وما فاعل حاق وجملة كانوا صلة وبه متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 161 خبر كانوا (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) الواو عاطفة وقيل فعل ماض مبني للمجهول واليوم ظرف متعلق بننساكم وكما نعت لمصدر محذوف ونسيتم فعل وفاعل ولقاء يومكم مفعول به وقد توسع في الظرف فأضيف إليه ما هو واقع فيه على حدّ قوله مكر الليل، وهذا نعت ليومكم أو بدل منه (وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) الواو عاطفة ومأواكم خبر مقدّم والنار مبتدأ مؤخر ويجوز العكس والواو عاطفة وما نافية ولكم خبر مقدم ومن حرف جر زائد وناصرين مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ مؤخر (ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً) ذلكم مبتدأ والإشارة إلى العذاب العظيم الذي أعدّ لهم وبأنكم أن وما في حيزها في محل جر بالباء والجار والمجرور خبر ذلك وأن واسمها وجملة اتخذتم خبرها وآيات الله مفعول اتخذتم الأول وهزوا مفعول اتخذتم الثاني (وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) الواو حرف عطف وغرّتكم فعل ماض ومفعول به مقدم والحياة فاعل مؤخر والدنيا نعت للحياة (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) الفاء الفصيحة واليوم ظرف متعلق بيخرجون ولا نافية ويخرجون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل ومنها متعلقان بيخرجون ولا عطف على ما تقدم وهم مبتدأ وجملة يستعتبون خبر (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الفاء استئنافية ولله خبر مقدّم والحمد مبتدأ مؤخر ورب السموات بدل أو نعت لله وكذلك ما بعده (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الواو عاطفة وله خبر مقدم والكبرياء مبتدأ مؤخر وفي السموات حال من الكبرياء ويجوز أن يتعلق بالاستقرار الذي تعلق به الظرف الأول واختار بعضهم أن يتعلق بنفس لأنه مصدر وهو مبتدأ والعزيز الحكيم خبران له. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 162 البلاغة: 1- المجاز المرسل أو الاستعارة المكنية: في قوله «وقيل اليوم ننساكم» إلخ مجاز مرسل علاقته السببية لأن النسيان سبب الترك وإذا نسي الشيء فقد تركه وأهمله تماما وقال بعضهم: ويجوز أن يعتبر في ضمير الخطاب الاستعارة بالكناية بتشبيههم بالأمر المنسي في تركهم في العذاب وعدم المبالاة بهم وتجعل نسبة النسيان قرينة الاستعارة. 2- الالتفات: وذلك في قوله «فاليوم لا يخرجون منها» فقد التفت من الخطاب إلى الغيبة عند ما انتهى إلى هذه المثابة التي صاروا إليها فهم جديرون بإسقاطهم من رتبة الخطاب احتقارا لهم واستهانة بهم. الفوائد: أشرنا إلى الإشكال الوارد في قوله تعالى «إن نظن إلا ظنا» لأن المصدر المؤكد لا يجوز أن يقع استثناء مفرغا فلا يقال ما ضربت إلا ضربا لعدم الفائدة لكونه بمنزلة أن يقال ما ضربت إلا ضربت، ومن المقرر عند النحويين أنه يجوز تفريغ العامل لما بعده من جميع المعمولات إلا المفعول المطلق فلا يقال ما ظننت إلا ظنا لاتحاد مورد النفي والإثبات وهو الظن والحصر إنما يتصور حين تغاير مورديهما وفيما يلي ما قاله المعربون: فقال المبرد أصله إن نحن إلا نظن ظنا وهو يريد أن مورد النفي محذوف وهو كون المتكلم على فعل من الأفعال فهذا هو مورد النفي ومورد الإثبات كونه يظن ظنا فكلمة إلا وإن كانت متأخرة لفظا فهي متقدمة في التقدير فمدلول الحصر إثبات الظن لأنفسهم ونفي ما عداه ومن جملة ما عداه اليقين والمقصود نفيه لكنه نفي ما عدا الظن مطلقا للمبالغة في نفي اليقين ولذلك أكد بقوله وما نحن بمستيقنين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 163 أما أبو حيان فأوّلها على حذف وصف المصدر حتى يصير مختصا لا مؤكدا وتقديره إلا ظنا ضعيفا أو على تضمين نظن معنى نعتقد ويكون ظنا مفعولا به. وقال الزمخشري: «فإن قلت: ما معنى قوله إن نظن إلا ظنا؟ قلت: أصله نظن ظنا ومعناه إثبات الظن مع نفي ما سواه وزيد نفي ما سوى الظن توكيدا بقوله: وما نحن بمستيقنين. وردّ أبو حيان على الزمخشري كعادته فقال: «هذا كلام من لا شعور له بالقاعدة النحوية من أن التفريغ يكون في جميع المعمولات من فاعل ومفعول وغيره إلا المصدر المؤكد فإنه لا يكون فيه. أما أبو البقاء فقال: «تقديره إن نحن إلا نظن ظنا فإلا مؤخرة لولا هذا التقدير لكان المعنى ما نظن إلا ظنا وقيل هي في موضعها لأن نظن قد تكون بمعنى العلم والشك فاستثني الشك أي ما لنا اعتقاد إلا الشك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 164 (46) سورة الأحقاف مكيّة وآياتها خمس وثلاثون [سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) اللغة: (الأثارة) بفتح الهمزة بقية من علم والمكرمة المتوارثة والفعل المجيد من قولهم سمنت الناقة على أثارة من شحم وهي البقية منه، وعن ابن الأعراب ي أغضبني فلان على أثارة غضب أي على أثر غضب كان قبل ذلك، وهم أثارة من علم أي بقية منه يأثرونها عن الأولين ويقال: لبني فلان أثارة من شرف إذا كانت عندهم شواهد قديمة وفي غير ذلك، قال الراعي: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 165 وذات أثارة أكلت علينا ... نباتا في أكمته قفارا أي بقية من شحم، وقال الواحدي: وكلام أهل اللغة في هذا الحرف يدور على ثلاثة أقوال: الأول الأثارة واشتقاقها من أثرت الشيء أثيره أثارة كأنها بقية تخرج فتستثار والثاني من الأثر الذي هو الرواية والثالث من الأثر بمعنى العلامة. الإعراب: (حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) حم تقدم القول في فواتح السور وتنزيل الكتاب خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره من الله والعزيز الحكيم نعتان (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) ما نافية وخلقنا السموات فعل وفاعل ومفعول به وإلا أداة حصر وبالحق صفة لمصدر محذوف أي خلقا ملتبسا بالحق والواو حرف عطف وأجل عطف على الحق ومسمى صفة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) الواو عاطفة والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة وعمّا متعلقان بمعرضون وجملة أنذروا صلة والعائد محذوف أي عن الذي أنذروه ومعرضون خبر الذين ويجوز أن تكون ما مصدرية أي عند إنذارهم ذلك اليوم (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) قل فعل أمر وفاعل مستتر وأرأيتم فعل وفاعل وما مفعول به وجملة تدعون صلة ومن دون الله حال وأروني فعل أمر وفاعله ومفعوله والجملة توكيد لأرأيتم وجملة ماذا خلقوا مفعول أرأيتم الثاني وماذا مفعول مقدم لخلقوا أو ما مبتدأ وذا اسم موصول خبره وجملة خلقوا صلة ويجوز أن لا تكون أروني توكيدا لأرأيتم فتكون المسألة من باب التنازع لأن أرأيتم يطلب مفعولا ثانيا وأروني كذلك وقوله ماذا خلقوا هو المتنازع فيه. ونص عبارة أبي حيان: «قل أرأيتم ما تدعون معناه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 166 أخبروني عن الذين تدعون من دون الله وهي الأصنام أروني ماذا خلقوا من الأرض استفهام توبيخ ومفعول أرأيتم الأول هو ما تدعون وماذا خلقوا جملة استفهامية يطلبها أرأيتم لأن مفعولها الثاني يكون استفهاما ويطلبها أروني على سبيل التعليق فهذا من باب الإعمال أعمل الثاني وحذف مفعول أرأيتم الثاني ويمكن أن يكون أروني توكيدا لأرأيتم بمعنى أخبروني كأنها بمعنى واحد. وقال ابن عقبة: يحتمل أرأيتم وجهين أحدهما أن تكون متعدية وما مفعولة بها ويحتمل أن تكون أرأيتم منبهة لا تتعدى وتكون ما استفهاما على معنى التوبيخ وتدعون معناه تعبدون» ا. هـ وكون أرأيتم لا تتعدى وأنها منبهة فيه شيء قاله الأخفش في قوله: قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة والذي يظهر أن ما تدعون مفعول أرأيتم كما هو في قوله قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون في سورة فاطر وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة فيها وقد أمضى الكلام في أرأيتم في سورة الأنعام» ومن الأرض حال لأنها تفسير للمبهم في ماذا خلقوا (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أم بمعنى همزة الإنكار وبل الإضرابية فهي منقطعة كأنه أضرب عن الاستفهام الأول إلى الاستفهام عن أن لهم مشاركة مع الله في خلق السموات والأرض فإن الشرك بمعنى المشاركة ولهم خبر مقدم وشرك مبتدأ مؤخر وفي السموات متعلقان بشرك وائتوني فعل أمر وفاعل ومفعول به والجملة من تتمة المقول وبكتاب متعلقان بائتوني ومن قبل هذا صفة لكتاب أي كائن من قبل هذا وأو حرف عطف وأثارة عطف على بكتاب ومن علم صفة لأثارة وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف تقديره فائتوني وصادقين خبر كنتم (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) الواو استئنافية ومن اسم استفهام معناه الإنكار في محل رفع مبتدأ وأضل خبر وممّن متعلقان بأضل وجملة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 167 يدعو صلة من ومن دون الله حال ومن مفعول يدعو وجملة لا يستجيب له صلة، وأجازوا في من أن تكون نكرة تامة موصوفة فتكون جملة لا يستجيب له صفة وإلى يوم القيامة حال وسيأتي معنى الغاية في باب البلاغة (وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) الواو حالية وهم مبتدأ وعن دعائهم متعلقان بغافلون وغافلون خبر هم والجملة في موضع نصب على الحال. البلاغة: 1- في قوله: إلى يوم القيامة نكتة بلاغية رائعة وذلك أنه جعل يوم القيامة غاية لعدم الاستجابة ومن شأن الغاية انتهاء المعنى عندها لكن عدم الاستجابة مستمر بعد هذه الغاية لأنهم في القيامة أيضا لا يستجيبون لهم فالوجه أنها من الغايات المشعرة بأن ما بعدها وإن وافق ما قبلها إلا أنه أزيد منه زيادة بيّنة تلحقه بالثاني حتى كأن الحالتين وإن كانتا نوعا واحدا لتفاوت ما بينهما كالشيء وضدّه وذلك أن الحالة الأولى التي جعلت غايتها القيامة لا تزيد على عدم الاستجابة والحالة الثانية التي في القيامة زادت على عدم الاستجابة بالعداوة وبالكفر بعبادتهم إياهم فهو من وادي ما تقدم في سورة الزخرف في قوله بل متّعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين ولما جاء الحق قالوا: هذا سحر وإنّا به كافرون. 2- التغليب: وغلب العاقل على غير العاقل على سبيل المجازاة لأن عابدي الأصنام كانوا يصفونها بالتمييز جهلا وغباوة. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 6 الى 9] وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 168 اللغة: (بِدْعاً) فيه وجهان أحدهما أن يكون مصدرا فيكون على حذف مضاف تقديره ذا بدع والثاني أن البدع بنفسه صفة على فعل بمعنى بديع كالخف والخفيف والحب والحبيب وقد تقدم القول في البديع مسهبا وأنه ما لم ير له مثيل من الابتداع وهو الاختراع. الإعراب: (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) الواو حرف عطف وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة حشر الناس في محل جر بإضافة الظرف إليها والناس نائب فاعل وجملة كانوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وكان واسمها ولهم حال وأعداء خبر كانوا وكانوا عطف على وكانوا الأولى وبعبادتهم متعلقان بكافرين والهاء مضافة إلى عبادة من إضافة المصدر إلى مفعوله أي بكونهم معبودين وكافرين خبر كانوا (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) الواو عاطفة وإذا تتلى عليهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 169 آياتنا عطف على ما تقدم وبيّنات حال وجملة قال الذين كفروا جواب إذا لا محل لها وللحق متعلقان بقالوا وعبارة أبي حيان «واللام في للحق لام الصلة أي لأجل الحق» ولما ظرفية حينية أو رابطة، وجاءهم فعل ومفعول به وفاعل مستتر وهذا مبتدأ وسحر خبر ومبين نعت والجملة مقول قولهم (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) أم بمعنى بل وهمزة الاستفهام الإنكاري أضرب عن ذكر تسميتهم إياه سحرا إلى ذكر قولهم أن محمدا افتراه ونسج أسلوبه من صنعه وذلك أشدّ سماجة من قبله وإن كانا ينبعان من مصدر واحد موغل في الضلالة والكفر، وجملة افتراه مقول قولهم، وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وإن شرطية وافتريته فعل وفاعل ومفعول به والفاء رابطة لجواب الشرط ولا نافية وتملكون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعله ولي جار ومجرور متعلقان بتملكون ومن الله حال لأنه كان في الأصل صفة وتقدم على موصوفة وشيئا مفعول به (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) الجملة حالية وهو مبتدأ وأعلم خبر وبما متعلقان بأعلم وجملة تفيضون فيه صلة ما (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) كفى فعل ماض والباء حرف جر زائد والهاء ضمير مجرور لفظا في موضع رفع بالفاعلية وشهيدا تمييز وبيني ظرف متعلق بشهيدا وبينكم ظرف معطوف على مثله والواو عاطفة وهو مبتدأ والغفور الرحيم خبران له (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وما نافية وكان واسمها وبدعا خبرها ومن الرسل نعت لبدعا وما عطف على ما النافية الأولى وأدري فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره نحن وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة يفعل بالبناء للمجهول خبرها وهي معلقة لأدري عن العمل فتكون سادّة مسدّ مفعوليها، وقال الزمخشري: «وما في ما يفعل يجوز أن تكون موصولة منصوبة وأن تكون استفهامية مرفوعة» وبي متعلقان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 170 بيفعل ولا بكم عطف عليه (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) إن نافية وأتبع فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا وإلا أداة حصر وما مفعول أتبع وجملة يوحى إليّ صلة والواو حرف عطف وما نافية وأنا مبتدأ وإلا أداة حصر ونذير خبر ومبين نعت. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 10 الى 14] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) الإعراب: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ) جملة أرأيتم مقول القول ومفعولا أرأيتم محذوفان تقديرهما أرأيتم حالكم إن كان كذا ألستم ظالمين وجواب الشرط محذوف أيضا تقديره فقد ظلمتم وقدّره الزمخشري ألستم ظالمين ورد عليه أبو حيان بأنه لو كان كذلك لوجبت الفاء لأن الجملة الاستفهامية متى وقعت جوابا للشرط ألزمت الفاء ثم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 171 إن كانت أداة الاستفهام همزة تقدمت على الفاء نحو إن تزرنا أفما نكرمك وإن كانت غيرها تقدمت الفاء عليها نحو إن تزرنا فهل ترى ألا خيرا وقيل جواب الشرط فآمن واستكبرتم وقيل هو محذوف تقديره فمن المحق منّا ومن المبطل وقيل فمن أضلّ واسم كان ضمير مستتر تقديره هو ومن عند الله خبرها وكفرتم الواو عاطفة وجملة كفرتم عطف على فعل الشرط واختار الجلال والسمين أن تكون حالية وبه متعلقان بكفرتم (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) الواو عاطفة وشهد شاهد فعل وفاعل ومن بني إسرائيل صفة لشاهد وعلى مثله متعلقان بشهد والضمير يعود إلى القرآن أي على مثل القرآن من المعاني الموجودة في التوراة المطابقة له من إثبات التوحيد والبعث والنشور وغير ذلك وهذه المثلية هي باعتبار تطابق المعاني وإن اختلفت الألفاظ (فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الفاء عاطفة وآمن فعل وفاعل مستتر تقديره هو أي الشاهد واستكبرتم عطف على فآمن وإن واسمها وجملة لا يهدي القوم الظالمين خبر (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) الواو عاطفة وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة وللذين متعلقان بقال وجملة آمنوا صلة ولو شرطية وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر يعود على ما جاء به محمد وخيرا خبرها وما نافية وسبقونا فعل وفاعل ومفعول به وإليه متعلقان بسبقونا والجملة مقول القول وجملة ما سبقونا إليه لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) الواو عاطفة وإذ ظرف ماض متعلق بمحذوف تقديره ظهر عنادهم وتسبّب عنه قوله فسيقولون ولا يعمل في إذ فسيقولون لتضاد الزمانين ولأجل الفاء أيضا وقيل إن لم يكن مانع من عمل فسيقولون في الظرف إلا تنافي دلالتي المضي والاستقبال فهذا غير مانع فإن الاستقبال هاهنا إنما خرج مخرج الإشعار بدوام ما وقع ومضى لأن القوم قد حرموا الهداية وقالوا هذا إفك قديم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 172 وأساطير الأولين وغير ذلك فمعنى الآية إذن وقالوا إذا لم يهتدوا به هذا إفك قديم وداموا على ذلك وأصرّوا عليه فعبّر عن وقوعه ثم دوامه بصيغة الاستقبال كما قال إبراهيم إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وقد كانت الهداية واقعة وماضية ولكن أخبر عن وقوعها ثم دوامها فعبّر بصيغة الاستقبال وهذا طريق الجمع بين قوله سيهدين وقوله في الأخرى فهو يهدين ولولا دخول الفاء على الفعل لكان هذا الذي ذكرناه هو الوجه ولكن الفاء المسبّبة دلّت بدخولها على محذوف هو السبب وقطعت الفعل عن الظرف المتقدم فوجب تقدير المحذوف عاملا فيه. وقال أبو السعود في تفسيره «وإذا لم يهتدوا به ظرف لمحذوف يدل عليه ما قبله ويترتب عليه ما بعده أي وإذ لم يهتدوا بالقرآن قالوا ما قالوا فسيقولون غير مكتفين بنفي خبريته هذا إفك قديم كما قالوا أساطير الأولين وقيل المحذوف ظهر عنادهم وليس بذاك» . وعبارة الكرخي «قوله وإذ لم يهتدوا ظرف لمحذوف مثله ظهر عنادهم لا لقوله فسيقولون فإنه للاستقبال وإذ للمضي ويجوز أن يقال إن إذ للتعليل لا للظرف أو يقال فسيقولون للاستمرار في الأزمنة الثلاث والسين لمجرد التأكيد وأما الفاء فلا تمنع من العمل فيما قبلها نصّ عليه الرضي وغيره والتسبب يجوز أن يكون عن كفرهم» . ولم حرف نفي وقلب وجزم ويهتدوا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل والفاء عاطفة والسين حرف استقبال ويقولون فعل مضارع مرفوع وفاعل وهذا مبتدأ وإفك خبر وقديم صفة والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) الواو استئنافية ومن قبله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وكتاب موسى مبتدأ مؤخر وإماما ورحمة حالان من كتاب موسى والتقدير وكتاب موسى كائن من قبل القرآن في حال كونه إماما ورحمة (وَهذا كِتابٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 173 مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) الواو عاطفة وهذا مبتدأ وكتاب خبر ومصدّق صفة ولسانا حال من الضمير في مصدّق أو من كتاب والعامل فيه معنى الإشارة، وأعربه أبو البقاء مفعولا به لمصدّق وعلى هذا تكون الإشارة إلى غير القرآن وقيل هو منصوب بنزع الخافض أي بلسان عربي، وأجاز أبو حيان جميع هذه الأوجه. واللام للتعليل وينذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بمصدق أو هو في محل نصب مفعول لأجله والذين مفعول به وجملة ظلموا صلة وبشرى عطف على محل لينذر إن كان مفعولا لأجله ويجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف أي وهو بشرى وللمحسنين نعت لبشرى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) إن واسمها وجملة قالوا صلة وربنا مبتدأ والله خبر ويجوز العكس وثم حرف عطف وجملة استقاموا عطف على جملة قالوا. (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) الفاء زائدة في خبر إن لما في الموصول من رائحة الشرط وقال السمين: والفاء زائدة في خبر الموصول لما فيه من معنى الشرط ولم تمنع إن من ذلك لبقاء معنى الانتداب بخلاف لعل وليت وكأن، وسيبويه يرى تقدير حذف إن ثم دخلت الفاء في خبر الذين، ولا نافية وخوف مبتدأ ساغ الابتداء به لتقدم النفي وعليهم خبر، ولا هم يحزنون عطف على الجملة السابقة وجملة فلا خوف عليهم خبر إن (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أولئك مبتدأ وأصحاب الجنة خبره وخالدين فيها حال وجزاء مصدر منصوب بفعل محذوف أي يجزون جزاء وأجاز أبو البقاء إعرابه حالا، وبما متعلقان بجزاء وما موصولة أو مصدرية وكان واسمها وجملة يعملون خبرها والجملة خبر ثان لإن. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 174 [سورة الأحقاف (46) : الآيات 15 الى 17] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) اللغة: (وَفِصالُهُ) في المختار: «الفصال هو الفطام، وقرئ وفصله والفصل والفصال كالعظم والعظام بناء ومعنى وسيأتي المراد به في باب البلاغة. و (بَلَغَ أَشُدَّهُ) تقدم تفسير الأشد وعبارة الكشاف: «بلوغ الأشد أن يكتهل ويستوفي السن التي تستحكم فيها قوته وعقله وتمييزه وذلك إذا أناف على الثلاثين وناطح الأربعين» . (أَوْزِعْنِي) ألهمني وقد تقدم تفسيرها. الإعراب: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) كلام مستأنف مسوق لبيان العبرة في اختلاف حال الإنسان مع أبويه فقد يطيعهما وقد يخالفهما وما دام الجزء: 9 ¦ الصفحة: 175 الإنسان مركوزا على هذه السجية فلا يبعد مثل هذا مع النبي صلى الله عليه وسلم. ووصينا فعل وفاعل والإنسان مفعول به وبوالديه متعلقان بوصّينا وإحسانا مصدر منصوب بفعل محذوف أي وصّيناه أن يحسن إليهما إحسانا وقيل هو مفعول به على تضمين وصينا معنى ألزمنا فيكون مفعولا ثانيا وقيل بل هو منصوب على أنه مفعول من أجله أي وصيناه بهما إحسانا منّا إليهما وقرئ حسنا وإعرابه كما تقدم (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) الجملة لا محل لها لأنها تعليلية للوصية المذكور وحملته أمه فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وكرها بضم الكاف وفتحها وقد قرئ بهما وهو منصوب على الحال من الفاعل أي ذات كره ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي حملا كرها ووضعته كرها عطف على ما تقدم (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) الواو حالية وحمله مبتدأ وفصاله عطف على حمله وثلاثون خبر وشهرا تمييز (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) حتى حرف غاية وجر أي وعاش إلى أن بلغ أشدّه وإذا ظرف مستقبل وجملة بلغ أشده في محل جر بإضافة الظرف إليها وبلغ عطف على بلغ الأولى وأربعين مفعول به وسنة تمييز ولا بدّ من تقدير مضاف أي تمام أربعين (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) جملة قال لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ورب منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة وقد تقدم تقريره وأوزعني فعل أمر للدعاء وأن وما في حيزها في محل نصب مفعول أوزعني ونعمتك مفعول أشكر والتي صفة نعمتك وجملة أنعمت عليّ صلة وأن أعمل عطف على أن أشكر وصالحا مفعول به أو صفة لمصدر محذوف وجملة ترضاه صفة لعملا (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وأصلح عطف على أوزعني ولي متعلقان بأصلح وفي ذريتي متعلقان بمحذوف حال وعبارة الزمخشري: «فإن قلت ما معنى وأصلح لي في ذريتي؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 176 قلت معناه أن يجعل ذريته موقعا للصلاح ومظنة له كأنه قال هب لي الصلاح في ذريتي وأوقعه فيهم» وأحسن من ذلك عبارة الشهاب الخفاجي في حاشيته على البيضاوي: «يعني كان الظاهر أصلح لي ذريتي لأن الإصلاح متعدّ كما في قوله تعالى وأصلحنا له زوجه فقيل أنه عدّي بفي لتضمنه معين اللطف أي الطف بي في ذريتي أو هو نزل منزلة اللازم ثم عدي بفي ليفيد سريان الصلاح فيهم وكونهم كالظرف له لتمكنه فيهم وهذا ما أراده المصنف وهو الأحسن» وإن واسمها وجملة تبت خبرها وإليك متعلقان بتبت وإني من المسلمين عطف على إني تبت إليك (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أولئك مبتدأ والذين خبره وجملة نتقبل عنهم صلة وأحسن مفعول به وما موصول مضاف إليه وجملة عملوا صلة ويجوز أن تكون ما مصدرية أي أحسن عملهم (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) ونتجاوز عطف على نتقبل داخل في حيز الصلة وعن سيئاتهم متعلقان بنتجاوز وفي أصحاب الجنة حال وعبارة الزمخشري «فإن قلت ما معنى قوله في أصحاب الجنة قلت هو نحو قولك أكرمني الأمير في ناس من أصحابه تريد أكرمني في جملة من أكرم منهم ونظمني في عدادهم ومحله النصب على الحال على معنى كائنين من أصحاب الجنة ومعدودين فيهم» وأجاز أبو البقاء وغيره أن يكون الجار والمجرور في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ مضمر أي هم في أصحاب الجنة. ووعد الصدق مصدر منصوب بفعله المقدّر أي وعدهم الله وعد الصدق أي وعدا صادقا وهو مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة والذي صفة لوعد الصدق وجملة كانوا يوعدون صلة الموصول وجملة يوعدون خبر كانوا ويوعدون فعل مضارع مرفوع مبني للمجهول والواو نائب فاعل (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) والذي مبتدأ سيأتي خبره فيما بعد وجملة قال صلة ولوالديه متعلقان بقال وأفّ اسم فعل مضارع معناه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 177 أتضجر وقد تقدم القول فيه ولكما جار ومجرور في محل نصب على الحال لأن اللام للبيان (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) الهمزة للاستفهام الإنكاري وتعدانني فعل مضارع مرفوع وفاعل ومفعول به وأن أخرج في تأويل مصدر مفعول ثان لتعدانني أو نصب على نزع الخافض وأخرج فعل مضارع مبني للمجهول، وقد الواو حالية وقد حرف تحقيق وخلت القرون فعل وفاعل ومن قبلي متعلقان بخلت (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) الواو للحال وهما مبتدأ وجملة يستغيثان في محل رفع خبر المبتدأ ولفظ الجلالة مفعول به، واستغاث يتعدى بنفسه تارة وبالباء أخرى ولكنه لم يرد في القرآن إلا متعديا بنفسه، وقال الرازي: «معناه يستغيثان بالله من كفره فلما حذف الجار وصل الفعل، وقيل: الاستغاثة الدعاء فلا حاجة إلى الباء» وويلك مصدر أمات العرب فعله والجملة معمولة لقول مقدّر أي يقولان ويلك آمن والجملة في محل نصب على الحال أي يستغيثان الله قائلين، وعبارة أبي البقاء: «وويلك مصدر لم يستعمل فعله وقيل هو مفعول به أي ألزمك الله ويلك» وآمن فعل أمر من الإيمان وهو من جملة مقولهما وإن واسمها وخبرها والجملة تعليلية للأمر لا محل لها والفاء عاطفة على القول المحذوف وما نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وأساطير الأولين خبر هذا والجملة مقول القول. البلاغة: في قوله «وحمله وفصاله ثلاثون شهرا» مجاز مرسل علاقته المجاورة لأن الفصال هو الفطام وأريد به هنا مدته التي يعقبها الفطام. الفوائد: 1- تضمنت هذه الآيات تعليمات فريدة في برّ الوالدين لأن إكرامهما من العمل الذي يحبه الله تعالى ويساوي ثواب الجهاد في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 178 سبيله ولا غرو فقد قرن الله رضاه برضاهما وقد تقدم ذلك في سورة النساء حيث يقول تعالى: «واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا» وقال تعالى في سورة العنكبوت «ووصّينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إليّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون» وقد أخرج مسلم من طريق مصعب بن سعد عن أبيه قال: حلفت أم سعد لا تكلمه أبدا حتى يكفر بدينه قالت: زعمت أن الله أوصاك بوالديك فأنا أمك وأنا آمرك بهذا فنزلت الآية، وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا؟ قلنا: بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت رواه البخاري ومسلم والمعنى تمنينا أنه يسكت إشفاقا عليه لما رأوا من أثر انزعاجه في ذلك، وقال ابن دقيق العيد: اهتمامه صلى الله عليه وسلم بشهادة الزور يحتمل أن يكون لأنها أسهل وقوعا على الناس والتهاون بها أكثر ومفسدتها أكثر وقوعا لأن الشرك ينبو عنه المسلم والعقوق ينبو عنه الطبع وأما قول الزور فإن الحوامل عليه كثيرة فحسن الاهتمام بها وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها. 2- مدة الحمل: قال أبو حيان: وحمله وفصاله ثلاثون شهرا أي ومدة حمله وفصاله وهذا لا يكون إلا بأن يكون أحد الطرفين ناقصا إما بأن تلد المرأة لستة أشهر وترضع عامين وإما أن تلد لتسعة أشهر على العرف وترضع عامين غير ربع عام فإن زادت مدة الحمل نقصت مدة الرضاع فمدة الرضاع عام وتسعة أشهر وإكمال العامين لمن أراد أن يتم الرضاعة وقد كشفت التجربة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر كنص القرآن، وقال جالينوس: كنت شديد الفحص عن مقدار زمن الحمل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 179 فرأيت امرأة ولدت لمائة وأربع وثمانين ليلة وزعم ابن سينا أنه شاهد ذلك وأما أكثر الحمل فليس في القرآن ما يدل عليه وحكي عن أرسطاطاليس أنه قال: إن مدة الحمل لكل الحيوان مضبوطة سوى الإنسان فربما وضعت لسبعة أشهر ولثمانية وقلّما يعيش الولد في الثامن إلا في بلاد معينة مثل مصر. 3- لطيفة: ذكر تعالى الأم في ثلاث مراتب: في قوله بوالديه وحمله وإرضاعه المعبّر عنه بالفصال، وذكر الوالد في واحدة في قوله بوالديه فناسب ما قال الرسول من جعل ثلاثة أرباع البرّ للأم والربع للأب في قول الرجل: يا رسول الله من أبرّ؟ قال أمك قال ثم من؟ قال أمك قال ثم من؟ قال أمك قال ثم من؟ قال أباك. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 18 الى 26] أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 180 اللغة: (الأحقاف) قال في القاموس: «الحقف بالكسر المعوج من الرمل والجمع أحقاف وحقاف وحقوف وجمع الجمع حقائف وحقفة أو الرمل العظيم المستدير أو المستطيل المشف أو هي رمال مستطيلة بناحية الشحر» وقال شارحه في التاج: «وبه فسر قوله تعالى «واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف» قال الجوهري: وهي ديار عاد وقال ابن عرفة قوم عاد كانت منازلهم بالرمال وهي الأحقاف وفي المعجم: وروي عن ابن عباس أنها واد بين عمان وأرض مهرة وقال ابن إسحق: الأحقاف رمل فيما بين عمان إلى حضرموت وقال قتادة: الأحقاف رمال مشرفة على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 181 هجر بالشحر من أرض اليمن، قال ياقوت: فهذه ثلاثة أقوال غير مختلفة في المعنى» وفي القاموس أيضا: «الشجر كالمنع فتح الفم وساحل البحر بين عمان وعدن ويكسر» وقال أبو حيان: «الحقف رمل مستطيل مرتفع فيه اعوجاج وانحناء ومنه احقوقف الشيء اعوج قال امرؤ القيس: فلما أجزنا ساحة الحيّ وانتحى ... بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل قال شارحه الزوزني: «والحقف رمل مشرف معوج والجمع أحقاف وحقاف» وعبارة الكشاف: «الأحقاف جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء من احقوقف الشيء إذا اعوجّ وكانت عاد أصحاب عمد يسكنون بين رمال مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشحر من بلاد اليمن وقيل بين عمان ومهرة» وقال ابن زيد: «هي رمال مشرفة على البحر مستطيلة كهيئة الجبال ولم تبلغ أن تكون جبالا» وقال مقاتل: كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بموضع يقال له مهرة وإليه تنسب الإبل المهرية وقال أبو الطيب في هجاء كافور: ويلمّها خطة ويلم قابلها ... لمثلها خلق المهرية القود قال أبو البقاء في شرحه للديوان: المهرية: منسوبة إلى مهرة بن حيدان بطن من قضاعة. (عارِضاً) العارض: السحاب الذي يعرض في أفق السماء، وقال أبو حيان: والعارض: المعترض في الجو من السحاب الممطر ومنه قول الشاعر: يا من رأى عارضا أرقت له ... بين ذراعي وجبهة الأسد وقال الأعشى: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 182 يا من رأى عارضا قد بتّ أرمقه ... كأنه البرق في حافاته الشعل الإعراب: (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أولئك مبتدأ والذين خبره وجملة حق عليهم القول لا محل لها لأنها صلة الموصول وفي أمم حال من المجرور بعلى وجملة قد خلت صفة لأمم ومن قبلهم متعلقان بخلت ومن الجن صفة ثانية لأمم (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) إن واسمها وجملة كانوا خبرها وخاسرين خبر كانوا والجملة لا محل لها لأنها تعليلية (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الواو استئنافية ولكل خبر مقدم ودرجات مبتدأ مؤخر ومما صفة لدرجات وجملة عملوا صلة، وليوفّيهم: الواو عاطفة واللام للتعليل ويوفّيهم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بالمعلل المحذوف كأنه قيل وجازاهم بذلك ليوفّيهم والهاء مفعول به أول وأعمالهم مفعول به ثان والواو للحال وهم مبتدأ وجملة لا يظلمون خبره والجملة نصب على الحال المؤكدة (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) الواو استئنافية ويوم ظرف زمان متعلق بمحذوف تقديره يقال لهم أذهبتم في يوم عرضهم وجملة يعرض في محل جر بإضافة الظرف إليها ويعرض فعل مضارع مبني للمجهول والذين نائب فاعل وجملة كفروا صلة الموصول وعلى النار متعلقان بيعرض وأذهبتم فعل وفاعل وطيباتكم مفعول به وفي حياتكم متعلقان بأذهبتم والدنيا نعت للحياة، وسيرد المزيد من بحث هذه الآية في باب البلاغة (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) الفاء الفصيحة واليوم ظرف زمان متعلق بتجزون وتجزون فعل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 183 مضارع مرفوع مبني للمجهول وعذاب الهون مفعول به ثان وبما متعلقان بتجزون وما موصولة ويجوز أن تكون مصدرية وجملة كنتم لا محل لها وجملة تستكبرون خبر كنتم وفي الأرض متعلقان بتستكبرون وبغير الحق حال (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) عطف على ما تقدم ويجوز أن تجعل ما مصدرية أو موصولة والمصدرية أولى (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق للأمر بذكر قصة عاد لهؤلاء المشركين للاعتبار بها، واذكر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وأخا عاد مفعول به وإذ ظرف لما مضى وهو بدل اشتمال من أخا عاد لأن أخا عاد وهو هود يلابس وقت إنذاره وما وقع له معهم وجملة أنذر قومه في محل جر بإضافة الظرف إليها وبالأحقاف حال من أخا عاد وليس متعلقا بأنذر كما يبدو لأول وهلة أي حالة كونهم كائنين بالأحقاف وأما صلة أنذر فستأتي فيما بعد (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) الواو اعتراضية والجملة معترضة وقد حرف تحقيق وخلت النذر فعل وفاعل ومن بين يديه حال ومن خلفه عطف على من بين يديه وأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وجملة لا تعبدوا خبرها وهي على كل حال مع مدخولها في محل نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بأنذر ولا ناهية وتعبدوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وإلا أداة حصر ولفظ الجلالة مفعول تعبدوا (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) إن واسمها وجملة أخاف خبرها وعليكم متعلقان بأخاف وعذاب يوم مفعول به وعظيم نعت ليوم والجملة لا محل لها لأنها تعليل للنهي (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا) قالوا فعل وفاعل والهمزة للاستفهام الإنكاري وجئتنا فعل وفاعل ومفعول به واللام للتعليل وتأفكنا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وعن آلهتنا متعلقان بتأفكنا (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) الفاء الفصيحة وائت فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت ونا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 184 مفعول به وبما متعلقان بائت وجملة تعدنا صلة وإن شرطية وكنت فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط وكنت كان واسمها ومن الصادقين خبرها وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله أي فائتنا بما تعدنا (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو أي هود وإنما كافة ومكفوفة والعلم مبتدأ وعند الله ظرف متعلق بمحذوف خبر والجملة مقول القول (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) الواو عاطفة أي وأما أنا فإنما مهمتي التبليغ لا الإتيان بالعذاب إذ لست قادرا عليه وإنما القادر عليه هو الله تعالى، وأبلغكم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وما مفعول به وجملة أرسلت صلة وأرسلت فعل ماض مبني للمجهول وبه متعلقان بأرسلت والواو عاطفة ولكن واسمها وجملة أراكم خبرها وقوما مفعول به ثان وجملة تجهلون صفة لقوما (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) الفاء عاطفة على مقدر محذوف تقديره فأصروا على إلحاحهم وطلبهم العذاب فجاءهم فلما رأوه، ولما ظرفية حينية أو رابطة ورأوه فعل ماض وفاعل ومفعول به وعارضا حال لأن الرؤية بصرية وقيل تمييز ومستقبل أوديتهم نعت وجاز لأن الإضافة غير محضة فلم تفد التعريف فساغ وقوعها نعتا للنكرة أي متوجها وسائرا إليها وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب لما المتضمنة معنى الشرط على كل حال وهذا مبتدأ وعارض خبره وممطرنا نعت لعارض وساغ النعت لما تقدم أي ممطر إيانا. وقال المبرد والزجّاج: الضمير في رأوه يعود إلى غير مذكور وبيّنه قوله: عارضا فالضمير يعود إلى السحاب أي فلما رأوا السحاب عارضا (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) بل حرف عطف وإضراب قال ذلك هود وهو مبتدأ وما خبر وجملة استعجلتم صلة وبه صلة وريح بدل من ما أو خبر لمبتدأ محذوف أي هي ريح وفيها خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم نعت وجملة فيها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 185 عذاب أليم نعت لريح وقيل هو من كلام قول الله تعالى والأول أنسب وأقعد بالفصاحة (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) الجملة نعت ثان لريح وتدمر فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هي وكل شيء مفعول به وبأمر متعلقان بندمر وربها مضاف إليه (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) الفاء الفصيحة أي قال هود ذلك ثم أدركتهم الريح فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم وإذا كان القول من الله تعالى كانت الفاء لمجرد العطف (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) كذلك نعت لمصدر محذوف ونجزي فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن والقوم مفعول به والمجرمين نعت للقوم (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) الواو واو القسم واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ومكناهم فعل وفاعل ومفعول به وفيما متعلقان بمكناهم وما اسم موصول بمعنى الذي أو موصوفة وفي إن ثلاثة أوجه الأول شرطية وجوابها محذوف والجملة الشرطية صلة ما والتقدير في الذي إن مكنّاكم فيه طغيتم، والثاني أنها مزيدة تشبيها للموصولة بما النافية والتوقيتية، والثالث وهو الأرجح أنها نافية بمعنى ما أي مكناهم في الذي ما مكناكم من القوة والبسطة واتساع الرزق وإنما عدل عن لفظ ما النافية إلى أن تفاديا من اجتماع متماثلين لفظا وسيأتي مزيد بسط لهذا البحث في باب الفوائد ومكناكم فعل وفاعل ومفعول به وفيه متعلقان بمكناكم (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) وجعلنا فعل وفاعل ولهم متعلقان بجعلنا لأنها بمعنى خلقنا وسمعا مفعول به وأبصارا وأفئدة عطف على سمعا والفاء حرف عطف وما نافية وأغنى فعل ماض وعنهم متعلقان بأغنى وسمعهم فاعل ولا أبصارهم ولا أفئدتهم عطف على سمعهم ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول مطلق أي شيئا من الإغناء (إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) إذ ظرف ماض يفيد التعليل متعلق بمعنى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 186 النفي لأن المعلل هو النفي أي انتفى نفع هذه الحواس عنهم لأنهم كانوا يجحدون وإلى ذلك أشار صاحب الكشاف قال: «فإن قلت بم ينتصب إذ كانوا يجحدون؟ قلت بقوله تعالى فما أغنى فإن قلت لم جرى مجرى التعليل؟ قلت لاستواء مؤدى التعليل والظرف في قولك ضربته لإساءته وضربته إذا أساء لأنك إذا ضربته في وقت إساءته فإنما ضربته لوجود إساءته فيه إلا أن «إذ وحيث» غلبتا دون سائر الظروف في ذلك» حيث كاد يلحق بمعانيهما الوضعية، وجملة كانوا في محل جر بإضافة الظرف إليها وكان واسمها وجملة يجحدون خبرها وبآيات الله متعلقان بيجحدون، وحاق بهم الواو عاطفة وحاق فعل ماض مبني على الفتح وبهم متعلقان بحاق وما فاعل حاق وجملة كانوا صلة الموصول وكان واسمها وجملة يستهزئون خبر وبه متعلقان بيستهزئون. البلاغة: في قوله تعالى «ويوم يعرض الذين كفروا على النار» إلى آخر الآية فن القلب وقد تقدم القول فيه على رأي بعضهم وأن الأصل تعرض النار عليهم، فعلى هذا القول يقال لهم قبل دخولها أي لدى معاينتها، وممّن ذهب إلى هذا الرأي الزمخشري والجلال ونص عبارة الزمخشري: «وعرضهم على النار تعذيبهم بها من قولهم عرض ببنو فلان على السيف إذا قتلوا به ومنه قوله تعالى: النار يعرضون عليها ويجوز أن يراد عرض النار عليهم من قولهم عرضت الناقة على الحوض يريدون عرض الحوض عليها فقلبوا ويدل عليها تفسير ابن عباس رضي الله عنه، يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها» وقيل في الرد على الزمخشري أنه لا ملجئ للقلب باعتبار أنه جماد لا إدراك له والناقة هي المدركة فهي التي يعرض عليها الحوض وأما النار فقد وردت النصوص الجزء: 9 ¦ الصفحة: 187 بأنها حينئذ مدركة إدراك الحيوانات بل إدراك أولي العلم فالأمر في الآية على ظاهره وعبارة زاده في حاشيته على البيضاوي: «العرض يتعدى باللام وبعلى يقال عرضت له أمر كذا وعرضت عليه الشيء أي أظهرته له قال تعالى «وعرضنا جهنم للكافرين عرضا» ، قال الفراء: أي أبرزناها حتى نظر الكفار إليها، فالمعروض عليه يجب أن يكون من أهل الشعور والنار ليست منه فلا بدّ أن يحمل العرض على التعذيب مجازا بطريق التعبير عن الشيء باسم ما يؤدي إليه كما يقال عرض بنو فلان على السيف فقتلوا به أو يكون باقيا على أصل معناه ويكون الكلام محمولا على القلب والأصل ويوم تعرض النار على الذين كفروا أي تظهر وتبرز عليهم والنكتة في اعتبار القلب المبالغة بادّعاء أن النار ذات تمييز وقهر وغلبة» . أما الشيخ أبو حيان فقد ردّ القلب وقال في معرض الرد على الزمخشري: «ولا ينبغي حمل القرآن على القلب إذ الصحيح في القلب أنه مما يضطر إليه في الشعر وإذا كان المعنى صحيحا واضحا مع عدم القلب فأي ضرورة تدعو إليه وليس في قولهم عرضت الناقة على الحوض ولا في تفسير ابن عباس بما يدل على القلب لأن عرض الناقة على الحوض وعرض الحوض على الناقة كلّ منهما صحيح إذ العرض أمر نسبي يصحّ إسناده لكل واحد من الناقة والحوض» . الفوائد: قال الزمخشري: «وإن نافية أي فيما مكنّاكم فيه إلا أن إن أحسن في اللفظ لما في مجامعة ما مثلها من التكرير المستبشع ومثله مجتنب، ألا ترى أن الأصل في مهما ما ما فلبشاعة التكرير قلبوا الألف هاء، ولقد أغث أبو الطيب في قوله: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 188 لعمرك ما ما بان منك لضارب ... بأقتل مما بان منك لغائب وما ضرّه لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال لعمرك ما إن بان منك لضارب وقد جعلت إن صلة مثلها فيما أنشده الأخفش: يرجى المرء ما إن لا يراه ... وتعرض دون أذناه الخطوب» هذا ما قاله الزمخشري والرواية في ديوانه: يرى أن ما ما بان منك لضارب ... بأقتل مما بان منك لعائب قال ابن جنّي: «ما الأولى زائدة والثانية بمعنى الذي واسم إن مضمر فيها» وقال ابن القطاع: «قال المتنبي ما الأولى بمعنى ليس والثانية بمعنى الذي» والمعنى يريد أنه ما الذي بان منك لضارب بأقتل من الذي بان لعائب يعيبك، يزيد أن العيب أشدّ من القتل وهذا من قول حبيب بن أوس أبي تمام الطائي: فمتى لا يرى أن الفريصة مقتل ... ولكن يرى أن العيوب مقاتل [سورة الأحقاف (46) : الآيات 27 الى 32] وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 189 الإعراب: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) كلام مستأنف مسوق لخطاب أهل مكة على جهة التمثيل واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأهلكنا فعل وفاعل وما مفعول به وحولكم ظرف متعلق بمحذوف لا محل له من الإعراب لأنه صلة الموصول ومن القرى متعلقان بمحذوف حال وصرفنا عطف على أهلكنا والآيات مفعول به ولعل واسمها وجملة يرجعون خبرها (فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً) الفاء عاطفة ولولا حرف تحضيض بمنزلة هلّا ونصرهم فعل ماض ومفعول به مقدم والذين فاعل مؤخر وجملة اتخذوا صلة ومن دون الله متعلقان باتخذوا والمفعول الأول لاتخذوا محذوف وهو عائد الموصول وقربانا نصب على الحال وآلهة مفعول به ثان، وذهب ابن عطية والحوفي إلى أن المفعول الأول محذوف أيضا كما تقدم تقريره وقربانا مفعول به ثان وآلهة بدل منه وقد شجب الزمخشري هذا الوجه وقال إن المعنى يفسد عليه ولم يبيّن وجه فساد المعنى ونحن نبيّنه فنقول لو كان قربانا مفعولا ثانيا ومعناه متقربا بهم لصار المعنى إلى أنهم وبّخوا على ترك اتخاذ الله متقربا لأن السيد إذا وبخ عبده وقال: اتخذت سيدا دوني فإنما معناه اللوم على نسبة السيادة إلى غيره وليس هذا المقصد فإن الله تعالى يتقرب إليه ولا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 190 يتقرب به لغيره فإنما وقع التوبيخ على نسبة الإلهية إلى غير الله تعالى فكان حق الكلام أن يكون آلهة هو المفعول الثاني لا غير، وأجاز أبو حيان وأبو البقاء أن يعرب قربانا مفعولا من أجله وآلهة هو المفعول الثاني والمفعول الأول محذوف كما تقدم (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) بل حرف إضراب وعطف للانتقال عن نفي النصرة لما هو أخص منه إذ نفيها يصدق بحضورها عندهم بدون النصرة فأفاد بالإضراب أنهم لم يحضروا بالكلية فضلا عن أن ينصروهم. وضلّوا فعل وفاعل وعنهم متعلقان بضلوا والواو حرف عطف وذلك مبتدأ وإفكهم خبر وما الواو حرف عطف وما مصدرية أو موصولة والمعنى وافتراؤهم أو والذي يفترونه، وكان واسمها وجملة يفترون خبر كان (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) الواو عاطفة وإذ ظرف معمول لاذكر محذوفا وجملة صرفنا في محل جر بإضافة الظرف إليها وصرفنا فعل وفاعل وإليك متعلقان بصرفنا ونفرا مفعول به ومن الجن صفة لنفر وجملة يستمعون القرآن صفة ثانية لنفرا أو حال لتخصصه بالصفة (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا: أَنْصِتُوا) الفاء عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة وحضروه فعل وفاعل ومفعول به وجملة قالوا: لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة أنصتوا مقول القول والضمير في حضروه للقرآن (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) عطف على ما تقدم وقضي فعل ماض مبني للمجهول وجملة ولّوا لا محل لها وإلى قومهم متعلقان بولّوا ومنذرين حال (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) قالوا فعل وفاعل وإن واسمها وجملة سمعنا خبرها وكتابا مفعول به وجملة أنزل صفة لكتابا وهو مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو ومن بعد متعلقان بأنزل وموسى مضاف إليه ومصدقا نعت لكتابا ولما متعلقان بمصدقا وبين ظرف متعلق بمحذوف وهو صلة الموصول ويديه مضاف إليه (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 191 مُسْتَقِيمٍ) جملة يهدي نعت ثان لكتابا أو حال منه لأنه وصف وقد تقدمت القاعدة وإلى الحق متعلقان بيهدي وإلى صراط مستقيم عطف على إلى الحق (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) يا أداة نداء وقومنا منادى مضاف وأجيبوا فعل أمر وفاعل وداعي الله مفعول به وآمنوا عطف على أجيبوا وبه متعلقان بآمنوا ويغفر فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب ولكم متعلقان بيغفر ومن ذنوبكم متعلقان بيغفر أيضا أي بعضها فمن للتبعيض وسيأتي سر التبعيض في باب البلاغة، ويجركم من عذاب أليم عطف على ما تقدم (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) الواو عاطفة ومن شرطية في محل رفع مبتدأ ولا نافية ويجب فعل الشرط مجزوم وداعي الله مفعوله والفاء رابطة لجواب الشرط لأن الجواب وقع فعلا جامدا، وليس فعل ماض ناقص والباء حرف زائد ومعجز مجرور لفظا منصوب محلا لأنه خبر ليس واسمها مستتر يعود على من وفي الأرض متعلقان بمعجز (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الواو حرف عطف وليس فعل ماض ناقص وله خبر ليس المقدم ومن دونه حال وأولياء اسم ليس المؤخر وأولئك مبتدأ وفي ضلال خبر أولئك ومبين صفة. البلاغة: في قوله «يغفر لكم من ذنوبكم» فن التنكيت، فقد عبّر بمن التبعيضية إشارة إلى أن الغفران يقع على الذنوب الخاصة أما حقوق العباد فلا يمكن غفرانها إلا بعد أن يرضى أصحابها فإن الله تعالى لا يغفر بالإيمان ذنوب المظالم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 192 [سورة الأحقاف (46) : الآيات 33 الى 35] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35) الإعراب: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو عاطفة على مقدّر ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم وأن وما بعدها سدّت مسدّ مفعولي يروا وأن واسمها والذي صفة لله وجملة خلق السموات والأرض صلة الذي والواو حرف عطف ولم حرف نفي وقلب وجزم ويعي فعل مضارع مجزوم بلم وبخلقهنّ متعلقان بيعي والباء حرف جر زائد وقادر مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه خبر أن وإنما دخلت الباء الزائدة لاشتمال النفي الذي في أول الآية على أن وما في حيزها، وسيأتي المزيد من هذا البحث في باب الفوائد وعلى أن يحيي الموتى متعلق بقادر (بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) بلى حرف جواب لإبطال النفي فهي تبطل النفي وتقرر نقيضه وتقدم بحث الفرق بينها وبين نعم، وإن واسمها وقدير خبرها وعلى كل شيء متعلقان بقدير (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ) الواو استئنافية ويوم ظرف متعلق بمحذوف تقديره يقال لهم والجملة مستأنفة وجملة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 193 يعرض في محل جر بإضافة الظرف إليها ويعرض فعل مضارع مبني للمجهول والذين نائب فاعل وجملة كفروا صلة وعلى النار متعلقان بيعرض وجملة أليس هذا بالحق مقول للقول الناصب للظرف والهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي وليس فعل ماض ناقص وهذا اسمها والباء حرف جر زائد والحق مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس (قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) قالوا فعل وفاعل وبلى حرف جواب والواو للقسم وربنا مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل مقدر تقديره أقسم وقال فعل ماض والفاء الفصيحة وذوقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والعذاب مفعول وبما متعلقان بذوقوا والباء للسببية وما مصدرية أي بسبب كفركم وكان واسمها وجملة تكفرون خبرها (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) الفاء الفصيحة لأنها جواب شرط مقدّر أي إذا كانت عاقبة الكفّار ما ذكر فاصبر على أذاهم، واصبر فعل أمر مبني على السكون وفاعله مستتر تقديره أنت وكما صبر في محل نصب مفعول مطلق أو حال وأولو العزم فاعل صبر ومن الرسل حال (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) الواو حرف عطف ولا ناهية وتستعجل فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت ولهم متعلقان بتستعجل ومفعول تستعجل محذوف تقديره نزول العذاب وكأن واسمها ويوم ظرف متعلق بالنفي المفاد بلم وجملة يرون في محل جر بإضافة الظرف إليها ويرون فعل مضارع وفاعل وما مفعول به وجملة يوعدون صلة وجملة لم يلبثوا خبر كأن وإلا أداة حصر وساعة ظرف متعلق بيلبثوا ومن نهار صفة لساعة (بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) بلاغ خبر لمبتدأ محذوف أي هذا الذي وعظتم به بلاغ وقيل تقديره هذا القرآن، فجعل الفاء عاطفة وهل حرف استفهام معناه النفي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 194 ويهلك فعل مضارع مبني للمجهول وإلا أداة حصر والقوم نائب فاعل والفاسقون صفة. البلاغة: في قوله تعالى «ولم يعي بخلقهن» مجاز مرسل علاقته السببية لأن العيّ أي التعب مستحيل عليه تعالى وهو سبب للانقطاع عن العمل أو النقص فيه والتأخر في إنجازه فهو العلاقة في هذا المجاز. الفوائد: قال الزجّاج: «لو قلت ما ظننت أن زيدا بقائم جاز كأنه قيل أليس الله بقادر ألا ترى إلى وقوع بلى مقررة للقدرة على كل شيء من البعث وغيره لا لرؤيتهم» وقال أبو حيان في التعقيب عليه: «والصحيح قصر ذلك على السماع» . وقال ابن هشام: قد يعطى الشيء حكم ما أشبهه في معناه أو لفظه أو فيهما، فأما الأول فله صور كثيرة إحداها دخول الباء في خبر إن في قوله تعالى: أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهنّ بقادر، لأنه في معنى أو ليس الله بقادر والذي سهل ذلك التقدير تباعد ما بينهما، ولهذا لم تدخل في: أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم، ومثله إدخال الباء في كفى بالله شهيدا لما دخله من معنى اكتف بالله شهيدا بخلاف قوله: قليل منك يكفيني، وفي قوله سود المحاجر لا يقرأن بالسور لما دخله من معنى لا يتقربن بقراءة السور، ولهذا قال السهيلي: لا يجوز أن تقول: وصل إليّ كتابك فقرأت به على حدّ قوله لا يقرأن بالسور لأنه عار عن معنى التقريب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 195 (47) سورة محمد مدنيّة وآياتها ثمان وثلاثون [سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 196 اللغة: (مُحَمَّدٍ) اسم عربي وهو مفعل من الحمد والتكرير فيه للتكثير كما تقول كرّمته فهو مكرّم وعظمته فهو معظّم إذا فعلت ذلك مرة بعد مرة وهو منقول من الصفة على سبيل التفاؤل أنه سيكثر حمده وكان كذلك صلى الله عليه وسلم، روى بعض نقلة العلم فيما حكاه ابن دريد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ولد أمر عبد المطلب بجزور فنحرت ودعا رجال قريش وكانت سنّتهم في المولود إذا ولد في استقبال الليل كفئوا عليه قدرا حتى يصبح ففعلوا ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم فأصبحوا وقد انشقّت عنه القدر وهو شاخص إلى السماء فلما حضرت رجال قريش وطعموا قالوا لعبد المطلب ما سمّيت ابنك هذا؟ قال: سمّيته محمدا قالوا: ما هذا من أسماء آبائك قال: أردت أن يحمد في السموات والأرض. يقال: رجل محمود ومحمد قال الأعشى: إليك أبيت اللعن كان كلالها ... إلى الواحد الفرد الجواد المحمّد فمحمود لا يدل على الكثرة ومحمد يدل على ذلك والذي يدل على الفرق بينهما قول الشاعر: فلست بمحمود ولا بمحمد ... ولكنما أنت الحبط الحباتر وقد سمّت العرب في الجاهلية رجالا من أبنائها بذلك منهم محمد بن حمران الجعفي الشاعر وكان في عصر امرئ القيس وسمّاه شويعرا ومحمد بن خولي الهمداني ومحمد بن بلال بن أحيحة وكان زوج سلمى بنت عمرو جدّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جدّه ومحمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم ومحمد بن مسلمة الأنصاري وأبو محمد بن أوس بن زيد شهد بدرا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 197 (بالَهُمْ) البال: القلب يقال: ما خطر الأمر ببالي والحال والعيش يقال فلان رخي البال والخاطر يقال فلان كاسف البال وما يهتم به يقال: ليس هذا من بالي أي مما أباليه وأمر ذو بال أي يهتم به وما بالك أي ما شأنك وقال الجوهري: «والبال أيضا رفاء العيش يقال فلان رخي البال أي رخي العيش وعبارة البيضاوي «وأصلح بالهم أي حالهم في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد» وعبارة أبي حيان: «البال الفكر تقول خطر في بالي كذا ولا يثني ولا يجمع وشذ قولهم بآلات في جمعه» وعبارة القاموس: «والبال: الحال والخاطر والقلب والحوت العظيم وبهاء: القارورة والجراب ووعاء الطيب» . (أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أكثرتم فيهم القتل وفي المصباح «أثخن في الأرض إثخانا سار إلى العدو وأوسعهم قتلا وأثخنته أوهنته بالجراح وأضعفته» . (الْوَثاقَ) بالفتح والكسر اسم ما يوثق به وفي المصباح: «الوثاق القيد والحبل ونحوه بفتح الواو وكسرها والجمع وثق مثل. وربط وعناق وعنق» . (أَوْزارَها) آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع قال الأعشى: وأعددت للحرب أوزارها ... رماحا طوالا وخيلا ذكورا وعبارة الكشاف: «وسمّيت أوزارها لأنه لما لم يكن لها بدّ من جرّها فكأنها تحملها وتستقل بها فإذا انقضت فكأنها وضعتها وقيل أوزارها آثامها يعني حتى يترك أهل الحرب وهم المشركون شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 198 الإعراب: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) الذين مبتدأ وجملة كفروا صلة وصدّوا عطف على كفروا وعن سبيل الله متعلقان بصدّوا وأضلّ أعمالهم فعل وفاعل مستتر يعود على الله تعالى ومفعول به والجملة خبر الذين وأجاز أبو البقاء أن ينتصب الذين بفعل دلّ عليه المذكور أي أضلّ الذين كفروا (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا، وآمنوا بما نزل على محمد عطف أيضا والواو اعتراضية وهو مبتدأ والحق خبره ومن ربهم حال (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) جملة كفّر عنهم خبر الذين آمنوا وسيئاتهم مفعول به وأصلح بالهم عطف على كفّر عنهم سيئاتهم (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ) ذلك مبتدأ وبأن الذين كفروا خبره وجملة اتبعوا الباطل خبر أن (وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) عطف على ما تقدم وقد تقدم إعرابه (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) كذلك نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الضرب يضرب الله للناس أمثالهم وسيأتي معنى ضرب المثل هنا في باب البلاغة (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) الفاء عاطفة لترتيب ما في حيزها من الأمر على ما قبلها وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط والعامل فيه فعل مقدّر هو العامل في ضرب الرقاب تقديره فاضربوا الرقاب وقت ملاقاتكم العدو ولا يعمل فيه نفس المصدر لأنه مؤكد وجملة لقيتم في محل جر بإضافة الظرف إليها والذين مفعول لقيتم وجملة كفروا صلة والفاء رابطة لجواب الشرط وضرب مفعول مطلق لفعل محذوف والرقاب مضاف إليه (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) حتى حرف ابتداء أي تبدأ بعده الجمل وجعلها أبو حيان حرف غاية وجر قال «وهذه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 199 غاية للضرب» وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة أثخنتموهم في محل جر بإضافة الظرف إليها والفاء رابطة لجواب إذا وشدّوا الوثاق فعل أمر وفاعل ومفعول به والفاء للتفريع وإما حرف شرط وتفصيل ومنّا وفداء مصدران منصوبان بفعل لا يجوز إظهاره لأن المصدر متى سيق تفصيلا لعاقبة جملة وجب نصبه بإضمار فعل والتقدير فإما أن تمنّوا منّا وإما أن تفادوا فداء، وأجاز أبو البقاء أن يكونا مفعولين بهما لعامل مقدّر تقديرهم أولوهم منّا واقبلوا منهم فداء، وليس بالوجه، وبعد ظرف مبني على الضم لانقطاعه عن الإضافة لفظا لا معنى أي بعد أسرهم وشدّ وثاقهم (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) حتى حرف غاية وجر وهي مع مدخولها إما أن تتعلق بالضرب والشدّ أو بالمنّ والفداء لأنها غاية لذلك كله على تفصيل تجده مبسوطا في كتب الفقهاء وليس هذا موضعه وسيأتي مزيد بيان في باب البلاغة، وتضع فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والحرب فاعل وأوزارها مفعول به (ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) ذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر فيهم ما ذكر من القتل والأسر وما بعده من المنّ والفداء ولك أن تنصبه بفعل محذوف أي افعلوا ذلك، والواو استئنافية ولو شرطية ويشاء الله فعل مضارع وفاعل واللام واقعة في جواب لو وانتصر فعل ماض وفاعل مستتر تقديره هو أي الله تعالى ولكن الواو عاطفة أو حالية ولكن حرف استدراك مهمل لأنه خفف واللام للتعليل ويبلو فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل واللام ومدخولها متعلقة بفعل محذوف تقديره أمركم بالقتال وبعضكم مفعول به وببعض متعلقان بيبلو (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) الواو عاطفة والذين مبتدأ وجملة قتلوا صلة وفي سبيل الله متعلقان بقتلوا والفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويضل فعل مضارع منصوب بلن وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وأعمالهم مفعول به الجزء: 9 ¦ الصفحة: 200 والجملة خبر الذين (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) السين حرف استقبال ويهديهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به ويصلح عطف على يهدي وبالهم مفعول به (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) الواو عاطفة ويدخلهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به والجنة مفعول به ثان على السعة وجملة عرفها لهم مستأنفة أو حالية وسيأتي في باب الفوائد معنى عرفها لهم. البلاغة: 1- في قوله تعالى «وأضلّ أعمالهم» استعارة مكنية فقد شبّه أعمالهم بالضالة من الإبل التي هي بمضيعة لا رب لها يحفظها ويعتني بها أو بالماء الذي يضل في اللبن والمعنى أن الكفار ضلّت أعمالهم الصالحة في جملة أعمالهم السيئة من الكفر والمعاصي وحتى صار صالحهم مستهلكا في غمار سيئهم ومقابله في المؤمنين ستر الله لأعمالهم السيئة في كنف أعمالهم الصالحة من الايمان والطاعة حتى صار سيئهم مكفرا ممحقا في جنب صالح أعمالهم، وإلى هذا التمثيل الجميل في عدم تقبل صالح الكفار والتجاوز عن سيئ أعمال المؤمنين وقعت الإشارة في قوله تعالى «كذلك يضرب الله للناس أمثالهم» وتفصيل ذلك أن ضرب المثل استعمال القول السائر المشبّه مضربه مورده بمورده قال الزمخشري: «فإن قلت أين ضرب الأمثال؟ قلت في أن جعل اتباع الباطل مثلا لأعمال الكفّار واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين أو في جعل الإضلال مثلا لخيبة الكفّار وتكفير السيئات مثلا لفوز المؤمنين» . 2- المجاز المرسل: وفي قوله تعالى «فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب» مجاز مرسل علاقته ذكر الجزء وإرادة الكل لأن ضرب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 201 الرقاب عبارة عن القتل ولكن لما كان قتل الإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته وقع عبارة عن القتل وقد أوثر المجاز لما فيه من تصوير وتجسيد لأن في هذه العبارة- كما يقول الزمخشري- من الغلظة والشدّة ما ليس في لفظ القتل لما فيها من تصوير القتل بأشنع صورة وهو حزّ العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوّه وأوجه أعضائه. 3- وفي قوله تعالى «حتى تضع الحرب أوزارها» استعارة مكنية أو تصريحية فعلى الأولى شبّه الحرب بمطايا ذات أوزار أي أحمال ثقال، وعلى الثانية استعار الأوزار لآلات الحرب، وفيه أيضا مجاز في الإسناد فقد أسند وضع الأوزار إلى الحرب وإنما هو لأهلها. الفوائد: معنى قوله تعالى «عرّفها لهم» إما من التعريف وهو التحديد بحيث يكون لكل واحد جنة مفرزة، وفي البخاري ما يدل على صحة هذا القول عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة من منزله الذي كان في الدنيا» وأما من العرف وهو طيب الرائحة قال ابن عباس عرفها لهم بأنواع الملاذ وطعام معرّف أي مطيّب، تقول العرب: عرفت القدر إذا طيبتها بالملح والأبازير، وفي كلام بعضهم: عزف كنوح القماري وعرف كفوح القماري، والقماري الأول جمع قمري اسم طير والقماري الثاني عود منسوب إلى موضع ببلاد الهند، كذا في الصحاح. [سورة محمد (47) : الآيات 7 الى 12] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 202 اللغة: (فَتَعْساً) التعس: الهلاك وخيبة الأمل وفي المختار: «التعس الهلاك وأصله الكبّ وهو ضد الانتعاش وقد تعس من باب قطع وأتعسه الله ويقال: تعسا لفلان أي ألزمه الله هلاكا» وفي المصباح: «وتعس تعسا من باب تعب لغة فهو تعس مثل تعب ويتعدى بالحركة وبالهمزة فيقال تعسه الله بالفتح وأتعسه وفي الدعاء تعسا له وتعس وانتكس فالتعس أن يخرّ لوجهه والنكس أن لا يستقل بعد سقطته حتى يسقط ثانية وهي أشدّ من الأولى» وفي الأساس: «تعس فلان بالفتح، والكسر غير فصيح، وتعسا له وتعسه الله وأتعسه قال: غداة هزمنا جمعهم بمقالع ... فآبوا بأتعاس على شر طائر وتقول: أضرع الله خدّه، وأتعس جدّه وهو منحوس متعوس وهذا الأمر متعسة منحسة» وعبارة القرطبي: «وفي التعس عشرة أقوال: الأول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 203 بعدا قاله ابن عباس وابن جريج، الثاني خزيا لهم قاله السدي، الثالث شقاء لهم قاله ابن زيد، الرابع شتما لهم من الله قاله الحسن، الخامس هلاكا لهم قاله ثعلب، السادس خيبة لهم قاله الضحاك وابن زياد، السابع قبحا لهم حكاه النقاش، الثامن رغما لهم قاله الضحاك أيضا، التاسع شرّا لهم قاله ثعلب أيضا، العاشر شقوة لهم قاله أبو العالية» . الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) يا أيها الذين آمنوا تقدم إعرابها كثيرا وإن شرطية وتنصروا فعل الشرط والله مفعول به وينصركم جواب الشرط ويثبت أقدامكم عطف على الجواب ولا بدّ من حذف مضاف أي دين الله ورسوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) والذين مبتدأ خبره محذوف تقديره تعسو وهو العامل في تعسا ويجوز أن ينصب بفعل محذوف يفسره ما بعده وجملة كفروا صلة للموصول والفاء رابطة تشبيها للموصول بالشرط وتعسا مفعول مطلق لفعل محذوف كما تقدم ولهم متعلقان بتعسا أو صفة له وأضل أعمالهم عطف على الفعل الذي نصب تعسا (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) ذلك مبتدأ وبأنهم خبره وأن واسمها وجملة كرهوا خبرها وما مفعول به وجملة أنزل الله صلة، فأحبط عطف على كرهوا وأعمالهم مفعول به (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف ولم حرف نفي وقلب وجزم ويسيروا فعل مضارع مجزوم بلم وفي الأرض متعلقان بيسيروا، فينظروا: الفاء فاء السببية وينظروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وعاقبة اسمها المؤخر والذين مضاف إليه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 204 ومن قبلهم متعلقان بمحذوف هو الصلة (دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) الجملة مفسرة لكيف لا محل لها ودمر الله فعل وفاعل وعليهم متعلقان بدمر ومفعول دمر محذوف تقديره أهلك نفسهم وأموالهم وما شادوه، ولك أن تضمن دمر معنى سخط فلا تحتاج إلى مفعول وللكافرين خبر مقدم وأمثالها مبتدأ مؤخر والضمير يعود على العاقبة المتقدمة أي أمثال عاقبة من قبلهم ويجوز أن يعود على التدميرة المفهومة من قوله دمر الله عليهم والأول أولى (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) ذلك مبتدأ وبأن خبره والله اسم أن ومولى الذين آمنوا خبر أن وأن الكافرين عطف على ما تقدم ولا نافية للجنس ومولى اسمها ولهم خبرها والجملة خبر أن (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) الجملة مفسّرة لولايته تعالى وما يترتب عليها وإن واسمها وجملة يدخل الذين آمنوا خبرها وعملوا الصالحات عطف على الصلة وداخلة في حيزها وجنات مفعول به ثان على السعة وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة لجنات (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة وجملة يتمتعون خبر الذين وجملة يأكلون عطف على جملة يتمتعون وكما في موضع نصب نعت لمصدر محذوف على مذهب أكثر المعربين أو في موضع نصب على الحال على مذهب سيبويه وتأكل الأنعام فعل وفاعل والواو استئنافية والنار مبتدأ ومثوى خبر ولهم صفة لمثوى. [سورة محمد (47) : الآيات 13 الى 15] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 205 اللغة: (آسِنٍ) بالمدّ والقصر كضارب وحذر أي غير متغير بخلاف ماء الدنيا فيتغير بما يطرأ عليه من عوارض وفي المختار: «الآسن من الماء مثل الآجن وزنا ومعنى وقد أسن من باب ضرب ودخل وأسن فهو آسن من باب طرب لغة فيه» ويقال أسن الماء وأجن إذا تغير طعمه وريحه وأنشد ليزيد بن معاوية: لقد سقتني رضابا غير ذي أسن ... كالمسك فتّ على ماء العناقيد (عَسَلٍ) نقلوا في العسل التذكير والتأنيث وجاء في القرآن على التذكير في قوله من عسل مصفى وفي المصباح «والعسل يذكّر ويؤنث وهو الأكثر ويصغّر على عسيلة على لغة التأنيث ذهابا إلى أنها قطعة من الجنس وطائفة منه» وفي المختار «العسل يذكّر ويؤنث يقال منه عسل الطعام أي عمله بالعسل وبابه ضرب ونصر وزنجبيل معسل أي معمول بالعسل والعاسل الذي يأخذ العسل من بيت النحل، والنحل عسّالة» وفي الأساس «الدليل يعسل في المفازة وصفقت الرياح الماء فهو يعسل عسلانا وأنشد الأصمعي: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 206 قد صبّحت والظل غض ما رحل ... حوضا كأن ماءه إذا عسل من نافض الريح رويزيّ سمل ورمح وذئب عسال ورماح وذئاب عواسل وتقول: يمتار الفيء العاسل كما يشتار الأري العاسل، وبنو فلان يوفضون إلى العسالة، كما يطّرد النحل إلى العسّالة وهي الخلية وطعام معسول ومعسّل وعسلت القوم وعسّلتهم: أطعمتهم العسل» . الإعراب: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) كلام مستأنف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم بمثابة المثل له، وكأين خبرية وهي كلمة مركبة من الكاف وأي بمعنى كم الخبرية ومحلها الرفع على الابتداء ومن قرية تمييز لها وقد تقدم القول فيها مفصلا فجدد به عهدا وهي مبتدأ وأشد خبر والجملة صفة لقرية وقوة تمييز ومن قريتك متعلقان بأشد والتي نعت لقريتك وجملة أخرجتك صلة التي وجملة أهلكناهم خبر كأين والفاء عاطفة ولا نافية للجنس وناصر اسمها ولهم خبرها وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: «أنت أحبّ بلاد الله إليّ ولولا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج فأعتى الأعداء من عتا على الله في حرمه أو قتله غير قاتله أو قتل بدخول الجاهلية» (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان حال الفريقين المؤمنين والكافرين والهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف مقدر يقتضيه المقام والتقدير أليس الأمر كما ذكر فمن كان مستقرا على حجة ظاهرة وبرهان كمن زين له، ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وكان فعل ماض الجزء: 9 ¦ الصفحة: 207 ناقص واسمها مستتر تقديره هو يعود على من وعلى بيّنة خبر ومن ربه صفة لبينة وكمن خبر وجملة زين بالبناء للمجهول صلة وله متعلقان بزين وسوء عمله نائب فاعل واتبعوا عطف على زين وقد روعي فيه معنى من كما روعي لفظها في زين وأهواءهم مفعول به (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) مثل الجنة مبتدأ وسيأتي الكلام على خبره والتي صفة وجملة وعد المتقون صلة وفيها خبر مقدم وأنهار مبتدأ مؤخر والجملة حال من الجنة أو خبر لمبتدأ مضمر أي هي فيها أنهار أو داخلة في حيز الصلة وتكرير لها ومن ماء صفة لأنهار وغير آسن صفة ثانية لأنهار وأنهار عطف على أنهار الأولى ومن خمر نعت ولذة للشاربين نعت ثان وللشاربين متعلقان بلذة لأنها مصدر بمعنى الالتذاذ ووقعت صفة للخمر ويجوز أن تكون مؤنث لذّ، ولذّ بمعنى لذيذ وعلى الأول لا بدّ من تأويلها بالمشتق ليصحّ النعت بها على حدّ زيد عدل بمعنى عادل، وسيأتي المزيد من بحث لذة للشاربين في باب الفوائد (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) وأنهار عطف على أنهار المتقدمة ومن عسل صفة ومصفّى صفة لعسل والواو حرف عطف ولهم خبر مقدم وفيها متعلقان بما يتعلق به الخبر من الاستقرار المحذوف والمبتدأ محذوف تقديره أصناف ومن كل الثمرات نعت للمبتدأ المحذوف ومغفرة عطف على أصناف أو مبتدأ خبره المقدم محذوف أي ولهم مغفرة ومن ربهم نعت لمغفرة (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) كمن خبر لمبتدأ محذوف تقديره أمن هو خالد في هذه الجنة حسبما جرى به الوعد كمن هو خالد في النار وعلى هذا يكون خبر مثل مقدّر فقدّره سيبويه فيما يتلى عليكم مثل الجنة والجملة بعدها أيضا مفسّرة للمثل وقدّره النضر بن شميل مثل الجنة ما تسمعون والجملة بعدها مفسّرة أيضا ويجوز أن يكون الخبر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 208 كمن هو خالد في النار، وسقوا الواو عاطفة وسقوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل وماء مفعول به ثان وحميما نعت لماء، فقطع الفاء عاطفة وقطع أمعاءهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به. الفوائد: كثر الكلام واستفاض حول هذه الآية وسننقل عبارة الزمخشري مع تعقيب بديع عليها قال: «فإن قلت ما معنى قوله تعالى: مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار؟ قلت هو كلام في صورة الإثبات ومعنى النفي والإنكار لانطوائه تحت حكم كلام مصدر بحرف الإنكار ودخوله في حيّزه وانخراطه في سلكه وهو قوله تعالى: أفمن كان على بيّنة من ربه كمن زيّن له سوء عمله فكأنه قيل أمثل الجنة كمن هو خالد في النار أي كمثل جزاء من هو خالد في النار فإن قلت: فلم عرّي من حرف الإنكار وما فائدة التعرية؟ قلت: تعريته من حكم الإنكار فيها زيادة تصوير لمكابرة من يسوّي بين المتمسك بالبيّنة والتابع لهواه وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التي تجري فيها تلك الأنهار وبين النار التي يسقى أهلها الهيم ونظيره قول القائل: أفرح أن أرزأ الكرام وأن ... أورث ذودا شصائصا نبلا هو كلام منكر للفرح برزية الكرام ووراثة الذود مع تعرّيه عن حرف الإنكار لانطوائه تحت حكم قول من قال: أتفرح بموت أخيك وبوراثة إبله، والذي طرح لأجله حرف الإنكار إرادة أن يصوّر قبح ما أزنّ به فكأنه قال له: نعم مثلي يفرح بمرزأة الكرام وبأبن يستبدل منهم ذودا يقل طائله وهو من التسليم الذي تحته كل إنكار» . وعقّب ابن المنير صاحب الانتصاف على كلام الزمخشري فقال: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 209 «كم ذكر الناس في تأويل هذه الآية فلم أر أطلى ولا أحلى من هذه النكت التي ذكرها ولا يعوزها إلا التنبيه على أن في الكلام محذوفا لا بدّ من تقديره لأنه لا معادلة بين الجنة وبين الخالدين في النار إلا على تقدير مثل ساكن فيه يقوّم وزن الكلام وتتعادل كفتاه ومن هذا النمط قوله تعالى: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، فإنه لا بدّ من تقدير محذوف مع الأول أو الثاني ليتعادل القسمان وبهذا الذي قدّرته في الآية ينطبق آخر الكلام على أوله فيكون المقصود تنظير بعد التسوية بين المتمسك بالسيئة والراكب للهوى ببعد التسوية بين المنعم في الجنة والمعذب في النار على الصفات المتقابلة المذكورة في الجهتين وهو من وادي تنظير الشيء بنفسه باعتبار حالتين إحداهما أوضح في البيان من الأخرى فإن المتمسّك بالسنّة هو المنعم في الجنة الموصوفة والمتبع للهوى هو المعذب في النار المنعوتة ولكن أنكر التسوية بينهما باعتبار الأعمال أولا وأوضح ذلك بإنكار التسوية بينهما باعتبار الجزاء ثانيا» . [سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 19] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 210 الإعراب: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: ماذا قالَ آنِفاً) كلام مستأنف مسوق لبيان جانب آخر من استهزائهم وتعنتهم فقد كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يلقون إليه بالا فإذا خرجوا من المجلس سألوا أهل العلم من الصحابة ماذا قال الساعة على جهة الاستهزاء وقيل في خطبة الجمعة فتكون الآية مدنية. ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة يستمع إليك صلة وقد روعي لفظ من، وحتى حرف غاية وجر وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة خرجوا في محل جر بإضافة الظرف إليها ومن عندك متعلقان بخرجوا وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وللذين متعلقان بقالوا وجملة أوتوا بالبناء للمجهول صلة والواو نائب فاعل والعلم مفعول به ثان، وماذا تقدم أن في إعرابها وجهين فما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول هنا خاصة في محل رفع خبر ولك أن تجعلها اسم استفهام بكاملها وآنفا حال من الضمير في قال أي مؤتنفا وأعربه الزمخشري وأبو البقاء ظرفا أي ماذا قال الساعة وأنكر أبو حيان ذلك وقال ولا نعلم أحدا من النحاة عدّه في الظروف وقال ابن عطية: «والمفسرون يقولون آنفا معناه الساعة الماضية القريبة منّا وهذا تفسير بالمعنى» وقال في القاموس «وقال آنفا كصاحب وكتف وقرئ بهما أي مذ ساعة أي في أول وقت يقرب منّا» كأنه يميل إلى نصبه على الظرفية. وقال الزّجاج «هو من استأنفت الشيء إذا ابتدأته والمعنى ماذا قال في أول وقت يقرب منّا» وعلى هذا رجحت كفّة القائلين بالظرفية (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أولئك مبتدأ والذين خبره وجملة طبع الله على قلوبهم صلة وجملة واتبعوا أهواءهم عطف أيضا داخلة في حيز الصلة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 211 (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) والذين مبتدأ وجملة اهتدوا صلة وجملة زادهم خبر وهدى مفعول به ثان أو تمييز وآتاهم عطف على زادهم وتقواهم مفعول به ثان وتقواهم مصدر مضاف للفاعل (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) الفاء استئنافية وهل حرف استفهام معناه النفي وينظرون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وإلا أداة حصر والساعة مفعول به وأن تأتيهم المصدر المؤول بدل اشتمال من الساعة أي ليس الأمر إلا أن تأتيهم وبغتة حال (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) الفاء تعليل لإتيان الساعة مفاجأة فالاتصال بينهما اتصال العلة بالمعلول، وقد حرف تحقيق وأشراطها فاعل جمع شرط بفتحتين وهي العلامة قال في المصباح «وجمع الشرط شروط مثل فلس وفلوس والشرط بفتحتين العلامة والجمع أشراط مثل سبب وأسباب ومنه أشراط الساعة أي علاماتها، فأنى الفاء حرف عطف وأنى اسم استفهام في محل نصب على الظرف المكانية وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم وذكراهم مبتدأ مؤخر أي أنى لهم التذكّر وجملة إذا وما بعدها اعتراض وجواب إذا محذوف تقديره كيف يتذكرون ويجوز أن يكون المبتدأ محذوفا أي أنّى لهم الخلاص ويكون ذكراهم فاعلا لجاءتهم (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدّر أي إذا علمت سعادة المؤمنين وشقاوة الكافرين فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية فإنه وحدي المجدي يوم القيامة وعلى التواضع وهضم النفس باستغفار ذنبك وذنوب من يؤمنون برسالتك وأن وما في حيزها سدّت مسدّ مفعولي اعلم وأن واسمها وجملة لا إله إلا الله خبرها وقد تقدم القول مسهبا في إعراب كلمة الشهادة، واستغفر فعل أمر ولذنبك متعلقان باستغفر وللمؤمنين والمؤمنات عطف على لذنبك (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة يعلم خبر ومتقلبكم مفعول به الجزء: 9 ¦ الصفحة: 212 ومثواكم عطف على متقلبكم ومعناهما متصرفكم ومأواكم وعبارة الزمخشري «والله يعلم أحوالكم ومتصرفاتكم ومتقلبكم في معايشكم ومتاجركم» ويجوز فيهما أن يكون مصدرين ميميين من تقلب وثوى وأن يكونا اسمي مكان أو زمان. الفوائد: جاءت مصادر أحوالا بكثرة في النكرات وفيها شذوذ واحد وهو المصدرية وكان الأصل أن لا تقع أحوالا لأنها غير صاحبها في المعنى ولكنهم لما كانوا يخبرون بالمصادر عن الذوات كثيرا واتساعا نحو زيد عدل فعلوا مثل ذلك لأنها خير من الإخبار كطلع زيد بغتة وجاء ركضا وقتلته صبرا فصبرا وهو أن يحبسه حيّا ثم يرمى حتى يقتل حال من مفعول قتلته وذلك كله على التأويل بالوصف فيؤول بغتة بوصف من باغت لأنها بمعنى مفاجأة أي مباغتا أو من بغت أي باغتا يقال بغتة أي فجأة والبغت الفجأة قال: ولكنهم كانوا ولم أدر بغتة ... وأعظم شيء حين يفجؤك البغت ومع كثرة ذلك قال سيبويه والجمهور لا ينقاس مطلقا سواء كان نوعا من العامل أم لا كما لا ينقاس المصدر الواقع نعتا أو خبرا بجامع الصفة المعنوية وقاسه المبرد فيما كان نوعا من العامل فيه لأنه حينئذ يدل على الهيئة بنفسه فأجاز قياسا جاء زيد سرعة لأن السرعة نوع من المجيء ومنع جاء ضحكا لأن الضحك ليس نوعا من المجيء. قال ابن هشام في الحواشي: «وإنما قاسه المبرد ولم يقسه سيبويه لأن سيبويه يرى أنه حال على التأويل ووضع المصدر موضع الوصف لا ينقاس كما أن عكسه لا ينقاس والمبرد يرى أنه مفعول مطلق حذف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 213 عامله لدليل فهو عنده مقيس كما يحذف عامل سائر المفاعيل لدليل فهذا الخلاف مبني على الخلاف في أنه حال أو مفعول مطلق» . وقال اللقاني «التمثيل ببغتة وركضا وصبرا لا يدل على تعيّن ذلك فيها بل يجوز جعلها مفاعيل مطلقة إذ هي نوع من عاملها فهي كرجع القهقرى» . وقاس ابن مالك في التسهيل وابنه في شرح الألفية الحال بعد أما نحو أما علما فعالم والأصل في هذا أن رجلا وصف عنده شخص بعلم أو غيره فقال للواصف أما علما فعالم أي مهما يذكر شخص في حال علم فالمذكور عالم كأنه منكر ما وصف به من غير العلم فصاحب الحال على هذا التقدير نائب الفاعل ويذكر ناصب الحال لما تقرر أن العامل في صاحب الحال هو العامل في الحال ويجوز أن يكون ناصب الحال ما بعد الفاء إذا كان صالحا للعمل فيما قبلها وصاحبها ما فيه من ضمير الحال والحال على هذا مؤكدة والتقدير مهما يكن من شيء فالمذكور في حال علم فلو كان ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها تعين أن يكون منصوبا بفعل الشرط المقدر بعد أما نحو أما علما فلا علم له وأما علما فإن له علما وأما علما فهو ذو علم لأن المصدر يعمل في متقدم فلو كان المصدر التالي أما معرّفا بأل فهو عند سيبويه مفعول له، وذهب الأخفش إلى أن المعرّف بأل والمنكر كليهما بعد أما مفعول مطلق، وذهب الكوفيون إلى أنهما مفعول به بفعل مقدّر والتقدير مهما تذكر علما فالذي وصفت عالم قال ابن مالك في شرح التسهيل: «وهذا القول عندي أولى بالصواب، وأحقّ ما اعتمد عليه في الجواب» وقاسه ابن مالك وابنه أيضا بعد خبر شبّه به مبتدؤه كزيد زهير شعرا فزهير بالتصغير خبر شبّه به مبتدؤه وهو زيد والتقدير مثل زهير في الشعر وإنما حذف مثل ليزول لفظ التشبيه فيكون الكلام أبلغ وشعرا حال في تقدير الصفة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 214 أي شاعرا والعامل فيها ما في زهير من معنى الفعل إذ معناه مجيد وصاحب الحال ضمير مستتر في زهير لما تقرر من أن الجامد المؤول بالمشتق يتحمل الضمير ويجوز أن يكون شعرا تمييزا لما انبهم في مثل المحذوقة وهي العاملة فيه قاله الخصاف في الإيضاح واستظهره أبو حيان في الارتشاف وابن هشام في المغني ورجحه اللقاني «والأظهر أنه تمييز محوّل عن الفاعل والأصل زيد مماثل شعره شعر زهير» . وقاساه أيضا بعد الخبر المقرون بأل الدالّة على الكمال نحو: أنت الرجل علما فعلما حال والعامل فيها ما في الرجل من معنى الفعل إذ معناه الكامل، وفي الخاطريات لابن جنّي «أنت الرجل فهما وأدبا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون في قولك أنت الرجل معنى الفعل أي أنت الكامل فهما وأدبا والثاني أن يكون على معنى تفهم فهما وتأدب أدبا» وقال أبو حيان في الارتشاف «يحتمل عندي أن يكون تمييزا كأنه قال أنت الكامل أدبا أي أدبه فهو محوّل عن الفاعل» فتحصل فيه ثلاثة آراء: حال ومفعول مطلق وتمييز ويتحصل من الخلاف في المصدر المنصوب أقوال: 1- مذهب سيبويه إن المصدر هو الحال. 2- مذهب المبرد والأخفش أنه مفعول مطلق غير منصوب بالعامل قبله وإنما عامله المحذوف من لفظه وذلك المحذوف هو الحال. 3- مذهب الكوفيين أنه مفعول مطلق وعامله الفعل المذكور وليس في موضع الحال. 4- وذهب جماعة إلى أنه مصدر على حذف مضاف وتقدير جاء ركضا جاء ذا ركض. وعلى القول بالحالية مذاهب: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 215 1- مذهب سيبويه: عدم القياس. 2- وذهب المبرد إلى قياسه فيما كان نوعا من عامله. 3- وقاسه ابن مالك وابنه في ثلاث مسائل: أ- بعد إما ب- وبعد خبر شبه به مبتدؤه ج- وفيما إذا كان الخبر مقرونا بأل الدالّة على الكمال. [سورة محمد (47) : الآيات 20 الى 28] وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 216 الإعراب: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) كلام مستأنف لبيان موقف المؤمنين الصادقين والمنافقين من الجهاد فقد سأل المؤمنون ربهم عزّ وجلّ أن ينزل على رسوله صلى الله عليه وسلم سورة يأمرهم فيها بقتال الكفّار حرصا منهم على الجهاد ونيل ما أعدّ الله للمجاهدين من جزيل الثواب فحكى الله عنهم ذلك. ويقول فعل مضارع والذين فاعله وجملة آمنوا صلة ولولا حرف تحضيض بمعنى هلّا ونزلت فعل ماض مبني للمجهول وسورة نائب فاعل (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة أنزلت في محل جر بإضافة الظرف إليها وهو فعل ماض مبني للمجهول وسورة نائب فاعل ومحكمة صفة أي مبينة غير متشابهة لا تحتمل وجها إلا وجوب القتال، وعن قتادة كل سورة فيها ذكر القتال فهي محكمة لأن النسخ لا يرد عليها، وذكر عطف على أنزلت وفيها متعلقان بذكر والقتال نائب فاعل وجملة رأيت لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والذين مفعول به وفي قلوبهم خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية لا محل لها لأنها صلة الموصول وينظرون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجملة في محل نصب حال إن كانت الرؤية بصرية ومفعول به ثان إن كانت الرؤية قلبية وكلا الوجهين مراد في الآية وإليك متعلقان بينظرون ونظر المغشي مفعول مطلق مؤكد وعليه متعلقان بالمغشي لأنه اسم مفعول ومن الموت متعلقان بالمغشي أيضا، فأولى الفاء استئنافية وأولى لهم قال الجوهري: «تقول العرب أولى لك تهديد ووعيد ثم اختلف اللغويون والمعربون في هذه اللفظة فقال الأصمعي إنها فعل ماض بمعنى قاربه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 217 ما يهلكه والأكثرون أنها اسم ثم اختلف هؤلاء فقيل مشتق من الولي وهو القرب وقيل من الويل، هذا ما يتعلق باشتقاقه ومعناه وأما الإعراب فإن قلنا باسميته ففيه أوجه أحدها أنه مبتدأ ولهم خبره وتقديره فالهلاك لهم واقتصر عليه أبو البقاء، والثاني أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره العقاب أو الهلاك أولى لهم أي أقرب وأدنى، ويجوز أن تكون اللام بمعنى الباء أي أولى وأحق بهم الثالث أنه مبتدأ ولهم يتعلق به واللام بمعنى الباء وطاعة خبره والتقدير فأولى بهم طاعة دون غيرها وإن قلنا بقول الأصمعي فهو فعل ماض وفاعله مضمر يدل عليه السياق كأنه قيل فأولى هو أي الهلاك وهذا ظاهر عبارة الزمخشري حيث قال معناه الدعاء عليهم بأن يليهم الهلاك وقال المبرد يقال لمن هم بالغضب ثم أفلت أولى لك أي قاربك الغضب. وقال أبو حيان: «قال صاحب الصحاح: قول العرب أولى لك تهديد وتوعيد ومنه قول الشاعر: فأولى ثم أولى ثم أولى ... وهل للداء يحلب من يرد واختلفوا أهو اسم أو فعل فذهب الأصمعي إلى أنه بمعنى قاربه ما يهلكه أي نزل به وأنشد: تعادى بين هاديتين منها ... وأولى أن يزيد على الثلاث أي قارب أن يزيد، قال ثعلب: لم يقل أحد أحسن مما قال الأصمعي، وقال المبرد، يقال لمن هم بالعطب كما روي أن أعرابيا كان يوالي رمي الصيد فينفلت منه فيقول أولى لك رمي صيدا فقاربه ثم أفلت منه وقال: فلو كان أولى يطعم القوم صيدهم ... ولكن أولى يترك القوم جوّعا والأكثرون على أنه اسم فقيل هو مشتق من الولي وهو القرب كما قال الشاعر: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 218 تكلفني ليلى وقد شطّ وليّها ... وعادت عواد بيننا وخطوب وقال الجرجاني هو ما حول من الويل فهو أفعل منه لكن فيه قلب» . وقال الجلال في تفسير سورة القيامة «والكلمة اسم فعل واللام للتبيين» أي مبنية على السكون لا محل لها من الإعراب والفاعل ضمير مستتر يعود على ما يفهم من السياق وهو كون هذه الكلمة تستعمل في الدعاء بالمكروه وقوله للتبيين المفعول وهي في المعنى زائدة على حدّ سقيا لك. وعبارة القاموس «وأولى لك هي كلمة تهديد ووعيد والمعنى قد قاربك الشر فاحذر» قال شارحه وقيل معناه الويل لك أو أولاك الله ما تكرهه فتكون اللام زائدة» (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) طاعة وقول كلام مستقل محذوف منه أحد الجزأين إما الخبر وتقديره أمثل وهو مذهب سيبويه والخليل، وإما المبتدأ وتقديره الأمر أو أمرنا طاعة وتقدم أنه يجوز أن يكون خبر الأولى وهناك أعاريب أخرى ضربنا عنها صفحا لبعدها وتكلفها، فإذا الفاء حرف عطف وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بصدقوا نحو إذا جاءني بطعام فلو جئتني أطعمتك، وجملة عزم الأمر في محل جر بإضافة الظرف إليها والفاء رابطة لجواب إذا ولو شرطية غير جازمة وصدقوا فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب إذا ولفظ الجلالة مفعول به ولكان اللام واقعة في جواب لو وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره هو أي الصدق وخيرا خبرها ولهم متعلقان بخيرا (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) الفاء استئنافية وعسيتم فعل ماض من أفعال الرجاء والتاء اسمها وسيأتي مزيد بحث عنها في باب الفوائد وإن شرطية وتوليتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف لدلالة فهل عسيتم عليه أو هو نفس فهل عسيتم عند من يرى تقديمه وجملة الشرط وجوابه معترضة لا محل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 219 لها وأن تفسدوا خبر عسى وفي الأرض متعلقان بتفسدوا (وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) عطف على أن تفسدوا في الأرض (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) أولئك مبتدأ والذين خبره وجملة لعنهم الله صلة والفاء عاطفة وأصمّهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وأعمى أبصارهم عطف على فأصمّهم (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على مقدّر يقتضيه السياق ولا نافية ويتدبرون القرآن فعل مضارع وفاعل ومفعول به وأم منقطعة بمعنى بل والهمزة للتسجيل عليهم بأن قلوبهم مقفلة لا يتوصل إليها ذكر وعلى قلوب خبر مقدم وأقفالها مبتدأ مؤخر وجوبا وسيأتي سرّ التنكير في باب البلاغة (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) إن حرف مشبّه بالفعل والذين اسمها وجملة ارتدوا صلة الموصول وعلى أدبارهم حال ومن بعد متعلقان بارتدّوا وما المصدرية وما في حيزها في محل جر بالإضافة إلى الظرف ولهم متعلقان بتبين والهدى فاعل والشيطان مبتدأ وجملة سوّل لهم خبر الشيطان والجملة الاسمية خبر إن ومعنى سوّل لهم سهّل لهم من السول وهو الاسترخاء وأملى لهم عطف على سوّل لهم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) ذلك مبتدأ وبأنهم خبره وأن واسمها وجملة قالوا خبرها وللذين متعلقان بقالوا وجملة كرهوا صلة وما مفعول به وجملة نزّل الله صلة وجملة سنطيعكم مقول القول وفي بعض الأمر متعلقان بنطيعكم (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) الواو للحال والله مبتدأ وجملة يعلم إسرارهم خبر وإسرارهم مفعول به وهو بكسر الهمزة مصدر أسرّ وقرئ بفتحها جمع سر (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) الفاء عاطفة وكيف اسم استفهام في محل رفع خبر مقدم أي كيف حالهم ويجوز أن تعرب مفعولا لفعل محذوف أي فكيف يصنعون، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط الجزء: 9 ¦ الصفحة: 220 متعلق بالمبتدأ المحذوف وجملة توفتهم الملائكة في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة يضربون حال من الفاعل أو من المفعول ووجوههم مفعول به وأدبارهم عطف على وجوههم (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) ذلك مبتدأ وبأنهم خبر وجملة اتبعوا خبر أن وما مفعول به وجملة أسخط الله صلة وكرهوا رضوانه عطف على جملة اتبعوا ما أسخط الله، فأحبط عطف على ما تقدم وأعمالهم مفعول به. البلاغة: 1- في قوله تعالى «فهل عسيتم إن توليتم» إلى آخر الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب وقد تقدم القول مطولا في الالتفات، والسرّ فيه هنا أنه جاء لتأكيد التوبيخ وتشديد التقريع وتسجيل ذلك عليهم مشافهة وخطابا، ولقائل أن يقول كيف يصحّ الاستفهام من الله تعالى وهو عالم بما كان وما يكون؟ والجواب أنه لما عهد منكم أحرياء بأن يقول لكم كل من سبر أغواركم وعرف تمريضكم ورخاوة عقدكم في الإيمان يا هؤلاء ما ترون؟ هل يتوقع منكم إذا توليتم أمور الناس ونيطت بكم شئونهم وأصبحتم حكاما هل يتوقع منكم أن تفسدوا في الأرض بالتناخر على الملك والتهالك على الدنيا والتناور والتناهب وقطع الأرحام بمقاتلة بعض الأقارب ووأد البنات وأخذ الرشاوة والعودة إلى الجاهلية الأولى. 2- التنكير والاستعارة: وفي قوله تعالى: «أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها» التنكير في قلوب مع إضافة الأقفال إليها على طريق الاستعارة المكنية، أما التنكير فهو إما لتهويل حالها كأنه قيل على قلوب منكرة مبهم أمرها أو إما لأن المراد بها قلوب بعض منهم وهم قلوب المنافقين، أما الاستعارة فهي أنه شبّه قلوبهم بالصناديق واستعار لها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 221 شيئا من لوازمها وهي الأقفال المختصّة بها لاستبعاد فتحها واستمرار انغلاقها فلا تطلع مخبآتها على أحد ولا يطّلع على مخبآتها أحد. الفوائد: يجوز كسر سين عسى في لغة من قال هو عسى بكذا مثل شج من شجى، وليس ذلك الجواز مطلقا سواء أسندته إلى ظاهر أو مضمر بل يتقيد بأن يسند إلى ضمير يسكن معه آخر الفعل كالتاء أو النون أو نا وبهما قرئ في السبع، قرأ نافع بالكسر لمناسبة الياء وقرأ الباقون بالفتح وهو المختار لجريانه على الألسن. [سورة محمد (47) : الآيات 29 الى 33] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) اللغة: (أَضْغانَهُمْ) أحقادهم وفي المصباح: «ضغن صدره ضغنا من باب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 222 تعب حقد والاسم ضغن والجمع أضغان مثل حمل وأحمال وهو ضغن وضاغن» وقال عمرو بن كلثوم: وإن الضغن بعد الضغن يبدو ... عليك ويخرج الداء الدفينا ومن عجيب أمر الضاد والغين أنهما إذا اجتمعتا فاء وعينا للكملة دلّتا على معنى متقارب وهو الشيء الكامن في الخفاء كما تقدم في الضغن ويقال ضغن عليّ فلان واضطغن وأبعد الله كل مضاغن لأخيه مشاحن لمواليه وما زلت به حتى سللت بقية ضغنه وأخليت صدره عمّا كان في ضمنه، وضغبت الأرنب صوّتت إذا أخذت، وضربه بضغث أي بقبضة من قضبان صغار أو حشيش بعضه في بعض ومن مجازه هذه أضغاث أحلام وهي ما التبس وكمن منها، وضغط الشيء عصره وضيّق عليه وأعوذ بالله من ضغطة القبر وهي كامنة لا يعلمها إلا الله، وسمعت ضغيل الحجام وهو صوت مصّه وضغمه ضغمة الأسد وهي العضة بملء الفم وفرسه الضيغم والضياغمة وهو الأسد، وضغا فلان ضغاء تضوّر من ضرب أو أذى وتقول أضغيته إضغاء ثم أغضيت عنه إغضاء وبات صبيانه يتغاضون من الجوع ويتضاغون وهذا من العجب العجاب. (بِسِيماهُمْ) بعلامتهم وفي القاموس «والسومة بالضم والسيمة والسيماء والسيمياء بكسرهنّ: العلامة» . (لَحْنِ الْقَوْلِ) نحوه وأسلوبه وقيل اللحن: إن تلحن بكلامك أي تميله إلى نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبك كالتعريض والتورية قال: ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا ... واللحن يعرفه ذوي الألباب فاللحن العدول بالكلام عن الظاهر والمخطئ لاحن لعدوله عن الصواب أي لكي تفهموا دون غيركم فإن اللحن يعرفه أرباب الألباب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 223 دون غيرهم قال في المصباح: «اللحن بفتحتين الفطنة وهو مصدر من باب تعب والفاعل لحن يتعدى بالهمزة فيقال ألحنته فلحن أي أفطنته ففطن وهو سرعة الفهم وهو ألحن من زيد أي أسبق فهما ولحن في كلامه لحنا من باب نفع أخطأ في العربية قال أبو زيد لحن في كلامه لحنا بسكون الحاء ولحونا إذا أخطأ الإعراب وخالف وجه الصواب ولحنت بلحن فلان لحنا أيضا تكلمت بلغته ولحنت له لحنا قلت قولا فهمه عني وخفي على غيره من القوم وفهمته من لحن كلامه وفحواه ومعاريضه بمعنى، قال الأزهري: لحن القول كالعنوان وهو كالعلامة تشير لها فيفطن المخاطب لغرضك» . والخلاصة أن للحن معنيين صواب وخطأ فالصواب صرف الكلام وإزالته عن التصريح إلى المعنى والتعريض وهذا ممدوح من حيث البلاغة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «فلعلّ بعضكم ألحن بحجته من بعض» وقال الشاعر: منطق صائب وتلحن أحيا ... نا وخير الحديث ما كان لحنا وإليه قصد بقوله «ولتعرفنّهم في لحن القول» وأما اللحن المذموم فظاهر وهو صرف الكلام عن الصواب إلى الخطأ بإزالة الإعراب أو التصحيف، ومعنى الآية: وإنك يا محمد لتعرفنّ المنافقين فيما يعرضون به من القول من تهجين أمرك وأمر المسلمين وتقبيحه والاستهزاء به فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عرفه بقوله ويستدل بفحوى كلامه على فساد باطنه ونفاقه. الإعراب: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ) أم حرف إضراب وعطف وحسب الذين فعل وفاعل وفي قلوبهم خبر مقدّم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 224 ومرض مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صلة الموصول وأن وما في حيزها سدّت مسدّ مفعولي حسب وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويخرج فعل مضارع منصوب بلن والجملة خبر أن والله فاعل وأضغانهم مفعول به (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) الواو عاطفة ولو شرطية ونشاء فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن واللام واقعة في جواب لو وأريناكهم فعل ماض ونا فاعل والكاف مفعول أول والهاء مفعول ثان والرؤية هنا بصرية فلذلك لم تنصب سوى مفعولين والفاء عاطفة واللام عطف على اللام الأولى الواقعة جوابا وكررت للتأكيد وعرفتهم فعل وفاعل ومفعول وجملة لأريناكهم لا محل لها لأنها جواب لو وجملة فلعرفتهم عطف عليها وبسيماهم متعلقان بعرفتهم (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) الواو حرف عطف واللام واقعة مع النون في جواب قسم محذوف وتعرفنّهم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التأكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به وفي لحن القول متعلقان بتعرفنّهم أو بمحذوف حال أي حال كونهم لاحنين والله مبتدأ وجملة يعلم أعمالكم خبر والجملة استئنافية. (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) اللام واقعة جواب قسم محذوف مع النون ونبلونّكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وحتى حرف غاية وجر أو تعليل وجر ونعلم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والمجاهدين مفعول به ومنكم حال والصابرين عطف على المجاهدين ونبلو عطف على نعلم وأخباركم مفعول به (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) إن واسمها وجملة كفروا صلة وجملة صدّوا عن سبيل الله عطف على جملة كفروا وشاقوا الرسول عطف أيضا ومن بعد متعلقان بشاقوا وما مصدرية وهي مع مدخولها في تأويل مصدر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 225 مضاف لبعد ولهم متعلقان بتبين والهدى فاعل ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويضرّوا الله فعل مضارع منصوب بلن والجملة خبر إن وشيئا مفعول مطلق أي شيئا من الضرر، ولك أن تعربه مفعولا به، وسيحبط الواو حرف عطف والسين حرف استقبال ويحبط أعمالهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) تقدم إعراب نظير هذه الآية كثيرا وقد اشتجر الخلاف بين أهل السنّة والاعتزال حول الكبائر وهل تحبط الحسنات فليرجع إليها من شاء في مختلف المظان. [سورة محمد (47) : الآيات 34 الى 38] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38) اللغة: (السَّلْمِ) بفتح السين وكسرها الصلح وقد قرئ بهما. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 226 (يَتِرَكُمْ) ينقصكم من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخ أو حميم من الوتر وهو الانفراد وفي المختار: «ووتره حقه يتره بالكسر وترا بالكسر أيضا نقصه وقوله تعالى: ولن يتركم أعمالكم أي في أعمالكم كقولهم دخلت البيت أي في البيت وأوتره أفذّه ومنه أوتر صلاته، وأوتر فرسه وتّرها توتيرا بمعنى» وفي المصباح: «يقال وترت العدد وترا من باب وعد أفردته وأوترته بالألف مثله ووترت الصلاة وأوترتها جعلتها وترا ووترت زيدا حقّه أثره من باب وعد أيضا نقصته ومنه من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله بنصبها على المفعولية» . (فَيُحْفِكُمْ) يبالغ في طلبها حتى يستأصلها فيجهدكم بذلك فالإحفاء المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء ويقال أحفى شاربه استأصله وفي القاموس: «وحفا شاربه بالغ في أخذه كأحفاه» . الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) إن واسمها وجملة كفروا صلة وصدّوا عطف على كفروا وعن سبيل الله متعلقان بصدّوا (ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) ثم حرف عطف وماتوا فعل وفاعل وجملة فلن يغفر الله لهم خبر إن ودخلت الفاء لما في الموصول من معنى الشرط (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) الفاء الفصيحة أي إذا علمتم وجوب الجهاد فلا تضعفوا ولا تهنوا، ولا ناهية وتهنوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وتدعوا عطف على فلا تهنوا مجزوم مثله وإلى السلم متعلقان بتدعوا والواو للحال وأنتم الأعلون مبتدأ وخبر والجملة حالية (وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) الواو للحال أيضا والله مبتدأ ومعكم ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر والواو عاطفة ولن حرف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 227 نفي ونصب واستقبال ويتركم فعل مضارع منصوب بلن وأعمالكم منصوب بنزع الخافض كما نصّ صاحب المختار ومفهوم كلام صاحب المصباح أنه يجوز أن تكون مفعولا به (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) إنما كافة ومكفوفة والحياة الدنيا مبتدأ ولعب وخبر ولهو عطف على لعب (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) الواو عاطفة وإن شرطية وتؤمنوا فعل الشرط مجزوم بحذف النون والواو فاعل وتتقوا عطف على تؤمنوا ويؤتكم جواب الشرط والكاف مفعول يؤتكم الأول وأجوركم مفعول يؤتكم الثاني والواو حرف عطف ولا نافية ويسألكم عطف على يؤتكم والكاف مفعول يسأل الأول وأموالكم مفعول يسأل الثاني أي لا يأمركم بإخراج جميع أموالكم في الزكاة بل يأمر بإخراج ما فرض عليكم في الزكاة وهو معروف ومبسوط في كتب الفقه (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) إن شرطية ويسألكموها فعل الشرط مجزوم والكاف مفعوله الأول والهاء مفعوله الثاني والميم علامة جمع الذكور والواو للإشباع، فيحفكم عطف على فعل الشرط وتبخلوا جواب الشرط ويخرج عطف على الجواب وأضغانكم مفعول به والفاعل يعود على الله تعالى لأنكم قوم تحبّون الماء ومن نوزع في حبيبه ظهرت كوامنه التي يخفيها (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ها أنتم هؤلاء تقدم القول مشبعا في نظيرها ونعيد بعض ما تقدم فنقول ها للتنبيه وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره وجملة تدعون مستأنفة وأعربه بعضهم ها للتنبيه وأنتم مبتدأ وجملة تدعون خبره وهؤلاء منادى معترض بين المبتدأ والخبر وجنح الزمخشري إلى إعراب هؤلاء اسم موصول بمعنى الذين وهو الخبر وجملة تدعون صلة وتبعه البيضاوي وكررت ها التنبيه للتأكيد قال أبو حيان: «وكون هؤلاء موصولا إذا تقدمها ما الاستفهامية باتفاق أو من الاستفهامية باختلاف» والكوفيون لا يشترطون ذلك فتبع الزمخشري مذهبهم. ولتنفقوا اللام للتعليل وتنفقوا فعل مضارع منصوب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 228 بأن مضمرة بعد لام التعليل والواو فاعل في سبيل الله متعلقان بتنفقوا (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ، وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) الفاء عاطفة للتفريع ومنكم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة يبخل صلة ولا بدّ من تقدير جملة ليتم التفريع أي ومنكم من يجود وإنما حذف هذا المقابل لأن المقام مقام استدلال على البخل والواو عاطفة ومن شرطية مبتدأ ويبخل فعل الشرط والفاء رابطة وإنما كافّة ومكفوفة وجملة فإنما وما بعدها في محل جزم جواب الشرط ويبخل فعل مضارع مرفوع وعن نفسه متعلقان بيبخل لأنه يتعدى بعلى وبعن لتضمينه معنى الإمساك والتعدّي يقال بخلت عليه وعنه وكذلك ضننت عليه وعنه (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) الواو استئنافية والله مبتدأ والغني خبره وأنتم الفقراء عطف على والله الغني (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) الواو عاطفة على الجملة الشرطية السابقة وإن شرطية وتتولوا فعل الشرط والواو فاعل ويستبدل جواب الشرط وقوما مفعول به وغيركم نعت لقوما وثم حرف ولا نافية ويكونوا معطوف على الجواب مجزوم والواو اسم يكون وأمثالكم خبرها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 229 (48) سورة الفتح مدنية وآياتها تسع وعشرون [سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 230 الإعراب: (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) إن واسمها وجملة فتحنا خبرها ولك متعلقان بفتحنا وفتحا مفعول مطلق ومبينا صفة والمراد بالفتح فتح مكة وقيل هو صلح الحديبية والصلح قد يسمى فتحا، وعبر بالماضي مع أن الفتح لم يقع بعد لأن إخبار الله تعالى في تحققها وتيقنها بمنزلة الكائن الموجود وسيأتي مزيد بيان لهذا الإخبار في باب البلاغة (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) اللام للتعليل ويغفر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بفتحنا وسيأتي سر جعل فتح مكة علّة للمغفرة في باب البلاغة، ولك متعلقان بيغفر والله فاعل وما مفعول به وجملة تقدم صلة ومن ذنبك حال وما تأخر عطف على ما تقدم (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) ويتم عطف على ليغفر ونعمته مفعول به وعليك متعلقان بنعمته أو بيتم ويهديك عطف أيضا والكاف مفعول به أول وصراطا مستقيما مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض (وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً) عطف على ما تقدم ونصرا مفعول مطلق وعزيزا نعت وسيأتي سر هذا الإسناد في باب البلاغة (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) هو مبتدأ والذي خبر وجملة أنزل السكينة صلة وفي قلوب المؤمنين متعلقان بأنزل، وليزدادوا: اللام للتعليل ويزدادوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وإيمانا تمييز ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف نعت لإيمانا (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) الواو عاطفة ولله خبر مقدم وجنود السموات والأرض مبتدأ مؤخر وكان الله كان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 231 واسمها وعليما خبرها الأول وحكيما خبرها الثاني (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) اللام للتعليل ويدخل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بمحذوف قدره الجلال أمر بالجهاد ليدخل وعبارة أبي حيان «والذي يظهر أنها تتعلق بمحذوف يدل عليه الكلام وذلك أنه قال: ولله جنود السموات والأرض كان في ذلك دليل على أنه تعالى يبتلي بتلك الجنود من شاء فيقبل الخير من قضى له بالخير والشر من قضى له بالشر ليدخل المؤمنين جنات ويعذب الكفّار فاللام تتعلق بيبتلي هذه وما تعلق بالابتلاء من قبول الإيمان والكفر» والمؤمنين مفعول به ليدخل والمؤمنات عطف على المؤمنين وجنات مفعول به ثان ليدخل على السعة وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة لجنات وخالدين فيها حال (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً) عطف على ما تقدم وسيئاتهم مفعول يكفر وكان واسمها وفوزا عظيما خبر وعند الله ظرف مكان متعلق بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لفوزا وتقدم عليه (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) عطف أيضا والظانّين نعت للمنافقين والمشركين وبالله متعلقان بالظانّين وظن السوء مفعول مطلق والسوء بفتح السين ومعناه الذم وبضمها معناه العذاب والهزيمة والشر وقيل هما لغتان غير أن المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمّه والمضموم جرى مجرى الشر وكلاهما في الأصل مصدر والإضافة ليست من قبيل إضافة الموصوف إلى صفته فإنها غير جائزة عند البصريين لأن الصفة والموصوف عبارة عن شيء واحد فإضافة أحدهما إلى الآخر إضافة الشيء إلى نفسه بل السوء صفة لموصوف محذوف أي ظن الأمر السوء فحذف المضاف إليه وأقيمت صفة مقامه. وعليهم خبر مقدم ودائرة السوء مبتدأ مؤخر والجملة دعائية لا محل لها والدائرة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 232 في الأصل عبارة عن الخطر المحيط بالمركز ثم استعملت في الحادثة المحيطة بمن وقعت عليه إلا أن الغالب في استعمالها للمكروه وإضافة الدائرة إلى السوء من إضافة العام إلى الخاص فهي للبيان كخاتم فضة والمراد الإحاطة والشمول بحيث لا يتخطاهم السوء ولا يتجاوزهم (وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) الواو حرف عطف وغضب الله فعل وفاعل وعليهم متعلقان بغضب ولعنهم عطف أيضا وأعدّ لهم جهنم عطف أيضا وساءت مصيرا عطف أيضا ومصيرا تمييز (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) الواو استئنافية ولله خبر مقدّم وجنود السموات والأرض مبتدأ مؤخر وكان الله عزيزا حكيما تقدم إعرابها قريبا وسيأتي سرّ التكرير في باب البلاغة (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) إن واسمها وجملة أرسلناك خبرها وشاهدا حال ومبشرا ونذيرا عطف على شاهدا (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) اللام للتعليل وتؤمنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بأرسلناك لأنه علّة الإرسال وبالله متعلقان بتؤمنوا ورسوله عطف على الله وتعزروه وما بعده عطف على لتؤمنوا والتعزير النصر والتوقير الاحترام والتعظيم وقرئت كلها بالياء والضمير للناس وبكرة وأصيلا ظرفان لتسبّحوه أي بالغداة والعشي، وعن ابن عباس رضي الله عنهما صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر. البلاغة: في هذه الآيات أفانين رفيعة من علوم البلاغة فأولها: 1- التعبير بالماضي: في قوله إنّا فتحنا، فقد جاء الإخبار بالفتح على لفظ الماضي لأنها نزلت حين رجع عليه الصلاة والسلام من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 233 الحديبية قبل عام الفتح والسرّ في ذلك أن أخبار الله تعالى لما كانت محققة نزلت منزلة الكائنة الموجودة وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر وصدقه ما لا يخفى على من له مسكة من عقل. 2- التعليل: وجعل تعالى فتح مكة علة للمغفرة لأن الفتح من حيث كونه جهادا وعبادة سبب للغفران وقيل السرّ فيه اجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي المغفرة وإتمام النعمة والهداية والنصر العزيز كأنه قيل يسّرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك لتجمع لك عزّ الدارين وأغراض العاجلة والآجلة. 3- الإسناد المجازي: وذلك في قوله تعالى «وينصرك الله نصرا عزيزا» فقد أسند العزّ والمنعة إلى النصر وهو للمنصور فإن صيغة فعيل هنا للنسبة فالعزيز بمعنى ذي العزة. 4- التكرير: فقد قال تعالى أولا «وكان الله عليما حكيما» وقال ثانيا «وكان الله عزيزا حكيما» لأنه ذكر قبل الآية الأولى «ولله جنود السموات والأرض» ولما كان فيهم من هو أهل للرحمة ومن هو أهل للعذاب ناسب أن يكون خاتمة الأولى «وكان الله عليما حكيما» ولما بالغ تعالى في تعذيب المنافق والكافر وشدّته ناسب أن يكون خاتمة الثانية «وكان الله عزيزا حكيما» فالأولى دلّت على أنه المدبّر لأمر المخلوقات بمقتضى حكمته والثانية دلّت على التهديد والوعيد وأنهم في قبضة المنتقم وقد حاول بعضهم أن ينفي التكرير ولا داعي لذلك لأن للتكرير أسرارا مرّ بعضها وسيأتي منها ما هو أوغل في الإعجاب وأدعى إلى التأمل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 234 [سورة الفتح (48) : الآيات 10 الى 12] إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِن َ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) اللغة: (يُبايِعُونَكَ) يعاهدونك، سمّيت المعاهدة بالمبايعة التي هي مبادلة المال بالمال تشبيها لها بالمبايعة في اشتمال كل واحدة منهما على معنى المبادلة لأن المعاهدة أيضا مشتملة على المبادلة بين التزام الثبات في محاربة الكافرين وبين ضمانه عليه السلام لمرضاة الله عنهم وإثابته إياهم بجنّات النعيم في مقابلة محاربة الكافرين وسيأتي مزيد من التفصيل في باب البلاغة. (بُوراً) البور الهلاك وهو يحتمل أن يكون مصدرا أخبر به عن الجمع ويجوز أن يكون جمع بائر كحائل وحول وبازل وبزل والأول أرجح ويوصف به المفرد المذكر والمفردة المؤنثة والمثنى والجمع منهما قال ابن الزبعرى: يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور الجزء: 9 ¦ الصفحة: 235 والبور من الأرض ما لم يزرع. الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ) كلام مستأنف مسوق لبيان أن من بايع الرسول عليه الصلاة والسلام صورة فقد بايع الله حقيقة. وإن واسمها وجملة يبايعونك صلة الموصول وإنما كافّة ومكفوفة وجملة إنما يبعايعون الله خبران والمراد بهذه البيعة بيعة الرضوان في الحديبية (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) يد الله مبتدأ وفوق أيديهم ظرف متعلق بمحذوف خبر يد الله والجملة خبر ثان لإن ويجوز أن تكون حالية من ضمير الفاعل في يبايعونك ويجوز أن تكون مستأنفة أيضا، فمن: الفاء استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ونكث فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة وإنما كافّة ومكفوفة وينكث فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره هو وعلى نفسه متعلقان بينكث والجملة في محل جزم جواب الشرط (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) الواو حرف عطف ومن اسم شرط جازم مبتدأ وأوفى فعل الشرط وهو بمعنى وفي يقال وفى بالعهد وأوفى به وهي لغة تهامة وبما متعلقان بأوفى وجملة عاهد صلة وعليه متعلقان بعاهد وضمّت الهاء مع أنها تكسر بعد الهاء لمجيء سكون بعدها فيجوز الضم والكسر ولفظ الجلالة مفعول به والفاء رابطة لجواب الشرط ويؤتيه فعل وفاعل مستتر ومفعول به وأجرا مفعول به ثان وعظيما نعت (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا) السين حرف استقبال ويقول فعل مضارع مرفوع ولك متعلقان بيقول والمخلفون فاعل ومن الأعراب حال وجملة شغلتنا أموالنا مقول القول وأهلونا عطف على أموالنا وعلامة رفعه الواو لأنه ملحق بجمع المذكر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 236 السالم أي عن الخروج معك، فاستغفر الفاء عاطفة واستغفر فعل أمر ولنا متعلقان باستغفر ومفعول استغفر محذوف أي الله (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) الجملة مقول قوله تعالى ويقولون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وبألسنتهم متعلقان بيقولون وما مفعول به وليس فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هو وفي قلوبهم خبر والجملة صلة ما (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) قل فعل أمر والفاء عاطفة ومن اسم استفهام معناه النفي في محل رفع مبتدأ ويملك فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو والجملة خبر من والجملة مقول قل ولكم متعلقان بيملك ومن الله حال وشيئا مفعول يملك وإن حرف شرط وأراد فعل الشرط والجواب محذوف دلّ عليه ما قبله أي فمن يملك وبكم متعلقان بأراد وخيرا مفعول أراد وجملة أو أراد بكم نفعا عطف على الجملة السابقة (بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) بل حرف إضراب انتقالي من موضوع إلى آخر وكان واسمها وبما متعلقان بخبيرا وجملة تعملون صلة وخبيرا خبر كان (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) بل حرف إضراب انتقالي أيضا، أضرب عن بيان بطلان اعتذارهم إلى بيان الحامل لهم على التخلّف، وظننتم فعل وفاعل وأن وما في حيزها سدّت مسدّ مفعولي ظننتم وأن مخفّفة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولن حرف نفي ونصب واستقبال وينقلب فعل مضارع منصوب بلن والرسول فاعل والمؤمنون عطف على الرسول وإلى أهليهم متعلقان بينقلب وأبدا ظرف متعلق بينقلب أيضا (وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) وزين فعل ماض مبني للمجهول وذلك نائب فاعل وفي قلوبكم متعلقان بزين وظننتم عطف على وزين وظن السوء مفعول مطلق وكان واسمها وقوما خبرها وبورا نعت قوما. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 237 البلاغة: 1- في قوله «إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله» استعارة تصريحية تبعية في الفعل كما تقدم، أطلق اسم المبايعة على هذه المعاهدة وتجد تفاصيلها في كتب التاريخ. 2- وفي قوله «يد الله فوق أيديهم» استعارة مكنية، شبّه تعالى نفسه بالمبايع وأثبت له ما هو من لوازم المبايع حقيقة وهو اليد على طريق الاستعارة المكنية الأصلية، وفي إثبات اليد لله تعالى والله منزّه عن الجوارح عن صفات الأجسام لتأكيد معنى المشاكلة. 3- وفي قوله «فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرّا أو أراد بكم نفعا» فن اللف، وكان الأصل: فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرّا ومن يحرمكم النفع إن أراد بكم نفعا لأن مثل هذا النظم يستعمل في الضرّ وقد ورد في الكتاب العزيز مطّردا كذلك قال: «فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم» وقوله «ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا» ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في بعض الحديث «إنني لا أملك شيئا» يخاطب عشيرته وسرّ اختصاصه بدفع المضرّة أن الملك مضاف في هذه المواضع باللام ودفع المضرّة نفع يضاف للمدفوع عنه وليس كذلك حرمان المنفعة فإنه ضرر عائد عليه لا له، فإذا ظهر ذلك فإنما انتظمت الآية على هذا الوجه لأن القسمين يشتركان في أن كل واحد منهما نفي لدفع المقدّر من خير وشر فلما تقاربا أدرجهما في عبارة واحدة وخصّ عبارة دفع الضرّ لأنه هو المتوقع لهؤلاء إذ الآية في سياق التهديد أو الوعيد الشديد وهي نظير قوله: «قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة» فإن العصمة إنما تكون من السوء لا من الرحمة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 238 الفوائد: الأهلون: جمع أهل ويقال أهلات على تقدير تاء التأنيث كأرض وأرضات، والذي حسن جمع أهل هذا الجمع كونه يرد بمعنى الوصف كقولهم الحمد لله أهل الحمد وكونه في الواقع للعقلاء. [سورة الفتح (48) : الآيات 13 الى 16] وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) الإعراب: (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) الواو عاطفة لتقرير بوارهم وبيان كيفيته، ومن اسم شرط جازم أو موصولة في محل رفع مبتدأ ولم حرف نفي وقلب وجزم ويؤمن فعل مضارع مجزوم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 239 بلم وبالله متعلقان بيؤمن ورسوله عطف على الله وجواب الشرط محذوف أي فإنه كافر والفاء عاطفة على الجواب وإن واسمها وجملة أعتدنا خبر إن وللكافرين متعلقان بأعتدنا وسعيرا مفعول به وجملة الشرط والجواب خبر من إن كانت شرطية وجملة فإنّا أعتدنا هي الخبر إن كانت موصولة ودخلت الفاء لما في الموصول من معنى الشرط (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) الواو عاطفة ولله خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأ مؤخر وجملة يغفر حالية، ولمن متعلقان بيغفر وجملة يشاء صلة ويعذب من يشاء عطف على جملة الصلة وكان واسمها وخبراها (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) السين حرف استقبال ويقول المخلفون فعل مضارع وفاعل وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بيقول أي سيقولون وقت انطلاقكم وجملة انطلقتم في محل جر بإضافة الظرف إليها وإلى مغانم متعلقان بانطلقتم وجملة ذرونا مقول قولهم أي دعونا وقد تقدم أن العرب ماتوا ماضيه ومصدره واسم فاعله، ونتبعكم فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ) جملة يريدون حالية من الفاعل وهو المخلفون ولك أن تجعلها مستأنفة وجعلها أبو البقاء حالا من ضمير المفعول به في ذرونا وفيه تكلّف وبعد، وأن وما بعدها مفعول يريدون وكلام الله مفعول يبدلوا وفي قراءة كلم الله جمع كلمة (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتتبعونا فعل مضارع منصوب بلن وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل ونا مفعول به والجملة مقول القول وكذلكم نعت لمصدر محذوف أي قولا مثل هذا القول الصادر عنّي وهو لن تتبعونا (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا) الفاء عاطفة والسين حرف استقبال ويقولون فعل مضارع مرفوع وبل حرف إضراب أو عطف والإضراب عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 240 أن يكون حكم الله أن لا يتبعوهم وإثبات ما هو شر من ذلك وهو الحسد، وتحسدوننا عطف على سيقولون وهو فعل مضارع مرفوع وفاعل ومفعول به وبل إضراب ثان عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى ما أطمّ منه وهو الجهل وقلة الفقه، وسيأتي مزيد منه في باب البلاغة، وكان واسمها وجملة لا يفقهون خبرها وإلا أداة حصر وقليلا نعت لمصدر محذوف أي إلا فهما قليلا فلا معنى لقول الجلال «إلا قليلا منهم» لأنهم جميعا مشتركون في الوصف بالغباء والبلادة (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وللمخلفين متعلقان بقل ومن الأعراب حال وجملة ستدعون مقول القول، وسيأتي سرّ التكرير، وإلى قوم متعلقان بتدعون وأولي بأس شديد نعت لقوم وجملة تقاتلونهم نعت ثان أو حال ولك أن تجعلها مستأنفة وأو حرف عطف ويسلمون عطف على تقاتلونهم ولك أن ترفع الفعل المضارع على الاستئناف والتقدير أو هم يسلمون أي ينقادون. (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً) الفاء عاطفة وإن شرطية وتطيعوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل ويؤتكم جواب الشرط والكاف مفعول به أول والله فاعل وأجرا مفعول به ثان وحسنا نعت لأجرا (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) الواو عاطفة وإن شرطية وتتولوا فعل الشرط وكما نعت لمصدر محذوف وما مصدرية وقد تقدم هذا الإعراب كثيرا وإن جنح سيبويه إلى إعراب الكاف في مثل هذا التركيب حالا، ومن قبل متعلقان بتوليتم وبنى قبل على الضم لانقطاعه عن الإضافة لفظا لا معنى ويعذبكم جواب الشرط والكاف مفعوله وعذابا مفعول مطلق وأليما نعت لعذابا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 241 البلاغة: 1- المبالغة: في قوله تعالى «فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا» فالإضراب الأول معروف وهو ديدنهم ودليل لجاجهم وتماديهم في التعنّت والإصرار على السفه، أما الإضراب الثاني فهو الذي تتجسد فيه بلادتهم وغباؤهم لأن الإضراب الأول فيه نسبة إلى جهل في شيء مخصوص وهو نسبتهم الحسد إلى المؤمنين والثاني فيه نسبة إلى جهل عام على الإطلاق. 2- التكرير: وكرر ذكر القبائل الذين تخلفوا بهذا الاسم مبالغة في الذم وإظهارا لبشاعة التخلف كأن الذم يتوالى عليهم كلما تكرر ذكرهم به ووسمهم بميسمه، واختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين دعوا إلى محاربتهم والموصوفين بالبأس الشديد، فقيل هم هوازن ومن حارب الرسول في حنين، وقيل هم الروم الذين خرج إليهم عام تبوك، وقيل هم أهل الردّة الذين حاربهم أبو بكر. والتفاصيل يرجع إليها في مظانها. [سورة الفتح (48) : الآيات 17 الى 21] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 242 الإعراب: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) كلام مستأنف مسوق لبيان حكم الزمنى وذوي العاهات بالنسبة للجهاد ونفي الحرج عنهم في التخلّف عنه. وليس فعل ماض ناقص وعلى الأعرج خبر ليس المقدم وحرج اسمها المؤخر وما بعده عطف عليه وقد روعي في الترتيب أي هؤلاء أولى برفع الحرج عنه فقدّم الأعمى لأن عذره واضح مستمر والانتفاع منه معدوم البتة وقدّم الأعرج على المريض لأن عاهة العرج قد يمكن الانتفاع منها في حالات معينة كالحراسة ونحوها أما المريض فإن إمكان زوال المرض عنه متوقع في كل وقت (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) الواو حرف عطف ومن شرطية في محل رفع مبتدأ ويطع الله ورسوله فعل الشرط ويدخله جوابه وجنات مفعول به ثان على السعة وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة لجنات (وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) عطف على ما تقدم (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) كلام مستأنف لتقرير الرضا عن المبايعين ولذلك سمّيت بيعة الرضوان وتفاصيلها في كتب السير والتاريخ، واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق ورضي الله فعل وفاعل وعن المؤمنين متعلقان برضي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 243 وإذ ظرف ماض متعلق برضي وجملة يبايعونك مضاف إليها الظرف، وكان مقتضى المقام أن يأتي بالماضي ولكنه عدل عنه لسر يأتي في باب البلاغة، وتحت الشجرة ظرف متعلق بيبايعونك (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) الفاء عاطفة وعلم فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى والجملة معطوفة على يبايعونك لما تقدم من أنه بمعنى الماضي وما موصول مفعول به وفي قلوبهم متعلقان بمحذوف صلة ما، فأنزل عطف على فعلم والسكينة مفعول به وأثابهم عطف أيضا والهاء مفعول به أول وفتحا مفعول به ثان وقريبا نعت (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) الواو حرف عطف ومغانم عطف على فتحا قريبا وجملة يأخذونها صفة لمغانم وكان واسمها وخبرها (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) كلام مستأنف على طريق الالتفات ووعدكم الله فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ومغانم مفعول به ثان وكثيرة صفة وجملة تأخذونها صفة ثانية (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) الفاء عاطفة وعجّل فعل ماض والفاعل مستتر يعود على الله ولكم متعلقان بعجل وهذه مفعول به وكفّ أيدي الناس عنكم عطف على ما سبق (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) الواو عاطفة على مقدّر أي لتشكروه وهي مقحمة عند الكوفيين واسم تكون ضمير مستتر تقديره هي وآية خبرها وللمؤمنين نعت لآية ويهديكم عطف على ولتكون والكاف مفعول به أول وصراطا مستقيما مفعول به ثان (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) وأخرى الواو حرف عطف وأخرى معطوفة على هذه أي فعجّل لكم هذه المغانم ومغانم أخرى وأجازوا أن تكون أخرى مبتدأ وجملة لم تقدروا عليها صفتها وجملة قد أحاط الله بها خبرها وقال الزمخشري: «ويجوز في أخرى النصب بفعل مضمر يفسره قد أحاط الله بها تقديره وقضى الله أخرى قد أحاط بها» وأجازوا أيضا أن تكون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 244 مجرورة بربّ مقدرة وتكون الواو واو ربّ وفي المجرور بعد واو ربّ خلاف مشهور أهو بربّ مقدرة أو بنفس الواو، وقال أبو حيان في معرض ردّه على هذا الإعراب: «وهذا فيه غرابة لأن رب لم تأت في القرآن جارّة مع كثرة ورود ذلك في كلام العرب فكيف يؤتى بها مضمرة» واقتصر القرطبي على الوجه الأول وعبارة أبي البقاء: «وأخرى أي ووعدكم أخرى أو أثابكم أخرى ويجوز أن تكون مبتدأ ولم تقدروا صفة وقد أحاط الخبر» وكان واسمها وخبرها وعلى كل شيء متعلقان بقديرا. البلاغة: في قوله «إذ يبايعونك» عدول عن المضارع إلى الماضي والسرّ فيه استحضار صورة المبايعة لأنها جديرة بالتجسيد لتكون عبرة الأجداد للأحفاد، وخلاصة قصتها أن النبي صلى الله عليه وسلم حين نزل الحديبية بعث خراش بن أمية الخزاعي لما رأى إخفاق سفراء قريش في مساعيهم وضياع نصائحهم إلى قومهم رسولا إلى مكة فانبعث أشقى قريش وقتئذ عكرمة بن أبي جهل فعقر ناقة السفير وهمّ بقتله لولا أن تداركه بعضهم فأنقذوه وردّوه إلى قومه فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم دعا بعمر رضي الله عنه ليبعثه فقال: إني أخافهم على نفسي لما عرف من عذوتي إياهم ولكني أدلك على رجل هو أعزّ بها منّي وأحبّ إليهم عثمان بن عفان فبعثه وزوده بكتاب من لدنه يشرح فيه الغرض من مجيئه وأوصاه أن يزور مسلمي مكة المستضعفين معزيا ومصبّرا حتى يأتي نصر الله والفتح، لم تثن سفارة عثمان رضي الله عنه من عزم قريش فأصرّت على عنادها مقررة منع الرسول وأصحابه من الطواف مهما كانت النتيجة، وغاية ما سمحت به أنها أذنت لعثمان وحده أن يطوف بالبيت فأبى عثمان إلا أن يكون في صحبته رسول الله صلى الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 245 عليه وسلم فغاظ هذا القول قريشا وهاج حفيظتها فأمرت بسجن عثمان ثلاثة أيام حتى تنظر في أمره فتناقل الناس الخبر مكبّرا حتى وصل معسكر الرسول أن عثمان قد قتل، هنا قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا قائلا: ان كان حقا ما سمعنا فلن نبرح حتى نناجز القوم، البيعة البيعة أيّها الناس، فتوافد الناس يبايعون رسول الله تحت الشجرة وكانت سمرة وكان أول من بايعه سنان الأسدي فقال له وهو يبايعه: أبايعك على ما في نفسي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وما في نفسك؟ قال سنان: أضرب بسيفي بين يديك حتى يظهرك الله أو اقتل وبايعه الناس على ما بايعه سنان وكان عدد المبايعين ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين إلى آخر تلك القصة الممتعة التي يرجع إليها من شاء في كتب السير. الفوائد: روى ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر بلغه أن قوما يأتون الشجرة يصلّون عندها فتوعدهم ثم أمر بقطعها فقطعت والحكمة في ذلك أن لا يحصل الافتتان بها. [سورة الفتح (48) : الآيات 22 الى 26] وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 246 اللغة: (الْهَدْيَ) تقدم تفسيره وفيه ثلاث لغات حكاها ابن خالويه: الهدي وهي الشهيرة، والهدي بتشديد الياء، والهداء وهو ما يهدى إلى الكعبة. (مَعْكُوفاً) محبوسا يقال عكفت الرجل عن حاجته إذا حبسته عنها، وأنكر الفارسي تعدية عكف بنفسه وهو محجوج كما يقول الأزهري وابن سيده ببناء اسم المفعول منه. (مَعَرَّةٌ) مفعلة من عره بمعنى عراه إذا داهاه ما يكره وفي القاموس واللسان: المعرة المساءة والإثم والأذى والجناية والعيب والأمر القبيح والشدّة والمسبة وتلوّن الوجه غضبا وكوكب دون المجرة وبلد معروف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 247 الإعراب: (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) الواو استئنافية ولو شرطية وقاتلكم فعل ومفعول به مقدّم والذين فاعل وجملة كفروا صلة، ولولّوا اللام واقعة في جواب لو وولّوا فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب لو والأدبار مفعول به وثم حرف عطف ولا نافية ويجدون فعل مضارع مرفوع وفاعل ووليّا مفعول به ولا نصيرا عطف عليه (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) سنّة مفعول مطلق لأنه مصدر مؤكد أي سنّ الله غلبة أنبيائه سنّة، والتي صفة لسنّة الله وجملة قد خلت صلة التي ومن قبل متعلقان بخلت والواو عاطفة ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتجد فعل مضارع منصوب بلن ولسنّة الله متعلقان بتجد وتبديلا مفعول به (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) كلام مستأنف وهو مبتدأ والذي خبره وجملة كفّ صلة وأيديهم مفعول به وعنكم متعلقان بكفّ وأيديكم عنهم عطف على أيديهم عنكم وببطن مكة بيان للموقع وهو الحديبية فهو متعلق بمحذوف حال أي كائنين ببطن مكة والحديبية ملاصقة للحرم ومن بعد متعلقان بكف أيضا وأن وما في حيزها في محل جر بالإضافة إلى الظرف وعليهم متعلقان بأظفركم (وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) كان واسمها وبصيرا خبرها وبما تعملون متعلقان ببصيرا (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) كلام مستأنف لبيان الذين صدّوا النبي صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام، وهم مبتدأ والذين خبره وجملة كفروا صلة وصدّوكم عطف على الصلة وعن المسجد متعلقان بصدّوكم والحرام نعت والهدي عطف على الضمير المنصوب في صدّوكم وهو الكاف ويجوز أن تكون مفعولا معه والواو للمعية ومعكوفا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 248 حال، وأن يبلغ أن وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي عن أن يبلغ أو من أن يبلغ وحينئذ يجوز في هذا الجار المقدّر أن يتعلق بصدّوكم وأن يتعلق بمعكوفا أي محبوسا عن بلوغ محله ويجوز أن يكون المصدر المؤول في موضع نصب على أنه مفعول من أجله لأنه علة الصدّ والتقدير صدّوا الهدي كراهة أن يبلغ محله أو هو علة لمعكوفا أي لأجل أن يبلغ محله، وأعربه بعضهم بدل اشتمال من الهدي أي مسددا بلوغ الهدي محله (وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ) الواو عاطفة ولولا حرف امتناع لوجود ورجال مبتدأ خبره محذوف تقديره موجودون بمكة ومؤمنون نعت رجال ونساء مؤمنات عطف على رجال مؤمنون وجملة لم تعلموهم صفة للرجال والنساء جميعا وأن وما في حيزها في تأويل مصدر بدل اشتمال منهم أو من الضمير المنصوب في تعلموهم (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) الفاء سببية وتصيبكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية والكاف مفعول به ومنهم متعلقان بتصيبكم ومعرّة فاعل تصيبكم وبغير علم متعلقان بمحذوف حال من الكاف أو بمحذوف صفة لمعرّة وسيأتي الكلام في جواب لولا (لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) اللام للتعليل ويدخل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بمقدر أي كان انتفاء التسليط على أهل مكة وانتفاء العذاب ليدخل الله فهو علّة لما دلّ عليه كفّ الأيدي المفهوم من السياق عن أهل مكة صونا لمن فيها من المؤمنين وفي رحمته متعلقان بيدخل ومن يشاء مفعول به وجملة يشاء صلة ولو شرطية وتزيلوا فعل ماض وفاعل أي لو تميز بعضهم من بعض واللام رابطة وجملة عذبنا لا محل لها لأنها جواب لو وقد دلّ على جواب لولا وسيأتي مزيد من هذا البحث في باب البلاغة وعذبنا فعل وفاعل والذين كفروا مفعول به ومنهم حال وعذابا مفعول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 249 مطلق وأليما صفة (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بعذبنا أو بصدّوهم عن المسجد الحرام ولك أن تنصبه بإضمار اذكر وجملة جعل في محل جر بإضافة الظرف إليها والذين فاعل وجملة كفروا صلة وفي قلوبهم متعلقان بجعل إذا كانت بمعنى ألقى أو بمحذوف مفعول به ثان لجعل إن كانت بمعنى صيّر والحمية مفعول به أول وحمية الجاهلية بدل والحمية الأنفة يقال حميت عن كذا حمية إذا أنفت عنه وداخلك عار وأنفة لفعله، قال المتلمس: ألا إنني منهم وعرضي عرضهم ... كذا الرأس يحمي أنفه أن يهشما (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) الفاء عاطفة على مقدّر لا بدّ منه يفهم من السياق أي فهمّ المسلمون أن يخالفوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح ودخلوا من ذلك في أمر موبق أو يساور قلوبهم الشك فأنزل. والله فاعله وسكينته مفعول به وعلى رسوله متعلقان بأنزل وعلى المؤمنين عطف على ما تقدم وألزمهم عطف أيضا والهاء مفعول أول وكلمة التقوى مفعول به ثان وسيأتي المراد بها في باب الفوائد وكانوا عطف على ما تقدم وأحقّ خبر كانوا وبها متعلقان بأحق وأهلها عطف على أحق عطف تفسير (وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) كان واسمها وبكل شيء متعلقان بعليما وعليما خبرها. البلاغة: في هذه الآية لطائف معنوية وهو أنه تعالى أبان غاية البون بين الكافر والمؤمن، باين بين الفاعلين إذ فاعل جعل هو الكفار وفاعل أنزل هو الله تعالى، وبين المفعولين إذ تلك حمية وهذه سكينة، وبين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 250 الإضافتين أضاف الحمية إلى الجاهلية وأضاف السكينة إلى الله تعالى، وبين الفعل جعل وأنزل فالحمية مجعولة في الحال في العرض الذي لا يبقى والسكينة كالمحفوظة في خزانة الرحمة فأنزلها والحمية قبيحة مذمومة في نفسها وازدادت قبحا بالإضافة إلى الجاهلية والسكينة حسنة في نفسها وازدادت حسنا بإضافتها إلى الله تعالى والعطف في فأنزل بالفاء لا بالواو يدل على المقابلة تقول أكرمني زيد فأكرمته فدلّت على المجازاة للمقابلة ولذلك جعل فأنزل، ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أجاب أولا إلى الصلح وكان المؤمنون عازمين على القتال لا يرجعوا إلى أهلهم إلا بعد فتح مكة أو النحر في المنحر وأبوا إلا أن يكتبوا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وباسم الله قال تعالى «على رسوله» ولما سكن هو صلى الله عليه وسلم للصلح سكن المؤمنون فقال «وعلى المؤمنين» ولما كان المؤمنون عند الله تعالى ألزموا تلك الكلمة قال تعالى «إن أكرمكم عند الله أتقاكم» . [سورة الفتح (48) : الآيات 27 الى 29] لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 251 اللغة: (شَطْأَهُ) بسكون الطاء وفتحها وهما قراءتان سبعيتان وفي المختار «شطء الزرع والنبات فراخه وقال الأخفش طرفه وأشطأ الزرع خرج شطؤه» وفي القاموس: الشطء فراخ النخل والزرع أو ورقه وشطأ كمنع شطئا وشطوءا أخرجها ومن الشجرة ما خرج حول أصله والجمع أشطاء وأشطأ أخرجها والرجل بلغ ولده فصار مثله. الإعراب: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ) اللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وصدق الله فعل وفاعل ورسوله مفعول به والرؤيا منصوب بنزع الخافض أي في رؤياه وقيل كذب يتعدى إلى مفعولين يقال كذبني الحديث وكذا صدق كما في الآية لكنه غريب لأنه لم يعهد تعدّي المخفف إلى مفعولين والمشدد إلى واحد وعبارة أبي حيان «وصدق يتعدى إلى اثنين الثاني بنفسه وبحرف الجر تقول صدقت زيدا الحديث وصدقته في الحديث» وهذا ما جرى عليه في القاموس وعبارة الزمخشري «صدقه في رؤياه ولم يكذبه تعالى الله عن الكذب وعن كل قبيح علوّا كبيرا فحذف الجار وأوصل الفعل كقوله تعالى: صدقوا ما عاهدوا الله عليه» وبالحق متعلق بصدق أو حال من الرؤيا (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 252 الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) اللام جواب لقسم محذوف وتدخلن فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال لأنه من الأفعال الخمسة والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والنون نون التوكيد الثقيلة والمسجد مفعول به على السعة والحرام صفة وإن شرطية وشاء الله فعل الشرط والجواب محذوف لدلالة ما قبله، وفي تعليق بالوعد بالمشيئة مع أنه تعالى خالق للأشياء كلها وعالم بها قبل وقوعها أقوال نلخصها فيما يلي: 1- أنه حكاية قول الملك للرسول صلى الله عليه وسلم، قاله ابن كيسان. 2- هذا التعليق تأدب بآداب الله تعالى وإن كان الموعود به محقق الوقوع حيث قال تعالى «ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله» . 3- وقال ثعلب استثنى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون. 4- وزعم الكوفيون أن إن هنا بمعنى إذ التي تذكر لتعليل ما قبلها، قالوا وليست شرطية لأن الشرط مستقبل وهذه القصة قد مضت، وأصح ما يقال ما أورده الزمخشري ونصه: «فإن قلت ما وجه دخول إن شاء الله في إخبار الله عزّ وجلّ قلت فيه وجوه: أن يعلق عدّته بالمشيئة تعليما لعباده أن يقولوا في عداتهم مثل ذلك متأدبين بأدب الله ومقتدين بسنّته» وآمنين حال من الواو المحذوفة من لتدخلن لالتقاء الساكنين أي حال مقارنة للدخول والشرط معترض والمعنى آمنين في حال الدخول ومحلقين حال ثانية متداخلة ورؤوسكم مفعول به ولا نافية وتخافون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والجملة مستأنفة أو حالية من فاعل لتدخلن أو من الضمير في آمنين أو في محلقين (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) الفاء عاطفة على جملة صدق الله وعلم فعل ماض وفاعل مستتر تقديره هو وما مفعول به وجملة لم تعلموه صلة ما، فجعل: الفاء عاطفة ومن دون ذلك متعلقان بجعل وفتحا مفعول به وقريبا نعت (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 253 الدِّينِ كُلِّهِ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة أرسل رسوله صلة الموصول وبالهدى متعلقان بمحذوف حال من المفعول به أي ملتبسا بالهدى ودين الحق عطف على الهدى واللام للتعليل ويظهره فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بأرسل أي ليعليه على الدين كله، وكله تأكيد للدين وأل في الدين للجنس يريد الأديان المختلفة (وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً) كفى فعل ماض والباء حرف جر زائد ولفظ الجلالة مجرور لفظا فاعل كفى محلا وشهيدا تمييز (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) محمد مبتدأ ورسول الله خبره والذين مبتدأ ومعه ظرف متعلق بمحذوف هو الصلة وأشداء خبر وعلى الكفار متعلقان بأشداء ورحماء خبر ثان وبينهم ظرف متعلق برحماء جمع رحيم (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً) الجملة خبر ثالث ولك أن تجعلها مستأنفة وتراهم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به وركّعا سجّدا حالان وجملة يبتغون مستأنفة كأنها جواب لسؤال نشأ عن مواظبتهم على الركوع والسجود كأنه قيل ماذا يريدون بذلك فقيل يبتغون أو حال ثالثة وفضلا مفعول به ومن الله متعلقان بيبتغون ورضوانا عطف على فضلا (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) سيماهم مبتدأ وفيها ثلاث لغات السيما والسيماء والسيمياء وهي العلامة وفي وجوههم خبر ومن أثر السجود حال (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) ذلك مبتدأ والإشارة إلى الوصف الآنف وهو كونهم أشدّاء رحماء وسيماهم في وجوههم، ومثلهم خبره وفي التوراة حال (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) ومثلهم مبتدأ وفي الإنجيل حال وكزرع خبر مثلهم وجملة أخرج شطأه صفة لزرع وهناك أعاريب أخرى ستأتي الإشارة إليها في باب الفوائد، فآزره عطف على أخرج وكذلك فاستغلط وقوله فاستوى وعلى سوقه متعلقان باستوى أو بمحذوف حال أي كائنا على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 254 سوقه قائما عليها والسوق جمع ساق (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) الجملة حالية أي حال كونه معجبا والزراع مفعول يعجب، وليغيظ: اللام للتعليل والفعل المضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بفعل دلّ عليه السياق أي شبّهوا بذلك فالتعليل للتشبيه، قال الزمخشري: «فإن قلت قوله ليغيظ بهم الكفار تعليل لماذا؟ قلت لما دلّ عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوة ويجوز أن يعلل به وعد الله الذين آمنوا» فهو متعلق بوعد (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) وعد فعل ماض والله فاعل والذين مفعوله وجملة آمنوا صلة وجملة وعملوا الصالحات عطف على الصلة ومنهم حال ومغفرة مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض يقال: وعده الأمر وبه، وأجرا عطف على مغفرة وعظيما نعت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 255 (49) سورة الحجرات مدنية وآياتها ثمانى عشرة [سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) اللغة: (تَحْبَطَ) في المختار: «حبط عمله بطل ثوابه وبابه فهم وحبوطا أيضا» . وقال الزمخشري: «والحبوط من حبطت الإبل إذا أكلت الخضر فنفخ بطونها وربما هلكت ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حبطا» وفي القاموس: «الحبط محركة آثار الجرح الجزء: 9 ¦ الصفحة: 256 أو السياط بالبدن بعد البرء أو الآثار الوارمة التي لم تشقّق فإن تقطعت ودميت فعلوب ووجع ببطن البعير من كلأ يستوبله أو من كلأ يكثر منه فينتفخ منه» إلى أن يقول: «وحبط عمله كسمع وضرب حبطا وحبوطا بطل ودم القتل هدرا» . (امْتَحَنَ) في القاموس «محنه كمنعه اختبره كامتحنه والاسم المحنة بالكسر» وفي الكشاف: والامتحان افتعال من محنه وهو اختبار بليغ أو بلاء جهيد قال أبو عمرو: كل شيء جهدته فقد محنته وأنشد: أتت رذايا باديا كلالها ... قد محنت واضطربت آطالها نقول: والرذايا: جمع رذية وهي الناقة المهزولة والآطال جمع أطل وهو الخاصرة كأسباب وسبب، يقول الشاعر: أتت المطايا مهازيل ظاهرا ملالها ... وتعبها من السير قد أجهدت تلك النون بالمسير أو قد تدلت واضطربت خواصرها من شدة الجوع وفي الصحاح «الأيطل الخاصرة وجمعه أياطل وكذلك الأطل وجمعه آطال» . (الْحُجُراتِ) جمع حجرة وهي فعلة بمعنى مفعولة كالغرفة وجمعها الحجرات بضمتين والحجرات بفتح الجيم والحجرات بتسكينها وقرئ بهنّ جميعا والحجرة القطعة من الأرض المحجورة بحائط أو نحوه. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) يا حرف نداء للمتوسط وأيّها منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب والهاء للتنبيه والذين بدل من أيّها وجملة آمنوا صلة الموصول ولا ناهية الجزء: 9 ¦ الصفحة: 257 وتقدموا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل وفيه وجهان أحدهما أنه متعدّ حذف مفعوله لقصد التعميم أو ترك المفعول للقصد إلى نفس الفعل كقولهم: هو يعطي ويمنع والثاني أنه لازم نحو وجه وتوجه ويؤيده قراءة ابن عباس والضحاك ويعقوب: تقدموا بفتح التاء والقاف والدال. وبين مفعول فيه ظرف مكان متعلق بتقدموا ويدي الله مضاف إليه وعلامة جرّه الياء نيابة عن الكسرة لأنه مثنى ولفظ الجلالة مضاف إليه ورسوله عطف على لفظ الجلالة (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الواو حرف عطف واتقوا فعل أمر وفاعل ولفظ الجلالة مفعول به وإن واسمها وخبراها والجملة تعليلية لا محل لها من الإعراب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) لا ناهية وترفعوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وأصواتكم مفعول به وفوق ظرف متعلق بترفعوا وصوت النبي مضاف إليه (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتجهروا فعل مضارع مجزوم بلا وله متعلقان بتجهروا وبالقول متعلقان بتجهروا أيضا والكاف في محل نصب صفة لمصدر محذوف أي لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض، ولبعض متعلقان بجهر لأنه مصدر وأن وما في حيزها في موضع نصب على أنه مفعول لأجله على حذف مضاف أي خشية الحبوط والخشية منهم وقد تنازعه لا ترفعوا ولا تجهروا وعبارة أبي السعود: «وقوله أن تحبط أعمالكم إما علّة للنهي أي لا تجهروا خشية أن تحبط أو كراهة أن تحبط كما في قوله تعالى: يبيّن الله لكم أن تضلّوا وإما علّة للمنهي أي لا تجهروا لأجل الحبوط فإن الجهر حيث كان بصدد الأداء إلى الحبوط فكأنه فعل لأجله على طريقة التمثيل كقوله تعالى: ليكون لهم عدوا وحزنا» وقد فرّق الزمخشري بين الوجهين تفريقا تراه في باب الفوائد. وأعمالكم فاعل تحبط والواو حالية وأنتم مبتدأ وجملة لا تشعرون خبر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 258 أنتم والجملة في موضع نصب على الحال (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) إن واسمها وجملة يغضون صلة الذين وأصواتهم مفعول يغضون وعند رسول الله الظرف متعلق بيغضون وأولئك مبتدأ والذين خبره والجملة خبر إن. وامتحن الله قلوبهم فعل وفاعل ومفعول به وللتقوى متعلقان بامتحن على أنها علّة الامتحان لأن الاختبار بالمحن سبب لظهور التقوى لا سبب للتقوى نفسها فهو من إطلاق السبب على المسبّب وسيأتي مزيد من هذا البحث في باب البلاغة، وقال الواحدي: «تقدير الكلام امتحن الله قلوبهم فأخلصها للتقوى فحذف الإخلاص لدلالة الامتحان عليه ولهذا قال قتادة أخلص الله قلوبهم» . وعبارة الزمخشري «والمعنى أنهم صبر على التقوى أقوياء على احتمال مشاقها أو وضع الامتحان موضع المعرفة لأن تحقيق الشيء باختباره كما يوضع الخبر موضعها فكأنه قيل عرف الله قلوبهم للتقوى وتكون اللام متعلقة بمحذوف واللام هي التي في قولك أنت لهذا الأمر أي كائن له ومختص به وهي ومعمولها منصوبة على الحال أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الصعبة لأجل بالتقوى أي لتثبت وتظهر تقواها ويعلم أنهم متقون لأن حقيقة التقوى لا تعلم إلا عند المحن والشدائد والاصطبار عليها وقيل أخلصها للتقوى من قولهم امتحن الذهب وفتله إذا أذابه فخلص إبريزه من خبثه ونقاه» . وهذا يجوز أن يكون الذين امتحن بدلا من أولئك أو صفة له كما سيأتي (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) لهم خبر مقدم ومغفرة مبتدأ مؤخرا وجر عظيم عطف على مغفرة الجملة مستأنفة على الوجه الأول وخبر أولئك على الوجه الثاني (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) إن واسمها وجملة ينادونك صلة الموصول ومن وراء الحجرات متعلقان بينادونك أي من خارجها خلفها أو قدّامها لأن وراء من الأضداد كما تقدم وأكثرهم مبتدأ وجملة لا يعقلون خبر أكثرهم والجملة الاسمية خبر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 259 إن (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الواو عاطفة وأن واسمها وجملة صبروا خبرها وأن وما في خيرها في تأويل مصدر فاعل لفعل محذوف تقديره ثبت على رأي المبرد والزجّاج والكوفيين أو مبتدأ لا يحتاج إلى خبر لأن الخبر يحذف وجوبا بعد لو ولولا على رأي سيبويه وجمهرة البصريين، وحتى حرف غاية وجر وتخرج فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى وإليهم متعلقان بتخرج واللام واقعة في جواب لو وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على المصدر المفهوم من صبروا أي لكان صبرهم وخيرا خبرها ولهم متعلقان بخير والله مبتدأ وغفور خبر أول ورحيم خبر ثان. البلاغة: 1- في قوله تعالى «بين يدي الله ورسوله» استعارة تمثيلية، شبّه تعجّل الصحابة في إقدامهم على البتّ في الحكم على أمر من أمور الدين بحالة من تقدم بين يدي متبوعه أثناء سيره في الطريق ثم استعمل في جانب الهجنة للمبالغة في تجسيد الهجنة وتقبيح الأمر، وقال الزمخشري وأبداع: «حقيقة قولهم جلست بين يدي فلان أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريبا منه فسمّيت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسعا كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره وداناه في غير موضع وقد جرت هذه العبارة هاهنا على سنن ضرب من المجاز وهو الذي يسمّيه أهل البيان تمثيلا، ولجريها هكذا فائدة جليلة ليست في الكلام العريان وهي تصوير الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنّة والمعنى أن لا تقطعوا أمرا إلا بعد ما يحكمان به ويأذنان فيه» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 260 وعبارة الشهاب الخفاجي في حاشيته على البيضاوي: «في هذا الكلام تجوز أن أحدهما في بين اليدين فإن حقيقته ما بين العضوين فتجوز بهما من الجهتين المقابلتين لليمين والشمال القريبتين منه بإطلاق اليدين على ما يجاورهما ويحاذيهما» فهو من المجاز المرسل ثم استعيرت الجملة وهي التقدّم بين اليدين استعارة تمثيلية للقطع بالحكم بلا اقتداء ومتابعة لمن تلزمه متابعته تصويرا لهجنته وشناعته بصورة المحسوس كتقدم الخادم بين يدي سيده في مسيره. 2- الحذف: وحذف مفعول تقدموا كقوله يحيي ويميت وقولهم هو يعطى ويمنع وفي الحذف من البلاغة ما ليس في الذكر لأن الخيال يذهب فيه كلّ مذهب. 3- التكرير: في تكرير قوله «يا أيها الذين آمنوا» فائدة بلاغية لطيفة وهي إظهار الشفقة على المسترشد وإبداء المناصحة له على آكد وجه ليقبل على استماع الكلام ويعيره باله، ولتحديد المخاطبين بالذات، وأنهم هم المعنيون بالمناصحة، وفيه أيضا استدعاء لتجديد الاستبصار والتيقظ والتنبّه عند كل خطاب. 4- الكناية: في قوله «من وراء الحجرات» كناية عن موضع خلوته صلى الله عليه وسلم ومقيله مع بعض نسائه وقد ازدادت الكناية بإيقاع الحجرات معرفة بالألف واللام دون الإضافة إليه وفي ذلك من حسن الأدب ما لا يخفى. الفوائد: قال الزمخشري: «فإن قلت لخّص الفرق بين الوجهين قلت تلخيصه أن يقدّر الفعل في الثاني مضموما إليه المفعول له كأنهما شيء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 261 واحد ثم يصب النهي عليهما جميعا صبّا وفي الأول يقدّر النهي موجها على الفعل على حياله ثم يعلّل له منهيا عنه فإن قلت بأيّ النهيين تعلق المفعول له؟ قلت: بالثاني عند البصريين مقدّرا إضماره عند الأول كقوله تعالى: آتوني أفرغ عليه قطرا، وبالعكس عند الكوفيين وأيّهما كان فمرجع المعنى إلى أن الرفع والجهر كلاهما منصوص أداؤه إلى حبوط العمل. [سورة الحجرات (49) : الآيات 6 الى 8] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) يا أيها الذين آمنوا: تقدم إعرابها وإن شرطية وجاءكم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والكاف مفعول به مقدّم وفاسق فاعل مؤخر وبنبإ متعلقان بجاءكم والفاء رابطة لجواب الشرط لأن الجملة طلبية وتبينوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وأن تصيبوا أن وما في حيزها في محل نصب مفعول من أجله على حذف مضاف أي خشية إصابتكم أو كراهة إصابتكم وقوما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 262 مفعول به وبجهالة في محل نصب حال من الفاعل أي جاهلين، فتصبحوا الفاء عاطفة وتصبحوا معطوف على تصيبوا والواو اسم تصبحوا وعلى ما فعلتم متعلقان بنادمين ونادمين خبر تصبحوا (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) الواو حرف عطف واعلموا فعل أمر والواو فاعل وأن وما في حيزها سدّت مسدّ مفعولي اعلموا وفيكم خبر أن المقدم ورسول الله اسم إن المؤخر ولو شرطية وجملة يطيعكم حال من الضمير المجرور في قوله فيكم وفي كثير متعلقان بيطيعكم ومن الأمر صفة لكثير واللام واقعة في جواب لو وعنتّم فعل وفاعل والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب لو والمعنى لوقعتم في العنت أي الهلاك (وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) الواو عاطفة ولكن واسمها وجملة حبب خبرها وإليكم متعلقان بحبب والإيمان مفعول به وزيّنه عطف على حبّب وفي قلوبكم متعلقان بزينه وكره إليكم الكفر عطف على ما تقدم (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) أولئك مبتدأ وهم ضمير فصل والراشدون خبر أولئك ويجوز أن تعرب هم مبتدأ ثانيا والراشدون خبره والجملة خبر أولئك وجملة أولئك هم الراشدون في محل نصب على الحال أو اعتراضية لا محل لها (فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فضلا مفعول من أجله أو مصدر من غير فعله واختلف في ناصبه على الأول فقيل هو حبب إليكم فيتعين كون جملة أولئك هم الراشدون اعتراضية، وقيل النصب بتقدير فعل أي تبتغون فضلا ونعمة وقيل هو الراشدون على خلاف بين أهل السنة والمعتزلة سنورده في باب الفوائد والله مبتدأ وعلم خبر أول وحكيم خبر ثان. البلاغة: اشتملت هذه الآيات على أفانين متنوعة من البلاغة نوردها موجزة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 263 فيما يلى: 1- التنكير: في قوله «إن جاءكم فاسق» والفائدة منه الشياع والشمول لأن النكرة إذا وقعت في سياق الشرط عمّت كما تعمّ إذا وقعت في سياق النفي وقد تقدمت الإشارة إلى هذه القاعدة في غير مكان من هذا الكتاب، وفي هذا التنكير ردّ على من زعم أنها نزلت في الوليد بن عقبة وهو من كبار الصحابة لأن إطلاق الفسوق عليه بعيد ذلك أن الفسوق هو الخروج من الشيء والانسلاخ منه والوليد كما يذكرون ظن فأخطأ والمخطئ- كما يقول الرازي- لا يسمى فاسقا فالعموم هو المراد كأنه قال: أي فاسق جاءكم بأيّ نبأ فمحّصوه وأعرضوه على محك التصويب والتخطئة قبل البتّ في الحكم ولا تستعجلوا الأمور. 2- التقديم: في قوله «واعلموا أن فيكم رسول الله» فقد قدّم خبر إن على اسمها والقصد من ذلك التشدّد على بعض المؤمنين لتحاشي ما استهجنه الله من محاولتهم اتباع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم لآرائهم. 3- التعبير: بالمضارع دون الماضي في قوله: «لو يطيعكم» ولم يقل أطاعكم وذلك لإفادة الديمومة والاستمرار على أن يعمل ما يرونه صوابا وإن عليه كلما عنّ لهم رأي أو بدأت لهم في الأمور بداءة أن يخلد إليهم ويفعل ما يعتقدونه حقا. 4- الطباق: وذلك في قوله تعالى «حبّب» و «كرّه» وفي التحبيب والتكريه خلاف بين أهل السنّة والمعتزلة لا يتّسع له صدر هذا الكتاب فليرجع إلى المطولات. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 264 الفوائد: أورد الزمخشري إشكالا على إعراب فضلا فقال: «فإن قلت من أين جاز وقوعه مفعولا له والرشد فعل القوم والفضل فعل الله والشرط أن يتحد الفاعل؟ قلت لما وقع الرشد عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه مسندة إلى اسمه تقدست أسماؤه صار الرشد كأنه فعله فجاز أن ينتصب عنه أو لا ينتصب عن الراشدون ولكن عن الفعل المسند إلى اسم الله تعالى والجملة التي هي أولئك هم الراشدون اعتراض أو عن فعل مقدّر كأنه قيل جرى ذلك أو كان ذلك فضلا من الله وأما كونه مصدرا من غير فعله فأن يوضع موضع رشدا لأن رشدهم فضل من الله لكونهم موفقين فيه والفضل والنعمة بمعنى الأفضال» نقول، وهذا الإشكال الذي أورده الزمخشري بناء على اعتقاد المعتزلة بأن الرشد ليس من أفعال الله تعالى وإنما هو فعلهم حقيقة، والواقع أن الرشد من أفعال الله ومخلوقاته فقد وجد شرط انتصاب المفعول له وهو اتحاد فاعل الفعلين على أن الإشكال وارد نصا على تقريرنا على غير الحدّ الذي أورده عليه الزمخشري بل من جهة أن الله تعالى خاطب خلقه بلغتهم المعهودة عندهم ومما يعهدونه أن الفاعل من نسب إليه الفعل وسواء كان حقيقة أو مجازا حتى يكون زيد فاعلا وانقض الحائط وأشباهه كذلك وقد نسب إليهم الرشد على طريقة أنهم الفاعلون وإن كانت النسبة مجازية باعتبار المعتقد وإذا تقرر وروده على هذا الوجه فلك في الجواب عنه طريقان إما جواب الزمخشري وإما أمكن منه وأبين وهو أن الرشد هنا يستلزم كونه راشدا إذ هو مطاوعه لأن الله تعالى أرشدهم فرشدوا وحينئذ يتحد الفاعل على طريقة الصناعة اللفظية المطابقة للحقيقة وهو عكس قوله يريكم البرق خوفا وطمعا فإن الإشكال بعينه وارد فيها إذ الخوف والطمع فعلهم أي منسوب إليهم على طريقة أنهم الخائفون الطامعون والفعل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 265 الأول لله تعالى والجواب عنه أنهم مفعولون في معنى الفاعلين بواسطة استلزام المطاوعة لأنه إذا أرادهم فقد رأوا وقد سلف هذا الجواب مكانه وعكسه آية الحجرات إذ تصحيح الكلام بتقدير الفاعل مفعولا وهذا من دقائق العربية. [سورة الحجرات (49) : الآيات 9 الى 11] وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) اللغة: (طائِفَتانِ) الطائفة: الجماعة من الناس والقطعة من الشيء، والذين يجمعهم رأي أو مذهب يمتازون به عن سواهم ومؤنث الطائف والجمع طائفات وطوائف وفي القاموس «والطائفة من الشيء القطعة منه أو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 266 الواحد فصاعدا أو إلى الألف أو أقلها رجلان أو رجل فيكون بمعنى النفس» وقال شارح القاموس في التاج: «قوله فيكون بمعنى النفس هذا توجيه لكون تائه للتأنيث حينئذ أي النفس الطائفة قال الراغب: إذا أريد بالطائفة الجمع فجمع طائف وإذا أريد به الواحد فيصحّ أن يكون جمعا وكنّى به عن الواحد وأن يكون كراوية وعلامة ونحو ذلك. (تَفِيءَ) مضارع فاء أي رجع. (أَقْسِطُوا) أعدلوا من أقسط الرباعي بخلاف قسط الثلاثي الذي معناه الجور يقال قسط الرجل إذا جار وأقسط إذا عدل قال تعالى: «وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا» وقال في التاج: «ففي العدل لغتان قسط وأقسط وفي الجور لغة واحدة قسط بغير ألف» . (قَوْمٌ) القوم: الرجال خاصة لأنهم القوام بأمور النساء قال الله تعالى: الرجال قوّامون على النساء وقال عليه الصلاة والسلام: النساء لحم على وضم إلا ما ذبّ عنه الذابّون والذابّون هم الرجال، وهو في الأصل جمع قائم كصوّم وزوّر في جمع صائم وزائر أو تسميته بالمصدر، عن بعض العرب إذا أكلت طعاما أحببت نوما وأبغضت قوما أي قياما، واختصاص القوم بالرجال صريح في الآية وفي قول زهير: وما أدري وسوف أخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد أنهم الذكور فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث لأنهنّ توابع لرجالهنّ، هذا ما ذكره في الكشاف فهو اسم جمع بمعنى الرجال خاصة وأحده في المعنى رجل وقيل جمع لا واحد له من لفظه وقال بعضهم: القوم الجماعة من الناس والجمع أقوام وأقاوم وأقائم وأقاويم، وقوم الرجل أقرباؤه الذين يجتمعون معه في جدّ واحد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 267 (تَلْمِزُوا) اللمز الطعن والضرب باللسان وفي المصباح: «لمزه لمزا من باب ضرب عابه وقرأ بها السبعة ومن باب قتل لغة وأصله الإشارة بالعين ونحوها» . (تَنابَزُوا) التنابز: تفاعل من النبز وهو التداعي باللقب والنزب منه لقب السوء، ويقال تنابزوا وتنابزوا إذا دعا بعضهم بعضا بلقب سوء. الإعراب: (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) الواو عاطفة وإن شرطية وطائفتان فاعل لفعل محذوف يفسّره ما بعده ومن المؤمنين نعت طائفتان واقتتلوا فعل ماض مبني على الضم وسيأتي سرّ اتصاله بواو الجماعة في باب البلاغة والفاء رابطة لجواب الشرط وأصلحوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وبينهما ظرف متعلق بأصلحوا (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ) الفاء عاطفة وإن شرطية وبغت فعل ماض مبني على الفتح المقدّر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والتاء للتأنيث وإحداهما فاعل بغت وعلى الأخرى متعلقان ببغت والفاء رابطة وقاتلوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والتي مفعول به وجملة تبغي صلة التي وحتى حرف غاية وجر وتفيء فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والفاعل مستتر تقديره هي وإلى الله متعلقان بتفيء (فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الفاء عاطفة وما بعد الفاء تقدم إعرابه وبالعدل حال أي عادلين وإن واسمها وجملة يحب المقسطين خبرها وجملة إن وما بعدها تعليل للأمر لا محل لها (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) إنما كافّة ومكفوفة والمؤمنون مبتدأ وإخوة خبر، فأصلحوا الفاء الفصيحة وأصلحوا فعل أمر مبني على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 268 حذف النون والواو فاعل وبين أخويكم ظرف متعلق بأصلحوا (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) عطف على ما تقدم ولعلّ واسمها وجملة ترحمون خبرها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ) يا أيها الذين آمنوا تقدم إعرابها ولا ناهية ويسخر فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وقوم فاعل ومن قوم متعلقان بيسخر وعسى فعل ماض من أفعال الرجاء وهي هنا تامة، وسيأتي حكمها في باب الفوائد، وأن وما في حيزها فاعلها وخيرا خبر يكونوا ومنهم متعلقان بخير ولا نساء من نساء عطف على قوم من قوم وعسى أن يكن خيرا منهنّ تقدم إعرابها وجملة عسى أن يكونوا مستأنفة ورد مورد جواب المستخبر عن العلة الموجبة لما جاء النهي عنه (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) عطف على ما تقدم إعرابه واضح (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) بئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والاسم فاعله والفسوق هو المخصوص بالذم وهو مبتدأ خبره الجملة قبله ولك أن تعربه خبرا لمبتدأ محذوف وبعد الإيمان الظرف متعلق بمحذوف حال (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم ولم حرف نفي وقلب وجزم ويتب فعل مضارع مجزوم بلم وهو فعل الشرط والفاء رابطة للجواب لأنه جملة اسمية وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل لا محل له أو مبتدأ ثان والظالمون خبر من أو خبرهم والجملة خبر أولئك وجملة فأولئك في محل جزم جواب الشرط. البلاغة: 1- الحمل على المعنى: قال اقتتلوا والقياس اقتتلتا حملا على المعنى لأن الطائفتين في معنى القوم والناس ثم حمل على اللفظ فقال (بَيْنَهُما) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 269 2- التخصيص: خصّ الاثنين بالذكر بقوله فأصلحوا بين أخويكم دون الجمع لأن أقل من يقع منهم الشقاق اثنان فإذا التزمت المصالحة بين الأقل كانت بين الأكثر ألزم لأن الفساد والشر المترتبين على شقاق الجمع أكثر منهما في شقاق الاثنين. 3- وضع الظاهر موضع المضمر: وفيه أيضا وضع الظاهر موضع المضمر مضافا إلى المأمورين بالإصلاح للمبالغة في التقرير والتحضيض وقد مرّت الإشارة إلى هذا الفن. 4- سرّ الجمع: لم يقل رجل من رجل ولا امرأة من امرأة إيذانا بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية واستفظاعا للشأن الذي كانوا عليه ولأن مشهد الساخر لا يكاد يخلو ممّن يتلهّى ويستضحك على قوله ولا يأتي ما عليه من النهي والإنكار فيكون شريك الساخر وتلوه في تحمّل الوزر وكذلك كل من يستطيبه ويضحك منه فيؤدى ذلك وإن أوجده واحد إلى تكثير السخرة وانقلاب الواحد جماعة وقوما. الفوائد: 1- اختصّت عسى واخلولق وأوشك من بين أفعال المقاربة بجواز إسنادهنّ إلى «أن يفعل» حال كونه مستغنى به عن الخبر فتكون تامة قال ابن مالك في الخلاصة: بعد عسى اخلولق أوشك قد يرد ... غنى بأن يفعل عن ثان فقد نحو وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبّوا شيئا وهو شرّ لكم، وينبني على هذا الأصل فرعان أحدهما أنه إذا تقدم على إحداهنّ اسم هو المسند إليه في المعنى وتأخر عنها أن والفعل نحو زيد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 270 عسى أن يقوم جاز تقديرها خالية من ضمير ذلك الاسم فتكون عسى مسندة إلى أن والفعل مستغنى بهما عن الخبر فتكون تامة وهذه لغة أهل الحجاز وجاز تقديرها مسندة إلى الضمير العائد إلى الاسم المتقدم عليها فيكون الضمير اسمها وتكون أن والفعل في موضع نصب على الخبر فتكون ناقصة وهذه لغة بني تميم وإلى ذلك أشار ابن مالك بقوله: وجرّدن عسى أو ارفع مضمرا ... بها إذا اسم قبلها قد ذكرا وقد جاء التنزيل كما في الآية التي نحن بصددها بلغة أهل الحجاز، والفرع الثاني أنه إذا ولى إحداهنّ أن والفعل وتأخر عنها اسم هو المسند إليه في المعنى نحو عسى أن يقوم زيد جاز الوجهان السابقان فيما إذا تقدم المسند إليه في المعنى وعلى هذا يكون مبتدأ مؤخرا لا غير، وجاز أيضا وجهان آخران أحدهما أنه يجوز في ذلك الفعل المقرون أن يقدّر خاليا من الضمير العائد إلى الاسم المتأخر فيكون الفعل مسندا إلى ذلك الاسم المتأخر وتكون عسى مسندة إلى أن والفعل مستغنى بها عن الخبر فتكون تامة والثاني أن يقدّر ذلك الفعل محتملا لضمير ذلك الاسم المتأخر فيكون الاسم المتأخر مرفوعا بعسى وتكون أن والفعل في موضع نصب على الخبرية بعسى مقدّما على اسمها فتكون ناقصة. 2- المشاقّة في الإسلام: ننقل فيما يلى خلاصة عن الفصل الممتع الذي عقده الزمخشري بصدد المشاقة في الإسلام وواجب المسلمين حيالها إذا استشرت واستحكمت قال: «هذا تقرير لما ألزمه من تولّى الإصلاح بين من وقعت بينهم المشاقّة من المؤمنين وبيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب والنسب اللاصق ما إن لم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 271 يفضل الإخوة ولم يبرز عليها لم ينقص عنها ولم يتقاصر عن غاياتها، ثم قد جرت عادة الناس على أنه إذا نشب مثل ذلك بين اثنين من إخوة الولاد لزم السائر أن يتناهضوا في رفعه وإزاحته ويركبوا الصعب والذلول مشيا بالصلح وبثّا للسفراء بينهما إلى أن يصادف ما وهى من الوفاق من يرقعه وما استشنّ من الوصال من يبله، فالأخوة في الدين أحقّ بذلك وبأشدّ منه وعن النبي صلى الله عليه وسلم: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يعيبه ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلا بإذنه ولا يؤذيه بقتار قدره ثم قال احفظوا ولا يحفظ منكم إلا قليل» . [سورة الحجرات (49) : الآيات 12 الى 13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) اللغة: (تَجَسَّسُوا) يقال تجسّس الأمر إذا تطلبه وبحث عنه وقرئ ولا تحسسوا بالحاء، والمعنيان متقاربان، وقال الأخفش ليست تبعد إحداهما عن الأخرى لأن التجسس البحث عمّا يكتم عنك والتحسّس الجزء: 9 ¦ الصفحة: 272 بالحاء طلب الأخبار والبحث عنها، وقيل إن التجسس بالجيم هو البحث ومنه قيل: رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور وبالحاء ما أدركه الإنسان ببعض حواسّه، وفي القاموس: «ولا تجسسوا أي خذوا ما ظهر ودعوا ما ستر الله عزّ وجلّ أو لا تفحصوا عن بواطن الأمور أو لا تبحثوا عن العورات» وجاء فيه أيضا: «والتحسّس الاستماع لحديث القوم وطلب خبرهم في الخير» وقال في الأساس: «ومن أين حسست هذا الخبر وأخرج فتحسّس لنا وضرب فما قال حس وجىء به من حسّك وبسّك، وأنشد يصف امرأة ويشكوها: تركت بيتي من الأشياء ... قفرا مثل أمس كل شيء كنت قد جمّ ... عت من حسّى وبسّى (شُعُوباً) جمع شعب بفتح الشين وهو أعلى طبقات النسب وقال أبو حيان: «الشعب الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب وهي الشعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة فالشعب يجمع القبائل والقبيلة تحمي العمائر والعمارة تجمع البطون والبطن يجمع الأفخاذ والفخذ يجمع الفصائل خزيمة شعب وكنانة قبيلة وقريش عمارة وقصي بطن وهاشم فخذ والعباس فصيلة وسمّيت الشعوب لأن القبائل تشعبت منها ومنه اشتقّت الشعوبية بضم الشين وهم قوم يصغّرون شأن العرب سمّوا بذلك لتعلقهم بظاهر قوله تعالى: «وجعلناكم شعوبا وقبائل» وقال ابن هبيرة في المحكم: غلبت الشعوبية بلفظ الجمع على جيل من العجم حتى قيل لمحتقر أمر العرب شعوبى وإن لم يكن منهم وأضافوا إلى الجمع لغلبته على الجيل الواحد كقولهم أنصاري. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 273 الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) اجتنبوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وكثيرا مفعول به ومن الظن صفة لكثيرا وإن واسمها وخبرها إن وما في حيزها تعليل للنهي فالجملة لا محل لها (وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) الواو حرف عطف ولا ناهية وتجسسوا فعل مضارع مجزوم بلا ولا يغتب عطف على ولا تجسسوا وبعضكم فاعل وبعضا مفعول به (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) الهمزة للاستفهام التقريري ويحب فعل مضارع مرفوع وأحدكم فاعل وأن وما في حيزها مفعول يحب وميتا حال من لحم أخيه ومن من الأخ والفاء الفصيحة أي إن صحّ هذا فكرهتموه وكرهتموه فعل وفاعل ومفعول به والواو لإشباع ضمة الميم وسيرد في باب البلاغة مزيد من بحثه (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) الواو استئنافية واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وإن واسمها وخبراها (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) إن واسمها وجملة خلقناكم خبرها ومن ذكر متعلقان بخلقناكم وأنثى عطف على ذكر (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) الواو حرف عطف وجعلناكم فعل وفاعل ومفعول به أول وشعوبا مفعول به ثان واللام للتعليل وتعارفوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) إن واسمها وعند الله ظرف متعلق بمحذوف حال وأتقاكم خبرها وإن واسمها وخبراها والجملتان المصدّرتان بإن مستأنفتان. البلاغة: في هاتين الآيتين أفانين متنوعة من البلاغة ندرجها فيما يلى: 1- التنكير في قوله «كثيرا من الظن» والسر فيه إفادة معنى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 274 البعضية للإيذان بأن في الظنون ما يجب أن يجتنب من غير تبيين لذلك ولا تعيين لئلا يجترئ أحد على ظن إلا بعد تأمّل وبعد نظر وتمحيص واستشعار للتقوى والحذر من أن يكون الظن طائش السهم، بعيدا عن الإصابة، وما أكثر الذين تسوّل لهم ظنونهم ما ليس واقعا ولا يستند إلى شيء من اليقين. 2- الاستعارة التمثيلية الرائعة في قوله تعالى «أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه» فقد شبّه من يغتاب غيره بمن يأكل لحم أخيه ميتا وفيها مبالغات أولها الاستفهام الذي معناه التقرير كأنه أمر مفروغ منه مبتوت فيه، وثانيها جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة، وثالثها إسناد الفعل إلى كل أحد للإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحبّ ذلك، ورابعها أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان وهو أكره اللحوم وأبعثها على التقزّز حتى جعل الإنسان أخا، وخامسها أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعله ميتا ومن ثم فصحت هذه الآية وأكبرها أصحاب البيان وقال النبي صلى الله عليه وسلم «ما صام من ظل يأكل لحوم الناس» وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكره قال: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول فقال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته. وعن ابن عباس أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوّي لهما طعامهما فينام عن شأنه يوما فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغي لهما أداما وكان أسامة على طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندي شيء فأخبرهما سلمان بذلك فعند ذلك قالا لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها فلما راحا إلى رسول الله صلى الله عليه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 275 وسلم قال لهما ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما، فقالا: ما تناولنا لحما فقال: إنكما قد اغتبتما فنزلت ... ثم إن الغيبة على ثلاثة أضرب: 1- أن تغتاب وتقول لست أغتاب لأني أذكر ما فيه فهذا كفر، ذكره الفقيه أبو الليث في التنبيه لأنه استحلال للحرام القطعي. 2- أن تغتاب وتبلغ غيبة المغتاب فهذه معصية لا تتم التوبة عنها إلا بالاستحلال لأنه أذاه فكان فيه حق العبد أيضا وهذا محمل قوله عليه الصلاة والسلام: الغيبة أشدّ من الزنا قيل: وكيف؟ قال الرجل يزنى ثم يتوب عنه فيتوب الله عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه. 3- إن لم تبلغ الغيبة فيكفيه التوبة والاستغفار له ولمن اغتابه، فقد أخرج ابن أبى الدنيا عن أنس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفّارة من اغتبته أن تستغفر له. [سورة الحجرات (49) : الآيات 14 الى 18] قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 276 اللغة: (يَلِتْكُمْ) ينقصكم ويظلمكم، يقال ألته السلطان حقه أشدّ الألتة وهي لغة غطفان وأسد ولغة أهل الحجاز لاته ليتا وقرئ باللغتين لا يلتكم ولا يألتكم وفي السمين «قراءة أبي عمرو بالهمز من ألته يألته بالفتح في الماضي وبالكسر والضم في المضارع وقراءة الآخرين بترك الهمز من لاته يليته كباعه يبيعه وقيل هو من ولته يلته كوعده يعده» . الإعراب: (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) قالت الأعراب فعل ماض وفاعل وجملة آمنا في محل نصب مقول القول وجملة لم تؤمنوا في محل نصب مقول القول أيضا والواو حرف عطف ولكن حرف استدراك مهمل وقولوا فعل أمر وفاعل وجملة أسلمنا مقول القول والواو للحال ولما حرف نفي وجزم ويدخل فعل مضارع مجزوم بلما وما في لما من معنى التوقع دال على أنهم قد آمنوا فيما بعد والإيمان فاعل وفي قلوبكم متعلقان بيدخل (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الواو عاطفة وإن شرطية وتطيعوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل ولفظ الجلالة مفعول به ورسوله عطف على الله ولا نافية الجزء: 9 ¦ الصفحة: 277 ويلتكم فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الشرط ومن أعمالكم حال لأنه كان صفة لشيئا وشيئا مفعول به ثان أو مفعول مطلق وإن واسمها وخبراها (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) إنما كافّة ومكفوفة والمؤمنون مبتدأ والذين خبر وجملة آمنوا صلة وثم حرف عطف للتراخي والفائدة منه الإشارة إلى أن نفي الريب عنهم ليس في وقت حصول الإيمان فيهم فقط بل هو مستمر بعد ذلك فيما يتطاول من أزمنة وآماد ولم حرف نفي وقلب وجزم ويرتابوا فعل مضارع مجزوم بلم (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) وجاهدوا عطف على آمنوا وبأموالهم متعلقان بجاهدوا وكذلك قوله في سبيل الله وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان والصادقون خبر أولئك أو خبرهم والجملة خبر أولئك (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الهمزة للاستفهام الإنكاري وتعلمون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل ولفظ الجلالة مفعوله وبدينكم متعلقان بتعلمون لأنه بمعنى التعريف والواو للحال والله مبتدأ وجملة يعلم خبر وما مفعول به وفي السموات صلة والله مبتدأ وبكل شيء متعلقان بعليم وعليم خبر (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) يمنّون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وعليك متعلقان بيمنّون وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض وقل فعل أمر وجملة لا تمنّوا مقول القول وعليّ متعلقان بتمنّوا وإسلامكم نصب بنزع الخافض أيضا (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) بل حرف إضراب وعطف والله مبتدأ وجملة يمنّ عليكم خبر وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أيضا وللإيمان متعلقان بهداكم وإن شرطية وكنتم صادقين في موضع جزم فعل الشرط وجوابه محذوف يدلّ عليه ما قبله أي فهو المانّ عليكم (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 278 غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) إن واسمها وجملة يعلم خبرها والله مبتدأ وبصير خبر وبما تعملون متعلقان ببصير. البلاغة: في قوله تعالى «قالت الأعراب آمنّا» إلخ الآية فن سمّاه صاحب الصناعتين وغيره الاستدراك، وغيره يسمّيه الاستثناء، وهو يتضمن ضربا من المحاسن زائدا على ما يدل عليه المدلول اللغوي كقوله الآنف الذكر فإن الكلام لو اقتصر فيه على ما دون الاستدراك لكان منفرا لهم لأنهم ظنوا الإقرار بالشهادتين من غير اعتقادهما إيمانا، فأوجبت البلاغة تبيين الإيمان فاستدرك ما استدركه من الكلام ليعلم أن الإيمان موافقة القلب للسان ولأن انفرد اللسان بذلك يسمى إسلاما لا إيمانا وزاده إيضاحا بقوله «ولما يدخل الإيمان في قلوبكم» وبعضهم يدخل هذا النوع في نطاق فن يقال له جمع المختلفة والمؤتلفة فإنهم ظنوا أن الإيمان العمل باللسان دون العمل بالجنان فجاء قوله تعالى «ولكن قولوا أسلمنا» مؤتلفا لقولهم آمنّا وهم يعتقدون أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان وخالف ذلك قوله تعالى «قل لم تؤمنوا» وائتلف به قوله مبينا حقيقة الإيمان وأنه خلاف ما ظنوا بقوله سبحانه «ولما يدخل الإيمان في قلوبكم» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 279 (50) سورة ق مكيّة وآياتها خمس وأربعون [سورة ق (50) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) اللغة: (مَرِيجٍ) مضطرب وأصله من الحركة والاضطراب ومنه مرج الخاتم في إصبعه إذا قلق من الهزال، وفي المختار: «مرج الأمر والدين اختلط وبابه طرب وأمر مريج مختلط» والمعنى أنهم لا يثبتون على رأي واحد فتارة يقولون: شاعر وتارة ساحر وتارة كاهن. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 280 الإعراب: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) تقدم القول في فواتح السور فجدد به عهدا، والواو حرف قسم وجر والقرآن مقسم به والمجيد صفة والجواب محذوف يدل عليه ما بعده وتقديره أنك جئتهم منذرا بالبعث فلم يقبلوا بل عجبوا وقيل هو مذكور واختلفوا في تقديره فقيل هو قد علمنا وقيل هو قوله ما يلفظ من قول والأول أولى وأرسخ عرقا في البلاغة، وقدره أبو البقاء لتبعثنّ أو لترجعنّ على ما دلّ عليه سياق الآيات (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) بل حرف عطف وإضراب، أضرب عن جواب القسم المحذوف لبيان حالتهم الزائدة في الشناعة والقبح، وعجبوا فعل وفاعل وأن وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي من أن جاءهم ومنذر فاعل جاءهم ومنهم صفة لمنذر، فقال الفاء عاطفة وقال الكافرون فعل وفاعل وهذا مبتدأ وشيء خبر وعجيب صفة والجملة مقول القول (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) الهمزة للاستفهام الإنكاري وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط ومتنا فعل وفاعل وجملة متنا في محل جر بإضافة الظرف إليها، وناصب الظرف مضمر معناه أحين نموت ونبلى نرجع لأن ما بعده دلّ عليه، وكنّا كان واسمها وترابا خبرها وذلك مبتدأ ورجع خبر وبعيد صفة أي مستبعد مستنكر من قولك هذا كلام بعيد أي بعيد من الوهم والعادة (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) كلام مستأنف مسوق للردّ على استبعادهم ما هو قريب من مفهوم المؤمنين الذين شرح الله صدورهم، وقد حرف تحقيق وعلمنا فعل وفاعل وما موصول مفعول به وجملة تنقص الأرض صلة ومنهم متعلق بتنقص والواو حالية وعندنا ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدّم وكتاب مبتدأ مؤخر وحفيظ صفة والجملة حال (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 281 فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) بل حرف إضراب وعطف إضراب انتقالي مما هو شنيع إلى ما هو أشنع وأقبح وهو تكذيب النبوّة بعد إنكار البعث، وكذبوا فعل وفاعل وبالحق متعلقان بكذبوا ولما ظرفية حينية أو رابطة، فهم الفاء عاطفة وهم مبتدأ وأمر خبر ومريج صفة (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف يطيح بكل ما قالوه افتئاتا على الحق وإنكارا له أي أغفلوا وعملوا فلم ينظروا ولم حرف نفي وقلب وجزم وإلى السماء متعلقان بينظروا وكيف اسم استفهام في محل نصب حال وبنيناها فعل وفاعل ومفعول به والجملة بدل من السماء والواو للحال وما نافية ولها خبر مقدّم ومن حرف جر زائد وفروج مجرور لفظا مبتدأ مؤخر محلا، وفروج: فتوق وشقوق وصدوع، وهو جمع فرج (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) الواو حرف عطف والأرض عطف على محل إلى السماء وهو النصب على المفعولية، ولك أن تنصب الأرض بفعل محذوف تقديره ومددنا الأرض وعلى الأول تكون جملة مددناها حالية، وألقينا عطف على مددنا وفيها متعلقان بألقينا ورواسي مفعول به أي جبالا راسية ثوابت (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) وأنبتنا عطف على ما تقدم أيضا وفيها متعلقان بأنبتنا ومن كل زوج متعلقان بأنبتنا أيضا وبهيج صفة لزوج (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) تبصرة وذكرى مفعول من أجله وقيل نصب بفعل مقدّر من لفظهما أي على المفعولية المطلقة وقيل حالان من الفاعل أي مبصرين ومذكرين أو حال من المفعول أي ذات تبصرة وذات تذكرة ولكل متعلقان بتبصرة وبذكرى وعبد مضاف إليه ومنيب نعت لعبد. البلاغة: 1- في قوله: «ق» إلى قوله «عجيب» فن التسجيع أو الإسجاع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 282 وهو بحث طويل ألّف فيه علماء هذا الفن الكتب المطوّلة، وهو أن يتوخى المتكلم تسجيع جمل كلامه، وهو على ضربين: ضرب تأتي فيه الجمل المسجعة مجملة مندمجة في الجمل المهملة وضرب تأتي فيه الجمل المسجعة منفردة، ومن الأول قول عبد السلام بن غياث الحمصي المعروف بديك الجن: حر الإهاب وسيمه، بر الإياب كريمه، محض النصاب حميمه. وسيأتي ذكر الضرب الثاني في سورة الرحمن. 2- في قوله «المجيد» مجاز بالإسناد لأنه حال المتكلم لأن من علم أحكامه ومراميه، وامتثل لأوامره ونواهيه مجد. [سورة ق (50) : الآيات 9 الى 15] وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) اللغة: (الْحَصِيدِ) الذي من شأنه يحصد. (باسِقاتٍ) البسوق: الطول وفي المصباح: «بسقت النخلة بسوقا من باب فقد طالت فهي باسقة والجمع باسقات وبواسق وبسق الرجل: مهر في عمله» قال الشاعر: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 283 لنا خمر وليست خمر كرم ... ولكن من نتاج الباسقات كرام في السماء ذهبن طولا ... وفات ثمارها أيدي الجناة ومن قولهم في المعنى الثاني قول ابن نوفل في ابن هبيرة: يا ابن الذين بمجدهم ... بسقت على قيس فزاره (نَضِيدٌ) متراكب بعضه فوق بغض وقد تقدم شرح معنى الطلع في قوله تعالى «ومن طلعها قنوان» . (أَفَعَيِينا) من عيي بالأمر إذا لم يهتد لوجه علمه، وعيي عن حجته يعيا من باب عيا عجز عنه وقد يدغم الماضي فيقال عيّ فالرجل عيّ فالرجل عي وعيي على فعل وفعيل وعيي بالأمر لم يهتد لوجهه وأعياني بالألف أتعبني، فأعييت يستعمل متعديا ولازما وأعيا في مشيه فهو معي منقوص. وفي المختار: «العيّ ضد البيان وقد عيي في منطقه فهو عي على فعل وعيي يعيا بوزن رضي يرضى فهو عيي على فعيل ويقال أيضا عي وعيي إذا لم يهتد لوجهه والإدغام أكثر وأعياه أمره» . (لَبْسٍ) شك وخلط وشبهة. الإعراب: (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) الواو عاطفة ونزلنا فعل وفاعل ومن السماء متعلقان بنزلنا وماء مفعول به ومباركا صفة، فأنبتنا عطف على نزلنا وبه متعلقان بأنبتنا وجنات مفعول به وحب الحصيد عطف على جنات، أي وحب النبت المحصود، وحذف الموصوف (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) والنخل عطف على جنات وحب الحصيد وباسقات حال مقدّرة لأنها في وقت الإنبات لم تكن طوالا ولها خبر مقدّم وطلع مبتدأ مؤخر ونضيد نعت لطلع والجملة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 284 حال من النخل الباسقات بطريق الترادف أو من الضمير في باسقات على طريق التداخل (رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) يجوز في رزقا أن يكون مفعولا من أجله أو مفعولا مطلقا على أنه مصدر من معنى أنبتنا أو حالا أي مرزوقا للعباد أو ذا رزق وللعباد صفة لرزقا ومتعلق به على أنه مصدر وأحيينا عطف على فأنبتنا وبه متعلق بأحيينا وبلدة مفعول به وميتا نعت وكذلك خبر مقدم والخروج مبتدأ مؤخر وتقديم الخبر للحصر (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ) كلام مستأنف لبيان حقيقة راهنة عن البعث واتفاق جميع الرسل عليه وقبلهم ظرف متعلق بكذبت وقوم نوح فاعل وما بعده عطف عليه (وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ) عطف على ما تقدم أيضا (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ) عطف أيضا وقد مرّت جميعا (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) كل مبتدأ والتنوين فيه عوض عن كلمة أي كل رسول من المذكورين وجملة كذب الرسل خبره والفاء عاطفة وحق فعل ماض ووعيد فاعل مضاف لياء المتكلم وأصله وعيدي فحذفت الياء وبقيت الكسرة دليلا عليها (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) الهمزة للاستفهام أي لم نع به فلا نعيا بإعادته والفاء عاطفة على محذوف تقديره أقصدنا الخلق فعجزنا عنه حتى يتوهم أحد عجزنا عن إعادته وعيينا فعل وفاعل وبالخلق متعلقان بعيينا فالأول صفة للخلق وبل عطف على مقدّر مستأنف مسوق لبيان شبهتهم وفضح سفسطتهم والتقدير هم غير منكرين لقدرتنا بل هم في خلط وشبهة، وهم مبتدأ وفي لبس خبر ومن خلق نعت للبس وجديد نعت لخلق. البلاغة: التعريف والتنكير في تعريف الخلق الأول وتنكير اللبس والخلق الجديد لأغراض بلاغية معجزة، فالتعريف تنويه بفخامة ما قصد تعريفه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 285 وتعظيمه، ومثله تعريف الذكور في قوله تعالى «ويهب لمن يشاء الذكور» والقصد منه جعله دليلا على إمكان الخلق الثاني بطريق الأولى لأنه إذا لم يع تعالى بالخلق على عظمته وانفساحه واستيعابه لما يدهش العقول ويحير الأفكار فالخلق الآخر هو مجرد إعادة أولى أن لا يعبأ به وأن لا يتجاوز مدى القدرة والإمكان فهذا سرّ تعريف الخلق الأول، وأما التنكير فأمره منقسم، فمرة يقصد به تفخيم المنكر من حيث ما فيه من الإبهام كأنه أفخم من أن يخاطبه معرفة، ومرة يقصد به التقليل من المنكر والوضع منه، ومن الأول قوله تعالى «سلام قولا من رب رحيم» وقوله «لهم مغفرة وأجر عظيم» وقوله «إن المتقين في جنات ونعيم» وهو أكثر من أن يحصى، والثاني هو الأصل في التنكير فلا يحتاج إلى تمثيله فتنكير اللبس من التعظيم والتفخيم كأنه قال: في لبس أي وتنكير الخلق الجديد للتقليل منه والتهوين لأمره بالنسبة إلى الخلق الأول يحتمل أن يكون للتفخيم وكأنه أمر أعظم من أن يرضى الإنسان بكونه ملتبسا عليه مع أنه أول ما تبصر فيه صحته. [سورة ق (50) : الآيات 16 الى 20] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) اللغة: (تُوَسْوِسُ) الوسوسة الصوت الخفي ومنها وسواس الحلي، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 286 ووسوسة النفس ما يخطر ببال الإنسان ويهجس في ضميره من حديث النفس. (حَبْلِ الْوَرِيدِ) قال الزمخشري: «وحبل الوريد مثل في فرط القرب كقولهم هو منّي معقد القابلة ومعقد الإزار وقال ذو الرمّة: هل أغدونّ في عيشة رغيد ... والموت أدنى لي من الوريد أي لا أكون في عيشة واسعة والحال أن الموت أقرب إليّ من الوريد، والوريدان عرقان في مقدّم صفحتي العنق سمّيا بذلك لأنهما يردان من الرأس أو لأن الروح تردهما وقد تقدم بحث وجه إضافة الحبل إلى الوريد. (عَتِيدٌ) حاضر، وفي المصباح «عتد الشيء بالضم عتادا بالفتح حضر فهو عتد بفتحتين وعتيد أيضا ويتعدى بالهمزة والتضعيف فيقال أعتده صاحبه وعتده إذا أعدّه وهيأه، وفي التنزيل: وأعتدت لهنّ متكأ» . الإعراب: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وخلقنا الإنسان فعل ماض وفاعل ومفعول به والواو للحال بتقدير نحن وجملة نعلم خبر مبتدأ مقدّر والجملة الاسمية في محل نصب على الحال المقدّرة ولك أن تجعل الواو استئنافية فتكون الجملة مستأنفة وما مفعول به وجملة توسوس صلة ولك أن تجعل ما مصدرية والتقدير ونعلم وسوسة نفسه له وبه متعلقان بتوسوس ونفسه فاعل، ونحن الواو عاطفة ونحن مبتدأ وأقرب خبر وإليه متعلقان بأقرب ومن حبل الوريد متعلقان بأقرب أيضا (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 287 وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) إذ يجوز أن يكون ظرفا لأقرب وأن يكون التقدير اذكر وجملة يتلقى في محل جر بإضافة الظرف إليه والمتلقيان فاعل وعن اليمين خبر مقدم والشمال عطف على اليمين وقعيد مبتدأ مؤخر والجملة في محل نصب على الحال من المتلقيان (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ما نافية ويلفظ فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره هو يعود على الإنسان ومن حرف جر زائد وقول مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول يلفظ وإلا أداة حصر ولديه ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم ورقيب عتيد مبتدأ مؤخر وهو واحد في اللفظ والمعنى رقيبان عتيدان أو ملكان موصوفان بأنهما رقيبان عتيدان وقيل لا حاجة إلى هذا التقدير بل الأولى جعل الوصفين لشيء واحد أي إلا لديه ملك موصوف بأنه رقيب عتيد أي حافظ حاضر (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) كلام مستأنف مسوق لبيان ما يلاقونه من الموت والبعث وما يترتب عليهما من الأهوال، وجاءت سكرة الموت فعل وفاعل وبالحق حال أي حال كونها ملتبسة بالحق فالباء للملابسة وقيل هي للتعدية يعني وأحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر الذي أنطق الله به كتبه وبعث به رسله ورجح الزمخشري هذا الوجه، وذلك مبتدأ وما خبر وكان واسمها ومنه متعلقان بتحيد وجملة تحيد خبر كنت وجملة كنت صلة ما وجملة ذلك ما كنت مقول قول محذوف أي ويقال له في وقت الموت ذلك الأمر الذي رأيته لا الذي كنت منه تحيد في حياتك فلم ينفعك الهرب وما أنجاك الفرار (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) عطف على وجاءت سكرة الموت ونفخ فعل ماض مبني للمجهول وفي الصور متعلقان بنفخ وذلك مبتدأ ويوم الوعيد خبره والإشارة إلى مصدر نفخ. [سورة ق (50) : الآيات 21 الى 30] وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 288 الإعراب: (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) الواو عاطفة وجاءت كل نفس فعل وفاعل ومعها ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم وسائق مبتدأ مؤخر وشهيد عطف على سائق والجملة الاسمية في محل رفع صفة لكل أو في محل نصب صفة لها أي معها من يسوقها ويشهد عليها ولك أن تجعلها حالية (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) الجملة مقول قول محذوف أي يقال لكل نفس واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وكان واسمها وفي غفلة خبرها ومن هذا متعلقان بغفلة والفاء حرف عطف وكشفنا فعل وفاعل وعنك متعلقان بكشفنا وغطاءك مفعول به والفاء عاطفة وبصرك مبتدأ واليوم ظرف متعلق بمحذوف حال وحديد خبر بصرك (وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) الواو عاطفة وقال قرينه فعل وفاعل والمراد بالقرين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 289 الملك الموكل به أو الشيطان الذي سوّل له الشر وهذا مبتدأ وما يجوز أن تكون نكرة موصوفة وعتيد صفتها ولدي ظرف متعلق بعتيد أي هذا شيء عتيد لدي أي حاضر عندي ويجوز على هذا أن يكون لدي وصفا لما وعتيد صفة ثانية أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو عتيد ويجوز أن تكون ما موصولة بمعنى الذي ولدي صلتها وعتيد خبر الموصول والموصول وصلته خبر اسم الإشارة ويجوز أن تكون ما بدلا من هذا موصولة أو موصوفة بلدي وعتيد خبر هذا، وجوّز الزمخشري في عتيد أن يكون بدلا أو خبرا بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف وفيما يلي نص إعراب الزمخشري قال: «فإن قلت: كيف إعراب هذا الكلام؟ قلت: إن جعلت ما موصوفة فعتيد صفة لها وإن جعلتها موصولة فهو بدل أو خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف» . وقال أبو البقاء: «قوله تعالى: هذا مبتدأ وفي ما وجهان أحدهما هي نكرة وعتيد صفتها ولدي معمول عتيد ويجوز أن يكون لدي صفة أيضا فيتعلق بمحذوف وما وصفتها خبر هذا والوجه الثاني أن تكون ما بمعنى الذي فعلى هذا تكون ما مبتدأ ولدي صلة وعتيد خبر ما والجملة خبر هذا ويجوز أن تكون ما بدلا من هذا ويجوز أن يكون عتيد خبر مبتدأ محذوف ويكون ما لدي خبرا عن هذا أي هو عتيد ولو جاء ذلك في غير القرآن لجاز نصبه على الحال» . (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) الجملة مقول قول محذوف أي يقال ألقيا، وألقيا فعل أمر مبني على حذف النون لاتصاله بألف الاثنين، قيل خاطب الملكين السائق والشهيد وقيل هو خطاب للواحد وأخرج الكلام مخرج الخطاب مع الاثنين لأن العرب من عادتهم إجراء خطاب الاثنين على الواحد والجمع فمن ذلك قول امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل وقول الآخر: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 290 فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر ... وإن ترعياني أحم عرضا ممنعا خاطب الواحد خطاب الاثنين وإنما فعلت العرب ذلك لأن الرجل يكون أدنى أعوانه اثنين: راعي إبله وراعي غنمه، وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة فجرى خطاب الاثنين على الواحد لمرور ألسنتهم عليه ويجوز أن يكون المراد به ألق ألق وقف قف فإلحاق الألف أمارة دالّة على أن المراد تكرير اللفظ كما قال أبو عثمان المازني في قوله تعالى: رب ارجعون، والمراد منه أرجعني أرجعني أرجعني فجعلت الواو علما مشعرا بأن المعنى تكرير اللفظ مرارا وقيل أراد ألقين وأراد امرؤ القيس فقن على جهة التأكيد فقلب النون ألفا في حال الوصل لأن هذه النون تقلب أيضا في حال الوقف فحمل الوصل على الوقف، ألا ترى أنك لو وقفت على قوله تعالى «لنسفعن» قلت: لنسفعا ومنه قول الأعشى: وصلّ على حين العشيات والضحى ... ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا أراد فاحمدن فقلب نون التوكيد ألفا. وفي جهنم متعلقان بألقيا وكلّ كفّار مفعول به وعنيد صفة لكفّار (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ) صفات متتابعة (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) الذي يجوز أن يكون بدلا من كل فيكون في محل نصب أو بدلا من كفّار فيكون في محل جر وأن يكون منصوبا على الذم وأن يكون مبتدأ فيكون في محل رفع وجملة جعل صلة ومع الله ظرف متعلق بمحذوف مفعول به ثان وإلها آخر مفعول به أول والفاء رابطة لشبه الموصول بالشرط في العموم، وألقياه فعل أمر وفاعل ومفعول به والجملة خبر الذي إذا جعلت خبرا والأول أرجح وفي العذاب متعلقان بألقياه والشديد نعت للعذاب (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) قال قرينه فعل وفاعل وربنا منادى مضاف وما نافية وأطغيته فعل وفاعل ومفعول به ولكن حرف استدراك مهمل لأنه خفّف وكان فعل ماض ناقص واسمها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 291 مستتر تقديره هو وفي ضلال متعلقان بمحذوف خبر كان وبعيد صفة لضلال وجملة قال قرينه مستأنفة ولذلك جاءت بلا واو، قال الزمخشري: «فإن قلت لم أخليت هذه الجملة عن الواو وأدخلت على الأولى قلت لأنها استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول كما رأيت في حكاية المقاولة بين موسى وفرعون فإن قلت: فأين التقاول هاهنا؟ قلت: لما قال قرينه هذا ما لديّ عتيد، وتبعه قوله: قال ربنا ما أطغيته، وتلاه: لا تختصموا لديّ، علم أن ثم مقاولة من الكافر لكنها طرحت لما يدل عليها كأنه قال رب هو أطغاني فقال قرينه ربنا ما أطغيته، وأما الجملة الأولى فواجب عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول أعني مجيء كل نفس مع الملكين وقول قرينه ما قال له» (قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) لا ناهية وتختصموا فعل مضارع مجزوم والجملة مقول القول ولدي ظرف متعلق بتختصموا والواو للحال وقد حرف تحقيق وقدمت فعل وفاعل وإليكم متعلقان بقدمت والباء في بالوعيد مزيدة مثلها في ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة أو معدية، على أن قدم مطاوع بمعنى تقدم ويجوز أن يقع الفعل على جملة قوله ما يبدل القول لدي وما أنا بظلّام للعبيد ويكون بالوعيد حالا أي قدمت إليكم هذا ملتبسا بالوعيد مقترنا به أو قدمته إليكم موعدا لكم به (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ما نافية ويبدل فعل مضارع مبني للمجهول والقول نائب فاعل ولدي ظرف متعلق بيبدل والواو حرف عطف وما نافية حجازية وأنا اسمها والباء حرف جر زائد وظلّام مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما وللعبيد متعلقان بظلّام (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) يوم لك في ناصبه وجهان: أن تجعله منصوبا باذكر مقدّرا أو تعلقه بظلام لأنه إذا لم يظلم في هذا اليوم فنفى الظلم عنه في غيره أولى وجملة نقول لجهنم في محل جر بإضافة الظرف إليه وجملة هل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 292 امتلأت مقول القول وتقول عطف على نقول وهل حرف استفهام ومن حرف جر زائد ومزيد مجرور لفظا مرفوع على الابتداء محلا وخبره محذوف تقديره موجود. البلاغة: 1- في قوله «فكشفنا عنك غطاءك» كناية عن الغفلة كأنها غطّت جميعه أو عينيه فهو لا يبصر، فإذا كانت القيامة زالت عنه الغفلة فتكشفت له الحقائق وانجلى عنه الرين الذي كان مسدولا أمامه فأبصر ما لم يكن يبصره في حياته، ويجوز أن يكون الغطاء استعارة تصريحية جعلت الغفلة كأنها غطاء غطى به جسده كله أو غشاوة غطى بها عينيه فهو لا يبصر شيئا. 2- الاستعارة المكنية: يجوز حمل قوله تعالى «يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد» على الاستعارة المكنية التخييلية، وعلى هذا درج المعتزلة ومن قال بقولهم من أهل السنّة، قال الزمخشري: «وسؤال جهنم وجوابها من باب التخييل الذي يقصد به تصوير المعنى في القلب وتثبيته، وفيه معنيان أحدهما أنها تمتلئ مع اتساعها وتباعد أطرافها حتى لا يسعها شيء ولا يزاد على امتلائها لقوله تعالى: لأملأنّ جهنم، والثاني أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها موضع للمزيد، ويجوز أن يكون هل من مزيد استكثارا للداخلين فيها أو طلبا للزيادة غيظا على العصاة والمزيد إما مصدر كالمحيد والمحيد وإما اسم مفعول كالمبيع» ويجوز حمله على الحقيقة، وقد جرى جمهور أهل السنّة على الحقيقة وأنكروا على الزمخشري وغيره إطلاق التخييل وقالوا هو منكر لفظا ومعنى. أما لفظا فلأنه من الألفاظ الموهمة في حق جلال الله تعالى وإن كانت معانيها صحيحة وأيّ إيهام الجزء: 9 ¦ الصفحة: 293 أشد من إيهام لفظ التخييل، ألا ترى كيف استعمله الله فيما أخبر أنه سحر وباطل في قوله يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فلا يشك في وجوب اجتنابه، وأما المعنى فلأن أهل السنّة يعتقدون أن سؤال جهنم وجوابها حقيقة وأن الله تعالى يخلق فيها الإدراك بذلك بشرطه. هذا وقد تعلق الشعراء بأهداب هذه البلاغة العالية وكان أول من رمق سماءها الفرزدق إذ قال في زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب في قصيدته التي أولها: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلّ والحرم فقال: يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم وتبعه أبو تمام: لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه ... لخرّ يلثم منه موطئ القدم وأخذه البحتري وأجاد: فلو أن مشتاقا تكلف فوق ما ... في سعة لسعى إليك المنبر ونهج المتنبي هذا النهج بقوله: لو تعقل الشجر التي قابلتها ... مدّت محيّية إليك الأغصنا أما في الجاهلية فقد ورد هذا المعنى في قول عنترة واصفا فرسه من معلقته: فازور من وقع القنا بلبانه ... وشكا إليّ بعبرة وتحمحم هذا ولا يفوتنّك ما في هذه الاستعارة من جمال التخييل الحسّي والتجسيم لجهنم المتغيظة والنهمة التي لا تشبع وقد تهافت عليها أولئك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 294 الذين كانوا يصمّون في دنياهم آذانهم عن الدعوة إلى الهدى، ويصرّون على غيّهم ولجاجهم وها هم الآن يستجيبون لدعوتها مرغمين. [سورة ق (50) : الآيات 31 الى 37] وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) اللغة: (وَأُزْلِفَتِ) وقربت تقول أزلفه: قربه وأزلف الأشياء: جمعها وأزلف الدليل القوم: حملهم على التقدم، وأزعجهم مزلفة بعد مزلفة أي مرحلة بعد مرحلة. (مَحِيصٍ) : معدل وفي القاموس: «حاص عنه يحيص حيصا وحيصة وحيوصا ومحيصا ومحاصا وحيصانا عدل وحاد كانحاص أو يقال للأولياء حاصوا وللأعداء انهزموا والمحيص المحيد والمعدل والمميل والمهرب ودابة حيوص نفور والحيصاء الضيقة الحياء» وقال في مادة بيص «ووقع في حيص بيص وحيص بيص وحيص بيص وحيص بيص بفتح أولهما وآخرهما وبكسرهما وبفتح أولهما وكسر آخرهما وقد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 295 يجريان في الثانية وفي حاص باص أي اختلاط لا محيص عنه وجعلتم الأرض عليه حيص بيص وحيصا بيصا ضيقتم عليه حتى لا يتصرف فيها» وحيص بيص لقب الشاعر التميمي شهاب الدين، وحيصة بيصة لفظتان رويتا عنه في وصفه زحمة الناس فتغلبتا على اسمه ولقب بهما، له شعر في الوصف والهجاء والمديح، لغته عربية قحة، توفي في بغداد سنة 1179 م. الإعراب: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) الواو حرف عطف وأزلفت فعل ماض مبني للمجهول والجنة نائب فاعل وللمتقين متعلقان بأزلفت وغير بعيد منصوب على الظرفية لقيامه مقام الظرف لأنه صفته أي مكانا غير بعيد، وأجاز الزمخشري نصبه على الحال قال: «وتذكيره لأنه على زنة المصدر كالزئير والصليل والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث أو على حذف الموصوف أي شيئا غير بعيد» (هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) هذا مبتدأ وما خبره وجملة توعدون صلة ولكل جار ومجرور بدل من قوله للمتقين بتكرير الجار وجملة هذا ما توعدون اعتراضية فصل بها بين البدل والمبدل منه (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) من بدل من كل بعد كون كل بدلا من المتقين إلا أنه بدل من المتقين أيضا لأن تكرر البدل مع كون المبدل منه واحدا لا يجوز، ويجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف أي هم من خشي أو مبتدأ خبره جملة ادخلوها بسلام كما سيأتي لأن من في معنى الجمع، وأجاز الزمخشري أن يكون منادى كقولهم من لا يزال محسنا أحسن إليّ، وحذف حرف النداء للتقريب وجملة خشي الرحمن صلة وبالغيب حال من المفعول به أي خشيه وهو غائب لا يعرفه (ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) الجملة مقول قول محذوف كما تقدم وادخلوها فعل وفاعل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 296 ومفعول به وبسلام حال من الفاعل أي سالمين من كل مخوفة فهي حال مقارنة وذلك مبتدأ ويوم الخلود خير (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) لهم خبر مقدم ما ومبتدأ مؤخر وجملة يشاءون صلة وفيها حال من الموصول أو متعلق بيشاءون ولدينا ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم ومزيد مبتدأ مؤخر (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لذكر إهلاك قرون ماضية وكم خبرية منصوبة بما بعدها على المفعولية وأهلكنا فعل وفاعل وقبلهم ظرف متعلق بمحذوف حال ومن قرن تمييز كم الخبرية وهم مبتدأ وأشد خبر والجملة صفة لكم أو لتمييزها ومنهم متعلقان بأشد وبطشا تمييز، فنقبوا الفاء عاطفة ونقبوا فعل وفاعل والعطف على المعنى كأنه اشتد بطشهم فنقبوا وفي البلاد متعلقان بنقبوا، وهل حرف استفهام ومن حرف جر زائد ومحيص مجرور لفظا مرفوع على الابتداء محلا والخبر محذوف تقديره لهم أو لغيرهم وجملة هل من محيص مقول قول محذوف وجملة القول حالية من واو نقبوا أي فنقبوا في البلاد قائلين هل من محيص (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) إن حرف مشبّه بالفعل وفي ذلك خبر إن المقدّم واللام المزحلقة للتأكيد وذكرى اسم إن ولمن متعلقان بمحذوف صفة لذكرى وجملة كان صلة وله خبر كان المقدم وقلب اسمها المؤخر وأو حرف عطف وألقى السمع فعل وفاعل مستتر ومفعول به والواو حالية وهو مبتدأ وشهيد خبر. البلاغة: في قوله تعالى «لمن خشي الرحمن بالغيب» إذ كيف تقترن الخشية باسم الرحمن الدّال على سعة الرحمة والجواب أن في ذلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 297 مبالغة في الثناء على الخاشي لأنه إذا خشيه وهو عالم بسعة رحمته فناهيك بخشيته التي ما بعدها خشية، كما أثنى عليه بالخشية مع أن المخشي منه غائب. [سورة ق (50) : الآيات 38 الى 45] وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) اللغة: (لُغُوبٍ) تعب وفي المختار «اللغوب بضمتين التعب والإعياء وبابه دخل، ولغب بالكسر لغوبا لغة ضعيفة» وفي المصباح أنه من باب قتل وفي القاموس: أنه من باب منع وكرم أيضا. (أَدْبارَ) بفتح الهمزة جمع دبر بضمتين وقرئ بكسر الهمزة على أنه مصدر قام مقام ظرف الزمان، وقد قرأها نافع وابن كثير وحمزة، وقال جماعة من الصحابة والتابعين: إدبار السجود الركعتان بعد المغرب وإدبار النجوم الركعتان قبل الفجر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 298 الإعراب: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق للردّ على اليهود الذين قالوا إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استراح واستلقى على العرش يوم السبت فلذلك تركوا العمل فيه. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وخلقنا فعل وفاعل والسموات مفعول به والأرض عطف على السموات وفي ستة أيام متعلقان بخلقنا والواو عاطفة أو حالية وما نافية ومسّنا فعل ماض ونا مفعول به ومن حرف جر زائد ولغوب مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه فاعل (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) الفاء الفصيحة واصبر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعلى ما يقولون متعلقان باصبر وسبّح فعل أمر وبحمد ربك حال من فاعل سبّح أي صلّ حامدا وقبل طلوع الشمس ظرف متعلق بسبّح وقبل الغروب عطف على الظرف (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) الواو عاطفة ومن الليل متعلق بسبّح والفاء عاطفة وسبّحه فعل أمر وفاعل مستتر والهاء مفعول به وأدبار السجود ظرف (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) عطف على ما تقدم واستمع فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ومفعوله محذوف أي واستمع نداء المنادي والظرف متعلق باستمع وقيل تقدير المفعول ما أقول لك فعلى هذا يكون يوم منصوبا بيخرجون مقدّرا مدلولا عليه بقوله ذلك يوم الخروج وحذفت ياء ينادي اتباعا للرسم والمناد فاعل وحذفت الياء في بعض القراءات للرسم أيضا ومن مكان متعلقان بينادي وقريب نعت والمنادي هو إسرافيل وقيل هو جبريل والنافخ إسرافيل ورجحه الشهاب الخفاجي (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) الظرف بدل من الظرف الأول وجملة يسمعون في محل جر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 299 بإضافة إذا إليها والصيحة مفعول به وبالحق حال من الواو في يسمعون أو من الصيحة وذلك مبتدأ ويوم الخروج خبر (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) إن واسمها ونحن ضمير فصل أو مبتدأ وجملة نحيي خبر إنا أو خبر نحن والجملة خبر إن وإلينا خبر مقدم والمصير مبتدأ مؤخر (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) الظرف بدل مما قبله ومنعه بعضهم لتعدده وعلّقه بالمصير وجملة تشقق في محل جر بإضافة الظرف إليها وأصل تشقق تتشقق وقرئ بتشديد الشين بإدغام التاء الثانية فيها والأرض فاعل وعنهم متعلقان بتشقق وسراعا حال من الضمير في عنهم وذلك مبتدأ وحشر خبر وعلينا متعلق بيسير ويسير خبر ذلك (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) نحن مبتدأ وأعلم خبر وبما متعلقان بأعلم وما موصولة أو مصدرية والواو حرف عطف وما نافية حجازية وأنت اسمها وعليهم متعلقان بجبار والباء حرف جر زائد وجبار مجرور بالباء لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) الفاء الفصيحة وذكر فعل أمر وبالقرآن متعلقان بذكر ومن مفعول به وجملة يخاف صلة ووعيد مفعول يخاف وحذفت ياء المتكلم اتباعا للرسم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 300 (51) سورة الذاريات مكيّة وآياتها ستّون [سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) اللغة: (الذَّارِياتِ) الرياح لأنها تذرو التراب وغيره أي تطيره. (الحاملات) السحاب لأنها تحمل المطر. (وِقْراً) بكسر الواو أي ثقلا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 301 (الْحُبُكِ) التكسر الذي يبدو على وجه الماء إذا ضربته الريح، قال البحتري يصف بركة المتوكل: إذا علتها الصبا أبدت لها حبكا ... مثل الجواشن مصقولا حواشيها وفي الكشاف: «الحبك: الطرائق مثل حبك الماء والرمل إذا ضربته الريح وكذلك حبك الشعر آثار تثنيه وتكسره قال زهير: مكلل بأصول النجم تنسجه ... ريح خريق لضاحي مائه حبك والدرع محبوكة لأن حلقها مطرّق طرائق» يصف زهير قطاة فرّت من صقر حتى استغاثت منه بماء قريب وقبله: حتى استغاثت بماء لا رشاء له ... من الأباطح في حافاته البرك وبعده: كما استغاث بسيء فزّ غيطلة ... خاف العيون فلم ينظر به الحشك يقول إن هذا الماء القريب لا رشاء له أي لا حبل يستقى به منه لعدم احتياجه إليه من الأباطح أي في الأمكنة المتسعة المستوية وفي حافّاته أي جوانبه والبرك جمع بركة وهو نوع من طير الماء يكلل ذلك الماء بأصول النجم أي النبات الذي لا ساق له وتنسجه أي تثنيه ثنيا منتظما كالنسج فهو استعارة تصريحية والخريق الباردة والشديدة السير والضاحي الفاهر والحبك الطرق في الماء إذا ضربته الريح جمع حبيكة، السيئ بالفتح والكسر اللبن في طرف الثدي والغزّ ولد البقر الوحشية والغيطلة الشجر الملتف وأضيف الغز إليها لأنه فيها والعيون هنا رقباء الصيد وحشكت الدرة باللبن حشكا وحشوكا امتلأت به وفيه دلالة على أنها كانت ظمأى. (الْخَرَّاصُونَ) الكذّابون والخرص الظن والحدس، يقال: كم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 302 خرص أرضك؟ بكسر الخاء، وأصل الخرص القطع من قولهم خرص فلان كلاما واخترصه إذا اقتطعه من غير أصل. (غَمْرَةٍ) الغمرة من غمره الماء يغمره إذا غطّاه والمراد بها هنا الجهل. الإعراب: (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) الواو حرف قسم وجر والذاريات مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وذروا مفعول مطلق والعامل فيه اسم الفاعل والمفعول محذوف (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) الفاء حرف عطف والحاملات عطف على الذاريات ووقرا مفعول به لاسم الفاعل ومن فتح الواو اعتبرها مصدرا بناء على تسمية المحمول به. (فَالْجارِياتِ يُسْراً) الفاء حرف عطف والجاريات عطف على ما قبله أيضا ويسرا مصدر في موضع الحال على رأي سيبويه أي جريا ذا يسر ويجوز أن يعرب صفة لمصدر محذوف نابت عنه فهو مفعول مطلق (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) الفاء عاطفة والمقسمات معطوف أيضا وأمرا مفعول به لاسم الفاعل (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) إن حرف مشبّه بالفعل وما اسم موصول اسمها وجملة توعدون صلة والعائد محذوف أي توعدونه واللام المزحلقة وصادق خبر إن ويجوز أن تكون ما مصدرية فتكون وما في حيزها مؤولة بمصدر هو اسم إن أي إن وعدكم لصادق والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) عطف على ما تقدم (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) الواو حرف قسم وجر وبالسماء مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وذات الحبك نعت للسماء (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) إن واسمها واللام المزحلقة وفي قول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 303 متعلقان بمحذوف خبر إن ومختلف نعت لقول والجملة لا محل لها أيضا لأنها جواب القسم (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) الضمير للقرآن أو للرسول أي يصرف عنه من صرف الصرف الذي لا صرف أشدّ منه وأعظم (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) الجملة دعائية لا محل لها وقتل فعل ماض مبني للمجهول والخرّاصون وهم مبتدأ وفي غمرة متعلقان بساهون وساهون خبرهم والجملة الاسمية لا محل لها لأنها صلة الموصول (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) يسألون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وأيّان اسم استفهام في محل نصب ظرف زمان وهو متعلق بمحذوف خبر مقدّم ويوم الدين مبتدأ مؤخر والجملة في محل نصب مفعول يسألون (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) يوم مفعول فيه ظرف زمان متعلق بفعل محذوف تقديره يقع أو يجيء وهم مبتدأ وجملة يفتنون خبره وعلى النار متعلقان بيفتنون وعلى بمعنى في والجملة في محل جر بإضافة يوم إليها، وسيأتي مزيد من هذا الإعراب في باب الفوائد (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) الجملة مقول قول محذوف أي ويقال لهم حين التعذيب: ذوقوا. وذوقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وفتنتكم مفعول به وهذا مبتدأ والذي اسم موصول خبره وجملة كنتم صلة وكان واسمها وبه متعلقان بتستعجلون وجملة تستعجلون خبر كنتم. البلاغة: 1- الكناية عن الموصوف: في قوله «يؤفك عنه من أفك» كناية عن موصوف وهو المكذب الجاحد للحق والضمير في عنه يعود للقرآن أو للرسول أي يصرف عنه من صرف صرفا لا أشد منه ولا أعظم وقيل يعود إلى يوم القيامة، أقسم بالذاريات على أن وقوع أمر القيامة حق ثم أقسم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 304 بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه فمنهم شاك ومنهم جاحد ثم قال يؤفك عن الإقرار بيوم القيامة من هو المأفوك، وفائدة الكناية هنا أنه لما خصص هذا بأنه هو الذي صرف أفهم أن غيره لم يصرف فكأنه قال: لا يثبت الصرف في الحقيقة إلا لهذا وكل صرف دونه يعتبر بمثابة المعدوم بالنسبة إليه. 2- الاستعارة المكنية: وفي قوله «ذوقوا فتنتكم» شبّه العذاب بطعام يؤكل ثم حذف المشبّه به واستعير له شيء من لوازمه وهو الذوق وقد تقدم نظيره، وقيل إن أصل معنى الفتنة إذابة الجوهر ليظهر غشّه ثم استعمل في التعذيب والإحراق، وفي القاموس: «الفتن بالفتح الفن والحال ومنه العيش فتنان أي لونان حلو ومر، والإحراق، ومنه على النار يفتنون» . الفوائد: قال الزجّاج: «يوم نصب على وجهين أحدهما أن يكون على معنى يقع الجزاء يوم هم على النار يفتنون والآخر أن يكون لفظه لفظ نصب ومعناه معنى رفع لأنه مضاف إلى جملة كلام، تقول يعجبني يوم أنت قائم ويوم أنت تقوم إن شئت فتحته وإن شئت رفعته كما قال الشاعر: لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ... حمامة في غصون ذات أرقال وروى غير أن نطقت بالرفع لما أضاف غير إلى أن وليست متمكّنة فتح وكذلك لما أضاف يوم إلى الجملة فتح. [سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 23] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 305 اللغة: (يَهْجَعُونَ) الهجوع الفرار من النوم أي القليل منه، وفي المختار: «الهجوع النوم ليلا وبابه خضع والهجعة: النومة الخفيفة ويقال أتيت فلانا بعد هجعة أي بعد نومة خفيفة من الليل» وقال الشاعر: قد حصت البيضة رأسي فما ... أطعم نوما غير تهجاع أسعى على جل بني مالك ... وكل امرئ في شأنه ساع والشعر لقيس الأسلت، وحصت: أهلكت أو حلقت البيضة التي تلبس على الرأس في الحرب أي حلقت شعر رأسي من دوام لبسها للحرب، وشبّه النوم بالمطعوم على طريق الاستعارة المكنية. الإعراب: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) إن واسمها وفي جنات متعلقان بمحذوف خبرها وعيون عطف على جنات (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 306 كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) آخذين حال من الضمير المستكن في خبر إن أي استقروا راضين بما أعطاهم مسرورين به وما اسم موصول في محل نصب مفعول به لآخذين وجملة آتاهم ربهم صلة وإن واسمها وجملة كانوا خبرها والجملة تعليل لما ذكر وقبل ذلك ظرف متعلق بمحسنين ومحسنين خبر كانوا (كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) الجملة تفسيرية لا محل لها لأنها تفسير لإحسانهم وكان واسمها وقليلا ظرف زمان متعلق بيهجعون أو صفة لمفعول مطلق محذوف أي هجوعا قليلا ومن الليل صفة قليلا وما زائدة لتأكيد القلة لذلك وصفهم بأنهم يحيون الليل متهجدين وجوّزوا أن تكون ما مصدرية في موضع رفع بقليلا أي كانوا قليلا هجوعهم وهو إعراب سهل حسن، وأن تكون ما موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف تقديره كانوا قليلا من الليل من الوقت الذي يهجعون فيه وفيه تكلف، وردّ بعضهم أن تكون ما مصدرية لأن قليلا حينئذ واقع على الهجوع لأنه فاعله وقوله من الليل لا يستقيم أن يكون صفة للقليل ولا بيانا له ولا يستقيم أن يكون من صلة المصدر لأنه تقدم عليه ولا كذلك على أنها موصولة فإن قليلا حينئذ واقع على الليل كأنه قال قليلا المقدار الذي كانوا يهجعون فيه من الليل فلا مانع أن يكون من الليل بيانا للقليل على هذا الوجه. ونص عبارة أبي البقاء «قوله تعالى «كانوا قليلا» في خبر كان وجهان أحدهما ما يهجعون وفي ما على هذا وجهان أحدهما هي زائدة أي كانوا يهجعون قليلا وقليلا نعت لظرف أو مصدر أي زمانا قليلا أو هجوعا قليلا والثاني هي نافية ذكره بعض النحويين ورد ذلك عليه لأن النفي لا يتقدم عليه ما في حيزه وقليلا من حيزه، والثاني أن قليلا خبر كان وما مصدرية أي كانوا قليلا هجوعهم كما تقول كانوا يقلّ هجوعهم ويجوز على هذا أن يكون ما يهجعون بدلا من اسم كان بدل الاشتمال ومن الليل لا يجوز أن يتعلق بيهجعون على هذا القول لما فيه من تقديم معمول المصدر عليه وإنما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 307 هو منصوب على التبيين أي يتعلق بفعل محذوف يفسّره يهجعون، وقال بعضهم تمّ الكلام على قوله قليلا ثم استأنف فقال من الليل ما يهجعون وفيه بعد لأنك إن جعلت ما نافية فسد لما ذكرنا وإن جعلتها مصدرية لم يكن فيه مدح لأن كل الناس يهجعون في الليل» (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) الواو حرف عطف وبالأسحار متعلقان بيستغفرون والباء بمعنى في وهم مبتدأ وجملة يستغفرون خبر وقدم متعلق الخبر لجواز تقديم العامل (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) الواو حرف عطف وفي أموالهم خبر مقدم وحق مبتدأ مؤخر وللسائل متعلقان بمحذوف صفة والمحروم عطف على السائل والجملة معطوفة على خبر كان فهي خبر ثالث (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) الواو عاطفة أو استئنافية وفي الأرض خبر مقدّم وآيات مبتدأ مؤخر وللموقنين صفة لآيات (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) الواو عاطفة وفي أنفسكم خبر حذف مبتدؤه لدلالة سابقه عليه والتقدير آيات والهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف مقدّر ولا نافية وتبصرون فعل مضارع مرفوع (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) الواو عاطفة وفي السماء خبر مقدّم ورزقكم مبتدأ مؤخر والواو عاطفة وما موصولة عطف على رزقكم وتوعدون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل والجملة صلة والعائد محذوف (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) الفاء استئنافية والواو حرف قسم وجر وربّ السماء مجرور بالواو والأرض عطف على السماء والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وإن واسمها واللام المزحلقة وحق خبرها ومثل بالنصب صفة لمفعول مطلق محذوف أي إنه الحق، حقا مثل نطقكم، ويجوز أن يكون منصوبا على الحال من الضمير المستكن في لحق وقيل حال من لحق وإن كان نكرة فقد أجاز ذلك الجرمي وسيبويه في مواضع من كتابه والنطق هنا عبارة عن الكلام بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني ويقول الناس هذا حق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 308 كما أنك هاهنا وهذا حق كما أنك ترى وتسمع. وما زائدة نصّ على ذلك الخليل وقيل نكرة موصوفة في محل جر بالإضافة إلى مثل وقيل إنه لما أضاف فعل إلى مبني وهو قوله أنكم بناه كما بنى يومئذ في نحو قوله من عذاب يومئذ وعلى حين عاتبت المشيب على الصبا وقوله الآنف: لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ... حمامة في غصون ذات أرقال فغير في موضع رفع بأنه فاعل يمنع وإنما بنيت هذه الأسماء المبهمة نحو مثل ويوم وحين وغير إذا أضيفت إلى المبني لأنها تكتسي منه البناء لأن المضاف يكتسي من المضاف إليه ما فيه من التعريف والتنكير والجزاء والاستفهام تقول هذا غلام زيد وصاحب القاضي فيتعرف الاسم بالإضافة إلى المعرفة وتقول غلام من يضرب فيكون استفهاما وتقول صاحب من يضرب أضرب فيكون جزاء وقرئ بالرفع على أنه صفة لحق. وإن واسمها وجملة تنطقون خبرها وجملتها في محل جر بالإضافة وإذا جعلت ما نكرة موصوفة فتكون الجملة خبرا لمبتدأ محذوف أي هو أنكم. البلاغة: في قوله «فوربّ السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون» فن القسم وقد مرّت الإشارة إليه، وأنه عبارة عن أن يريد المتكلم الحلف على شيء فيحلف بما يكون فيه فخر له أو تعظيم لشأنه أو تنويه بقدره أو ما يكون ذما لغيره أو جاريا مجرى الغزل والترقق أو خارجا مخرج الموعظة والزهد، فقد أقسم سبحانه بقسم يوجب الفخر لتضمنه التمدح بأعظم قدرة وأجلّ عظمة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 309 الفوائد: روى الأصمعي قال: أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على مقود له فقال: من الرجل؟ قلت: من بني أجمع قال: من أين أقبلت؟ فقلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، فقال اتل عليّ، فتلوت والذاريات ... فلما بلغت قوله تعالى وفي السماء رزقكم قال: حسبك فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولّى فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت دقيق فالتفت فإذا الأعرابي قد نحل واصفرّ فسلّم علي واستقرأ السورة فلما بلغت الآية صاح وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ثم قال وهل غير هذا فقرأت: فورب السماء والأرض إنه لحق فصاح وقال يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف ولم يصدّقوه بقوله حتى ألجئوه إلى اليمين قالها ثلاثا وخرجت معها نفسه. [سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 37] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 310 اللغة: (ضَيْفِ) الضيف: للواحد والجماعة لأنه في الأصل مصدر كالزور والصوم قيل كانوا اثني عشر ملكا وفي القاموس: «الضيف للواحد والجميع وقد يجمع على أضياف وضيوف وضيفان وهي ضيف وضيفة» أما الضيفن فهو من يجيء مع الضيف متطفلا وفي الأساس: ضاف إليه: مال إليه وضاف عنه: مال عنه وضاف السهم عن الهدف وضافت الشمس وضيّفت وتضيفت: مالت إلى الغروب وقال بشر: طاو برملة أورال تضيفه ... إلى الكناس عشيّ بارد صرد أي أماله إليه، والناقة تضيف إلى الفحل والجارية تضيف إلى الرجل: تستأنس إلى صوته وتريد أن تأتيه وأضف ظهرك إلى الحائط، قال امرؤ القيس: فلما دخلناه أضفنا ظهورنا ... إلى كل حاري جديد مشطّب ونزلوا بضيف الوادي: بناحيته وتضايفوا الوادي: أتوا ضيفه، وضافني وتضيفني، قال الفرزدق: ومنّا خطيب لا يعاب وقائل ... ومن هو يرجو فضله المتضيف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 311 وأضفته وضيّفته وهو ضيف وكذلك الجميع وهم ضيوف وأضياف وضيفان. (فَراغَ) راغ: ذهب في خفية وهذا من أدب المضيف ليباده ضيفه بقراه وفي المصباح «وراغ الثعلب روغا من باب قال وروغانا ذهب يمنة ويسرة في سرعة وخديعة فهو لا يستقر في جهة وراغ فلان إلى كذا مال إليه سرّا» . (فَأَوْجَسَ) أضمر في نفسه. (صَرَّةٍ) بفتح الصاد هي شدّة الصياح والرنّة والتأوّه من حرّ الجند وصرّ القلم والباب وقيل: جماعة من الناس، وفي الصحاح: «الصرة: الضجة والصحة والصرة: الجماعة والصرّة الشدّة من حرب وغيره» . (فَصَكَّتْ) اختلف في الصك فقيل هو الضرب باليد مبسوطة وقيل هو ضرب الوجه بأطراف الأصابع مثل المتعجب وهي عادة النساء إذا أنكرن شيئا، وأصل الصك ضرب الشيء بالشيء العريض. (خَطْبُكُمْ) شأنكم والخطب في الأصل الأمر الجلل ومنه الخطبة لأنها كلام بليغ يستهدف أمورا جليلة. (مُسَوَّمَةً) معلمة من السومة وهي العلامة. الإعراب: (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) هل حرف استفهام والاستفهام هنا معناه التفخيم والتنبيه على أن الحديث ليس من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما عرفه بالوحي، وأتاك فعل ومفعول به مقدم وضيف إبراهيم مضاف إلى الحديث والمكرمين نعت لضيف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 312 (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) إذ ظرف لما مضى من الزمن نصب بالمكرمين لأن إبراهيم أكرمهم أو فيما في ضيف من معنى الفعل أو بإضمار اذكر أو بحديث أي هل أتاك حديثهم وقت دخولهم عليه ورجحه ابن هشام لأنه مصدر فيه رائحة الفعل وجملة دخلوا في محل جر بإضافة الظرف إليها وعليه متعلقان بدخلوا، فقالوا معطوف على دخلوا وسلاما مفعول مطلق استغني عن فعله لأنه سدّ مسدّه وأصله نسلّم عليكم سلاما وقال فعل ماض وفاعل مستتر تقديره هو وسلام مبتدأ ساغ الابتداء به مع أنه نكرة لتضمنه معنى الدعاء وإنما عدل إلى الرفع بالابتداء لقصد الثبات وديمومة السلام حتى تكون تحيته أحسن من تحيتهم والخبر محذوف تقديره سلام عليكم، وقرئا مرفوعين، وقوم خبر لمبتدأ محذوف تقديره وأنتم أو هم ومنكرون صفة لقوم (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) الفاء عاطفة على مقدّر يقتضيه السياق أي فبادر إلى إكرامهم دون أن يشعرهم لأن من أدب الضيافة أن يباده المضيف ضيوفه بالقرى من غير أن يشعروا به حذرا من أن يكفوه فراغ. وراغ فعل ماض وفاعل مستتر وإلى أهله متعلقان براغ، فجاء عطف للتعقيب وبعجل متعلقان بجاء وسمين صفة لعجل (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ) عطف على ما تقدم وإليهم متعلقان بقربه وألا أداة استفهام ولا نافية والاستفهام معناه العرض أو الإنكار وتأكلون فعل مضارع مرفوع والجملة مقول القول (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) الفاء عاطفة على مقدّر يقتضيه السياق أي فلما رأى امتناعهم وإصرارهم على الامتناع أوجس منهم خيفة ظنا منه أنهم يريدون إيقاع السوء به وخيفة مفعول أوجس (قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) لا ناهية وتخف فعل مضارع مجزوم بلا وبشّروه فعل ماض وفاعل ومفعول به وبغلام متعلقان ببشروه وعليم نعت غلام (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) عطف أيضا على مقدّر لا بدّ منه، أي لما سمعت سارة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 313 امرأة إبراهيم البشارة أقبلت وهي تصيح وامرأته فاعل فأقبلت وفي صرة متعلقان بمحذوف حال أي صارّة، فصكت عطف على فأقبلت ووجهها مفعول به وقالت عطف أيضا وعجوز خبر لمبتدأ محذوف أي أنا عجوز وعقيم صفة أي أنا عجوز عاقر فكيف ألد؟ وعقيم فعيل بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث أي معقومة كأنما شدّت برباط ويقال رجل عقيم أيضا قال: عقم النساء فما يلدن شبيهه ... إن النساء بمثله عقيم (قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) قالوا فعل وفاعل وكذلك جار ومجرور في موضع نصب صفة لمصدر محذوف أي قولا مثل ذلك الذي قلنا، وقال ربك فعل وفاعل وإن واسمها وهو ضمير فصل أو عماد لا محل له والحكيم العليم خبران لإن (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) قال فعل ماض وفاعله مستتر أي إبراهيم والفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدر أي إن كنتم ملائكة كما تقولون فما شأنكم؟ وما اسم استفهام مبتدأ وخطبكم خبر وأيها منادى محذوف منه حرف النداء وهو مبني على الضم لأنه نكرة مقصودة والهاء للتنبيه والمرسلون بدل (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) إن واسمها وجملة أرسلنا خبر ونا نائب فاعل وجملة أرسلنا خبر إنّا وإن وما في حيزها مقول القول وإلى قوم متعلقان بأرسلنا ومجرمين نعت (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) اللام للتعليل ونرسل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والفاعل مستتر تقديره نحن وعليهم متعلقان بنرسل وحجارة مفعول به ومن طين نعت لحجارة ولام التعليل ومجرورها متعلقان بأرسلنا (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) مسومة صفة ثانية لحجارة أو حال منها لأنها وصفت بالجار والمجرور وعند ربك الظرف متعلق بمسومة وللمسرفين متعلقان بمسومة أيضا (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 314 الْمُؤْمِنِينَ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جمل قد حذفت، وأخرجنا فعل وفاعل ومن مفعول وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هم وفيها خبرها ومن المؤمنين حال وجملة كان صلة الموصول لا محل لها والضمير بقوله فيها يعود إلى قرى قوم لوط ولم يجر لها ذكر لكونها معلومة (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الفاء عاطفة وما نافية ووجدنا فعل وفاعل وغير بيت مفعول به ومن المسلمين صفة وهم لوط وابنتاه وقد وصفوا بالإيمان والإسلام لأنهم مصدقون بقلوبهم عاملون بجوارحهم (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) الواو عاطفة وتركنا فعل وفاعل وفيها متعلقان بتركنا وآية مفعول به وللذين صفة لآية وجملة يخافون العذاب الأليم صلة الموصول. البلاغة: 1- الاستفهام التقريري: في قوله «هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين» استفهام تقريري لتفخيم الحديث ولتجتمع نفس المخاطب كما تبدأ المرء إذا أردت أن تحدّثه بعجيب فتقرره هل سمع ذلك أم لا فكأنك تقتضي أن يقول لا ويطلب منك الحديث. 2- الحذف: وفي قوله «قوم منكرون» الحذف وقد اختلف في تقدير المبتدأ المحذوف فقيل إن الذي يناسب حال إبراهيم عليه السلام أنه لا يخاطبهم بذلك إذ فيه من عدم الأنس ما لا يخفى بل يظهر أنه يكون التقدير هؤلاء قوم منكرون وقال ذلك مع نفسه أو لمن كان معه من أتباعه وغلمانه بحيث لا يسمع ذلك الأضياف وقيل أنكرهم لأنهم ليسوا من معارفه أو من جنس الناس الذين عهدهم أو رأى لهم حالا وشكلا خلاف حال الناس وشكلهم أو كان هذا سؤالا لهم كأنه قال أنتم قوم منكرون فعرّفوني من أنتم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 315 3- المجاز المرسل: في قوله «قالوا لا تخف وبشّروه بغلام عليم» مجاز مرسل فقد سمي الغلام عليما باعتبار ما يئول إليه أمره إذا كبر. [سورة الذاريات (51) : الآيات 38 الى 42] وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) اللغة: (بِرُكْنِهِ) الركن: الجانب الذي يعتمد عليه، وفي القاموس: «ركن إليه كنصر وعلم ومنع ركونا حال وسكن، والركن بالضم الجانب الأقوى والأمر العظيم وما يقوّى به من ملك وجند وغيره والعز والمنعة» ومعنى تولى بركنه: أعرض وازور وانحرف راكبا رأسه. (بِرُكْنِهِ) الركن: الجانب الذي يعتمد عليه، وفي القاموس: «ركن إليه كنصر وعلم ومنع ركونا حال وسكن، والركن بالضم الجانب الأقوى والأمر العظيم وما يقوّى به من ملك وجند وغيره والعز والمنعة» ومعنى تولى بركنه: أعرض وازور وانحرف راكبا رأسه. (مُلِيمٌ) المليم الذي أتى بما يلام عليه من عناد ولجاج والملوم الذي وقع به اللوم وفي المثل: ربّ لائم مليم ورب ملوم لا ذنب له. الإعراب: (وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) الواو عاطفة وفي موسى عطف على قوله فيها بإعادة الجار لأن المعطوف عليه ضمير مجرور فيتعلق بتركنا من حيث المعنى ويكون التقدير وتركنا في قصة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 316 موسى آية ويجوز أن يتعلق بجعلنا مقدّرة لدلالة وتركنا، وأجاز ذلك الزمخشري قال أو يعطف على وتركنا فيها آية على معنى وجعلنا في موسى آية كقوله: «علفتها تبنا وماء باردا» واعترضه أبو حيان فقال: «ولا حاجة إلى إضمار وجعلنا لأنه يمكن أن يكون العامل في المجرور وتركنا» وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بمحذوف لأنه نعت لآية أي آية كائنة في وقت إرسالنا ولك أن تعلقه بتركنا، وجملة أرسلناه في محل جر بإضافة الظرف إليها وإلى فرعون متعلقان بأرسلناه وبسلطان متعلقان بمحذوف حال أي مؤيدا ومبين نعت سلطان (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) الفاء حرف عطف وتولى فعل ماض وفاعله مستتر يعود إلى فرعون وبركنه حال من ضمير فرعون وقال عطف على تولى وساحر خبر لمبتدأ محذوف أي هو ساحر وأو حرف عطف للإبهام على السامع أو للشك نزل نفسه منزلة الشاك مع أنه يعرفه نبيا حقا تمويها على قومه ومجنون عطف على ساحرَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ) الفاء حرف عطف وأخذناه فعل وفاعل ومفعول به وجنوده يجوز أن يكون معطوفا على مفعول أخذناه وهو الأولى وأن يكون مفعولا معه، فنبذناهم في اليمّ عطف على أخذناه وفي اليم متعلقان بنبذناه، وهو الواو للحال وهو ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ ومليم خبر والجملة في محل نصب حال من مفعول نبذناهم أو من مفعول أخذناه والفرق بين الحالين أن الواو في الأولى واجبة لازمة إذ ليس فيها ذكر ضمير يعود على صاحب الحال وفي الثانية ليست واجبة لازمة إذ في الجملة ذكر ضمير يعود عليه (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) عطف على ما تقدم ويقال فيها ما قيل في: وفي موسى إذ أرسلناه، وعليهم متعلقان بأرسلنا والريح مفعول به والعقيم نعت للريح (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) ما نافية وتذر فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هي أي الريح والجملة حال من الريح ومن حرف جر زائد وشيء مجرور الجزء: 9 ¦ الصفحة: 317 لفظا منصوب محلا لأنه مفعول به وجملة أتت عليه صفة لشيء وإلا أداة حصر وجعلته فعل وفاعل مستتر ومفعول به والجملة في موضع المفعول الثاني لتذر كأنه قيل ما تترك من شيء إلا مجعولا، وكالرميم جار ومجرور في موضع المفعول الثاني لجعلته أو الكاف اسم بمعنى مثل مفعول به والرميم مضاف إليه. البلاغة: الاستعارة المكنية: في قوله «كالريح العقيم» استعارة مكنية، شبّه ما في الريح من الصفة التي تمنع من إنشاء مطر أو إلقاح شجر بما في المرأة من الصفة المذكورة التي تمنع الحمل ثم قيل العقيم وأريد به ذلك المعنى بقرينة وصف الريح به فالمستعار له الريح والمستعار منه ذات النتاج والمستعار العقم وهو عدم النتاج والمشاركة بين المستعار له والمستعار منه في عدم النتاج وهي استعارة محسوس لمحسوس للاشتراك في أمر معقول وهي من ألطف الاستعارات. [سورة الذاريات (51) : الآيات 43 الى 48] وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) اللغة: (الصَّاعِقَةُ) التي تقع من السماء والصاعقة التي تصقع الرءوس، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 318 وقال الأصمعي الصاعقة والصاقعة سواء وأنشد: يحكون بالمصقولة القواطع ... تشقق البرق من الصواقع وأما الصعقة فقيل أنها مثل الزجرة وهو الصوت الذي يكون عن الصاعقة، قال بعض الرجّاز: لاح سحاب فرأينا برقه ... ثم تدانى فسمعنا صعقه وفي المختار: «الصاعقة نار تسقط من السماء في رعد شديد، يقال صعقتهم السماء من باب قطع إذا ألقت عليهم الصاعقة والصاعقة أيضا صيحة العذاب» . الإعراب: (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) عطف على ما تقدم أيضا وجملة تمتعوا مقول القول وحتى حرف غاية وجر وحين مجرور بحتى والجار والمجرور متعلقان بتمتعوا (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) الفاء حرف عطف للترتيب الإخباري وعتوا فعل وفاعل وعن أمر ربهم متعلقان بعتوا، فأخذتهم الصاعقة عطف على عتوا والواو للحال وهم مبتدأ وجملة ينظرون خبر والجملة في محل نصب على الحال (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) الفاء عاطفة وما نافية واستطاعوا فعل وفاعل ومن حرف جر زائد وقيام مجرور لفظا منصوب محلا لأنه مفعول به والواو عاطفة وما نافية وكانوا فعل ماض ناقص والواو اسمها ومنتصرين خبرها (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) الواو عاطفة وقوم منصوب بفعل محذوف مفهوم ضمنا أي وأهلكنا قوم نوح ولك أن تقدّره واذكر قوم نوح وقرئ بالجر عطفا على وفي ثمود، ومن قبل: من حرف جر وقبل ظرف مبني على الضم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 319 لانقطاعه عن الإضافة لفظا لا معنى والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال وإن واسمها وجملة كانوا قوما فاسقين خبرها وجملة إن وما بعدها لا محل لها لأنها تعليل لهلاكهم (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) الواو عاطفة والسماء نصب على الاشتغال والتقدير بنينا السماء بنيناها، وبنيناها فعل وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها لأنها مفسّرة وجملة بنينا السماء عطف على الجملة الفعلية السابقة ولذلك ترجح النصب وقرأ العامة ولم يقرأ بالرفع إلا اثنان من غير السبعة وهو أبو السمال وابن مقسم، وبأيد يجوز أن يتعلق بمحذوف حال من فاعل بنيناها أي ملتبسين بقوة أو من مفعوله أي ملتبسة بقوة ويجوز أن يتعلق ببنيناها فتكون الباء للسببية أي بسبب قدرتنا، والواو حالية وإن واسمها واللام المزحلقة وموسعون خبرها والجملة في محل نصب على الحال من فاعل بنيناها أو من مفعوله ومعنى موسعون قادرون من الوسع وهو الطاقة والموسع القوي على الإنفاق وفي المصباح: «وسع الله عليه رزقه يوسع بالتصحيح وسعا من باب نفع بسطه وكثره وأوسعه ووسعه بالألف والتشديد مثله وأوسع الرجل بالألف صار ذا سعة وغنى» (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) عطف على الجملة السابقة ويجري إعرابها كما جرى هناك، فنعم الفاء عاطفة ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح والماهدون فاعل نعم والمخصوص بالمدح محذوف أي نحن فالجملة خبر له. [سورة الذاريات (51) : الآيات 49 الى 60] وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 320 اللغة: (فَفِرُّوا) في المصباح: «فرّ من عدوه يفرّ من باب ضرب فرارا هرب وفرّ الفارس فرّا أوسع الجولان للانعطاف وفرّ إلى الشيء ذهب إليه» . (أَتَواصَوْا) التواصي: أن يوصي القوم بعضهم إلى بعض والوصية المتقدمة في الأمر بالأشياء المهمة مع النهي عن المخالفة. (ذَنُوباً) : الذنوب بفتح الذال الدلو العظيمة وقال الراغب: «الذنوب الدلو الذي له ذنب» وهو يؤنث ويذكّر قال: لنا ذنوب ولكم ذنوب ... فإن أبيتم فلنا القليب وقال علقمة: وفي كل حيّ قد ضبطت بنعمة ... فحقّ لشاس من نداك ذنوب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 321 الإعراب: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) الواو عاطفة ومن كل شيء يجوز أن يتعلق بخلقنا أي خلقنا من كل زوجين ويجوز أن يتعلق بمحذوف حال من زوجين لأنه في الأصل صفة له والتقدير خلقنا زوجين كائنين من كل شيء، وخلقنا فعل وفاعل وزوجين مفعول به ولعل واسمها وجملة تذكرون خبرها والأصل تتذكرون حذفت إحدى التاءين من الأصل (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) الفاء الفصيحة أي إذا علمتم أن الله تعالى فرد لا نظير له ولا نديد ففروا إليه ووحدوه ولا تشركوا به شيئا ولا بدّ من تقدير مضاف محذوف أي إلى ثوابه، وفرّوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وإلى الله متعلقان بفرّوا وإن واسمها ولكم متعلقان بنذير وكذلك يتعلق منه ولك أن تعلقه بمحذوف على أنه حال من نذير لأنه في الأصل صفة له ونذير خبر إني ومبين نعت نذير (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) الواو عاطفة ولا ناهية وتجعلوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعله ومع الله ظرف مكان متعلق بمحذوف في موضع المفعول الثاني وإلها مفعول تجعلوا الأول وآخر نعت إلها وإني لكم منه نذير مبين تقدم إعرابها وهذه الجملة تكرير للتأكيد فالأولى مرتبة على ترك الإيمان والطاعة والثانية مرتبة على الإشراك (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) الكاف خبر مبتدأ محذوف أي الأمر والشأن وما نافية وأتى فعل ماض والذين مفعوله المقدم ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صلة الذين ومن حرف جر زائد ورسول مجرور بمن لفظا مرفوع محلا لأنه فاعل والجملة لا محل لها لأنها مفسرة وإلا أداة حصر وقالوا فعل وفاعل وساحر خبر لمبتدأ محذوف تقديره أنت وأو حرف عطف ومجنون عطف على ساحر وقد تقدم معنى العطف وجملة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 322 إلا قالوا في محل نصب على الحال من الذين من قبلهم كأنه قيل ما أتى الذين من قبلهم رسول إلا في حال قولهم هو ساحر أو مجنون (أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي التعجبي وتواصوا فعل ماض وفاعل والواو فاعل تواصوا وبه متعلقان بتواصوا وبل حرف إضراب وعطف وهم مبتدأ وقوم خبر وطاغون نعت قوم (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) الفاء الفصيحة أي إن كان هذا شأنهم وقد بلوته وخبرته بنفسك فتولّ عنهم، فتولّ فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت وعنهم متعلقان بتول والفاء تعليلية للأمر وما نافية حجازية وأنت اسمها والباء حرف جر زائد وملوم مجرور لفظا منصوب محلا لأنه خبر ما (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة وذكر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والفاء تعليل للأمر وإن واسمها وجملة تنفع المؤمنين خبرها (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الواو عاطفة وما نافية وخلقت فعل وفاعل والجن مفعول به والإنس عطف على الجن وإلا أداة حصر واللام للتعليل أو للعاقة ويعبدون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام التعليل وعلامة نصبه حذف النون والنون المذكورة للوقاية والواو فاعل وياء المتكلم المحذوفة في محل نصب مفعول به ولام التعليل ومدخولها متعلقان بخلقت وسيأتي مزيد بحث لهذه الآية التي شجر الخلاف حولها (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) ما نافية وأريد فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا ومنهم متعلقان بأريد ومن حرف جر زائد ورزق مجرور لفظا منصوب محلا لأنه مفعول أريد والواو حرف عطف وما أريد عطف على مثيلتها وأن حرف مصدري ونصب ويطعمون فعل مضارع منصوب بأن وياء المتكلم المحذوفة مفعول به وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول به أي وما أريد إطعامهم إياي (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) إن واسمها وهو ضمير فصل لا محل له والرزاق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 323 خبر إن الأول وذو القوة خبر ثان والمتين خبر ثالث وقيل نعت للرزاق أو لذو (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) الفاء الفصيحة أي إذا عرفت حال الكفرة الآنف ذكرهم مثل عاد وثمود وقوم نوح فإن لهؤلاء المكذبين نصيبا مثل نصيبهم وسيأتي مزيد من هذا البحث في باب البلاغة، وإن حرف مشبه بالفعل وللذين جار ومجرور في محل نصب خبر مقدم لإن وجملة ظلموا صلة الموصول وذنوبا اسم إن المؤخر ومثل ذنوب أصحابهم صفة لذنوبا والفاء عاطفة لترتيب النهي عن الاستعجال ولا ناهية ويستعجلون فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والنون المذكورة المكسورة للوقاية والياء المحذوفة مفعول به (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) الفاء عاطفة لترتيب ثبوت الويل أي العذاب الشديد لهم وويل مبتدأ ساغ الابتداء به لما تضمنه من معنى الدعاء وللذين خبره وجملة كفروا صلة الموصول ومن يومهم صفة لويل وقرر الجلال أنها بمعنى في وهو أحد معاني من التي أنهاها صاحب المغني إلى خمسة عشر معنى ومثّل لذلك بقوله تعالى «إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة» أي في يوم الجمعة، والذي صفة ليومهم ويوعدون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وجملة يوعدون صلة الذي. البلاغة: 1- في قوله الجن والإنس طباق ومعنى إلا ليعبدون أي إلا مهيئين ومستعدين للعبادة، ذلك أنني خلقت فيهم العقل وركزت فيهم الحواس والقدرة التي تمكّنهم من العبادة وهذا لا ينافي تخلّف العبادة بالفعل من بعضهم لأن هذا البعض المتخلّف وإن لم يعبد الله مركوز فيه الاستعداد والتهيؤ الذي هو الغاية في الحقيقة، وقد شجر خلاف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 324 بين أهل السنّة والاعتزال حول هذه الآية والواقع أنه لا خلاف لأن الآية إنما سيقت لبيان عظمته سبحانه وإن شأنه مع عبيده لا يقاس به شأن عبيد الخلق معهم فإن عبيدهم مطلوبون بالخدمة والتكسب للسادة وبواسطة مكاسب عبيدهم قدر أرزاقهم والله تعالى لم يطلب من عباده رزقا ولا إطعاما وإنما يطلب منهم عبادته ليس غير وزيادة على كونه لا يطلب منهم رزقا إنه هو الذي يرزقهم وهناك حجج يضيق عنها صدر هذا الكتاب فلتطلب في مظانها. 2- الاستعارة التمثيلية التصريحية: وفي قوله «فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون» استعارة تمثيلية تصريحية لأن الأصل فيه السقاة الذين يتقسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب قال: لنا ذنوب ولكم ذنوب ... فإن أبيتم فلنا القليب ولما قال عمرو بن شاس: وفي كل حيّ قد خبطت بنعمة ... فحقّ لشأس بعد ذاك ذنوب قال الملك نعم وأذنبة: وعبارة المبرد في الكامل: «وأصل الذنوب الدلو كما ذكرت لك وقال علقمة بن عبدة للحارث بن أبي شمر الغساني (وبعضهم يقول شمر وبعضهم يقول شمر) وكان أخوه أسيرا عنده وهو شأس بن عبدة أسره في وقعة عين أباغ (وبعضهم يقول إباغ) في الوقعة التي كانت بينه وبين المنذر بن ماء السماء في كلمة له مدحه فيها: وفي كل حيّ قد خبطت بنعمة ... فحقّ لشأس من نداك ذنوب فقال الملك: نعم وأذنبة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 325 (52) سورة الطور مكيّة وآياتها تسع وأربعون [سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) اللغة: (الطُّورِ) جبل معروف وقيل إن الطور كل جبل ينبت الشجر المثمر وما لا ينبت فليس بطور، وقال المبرد: «يقال لكل جبل طور فإذا دخلت الألف واللام للمعرفة فهو لشيء بعينه» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 326 (مَسْطُورٍ) متفق الكتابة بسطور مصفوفة في حروف مرتبة وفي المختار: «السطر الصف من الشيء يقال بنى سطرا والسطر أيضا الخط والكتابة وهو في الأصل مصدر وبابه نصر وسطر أيضا بفتحتين والجمع أسطار كسبب وأسباب وجمع الجمع أساطير وجمع السطر أسطر وسطور كأفلس وفلوس» . (رَقٍّ) الرق بالفتح والكسر جلد رقيق يكتب فيه وجمعه رقوق والرق بالكسر المملوك وعبارة الراغب «الرق كل ما يكتب فيه جلدا كان أو غيره وهو بفتح الراء على الأشهر ويجوز كسرها كما قرئ شاذا وأما الرق الذي هو ملك الأرقاء فهو بالكسر لا غير» وقال الزمخشري: «والرق: الصحيفة وقيل الجلد الذي يكتب فيه الكتاب الذي يكتب فيه الأعمال» . (الْمَسْجُورِ) المملوء بالماء. (تَمُورُ) تضطرب وتجيء وتذهب وفي المختار: «مار من باب قال تحرك وذهب ومنه قوله تعالى: يوم تمور السماء مورا قال الضحاك: تموج موجا وقال أبو عبيدة والأخفش تكفّأ» . (اصْلَوْها) في المصباح صلي بالنار وصليها صلى من باب تعب وجد حرها والصلاء وزان كتاب حر النار وصليت اللحم أصليه من باب رمى شويته. (يُدَعُّونَ) الدع هو الدفع وقيل هو أن تغل الأيدي إلى الأعناق وتجمع النواحي إلى الأقدام ثم يدفعون دفعا عنيفا على وجوههم، وفي المختار: «دعه دفعه وبابه ردّ ومنه قوله تعالى «فذلك الذي يدع اليتيم» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 327 الإعراب: (وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) الواو حرف قسم وجر وهي أقسام خمسة جوابها إن عذاب ربك لواقع والواو الأولى للقسم والواوات بعدها للعطف أو كل واحدة منها للقسم وفي رق متعلقان بمسطور أو نعت آخر لكتاب (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) عطف على قوله والطور أو كل منها قسم مستقل بنفسه وجوابها جميعا قوله: (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) إن واسمها واللام المزحلقة وواقع خبر إن (ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) ما نافية وله خبر مقدم ومن حرف جر زائد ودافع مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ مؤخر، وهذه الجملة خبر ثان لإن أو صفة لواقع (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) الظرف متعلق بواقع أي يقع العذاب في ذلك اليوم وتكون جملة النفي معترضة بين العامل ومعموله وقيل الظرف متعلق بدافع وجملة تمور السماء في محل جر بإضافة الظرف إليها ومورا مفعول مطلق (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) الجملة عطف على جملة تمور السماء مورا (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) الفاء الفصيحة لأن في الكلام معنى المجازاة والتقدير إذا كان ما ذكر فويل لمن يكذب الله ورسوله، وويل مبتدأ ساغ الابتداء به لتضمنه معنى الدعاء ويومئذ ظرف منصوب بويل وإذ ظرف مضاف إلى ظرف مثله والتنوين عوض عن جملة وللمكذبين هو الخبر لويل (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) الذين نعت للمكذبين وهم مبتدأ وفي خوض متعلقان بيلعبون وجملة يلعبون خبرهم والجملة لا محل لها لأنها صلة الذين (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) الظرف بدل من يوم تمور السماء مورا أو من يومئذ قبله وجملة يدعون في محل جر بإضافة الظرف إليها ويدعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وإلى نار جهنم متعلقان بيدعون ودعا مفعول مطلق (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) الجملة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 328 منصوبة بقول محذوف أي يقال لهم ذلك وهذه مبتدأ والنار خبر والتي صفة وجملة كنتم صلة التي كان واسمها وبها متعلقان بتكذبون وجملة تكذبون خبر كنتم (أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف تقديره كنتم تقولون للوحي هذا سحر أفسحر هذا يريد أهذا المصداق أيضا سحر وقد أفادت الفاء هذا المعنى، وسحر خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر وأم يجوز أن تكون منقطعة بمعنى بل لأن الكلام تم عند قوله أفسحر هذا ثم قال أم أنتم أي بل أنتم لا تبصرون ويجوز أن تكون متصلة أي ليس شيء منهما ثابتا فثبت أنكم قد بعثتم وأن الذي ترونه حق فهو تقريع شديد وتهكم فظيع، وأنتم مبتدأ وجملة لا تبصرون خبر (اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) فعل أمر وفاعل ومفعول به والفاء عاطفة واصبروا فعل أمر وفاعل وأو حرف عطف ولا ناهية وتصبروا فعل مضارع مجزوم بلا وسواء خبر لمبتدأ محذوف أي صبركم وتركه سواء وعليكم متعلقان بسواء ونحا الزمخشري إلى إعرابها مبتدأ خبره محذوف أي سواء عليكم الأمران وتبعه أبو حيان ولا مانع من ذلك لأن ما في سواء من معنى التسوية أفادها فائدة سوّغت إعرابها مبتدأ (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إنما كافّة ومكفوفة وتجزون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وما اسم موصول مفعول به ثان وجملة كنتم تعملون صلة وكان واسمها وجملة تعملون خبرها وجملة إنما تجزون تعليلية للاستواء. البلاغة: 1- الاستعارة التصريحية في قوله «الذين هم في خوض يلعبون» : الأصل في الخوض أن يكون في الماء يقال خاض الماء: دخله ثم غلب على الخوض في الباطل وغيره، شبّه الكذب والاندفاع في الباطل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 329 بلجة يخوضها اللاعب، يقال خاض الغمرات أي اقتحمها وخاض في الحديث أفاض فيه وخاض الجواد في الميدان مرح ويقال أنه يخوض المنايا أي يلقي نفسه في المهالك وهو يخوض الليل أي يتخبط فيه غير مكترث بالأهوال، وفي اللغة أسماء غلبت عليها معان خاصة كالإحضار فإنه عام في كل شيء ثم غلب على الاستعمال في الإحضار للعذاب قال تعالى: لكنت من المحضرين ونظيره في الأسماء الغالبة دابة فإنها غلبت في ذوات الأربع والقوم غلب في الرجال والاستعارة هنا تصريحية. 2- التنكير: ونكر كتاب في قوله «وكتاب مسطور» لأنه كتاب مخصوص من بين جنس الكتب كقوله: «ونفس وما سواها» . 3- الالتزام: وفي قوله «والطور وكتاب مسطور» فن الالتزام وقد تقدمت الإشارة إليه فقد جاءت الطاء قبل واو الردف لازمة. [سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 28] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 330 اللغة: (فاكِهِينَ) ناعمين متلذذين وقال الزجّاج والفرّاء: فاكهين معجبين بما آتاهم ربهم وفي المختار: «فكه الرجل من باب سلم فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاجا والفكه أيضا البطر الأشر وقرئ ونعمة كانوا فيها فكهين أي أشرّين وفاكهين أي ناعمين والمفاكهة الممازحة وتفكّه تعجب وقيل تندم قال الله تعالى: فظلتم تفكهون أي تندمون وتفكّه بالشيء تمتع به» . (بِحُورٍ) الحور: جمع حوراء من الحور وهو شدّة بياض العين في شدة سوادها. (عِينٍ) العين: جمع عيناء وهو الواسعة العينين. (أَلَتْناهُمْ) نقصناهم وفي المصباح «ألت الشيء ألتا من باب ضرب نقص ويستعمل متعديا أيضا فيقال ألته» . (السَّمُومِ) النار لدخولها في المسام وهي في الأصل الريح الحارّة تتخلل المسام والجمع سمائم وقال ثعلب: السموم شدّة الحر وشدّة البرد في النهار وقال أبو عبيدة: السموم بالنهار وقد يكون بالليل والحرّ بالليل وقد يكون بالنهار. وقيل أصل السموم من السم الذي هو مخرج النفس فكل خرق سم أو من السم الذي يقتل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 331 الإعراب: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) إن واسمها وفي جنات خبرها ونعيم عطف على جنات والكلام مستأنف مسوق لزفّ البشرى للمتقين ويجوز أن يكون تتمة المقول للكفّار زيادة في إغاظتهم وإدخال الحسرة إلى قلوبهم (فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) فاكهين: حال وبما متعلقان بفاكهين وما موصولة واقعة على الفواكه التي في الجنة أي متلذذين بفاكهة الجنة ويجوز أن تكون الباء بمعنى في أي فيما آتاهم من الثمار وغير ذلك ويجوز أن تكون ما مصدرية أيضا وآتاهم ربهم فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ووقاهم عطف على الصلة أي فاكهين بإيتاء ربهم وبوقايتهم له عذاب الجحيم ويجوز أن تكون الواو حالية فتكون الجملة في محل نصب على الحال وقد مقدّرة عند من يشترط اقترانها بالماضي الواقع حالا وأجاز الزمخشري أن تكون معطوفة على جنات وعذاب الجحيم مفعول به ثان (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الجملة مقول قول محذوف وهنيئا حال أو مفعول مطلق فتكون بمعنى المصدر، وقد تقدم الكلام مشبعا على هنيئا في سورة النساء، وبما متعلقة بكلوا أو اشربوا وجملة كنتم صلة وكان واسمها وجملة تعملون خبر كنتم، وأجاز الزمخشري أن تكون الباء زائدة وما فاعل هنيئا ولكن زيادة الباء ليست مقيسة إلا في فاعل كفى وقد أنكر عليه أبو حيان ذلك (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) متكئين حال من الضمير المستكن في قوله في جنات أي كائنون في جنات حال كونهم متكئين أو من فاعل كلوا أو من مفعول آتاهم أو من مفعول وقاهم وعلى سرر متعلقان بمتكئين ومصفوفة نعت لسرر والواو حرف عطف وزوّجناهم فعل وفاعل ومفعول به وبحور متعلقان بزوّجناهم وعين نعت لحور (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 332 ذُرِّيَّتَهُمْ) في الواو ثلاثة أقوال نسردها فيما يلي ثم نبيّن مواضع الرجحان: 1- استئنافية والذين مبتدأ والخبر جملة ألحقنا بهم ذريتهم وعليه أكثر المفسرين والمعربين. 2- قال أبو البقاء: منصوب بفعل محذوف على تقدير وأكرمنا الذين آمنوا. 3- قال الزمخشري: والذين آمنوا معطوف على حور عين أي قرناهم بالحور وبالذين آمنوا أي بالرفقاء والجلساء منهم كقوله تعالى إخوانا على سرر متقابلين فيتمتعون تارة بملاعبة الحور وتارة بمؤانسة الإخوان المؤمنين. وقد ردّ أبو حيان على الزمخشري فقال: «ولا يتخيل أحد أن قوله والذين آمنوا معطوف على بحور عين غير هذا الرجل وهو تخيل أعجمي مخالف لفهم العربي» ونحن لا نتردد في مشايعة أبي حيان في ردّه. وجملة آمنوا صلة الذين واتبعتهم ذريتهم عطف على آمنوا وبإيمان حال من ذريتهم أي حال كون الذرية ملتبسة بإيمان وجملة ألحقنا بهم ذريتهم خبر الذين (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) الواو حرف عطف وألتناهم فعل وفاعل ومفعول به ومن عملهم حال ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا منصوب محلا لأنه مفعول ثان وكل مبتدأ وامرئ مضاف إليه، وبما الباء حرف جر وما موصولة أو مصدرية والجار والمجرور متعلقان برهين ورهين خبر كل (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) وأمددناهم عطف على ما تقدم وبفاكهة متعلقان بأمددناهم ولحم عطف على فاكهة ومما صفة وجملة يشتهون صلة الموصول (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) الجملة مستأنفة وقيل نصب على الحال من مفعول أمددناهم ويتنازعون فعل مضارع وفاعل وفيها متعلقان بيتنازعون وكأسا مفعول به ولا نافية للجنس أهملت لتكررها ولغو مبتدأ خبره فيها ولا تأثيم عطف عليه وسوغ الابتداء به تقدّم النفي عليه، ومعنى يتنازعون الكأس يتجاذبونها تجاذب ملاعبة إذ أهل الدنيا لهم لذة في ذلك، وقيل معنى يتنازعون يتعاطون قال الأخطل: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 333 نازعته طيب الراح الشمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعة الساري (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) الواو حرف عطف ويطوف فعل مضارع مرفوع وعليهم متعلقان بيطوف وغلمان فاعل يطوف ولهم صفة لغلمان وكأن واسمها ولؤلؤ خبرها ومكنون صفة لؤلؤ وجملة كأنهم صفة ثانية (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) الواو حرف عطف وأقبل بعضهم فعل وفاعل وعلى بعض متعلقان بأقبل وجملة يتساءلون حال (قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) قالوا فعل وفاعل وإن واسمها وجملة كنّا خبرها وجملة إنّا كنّا مقول القول وقبل ظرف مبني على الضم لانقطاعه عن الإضافة لفظا لا معنى والظرف متعلق بمحذوف حال ومشفقين خبر كنّا (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) الفاء حرف عطف ومنّ الله فعل وفاعل وعلينا متعلقان بمنّ ووقانا عطف على منّ وعذاب السموم مفعول به ثان (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) إن واسمها وكان واسمها ومن قبل حال وجملة ندعوه خبر كنّا وجملة كنّا خبر إنّا وإن واسمها وهو ضمير فصل أو عماد والبرّ الرحيم خبران لإنه وجملة إنه تعليلة لا محل لها. البلاغة: التشبيه المرسل المجمل: في قوله: كأنهم لؤلؤ مكنون تشبيه مرسل مجمل، شبّه الغلمان باللؤلؤ المكنون في الأصداف لأنه أحسن وأصفى أو لأنه مخزون ولا يخزن إلا الثمين الغالي القيمة وصدف الدرّ غشاؤه الواحدة صدفة مثل قصبة وقصب. الفوائد: إذا تكررت لا النافية للجنس جاز فيها خمسة أوجه: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 334 1- بناء الاسمين على أنها عاملة عمل إن في كليهما نحو: لا حول ولا قوة إلا بالله. 2- رفعهما على أنها مهملة فما بعدها مبتدأ وخبر نحو: لا لغو فيها ولا تأثيم. وقول الحطيئة: ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر 3- بناء الأول على الفتح ورفع الثاني كقول أبي الطيب: لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم تسعد الحال 4- رفع الأول وبناء الثاني على الفتح نحو: فلا لغو ولا تأثيم فيها ... وما فاهوا به أبدا مقيم 5- بناء الأول على الفتح ونصب الثاني بالعطف على محل اسم لا نحو: لا نسب اليوم ولا خلة ... اتسع الخرق على الراقع [سورة الطور (52) : الآيات 29 الى 38] فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 335 اللغة: (الكاهن) الذي يذكر أنه يخبر عن الحق عن طريق العزائم، والكهانة صفة الكاهن. (نَتَرَبَّصُ) التربص الانتظار بالشيء من انقلاب حال له إلى خلافها. (الْمَنُونِ) المنيّة والموت من منّه إذا قطعه لأن الموت قطوع، وريبها: الحوادث التي تريب عند مجيئها قال: تربص بها ريب المنون لعلها ... سيهلك عنها بعلها أو سيجنح (أَحْلامُهُمْ) عقولهم والأحلام جمع الحلم وهو الإمهال الذي يدعو إليه العقل والحكمة وفي القاموس: «والحلم بالكسر الأناة والعقل والجمع أحلام وحلوم ومنه: أم تأمرهم أحلامهم بهذا» . (الْمُصَيْطِرُونَ) جمع المسيطر وهو الغالب القاهر من سيطر عليه إذا راقبه وحفظه أو قهره، وحكى أبو عبيدة سيطرت عليّ إذا اتخذتني خولا، ولم يأت في كلام العرب اسم على مفيعل إلا خمسة ألفاظه: مهيمن ومحيمر ومبيطر ومسيطر ومبيقر فالمحيمر اسم جبل والبواقي أسماء فاعلين، وفي الصحاح: المسيطر والمصيطر المسلط على الشيء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 336 ليشرف عليه ويتعهد أمواله ويكتب عمله وأصله من السطر لأن الكتاب يسطر. الإعراب: (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) الفاء الفصيحة وذكر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والفاء تعليلية وما نافية حجازية وأنت اسمها وبنعمة ربك يجوز في هذا الجار والمجرور أن يتعلق بما في ما من معنى النفي فتكون الباء للسببية وهذا أرقى الأوجه والمعنى انتفت عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة ربك عليك كما تقول: ما أنا بمعسر بحمد بالله وغناه وقال أبو البقاء إن الباء في موضع نصب على الحال والعامل فيها بكاهن أو مجنون والتقدير ما أنت كاهنا ولا مجنونا حال كونك ملتبسا بنعمة ربك وعلى هذا فهي حال لازمة والباء للملابسة وقيل الباء للقسم ونعمة ربك مقسم به متوسط بين اسم ما وخبرها فتتعلق بفعل محذوف تقديره أقسم والجواب محذوف والتقدير ونعمة ربك ما أنت بكاهن ولا مجنون وهو أضعفها (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) أم منقطعة بمعنى بل وقد ذكرت هنا خمس عشرة مرة وكلها إلزامات ليس للمخاطبين بها جواب عنها، ويقولون فعل مضارع مرفوع وشاعر خبر لمبتدأ محذوف وجملة نتربص به صفة لشاعر وبه متعلقان بنتربص وريب المنون مفعول به (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وتربصوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والفاء تعليل للأمر المقصود به التهديد وإن واسمها ومعكم ظرف متعلق بمحذوف حال ومن المتربصين خبر إني وجملة تربصوا مقول القول (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أم حرف عطف بمعنى بل وقد تقدم القول فيها وتأمرهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 337 فعل مضارع ومفعول به مقدّم وأحلامهم فاعل وبهذا متعلقان بتأمرهم وأم عاطفة وهم مبتدأ وقوم خبر وطاغون نعت (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) تقوّله فعل ماض ومفعول به والفاعل مستتر تقديره هو (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) الفاء الفصيحة لأنها جواب شرط مقدّر أي فإن قالوا تقوّله أي اختلقه فليأتوا، واللام لام الأمر ويأتوا فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والواو فاعل وبحديث متعلقان بيأتوا ومثله صفة لحديث وإن شرطية وكان واسمها وخبرها وجواب إن محذوف دلّ عليه ما قبله أي إن صدقوا في هذا القول فليأتوا (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) عطف على ما تقدم ومن غير شيء متعلقان بخلقوا وأم هم الخالقون مبتدأ وخبر (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) عطف على ما تقدم (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدّم وخزائن مبتدأ مؤخر وهم مبتدأ والمسيطرون خبر (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) لهم خبر مقدّم وسلّم مبتدأ مؤخر وجملة يستمعون نعت لسلّم وفيه متعلقان بيستمعون، فليأت: الفاء الفصيحة لأنها جواب شرط مقدّر تقديره إن ادّعوا ذلك فليأت واللام لام الأمر ويأت فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، ومستمعهم فاعل وبسلطان متعلقان بيأت ومبين صفة. البلاغة: 1- في قوله «أم تأمرهم أحلامهم بهذا» مجاز عقلي فقد أسند الأمر إلى الأحلام وقد كان العرب يتفاخرون بعقولهم فأزرى الله بها حيث لم تثمر لهم معرفة الحق والباطل، ويجوز اعتبارها استعارة مكنية إن أريد التشبيه، وكل مجاز عقلي يصحّ أن يكون استعارة مكنية ولا عكس. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 338 2- وفي قوله: «نتربص به ريب المنون» استعارة تصريحية فقد أطلق الريب على الحوادث والريب الشك وشبّهت الحوادث بالريب أي الشك لأنها لا تدوم ولا تبقى على حال. [سورة الطور (52) : الآيات 39 الى 49] أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) اللغة: (مَغْرَمٍ) المغرم أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه. (كِسْفاً) قطعة وقيل قطعا واحدتها كسفة مثل سدرة وسدر. (مَرْكُومٌ) موضوع بعضه فوق بعض. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 339 الإعراب: (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) له خبر مقدّم والبنات مبتدأ مؤخر ولكم البنون عطف على له البنات (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) تسألهم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنت ومفعول به أول وأجرا مفعول به ثان والفاء حرف عطف وهم مبتدأ ومن مغرم متعلقان بمثقلون ومثقلون خبر (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدّم والغيب مبتدأ مؤخر والفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة يكتبون خبر (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) يريدون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وكيدا مفعول به والفاء عاطفة والذين مبتدأ وهو من وضع الظاهر موضع المضمر وقد تقدمت الإشارة إليه وجملة كفروا صلة وهم مبتدأ والمكيدون خبره والجملة الاسمية خبر الذين (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) لهم خبر مقدم وإله مبتدأ مؤخر وغير الله نعت لإله وسبحان الله منصوب على المفعولية المطلقة وعمّا متعلقان بسبحان وجملة يشركون لا محل لها لأن ما موصولة أو مصدرية (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) الواو عاطفة وإن شرطية ويروا فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل وكسفا مفعول به ومن السماء صفة لكسفا ويقولوا جواب الشرط وسحاب خبر لمبتدأ محذوف ومركوم صفة لسحاب (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) الفاء الفصيحة لأنها جواب شرط مقدّر والتقدير إذا بلغوا في الكفر والعناد إلى هذا الحدّ وتبين أنهم لا يرجعون عن الكفر فدعهم حتى يموتوا عليه، وذرهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وحتى حرف غاية وجر ويلاقوا فعل مضارع مجزوم بأن مضمرة بعد حتى ويومهم مفعول به والذي نعت ليومهم وفيه متعلقان بقوله يصعقون وجملة يصعقون لا محل لها لأنها صلة الذي، ويصعقون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 340 بالبناء للمجهول من صعق الثلاثي أو من أصعق الرباعي والمعنى أن غيرهم أصعقهم، وقرئ يصعقون مبنيا للفاعل ومعناه يموتون من شدّة الأهوال (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يوم بدل من يومهم وجملة لا يغني في محل جر بإضافة الظرف إليها وعنهم متعلقان بيغني وكيدهم فاعل يغني وشيئا مفعول به أو مفعول مطلق والواو حرف عطف ولا نافية وهم مبتدأ وجملة ينصرون خبر (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الواو استئنافية وإن حرف مشبه بالفعل وللذين خبرها المقدم وجملة كفروا صلة الموصول وعذابا اسم إن المؤخر ودون ظرف متعلق بمحذوف صفة لعذابا وذلك اسم إشارة مضاف إليه، ولكن الواو عاطفة أو حالية ولكن حرف مشبّه بالفعل للاستدراك وأكثرهم اسمها وجملة لا يعلمون خبر لكن (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) الواو عاطفة واصبر فعل أمر مبني على السكون والفاعل مستتر تقديره أنت ولحكم ربك متعلقان باصبر والفاء تعليلية وإن واسمها وبأعيننا خبر إنك أي بمرأى منّا حيث نراك ونكلؤك، وجمع العين لأن الضمير بلفظ الجماعة، وسبّح عطف على واصبر وبحمد ربك متعلقان بمحذوف حال أي ملتبسا بحمد ربك وحين ظرف متعلق بسبّح وجملة تقوم في محل جر بإضافة الظرف إليها (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) الواو عاطفة ومن الليل متعلقان بسبّحه، وسبّحه فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وإدبار النجوم مصدر ناب عن الظرف وسيأتي حكمه في باب الفوائد. الفوائد: ينوب عن الظرف ما كان مجرورا بإضافة أحد الظرفين إليه ثم حذف المضاف وأنيب عنه المضاف إليه بعد حذفه، والغالب في هذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 341 المضاف إليه النائب عن المضاف المحذوف أن يكون مصدرا مثل جئتك صلاة العصر أو قدوم الحاج فصلاة وقدوم مفعول فيهما منصوبان نصب ظرف الزمان لأنهما لما نابا عن الزمان عرضت لهما اسمية الزمان فانتصبا انتصابه والأصل وقت صلاة العصر ووقت قدوم الحاج ومنه وإدبار النجوم أي وقت غروبها، ومن أقوالهم لا أكلمه القارظين والأصل مدة غيبة القارظين فحذف مدة وأنيب عنها غيبة ثم حذف غيبة وأنيب عنها القارظين، وهو تثنية قارظ وهو الذي يحني القرظ بفتح القاف والراء وهو شيء يدبغ به. قال الجوهري في الصحاح: لا آتيك أو يئوب القارظ العنزي وهما قارظان كلاهما من عنزة خرجا في طلب القرظ فلم يرجعا وطالت غيبتهما. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 342 (53) سورة النّجم مكيّة وآياتها ثنتان وستّون [سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) اللغة: (النَّجْمِ) معروف وجمعه نجوم وأنجم وأنجام ونجم وهو الكوكب وعند الإطلاق الثريا، وفي المراد به هنا أقوال منها أن المراد به جماعة النجوم إذا هوت أي سقطت وغابت عن الحسّ وأراد به الجنس قال الراعي: وبات يعدّ النجم في مستحيرة ... سريع بأيدي الآكلين جمودها وقيل أراد الثريا وأقسم بها إذا سقطت وغابت مع الفجر، والعرب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 343 تطلق اسم النجم على الثريا خاصة قال أبو ذؤيب: فوردن والعيوق مقعد رائي ... الضرباء فوق النجم لا يتتلع قال ابن دريد والثريا سبعة أنجم ستة ظاهرة وواحد خفي يمتحن الناس به أبصارهم وقيل إن الله أقسم بالقرآن إذا أنزله نجوما متفرقة على رسول الله في ثلاث وعشرين سنة. (هَوى) غرب وهو في الأصل سقط من علو قال الراغب: «الهوى سقوط من علو» . (مِرَّةٍ) قوة وشدة أو حصافة في عقله ورأيه ومتانة في دينه وأصل المرة شدة الفتل وفي معاجم اللغة: المرة: الفتل يقال حبل شديد المرة والحالة التي يستمر عليها الشيء وطاقة الحبل وقوة الخلق وشدّته وأصالة العقل وخلط من أخلاط البدن وهو الصفراء والسوداء. (قابَ قَوْسَيْنِ) القاب والقيب والقاد والقيد: المقدار قال الزجّاج: «إن العرب قد خوطبوا على لغتهم ومقدار فهمهم قيل لهم في هذا ما يقال للذي يحدّد فالمعنى فكان على ما تقدرونه أنتم قدر قوسين أو أقل من ذلك» وقال ابن السكّيت: «قاس الشيء يقوسه قوسا لغة في قاسه يقيسه إذا قدّره وقد جاء تقديرهم بالقوس والرمح والسوط والذراع والباع والخطوة والشبر والفتر والإصبع» وفي القرطبي: «والقاب ما بين المقبض والسية ولكل قوس قابان وقال بعضهم في قوله تعالى: فكان قاب قوسين أراد قابي قوس فقلبه» وفي المصباح «سية القوس خفيفة الياء ولامها محذوفة وترد في النسبة فيقال سيوي والهاء عوض عنها طرفها المنحني قال أبو عبيدة: وكان رؤبة يهمزه والعرب لا تهمزه ويقال لسيتها العليا يدها ولسيتها السفلى رجلها» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 344 الإعراب: (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) الواو للقسم والنجم مجرور بالواو والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن والعامل في هذا الظرف فعل القسم المحذوف أي أقسم بالنجم وقت هويه وقيل النجم نزول القرآن فيكون العامل في الظرف نفس النجم على أن هذا الإعراب معترض عليه وإن كنّا نرجحه وفيما يلي ما أورده السمين ننقله بنصه لنفاسته «وفي العامل في هذا الظرف أوجه وعلى كلّ منها أشكال، أحد الأوجه أنه منصوب بفعل القسم المحذوف تقديره أقسم بالنجم وقت هويه قاله أبو البقاء وغيره وهو مشكل فإن فعل القسم إنشاء والإنشاء حال وإذا لما يستقبل من الزمان فكيف يتلاقيان؟ الثاني أن العامل فيه مقدّر على أنه حال من النجم أي أقسم به حال كونه مستقرا في زمان هويه وهو مشكل من وجهين أحدهما أن النجم جثة والزمان لا يكون حالا منها كما لا يكون خبرا والثاني أن إذا للمستقبل فكيف يكون حالا؟ وقد أجيب عن الأول بأن المراد بالنجم القطعة من القرآن والقرآن قد نزل منجما في عشرين سنة وهذا تفسير ابن عباس وغيره وعن الثاني بأنها حال مقدّرة، والثالث أن العامل فيه نفس النجم إذا أريد به القرآن قاله أبو البقاء وفيه نظر لأن القرآن لا يعمل في الظرف إذا أريد أنه اسم لهذا الكتاب المخصوص وقد يقال: إن النجم بمعنى المنجم كأنه قيل والقرآن المنجم في هذا الوقت وهذا البحث وارد في مواضع منها والشمس وضحاها وما بعده ومنها قوله: والليل إذا يغشى ومنها والضحى والليل إذا سجا وسيأتي في والشمس بحث أخصّ من هذا تقف عليه إن شاء الله تعالى. أما أبو حيان فاختار الحالية قال: «وإذا ظرف زمان والعامل فيه محذوف تقديره كائنا إذا هوى وكائنا منصوب على الحال اقسم تعالى بالنجم في حال هويه» وجملة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 345 هوى في محل جر بإضافة الظرف إليها (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) الجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وعبّر بالصحبة لأنها أدلّ على القصد مرغبة لهم فيه ومقبلة بهم إليه ومقبحة اتهامه في إنذاره مع معرفتهم بطهارة شمائله، وضلّ صاحبكم فعل وفاعل وما غوى عطف على ما ضلّ (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) الواو عاطفة وما نافية وينطق فعل مضارع وفاعله هو وعن الهوى متعلقان بينطق أي وما يصدر نطقه عن هوى في نفسه فعن للمجاوزة على بابها وقيل إنها بمعنى الباء فتكون متعلقة بمحذوف حال (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) إن نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر ووحي خبر هو وجملة يوحى صفة لوحي (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) الجملة صفة ثانية لوحي وعلّمه فعل ومفعول به وشديد القوى فاعل علّمه والمراد به جبريل (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى) ذو مرة صفة لشديد القوى والفاء عاطفة واستوى فعل وفاعل مقدّر (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) الواو حالية وهو مبتدأ وبالأفق خبر والأعلى صفة للأفق والجملة في موضع الحال (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) ثم حرف عطف للتراخي ودنا فعل وفاعله مقدّر تقديره هو أي جبريل فتدلى عطف على دنا والتدلّي الامتداد من علو إلى أسفل ومن التدلي اشتقت الدوالي التي تحمل العنب المعلق (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) الفاء عاطفة وكان واسمها المستتر وقاب قوسين خبرها وتقدير الكلام فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين وفيه حذف ثلاث متضايفات أي فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين وفيه فحذفت ثلاثة من اسم كان وواحد من خبرها، وأو حرف عطف أو للإباحة وأدنى عطف على قاب وهذه الآية كقوله تعالى: أو يزيدون وقد تقدم القول في أو والمعنى فكان بأحد هذين المقدارين في رأي الرائي أي لتقارب ما بينهما يشك الرائي في ذلك وأدنى اسم تفضيل والمفضل عليه محذوف تقديره أو أدنى من قاب قوسين أو هي بمعنى بل أي بل أدنى (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) الفاء عاطفة راجعة إلى علمه شديد القوى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 346 وأوحى فعل وفاعل مقدّر وإلى عبده متعلقان بأوحى وما موصولة أو مصدرية وعلى كل حال هي ومدخولها في موضع نصب على أنها مفعول به على الأول أو مفعول مطلق على الثاني وسيرد مزيد بحث عنها في باب البلاغة (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) ما نافية وكذب الفؤاد فعل وفاعل وقد قرئ كذب بالتشديد أيضا وما موصولة مفعول به لأن كذب فعل يتعدى إلى مفعول قال الأخطل: كذبتك عينك أم رأيت بواسط ... غلس الظلام من ارباب خيالا وقيل لا يتعدى فيكون نصب ما على إسقاط الخافض أي فيما رآه وزعم صاحب المنجد أن كذب قد يتعدى إلى اثنين قال: «وقد يتعدى إلى مفعولين فيقال كذبه الحديث إذا نقل الكذب وقال خلاف الواقع فإذا شدّد اقتصر على مفعول واحد» ولم أجد فيما بين يدي من كتب اللغة ما يؤيد ذلك، أما كذبه الحديث فالحديث نصب بنزع الخافض على الأصح، هذا ويجوز أن تكون ما مصدرية وهي مع مدخولها في موضع نصب لأنه مفعول كذب والمعنى أنه ما أوهمه الفؤاد أنه رأى ولم ير بل صدقه الفؤاد رؤيته. البلاغة: 1- في قوله «ثم دنا فتدلى» فن القلب وهو من المقلوب الذي تقدم فيه ما يوضّحه التأخر وتأخر ما يوضّحه التقديم أي تدلى فدنا لأنه تدلى للدنو ودنا بالتدلي. 2- في قوله «فأوحى إلى عبده ما أوحى» فن الإبهام وقد تقدم القول فيه وهو كثير شائع في القرآن كأنه أعظم من أن يحيط به بيان، فأبهم الأمر الذي أوحاه إلى عبده وجعله عاما وذلك أبلغ لأن السامع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 347 يذهب وهمه فيه كل مذهب، وجميل قول دريد بن الصمة: صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل أبعد وقول أبو نواس: ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم ... وأسمت سرح اللحظ حين أساموا وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه ... فإذا عصارة كل ذلك أثام فقوله «وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه» من المليح النادر، ومثله قول الآخر في وصف الخمر: مضى بها ما مضى من عقل شاربها ... وفي الزجاجة باق يطلب الباقي 3- «في قوله تعالى والنجم إلى قوله وأدنى» ، جرس ساحر أخّاذ في تقطيع لفظي عجيب يصوّران موضوعا جليلا ببراعة معجزة، فقد بدأت الآية الكريمة بالقسم بالنجم الذي كان بعض العرب يحلّونه محلّ الإله ولكن القسم ليس بالإله المزعوم فحسب بل به حين يهوي ويسقط من عليائه التي خدعت بعض السذّج وضعاف العقول فجعلوا منه إلها غير الله، فهذا السقوط يجرح الألوهية، وقد أورده القرآن الكريم مع القسم تتميما له لأن له أبعادا معنوية خارقة، ثم نفت الآية الكريمة عن الرسول العربي صفة الضلال التي اتهمه بها الجاحدون أولئك الذين بلغ الضلال منهم أن عبدوا النجم الذي ليست له مناعة ضد السقوط، ونصّت الآية في تنزيه القرآن الذي نزل على الرسول الأمين عن الهوى والعاطفة وقال فيه: إنه وحي من الله الخالق القوي الذي أمر الرسول بحمل رسالة القرآن فصدع بالأمر ونهض يبشّر قومه بهداه وينذرهم في تنكرهم لرشاده ولم يكن هذا الوحي في ذلك يدعو إلى التشكّك أو التشكيك بل كان والرسول الكريم أقرب ما يكون إلى ربه سبحانه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 348 وتعالى، أنه كان على بعد ما بين طرفي القوس والعرب يعرفون قصر المسافة بينهما حقّ المعرفة لأن القوس تعيش بين أيديهم وتصحبهم طول الوقت. [سورة النجم (53) : الآيات 12 الى 18] أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) اللغة: (أَفَتُمارُونَهُ) من المماراة والمراء أي الملاحاة والمجادلة واشتقاقه من مرى الناقة كأن كل واحد من المتجادلين يمري ما عند صاحبه. (سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) شجرة نبق في منتهى الجنة تأوي إليها أرواح الشهداء، وقد اختلف في سبب تسميتها على ثمانية أقوال تفصيلها في المطوّلات. الإعراب: (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) الهمزة للاستفهام الإنكاري وتمارونه فعل وفاعل ومفعول به وعلى ما يرى متعلقان بتمارونه وكان من حقه أن يتعدّى بفي كقولك جادلته في كذا وإنما ضمن معنى الغلبة فعدّي تعديتها، وجملة يرى صلة الموصول ويجوز أن تكون ما مصدرية (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) الواو للحال واللام جواب للقسم المحذوف وقد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 349 حرف تحقيق ورآه فعل وفاعل مستتر ومفعول به ونزلة يجوز إعرابها ظرفا للزمان أي مرة أخرى لأن مصدر النزلة بمثابة المرة منها ويجوز إعرابها حالا نصبت نصب المصدر الواقع موقع الحال ويجوز إعرابها مفعولا مطلقا على أنه مصدر مؤكد وإلى ذلك ذهب أبو البقاء وقدّره مرة أخرى أو رؤية أخرى وإلى الأول ذهب الزمخشري وأجاز أبو حيان الأوجه الثلاثة ولم يعمد إلى الترجيح، وأخر نعت لنزلة (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) الظرف متعلق برآه أو حال من الفاعل أو المفعول أو منهما معا وسدرة مضاف إليه والمنتهى مضاف إلى سدرة (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وجنة المأوى مبتدأ مؤخر والجملة حال من سدرة المنتهى (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) الظرف متعلق برآه وجملة يغشى السدرة في محل جر بإضافة الظرف إليها والسدرة مفعول به وما اسم موصول فاعل يغشى وفيه الإبهام المتقدم ذكره (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) ما نافية وزاغ البصر فعله ماض وفاعل وما طغى عطف على ما زاغ أي ما مال بصره عن مرئيه ولا جاوزه تلك الليلة (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ورأى فعل ماض وفاعله مستتر ومن آيات ربه حال مقدّمة على المفعول والكبرى مفعول رأى والتقدير لقد رأى الآيات الكبرى حال كونها من جملة آيات ربه ويحتمل أن تكون الكبرى صفة آيات ربه لا مفعولا به ويكون المرئي محذوفا لتضخيم الأمر وتعظيمه كأنه قال: لقد رأى من آيات ربه الكبرى أمورا عظاما لا يحيط بها الوصف، والحذف في مثل هذا أبلغ وأهول لأن فيه تفخيما لآيات الله الكبرى وأن فيها ما رآه وفيها ما لم يره وهو على الوجه الأول يكون مقتضاه أنه رأى جميع الآيات الكبرى على الشمول والعموم مع أن آيات الله مما لا يحيط أحد بجملتها. [سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 25] أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 350 اللغة: (اللَّاتَ) جاء في القاموس ما يلي: «واللات مشددة التاء صنم وقرأ بها ابن عباس وعكرمة وجماعة، سمي بالذي كان يلت عنده السويق بالسمن ثم خفف، وجاء في البحر قوله: واللات صنم كانت العرب تعظمه قال قتادة كان بالطائف وقال أبو عبيدة وغيره كان في الكعبة وقال ابن زيد: كان بنخلة عند سوق عكاظ قال ابن عطية وقول قتادة أرجح ويؤيده قول الشاعر: وفرّت ثقيف إلى لاتها ... بمنقلب الخائب الخاسر والتاء في اللات قيل أصلية لام الكلمة كالباء من باب وألفه منقلبة فيما يظهر من ياء لأن مادة ليت موجودة فإن وجدت مادة من ل وت جاز أن تكون منقلبة من واو وقيل التاء للتأنيث ووزنها فعلة من لوى قيل لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة أو يلتوون عليها أي يطوفون حذفت لامها وقرأ الجمهور اللات خفيفة التاء وابن عباس ومجاهد ومنصور بن المعتمر وأبو صالح وطلحة وأبو الجوزاء ويعقوب وابن كثير في رواية بشدّها قال ابن عباس كان هذا رجلا بسوق عكاظ يلت السمن والسويق عند صخرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 351 (الْعُزَّى) فعلى من العز وهي تأنيث الأعز كالفضلى والأفضل وهي اسم صنم وقيل شجرة كانت تعبد وعبارة الكشاف: «والعزى كانت لغطفان وهي سمرة وأصلها تأنيث الأعز وبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويليها واضعة يدها على رأسها فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها وهي تقول: يا عزّ كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك ورجع فأخبر رسول الله فقال عليه السلام تلك العزى ولن تعبد أبدا» وجاء في القاموس «والعزى العزيزة وتأنيث الأعز، وصنم أو سمرة عبدتها غطفان أول من اتخذها ظالم بن أسعد فوق ذات عرق إلى البستان بتسعة أميال بنى عليها بيتا وسمّاه بسا وكانوا يسمعون فيها الصوت فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدم البيت وأحرق السمرة» . (مَناةَ) صخرة كانت لهذيل وخزاعة وعن ابن عباس لثقيف واشتقاقها من منى يمنى أي صبّ لأن دماء النسائك كانت تصب عندها. (ضِيزى) جائرة من ضازه يضيزه إذا ضامه وجار عليه وعلى هذا فتحتمل وجهين أحدهما أن تكون صفة على فعلى بضمّ الفاء وإنما كسرت الفاء لتصحّ الياء كبيض، فإن قيل: وأي ضرورة تدعو إلى أن يقدّر أصلها ضم الفاء ولم لا قيل فعلى بالكسر؟ فالجواب أن سيبويه حكى أنه لم يرد في الصفات فعلى بكسر الفاء وإنما ورد بضمها نحو حبلى وأنثى وربا وما أشبهه إلا أن غيره حكى في الصفات ذلك حكى ثعلب: ميتة حيكى ورجل كيسى وحكى غيره امرأة عزهى وامرأة سعلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 352 وهذا لا ينقض على سيبويه لأن سيبويه يقول في حيكى وكيسى كقوله في ضيزى لتصحّ الياء وأما عزهى وسعلى فالمشهور فيهما عزهاة وسعلاة والوجه الثاني أن تكون مصدرا كذكرى قال الكسائي: يقال ضاز يضيز ضيزى كذكر يذكر ذكرى وقرئ ضئزى بهمزة ساكنة ومعنى ضأزه يضأزه: نقصه ظلما وجورا وهو قريب من الأول، وفي المختار ضاز في الحكم جار وضازه فيه نقصه وبخسه وبابهما باع، وسيأتي مزيد بحث عن هذه الكلمة في باب البلاغة. الإعراب: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء حرف عطف لترتيب الرؤية على ما ذكر من شئونه تعالى المنافية لها غاية المنافاة والتقدير: أعقيب ما سمعتم من آثار كماله ونفاذ أمره في الملأ الأعلى وما تحت أطباق الثرى أرأيتم هذه الأصنام مع غاية حقارتها وفسولتها شركاء لله تعالى. ورأيتم فعل وفاعل واللات مفعوله والعزى ومناة معطوفتان على اللات والثالثة الأخرى صفتان الأولى صفة للتين قبلها والثانية صفة ذم للثالثة، وستأتي أسرار هذه الصفات في باب البلاغة، ومفعول رأيتم الثاني محذوف تقديره قادرة على شيء ويجوز أن تكون من رؤية العين فلا تحتاج إلى مفعول ثان (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) الهمزة للاستفهام الإنكاري أيضا ولكم خبر مقدم والذكر مبتدأ مؤخر وله الأنثى عطف على لكم الذكر (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) تلك مبتدأ والإشارة إلى القسمة المفهومة من الجملة الاستفهامية وإذن بمعنى الجواب والجزاء والمعنى إذ جعلتم له البنات ولكم البنين وقسمة خبر وضيزى صفة لقسمة (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) إن نافية وهي مبتدأ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 353 وإلا أداة حصر وأسماء خبر هي وسميتموها فعل وفاعل ومفعول به ثان والأول محذوف تقديره أصناما وأنتم تأكيد للفاعل ليصحّ عطف وآباؤكم عليه على حدّ قول صاحب الخلاصة: وإن على ضمير رفع متصل ... عطفت فافصل بالضمير المنفصل وجملة سميتموها صفة لأسماء وكذلك جملة ما أنزل وما نافية وأنزل الله فعل وفاعل وبها حال لأنه كان في الأصل صفة لسلطان ومن حرف جر زائد وسلطان مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) إن نافية ويتبعون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وإلا أداة حصر والظن مفعول يتبعون والواو حرف عطف وما موصول معطوف على الظن ولك أن تجعلها مصدرية والواو حالية أو اعتراضية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وجاءهم فعل ماض ومفعول به مقدّم ومن ربهم متعلقان بجاءهم والهدى فاعل جاءهم والجملة إما حالية من فاعل يتبعون أو معترضة لا محل لها، والتفت من الخطاب إلى الغيبة إعراضا عنهم وتحقيرا لشأنهم (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) أم منقطعة بمعنى بل والهمزة للإنكار وللإنسان خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وجملة تمنى صلة ما أي الذي تمنّاه وترجّاه في الأصنام (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) الفاء عاطفة على مقدّر مفهوم من معنى أم أي ليس الأمر كذلك ولله خبر مقدم والآخرة مبتدأ مؤخر والأولى عطف على الآخرة. البلاغة: 1- في قوله تعالى «ومناة الثالثة الأخرى» أسرار مدهشة تحتاج إلى كثير من الفطنة والدقة لاستخراج ما تنطوي عليه من جمال آسر، فقد وصف مناة بقوله الثالثة لأنها أقل بالرتبة من اللات والعزّى فقد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 354 كانت عندهم دونهما في المنزلة، أما الوصف بقوله الأخرى فإنها تقوّي هذا المعنى وتزيد في وضاعتها وإلا لقال الأخريات، وقد فطن الزمخشري إلى هذا السر الدقيق فقال «والأخرى ذم وهي المتأخرة الوضيعة المقدار كقوله تعالى: وقالت أخراهم لأولاهم أي وضعاؤهم لرؤسائهم، وأشرافهم» وهذه النكتة تنساق بنا إلى بحث طريف عن الأخرى فهي تأنيث آخر ولا شك أنه في الأصل من التأخر الوجودي إلا أن العرب عدلت به عن الاستعمال في التأخير الوجودي إلى الاستعمال حيث يتقدم ذكر مغاير لا غير حتى سلبته دلالته على المعنى الأصلي بخلاف آخر وآخره على وزن فاعل وفاعلة فإنّ إشعارهما بالتأخير الوجودي ثابت لم يغيّر ومن ثم عدلوا عن أن يقولوا ربيع الآخر على وزن الأفعل وجمادى الأخرى إلى الآخر على وزن فاعل وجمادى الآخرة على وزن فاعلة لأنهم أرادوا أن يفهموا التأخير الوجودي لأن الأفعل والفعلى من هذا الاشتقاق مسلوب الدلالة على غرضهم فعدلوا عنها إلى الآخر والآخرة والتزموا ذلك فيهما. 2- وفي قوله «تلك إذن قسمة ضيزى» فن عجيب أيضا فقد يتساءل الجاهلون عن السر في استعمال كلمة ضيزى وهي وحشية غير مأنوسة، وسنورد ما أورده ابن الأثير في مثله السائر ثم نردفه بما استخرجناه نحن قال ابن الأثير: «وحضر عندي في بعض الأيام رجل متفلسف فجرى ذكر القرآن الكريم فأخذت في وصفه وذكر ما اشتملت عليه ألفاظه ومعانيه من الفصاحة والبلاغة فقال ذلك الرجل وأيّ فصاحة هناك وهو يقول: تلك إذن قسمة ضيزى؟ فهل في لفظة ضيزى من الحسن ما يوصف فقلت له: اعلم أن لاستعمال الألفاظ أسرارا لم تقف عليها أنت ولا أئمتك مثل ابن سينا والفارابي ولا من أضلّهم مثل أرسطاطاليس وأفلاطون وهذه اللفظة التي أنكرتها في القرآن وهي لفظة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 355 ضيزى فإنها في موضعها لا يسدّ غيرها مسدّها، ألا ترى أن السورة كلها التي هي سورة النجم مسجوعة على حرف الياء فقال تعالى: والنجم إذا هوى، ما ضلّ صاحبكم وما غوى وكذلك إلى آخر السورة فلما ذكر الأصنام وقسمة الأولاد وما كان يزعمه الكفّار قال: ألكم الذّكر وله الأنثى تلك إذن قسمة ضيزى، فجاءت هذه اللفظة على الحرف المسجوع الذي جاءت السورة جميعها عليه وغيرها لا يسدّ مسدّها في مكانها وإذا نزلنا معك أيّها المعاند على ما تريد قلنا: إن غير هذه اللفظة أحسن منها ولكنها في هذا الموضع لا ترد ملائمة لأخواتها ولا مناسبة لأنها تكون خارجة عن حرف السورة، وسأبيّن ذلك فأقول: إذا جئنا بلفظة في معنى هذه اللفظة قلنا قسمة جائرة أو ظالمة ولا شك أن جائرة أو ظالمة أحسن من ضيزى إلا أنّا إذا نظمنا الكلام فقلنا: ألكم الذّكر وله الأنثى تلك إذن قسمة ظالمة لم يكن النظم كالنظم الأول وصار الكلام كالشيء المعوز الذي يحتاج إلى تمام وهذا لا يخفى على من له ذوق ومعرفة بنظم الكلام فلما سمع ذلك الرجل ما أوردته عليه ربا لسانه في فمه إفحاما، ولم يكن عنده في ذلك شيء سوى العناد» . هذا ما قاله ابن الأثير وهو جيد يدل على ذوق وفهم ولكنه لا يخرج عن الحدود اللفظية، وسنذكر ما سنح للخاطر من أمر معنوي يتعلق بهذا الكلام فنقول لما كان الغرض تهجين قولهم، وتفنيد قسمتهم، والتشنيع عليها اختيرت لها لفظة مناسبة للتهجين والتشنيع كأنما أشارت خساسة اللفظة إلى خساسة أفهامهم وهذا من أعجب ما ورد في القرآن الكريم من مطابقة الألفاظ لمقتضى الحال. [سورة النجم (53) : الآيات 26 الى 30] وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 356 الإعراب: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ) والأرض الواو عاطفة وكم خبرية في محل رفع مبتدأ ومن ملك في محل نصب تمييز كم الخبرية وقد تقدم بحثه وفي السموات والأرض صفة لملك وجملة لا تغني شفاعتهم خبر وشيئا مفعول تغني أو مفعول مطلق أي شيئا من الإغناء (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) إلا أداة حصر ومن بعد متعلق بتغني وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مجرور بالإضافة لبعد والله فاعل يشاء ويرضى معطوف على يشاء (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) إن واسمها وجملة لا يؤمنون صلة الموصول وبالآخرة متعلقان بيؤمنون واللام المزحلقة ويسمّون الملائكة فعل مضارع وفاعل ومفعول به والجملة خبر إن وتسمية الأنثى مفعول مطلق (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) الواو حالية وما نافية ولهم خبر مقدم ومن حرف جر زائد وعلم مبتدأ مؤخر والجملة في محل نصب على الحال (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) إن نافية ويظنون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وإلا أداة حصر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 357 والظن مفعول به والواو للحال وإن حرف مشبّه بالفعل والظن اسمها وجملة لا يغني خبرها ومن الحق متعلقان بيغني وشيئا مفعول به أو مفعول مطلق (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) الفاء الفصيحة وأعرض فعل أمر وعمّن متعلق بأعرض وجملة تولى عن ذكرنا صلة من والجار والمجرور متعلقان بتولي والواو عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم ويرد فعل مضارع مجزوم بلم وإلّا أداة حصر والحياة مفعول به والدنيا صفة (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) ذلك مبتدأ والإشارة إلى التهالك على الدنيا والإعراض عن ذكر الله وقيل ذلك إشارة إلى جعلهم الملائكة بنات الله وقيل إشارة إلى الظن أي غاية ما يفعلون أن يأخذوا بالظن، ومبلغهم خبر ومن العلم متعلقان بمبلغهم والجملة اعتراضية بين الأمر وهو أعرض وبين تعليله الآتي، واختاره الزمخشري وقال أبو حيان أنه غير ظاهر (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) إن واسمها وهو مبتدأ وأعلم خبر وبمن متعلقان بأعلم وجملة ضلّ عن سبيله صلة وجملة هو أعلم خبر إن وجملة هو أعلم بمن اهتدى عطف على الجملة السابقة. الفوائد: 1- اعلم إن كم اسم مفرد مذكر موضوع للكثرة يعبّر به عن كل معدود كثيرا كان أو قليلا، وسواء في ذلك المذكر والمؤنث، فقد صار لها معنى ولفظ وجرت في ذلك مجرى كلّ وأيّ ومن وما في أن كل واحد منها له لفظ ومعنى فلفظه مذكر مفرد وفي المعنى يقع على التثنية والجمع فقد جمع الضمير في الآية نظرا إلى المعنى ولو حمل على اللفظ لقال شفاعته. 2- من مبتكرات الخطيب في تفسيره الكبير تعليل طريف لتسميته الجزء: 9 ¦ الصفحة: 358 الملائكة تسمية الإناث قال «وذلك أنهم رأوا في الملائكة تاء التأنيث وصحّ عندهم أن يقال سجدت الملائكة فقالوا: الملائكة بنات الله فسمّوهم تسمية الإناث» ولعلّ هذا ما أراده الزمخشري وتبعه البيضاوي بقولهما: «لأنهم إذا قالوا الملائكة بنات الله فقد سمّوا كل واحد منهم بنتا» . [سورة النجم (53) : الآيات 31 الى 32] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32) اللغة: (اللَّمَمَ) قال الفرّاء: «أن يفعل الإنسان الشيء في الحين ولا يكون له عادة ومنه إلمام الخيال، والإلمام الزيادة التي لا تمتد وكذلك اللمام، قال أمية: إن تغفر اللهمّ تغفر جما ... وأيّ عبد لك لا ألمّا وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينشدهما ويقولهما أي لم يلم بمعصية، وقال أعشى باهلة: تكفيه خرة فلذ إن ألمّ بها ... من الشواء ويروي شربه الغمر» وعن أبي سعيد الخدري «اللّمم هي النظرة والغمزة والقبلة» وعن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 359 السدي: «الخطرة من الذنب» وعن الكلبي: «كل ذنب لم يذكر الله عليه حدّا ولا عذابا» وعن عطاء «عادة النفس في الحين بعد الحين» وقال أبو العباس المبرد: «أصل اللّمم أن يلمّ بالشيء ولم يرتكبه يقال: ألمّ بكذا إذا قاربه ولم يخالطه» وقال الأزهري: «العرب تستعمل الإلمام في معنى الدنو والقرب» وفي المصباح: «واللّمم بفتحتين مقاربة الذنب وقيل هو الصغائر وقيل هو فعل الصغيرة ثم لا يعاوده ولمّ بالشيء يلمّ من باب ردّ» . ومن غريب أمر اللام والميم إذا وقعتا فاء وعينا للكلمة دلّتا على معنى اللّمح السريع والمرور العاجل اللطيف فمن ذلك: ألمأ اللص على الشيء: ذهب به، وما ذقت لماجا بفتح اللام: ما يتلمّج به أي يتلمظ، ولمح البرق والنجم: لمع من بعيد وبرق لمّاح ولمحته ببصري ورأيته لمحة البرق وهو أسرع من لمح البصر ومن لمح بالبصر، واللّمس معروف وفيه معنى المخالسة، ومن المجاز لامس المرأة ولمسها: جامعها، ولا يخفى ما توحي به هذه من مخالسة وانتهاز ونأي عن الأنظار، ولمظ الرجل يلمظ وتلمظ إذا تتبع بلسانه بقية الطعام بعد الأكل أو مسح به شفتيه واسم تلك البقية اللمّاظة وشرب الماء لماظا بالكسر ذاقه بطرف لسانه ومن المجاز تلمظت الحيّة أخرجت لسانها وتلمظ بذكره قال رجل من بني حنيفة: فدع عربيا لا تلمظ بذكره ... فألأم منه حين ينسب عائبه لقد كان متلافا وصاحب نجدة ... ومرتفعا عن جفن عينيه حاجبه أي لم يأت بخزية يغضّ لها بصره وما الدنيا إلا لماظة أيام وقال: وما زالت الدنيا يخون نعيمها ... وتصبح بالأمر العظيم تمخض لماظة أيام كأحلام نائم ... يذعذع من لذّاتها المتبرض الجزء: 9 ¦ الصفحة: 360 أي المتبلغ، ولمع البرق والصبح وغيرهما لمعا ولمعانا وكأنه لمع البرق وبرق لامع ولمّاع وبروق لمع ولوامع ومن أقوالهم «أخدع من يلمع» وهو البرق الخلّب والسراب وفلاة لمّاعة تلمح بالسراب وبه لمعة ولمع من سواد أو بياض أو أي لون كان وثوب ملمّع وقد لمّع ولمّعه ناسجه وفيه تلميع وتلاميع إذا كانت فيه ألوان شتّى قال لبيد بن ربيعة: «إن استه من برص ملمّعه» ورجل ألمعي ويلمعي فرّاس ومن المجاز لمع الزمام: خفق لمعانا وزمام لامع ولموع قال ذو الرمّة: فعاجا علندى ناجيا ذا براية ... وعوّجت مذعانا لموعا زمامها والطائر يلمع بجناحيه يخفق بهما وخفق بملمعيه: بجناحيه ولمع بثوبه ويده وسيفه: أشار وما بالدار لامع وأصاب لمعة من الكلأ ومعه لمعة من العيش: ما يكتفى به قال عدي: تكذب النفوس لمعتها ... وتعود بعد آثارا أي يذهب عنها العيش ويرجع آثارا وأحاديث، وذكر أعرابي مصدّقا فقال: فلمقه بعد ما نمقه أي فمحاه بعد ما كتبه وما ذقت لماقا: شيئا، وامرأة لمياء بيّنة اللّمى وهو السمرة في باطن الشفة ومن المجاز رمح ألمى أسمره وقناة لمياء وظل ألمى كثيف أسود وشجر ألمى الظلال وشجرة لمياء الظل: إلى شجر ألمى الظلال كأنه ... رواهب أحر من الشراب عذوب (أَجِنَّةٌ) جمع جنين وسمي جنينا لاستتاره في بطن أمه، وقد تقدم بحث هذه المادة وما تدل عليه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 361 الإعراب: (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الواو استئنافية ولله خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي السموات صلة ما وما في الأرض عطف على ما في السموات والجملة استئناف مسوق للإخبار عن كمال قدرته (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) اللّام لام العاقبة أو الصيرورة وليست للتعليل بمعنى أن عاقبة أمر الخلق أن يكون فيهم محسن ومسيء فللمسيء السوءى وللمحسن الحسنى وهي متعلقة بما دلّ عليه معنى الملك، ويجزي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام العاقبة وقيل هي بمعنى التعليل وإيضاح هذا المعنى أن التعليل لإضلال من شاء وهداية من شاء، والذين مفعول به وجملة أساءوا صلة الذين وبما عملوا متعلقان بيجزي، والذين أحسنوا بالحسنى عطف على ما تقدم (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) الذين في موضع نصب على أنه بدل من الذين أو هو في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ مضمر أي هم الذين يجتنبون وجملة يجتنبون صلة الذين وكبائر الإثم مفعول يجتنبون والفواحش عطف على كبائر الإثم وإلا أداة استثناء واللّمم مستثنى بإلا وهو استثناء منقطع لأنه ليس قبله ما يندرج فيه ويجوز أن يكون متصلا عند من يفسّر اللّمم بغير الصغائر، وأجاز الزمخشري أن يكون من باب «لو كان فيهما آلهة إلا الله» فتكون إلا بمعنى غير صفة لكبائر الإثم وقد ظهر إعرابها فيما بعدها (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) إن واسمها وواسع المغفرة خبرها والجملة تعليلية لاستثناء اللّمم لا محل لها (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) هو مبتدأ وأعلم خبر ولكم متعلقان بأعلم وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بأعلم أيضا وجملة أنشأكم في محل جر بإضافة الظرف إليها ومن الأرض متعلقان بأنشأكم وإذ عطف على إذ الأولى وأنتم مبتدأ وأجنّة خبره وفي بطون أمهاتكم صفة لأجنّة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 362 (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) الفاء الفصيحة ولا ناهية وتزكوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل وأنفسكم مفعول به وهو مبتدأ وأعلم خبر وبمن اتقى متعلقان بأعلم وجملة اتقى صلة الموصول. [سورة النجم (53) : الآيات 33 الى 62] أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 363 اللغة: (تَوَلَّى) عنه: أعرض عنه وتركه وتولّى هاربا أدبر وسيأتي المزيد من معناه في باب البلاغة. (أَكْدى) منع عطيته وقطعها وأصله إكداء الحافر وهو أن تلقاه كدية وهي صلابة كالصخرة فيمسك عن الحفر وسيأتي المزيد من معناه في باب البلاغة. (أَقْنى) أعطى المال الذي اتخذ قنية والقنية المال الذي تأثلته وعزمت أن لا يخرج من يدك وفي الصحاح: «قني الرجل يقنى قنى مثل غني يغنى غنى ثم يتعدى بتغيير الحركة فيقال قنيت له مالا كسبته نحو شترت عين الرجل وشترها الله» وقال الراغب والحقيقة أنه جعل له مالا قنية وقنيت كذا وأقنيته. (الشِّعْرى) هما شعريان أي كوكبان يسمى أحدهما الشعرى العبور وهو المراد في الآية الكريمة فإن خزاعة كانت تعبدها وقد سنّ عبادتها أبو كبشة وهو رجل من ساداتهم وقال لأن النجوم تقطع السماء عرضا والشعرى تقطعها طولا فهي مخالفة لها فعبدها وعبدتها خزاعة وحمير، وأبو كبشة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أمهاته ولذلك كان مشركو قريش يسمّون النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي كبشة حين دعا إلى الله تعالى وخالف أديانهم تشبيها بذلك الرجل في أنه أحدث دينا غير دينهم، وهي تطلع بعد الجوزاء في شدة الحر وتسمى الشعرى اليمانية، والثاني الشعرى الغميصاء من الغمص بفتحتين وهو سيلان دمع العين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 364 (الْمُؤْتَفِكَةَ) المنقلبة وهي التي صار أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها. (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي دنت الدانية، قال النابغة: أزف الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا وكأن قد وقال كعب بن زهير: بان الشباب وأمسى الشيب قد أزفا ... ولا أرى لشباب ذاهب خلفا وفي المصباح: «أزف الرحيل أزفا من باب تعب وأزفا أيضا دنا وقرب، وأزفت الأزفة: دنت القامة» . (سامِدُونَ) السمود اللهو وقيل الإعراض وقيل الاستكبار وقال أبو عبيدة: السمود الغناء بلغة حمير يقولون: يا جارية اسمدي لنا أي غنّي لنا وقال الراغب: «السامد اللاهي الرافع رأسه من قولهم بعير سامد في مسيره وقيل سمد رأسه وجسده أي استأصل شعره» وفي المختار: «السامد اللاهي وبابه دخل» وفسر الزمخشري السمود بالبرطمة وهي عامية فصيحة، ففي الصحاح البرطمة الانتفاخ من الغضب. الإعراب: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) الهمزة للاستفهام التقريري والفاء عاطفة على محذوف مقدّر ورأيت فعل وفاعل بمعنى أخبرني والذي مفعول رأيت الأول وجملة تولى صلة الموصول (وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى) الواو عاطفة وأعطى معطوف على تولى وقليلا صفة لمصدر محذوف ولك أن تجعله مفعولا به وأكدى عطف على أعطى (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) الهمزة للاستفهام الإنكاري وعنده ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 365 وعلم الغيب مبتدأ مؤخر والجملة في موضع نصب على أنها مفعول ثان لرأيت والفاء عاطفة وهو مبتدأ وجملة يرى خبره والجملة عطف على جملة أعنده علم الغيب فهي داخلة في حيز الاستفهام (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى) أم منقطعة بمعنى بل ولم حرف نفي وقلب وجزم وينبأ فعل مضارع مجزوم بلم ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وبما في موضع نصب مفعول ثان لينبأ وفي صحف موسى متعلقان بمحذوف صلة ما (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) وإبراهيم عطف على موسى والذي صفة ووفى صلة الموصول (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وجملة لا تزر خبرها ووازرة فاعل تزر ووزر أخرى مفعول تزر وأن وما في حيزها بدل من ما في صحف موسى فهي في محل جر أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو أن لا تزر فهي في محل رفع (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) وأن عطف على أن لا تزر فهي مخففة مثلها وجملة ليس خبرها وللإنسان خبر مقدم لليس وإلا أداة حصر وما مصدرية وسعى فعل والمصدر المؤول اسم ليس (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) عطف على ما تقدم وسعيه اسم أن وجملة سوف يرى خبر أن (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) ثم حرف عطف ويجزاه فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو والهاء نصب بنزع الخافض أو هو مفعول ثان يقال جزيته سعيه وبسعيه والجزاء مفعول مطلق والأوفى صفة والضمير المرفوع يعود على الإنسان والمنصوب يعود على الجزاء وقال أبو البقاء: «قوله الجزاء الأوفى هو مفعول يجزى وليس بمصدر لأنه وصف بالأوفى وذلك من صفة المجزى به لا من صفة الفعل» وليس قوله ببعيد وعندئذ يتعين كون الضمير المنصوب منصوبا بنزع الخافض على أنه لا يمنع وصف المصدر من بقائه مصدرا لأن الفعل قد يوصف بذلك مبالغة، ويجوز أن يكون الضمير المنصوب للجزاء ثم فسّر بقوله الجزاء الأوفى فهو بدل منه أو عطف بيان (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) عطف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 366 على ما تقدم وإلى ربك خبر أن المقدم والمنتهى اسم أن المؤخر (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) عطف أيضا وأن واسمها وهو مبتدأ وجملة أضحك خبر والجملة خبر أن ويجوز إعراب هو تأكيدا لاسم أن، وعن بعضهم هو ضمير فصل وجملة أضحك خبر أن ورجحه الأكثرون قالوا «في قوله تعالى وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى إنما أتى بضمير الفصل في الأولين دون الثالث لأن بعض الجهّال قد يثبت هذه الأفعال لغير الله تعالى كقول نمروذ أنا أحيي وأميت وأما الثالث فلم يدعه أحد من الناس» (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) عطف على الآية السابقة مماثلة لها في إعرابها (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) جملة خلق خبر أن والزوجين مفعول به والذكر بدل من الزوجين والأنثى عطف على الذكر (مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) من نطفة متعلقان بخلق وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه وجملة تمنى في محل جر بإضافة الظرف إليها (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) الآية معطوفة على ما قبلها وعليه خبر أن المقدّم والنشأة اسمها المؤخر والأخرى صفة للنشأة (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) عطف على ما تقدم وقد سبق إعرابها (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) عطف أيضا (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) أن واسمها وجملة أهلك خبرها وعادا مفعول أهلك والأولى صفة (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) عطف على عاد والفاء عاطفة وما أبقى معطوف على أهلك، وقال أبو البقاء: «وثمودا منصوب بفعل مضمر أي وأهلك ثمودا، ولا يصحّ أن يكون مفعولا مقدما لأبقى لأن لما النافية الصدر فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها» (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) وقوم نوح عطف على ثمود ومن قبل متعلقان بمحذوف على الحال وقد بنيت قبل على الضم لانقطاعها عن الإضافة لفظا لا معنى وإن واسمها وصلة كانوا خبرها وكان واسمها وهم ضمير فصل لا محل له ويجوز أن يكون تأكيدا للضمير في كانوا وأظلم خبر كانوا وأطغى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 367 عطف على أظلم (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) الواو عاطفة والمؤتفكة مفعول مقدم لأهوى فتكون الجملة معطوفة ويجوز لك عطف المؤتفكة على ما قبله (فَغَشَّاها ما غَشَّى) الفاء حرف عطف وغشاها فعل وفاعل مستتر وما موصول مفعول ثان لغشى وجملة غشى صلة ويجوز أن يكون غشى المشدد بمعنى المجرد فيتعدى لواحد ويكون الفاعل ما كقوله تعالى: «فغشيهم من اليمّ ما غشيهم» (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) الفاء الفصيحة أي إن عرفت هذا كله فبأيّ آلاء ربك تتمارى والباء ظرفية والخطاب للسامع والجار والمجرور متعلقان بتتمارى أي تتشكك وهو استفهام إنكاري وأطلق على النعم والنقم لفظ الآلاء وهي النعم التي لا يتشكك فيها سامع لما في النقم من الزجر والوعظ لمن اعتبر وتدبر (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) اسم الإشارة مبتدأ والإشارة إلى القرآن أو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ونذير خبر وتنوينه للتفخيم ومن النذر نعت لنذير والنذر إما جمع لاسم الفاعل إذا اعتبرنا نذيرا اسم فاعل غير قياسي أو للمصدر إذا اعتبرنا نذيرا مصدرا غير قياسي لأنه من أنذر وقياس اسم الفاعل منه منذر وقياس المصدر منه منذر والأولى نعت للنذر (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) فعل وفاعل أي قربت الموصوفة بالقرب وهي يوم القيامة (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ) الجملة حال من الآزفة وليس فعل ماض ناقص ولها خبر مقدم ومن دون الله حال وكاشفة اسم ليس وهو تحتمل أن تكون وصفا أو مصدرا فإذا كانت وصفا فالتاء فيها للتأنيث لأنها عندئذ صفة لمحذوف أي نفس كاشفة أو حال كاشفة ويجوز أن تكون التاء فيها للمبالغة كعلّامة ونسّابة وأن تكون مصدرا كما قال الرمّاني وجماعته كالعاقبة وخائنة الأعين (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء استئنافية ومن هذا متعلقان بتعجبون والحديث بدل من اسم الإشارة وتعجبون فعل مضارع مرفوع والعجب قد يكون للتكذيب وقد يكون للاستحسان والتصديق والأول هو المقصود بالإنكار الجزء: 9 ¦ الصفحة: 368 (وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ) عطف على تعجبون (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) الواو للحال أو للاستئناف وأنتم مبتدأ وسامدون خبر والجملة إما حالية وإما مستأنفة (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) الفاء الفصيحة أي إن تدبرتم هذا كله ووعيتموه حق الوعي فاسجدوا، واسجدوا فعل أمر مبني على حذف النون ولله متعلقان باسجدوا واعبدوا فعل أمر معطوف على فاسجدوا والمفعول به محذوف. البلاغة: 1- في قوله تعالى «أفرأيت الذي تولى» استعارة تصريحية لأنه استعار الإدبار والإعراض لعدم الدخول في الإيمان، ويمكن أن يجري هذا ضابطا لذكر التولي في القرآن فحيث ورد مطلقا غير مقيد يكون معناه عدم الإيمان. وفي قوله «وأعطى قليلا وأكدى» استعارة تصريحية، شبّه من يعطى قليلا ثم يمسك عن العطاء بمن يكدي أي يمسك عن الحفر بعد أن حيل دونه بصلابة كالصخرة. قال الإمام الراغب في مفرداته «الكدية صلابة الأرض، يقال حفر فأكدى فاستعير ذلك للطالب الملحف والمعطي المقل كما قال تعالى: أعطى قليلا وأكدى» . 2- وفي قوله «اضحك وابكى» و «أمات وأحيا» و «أعطى وأكدى» و «الذّكر والأنثى» طباق لا يخفى وهو في السورة جميعها متعدد ولهذا يدخل في باب المقابلة. وقد زاد هذا الطباق حسنا أنه أتى في معرض التسجيع الفصيح لمجيء المناسبة التامة في فواصل الآي. 3- وفي قوله «وأنه هو رب الشعرى» فن التنكيت وهو أن يقصد المتكلم إلى شيء بالذكر دون غيره مما يسدّ مسدّه لأجل نكتة في المذكور ترجح مجيئه على سواه وقد خصّ الله سبحانه الشعرى بالذكر دون غيرها من النجوم وهو رب كل شيء لما ذكرنا في باب اللغة من أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 369 العرب كان قد ظهر فيهم رجل يعرف بأبي كبشة عبد الشعرى ودعا إلى عبادتها فأنزل الله الآية. 4- وفي قوله «ليس لها من دون الله كاشفة» فن التمثيل فقد أخرج الكلام مخرج المثل السائر يتمثل به في الوقائع. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 370 (54) سورة القمر مكيّة وآياتها خمس وخمسون [سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) اللغة: (مُزْدَجَرٌ) مصدر ميمي من الزجر إلا أن التاء أبدلت دالا ليوافق الزاي بالجهر، ولك أن تعتبره اسم مكان أي مكان اتعاظ. (نُكُرٍ) منكر فظيع تنكره النفوس لهوله وهو يوم القيامة. (مُهْطِعِينَ) الإهطاع هو الإسراع مع مدّ الأعناق والتشوّف بالأنظار الجزء: 9 ¦ الصفحة: 371 بصورة دائمة لا تقلع عن التحديق وهي صورة حيّة مجسّدة للفزع المرتاع الذي يتطلع إلى ما يرتقبه من أهوال. الإعراب: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) اقتربت الساعة فعل ماض وفاعل وانشق القمر عطف على الجملة المتقدمة (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) الواو عاطفة وإن شرطية ويروا فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل ويعرضوا جواب الشرط ويقولوا عطف على يعرضوا وسحر خبر لمبتدأ محذوف أي هذا ومستمر صفة لسحر وفي مستمر أربعة أقوال أحدها وهو الظاهر أنه دائم مطّرد وقيل: مستمر قوي محكم من قولهم استمر مريره، قال البحتري في وصف الذئب: طواه الطوى حتى استمر مريره ... فما فيه إلا الروح والعظم والجلد وقيل هو من استمر الشيء إذا اشتدت مرارته فلا ينساغ وقيل مستمر مار ذاهب لا يبقى وجميع هذه الاحتمالات سائغة (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) الواو عاطفة وكذبوا فعل وفاعل واتبعوا فعل وفاعل وأهواءهم مفعول به، وسيأتي سر العدول عن المضارع إلى الماضي في باب البلاغة، والواو للاستئناف وكل أمر مبتدأ ومستقر خبره والجملة استئناف مسوق لإدخال اليأس إلى قلوبهم مما علّلوا به أمانيهم الكذوب، وفي مستقر قراءات منها مستقر بفتح القاف على أنه اسم مكان أو زمان أو مصدر ميمي أي ذو موضع استقرار أو زمان استقرار أو استقرار وقرئ بالجر صفة لأمر فيكون كل مبتدأ والخبر محذوف أي معمول به أو معطوفا على الساعة واستبعده أبو حيان لطول الفصل بجمل ثلاث (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وجاءهم فعل ماض ومفعول به ومن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 372 الأنباء حال من ما وما موصولة أو موصوفة وعلى الحالين هي فاعل جاءهم وفيه خبر مقدّم ومزدجر مبتدأ مؤخر والجملة صلة ما (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) حكمة خبر لمبتدأ محذوف أو بدل من ما وبالغة صفة لحكمة ومفعول بالغة محذوف والتقدير بالغة غايتها أي لا يتطرق إليها خلل والفاء عاطفة وما نافية أو استفهامية للإنكار وهي في محل نصب مفعول مطلق أي فأي غناء تغن النذر ويجوز أن تجعلها مفعولا به مقدّما أي فأي شيء من الأشياء تغن النذر وتغن فعل مضارع مرفوع والنذر فاعل تغن (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) الفاء الفصيحة وتولّ فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله مستتر تقديره أنت أي لا تناظرهم بالكلام وعنهم متعلقان بتولّ ويوم ظرف متعلق باذكر مضمرا أو بيخرجون وجملة يدع في محل جر بإضافة الظرف إليها وحذفت الياء من يدعو خطا والداعي فاعل يدعو وقرئ بإسقاط الياء اكتفاء بالكسرة وإلى شيء متعلقان بيدعو ونكر صفة لشيء (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) خشعا حال وقرئ خاشعة وخاشعا وأبصارهم فاعل خشعا قال الزجّاج: ولك في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد فتقول خاشعا أبصارهم ولك التوحيد والتأنيث نحو خاشعة أبصارهم ولك الجمع نحو خشعا أبصارهم وتقول مررت بشباب حسن أوجههم وحسنة أوجههم وحسان وجوههم قال: وشباب حسن أوجههم ... من إياد بن نزار بن معبد وقال الزمخشري: «ويجوز أن يكون في خشعا ضميرهم وتقع أبصارهم بدلا منه وجملة يخرجون مستأنفة ومن الأجداث متعلقان بيخرجون» وكأن واسمها وجراد خبرها ومنتشر صفة وجملة كأنهم جراد حال (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) مهطعين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 373 منصوب على الحال أيضا من فاعل يخرجون وإلى الداع متعلقان بمهطعين وجملة يقول الكافرون استئنافية كأنها قد وقعت جوابا لسؤال عمّا نشأ من وصف اليوم بالأهوال وأهله بسوء الحال كأنه قيل فما يكون حينئذ فقيل يقول الكافرون وجوّز بعضهم أن تكون الجملة حالية من فاعل يخرجون فالأحوال من الواو إذن أربعة واحد مقدّم وثلاثة مؤخرة وجملة هذا يوم عسر مقول القول. البلاغة: 1- المبالغة: في قوله: «اقتربت الساعة» زيادة مبالغة على قرب، كما أن في اقتدر زيادة مبالغة على قدر لأن أصل افتعل إعداد المعنى بالمبالغة نحو اشتوى إذا اتخذ شواء بالمبالغة في إعداده. 2- العدول عن المضارع إلى الماضي: وفي قوله تعالى: «وكذبوا واتبعوا أهواءهم» عدول عن المضارع كما يقتضيه ظاهر السياق لكون كذبوا واتبعوا معطوفين على يعرضوا، والسر في هذا العدول الإشعار بأنهما من عاداتهم القديمة. 3- التشبيه المرسل المفصل: وفي قوله «يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر» تشبيه مرسل مفصّل لأن الأركان الأربعة موجودة فيه فقد شبّههم بالجراد في الكثرة والتموج وعبارة القرطبي «كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع» وقال في موضع آخر: «يوم يكون الناس كالفراش المبثوث فهما صفتان في وقتين مختلفين أحدهما عند الخروج من القبور يخرجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون فيدخل بعضهم في بعض فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضه في بعض لا جهة له يقصدها فإذا سمعوا المنادي قصدوه فصاروا كالجراد المنتشر لأن الجراد له وجه يقصده» وهذا تعقيب جميل. وقد أفاد هذا التشبيه تجسيد الصورة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 374 وتشخيصها فهذه الجموع الخارجة من الأجداث في مثل رجع الطرف تشبه الجراد الذي اشتهر بانتشاره واحتشاده دون أن يكون له هدف من هذا الانتشار والاحتشاد وكذلك هذه الجمع قد ألجمها الخوف وعقد الهول أفهامها وضرب عليها رواكد من الحيرة وغشيها بأمواج من الضلالة والرين فهي تسير تلبية لدعوة الداع دون أن تعرف لم يدعوها، ولكنها تعرف بصورة مبهمة أنه يدعوها إلى شيء نكر لا تكتنه حقيقته ولا تعرف فحواه. [سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 17] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) اللغة: (مُنْهَمِرٍ) المنهمر: المنصب بشدة وغزارة وفي المختار: «همر الدمع والماء صبّه وبابه نصر وانهمر الماء: سال» قال امرؤ القيس: راح تمريه الصبا ثم انتحى ... فيه شؤبوب جنوب منهمر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 375 (وَفَجَّرْنَا) التفجير: تشقيق الأرض عن الماء وللفاء مع الجيم فاء وعينا خاصة غريبة فهما تدلّان على الشق والتصديع، ففجأ وفجئ فجئا وفجأة وفجاءة وفاجأ مفاجأة الرجل: هجم عليه أو طرقه بغتة من غير أن يشعر به، والفجر ضوء الصباح وفيه تصديع لظلمة الليل، وشقّ لحنادسه، ومشى فلان مفاجّا بين رجليه أي مفرجا بينهما وفي أحاجيهم: ما شيء يفاجّ ولا يبول: هو المنضدة شيء كالسرير له أربع قوائم يضعون عليه نضدهم وافتج الرجل: سلك الفجاج والفج يجمع على فجاج وفجاج وهو الطريق الواسع الواضح بين جبلين وركب فلان فجرة عظيمة وهو من أهل الفجر لا من أهل الفجور وهو الكرم وتبطح السيل في مفاجر الوادي ومرافضه وهي المواضع التي ترفض إليها السبل، وفجعه ما أصابه وفجّعه ويقولون: الدهر فاجئ بالشر فاجع واهب في هبته راجع، والفجوة المتّسع. (عُيُوناً) جمع عين الماء وهي ما يفور من الأرض مستديرا كاستدارة عين الحيوان فالعين مشتركة بين عين الحيوان وعين الماء وعين الذهب وعين السحاب وعين الركية ويقال للعين ينبوع والجمع ينابيع والمنبع بفتح الميم والباء مخرج الماء والجمع منابع. (وَدُسُرٍ) الدسر: المسامير التي تشدّ بها السفينة واحدها دسار ودسير ودسرت السفينة أدسرها دسرا إذا شددتها وقيل إن أصل الباب الدفع يقال دسره بالرمح إذا دفعه بشدة والدسر صدر السفينة لأنه يدسر به الماء أي يدفع ومنه الحديث في العنبر: «هو شيء دسره البحر» وفي المختار «الدسر: الدفع وبابه نصر» ويمكن التوفيق بين القولين لأن المسمار يدفع في منفذه، وسيأتي المزيد من هذا المعنى في باب البلاغة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 376 (مُدَّكِرٍ) أصله مذتكر فقلبت التاء دالا لتواخي الذال في الجهر ثم أدغمت الدال فيها. الإعراب: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) كذبت فعل ماض والتاء للتأنيث وقبلهم ظرف زمان منصوب لإضافته متعلق بكذبت وقوم نوح فاعل كذبت، فكذبوا الفاء عاطفة وكذبوا فعل وفاعل وعبدنا مفعول به وقالوا عطف على كذبوا ومجنون خبر لمبتدأ محذوف أي هو مجنون، وازدجر يجوز عطفه على قالوا أي لم يكتفوا بهذا القول بل ضمّوا إليه زجره ونهره وقيل هو معطوف على هو مجنون فهو في حيز مقولهم أي قالوا هو مجنون وقد ازدجرته الجن وتخبطته وذهبت بلبّه، وازدجر فعل ماض مبني للمجهول (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) الفاء عاطفة ودعا ربه فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وأن وما في حيزها في محل نصب بنزع الخافض أي بأني مغلوب على حكاية المعنى ولو جاء على حكاية اللفظ يقال أنه مغلوب، وأن واسمها وخبرها والفاء عاطفة وانتصر فعل أمر أي انتقم لي منهم فمتعلق انتصر محذوف كما رأيت (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) الفاء عاطفة على محذوف مقدّر أي فاستجبنا لنوح دعاءه ففتحنا، وفتحنا فعل وفاعل وأبواب السماء مفعول به وبماء متعلقان بفتحنا والباء للتعدية على المبالغة حيث جعل الماء كالآلة التي يفتح بها كما تقول فتحت بالمفتاح ويجوز أن تكون الباء للملابسة أي ملتبسة بماء منهمر فتكون في موضع نصب على الحال، ومنهمر صفة لماء (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) وفجرنا عطف على فتحنا والأرض مفعول به وعيونا تمييز فإن نسبة فجرنا إلى الأرض مبهمة وعيونا مبين لذلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 377 الإبهام والأصل وفجرنا عيون الأرض فحول المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وجيء بالمضاف تمييزا، فالتقى عطف على فجرنا والماء فاعل التقى وعلى أمر متعلقان بالتقى وأفادت على معنى التعليل والمعنى اجتمع لأجل إغراقهم المقضي أزلا، وقيل في موضع نصب على الحال، وجملة قد قدر صفة لأمر (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) الواو عاطفة وحملناه فعل وفاعل ومفعول به وعلى ذات متعلقان بحملناه وألواح مضاف إليه ودسر عطف على ألواح (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) الجملة صفة لذات دسر وذات ألواح في الأصل صفة لسفينة فهي صفة ثانية وتجري فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الياء وبأعيننا جار ومجرور في موضع نصب على الحال من الضمير في تجري أي مكلوءة ومحفوظة بأعيننا وجزاء مفعول لأجله أي فعلنا ذلك جزاء أو بتقدير جازيناهم جزاء ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال ولمن متعلقان بجزاء وجملة كان صلة من (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وتركناها فعل ماض وفاعل ومفعول به والضمير يعود على الفعلة وهي إغراقهم على الشكل المذكور وأجاز الزمخشري أن يعود على السفينة، وآية حال أو مفعول به ثان إذا كان تركنا بمعنى جعلناها والفاء عاطفة وهل حرف استفهام ومن حرف جر زائد ومدكر مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره موجود (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) الفاء الأولى أن تكون هي الفاء الفصيحة كأنه قال إن علمتم ما حلّ بهم جميعا جزاء وفاقا لعملهم فكيف كان عذابي وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وكان عذابي كان واسمها ونذري عطف على عذابي ولم تثبت الياء في الرسم لأنها من ياءات الزوائد وكذا يقال في المواضع الآتية كلها على أنه قرئ بإثباتها وسيأتي معنى الاستفهام في البلاغة (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) عطف على ما تقدم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 378 وللذكر متعلقان بيسّرنا والمعنى ولقد هيأناه للذكر من يسر ناقته للسفر ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه قال: وقمت إليه باللجام ميسرا ... هنالك يجزيني الذي كنت أصنع ومعنى البيت: وقمت إليه مهيئا ومعدّا له اللجام أو مسهلا له به دلالة على أنه كان صعبا لولا اللجام وهنالك إشارة إلى مكان الحرب وإلى زمانها ويجزيني أي يعطيني جزاء صنعي معه وشبهه لمن تصح منه المجازاة على طريق الاستعارة المكنية. البلاغة: 1- إنابة الصفات مناب الموصوفات: في وقله «وحملناه على ذات ألواح ودسر» كناية عن موصوف وهو السفينة فقد نابت الصفات مناب الموصوفات وأدّت مؤداها بحيث لا يفصل بينها وبينها، ونحوه قول أبي الطيب: مفرشي صهوة الحصان ... ولكن قميصي مسرودة من حديد أراد ولكن قميصي درع، وفي الآية لو جمعت بين السفينة وبين هذه الصفة أو بين الدرع وهذه الصفة لم يصحّ وهذا من فصيح الكلام وبديعه. 2- التكرير: وفي قوله «فهل من مدّكر» تكرار وقد مرّ تعريفه، ونقول هنا أن فائدة التكرار أن يجددوا عند سماع كل نبأ اتعاظا، وسيأتي من أحكام التكرير العجب العجاب. 3- معنى الاستفهام: وفي قوله «فكيف كان عذابي ونذر» الاستفهام هنا للسؤال عن الحال أي كان على كيفية هائلة لا يحيطها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 379 الوصف، والمعنى حمل المخاطبين على الإقرار بوقوع عذابه تعالى للمكذبين. [سورة القمر (54) : الآيات 18 الى 22] كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) اللغة: (صَرْصَراً) الصرصر: الريح الشديدة الهبوب حتى يسمع صوتها، وهو مضاعف صر، وتكرير الأحرف إشعار بتكرير العمل وقد تقدم بحثه ومثله كبّ وكبكب ونه ونهنه. (أَعْجازُ نَخْلٍ) الأعجاز: جمع عجز وعجز كل شيء مؤخره ومنه العجز لأنه يؤدي إلى تأخر الأمور والنخل يذكّر ويؤنّث. (مُنْقَعِرٍ) : منقلع من أصله لأن قعر الشيء قراره ومنه تقعر فلان في كلامه إذا تعمق فيه. الإعراب: (كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) كذبت عاد فعل ماض وفاعل وكيف كان عذابي ونذر تقدم إعرابها (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 380 صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) إن واسمها وجملة أرسلنا عليهم خبرها والجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما أجمل وريحا مفعول أرسلنا وصرصرا نعت ريحا ومستمر نعت للنحس أو لليوم، وسيأتي الحديث عن يوم النحس في باب الفوائد (تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) الجملة صفة لريحا وكأن واسمها وأعجاز نخل خبرها ومنعقر صفة لنخل والجملة حالية وهي حال مقدّرة وسيأتي المزيد عن هذا التشبيه في باب البلاغة (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) تقدم إعرابها (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) تقدم إعرابها قريبا فجدد به عهدا. البلاغة: 1- في قوله «تنزع الناس» وضح الظاهر موضع المضمر وذلك لإفادة العموم أي إن النزع يعمّ الذكور والإناث جميعا وإلا فالأصل تنزعهم، قال مجاهد «تلقى الرجل على رأسه فتفتت رأسه وعنقه وما يلي ذلك من بدنه» وقيل كانوا يصطفون آخذي بعضهم بأيدي بعض ويدخلون في الشعاب ويحفرون الحفر فيندسون فيها فتنزعهم وتدق رقابهم. 2- التشبيه: وفي قوله: «كأنهم أعجاز نخل منقعر» تشبيه مرسل تمثيلي، شبّههم بأعجاز النخل المنقعر إذ تساقطوا على الأرض أمواتا وهم جثث غطام طوال، وقيل كانت الريح تقطع رءوسهم فتبقى أجسادا بلا رءوس فأشبهت أعجاز النخل التي انقلعت من مغارسها. الفوائد: يوم النحس: قال الزجّاج: «قيل أنه كان في يوم الأربعاء في آخر الشهر لا تدور» ومن ثم شاع النحس عن يوم الأربعاء التي لا تدور، قال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 381 الشهاب في حاشيته على البيضاوي «فإن الناس يتشاءمون بآخر أربعاء في كل شهر ويقولون له أربعاء لا يدور وتشاؤمهم به لا يستلزم شؤمه في نفسه» وسيأتي المزيد من هذا البحث في سورة الحاقة. [سورة القمر (54) : الآيات 23 الى 32] كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) اللغة: (سُعُرٍ) يجوز أن يكون مفرد أي جنون يقال ناقة مسعورة أي كالمجنونة في سيرها قال: كأنّ بها سعرا إذا العيس هزّها ... ذميل وإرخاء من السير متعب يقول: كأن بناقتي جنونا لقوة سيرها فالعيس جمع عيساء وهي النوق البيض حركها ذميل وإرخاء وهما ضربان من السير متعب كل منهما، وإسناد الهز إليهما مجاز عقلي من باب الإسناد للسبب وإن أريد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 382 بالهز التسيير فيكون من الإسناد للمصدر كجد جده ويجوز أن يكون جمع سعير وهو النار. (الْأَشِرُ) الشديد البطر والتكبّر فهي صيغة مبالغة وقيل انه صفة مشبهة كحذر ويقظ ووطف وعجز وفي المختار «أشر وبطر من باب طرب أو فرح» . (مُحْتَضَرٌ) اسم مفعول من احتضر بمعنى حضر لأن الماء كان مقسوما بينهم لكل فريق يوم أي كل نصيب من الماء يحضره لا يحضر آخر معه ففي يوم الناقة تحضره الناقة وفي يومهم يحضرونه هم، وحضر واحتضر بمعنى واحد وإنما قال قسمة بينهم تغليبا لمن يعقل والمعنى يوم لهم ويوم لها. (فَتَعاطى) فتناول السيف وعقرها، وقد مرّ مدتها. (الْمُحْتَظِرِ) بكسر الظاء اسم فاعل وهو الذي يتخذ حظيرة من الحطب وغيره والحظيرة الزريبة وفي المختار «الحظيرة تعمل للإبل من شجر لتقيها البرد والريح والمحتظر بكسر الظاء الذي يعملها» والمعنى صاروا كيبس الشجر المفتت إذا تحطم والهشيم المتكسر المتفتت. الإعراب: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) فعل ماض وفاعل وبالنذر متعلقان بكذبت وقد تقدم أن النذر إما أن يكون مصدرا فيكون بمعنى الإنذار وإما أن يكون جمع نذير أي منذر (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) الفاء عاطفة وقالوا فعل ماض وفاعل، وأبشرا الهمزة للاستفهام وبشرا منصوب على الاشتغال أي بفعل مضمر يفسره ما بعده أي أنتبع بشرا ومنّا صفة لبشرا وواحدا فيه وجهان أظهرهما أنه نعت لبشرا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 383 إلا أنه يشكل عليه تقديم الصفة المؤولة على الصفة الصريحة ويجاب بأن منّا حينئذ ليس وصفا بل حال من واحدا قدم عليه والوجه الثاني أنه نصب على الحال من الهاء في نتبعه، والبشر يقع على الواحد والجمع ونتبعه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وإن واسمها وإذن حرف جواب وجزاء مهملة ولفي اللام المزحلقة وفي ضلال متعلقان بمحذوف خبر إن وسعر معطوف على ضلال (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) الهمزة للاستفهام الإنكاري وألقي فعل ماض مبني للمجهول والذكر نائب فاعل وعليه متعلقان بألقي ومن بيننا حال من الهاء في عليه أي منفردا وبل حرف إضراب وعطف وهو مبتدأ وكذاب خبر وأشر نعت (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) الجمل مقول قول محذوف تقديره قال تعالى والسين للاستقبال ويعلمون فعل وفاعل وغدا ظرف متعلق بيعلمون ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ والكذاب خبره والأشر صفة والجملة المعلقة لتصدّر الاستفهام بها سدّت مسدّ مفعولي يعلمون (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) إن واسمها ومرسلو الناقة خبرها والجملة مستأنفة لبيان الموعود به وفتنة مفعول لأجله أي اختبارا لهم والفاء الفصيحة وارتقبهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به واصطبر عطف على ارتقبهم، ومتعلق واصطبر محذوف أي واصطبر على أذاهم (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) ونبئهم الواو عاطفة ونبئهم فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت والهاء مفعول أول وأن وما في حيزها في موضع المفعول الثاني والثالث لأن نبّأ تنصب ثلاثة مفاعيل وأن واسمها وقسمة خبرها وبينهم ظرف متعلق بمحذوف صفة مقسمة أو بقسمة لأنها بمعنى مقسومة وكل مبتدأ وشرب مضاف إليه ومحتضر خبر كل أي محضور لهم أو للناقة (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) الفاء عاطفة ونادوا فعل ماض وفاعل والمعطوف عليه محذوف أي فتمادوا على ذلك، والأحسن أن تكون الفصيحة أي فبقوا على ذلك مدة ثم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 384 ملّوا من نضوب الماء وجدب المراعي فأجمعوا على قتلها واتفقوا على الكمون لها حيث تمر وتطوع لهذا الأمر قدار بن سالف، وقد تقدمت قصته، فنادوه فتعاطى وصاحبهم مفعول به فتعاطى عطف على فنادوا أي فاجترأ على تعاطي هذا الأمر غير آبه له فعقر عطف على تعاطي (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) تقدم إعرابها قريبا (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) إن واسمها وجملة أرسلنا خبرها وعليهم متعلقان بأرسلنا وصيحة مفعول به وواحدة صفة، فكانوا عطف على أرسلنا والواو اسم كان والهشيم المحتظر خبرها وقرئ بالفتح على أنه اسم مكان وهو موضع الاحتظار أي الحظيرة (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) تقدم إعرابها قريبا. البلاغة: 1- في قوله «سيعلمون غدا من الكذاب الأشر» فن الإبهام ليكون الوعيد أحفل بالانتقام والتهديد أشدّ أثرا في النفوس، وأورده مورد الإبهام وإن كانوا هم المعنيين لأنه أراد وقت الموت ولم يرد غدا بعينه وهو شائع في الشعر العربي، قال أبي الطماح: ألا عللاني قبل نوح النوائح ... وقبل اضطراب النفس بين الجوانح وقبل غد يا لهف نفسي في غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح أراد وقت الموت ولم يرد غدا بعينه. ومنه قول الحطيئة: للموت فيها سهام غير مخطئة ... من لم يكن ميتا في اليوم مات غدا 2- التشبيه: وفي قوله «فكانوا كهشيم المحتظر» تشبيه مرسل لإهلاكهم وإفنائهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 385 [سورة القمر (54) : الآيات 33 الى 42] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) اللغة: (حاصِباً) ريحا حصبتهم أي رمتهم بالحجارة والحصباء، قال الفرزدق: مستقبلين شمال الشام تضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور وفي المختار: «الحصباء بالمدّ الحصى ومنه المحصّب وهو موضع بالحجاز والحاصب الريح الشديدة تثير الحصى والحصب بفتحتين ما تحصب به النار أي ترمى وكل ما ألقيته في النار فقد حصبتها به وبابه ضرب» وسيأتي المزيد من معناه في باب الإعراب. (بِسَحَرٍ) سحر إذا كان نكرة يراد به سحر من الأسحار يقال رأيت زيدا سحرا من الأسحار ولو أريد من يوم معين لمنع من الصرف لأنه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 386 معرفة معدول عن السحر لأن حقه أن يستعمل في المعرفة بأل، وعبارة الزمخشري: «بسحر بقطع من الليل وهو السدس الأخير منه وقيل: هما سحران فالسحر الأعلى قبل انصداع الفجر والآخر عند انصداعه وأنشد: يا سائلي إن كنت عنها تسأل ... مرّت بأعلى السحرين تذأل وصرف لأنه نكرة» هذا وقد اختلف في تعريف الممنوع فقيل إنه ممنوع من الصرف للتعريف والعدل أما التعريف ففيه خلاف فقيل هو معرفة بالعلمية لأنه جعل علما لهذا الوقت وقيل يشبه العلمية لأنه تعريف بغير أداة ظاهرة كالعلم وأما العدل فإن صيغته معدولة عن السحر المقرون بأل لأنه لما أريد به معين كان الأصل فيه أن يذكر معرّفا بأل فعدل عن اللفظ بأل وقصد به التعريف فمنع من الصرف، وقال السهيلي والشلوبين الصغير معرف معروف واختلف في منع تنوينه فقال السهيلي: هو على نية الإضافة وقال الشلوبين على نيّة أل. الإعراب: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) فعل ماض وفاعل وبالنذر متعلقان بكذبت (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) إن واسمها وجملة أرسلنا خبرها وعليهم متعلقان بأرسلنا وحاصبا مفعول به وإلا أداة استثناء وآل لوط مستثنى بإلا وفي هذا الاستثناء وجهان أحدهما أنه متصل ويكون المعنى أنه أرسل الحاصب على الجميع إلا أهله فإنه لم يرسل عليهم والثاني أنه منقطع ويكون المعنى أنه لم يرسل على آل لوط والوجه هو الأول، ونجيناهم فعل وفاعل وبسحر متعلقان بنجيناهم (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) نعمة مفعول مطلق ملاق لعامله في المعنى وهو نجيناهم إذ الإنجاء نعمة، أو مفعول لأجله تعليل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 387 لأنجيناهم وإليه جنح الزمخشري واقتصر عليه ومن عندنا صفة لنعمة وكذلك متعلق بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف أي مثل ذلك الإنجاء ونجزي فعل مضارع مرفوع ومن موصول مفعول به وجملة شكر صلة الموصول (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) الواو حرف عطف واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأنذرهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول وبطشتنا مفعول به ثان أو هو منصوب بنزع الخافض قولان، والفاء حرف عطف وتماروا فعل ماض والواو فاعل أي تدافعوا بالإنذار على وجه الجدال وبالنذر متعلقان بتماروا (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) الجملة عطف على الجملة السابقة وعن ضيفه متعلقان براودوه، فطمسنا عطف على راودوه وأعينهم مفعول به والفاء عاطفة ومعطوفها محذوف أي فقلنا لهم وجملة ذوقوا مقول القول المحذوف وعذابي مفعول ذوقوا ونذر عطف على عذابي وحذفت ياء المتكلم كما تقدم (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) عطف أيضا وبكرة ظرف متعلق بصحبهم أي من غير يوم معين وعذاب فاعل ومستقر نعت لعذاب أي لا يزول عنهم (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) تقدم إعرابها (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) تقدم إعراب نظيرها (كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) كلام مستأنف مسوق للردّ على سؤال نشأ من حكاية مجيء النذر كأنه قيل فماذا فعلوا حينئذ فقيل كذبوا، وبآياتنا متعلقان بكذبوا وكلها تأكيد لآياتنا، فأخذناهم الفاء عاطفة وأخذناهم فعل وفاعل ومفعول به وأخذ عزيز مفعول مطلق ومقتدر صفة لعزيز والإضافة من إضافة المصدر لفاعله. البلاغة: التكرير: في الآيات المتقدمة تكرير ملحوظ مقصود والغاية منه التذكير والانتباه من سنة الغفلة التي قد تطرأ على الأذهان فتحجبها عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 388 التأمل والتدبّر، وترين عليها سجوف الجهالات حتى ما تكاد تبصر شيئا وسيأتي المزيد من هذا الفن في سورة الرحمن. [سورة القمر (54) : الآيات 43 الى 55] أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) الإعراب: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) أكفّاركم: الهمزة للاستفهام الإنكاري الذي هو بمعنى النفي وكفّاركم مبتدأ وخير خبر ومن أولئكم متعلقان بخير وأم منقطعة بمعنى بل فهي للإضراب والانتقال إلى وجه آخر من التبكيت ولكم خبر مقدم وبراءة مبتدأ مؤخر وفي الزبر نعت لبراءة (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) أم تقدم القول فيها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 389 ويقولون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل ونحن مبتدأ وجميع خبر ومنتصر نعت لجميع لأنه بمعنى جمع والجملة مقول القول، وإنما وحّد منتصر للفظ بجميع فإنه واحد في اللفظ وإن كان اسما للجماعة كالرهط والجيش وقيل لم يقل منتصرون لموافقة رؤوس الآي وهو جيد (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) السين حرف استقبال ويهزم فعل مضارع مبني للمجهول والجمع نائب فاعل ويولون عطف على سيهزم والدبر مفعول به، ولم يقل الأدبار لموافقة رؤوس الآي أيضا ولأنه اسم جنس لأن كل واحد يولي دبره (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) بل حرف إضراب وعطف والساعة مبتدأ وموعدهم خبر والواو حرف عطف والساعة مبتدأ وأدهى خبر وأمرّ عطف على الساعة ولك أن تجعل الواو للحال (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) إن واسمها في ضلال خبرها (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) يوم الظرف متعلق بقول محذوف أي يقال لهم يوم يسحبون وجملة يسحبون في محل جر بإضافة الظرف إليها وفي النار متعلقان بيسحبون وعلى وجوههم متعلقان بمحذوف حال وذوقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة مقول القول المقدّر ومسّ مفعول به وسقر مضاف إليه وهي علم لجهنم ولذلك منعت من الصرف لأنها علم مؤنث (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) إن واسمها وكل شيء نصب على الاشتغال بفعل محذوف يفسره ما بعده أي إنّا خلقنا كل شيء خلقناه وجملة الفعل المحذوف في محل رفع خبر إنّا وجملة خلقناه مفسّرة لا محل لها، وقد نشب خلاف طويل حول هذه الآية لخصناه لك في باب الفوائد، وبقدر متعلقان بمحذوف حال من كل أي مقدّرا محكما مرتبا (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) الواو عاطفة وما نافية وأمرنا مبتدأ وإلا أداة حصر وواحدة خبر أمرنا وكلمح متعلقان بمحذوف حال من متعلق الأمر وهو الشيء المأمور بالوجود أي حال كونه يوجد سريعا وبالبصر متعلقان بلمح (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 390 أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) تقدم إعراب نظيرها قريبا (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) الواو عاطفة وكل مبتدأ وشيء مضاف إليه وجملة فعلوه صفة وفي الزبر خبر أي الكتب جمع زبور (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) مبتدأ وخبر أي مسطور في اللوح المحفوظ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) إن واسمها وفي جنات خبرها ونهر عطفت على جنات (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) الجار والمجرور بدل بعض من كل من قوله في جنات لأن المقعد بعض الجنات ولك أن تعلقه بمحذوف على أنه خبر ثان لإن وعند مليك ظرف متعلق بمحذوف صفة لجنات أو لمقعد وقيل هو خبر ثان أو ثالث لإن ومليك صيغة مبالغة. الفوائد: 1- شجر خلاف بين أهل السنّة والمعتزلة حول قوله تعالى «إنّا كل شيء خلقناه بقدر» وكان قياس ما مهّد النحاة رفع «كل» لكن لم يقرأ بها واحد من السبعة لأن الكلام مع الرفع جملة واحدة ومع النصب جملتان فالرفع أخصر مع أنه لا مقتضى للنصب هاهنا من أحد الأصناف الستة وهي الأمر والنهي والاستفهام والتمنّي والترجّي والتحضيض، ولا نجد هنا مناسب عطف ولا غيره مما يعدّونه من محال اختيارهم للنصب، فإذا تبين ذلك علم أنه إنما عدل عن الرفع إجمالا لسر لطيف يعين اختيار النصب وهو أنه لو رفع لوقعت الجملة التي هي خلقناه صفة لشيء ورفع قوله بقدر خبرا عن كل شيء المقيد بالصفة ويحصل الكلام على تقدير إنّا كل شيء مخلوق لنا بقدر فأفهم ذلك أن مخلوقا ما يضاف إلى غير الله تعالى ليس بقدر، وعلى النصب يصير الكلام إنّا خلقنا كل شيء بقدر فيفيد عموم نسبة كل مخلوق إلى الله تعالى، فلما كانت هذه الفائدة لا توازيها الفائدة اللفظية على قراءة الرفع مع ما في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 391 الرفع من نقصان المعنى ومع ما في هذه القراءة المستفيضة من مجيء المعنى تاما كفلق الصبح لا جرم أجمعوا على العدول عن الرفع إلى النصب. على أن الزمخشري وهو من رؤوس المعتزلة وأعلامهم حاول خرق الإجماع ونقل قراءة بالرفع وخلقناه في موضع الصفة وبقدر هو الخبر أو جملة خلقناه هي الخبر وبقدر حال وعبارته «كل شيء منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر وقرئ كل شيء بالرفع» وقد انفرد بها أبو السمال وهي شاذة. 2- خلاصة وافية لبحث الاشتغال: وهذه خلاصة وافية لبحث الاشتغال: أما حدّه فهو أن يتقدم اسم ويتأخر عنه فعل متصرف أو اسم يشبهه ناصب لضميره أو لملابس ضميره بواسطة أو غيرها، ويكون ذلك العامل بحيث لو فرغ من ذلك المعمول وسلط على الاسم المتقدم لنصبه، ويجب النصب إذا وقع الاسم المتقدم بعد ما يختص بالفعل كأدوات التحضيض نحو هلّا زيدا أكرمته، وأدوات الاستفهام غير الهمزة نحو هل زيدا رأيته، وأدوات الشرط نحو حيثما زيدا لقيته فأكرمه، ويترجح النصب في ست مسائل: 1- أن يكون الفعل المشتغل طلبا وهو الأمر والدعاء بخير أو شر. 2- أن يكون الفعل المشتغل مقرونا باللام أو بلا الطلبيتين نحو عمرا ليضربه بكر، وخالدا لا تهنه. 3- أن يكون الاسم المشتغل عنه واقعا بعد شيء الغالب عليه أن يليه فعل ولذلك أمثلة منها همزة الاستفهام نحو: «أبشرا منّا واحدا نتبعه» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 392 4- أن يقع الاسم المشتغل عنه بعد عاطف غير مفصول بأما المفتوحة الهمزة المشددة الميم، مسبوق بفعل غير مبني على اسم قبله نحو قام زيد وعمرا أكرمته، وقوله تعالى «والأنعام خلقها لكم» بخلاف نحو: ضربت زيدا وأما عمرو فأهنته فالمختار فيه الرفع. 5- أن يتوهم في الرفع أن الفعل المشتغل بالضمير صفة لما قبله نحو «إنّا كل شيء خلقناه بقدر» لأنه إذا رفع كل احتمل خلقناه أن يكون خبرا له فيكون المعنى على عموم خلق الكائنات الموجودة بقدر خيرا كانت أو شرا كما هو مذهب السنّة، واحتمل أن يكون خلقناه صفة لشيء وبقدر خبر لكل والتخصيص بالصفة يوهم أن ما لا يكون موصوفا بها لا يكون بقدر والصفة هي المخلوقية المنسوبة له فالمخلوقية التي لا تكون منسوبة له لا تكون بقدر فيوهم أن ثمة مخلوقا لغيره تعالى وهو مذهب المعتزلة وإنما لم يتوهم ذلك مع النصب لكل على أنه مفعول بفعل محذوف يفسره خلقنا، ويمتنع جعله صفة لكل شيء لأن الصفة لا تعمل في الموصوف وما لا يعمل لا يفسر عاملا، ومن ثم وجب الرفع لكل إن كان الفعل المتصل بالضمير صفة لكل شيء نحو «وكل شيء فعلوه في الزبر» أي الكتب ولا يصحّ نصب كل لأن تقدير تسليط الفعل عليها إنما يكون على حسب المعنى المراد وليس المعنى هنا أنهم فعلوا كل شيء في الزبر حتى يصحّ تسليط فعلوا على كل شيء وإنما المعنى وكل شيء مفعول لهم ثابت في الزبر وهو مخالف لذلك المعنى فرفع كل واجب على الابتدائية والفعل المتأخر صفة له أو لشيء وفي الزبر خبر كل. هذا ولم يعتبر سيبويه إيهام الصفة مرجحا للنصب كما فعل ابن مالك بل جعل سيبويه النصب مرجوحا في الآية المذكورة قال: «فأما قوله تعالى: «إنّا كل شيء خلقناه بقدر فإنما جاء على حدّ قوله زيدا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 393 ضربته وهو عربي كثير» وقال ابن الشجري: «أجمع البصريون في هذه الآية على أن الرفع أرجح لعدم تقدم ما يقتضي النصب، وقال الكوفيون: النصب فيها أجود لأنه قد تقدم على كل عامل ينصب وهو إن فاقتضى ذلك إضمار خلقنا» . 6- المسألة السادسة مما يترجح نصبه أن يكون الاسم المشتغل عنه جوابا لاستفهام منصوب بما يليه كزيدا ضربته جوابا لمن قال: أيّهم ضربت أو من ضربت فزيد يترجح نصبه لكونه جوابا للاستفهام ليطابق الجواب السؤال في الجملة الفعلية. هذا وفي قوله «وكل شيء فعلوه في الزبر» يجب رفع كل ويمتنع نصبها لأن تقدير تسليط الفعل عليها إنما يكون على حسب المعنى المراد وليس المعنى هنا أنهم فعلوا كل شيء في الزبر حتى يصحّ تسليط فعلوا على كل شيء والفعل المتأخر صفة له أو لشيء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 394 (55) سورة الرحمن مدنيّة وآياتها ثمان وسبعون [سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 13] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) اللغة: (الْبَيانَ) في اللغة: المنطق الفصيح المعرب عمّا في الضمير، وفي الاصطلاح أحد فنون البلاغة الثلاثة وهو يبحث في التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية وقد تقدمت أمثلتها في هذا الكتاب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 395 (بِحُسْبانٍ) الحسبان: مصدر حسبته أحسبه حسابا وحسبانا وقيل هو جمع حساب كشهاب وشهبان ورغيف ورغفان. (النَّجْمُ) من النبات ما لم يقم على ساق نحو العشب والبقل والشجر ما قام على ساق وأصله الطلوع يقال: نجم القرن والنبات إذا طلعا وبه سمي نجم السماء وقيل نجم السماء وحده وأراد به جميع النجوم. (القسط) العدل إنما فعلوه مستقيما بالعدل وقال أبو عبيدة: الإقامة باليد والقسط بالقلب. (الْأَكْمامِ) جمع كم وهو وعاء الزهرة وفي الصحاح: «والكم بالكسر والكمامة وعاء الطلع وغطاء النور والجمع كمام وأكمة وأكمام وأكاميم أيضا والكمام بالكسر والكمامة أيضا ما يكمّ به فم البعير لئلا يعضّ يقال منه بعير مكموم أي محجوم وتكممت الشيء غطيته والكم ما ستر شيئا وغطّاه ومنه كمّ القميص بالضم والجمع كمام وكممة والكمّة القلنسوة المدورة لأنها تغطّي الرأس» . (الْعَصْفِ) الذي يعصف فيؤكل من الزرع وقيل: العصف ورق كل شيء يخرج منه الحب. (الرَّيْحانُ) في المختار: «الريحان نبت معروف وهو الرزق أيضا، والعصف ساق الزرع والريحان ورقه عند الفرّاء» وقيل العصف التبن وفي الأساس «وصاروا كعصف الزرع وهو حطام التبن ودقاقه» . (آلاءِ) نعم واحدها إلى، وألى مثل معى وحصى وإلى وألي أربع نعات. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 396 الإعراب: (الرَّحْمنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ) الرحمن مبتدأ وجملة علم القرآن خبر وقد تعددت الأخبار في الأفعال التي وردت خلوّا من العاطف على نمط التعديد وإقامة الحجة على الكافرين، وهذا عند من لا يرى الرحمن آية ومن عدّها آية أعرف الرحمن خبر لمبتدأ محذوف أي الله الرحمن أو مبتدأ خبره محذوف أي الرحمن ربنا وعلّم يتعدى إلى مفعولين حذف أولهما لشموله أي علم من يتعلم وهذا أولى من تخصيص المفعول الأول المحذوف بواحد معين (خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وعلّمه البيان فعل ماض وفاعل مستتر ومفعولاه والألف واللام في الإنسان للجنس (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) الشمس مبتدأ والقمر عطف عليه وبحسبان خبر الشمس (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) عطف على ما تقدم وجملة يسجدان خبر النجم (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) الواو عاطفة والسماء مفعول به بفعل محذوف يفسره المذكور وجملة رفعها مفسرة لا محل لها ووضع الميزان فعل وفاعل مستتر ومفعول به (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) أن مصدرية ولا نافية وتطغوا فعل مضارع منصوب بأن المصدرية وأن وما بعدها في محل نصب بلام العلّة مقدّرة والجار والمجرور في محل نصب مفعول لأجله ويجوز أن تكون أن مفسّرة ولا ناهية وتطغوا مجزوم بلا فإن قيل إن من شرط المفسّرة أن تكون مسبوقة بجملة فيها معنى القول دون حروفه قلنا: إن وضع الميزان يستدعي كلاما من الأمر بالعدل فيه (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) الواو حرف عطف وأقيموا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والوزن مفعول به وبالقسط حال أي افعلوه مستقيما بالعدل والواو حرف عطف ولا ناهية وتخسروا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والميزان مفعول به (وَالْأَرْضَ وَضَعَها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 397 لِلْأَنامِ) الواو حرف عطف والأرض مفعول به لفعل محذوف يفسّره المذكور وجملة وضعها مفسّره لا محل له وللأنام متعلقان بوضعها أي وطأها وجعلها مدحوة للخلق (فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) فيها خبر مقدم وفاكهة مبتدأ مؤخر والنخل عطف على فاكهة وذات الأكمام صفة للنخل والجملة في محل نصب على الحال من الأرض (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) عطف على ما تقدم فالثلاثة في قراءة العامة معطوفات على فاكهة وفي قراءة ابن عامر بنصب الثلاثة بفعل محذوف تقديره خلق (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) الفاء الفصيحة وبأي متعلقان بتكذبان وآلاء مضاف إليه وربكما مضاف لآلاء وتكذبان فعل مضارع مرفوع بثبوت النون وألف التثنية فاعل والخطاب للثقلين الإنس والجن وسيصرّح به. هذا وقد تكررت هذه الآية إحدى وثلاثين مرة وسيأتي السر في تكريرها في باب البلاغة. البلاغة: 1- التكرير: في قوله «فبأيّ آلاء ربكما تكذبان» تكرير عذب وقد تقدم القول فيه والسر في تكرير الآية عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله وبدائع صنعه وبعد آيات فيها ذكر النار وشدائدها لأن من جملة الآلاء رفع البلاء وتأخير العقاب والتقرير بالنعم المعدودة والتأكيد في التذكير بها كلها ولأن من علامات العاطفة المحتدمة هذا التكرير، قالت ليلى الأخيلية ترثي توبة بن الحميّر: لنعم الفتى يا توب كنت ولم تكن ... لتسبق يوما كنت فيه تحاول ونعم الفتى يا توب كنت لخائف ... أتاك لكي تحمي ونعم المجامل ونعم الفتى يا توب كنت إذا التقت ... صدور المعالي واستثال الأسافل ونعم الفتى يا توب جارا وصاحبا ... ونعم الفتى يا توب حين تناضل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 398 لعمري لأنت المرء أبكي لفقده ... ولو لام فيه ناقص الرأي جاهل لعمري لأنت المرء أبكي لفقده ... إذا كثرت بالملجمين ال تلاتل أبى لك ذم الناس يا توب كلما ... ذكرت أمورا محكمات كوامل أبى لك ذم الناس يا توب كلما ... ذكرت سماح حين تأوي الأ رامل فلا يبعدنك الله يا توب إنما ... كذاك المنايا عاجلات وآجل فلا يبعدنك الله يا توب إنما ... لقيت حمام الموت والموت عاجل فخرجت في هذه الأبيات من تكرار إلى تكرار لاختلاف المعاني التي عددتها وأمثال التكرير أكثر من أن تحصى والاستفهام فيها للتقرير. 2- الحذف: وفي قوله «علّم القرآن» الحذف فقد حذف المفعول الأول لدلالة المعنى عليه لأن النعمة في التعليم لا في تعليم شخص دون شخص كما يقال فلان يطعم الطعام إشارة إلى كرمه ولا يبيّن من أطعمه. 3- في قوله «والشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان» فن التوهيم وقد تقدمت الإشارة إليه وأنه عبارة عن إتيان المتكلم بكلمة يوهم باقي الكلام قبلها أو بعدها أن المتكلم أراد اشتراك لغتها بأخرى أو أراد تصحيفها أو تحريفها أو اختلاف إعرابها أو اختلاف معناها أو وجها من وجوه الاختلاف والأمر بضد ذلك، فإن ذكر الشمس والقمر يوهم السامع أن النجم أحد نجوم السماء وإنما المراد النبت الذي لا ساق له ومنه قول أبي تمام: من كل أبيض يجلو منه سائله ... خدا أسيلا به خد من الأسل فإن ذكر الخد الأسيل أي الناعم المشرق يوهم أن المراد بخد من الأسل أي الرماح مثله مع أن المراد الجرح ومنه توهيم التصحيف ومثاله قول أبي الطيب: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 399 وإن الفئام التي حوله ... لتحسد أرجلها الأرؤس فإن لفظة الأرجل أوهمت السامع أن المتنبي أراد القيام ومراده الفئام بالفاء الموحدة وهي الجماعات لأن القيام يصدق على أقل الجمع فتفوت المبالغة منه. 4- في قوله «والأرض وضعها للأنام» إلى آخر الآيات التي عدد فيها سبحانه آلاءه دليل على أن التشدد وسلوك الطريق الأصعب الذي يشقّ على المكلف ليسا محمودين لأن الشرع لم يقصد إلى تعذيب النفس، وقد روي عن الربيع بن زياد الحارثي أنه قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أعدني على أخي عاصم قال: فما باله؟ قال لبس العباءة يريد النسك فقال علي رضي الله عنه: عليّ به فأتي به مؤتزرا بعباءة مرتديا لأخرى شعث الرأس واللحية فعبس في وجهه وقال: ويحك أما استحييت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟ أترى الله أباح لك الطيبات وهو يكره أن تنال منها شيئا؟ بل أنت أهون على الله من ذلك، أما سمعت الله يقول في كتابه: «والأرض وضعها للأنام» إلى قوله «يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان» أفترى الله أباح هذه لعباده إلا ليبتذلوه ويحمدوا الله عليه فيثيبهم عليه وإن ابتذالك نعم الله بالفعل خير منه بالقول، قال عاصم فما بالك في خشونة مآكلك وخشونة ملبسك؟ قال ويحك إن الله فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بصفة الناس. هذا وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل الطيب إذا وجده وكان يحبّ الحلواء والعسل ويعجبه لحم الذراع ويستعذب له الماء فأين التشديد من هذا وإذن فالاقتصار على البشع في المأكول من غير عذر تنطّع. [سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 30] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 400 اللغة: (صَلْصالٍ) الصلصال: الطين اليابس له صلصلة أي صوت إذا نقر. (الفخار) الطين المطبوخ بالنار وهو الخزف. (الْجَانَّ) أبو الجن وأل فيه للجنس. (مارِجٍ) المارج: اللهب الصافي الذي لا دخان فيه وقيل هو المختلط بسواد النار من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط. (مَرَجَ) خلط ومعنى مرج البحرين خلط البحرين العذب والملح الجزء: 9 ¦ الصفحة: 401 في مرأى العين ومع ذلك لا يتجاوز أحدهما على الآخر، وأصل المرج الإهمال كما تمرج الدابة في المرعى، وفي المصباح: «المرج أرض ذات نبات ومرعى والجمع مروج مثل فلس وفلوس ومرجت الدابة تمرج مرجا من باب قتل رعت في المرج ومرجتها مرجا أرسلتها ترعى في المرج يتعدى ولا يتعدى» . (بَرْزَخٌ) البرزخ الحاجز بين الشيئين وجمعه برازخ. (اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) الدرّ والمرجان: هذا الخرز الأحمر، وقال القاضي أبو يعلى: «أنه ضرب من اللؤلؤ كالقضبان والمرجان اسم أعجمي معرب» وقال ابن دريد: «لم أسمع فيه نقل متصرف» وقال الأعشى: من كل مرجانة في البحر أحرزها ... تيارها ووقاها طينها الصدف وقيل عروق حمر تطلع من البحر كأصابع الكف. (الجواري) السفن وهي جمع جارية قال الترمذي «فالفلك أولا ثم السفينة ثم الجارية سمّيت بذلك لأنها تجري في الماء» . (كَالْأَعْلامِ) الأعلام: جمع علم وهو الجبل قالت الخنساء: وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار الإعراب: (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) كلام مستأنف مسوق للتوبيخ على إخلالهم بواجب شكر المنعم على إنعامه، وخلق فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله تعالى والإنسان مفعول به ومن صلصال متعلقان بخلق وكالفخار صفة لصلصال (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 402 عطف على ما تقدم ومن مارج متعلقان بخلق ومن لابتداء الغاية ومن نار صفة لمارج ومن للبيان أو للتبعيض (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) رب المشرقين خبر لمبتدأ محذوف أي هو رب المشرقين ورب المغربين عطف عليه والمراد مشرق الصيف ومشرق الشتاء ومغرب الصيف ومغرب الشتاء وقيل المراد بالمشرقين مشرق الشمس والقمر وبالمغربين مغرب الشمس والقمر، بيّن سبحانه قدرته على تصريف الشمس والقمر ومن قدر على ذلك قدر على كل شيء وقيل هو مبتدأ خبره جملة مرج البحرين والأول أولى (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) مرج البحرين فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وجملة يلتقيان في محل نصب على الحال وهي قريبة من الحال المقدّرة ويجوز أن تكون مقارنة (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وبرزخ مبتدأ مؤخر ولا نافية ويبغيان فعل مضارع مرفوع والجملة صفة لبرزخ والجملة كلها مستأنفة أو حال من الضمير في يلتقيان ومعنى لا يبغيان لا يتجاوز كلّ منهما حدوده فالعذب منفرد بعذوبته والملح منفرد بملوحته (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) الجملة مستأنفة أو حال ثانية من الضمير في يلتقيان ومنهما متعلقان بيخرج واللؤلؤ فاعل يخرج والمرجان عطف على اللؤلؤ (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) الواو استئنافية وله خبر مقدم والجوار مبتدأ مؤخر وحذفت الياء في الرسم لأنها من ياءات الزوائد والمنشآت نعت للجوار وفي البحر متعلقان بالمنشئات وكالأعلام حال من الجوار أو من الضمير في المنشآت والمعنى واحد (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) كل مبتدأ ومن اسم موصول في محل جر بالإضافة لكل وعليها متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول وفان خبر كل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 403 وحذفت الياء لالتقاء الساكنين (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) الواو عاطفة ويبقى فعل مضارع مرفوع ووجه ربك فاعله وذو الجلال صفة لوجه والإكرام عطف على الجلال (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابه (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) كلام مستأنف للشروع في تعدّد آلاء أخرى من آلائه سبحانه ولك أن تجعل الجملة حالا من وجه والعامل فيه يبقى أي يبقى حال كونه مسئولا من أهل السموات والأرض. ويسأله فعل مضارع ومفعوله المقدّم السؤال محذوف فأهل السموات يسألونه المغفرة وأهل الأرض يسألونه المغفرة والرزق، وكل يوم ظرف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر هو وهو مبتدأ وفي شأن خبر (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها. البلاغة: 1- في قوله «يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان» فن الاتساع وقد تقدم القول فيه مفصلا، فقد أسند الخروج إلى اللؤلؤ والمرجان لأنه إذا أخرج ذلك فقد خرج وقال يخرج منهما ولم يقل من أحدهما لأنهما لما التقيا وصارا كالشيء الواحد ساغ أن يقول منهما وقد تقدم القول في مثله وهو قوله «لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم» وإنما أريد إحدى القريتين وكما تقول فلان من أهل ديار الشام وإنما بلده واحد منها. 2- وفي قوله «وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام» تشبيه مرسل فقد شبّه السفن وهي تمخر عباب البحر رائحة جائية بالجبال، وقد استهوى هذا التشبيه الشعراء فاقتبسوه قال ابن الرومي: أين فلك فيها وفلك إليها ... منشآت في البحر كالأعلام الجزء: 9 ¦ الصفحة: 404 3- وفي قوله «كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام» فن طريف وهو فن الافتنان، وحدّه أن يفتن المتكلم فيأتي في كلامه بفنين إما متضادين أو مختلفين أو متفقين، وقد جمع سبحانه بين التعزية والفخر إذ عزى جميع المخلوقات وتمدح بالانفراد بالبقاء بعد فناء الموجودات مع وصفه ذاته بعد انفراده بالبقاء بالجلال والإكرام، ومن أمثلته في الشعر الجمع بين الغزل والحماسة، والغزل لين ورقّة والحماسة شدّة وقوة، كقول أبي دلف أو عبد الله بن طاهر على اختلاف بين المؤرخين: أحبك يا ظلوم وأنت عندي ... مكان الروح من جسد الجبان ولو أني أقول مكان روحي ... خشيت عليك بادرة الطعان فقد جمع بين الغزل والحماسة بأرشق عبارة وأبلغ إشارة، وقد بلغ عنترة فيه الذروة حين قال: إن تغدفي دوني القناع فإنني ... طب يأخذ الفارس المستلئم فقد وصف عبلة بستر وجهها دونه بالقناع حتى صار ما بين بصره ووجهها كالليل المغدف الذي يحول بين الأبصار والمبصرات، ثم قال: إنني طب بأخذ الفارس المستلئم، أي إن تتبرقعي دوني فإني خبير لدريتي بالحرب بأخذ الفارس الذي سترته لأمته وحالت دوني ودون مقابلته، فأبرز الجدّ في صورة الهزل وجاء في بيته مع الافتنان التندير الطريف، والتعبير عن المعنى باللفظ الشريف. [سورة الرحمن (55) : الآيات 31 الى 45] سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 405 اللغة: (سَنَفْرُغُ) قال الزجّاج: «إن الفراغ في اللغة على ضربين أحدهما الفراغ من الشغل والآخر القصد للشيء والإقبال عليه كما هنا وهو تهديد ووعيد، تقول قد فرغت مما كنت فيه أي قد زال شغلي به وتقول سأفرغ لفلان أي سأجعله قصدي فهو على سبيل التمثيل، شبّه تدبيره تعالى أمر الآخرة من الأخذ في الجزاء وإيصال الثواب والعقاب إلى المكلفين بعد تدبيره تعالى لأمر الدنيا بالأمر والنهي والإماتة والإحياء والمنع والإعطاء، وأنه لا يشغله شأن عن شأن بحال من إذا كان في شغل يشغله عن شغل آخر إذا فرغ من ذلك الشغل شرع في آخر» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 406 وقال الزمخشري: «مستعار من قول الرجل لمن يتهدده: سأفرغ لك يريد سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنك حتى لا يكون لي شغل سواه والمراد التوفر على النكاية فيه والانتقام منه، ويجوز أن يراد ستنتهي الدنيا وتبلغ آخرها وتنتهي عند ذلك شئون الخلق التي أرادها بقوله: كل يوم هو في شأن فلا يبقى إلا شأن واحد وهو جزاؤكم فجعل ذلك فراغا على طريق المثل» . ويتلخص مما تقدم أن الفراغ من صفات الأجسام التي تحلّها الأعراض وتشغلها عن الأضداد في تلك الحال ولذلك وجب أن يكون في صفة القديم تعالى مجازا. (الثَّقَلانِ) أصله من الثقل وكل شيء له وزن وقدر فهو ثقل ومنه قيل لبيض النعامة ثقل قال: فتذكرا ثقلا رتيدا بعد ما ... ألقت ذكاء يمينها في كافر وإنما سمّيت الإنس والجن ثقلين لعظم خطرهما وجلالة شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من الحيوانات ولثقل وزنهما بالعقل والتمييز ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» سمّاهما ثقلين لعظم خطرهما وجلالة قدرهما، وقيل إن الجن والإنس سمّيا ثقلين لثقلهما على الأرض إحياء، ومنه قوله تعالى: «وأخرجت الأرض أثقالها» أي أخرجت ما فيها من الموتى، والعرب تجعل السيد الشجاع ثقلا على الأرض، قالت الخنساء: أبعد ابن عمرو من آل الشريد ... حلّت به الأرض أثقالها والمعنى أنه لما مات حلّ عنها ثقل بموته لسؤدده ومجده، وقيل إن المعنى: زينت موتاها من التحلية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 407 (أَقْطارِ) الأقطار جمع القطر وهو الناحية يقال طعنه فقطره إذا ألقاه على أحد قطريه وهما جانباه. (بِسُلْطانٍ) بقوة وقهر وغلبة. (شُواظٌ) الشواظ بضم الشين وكسرها، قال أبو عبيدة: هو اللهب لا دخان فيه، وقال رؤبة: إنّ لهم من حربنا إيقاظا ... ونار حرب تسعر الشواظا (وَنُحاسٌ) النحاس: الدخان وأنشد للنابغة الجعدي: تضيء كضوء سراج السلي ... ط لم يجعل الله فيه نحاسا وقيل الصفر المذاب يصبّ على رؤوسهم. (كَالدِّهانِ) في الدهان قولان أحدهما أنه جمع دهن نحو قرط وقراط ورمح ورماح وهو في معنى قوله: يوم تكون السماء كالمهل وهو دردي الزيت والثاني أنه اسم مفرد، وقال الزمخشري: «اسم لما يدهن به كالجزام والإدام» وقيل هو الأديم الأحمر. (بِسِيماهُمْ) السيما مشتق من السوم وهو رفع الثمن عن مقداره والعلامة ترفع باظهارها لتقع المعرفة بها. (بِالنَّواصِي) جمع ناصية وهي شعر مقدّم الرأس وأصله الاتصال فالناصية متصلة بالرأس. (حَمِيمٍ) : ماء حار. (آنٍ) شديد الحرارة وفعله أنّى يأني أنيا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 408 الإعراب: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) كلام مستأنف مسوق للتهديد والوعيد، والسين حرف استقبال ونفرغ فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره نحن ولكم متعلقان بنفرغ وأيّه الثقلان منادى نكرة مقصودة حذف منه حرف النداء والثقلان بدل من أيّه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) يا حرف نداء ومعشر الجن منادى مضاف والإنس عطف على الجن وإن شرطية واستطعتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وأن حرف مصدري ونصب وتنفذوا فعل مضارع منصوب بأن وأن وما في حيزها في موضع نصب مفعول استطعتم ومن أقطار السموات والأرض متعلقان بتنفذوا، فانفذوا: الفاء رابطة لجواب الشرط لأن الجواب طلب وانفذوا فعل أمر والواو فاعل والمراد بالأمر هنا التعجيز (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) لا نافية وتنفذون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وإلا أداة حصر وبسلطان متعلقان بتنفذون (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) الجملة مستأنفة ويرسل فعل مضارع مبني للمجهول وعليكما متعلقان بيرسل وشواظ نائب فاعل ومن نار نعت لشواظ ونحاس عطف على شواظ وقرئ بالجر عطفا على نار وعبارة القرطبي: «وقرأ ابن كثير وابن محيصن ومجاهد وأبو عمرو: ونحاس بالخفض عطفا على النار، قال المهدوي: من قال: إن الشواظ النار والدخان جميعا فالجر في نحاس هذا تبيين، فأما الجر على قول من جعل الشواظ اللهب الذي لا دخان فيه فبعيد لا يسوغ إلا على تقدير حذف موصوف فكأنه قال يرسل عليكما شواظ من نار وشيء من نحاس فشيء معطوف على شواظ ومن نحاس جار ومجرور صفة لشيء وحذفت من لتقدّم ذكرها في من نار الجزء: 9 ¦ الصفحة: 409 فيكون نحاس على هذا مجرورا بمن المحذوفة» والفاء عاطفة ولا نافية وتنتصران فعل مضارع مرفوع والألف فاعل أي فلا تمتنعان من ذلك ولا تجدان منجاة منه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) الفاء استئنافية وإذا انشقت السماء ظرف لما يستقبل من الزمن وفعل وفاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها، فكانت عطف على انشقّت واسم كانت مستتر يعود على السماء ووردة خبرها وكالدهان نعت لوردة أو خبر ثان لكانت أو حال من اسم كانت وسيأتي مزيد بحث عن هذا التشبيه في باب البلاغة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) الفاء رابطة لجواب إذا وقيل جواب إذا محذوف أي فإذا انشقّت السماء رأيت أمرا عظيما، والفاء عاطفة عليه ولا داعي لهذا التكلّف، ويومئذ ظرف متعلق بيسأل وإذ ظرف مضاف إلى مثله والتنوين فيه عوض عن جملة أي فيوم إذا انشقت السماء ولا نافية ويسأل فعل مضارع مبني للمجهول وعن ذنبه متعلقان بيسأل وإنس نائب فاعل ولا جان عطف على إنس، والجان والإنس كلّ منهما اسم جنس يفرّق بينه وبين واحده بالياء كزنج وزنجي (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) يعرف فعل مضارع مبني للمجهول والمجرمون نائب فاعل وبسيماهم متعلقان بيعرف والفاء عاطفة ويؤخذ فعل مضارع مبني للمجهول وبالنواصي هو نائب الفاعل ويؤخذ متعدّ ومع ذلك تعدّى بالباء لأن ضمن معنى يسحب كما قال أبو حيان، ويسحب إنما يتعدى بعلى، قال تعالى: يوم يسحبون في النار على وجوههم، فالأولى أن يقال ضمن معنى يدفع أي يدفعون والمعنى تأخذ الملائكة بنواصيهم أي بشعورهم من مقدم رءوسهم وأقدامهم فيقذفونهم في النار، وقال الضحاك: «يجمع بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره» وعنه يؤخذ برجلي الرجل فيجمع بينهما وبين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 410 ناصيته حتى يندقّ ظهره ثم يلقى في النار (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) هذه مبتدأ وجهنم خبر والتي صفة وجملة يكذب بها المجرمون صلة لا محل لها (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) الجملة حال من المجرمين أو مستأنفة ويطوفون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والظرف متعلق بيطوفون وبين عطف على الظرف الأول وآن نعت لحميم وهو منقوص فالكسرة مقدّرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها. البلاغة: في قوله «فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان» تشبيه تمثيلي، أراد بالوردة الغرس، والوردة تكون في الربيع أميل إلى الصفرة فإذا اشتد البرد كانت وردة حمراء فإذا كان بعد ذلك كانت وردة أميل إلى الغبراء فشبّه تلوّن السماء حال انشقاقها بالوردة وشبّهت الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن واختلاف ألوانه. فالتشبيه تمثيلي كما ترى مركب من قسمين أو صورتين متعاقبتين صورة السماء منشقة وصورة الوردة ثم صورة الدهان والصورتان الأخيرتان لتوضيع وجه الشبه وهو أحوال تلونها فهي في الربيع صفراء وفي الشتاء حمراء ثم غبراء داكنة عند الذبول وهذا التلوّن التدريجي من اللون الناصع إلى اللون الداكن يشبه أيضا لون الدهن وقد عملت فيه النار فاشتعل بلون أصفر ثم بدت ألسنته محمرّة إذ آذن بالانطفاء ثم يتحوّل إلى رماد داكن. وقال الملحدون: ما وجه الشبه في «فكانت وردة كالدّهان» وتكرير «فبأي آلاء ربكما تكذبان» بعد ذكر العذاب مثل يرسل عليكما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 411 شواظ من نار ونحاس وإنما حقّ ذلك أن يذكر بعد تعديد النعم، والجواب عن الأول أنه قيل: معناه أن السماء تتلوّن من الفزع الأكبر كما تتلوّن الدهان المختلفة وأن الدهان جمع دهن فهو كقوله تعالى: يوم تكون السماء كالمهل فيمن قال: المهل الزيت المغلي وقيل الدهان الجلد الأحمر، وأما الجواب عن الثاني فإن من أنذرك وخوفك من عاقبة ما تصير إليه فقد أنعم عليك، ألا تراه سبحانه قد قال: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، وقد علمنا أنه بعث بشيرا لمن آمن ونذيرا لمن كفر فجعل الإنذار رحمة كما جعل التبشير وكذا كل من عليها فان، فإذا انشقّت السماء، فيه إنعام على الخلق حيث أعلمهم بما كانوا يجهلونه وحذّرهم بما يصيرون إليه وقد جعل سبحانه التحذير رأفة بقوله: ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد. [سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 61] وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 412 اللغة: (أَفْنانٍ) أغصان جمع فنن أو هي الأغصان الدقيقة التي تتفرغ من فروع الشجر، وخصّت بالذكر لأنها تورق وتثمر وتمدّ الظل. (إِسْتَبْرَقٍ) ديباج غليظ والبطان جمع بطانة وهو باطن الظهارة وقيل إن الظهار من سندس وهو مارق من الديباج. (جَنَى) الجنى: الثمرة التي قد أدركت على الشجرة. (دانٍ) قريب يناله القائم والقاعد والنائم. (قاصِراتُ الطَّرْفِ) المقصورة المحبوسة ويقال قصيرة وقصورة أي مخدّرة قال كثير: وأنت التي حبّبت كل قصيرة ... إليّ ولم تشعر بذاك القصائر عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطا شر النساء البحاتر وقال امرؤ القيس: من القاصرات الطرف لو دبّ محول ... من الذر فوق الأتب منها لأثرا والطرف أصله مصدر فلذلك وحّد، والظاهر أنهنّ اللواتي يقصرن أعينهنّ على أزواجهنّ فلا ينظرن إلى غيرهم وقيل الطرف طرف غيرهنّ أي قصرن عيني من ينظر إليهنّ عن النظر إلى غيرهنّ. (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ) لم يفتضهن وهنّ من الحور أو من نساء الدنيا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 413 المنشآت وفي المصباح: «طمث الرجل امرأته طمثا من بابي ضرب وقتل افتضّها وافترعها ولا يكون الطمث نكاحا إلا بالتدمية وعليه قوله تعالى: لم يطمثهنّ» . (الْياقُوتُ) جوهر نفيس أحمر اللون يقال أن النار لا تؤثر فيه قال: ألقني في لظى فإن غيّرتني ... فتيقن أن لست بالياقوت ومن خواصّه أنه يقطع جميع الحجارة إلا الماس فإنه يقطعه لصلابته وقلّة مائة وشدة الشعاع والثقل والصبر على النار، قال بعضهم في مليح اسمه ياقوت: ياقوت ياقوت قلب المستهام به ... من المروءة أن لا يمنع القوت سكنت قلبي وما تخشى تلهبه ... وكيف يخشى لهيب النار ياقوت والمرجان صفار اللؤلؤ وهو أشدّ بياضا ويطلق على الآخر أيضا وسيأتي المزيد من سرّ هذا التشبيه في باب البلاغة. الإعراب: (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) الواو عاطفة ولمن خبر مقدم وجملة خاف صلة من ومقام ربه مفعول به وهو يحتمل أن يكون اسم مكان وأن يكون مصدرا ميميا وعندئذ يحتمل معنيين الأول أنه بمعنى قيام الله عزّ وجلّ على الخلائق والثاني أنه بمعنى قيام الخلائق بين يديه تعالى وجنتان مبتدأ مؤخر والمراد جنة واحدة وإنما ثنّى مراعاة للفواصل، وعبارة الزمخشري «فإن قلت لم قال جنتان قلت: الخطاب للثقلين فكأنه قيل لكل خائفين منكما جنتان جنة للخائف الإنسي وجنة للخائف الجنّي ويجوز أن يقال جنة لفعل الطاعات وجنة لترك المعاصي» (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدّم إعرابها (ذَواتا أَفْنانٍ) ذواتا صفة لجنتان وأفنان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 414 مضاف إليه وخصّ الأفنان بالذكر لأنها هي التي تمرع وتورق ومنها تمتد الظلال وتجنى الثمار وقيل الأفنان أنواع النعيم وألوانه مما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين قال: ومن كل أفنان اللذاذة والصبا ... لهوت به والعيش أخضر ناضر وذات مؤنث ذو التي بمعنى صاحب، ولا تكون إلا مضافة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدّم إعرابها (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) فيهما خبر مقدّم وعينان مبتدأ مؤخر وجملة تجريان نعت عينان أي في الأعالي والأسافل، والأقوال كثيرة في العينين ولعلّ ما أوردناه أقرب إلى المنطق (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) فيهما خبر مقدّم ومن كل فاكهة حال لأنه كان في الأصل صفة لزوجان وتقدم وزوجان مبتدأ مؤخر أي صنفان وكلاهما مستلذ معذوذب (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) متكئين منصوب على المدح بفعل محذوف أو حال من قوله ولمن خاف لأن من فيها معنى الجمع وقيل العامل محذوف أي يتنعمون متكئين وعلى فرش متعلقان بمتكئين وبطائنها مبتدأ ومن إستبرق خبر والجملة صفة لفرش والواو حالية أو عاطفة وجنى مبتدأ والجنتين مضاف إليه ودان خبر وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) فيهنّ خبر مقدّم والضمير يعود على الجنتين وما اشتملتا عليه من قصور ومقاصير أو على الجنات المدلول عليها بقوله «ولمن خاف مقام ربه جنتان» وإذا كان لكل فرد من الخائفين جنتان فصحّ أنها جنات كثيرة، وقاصرات الطرف مبتدأ مؤخر ولم حرف نفي وقلب وجزم ويطمثهنّ فعل مضارع مجزوم بلم والجملة صفة لقاصرات الطرف لأن الإضافة لفظية فلا تتعرف ويجوز أن تكون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 415 حالية لأن النكرة قد تخصصت بالإضافة وإنس فاعل وقبلهم ظرف زمان متعلق بيطمثهنّ، ولا جان عطف على إنس (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدّم إعرابها (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) الجملة نعت لقاصرات الطرف أو حال منها وكأن واسمها والياقوت خبرها والمرجان عطف على الياقوت (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) هل حرف استفهام معناه الجحد والنفي وجزاء مبتدأ والإحسان مضاف إليه وإلا أداة حصر والإحسان خبر جزاء (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها. البلاغة: 1- في قوله «فيهنّ قاصرات الطرف» فن الإرداف وقد تقدم أنه أن يريد المتكلم معنى فلا يعبّر عنه بلفظه الموضوع له بل بلفظ هو ردف المعنى الخاص وتابعه قريب من لفظ المعنى الخاص قرب الرديف من الردف، والمعنى في الآية- كما قلنا- فيهنّ عفيفات قد قصرت عفّتهنّ طرفهن على بعولتهنّ، وعدل عن المعنى الخاص إلى لفظ الإرداف لأن كلّ من عفّ غضّ الطرف عن الطموح، فقد يمتد نظر الإنسان إلى شيء وتشتهيه نفسه ويعفّ عنه مع القدرة عليه لأمر آخر، وقصر طرف المرأة على بعلها أو قصر طرفها حياء وخفرا أو قصر عيني من ينظر إليهنّ عن النظر إلى غيرهنّ أمر زائد على العفّة لأن من لا يطمح طرفها لغير بعلها أو لا يطمح حياء وخفرا فإنها ضرورة تكون عفيفة، فكل قاصرة الطرف عفيفة وليست كل عفيفة قاصرة الطرف فلذلك عدل عن اللفظ الخاص إلى لفظ الإرداف. 2- في قوله «كأنهنّ الياقوت والمرجان» تشبيه مرسل مجمل لوجود الأداة، أما وجه الشبه فهو الصفاء، وعن ابن مسعود رضي الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 416 عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلّة حتى يرى مخها وذلك بأن الله عزّ وجلّ يقول: كأنهنّ الياقوت والمرجان فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لأريته من ورائه. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: كأنهنّ الياقوت والمرجان قال: ينظر إلى وجهه في خدّها أصفى من المرآة وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب وإنه ليكون عليها سبعون حلّة ينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك. وسيأتي مزيد من وصف نساء الجنة في سورة الواقعة. الفوائد: (هَلْ) ترد في الكلام على أربعة أوجه: 1- تكون بمعنى «قد» كقوله: «هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا» . 2- وبمعنى الاستفهام كقوله: «فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا» . 3- وبمعنى الأمر كقوله: «فهل أنتم منتهون» . 4- وبمعنى الجحد كقوله: «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان» . [سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 78] وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 417 اللغة: (مُدْهامَّتانِ) في المختار: «دهمهم الأمر غشيهم وبابه فهم وكذا دهمتهم الخيل، ودهمهم بفتح الهاء لغة والدهمة السواد يقال فرس أدهم وبعير أدهم وناقة دهماء وإدهام ادهيماما أي اسودّ قال الله تعالى: مدهامتان أي سوداوان من شدّة الخضرة من الري والعرب تقول لكل شيء أخضر أسود وسمّيت قرى العراق سوادا لكثرة خضرتها، والشاة الدهماء الحمراء الخالصة الحمرة ويقال للقيد أدهم» وفي القاموس: «وحديقة دهماء ومدهامة خضراء تضرب إلى السواد نعمة وربا ومنه مدهامتان» . َضَّاخَتانِ) : فوارتان بالماء لا تنقطعان والنضخ أكثر من النضح لأن النضح بالحاء المهملة الرش وبالخاء المعجمة كالبزل والنضاخة الفوارة التي ترمي بالماء صعدا. (مَقْصُوراتٌ) قصرن في خدورهنّ، يقال امرأة قصيرة وقصورة ومقصورة أي مخدّرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 418 (الْخِيامِ) في القاموس: «الخيمة أكمة فوق أبانين، وكل بيت مستدير أو ثلاثة أعواد أو أربعة يلقى عليها الثمام ويستظل بها في الحر أو كل بيت يبنى من عيدان الشجر والجمع خيمات وخيام وخيم وخيم بالفتح وكعنب، وأخامها وأخيمها: بناها، وخيّموا دخلوا فيها وبالمكان أقاموا والشيء غطاه بشيء كي يعبق وخام عنه يخيم خيما وخيمانا وخيوما وخيومة وخيمومة وخياما نكص وجبن، وكاد كيدا فرجع عليه» وفي القرطبي «وقال عمر رضي الله عنه: الخيمة درّة مجوفة» . (رَفْرَفٍ) جمع رفرفة أي بسط أو وسائد فهو اسم جمع أو اسم جنس جمعي وفي القاموس: «والرفرف ثياب خضر تتخذ منها المحابس وتبسط، وكسر الخباء وجوانب الدرع وما تدلى منها وما تهدّل من أغصان الأيكة، وفضول المحابس والفرش وكل ما فضل فثني، والفراش، وسمك بحري وشجر ينبت باليمن والروشن والوسادة والبظر والشجر الناعم المسترسل والرياض والبسط وخرقة تخاط في أسفل السرادق والفسطاط والرقيق من ثياب الديباج» . (عَبْقَرِيٍّ) منسوب إلى عبقر وتزعم العرب أنه اسم لبلد الجن فينسبون إليه كل شيء عجيب، قال في القاموس: «عبقر موضع كثير الجن وقرية بناؤها في غاية الحسن» والعبقري الكامل من كل شيء وقال الخليل: «النفيس من الرجال وغيرهم» وقال قطرب: «ليس هو من المنسوب بل هو بمنزلة كرسي وبختي» . الإعراب: (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) من دونهما خبر مقدم وجنتان مبتدأ مؤخر أي من دون تينك الجنتين المتقدمين جنتان في المنزلة وحسن المنظر وهذا على رأي من جعل الأولتين أفضل من الآخرتين وقيل بالعكس ورجحه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 419 الزمخشري وقال الكسائي: «ومن دونهما أي أمامهما وقبلهما» فلا فاضل ثم ولا مفضول (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (مُدْهامَّتانِ) نعت جنتان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابهاِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) الجملة نعت ثان لجنتان وفيهما خبر مقدّم وعينان مبتدأ مؤخر ونضاختان نعت عينان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) فيها خبر مقدّم وفاكهة مبتدأ مؤخر ونخل عطف على فاكهة ورمان عطف على نخل، وسيأتي معنى التخصيص في باب البلاغة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) فيهنّ خبر مقدم وخيرات مبتدأ مؤخر وحسان صفة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها. (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) حور بدل من خيرات لأن خيرات فيه وجهان أحدهما أنه جمع خيرة بوزن فعلة بسكون العين يقال امرأة خيرة وأخرى شرّة والثاني أنه جمع خيرة المخفّف من خيرة بالتشديد ويدل على ذلك قراءة خيرات بتشديد الياء ويجوز لك أن تعرب حورا خبرا لمبتدأ مضمر أي هنّ حور أو مبتدأ حذف خبره أي فهنّ حور ومقصورات نعت لحور وفي الخيام متعلقان بمقصورات (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها من قبل (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) حال حذف عامله أي يتنعمون أو نصب على المدح واقتصر عليه الزمخشري، وهو عائد على من خاف مقام ربه، وعلى رفرف متعلقان بمتكئين وخضر نعت وعبقري عطف على رفرف وحسان نعت لرفرف خضر وعبقري (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) تبارك فعل ماض واسم ربك فاعله وذي صفة لرب والجلال مضاف إليه والإكرام عطف على الجلال وقيل أن اسم صلة لمعنى تبارك ربك قال لبيد: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 420 البلاغة: في قوله «فيهما فاكهة ونخل ورمان» فإنما فصلهما بالواو لتخصيصها بالمزايا والفضل، وعبارة الزمخشري «فإن قلت: لم عطف النخل والرمان على الفاكهة وهما منها؟ قلت اختصاصا لهما وبيانا لفضلهما فإنهما كأنهما من المزية جنسان آخران كقوله تعالى: وجبريل وميكائيل أو لأن النخل ثمرة فاكهة وطعام والرمان فاكهة ودواء فلم يخلصا للتفكه ومنه قال أبو حنيفة رحمة الله إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث وخالفه صاحباه» وحكى الزجّاج عن يونس النحوي وهو من قدماء النحويين أن النخل والرمان من أفضل الفواكه وإنما فصلا بالواو لفضلهما، وقال الأزهري: ما علمت أن أحدا من العرب قال في النخل والرمان وثمارها أنها ليست من الفاكهة وإنما قال ذلك من قال لقلة علمه بكلام العرب وتأويل القرآن العربي المبين والعرب تذكر الأشياء جملة ثم تختصّ شيئا منها بالتسمية تنبيها على فضل فيه. وعبارة الكرخي: وهما من الفاكهة وبه قال الشافعي رضي الله عنه وأكثر العلماء فيحنث بأكل أحدهما من حلف لا يأكل فاكهة وحينئذ فعطفهما عليها من عطف الخاص على العام تفصيلا وقيل إنهما ليسا من الفاكهة وعليه أبو حنيفة حيث قال: من حلف لا يأكل فاكهة لم يحنث بأكل النخل والرمان» وهل هو من عطف الخاص على العام أم هو عطف ما تضمنه الأول، والظاهر أن الآية ليست من عطف الخاص على العام لأن النكرة في سياق الإثبات لا تعمّ عموما شموليا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 421 (56) سورة الواقعة مكيّة وآياتها ستّ وتسعون [سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) اللغة: (الْواقِعَةُ) القيامة وصفت بأنها تقع لا محالة أو كأنها واقعة في نفسها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 422 (بُسَّتِ) فتنت، وفي المصباح: بسست الحنطة وغيرها بسّا من باب قتل وهو الفتّ فهي بسيسة فعيلة بمعنى مفعوله. (هَباءً) الهباء غبار كالشعاع في الرقة وكثيرا ما يخرج شعاع الشمس من الكوّة النافذة. (مُنْبَثًّا) منتشرا متفرقا بنفسه من غير حاجة إلى هواء يفرقه. (أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) الذين يعطون كتبهم بأيمانهم من اليمن والبركة. (أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) الذين يعطون كتبهم بشمالهم المشائيم على أنفسهم. (ثُلَّةٌ) جماعة. (مَوْضُونَةٍ) منسوجة متداخلة كصفة الدرع، قال الأعشى: ومن نسج داود موضونة ... تساق إلى الحيّ عيرا فعيرا الإعراب: (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) في إذا أوجه: 1- ظرف محض ليس فيها معنى الشرط والعامل فيها ما في ليس من معنى النفي كأنه قيل ينتفي التكذيب بوقوعها إذا وقعت، وقد ذهب إلى هذا الوجه الزمخشري فقال: «فإن قلت بم انتصب إذا؟ قلت بليس كقولك يوم الجمعة ليس لي شغل» وردّه أبو حيان فقال: «أما نصبها بليس فلا يذهب نحوي ولا من شدا شيئا من صناعة الإعراب إلى مثل هذا لأن «ليس» في النفي كما وما لا تعمل فكذلك ليس وذلك أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 423 «ليس» مسلوبة الدلالة على الحدث والزمان والقول بأنها فعل هو على سبيل المجاز لأن حدّ الفعل لا ينطبق عليها والعامل في الظرف إنما هو ما يقع فيه من الحدث فإذا قلت يوم الجمعة أقوم فالقيام واقع في يوم الجمعة و «ليس» لا حدث لها فكيف يكون لها عمل في الظرف، والمثال الذي شبّه به وهو يوم الجمعة ليس لي شغل لا يدل على أن يوم الجمعة منصوب بليس بل هو منصوب بالعامل في خبر ليس وهو الجار والمجرور فهو من تقديم الخبر على ليس وتقديم ذلك مبني على جواز تقديم الخبر الذي لليس عليها وهو مختلف فيه ولم يسمع من لسان العرب قائما ليس زيد، وليس إنما تدل على الحكم الخبري عن المحكوم عليه فقط فهي كما ولكنه لما اتصلت بها ضمائر الرفع جعلها ناس فعلا وهي في الحقيقة حرف نفي كما النافية، ويظهر من تمثيل الزمخشري إذا بقوله يوم الجمعة أنه سلبها الدلالة على الشرط الذي هو غالب فيها ولو كانت شرطا وكان الجواب الجملة المصدّرة بليس لزمت الفاء إلا أن حذفت في شعر إذ ورد ذلك فتقول إذا أحسن إليك زيد فلست تترك مكافأته ولا يجوز، «لست» بغير فاء إلا إن اضطر إلى ذلك» . 2- أن العامل فيها اذكر مقدّرا. 3- أنها شرطية وجوابها مقدّر أي إذا وقعت الواقعة كان كيت وكيت وهو العامل فيها. 4- أنها شرطية والعامل فيها الفعل الذي بعدها ويليها وهو اختيار أبي حيان وتبع في ذلك مكيا، قال مكّي: والعامل فيها وقعت لأنها قد يجازى بها فعمل فيها الفعل الذي بعدها كما يعمل في ما ومن اللتين للشرط في قولك ما تفعل أفعل ومن تكرم أكرم. 5- أنها مبتدأ وإذا رجت خبرها وهذا على القول أنها تتصرف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 424 6- أنها ظرف لخافضة رافعة قاله أبو البقاء أي إذا وقعت خفضت ورفعت. 7- أنها ظرف لرجت وإذا الثانية إما بدل من الأولى أو تكرير لها. 8- إن العامل فيها ما دلّ عليه قوله فأصحاب الميمنة أي إذا وقعت بانت أحوال الناس فيها. 9- أن جواب الشرط قوله فأصحاب الميمنة. 10- قال الجرجاني: إذا صلة أي وقعت الواقعة مثل اقتربت الساعة وأتى أمر الله وهو كما يقال قد جاء الصوم أي دنا واقترب. ووقعت الواقعة فعل وفاعل. (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) ليس فعل ماض جامد ناقص ولوقعتها خبرها مقدّم واللام بمعنى في على تقدير المضاف أي ليس كاذبة توجد في وقت وقوعها وكاذبة اسم ليس وكاذبة صفة لموصوف محذوف أي نفس كاذبة، وقيل «كاذبة» مصدر جاء بلفظ اسم الفاعل بمعنى الكذب (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) خافضة خبر لمبتدأ محذوف ورافعة خبر ثان (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) يجوز أن تكون إذا بدلا من إذا الأولى أو تأكيدا لها أو خبرا لها على أنها مبتدأ وقد تقدم هذا مفصلا ويجوز أن تكون شرطا والعامل فيها إما مقدّر وإما فعلها الذي يليها كما تقدم في نظيرتها، وعبارة الزمخشري: «ويجوز أن ينتصب بخافضة رافعة أي تخفض وترفع وقت رجّ الأرض وبسّ الجبال لأنه عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع ويرتفع ما هو منخفض» ، ورجّا مفعول مطلق (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) الجملة معطوفة على الجملة السابقة (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) الفاء عاطفة وكانت فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هي وهباء خبرها ومنبثّا صفة لهباء (وَكُنْتُمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 425 أَزْواجاً ثَلاثَةً) عطف على رجّت وكان واسمها وخبرها وثلاثة نعت لأزواجا (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) الفاء عاطفة تفريعية للشروع في تفصيل وشرح أحوال الأزواج الثلاثة وأصحاب الميمنة مبتدأ وما استفهامية في محل رفع مبتدأ ثان والمقصود بالاستفهام التعظيم وأصحاب الميمنة الثاني خبر ما والجملة خبر المبتدأ الأول وتكرير المبتدأ هنا بلفظه أغنى عن الرابط وهو الضمير ومثله «الحاقة ما الحاقة» و «القارعة ما القارعة» ولا يكون إلا في مواطن التعظيم والتحقير وهذا هو القسم الأول من الأزواج (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) عطف على ما تقدم والمقصود هنا تحقير شأنهم وهم القسم الثاني من الأزواج (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) الواو عاطفة والسابقون مبتدأ والسابقون تأكيد وهم القسم الثالث من الأزواج وأكثرهم عراقة في الفضل (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) أولئك مبتدأ والمقربون خبره والجملة خبر السابقون واسم الإشارة أغنى عن الرابط وهو الضمير، واختار الزمخشري أن يكون السابقون خبرا وليس تأكيدا قال «والسابقون من عرفت حالهم وبلغك وصفهم كقوله: وعبد الله عبد الله وقول أبي النجم «وشعري شعري» كأنه قال وشعري ما انتهى إليك وسمعت بفصاحته وقد جعل السابقون تأكيدا وأولئك المقربون خبرا وليس بذاك» هذا ما ذكره الزمخشري وليس بعيدا بل لعلّه أقعد بالفصاحة، ألا ترى كيف سبق بسط حال السابقين بقوله: أولئك المقربون فجمع بين اسم الإشارة المشار به إلى معروف وبين الإخبار عنه بقوله المقربون المعرّف بالألف واللام العهدية. وننقل فيما يلي نص ما أورده أبو حيان قال: «والسابقون السابقون جوّزوا أن يكون مبتدأ وخبرا نحو قولهم أنت أنت وقوله: أنا أبو النجم وشعري شعري، أي الذين انتهوا في السبق أي الطاعات وبرعوا فيها وعرفت حالهم وأن يكون السابقون تأكيدا لفظيا والخير فيما بعد ذلك» . وعبارة أبي البقاء «قوله تعالى والسابقون الأول مبتدأ والثاني الجزء: 9 ¦ الصفحة: 426 خبره أي السابقون بالخير السابقون إلى الجنة وقيل الثاني نعت للأول أو تكرر توكيدا والخبر أولئك» (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) خبر ثان أو حال من الضمير في المقربون أو متعلق به أي قربوا إلى رحمة الله في جنات النعيم، وإضافة الجنات إلى النعيم من إضافة المكان إلى ما يكون فيه كما يقال: دار الضيافة ودار الدعوة ودار العدل (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) ثلّة خبر لمبتدأ محذوف أي هم ثلّة من الأولين ومن الأولين نعت وقليل عطف على ثلّة ومن الآخرين نعت لقليل واختار الجلال أن يرتفع ثلّة على الابتداء لوصفه والخبر على سرر الآتية (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) إما خبر على القول بأن ثلّة مبتدأ أو نعت ثان لثلّة على القول بأنها خبر لمبتدأ مضمر (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) حالان من الضمير في عليها أي استقروا عليها متكئين متقابلين لا ينظر بعضهم إلى بعض. [سورة الواقعة (56) : الآيات 17 الى 26] يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26) اللغة: (مُخَلَّدُونَ) باقون لا يموتون ولا يهرمون ولا يتغيرون وقيل من الخلد وهو القرط، قال امرؤ القيس: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 427 وهل ينعمن إلا سعيد مخلد ... قليل الهموم ما يبيت بأوجال والولدان جمع وليد كصبيان بمعنى مولود والولد يجمع على أولاد. (مَعِينٍ) خمر جارية من منبع لا يفيض ولا ينقطع أبدا. (لا يُصَدَّعُونَ) لا يحصل لهم صداع بسببها قال الزمخشري: «وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها» والصداع هو الداء المعروف الذي يلحق الإنسان في رأسه والخمر تؤثر قال علقمة في وصف الخمر: تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها ... ولا يخالطها في الرأس تدويم (يُنْزِفُونَ) بفتح الزاي وكسرها من نزف الشارب وأنزف يقال نزف الرجل بالبناء للمجهول أي ذهب عقله سكرا ونزف الرجل دما: رعف فخرج دمه كله وكلاهما وارد. الإعراب: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) الجملة مستأنفة ويجوز أن تكون حالية وعليهم متعلقان بيطوف وولدان فاعل ومخلدون نعت ولدان، والمعنى: يدور حولهم للخدمة غلمان لا يهرمون ولا يتغيرون بل شكلهم شكل الولدان دائما (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) بأكواب متعلقان بيطوف ما وبعده عطف عليه ومن معين صفة لكأس (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) الجملة مستأنفة أو حال من الضمير في عليهم ولا نافية ويصدعون بالبناء للمجهول والواو نائب فاعل وعنها متعلقان به ولا ينزفون عطف على لا يصدعون (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) عطف على ما تقدم أي وكأس، ومما نعت لفاكهة وجملة يتخيرون صلة (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) عطف على ما تقدم أيضا (وَحُورٌ عِينٌ) يقرأ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 428 بالرفع، وفيه أوجه: أحدها هو معطوف على ولدان أي يطفن عليهم للتنعيم لا للخدمة، والثاني هو مبتدأ خبره محذوف أي لهم حور أو وثم حور، والثالث هو خبر لمبتدأ محذوف أي ونساؤهم حور، ويقرأ بالنصب على تقدير يعطون أو يجازون حورا، ويقرأ بالجر عطفا على أكواب في اللفظ دون المعنى لأن الحور لا يطاف بهنّ، وقيل هو معطوف على جنات أي في جنات وفي حور. وعين صفة لحور (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) كأمثال نعت ثان لحور واللؤلؤ مضاف إليه والمكنون نعت (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) جزاء مفعول من أجله أي يفعل بهم ذلك كله جزاء أو مفعول مطلق لفعل محذوف أي جزيناهم جزاء وبما متعلقان بجزاء وجملة كانوا صلة وكان واسمها وجملة يعملون خبرها (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) لا نافية ويسمعون فعل مضارع والواو فاعله وفيها متعلقان بيسمعون ولغوا مفعول به والواو حرف عطف ولا نافية وتأثيما عطف على لغوا أي فاحشا من القول أو مما يؤثم (إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً) إلا أداة استثناء والاستثناء منقطع وقيلا مستثنى منقطع واجب النصب وسلاما سلاما فيه أوجه أحدها أنه بدل من قيلا أي لا يسمعون فيها إلا سلاما سلاما، والثاني أنه نعت قيلا، والثالث أنه منصوب بقيلا لأنه مصدر أي إلا أن يقولوا سلاما سلاما واختاره الزجّاج، والرابع أن يكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف أي سلّموا سلاما. البلاغة: 1- في قوله «كأمثال اللؤلؤ المكنون» تشبيه مرسل مجمل، ووجه الشبه محذوف وهو الصون، قال الشاعر يصف امرأة بالصون وعدم الابتذال فشبّهها بالدرّة المكنونة في صدفتها فقال: قامت تراءى بين سجفي كلة ... كالشمس يوم طلوعها بالأسعد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 429 أو درّة صدفية غوّاصها ... بهج متى يرها يهلّ ويسجد 2- وفي قوله «لا يصدعون عنها ولا ينزفون» فن الإيجاز وقد تقدم، فجمع في هاتين الكلمتين جميع عيوب الخمر في الدنيا. [سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 40] وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) اللغة: (سِدْرٍ) السدر شجر النبق. (مَخْضُودٍ) أصل الخضد عطف العود اللين فمن هاهنا المخضود الذي لا شوك له لأن الغالب أن الرطب اللين لا شوك له وفي المختار: «خضد الشجر قطع شوكة وبابه ضرب فهو خضيد ومخضود» ، وقال أمية بن أبي الصلت يصف الجنة: إن الحدائق في الجنان ظليلة ... فيها الكواعب سدرها مخضود (طَلْحٍ) الطلح: شجر الموز، وقال أبو عبيدة: هو كل شجر عظيم كثير الشوك، قال بعض الحداة: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 430 بشرها دليلها وقالا ... غدا ترين الطلح والجبلا وقال الزجّاج: الطلح شجر أم غيلان فقد يكون على أحسن حال. (مَنْضُودٍ) اسم مفعول من نضدت المتاع أي جعلت بعضه فوق بعض. (أَبْكاراً) البكر التي لم يفترعها الرجل فهي على خلقتها الأولى من حال الإنشاء، ومنه البكرة لأول النهار والباكورة لأول الفاكهة والبكر الفتى من الإبل وجمعه بكار وبكارة وجاء القوم على بكرتهم وبكرة أبيهم. (عُرُباً) جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها عشقا له. (أَتْراباً) جمع ترب وهو اللذة الذي ينشأ مع مثله في حال الصبا وهو مأخوذ من لعب الصبي بالتراب أي هم كالصبيان الذين هم على سنّ واحدة، قال عمر بن أبي ربيعة: أبرزوها مثل المهاة تهادى ... بين عشر كواعب أتراب الإعراب: (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في تفصيل ما أجمل أولا، وأصحاب مبتدأ وما اسم استفهام للتعظيم في محل رفع مبتدأ وأصحاب اليمين خبر ما والجملة خبر أصحاب والرابط إعادة المبتدأ بلفظه كما تقدم (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) خبر ثان لأصحاب أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم في سدر ومخضود نعت لسدر (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَماءٍ مَسْكُوبٍ وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 431 وَلا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) عطف على وله في سدر ولا في لا مقطوعة للنفي كقولك مررت برجل لا طويل ولا قصير ولذلك لزم تكرارها (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) إن واسمها وجملة أنشأناهنّ خبر وإنشاء مفعول مطلق وعبارة الكشاف «إنّا أنشأناهنّ إنشاء: ابتدأنا خلقهنّ ابتداء جديدا من غير ولادة فإما أن يراد اللاتي ابتدئ إنشاؤهنّ أو اللاتي أعيد إنشاؤهنّ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أم سلمة سألته عن قوله تعالى: إنّا أنشأناهنّ إنشاء، فقال: يا أم سلمة هنّ اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطا رمصا جعلهنّ الله بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء كلما أتاهنّ أزواجهنّ وجدوهنّ أبكارا فلما سمعت عائشة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قالت: وأوجعاه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس هناك وجع (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً) الفاء عاطفة وجعلناهنّ فعل ماض وفاعل ومفعول به أول وأبكارا مفعول به ثان وعربا أترابا نعتان لأبكارا (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) لأصحاب اليمين متعلقان بأنشأناهنّ (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) ثلّة خبر لمبتدأ محذوف ومن الأولين نعت لثلّة وثلّة من الآخرين عطف على ما تقدم. البلاغة: 1- في قوله «وفرش مرفوعة» إن فسرت الفرش بأنها جمع فراش كان معناها على حقيقته أي مرفوعة على السرر وإن أريد بها النساء كانت كناية عن موصوف والعرب تسمي المرأة فراشا ولباسا ويدل على هذا التأويل قوله «إنّا أنشأناهنّ إنشاء» . 2- وفي قوله «عربا أترابا» كناية أيضا عن عودتهنّ أو نشأتهنّ في سنّ صغيرة، قالت عجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال: إن الجنة لا تدخلها العجائز، فولّت وهي تبكي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 432 فقال عليه الصلاة والسلام أخبروها أنها ليست بعجوز، وعنه أيضا صلى الله عليه وسلم: يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين» والعرب جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها، قال المبرد: هي العاشقة لزوجها، وقال زيد بن أسلم: هي الحسنة الكلام والأتراب: هنّ اللواتي على ميلاد واحد وسنّ واحدة. [سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 56] وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) اللغة: (سَمُومٍ) السموم: الريح الحارّة التي تدخل في مسام البدن، ومسام البدن خروقه ومنه أخذ السمّ الذي يدخل في المسام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 433 (يَحْمُومٍ) اليحموم هو الدخان الأسود البهيم، وفي المختار: «وحممه تحميما سخم وجهه بالفحم والحمم الرماد والفحم وكل ما احترق من النار الواحدة حممة واليحموم الدخان» . (الْحِنْثِ) الذنب ويعبّر بالحنث عن البلوغ ومنه قولهم: لم يبلغوا الحنث، وإنما قيل ذلك لأن الإنسان عند بلوغه يؤاخذ بالحنث أي الذنب، وتحنث فلان أي جانب الحنث وفي الحديث: كان صلى الله عليه وسلم يتحنث بنار حراء، أي يتعبد لمجانبته الإثم، فتفعّل في هذه كلها للسلب. (الْهِيمِ) الإبل العطاش التي لا تروى من الماء لداء يصيبها والواحد أهيم والأنثى هيماء، وأصل هيم هيم بضم الهاء بوزن حمر، لكن قلبت الضمة كسرة لمناسبة الياء، وعبارة السمين: «والهيم جمع أهيم وهيماء وهو الجمل والناقة التي أصابها الهيام وهو داء معطش تشرب الإبل منه إلى أن تموت أو تسقم سقما شديدا» . الإعراب: (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ) تقدم إعراب نظيرها قريبا فجدّد به عهدا والكلام مستأنف مسوق للشروع في تفصيل ما أجمله من أحوالهم بعد أن فصّل حال أصحاب اليمين (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ) خبر ثان أو خبر لمبتدأ مضمر وقد تقدم نظيره (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) عطف على ما تقدم (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) الجملة تعليلية لا محل لها من الإعراب وإن واسمها وجملة كانوا خبرها وكان واسمها والظرف متعلق بمحذوف حال أو بمترفين ومترفين خبر كانوا (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) عطف على ما تقدم وكان واسمها وجملة يصرّون خبرها وعلى الحنث متعلقان بيصرّون والعظيم نعت (وَكانُوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 434 يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) عطف أيضا وكان واسمها وجملة يقولون خبرها والهمزة للاستفهام وإذا ظرف للشرط متعلق بشيء دلّ عليه قوله أإنا لمبعوثون، ألا ترى أن إذا ظرف من الزمان فلا بدّ له من فعل أو معنى فعل يتعلق به ولا يجوز أن يتعلق بقوله متنا لأنه مضاف إليه والمضاف إليه لا يعمل في المضاف وإذا لم يجز حمله على هذا الفعل ولا على ما بعد إن من حيث لم يعمل ما بعد إن فيما قبلها كما لا يعمل ما بعد لا فيما قبلها فكذلك لا يجوز أن يعمل ما بعد الاستفهام فيما قبله علمت أنه يتعلق بشيء دلّ عليه قوله أإنا لمبعوثون وذلك نحشر أو نبعث ونحوهما مما يدلّ عليه هذا الكلام. ومتنا فعل وفاعل وكنّا عطف على متنا وكان واسمها وترابا خبرها وعظاما عطف على ترابا والهمزة للاستفهام وإن واسمها واللام المزحلقة ومبعوثون خبرها (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) الهمزة للاستفهام والواو حرف عطف وآباؤنا معطوف على الضمير المستكن في مبعوثون وحسن العطف على الضمير من غير تأكيد نحن لوجود الفاصل الذي هو الهمزة وقيل المعطوف عليه محل إن واسمها بعد ملاحظة تقدم المعطوف على الخبر والتقدير أإنا أو آباؤنا مبعوثون والأولون نعت لآباؤنا (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) كلام مستأنف مسوق للردّ على إنكارهم وتحقيقا للحق، وإن واسمها والآخرين عطف على الأولين واللام المزحلقة ومجموعون خبر إن، وإن واسمها وخبرها في محل نصب مقول القول وإلى ميقات يوم متعلقان بمجموعون ومعلوم نعت ليوم، وقد ضمن الجمع معنى السوق فعدّي بإلى وإلا فكان الظاهر تعديته بفي (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي داخل في حيز القول وإن واسمها وأيها منادى نكرة مقصودة والضالون بدل من أيها والمكذبون نعت للضالون (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) اللام المزحلقة وآكلون خبر إنكم ومن شجر متعلقان بآكلون ومن زقوم بدل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 435 من قوله من شجر أو عطف بيان أو نعت (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) الفاء حرف عطف ومالئون معطوف على آكلون ومنها متعلقان بمالئون والبطون مفعول لاسم الفاعل وأنت ضمير الشجر لأنه اسم جنس واسم الجنس يجوز تذكيره وتأنيثه (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) الفاء حرف عطف وشاربون معطوف على آكلون وعليه متعلقان بمحذوف حال ومن الحميم متعلقان بشاربون (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) الفاء حرف عطف وشاربون عطف على ما تقدم وشرب الهيم مفعول مطلق وصحّ عطف الشيء على نفسه لأنهما في الحقيقة مختلفان فالأول شرب للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة وقطع الأمعاء وهو أمر عجيب في حدّ ذاته والثاني شرب للحميم على ذلك كما تشرب الهيم الماء وهو أمر أعجب وأشد غرابة. وفي هذا التشبيه فائدتان: إحداهما التنبيه على شربهم منه والثانية عدم جدوى الشرب وأن المشروب لا ينجع فيه كما ينجع في الهيم (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) هذا مبتدأ ونزلهم خبر ويوم الدين الظرف متعلق بمحذوف حال أي كائنا في ذلك اليوم العصيب. البلاغة: 1- في قوله «لا بارد ولا كريم» فن الاحتراس وقد تقدم تعريفه، وهنا لمّا قال وظل من يحموم أوهم أن الظل ربما جلب لهم شيئا من الراحة بعد التعب فنفي عنه صفتي الظل يريد أنه ظل ولكن لا كسائر الظلال التي تنشر البرد والروح وتجلب النفع لمن يأوي إليه ويتفيأ تحته ليمحق ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه فقوله لا بارد ولا كريم صفتان للظل لا لقوله من يحموم، وهنا يرد اعتراض بأن الفاء تفيد الترتيب مع التعقيب، ونقول نصّ الرضي على أنه غير واجب مع أنه هنا يفضي إلى عدم توازن الفاصلتين وجعلهما نعتين ليحموم لا يلائم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 436 البلاغة القرآنية كما أن فيه فن التعريض وهو أن الذين يستأهلون الظل الذي فيه برد وإكرام غير هؤلاء فيكون أشجى لحلوقهم وأدعى لتحسرهم، ولهذه النكت جميعها علل استحقاقهم هذه العقوبة بقوله «إنهم كانوا قبل ذلك مترفين» قال الرازي: «والحكمة في ذكره سبب عذابهم ولم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم فلم يقل أنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين وذلك للتنبيه على أن الثواب منه تعالى فضل والعقاب منه عدل والفضل سواء ذكر سببه أم لم يذكر لا يوهم بالمتفضل نقصا ولا ظلما وأما العدل فإنه إن لم يذكر سبب العقاب يظن أنه ظالم ويدل على ذلك أنه تعالى لم يقل في حق أصحاب اليمين جزاء بما كانوا يعملون كما قال في السابقين لأن أصحاب اليمين نجوا بالفضل العظيم لا بالعمل بخلاف من كثرت حسناته يحسن إطلاق الجزاء بحقه» وهذا كلام جميل جدا فتدبره ولا تنس المقابلة الخفيّة الكامنة فيما بين سطور هذا الكلام العجيب فهؤلاء الذين أمسّوا بهذه المثابة كانوا في الدنيا يعيشون غارقين في الترف، متقلبين في أعطافه فإذا بهم وقد لفّهم السموم واليحموم يتذكرون ما كانوا فيه ويقابلون بينه وبين حالتهم الراهنة والتجسيد والتخييل حاضران مهيآن أمامهم، تتقراهما أيديهم بلمس على حدّ قول البحتري. 2- وفي الآية «هذا نزلهم يوم الدين» فن التهكم وقد مرّ أيضا، فقد سمّى الجحيم وما فيه من صنوف العذاب وضروب الأهوال نزلا تهكما بهم لأن النزل ما يعدّ للنازل تكرمة له كما في قوله تعالى «فبشّرهم بعذاب أليم» وكقول أبي الشعراء الضبّي: وكنّا إذا الجبار بالجيش ضافنا ... جعلنا القنا والمرهفات له نزلا أي إذا نزل بنا الجبار مع جيشه نزول الضيف، وفيه تهكم به الجزء: 9 ¦ الصفحة: 437 حيث جاء محاربا فشبهه بمن جاء للمعروف طالبا ورشح ذلك التشبيه بجعل الرماح والسيوف المرهفة المسنونة نزلا له وهو الطعام المعدّ للضيف. [سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 74] نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) اللغة: (تُمْنُونَ) أمنى يمني ومنى يمني: قذف المني في الرحم وهو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 438 النطفة، وقرأ ابن السماك تمنون بفتح التاء والأصل من المني وهو التقدير، قال الشاعر: لا تأمنّ وإن أمسيت في حرم ... حتى تلاقي ما يمني لك الماني ومنه المنية لأنها مقدّرة تأتي على مقدار وفي المختار: «وقد منى من باب رمى وأمنى أيضا» . (قَدَّرْنا) بالتشديد والتخفيف قال: ومفرهة عنس قدرت لساقها ... فخرت كما تتايع الريح بالقفل والمعنى قدرت ضربي لساقها فضربتها فخرت، ومثله في المعنى: وإن تعتذر بالمحلّ من ذي ضروعها ... على الضيف يجرح في عراقيبها نصلي (حُطاماً) الحطام: الهشيم الذي لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء وأصل الحطم الكسر، والحطم السوّاق بعنف يحطم بعضها على بعض، قال: قد لفّها الليل بسواق حطم ... ليس براعي إبل ولا غنم ولا بجزار على ظهر وضم (تَفَكَّهُونَ) التفكّه أصله تناول ضروب الفواكه للأكل والفكاهة المزاح ومنه حديث زيد: كان من أفكه الناس مع أهله، ورجل فكه طيب النفس، وقد استعير هنا للتنقل في الحديث، وقيل معناه تندمون، وحقيقته تلقون الفكاهة عن أنفسكم ولا تلقى الفكاهة إلا من الحزن فهو من باب تحرّج وتأثم، وقيل تفكهون: تعجبون وقيل تتلاومون وقيل تتفجعون وكله من باب التفسير باللازم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 439 (لَمُغْرَمُونَ) جمع مغرم، والمغرم هو الذي ذهب ماله بغير عوض وأصل الباب اللزوم والغرام العذاب اللازم قال الأعشى: إن يعاقب يكن غراما وإن يع ... ط جزيلا فإنه لا يبالي (تُورُونَ) الإيراء إظهار النار بالقدح يقال أورى يوري ووريت بك زنادي أي أضاء بك أمري ويقال: قدح فأورى إذا ظهرت النار فإذا لم يور يقال قدح فأكبى، وفي المصباح: «ورى الزند يري وريا من باب وعى وفي لغة وري يري بكسرهما وأورى بالألف وذلك إذا أخرج ناره» وفي المختار: «وأوراه غيره أخرج ناره» وفي معاجم اللغة: تستخرجون النار من الزناد وهو جمع زند والزند العود الذي يقدح به النار وهو الأعلى والزندة السفلى فيها ثقب وهي الأنثى فإذا اجتمعتا قيل زندان والجمع زناد والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر. (الْمُزْنِ) السحاب جمع مزنة وفي القاموس: «المزن بالضم السحاب أو أبيضه أو ذو الماء، القطعة مزنة» . (أُجاجاً) في المختار: «ماء أجاج مرّ شديد الملوحة، وقد أجّ الماء يؤج أجوجا بالضم» . (لِلْمُقْوِينَ) للمسافرين أي جعلناها ينتفع بها المسافرون وخصّوا بالذكر لأن منفعتهم بها أكثر من المقيمين، وقال قطرب: «المقوي من الأضداد يقال للفقير مقو لخلوّه من المال ويقال للغني مقو لقوته على ما يريده» وقيل المقوي النازل بالقواء من الأرض ليس بها أحد وأقوت الدار خلت من أهلها، قال النابغة: أقوى وأقفر من نعم وغيّرها ... هوج الرياح بهابي الترب موار وقال عنترة: حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 440 الإعراب: (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ) نحن مبتدأ وجملة خلقناكم خبر والفاء حرف عطف ولولا حرف تحضيض وتصدقون فعل مضارع مرفوع والواو فاعله (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة ورأيتم فعل ماض وفاعله ومعناه أخبروني وما اسم موصول بمعنى الذي مفعول رأيتم الأول وجملة تمنون صلة (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني لرأيتم وأنتم مبتدأ وجملة تخلقونه خبر ويجوز إعراب أنتم فاعلا لفعل مقدّر أي أتخلقونه أنتم فلما حذف الفعل لدلالة ما بعده عليه انفصل الضمير وهو من باب الاشتغال ولعله من جهة القواعد أمكن لأجل أداة الاستفهام وأم حرف عطف وهي منقطعة لأن بعدها جملة والمنقطعة تقدّر ببل وهمزة الاستفهام فيكون الكلام مشتملا على استفهامين الأول أأنتم تخلقونه وجوابه لا والثاني مأخوذ من أم أي بل نحن الخالقون وجوابه نعم، ويجوز أن تكون أم متصلة فهي معادلة ويؤيد هذا الوجه أن الكلام يئول إلى أي الأمرين واقع والجملة بعدها في تأويل المفرد، ونحن مبتدأ والخالقون خبر (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) نحن مبتدأ وجملة قدرنا خبر وقدرنا فعل وفاعل والظرف متعلق بقدرنا والموت مفعول به أي أوجبناه وكتبناه عليكم والواو عاطفة أو اعتراضية وما نافية حجازية ونحن اسمها والباء حرف جر زائد ومسبوقين مجرور لفظا منصوب محلا لأنه خبر ما (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) على حرف جر وأن نبدل في تأويل مصدر مجرور بعلى والجار والمجرور متعلقان بمسبوقين أي ولم يسبقنا أحد على تبديلنا أمثالكم ويجوز تعليقهما بقدّرنا بينكم أي قدّرنا بينكم الموت على أن نبدل أي يموت أناس ويخلفهم أناس آخرون فتكون جملة وما نحن بمسبوقين اعتراضية، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 441 وننشئكم عطف على نبدل وفيما متعلقان بننشئكم وجملة لا تعلمون صلة أي ننشئكم في صور لا تعلمونها من الحيوانات الممتهنة المرتطمة بالأقذار كالقردة والخنازير (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وعلمتم فعل وفاعل والنشأة مفعول به والأولى نعت، فلولا: الفاء عاطفة ولولا حرف تحضيض وتذكرون فعل مضارع وفاعل (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) تقدم إعراب نظيرها فجدد به عهدا (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) لو شرطية ونشاء فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن واللام واقعة في جواب لو وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به وحطاما مفعول جعل الثاني والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم وظلتم فعل ماض ناقص وأصله ظللتم بكسر اللام حذفت العين تخفيفا والتاء اسمها وجملة تفكهون خبرها وتفكهون فعل مضارع حذفت منه إحدى تاءيه (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) إن واسمها واللام المزحلقة ومغرمون خبرها وجملة إن واسمها وخبرها مقول قول محذوف في محل نصب على الحال تقديره فظللتم تفكهون قائلين أو تقولون إنّا لمغرمون أي لملزمون غرامة ما أنفقنا أو مهلكون لهلاك رزقنا (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) بل حرف إضراب وعطف ونحن مبتدأ ومحرومون خبر والجملة معطوفة على سابقتها (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) تقدم إعراب نظيرها والذي صفة للماء وجملة تشربون صلة والعائد محذوف (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ) تقدم إعرابها، وسيأتي سر حذف اللام في هذه الآية وذكرها في الآية الأولى في باب البلاغة (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) تقدم إعراب نظيرها (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) نحن مبتدأ وجملة جعلناها خبر وتذكرة مفعول به ثان ومتاعا عطف على تذكرة وللمقوين متعلقان بمتاعا أو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 442 صفة له (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) الفاء الفصيحة أي إن عرفت هذه العوارف والآلاء الباهرة فسبّح، وسبّح فعل أمر وفاعله أنت وباسم متعلق بسبّح أو بمحذوف حال أي متبركا وقيل اسم مقحم والعظيم صفة لربك. البلاغة: 1- في الآيات الآنفة الذكر فن صحة الأقسام وقد سبق ذكره في هذا الكتاب وأنه عبارة عن استيفاء المتكلم جميع الأقسام للمعنى المذكور الآخذ فيه بحيث لا يغادر منه شيئا، فقد عدل عن لفظ الحرمان والمنع إلى لفظ هو ردفه وتابعه وهو لفظ الجعل إذ قال «أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما» وكذلك جاء لفظ الاعتداد بالماء حيث قال «لو نشاء جعلناه أجاجا» بلفظ الجعل عند ذكر الحرمان وما هو في معناه وجاء العطاء بلفظ الزرع في الحرث وفي الماء بلفظ الإنزال، فإن قيل: لم أكد الفعل باللام في قوله في الزرع: «لو نشاء لجعلناه حطاما» ولم يؤكده في الماء حيث قال: (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) ؟ قلت: لأن الزرع ونباته وجفافه بعد النضارة حتى يعود حطاما فما يحتمل أن يتوهم أنه من فعل الزراع ولهذا قال سبحانه: «أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون» أو يتوهم أن خصبه من سقي الماء وأن جفافه من حرارة الشمس وعدم السقي أو تواتر مرور الإعصار فأخبر سبحانه أنه الفاعل لذلك كله على الحقيقة وأنه قادر على جعله لو شاء حطاما في حالة نموّه وزمن شبيبته ونضارته فلما كان هذا التوهم محتملا أوجبت البلاغة توكيد فعل الجعل فيه وإسناده لزارعه على الحقيقة ومنشئه لرفع هذا التوهم، ولما كان إنزال الماء من السماء محالا بما لا يتطرق احتمال توهم متوهم أن أحدا من جميع الخلق قادر عليه لم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 443 يحتج إلى توكيد الفعل في جعله أجاجا فإنه لا يمكن أن يتوهم أحد أن أحدا ينزل الماء من السماء أجاجا ولا عذبا الذي هو أسهل من الأول وأهون. وعبارة الزمخشري في هذا الصدد هذا نصها: «فإن قلت لم أدخلت اللام على جواب لو في قوله لجعلناه حطاما ونزعت منه هاهنا؟ قلت: إن لو لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط ولم تكن مخلصة للشرط كإن ولا عاملة مثلها وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقا من حيث إفادتها في مضموني جملتيهما أن الثاني امتنع لامتناع الأول افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علما على هذا التعلق فزيدت هذه اللام لتكون علما على ذلك، فإذا حذفت بعد ما صارت علما مشهورا مكانه فلأن الشيء إذا علم وشهر موقعه وصار مألوفا ومأنوسا به لم يبال بإسقاطه عن اللفظ استغناء بمعرفة السامع، ألا ترى إلى ما يحكى عن رؤبة أنه كان يقول خير لمن قال له: كيف أصبحت؟ فحذف الجار لعلم كل أحد بمكانه وتساوي حالي حذفه وإثباته لشهرة أمره وناهيك بقول أوس: حتى إذا الكلّاب قال لها ... كاليوم مطلوبا ولا طلبا» أقول وفي بيت أوس بن حجر أو للنمر بن تولب حذف لا يستقيم إلا به أي قال لها لم أنظر كاليوم مطلوبا والضمير لكلبة الصيد والكلّاب معلّم الكلاب أو الصياد أي ليس المطلوب والطلب في هذا اليوم مثلها في غيره بل أعظم، ثم يتابع الزمخشري: «ويجوز أن يقال إن هذه اللام مفيدة معنى التوكيد لا محالة فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب للدلالة على أن أمر المطعوم مقدّم على أمر المشروب وأن الوعيد بفقده أشدّ وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعا للمطعوم، ألا ترى أنك إنما تسقي ضيفك بعد أن تطعمه ولو عكست قعدت تحت قول أبي العلاء: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 444 إذا سقيت ضيوف الناس محضا ... سقوا أضيافهم شبما زلالا وسقي بعض العرب فقال أنا لا أشرب إلا على ثميلة، ولهذا قدّمت آية المطعوم على آية المشروب» والثميلة: اللبن الخالص. ونعود إلى بيت أبي العلاء فنقول هو من قصيدة يمدح بها سعد الدولة أبا الفضائل، وعيب عليه حيث مدح بسقي الضيوف الماء قبل ذكر الطعام والمخض اللبن المنزوع زبده فهو بمعنى الممخوض ويروي محضا بالحاء المهملة أي خالصا حلوا أو حامضا والشبم البارد والزلال العذب. هذا وحيث جعل علماء البلاغة للمقام مدخلا في الدلالة على المراد نقول إن معنى البيت إذا عجّلت الناس اللبن لأضيافهم واكتفوا به عن الإسراع بالطعام عجّلوا هم بالطعام لاستعدادهم للضيفان فيحتاجون لشرب الماء فيسقونهم ماء قبل إطعام غيرهم الضيفان فسقيهم الماء يفيد تعجيل الطعام قبله بمعونة المقام لأنه يلزمه عادة فلا عيب فيه. 2- وفي هذه الآيات أيضا فن التسهيم وهو أن يكون ما تقدم من الكلام دليلا على ما يتأخر منه أو بالعكس، فقوله «أفرأيتم ما تحرثون» إلى قوله «أفرأيتم النار التي تورون» تقتضي أوائل هذه الآيات أن أواخرها اقتضاء لفظيا ومعنويا كما ائتلفت الألفاظ فيها بمعانيها المجاورة الملائم بالملائم والمناسب بالمناسب لأن ذكر الحرث يلائم ذكر الزرع والاعتداد بكونه سبحانه لم يجعله حطاما ملائم لحصول التفكّه به وعلى هذه الآية يقاس نظم أختها. [سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 87] فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 445 اللغة: (بِمَواقِعِ النُّجُومِ) بمساقطها ومغاربها وقيل بمنازلها وقيل بانكدارها وانتثارها وسيأتي مزيد تفسير لها في باب الإعراب. (مُدْهِنُونَ) قال الراغب: «والإدهان في الأصل مثل التدهين لكن جعل عبارة عن المداراة والملاينة وترك الجدّ» وقال المؤرج: المدهن المنافق أو الكافر الذي يلين جانبه ليخفي كفره، والإدهان والمداهنة التكذيب والنفاق وأصله اللين وأن يضمر خلاف ما يظهر. الإعراب: (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) الفاء استئنافية ولا زائدة والمعنى فاقسم ولا تزاد في القسم فيقال لا والله ولا أفعل قال امرؤ القيس: لا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم أني أفر والمعنى وأبيك وإنما زيدت للتأكيد وتقوية الكلام. وقيل نافية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 446 والمنفي محذوف وهو كلام الكافر والجاحد تقديره فلا صحة لما يقول الكافر ثم ابتدأ فقال أقسم، وقيل هي لام الابتداء دخلت على جملة من مبتدأ وخبر وهي أنا أقسم كقولك لزيد منطلق ثم حذف المبتدأ فاتصلت اللام بخبره تقديره فلأقسم باللام فقط، وقال أبو حيان: والأولى عندي أنها لام أشبعت فتحتها فتولدت منها ألف كقوله «أعوذ بالله من العقارب» وسيرد مزيد من هذا البحث في كتابنا، وأقسم فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا وبمواقع النجوم متعلقان بأقسم (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) الواو اعتراضية وإن واسمها واللام المزحلقة وقسم خبرها ولو شرطية وتعلمون فعل مضارع مرفوع وعظيم صفة قسم وجملة لو تعلمون معترضة بين الموصوف وصفته وجملة إنه لقسم لو تعلمون عظيم لا محل لها لأنها معترضة بين القسم وجوابه فهما اعتراضان متعاقبان وجواب لو محذوف والتقدير لو كنتم من ذوي العلم لعلمتم (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) الجملة جواب القسم لا محل لها وإن واسمها واللام المزحلقة وقرآن خبر إنه وكريم صفة أولى لقرآن (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) في كتاب صفة ثانية لقرآن ومكنون صفة لكتاب (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) لا نافية ويمسّه فعل مضارع ومفعوله وإلا أداة حصر والمطهرون فاعل يمسّه والجملة صفة ثالثة لقرآن، وقيل لا ناهية ويمسّه فعل مضارع مجزوم بلا ولكنه لما أدغم حرّك آخره لأجل الإدغام وكانت الحركة ضمة اتباعا الهاء ولا داعي لهذا التكلف فالأولى ما ذكرناه وهو الأشبه بتناسق الصفات ويؤيد ما ذهبنا إليه قراءة عبد الله بن مسعود ما يمسّه بما النافية وفي مسّه كناية عن لازمه وهي نفي الاطّلاع عليه وعلى ما فيه (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) صفة رابعة ومن رب العالمين نعت لتنزيل (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي، والفاء عاطفة وبهذا متعلقان بمدهنون والحديث بدل من اسم الإشارة وأنتم مبتدأ ومدهنون خبر (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) الواو حرف عطف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 447 وتجعلون رزقكم فعل مضارع والواو فاعل ورزقكم مفعول تجعلون الأول وأن واسمها وجملة تكذبون خبرها وأن وما في حيزها في موضع المفعول الثاني ولا بدّ من تقدير مضاف أي شكر رزقكم (فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) الفاء استئنافية ولولا حرف تحضيض بمعنى هلّا ولا يقع بعدها الفعل فيكون التقدير فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم فالعامل في إذا هو الفعل الواقع بعد لولا وهو ترجعونها، وبلغت فعل ماض وفاعله مستتر تقديره النفس أي إذا بلغت النفس الحلقوم عند الموت (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) الواو حالية وأنتم مبتدأ وحين ظرف أضيف إلى مثله وهو إذ والتنوين فيه عوض عن الجملة المضافة إليها أي إذا بلغت النفس الحلقوم وجملة تنظرون خبر أنتم وجملة وأنتم حينئذ تنظرون حال من فاعل بلغت (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) الواو حالية ونحن مبتدأ وأقرب خبر وإليه ومنكم متعلقان بأقرب والواو عاطفة ولكن مخفّفة مهملة للاستدراك ولا نافية وتبصرون فعل مضارع مرفوع من البصيرة أي العلم (فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الفاء عاطفة ولولا حرف تحضيض مؤكد للولا الأولى وإن شرطية وكنتم كان واسمها وغير مدينين خبر أي غير مجزيين بأن تبعثوا أي غير مبعوثين وترجعونها هو العامل في إذا فقدم الظرف على عامله المتعلق به الشرطان وهما إن كنتم غير مدينين وإن كنتم غير صادقين ومعنى تعلقهما به أنه جزاء لهما أي لكلّ منهم ففي الكلام قلب والمعنى هلّا ترجعونها إن نفيتم البعث صادقين في نفيه. وملخص الكلام: إن صدقتم في نفي البعث فردّوا روح المحتضر إلى جسده لينتفي عنه الموت فينتفي البعث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 448 البلاغة: الاستعارة المكنية في قوله «فإذا بلغت الحلقوم» كأنما الروح شيء مجسم يبلغ الحلقوم في حركة محسوسة. [سورة الواقعة (56) : الآيات 88 الى 96] فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) اللغة: (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) الروح بالفتح الراحة والرحمة ونسيم الريح والريحان الرحمة والرزق كما في المختار وفي القاموس: «والريحان نبت طيب الرائحة أو كل نبت كذلك أو أطرافه أو ورقه والولد والرزق» . (تَصْلِيَةُ) احتراق. الإعراب: (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان حال المتوفى بعد الممات إثر بيان حاله عند الوفاة، وأما حرف شرط الجزء: 9 ¦ الصفحة: 449 وتفصيل وإن شرطية وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر أي المتوفّى ومن المقربين خبر كان. (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) الفاء رابطة لجواب أما وجواب إن محذوف لدلالة المذكور عليه، وحذف جواب إن شائع كثيرا، وروح مبتدأ خبره محذوف مقدّم عليه أي فله روح وما بعده عطف عليه (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) عطف على ما تقدم مساو له في إعرابه، وسلام مبتدأ لما فيه من معنى الدعاء ولك خبر سلام ومن أصحاب اليمين نعت أو حال (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ) عطف على جملة فأما إن كان، والإعراب هو نفسه فجدّد به عهدا (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) الفاء رابطة لجواب أما ونزل مبتدأ حذف خبره المقدم ومن حميم نعت لنزل وتصلية جحيم عطف على نزل (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) إن واسمها واللام المزحلقة وهو ضمير فصل أو مبتدأ وحق اليقين خبر إن أو خبر هو والجملة الاسمية خبر إن وإضافة حق إلى اليقين من إضافة الموصوف إلى صفته (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) تقدم إعرابه ونعيده لإضافة بعض الفوائد عليه، فسبّح فعل أمر بمعنى نزّه ولفظ اسم زائد أي نزّه ربك العظيم ويجوز أن تكون الباء للحال أي فسبّح ملتبسا باسم ربك أو متبركا ويجوز أن تكون الباء للتعدية بناء على أن سبّح يتعدى تارة بنفسه وتارة أخرى بحرف الجر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 450 (57) سورة الحديد مدنيّة وآياتها تسع وعشرون [سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 451 الإعراب: (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) سبّح فعل ماض مبني على الفتح ولله متعلقان بسبّح وقيل اللام زائدة في المفعول، وقد تقدم القول في هذا الفعل وأنه قد يتعدى بنفسه تارة وباللام أخرى، وجاء هذا الفعل في بعض الفواتح ماضيا كهذه الفاتحة وفي بعضها مضارعا وفي بعضها أمرا للإشارة إلى أن هذه الأشياء مسبّحة في كل الأوقات، وما فاعل سبّح وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة الموصول والأرض عطف على السموات والواو حالية أو مستأنفة وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والحكيم خبر ثان وعبّر بما دون من تغليبا للأكثر (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ) له خبر مقدّم وملك السموات مبتدأ مؤخر والأرض عطف على السموات وجملة يحيي حال من الضمير في له أو مستأنفة وجملة له ملك السموات مستأنفة لا محل لها (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الواو عاطفة وهو مبتدأ وقدير خبره والجار والمجرور متعلقان بقدير (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) هو مبتدأ والأول خبره وما بعده عطف عليه وهو مبتدأ وعليم خبره وبكل شيء متعلقان بعليم (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة خلق السموات والأرض صلة الموصول لا محل لها وفي ستة أيام متعلقان بخلق وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي واستوى فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله وعلى العرش متعلقان باستوى (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها) جملة يعلم حالية أو مستأنفة ويعلم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو وفي الأرض متعلقان بيلج وما يخرج منها عطف على ما يلج في الأرض ومنها متعلقان بيخرج (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) وما عطف على ما الأولى وما يعرج فيها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 452 عطف أيضا (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) الواو حرف عطف وهو مبتدأ ومعكم ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر وأينما اسم شرط جازم في محل نصب على الظرفية المكانية وهو متعلق بجوابه المحذوف، وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف دلّ عليه ما قبله أي فهو معكم وكنتم تامة، والله مبتدأ وبصير خبر وبما تعملون متعلقان ببصير وجملة تعملون صلة الموصول لا محل لها (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) له خبر مقدم وملك السموات خبره وإلى الله متعلقان بترجع وترجع فعل مضارع مبني للمجهول والأمور نائب فاعل (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) الجملة حالية أو مستأنفة والليل مفعول يولج وفي النهار متعلقان بيولج وما بعده عطف عليه (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) الواو عاطفة وهو مبتدأ وعليم خبره وبذات الصدور متعلقان بعليم. [سورة الحديد (57) : الآيات 7 الى 10] آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 453 الإعراب: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في مخاطبة كفّار قريش وأمرهم بالإيمان بعد أن ذكر أنواعا من الدلائل على التوحيد. وآمنوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وبالله متعلقان بآمنوا ورسوله عطف عليه وأنفقوا عطف على آمنوا ومما متعلقان بأنفقوا وجملة جعلكم صلة الموصول والكاف مفعول أول ومستخلفين مفعول ثان لجعل وفيه متعلقان بمستخلفين أي من مال مقتنى وعتاد مجتنى (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) الفاء استئنافية والذين مبتدأ وجملة آمنوا لا محل لها لأنها صلة الموصول ومنكم حال وأنفقوا عطف على آمنوا داخل في حيز الصلة ولهم خبر مقدم وأجر مبتدأ مؤخر وكبير نعت وجملة لهم أجر كبير خبر الذين (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) الواو استئنافية وما اسم استفهام إنكاري في محل رفع مبتدأ ولكم خبر وجملة لا تؤمنون في محل نصب على الحال وبالله متعلقان بتؤمنون والمعنى أي شيء استقر لكم غير مؤمنين والواو حالية والرسول مبتدأ وجملة يدعوكم خبر والجملة في محل نصب على الحال من الواو في تؤمنون (لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) اللام للتعليل وتؤمنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بيدعوكم وبربكم متعلقان بتؤمنوا والواو حالية وقد حرف تحقيق وأخذ ميثاقكم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به والجملة في محل نصب على الحال من فاعل يدعوكم على التداخل أيضا، وفي قراءة أخذ بالبناء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 454 للمجهول فيكون ميثاقكم نائب فاعل أي نصب لكم من الأدلة والتمكّن من النظر بمثابة أخذ الميثاق وقيل إشارة إلى إشهادهم على أنفسهم بقوله «ألست بربكم قالوا بلى» وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف تقديره فالآن ظهرت أعلام اليقين ووضّحت الدلائل والبراهين ولزمتكم الحجج العقلية والسمعية، ومؤمنين خبر كنتم (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة ينزل صلة لا محل لها وعلى عبده متعلقان بينزل وآيات مفعول به وبيّنات صفة واللام للتعليل ويخرجكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بينزل ومن الظلمات متعلقان بيخرجكم أي من الكفر وإلى النور متعلقان بيخرجكم أيضا أي إلى الإيمان (وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) الواو عاطفة وإن واسمها وبكم متعلقان برءوف واللام المزحلقة ورءوف خبر إن الأول ورحيم خبر إن الثاني (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الواو استئنافية وما اسم استفهام إنكاري مبتدأ ولكم خبر وأن حرف مصدري ونصب ولا نافية وتنفقوا فعل مضارع منصوب بأن وأن وما بعدها في تأويل مصدر في محل نصب بنزع الخافض أي في أن لا تنفقوا أو من أن لا تنفقوا والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال وفي سبيل الله متعلقان بتنفقوا والواو حالية ولله خبر مقدّم وميراث السموات مبتدأ مؤخر والأرض عطف على السموات والجملة في محل نصب حال من فاعل الاستقرار أو مفعوله أي وأي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله والحال أن ميراث السموات والأرض له (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) كلام مستأنف مسوق لبيان تفاوت درجات المنفقين، ولا نافية ويستوي فعل مضارع مرفوع ومنكم حال ومن فاعله وجملة أنفق صلة الموصول لا محل لها ومن قبل الفتح متعلقان بأنفق وقاتل عطف على أنفق، وفي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 455 الكلام حذف سيأتي ذكره في باب البلاغة (أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) أولئك مبتدأ والإشارة إلى من أنفق وأعظم خبر ودرجة تمييز ومن الذين متعلقان بأعظم وجملة أنفقوا صلة ومن بعد متعلقان بأنفقوا وقاتلوا عطف على أنفقوا (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى) والله فاعل وعد والحسنى مفعول به ثان والله مبتدأ وخبير خبره وبما تعملون متعلقان بخبير. البلاغة: 1- الحذف: الحذف في هذه الآيات كثير ونلخصة فيما يلي: - حذف مفعول أنفقوا للمبالغة في الحثّ على الإنفاق وعدم البخل بالمال. - حذف مفعول «تنفقوا في سبيل الله» لما تقدم ولتشديد التوبيخ أي: وأي شيء لكم في أن لا تنفقوا ما هو قربة إلى الله تعالى. - حذف ثاني الاستواءين لأن الاستواء لا يتم إلا بعد شيئين فلا بدّ من حذف مضاف تقديره: لا يستوي منكم من أنفق من قبل فتح مكة وقوة الإسلام ومن أنفق من بعد الفتح، فحذف لوضوح الدلالة عليه، وعبارة أبي حيان بهذا الصدد: «والظاهر أن «من» فاعل «لا يستوي» وحذف مقابله وهو «ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل» لوضوح المعنى أولئك أي الذين أنفقوا قبل الفتح وقبل انتشار الإسلام وفشوّه واستيلاء المسلمين على أم القرى وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين جاء في حقهم قوله صلى الله عليه وسلم: لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه، وأبعد من ذهب إلى أن الفاعل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 456 بلا يستوي ضمير يعود على الإنفاق أي لا يستوي هو الإنفاق أي جنسه إذ منه ما هو قبل الفتح وبعده ومن أنفق مبتدأ وأولئك مبتدأ خبره ما بعده والجملة في موضع رفع خبر من وهذا فيه تفكيك للكلام وخروج عن الظاهر لغير موجب وحذف المعطوف لدلالة المقابل كثير» وإنما كانت النفقة والقتال قبل الفتح أفضل من النفقة والقتال بعد الفتح لأن حاجة الناس كانت إذ ذاك أكثر وهم أقل وأضعف. 2- في قوله «في سبيل الله» استعارة تصريحية أي طاعته، وسبيل الله كل خير يوصلهم إليه. [سورة الحديد (57) : الآيات 11 الى 15] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 457 اللغة: (انْظُرُونا) أمر من النظر، والنظر هو تقليب العين إلى الجهة التي فيها المرئي والمراد رؤيته، ومما يدل على ذلك قوله: فيا ميّ هل يجزى بكائي بمثله ... مرارا وأنفاسي إليك الزوافر وإني متى أشرف على الجانب الذي ... به أنت من بين الجوانب ناظر فلو كان النظر الرؤية لم يطلب عليه الجزاء لأن المحبّ لا يستثيب من النظر إلى محبوبه شيئا بل يريد ذلك ويتمناه، ويدلّ على ذلك قول الآخر: ونظرة ذي شجن وامق ... إذا ما الركائب جاوزن ميلا وأما قوله سبحانه: ولا ينظر إليهم يوم القيامة فالمعنى أنه سبحانه لا ينيلهم رحمته، وقد تقول نظر إليّ فلان إذا كان ينيلك شيئا، ويقول القائل: انظر إليّ نظر الله إليك يريد أنلني خيرا أنالك الله، ونظرت فعل يستعمل وما تصرّف منه على ضروب: 1- أحدها أن تريد به: نظرت إلى الشيء، فتحذف الجار وتصل الفعل، ومن ذلك ما أنشده أبو الحسن: ظاهرات الجمال والحسن ينظر ... ن كما ينظر الأراك الظباء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 458 والمعنى ينظرن إلى الأراك، فحذف الجار، ولهذا قال أبو حيان: «إن النظر بمعنى الإبصار لا يتعدى بنفسه إلا في الشعر وإنما يتعدى بإلى» . 2- والثاني: أن تريد به تأملت وتدبرت وهو فعل غير متعدّ فمن ذلك قولهم اذهب فانظر زيدا أبو من هو، فهذا يراد به التأمّل، ومن ذلك قوله: انظر كيف ضربوا لك الأمثال، وانظر كيف فضّلنا بعضهم على بعض وقد يتعدى هذا بالجار كقوله تعالى: «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت» فهذا حضّ على التأمل، وقد يتعدى هذا بفي نحو قوله: أفلم ينظروا في ملكوت السموات والأرض، فأما قول امرئ القيس: فلما بدا حوران والآل دونه ... نظرت فلم تنظر بعينك منظرا فيجوز أن يكون نظرت فلم تر بعينك منظرا إلى الآل أي السراب، وقد جوّز أن يعني بالنظر الرؤية على الاتّساع لأن تقليب البصر نحو المبصر تتبعه الرؤية وقد يجري على الشيء لفظ ما يتبعه ويقترن به كقولهم للمزادة راوية، وقد يكون نظرت فلم تنظر مثل تكلمت ولم تتكلم، أي لم تأت بكلام على حسب ما يراد فكذلك نظرت فلم تنظر بعينك منظرا كما تريد أو تر منظر ما يروق. 3- والثالث: أن تريد به انتظرته من ذلك قوله: غير ناظرين إناه، ومثله قول الفرزدق: نظرت كما انتظرت الله حتى ... كفاك الماحلين لك المحالا يريد انتظرت كما انتظرت. 4- والرابع أن يكون أنظرت بمعنى انتظرت تطلب بقولك انظرني الجزء: 9 ¦ الصفحة: 459 التنفيس الذي يطلب الانتظار فمن ذلك قول عمرو بن كلثوم: أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا ومن ذلك قوله «فأنظرني إلى يوم يبعثون» إنما هو طلب الإمهال والتسويف وعلى ذلك قراءة حمزة أنظرونا بقطع الهمزة وكسر الظاء. (يُقْرِضُ) القرض ما تعطيه غيرك ليقضيكه فهو قطعه عن مالكه بإذنه على ضمان ردّ مثله، والعرب تقول: لي عندك قرض صدق وقرض سوء إذا فعل به خيرا أو شرّا، قال الشاعر: ويقضي سلامان بن مفرج قرضها ... بما قدّمت أيديهم وأزلت وسيأتي المزيد من معناه هنا في باب البلاغة. الإعراب: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) فيه أوجه أحدها أن تكون من استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء وذا اسم إشارة خبره والذي صفة له أو بدل منه، ويصحّ أن يكون من ذا استفهاما برأسه مرفوع المحل بالابتداء والذي خبره، ويصحّ أن تكون ذا مبتدأ والذي يقرض الله صفة ومن خبر المبتدأ قدم عليه لما فيه من معنى الاستفهام. ويقرض فعل مضارع وفاعله مستتر والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول والله مفعوله وقرضا مفعول مطلق وحسنا نعت والفاء سببية ويضاعفه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء على جواب الاستفهام وقرئ بالرفع على الاستئناف أو العطف، ولأبي حيان هنا كلام لطيف نورده فيما يلي: «وقرأ عاصم فيضاعفه بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام وفي ذلك قلق قال أبو علي الفارسي لأن السؤال لم يقع على القرض وإنما وقع السؤال على فاعل القرض وإنما تنصب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 460 الفاء فعلا مردودا على فعل مستفهم عنه لكن هذه الفرقة يعني من القرّاء حملت ذلك على المعنى كأن قوله من ذا الذي يقرض بمنزله أن لو قال أيقرض الله أحد فيضاعفه، وهذا الذي ذهب إليه أبو علي- من أنه إنما تنصب الفاء فعلا مردودا عى فعل مستفهم عنه- ليس بصحيح بل يجوز إذا كان الاستفهام بأدواته الاسمية نحو من يدعوني فأستجيب له وأين بيتك فأزورك ومتى تسير فأرافقك وكيف تكون فأصحبك، فالاستفهام هنا واقع عن ذات الداعي وعن ظرف المكان وظرف الزمان والحال لا عن الفعل، وحكى ابن كيسان عن العرب: أين ذهب زيد فنتبعه وكذلك كم مالك فنصرفه ومن أبوك فنكرمه، بالنصب بعد الفاء وقراءة فيضاعفه بالنصب قراءة متواترة والفعل واقع صلة للذي والذي صفة لذا وذا خبر له وإذا جاز النصب في نحو هذا فجوازه في المثل السابقة أحرى» وله متعلقان بيضاعفه والواو حالية وله خبر مقدّم وأجر مبتدأ مؤخر وكريم صفة (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) يوم ظرف متعلق بالاستقرار العامل في وله أجر أي استقر له أجر في ذلك اليوم أو بمضمر تقديره يؤجرون منصوب بأذكر فيكون مفعولا به، وقال أبو البقاء: العامل فيه فيضاعفه وجملة ترى المؤمنين والمؤمنات في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة يسعى نورهم حال لأن الرؤية بصرية ونورهم فاعل يسعى والظرف متعلق بيسعى وبأيمانهم عطف على أيديهم (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الجملة مقول قول محذوف أي ويقال لهم، وبشراكم مبتدأ واليوم ظرف متعلق بالقول المحذوف، وجنات خبر بشراكم وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة لجنات وخالدين حال والعامل فيها المضاف المحذوف إذ التقدير بشراكم دخولكم جنات خالدين فيها فحذف الفاعل وهو ضمير المخاطب وأضيف المصدر لمفعوله فصار دخول جنات ثم حذف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 461 المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب، وفيها متعلقان بخالدين وذلك مبتدأ وهو مبتدأ ثان والفوز خبره والجملة خبر ذلك والعظيم نعت للفوز (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) الظرف بدل من يوم قبله، وقال ابن عطية «ويظهر لي أن العامل فيه ذلك هو الفوز العظيم كأنه يقول أن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري المنافقين كذا وكذا لأن ظهور المرء يوم خمود عدوه أبدع وأفخم» وردّه أبو حيان، وجملة يقول المنافقون في محل جر بإضافة الظرف إليها والمنافقات عطف على المنافقون وللذين متعلقان بيقول وجملة آمنوا صلة وجملة انظرونا مقول القول وهذا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به ونقتبس فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب أي نأخذ الإضاءة ومن نوركم متعلقان بنقتبس (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) قيل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر يعود على المؤمنين أو الملائكة الموكلين بهم وارجعوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة مقول القول ووراءكم ظرف متعلق بارجعوا أي ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوا نورا آخر إذ لا سبيل لكم إلى هذا النور، واختار أبو البقاء أن يكون وراءكم اسم فعل أمر فيه ضمير فاعل أي ارجعوا ارجعوا، ومنع أن يكون ظرفا لارجعوا قال: لقلة فائدته لأن الرجوع لا يكون إلا إلى وراء وليس هذا بسديد، والفاء عاطفة والتمسوا فعل أمر معطوف على ارجعوا ونورا مفعول به (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) الفاء عاطفة وضرب فعل ماض مبني للمجهول وبسور في محل رفع نائب فاعل وقيل الظرف هو نائب الفاعل وقيل الباء زائدة في نائب الفاعل أي ضرب بينهم سور والجملة معطوفة على قوله: قيل ارجعوا فإن المؤمنين أو الملائكة لما منعوهم من اللحاق بهم للاقتباس من نورهم، بقي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 462 أولئك المنافقون في ظلمة داكنة لا تختلج العين من جانبها بقبس، وسيأتي المزيد من هذا المعنى في باب البلاغة، وله خبر مقدّم وباب مبتدأ مؤخر والجملة صفة لسور وباطنه مبتدأ وفيه خبر مقدم والرحمة مبتدأ مؤخر وجملة فيه خبر لباطنه والجملة صفة ثانية لسور أو صفة لباب ولعله أولى لقربه والضمير يعود على الأقرب إلا بقرينة وهي غير متعينة هنا، وظاهره الواو عاطفة وظاهره مبتدأ ومن قبله خبر مقدم والعذاب مبتدأ مؤخر والجملة خبر ظاهره والجملة كلها معطوفة على سابقتها (يُنادُونَهُمْ: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) جملة ينادونهم مستأنفة وقيل حالية من الضمير في الظرف والهمزة حرف استفهام ولم حرف نفي وقلب وجزم ونكن فعل مضارع ناقص واسمها مستتر تقديره نحن ومعكم ظرف متعلق بمحذوف خبر وجملة الاستفهام مفسّرة لا محل لها أو منصوبة بقول مقدّر (قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ) قالوا فعل وفاعل وبلى حرف جواب ولكنكم لكن واسمها وجملة فتنتم أنفسكم خبر لكنكم، وتربصتم وارتبتم معطوفان على فتنتم، ومتعلق الأفعال الثلاثة محذوف أي فتنتم أنفسكم بالنفاق وتربصتم بالمؤمنين الدوائر وارتبتم في الدين (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) الواو عاطفة وفعل وفاعل وحتى حرف غاية وجر، وجاء أمر الله فعل وفاعل أي الموت وغرّكم عطف على وغرتكم وبالله متعلقان بغرّكم والغرور فاعل أي الشيطان (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الفاء الفصيحة أي إن شئتم أن تعرفوا مآلكم ومصائركم فاليوم، واليوم ظرف متعلق بيؤخذ ولا نافية ويؤخذ فعل مضارع مبني للمجهول ومنكم متعلقان بيؤخذ أيضا وفدية نائب فاعل وذكر الفعل لأن التأنيث مجازي وقرئ تؤخذ بالتاء، ولا من الذين كفروا عطف على منكم وجملة كفروا لا محل لها لأنها صلة الموصول (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) مأواكم النار خبر مقدّم ومبتدأ مؤخر أو بالعكس وهي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 463 مبتدأ ومولاكم خبر، ومولاكم يصح أن يكون بمعنى أولى بكم قال لبيد: فغدت كلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافة خلفها وأمامها وهو من معلقته يصف بقرة وحشية والفرج: موضع المخافة وما بين قوائم الدواب فما بين اليدين فرج وما بين الرجلين فرج، وقال ثعلب إن المولى في هذا البيت بمعنى الأولى بالشيء كقوله تعالى: «مأواكم النار هي مولاكم» أي أولى بكم، يقول: فغدت تلك البقرة وهي تحسب أن كلا فرجيها مولى المخافة أي موضعها وصاحبها أو تحسب أن كل فرج من فرجيها هو الأولى بالمخافة منه أي بأن يخاف منه، وقال الأصمعي: أراد بالمخافة الكلاب وبمولاها صاحبها أي غدت وهي لا تعرف أن الكلاب والكلاب خلفها أم أمامها فهي تظن كل جهة من الجهتين موضعا للكلاب، والضمير الذي هو اسم إن عائد إلى كلا وهو مفرد اللفظ وإن كان يتضمن معنى التثنية ويجوز حمل الكلام بعده على لفظه مرة، وعلى معناه أخرى والحمل على اللفظ أكثر وتمثيلهما كلا أخويك سبّني وكلا أخويك سبّاني وقال الشاعر: كلاهما حين جدّ الجري بينهما ... قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي حمل أقلعا على معنى كلا وحمل رابيا على لفظه وقال الله عزّ وجلّ: «كلتا الجنتين قد آتت أكلها» حملا على لفظ كلتا وخلفها وأمامها خبر مبتدأ محذوف تقديره هو خلفها وأمامها ويجوز أن يكون بدلا من كلا الفرجين وتقديره فغدت كلا الفرجين خلفها وأمامها تحسب أنه مولى المخافة وحقيقة مولاكم محراكم ومقمنكم يقال هو حري أن يفعل كذا وهو قمين أن يفعله أي جدير بذلك وحقيق به أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل هو مئنة للكرم أي مكان لقول القائل: أنه لكريم فيكون اسم مكان لا كغيره من أسماء الأمكنة فإنها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 464 مكان للحدث بقطع النظر عمّن صدر عنه وهذا مثل للمفضل على غيره الذي هو صفته فهو ملاحظ فيه معنى أولى لأنه مشتق منه كما أن المئنة مأخوذة من إن وليست مشتقة منها ويجوز أن يراد هو ناصركم أي لا ناصر لكم إلا النار وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والمصير فاعل والمخصوص بالذم محذوف أي النار. البلاغة: 1- في قوله «من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا» استعارة تصريحية تبعية، فقد شبّه الإنفاق في سبيل الله بإقراضه ثم حذف المشبّه وأبقى المشبه به، والجامع بينهما إعطاء شيء بعوض ومعنى كونه حسنا أي خالصا من شوائب الرياء. أما القرض الذي يدفع إلى الإنسان من المال بشرط ردّ بدله فهو سنّة مؤكدة وقد يجب للمضطر ويحرم على من يستعين به على معصية. 2- وفي قوله «يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم» استعارة تصريحية أصلية» فالنور استعارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه فحذف المشبّه وأبقى المشبّه به. 3- وفي قوله «خالدين فيها» بعد قوله «بشراكم اليوم» التفات من الخطاب إلى الغيبة، وقد تقدم القول في الالتفات كثيرا. 4- وفي قوله «فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب» فنّان رفيعان أولهما الاستعارة التمثيلية، شبّه بقاء المنافقين في حندس نفاقهم وظلامه بمن ضرب بينهم وبين النور الهادي سور يحجب كل نور، والفن الثاني المقابلة فقد طابق بين باطنه وظاهره وبين الرحمة والعذاب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 465 [سورة الحديد (57) : الآيات 16 الى 20] أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) اللغة: (يَأْنِ) مضارع أنى يأني من باب رمى فهو معتل حذفت منه الياء التي هي لامه للجازم كما يأتي في الإعراب ومعنى أنى إذا جاء إناه أي وقته، وأنشد ابن السكّيت: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 466 ألما يأن لي أن تجلّى عمايتي ... وأقصر عن ليلى بلى قد أنى لنا الإعراب: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) الهمزة للاستفهام ولم حرف نفي وقلب وجزم ويأن فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة وللذين متعلقان بمحذوف تقديره أعني، فهي للتبيين، وهذا ما اختاره أبو البقاء ولا داعي له، فيتعلق الجار والمجرور بيأن، وجملة آمنوا صلة الموصول لا محل لها وأن وما في حيزها فاعل يأن أي ألم يقرب وقت خشوع قلوبهم ويجيء وقته، ومنه قول الشاعر: ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا ... وأن يحدث الشيب المنير لنا عقلا ولذكر الله متعلقان بتخشع والواو حرف عطف وما اسم موصول معطوف على ذكر الله وجملة نزل صلة ومن الحق متعلقان بمحذوف حال (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) الواو حرف عطف ولا نافية ويكونوا عطف على تخشع ويجوز أن تكون لا ناهية ويكون ذلك انتقالا إلى نهي المؤمنين عن كونهم مشبهين لمن تقدمهم ويكونوا فعل مضارع ناقص والواو اسمها وكالذين خبرها وجملة أوتوا صلة والكتاب مفعول به ثان ومن قبل متعلقان بأوتوا، فطال عطف على أوتوا وعليهم متعلقان بطال والأمد فاعل (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) فقست قلوبهم عطف على فطال عليهم الأمد وكثير مبتدأ ومنهم صفة لكثير ولذلك ساغ الابتداء به وفاسقون خبر كثير (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) كلام مستأنف مسوق لخطاب المؤمنين المذكورين على طريق الالتفات، واعلموا فعل أمر مبني على حذف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 467 النون والواو فاعل وأن وما في حيزها سدّت مسدّ مفعولي اعلموا وأن واسمها وجملة يحيي الأرض خبر أن والظرف متعلق بيحيي وموتها مضاف إليه (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) قد حرف تحقيق وبينّا فعل وفاعل ولكم متعلقان ببيّنّا والآيات مفعول ولعلّ واسمها وجملة تعقلون خبرها (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) إن واسمها والمصدقات عطف على المصدقين وأقرضوا عطف على معنى الفعل في المصدقين لأن اللام بمعنى الذين واسم الفاعل بمعنى اصدّقوا كأنه قيل إن الذين اصدّقوا وأقرضوا، ولفظ الجلالة مفعول به وقرضا مفعول مطلق وحسنا نعت ويضاعف فعل مضارع مبني للمجهول ولهم قائم مقام الفاعل ويجوز أن يكون القائم مقام الفاعل مضمرا يعود على ضمير التصدّق ولا بدّ من حذف مضاف أي ثواب التصدّق، ولهم متعلقان بيضاعف والواو عاطفة ولهم خبر مقدّم وأجر مبتدأ مؤخر وكريم نعت (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) الواو استئنافية والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وبالله متعلقان بآمنوا ورسله عطف على الله وأولئك مبتدأ ثان، وهم يجوز أن يكون فصلا والصدّيقون خبر أولئك وأولئك وخبره خبر الأول ويجوز أن يكون هم مبتدأ ثالثا والصدّيقون خبرهم وهو مع خبره خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) يجوز أن تنسق الشهداء على ما قبله فالوقف عنده تام، أخبر عن الذين آمنوا أنهم صدّيقون شهداء، ويجوز أن تكون الواو استئنافية والشهداء مبتدأ ولك في خبره وجهان أحدهما أنه الظرف بعده والثاني أنه قوله لهم أجرهم ولهم خبر مقدّم وأجرهم مبتدأ مؤخر ونورهم عطف على أجرهم والظرف متعلق بمحذوف حال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة وكذبوا عطف على كفروا وبآياتنا متعلقان بكفروا وأولئك مبتدأ وأصحاب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 468 الجحيم خبره (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) كلام مستأنف مسوق لتحقير الدنيا وهوان أمرها، واعلموا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وأن ما في حيزها سدّت مسدّ مفعولي اعلموا وأنما هنا كافّة ومكفوفة والحياة مبتدأ والدنيا نعت لها ولعب خبر الحياة وما بعدها منسوق عليها وبينكم ظرف متعلق بمحذوف صفة لتفاخر وفي الأموال نعت لتكاثر (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) الكاف خبر لمبتدأ محذوف أو الجار والمجرور خبر لمبتدأ محذوف أو في موضع نصب حال من معنى ما تقدم أي ثبتت لها هذه الصفات مشبهة بغيث، وجملة أعجب نعت لغيث والكفّار مفعول مقدّم لأعجب وهم الزارع ونباته فاعل مؤخر ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ويهيج فعل مضارع مرفوع وفاعله هو يعود إلى النبات أي ييبس وهاج الثلاثي معناه يبس، فتراه عطف على يهيج وفاعل تراه أنت والهاء مفعول به مصفرّا حال لأن الرؤية بصرية، ثم يكون حطاما عطف على ما تقدم (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ) الواو عاطفة وفي الآخرة خبر مقدّم وعذاب مبتدأ مؤخر وشديد نعت لعذاب ومغفرة عطف على عذاب ومن الله صفة لمغفرة ورضوان عطف على مغفرة، وسيأتي المزيد من أسرار هذا التركيب في باب البلاغة (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) الواو عاطفة وما نافية والحياة مبتدأ والدنيا نعت للحياة وإلا أداة حصر والغرور مضاف إليه والإضافة بيانية والغرور بالضم ما اغترّ به الشخص من متاع الدنيا. البلاغة: 1- الاستعارة التمثيلية: في قوله «اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها» استعارة تمثيلية، شبّه تليين القلوب بالذكر والتلاوة بعد قساوتها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 469 ونبوّها عن استماع الحق والعمل بأوامره بإحياء الأرض الميتة بالغيث من حيث اشتمال كل واحد منهما على بلوغ الشيء إلى كماله المتوقع بعد خلوّه عنه أو يكون استعارة تمثيلية لإحياء الأموات بأنه شبّه إحياءها بإحياء الأرض الميتة، وأن من قدر على الثاني قادر على الأول فحقّه أن تخشع القلوب لذكره. 2- وفي قوله «كمثل غيث أعجب الكفّار نباته» الآية استعارة تمثيلية أيضا، فهو تمثيل للحياة الدنيا في سرعة انقضائها وقلّة جدواها بحال نبات أنبته الغيث فاستوى وأعجب به الحراث أو الكافرون- على خلاف بين المفسرين- لأن هؤلاء وأولئك أشدّ إعجابا بزينة الحياة الدنيا. 3- الطباق: وطابق في قوله «وفي الآخرة عذاب» بين العذاب، والمغفرة في قوله «ومغفرة من الله ورضوان» ولكنه طباق بين واحد وشيئين فهو من باب لن يغلب عسر يسرين وسيأتي تفصيله في سورة الانشراح. [سورة الحديد (57) : الآيات 21 الى 25] سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 470 الإعراب: (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان أسباب وذرائع المفاخرة الحقيقية التي يصحّ التفاخر بها، وسابقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وإلى مغفرة متعلقان بسابقوا ومن ربكم نعت لمغفرة (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) وجنة عطف على مغفرة وعرضها مبتدأ وكعرض السموات خبر والجملة نعت لجنة والأرض عطف على السموات وأعدّت فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل المستتر تقديره هي والجملة نعت ثان لجنة ويجوز أن تكون مستأنفة وللذين متعلقان بأعدّت وجملة آمنوا صلة للموصول لا محل لها وبالله متعلقان بآمنوا ورسله عطف على بالله (ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ذلك مبتدأ وفضل الله خبر وجملة يؤتيه في محل نصب حال ويؤتيه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به ومن اسم موصول في محل نصب مفعول ثان وجملة يشاء صلة من والله مبتدأ وذو الفضل العظيم خبر (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) ما نافية وأصاب فعل ماض، ومن مصيبة: من حرف جر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 471 زائد ومصيبة مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل أصاب وذكر الفعل لأن تأنيث المصيبة مجازي، وفي الأرض نعت لمصيبة أو متعلقان بأصاب أو بنفس مصيبة، ولا في أنفسكم عطف على في الأرض وإلا أداة حصر وفي كتاب حال من مصيبة لتخصصها بالوصف أو بالعمل إذا علق في الأرض بها أو بمحذوف تقديره إلا هي كائنة في كتاب فهو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف ومن قبل متعلقان بما تعلق به قوله في كتاب أي إلا ثابتة في كتاب من قبل أن نبرأها، ونبرأها فعل مضارع منصوب بأن والفاعل مستتر يعود على الله تعالى والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به وهو يعود على المصيبة وقيل على الأنفس وقيل على الأرض وأن وما في حيزها في محل جر بإضافة الظرف إليها والجملة في محل جر صفة لكتاب والضمير في نبرأها عائد إلى المصيبة أو إلى الأنفس أو إلى الأرض أو إلى جميع ذلك ومعنى نبرأها نخلقها (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) إن واسمها وعلى الله متعلقان بيسير ويسير خبر إن (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) اللام حرف جر وكي حرف مصدري بمنزلة أن وليست للتعليل لأنها لو كانت كذلك لم يدخل عليها حرف تعليل آخر ولا نافية وتأسوا فعل مضارع منصوب بكي وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل وأصله تأسيون تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا فصار تأساون فالتقى ساكنان الألف والواو التي هي الفاعل فحذفت الألف لالتقاء الساكنين. وفي المصباح: وأسي أسى من باب تعب حزن فهو أسي على فعيل مثل حزين. واللام الجارّة وما في حيزها متعلقان بمحذوف تقديره: وأعلمناكم أو أخبرناكم وقدّره بعضهم اختبرناكم، والواو حرف عطف ولا نافية وتفرحوا عطف على تحزنوا وبما متعلقان بتفرحوا وجملة آتاكم صلة ومتعلق فاتكم وآتاكم محذوف تقديره من النعم (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) والله مبتدأ وجملة لا يحبّ خبر وكل مختال مفعول به وفخور نعت (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 472 النَّاسَ بِالْبُخْلِ) الذين بدل من قوله كل مختال فخور كأنه قال: لا يحبّ الذين يبخلون ويجوز أن يكون محله رفعا على الابتداء ويكون خبره محذوفا والتقدير فإنهم يستحقون العذاب ويصحّ أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف أي هم الذين أو منصوبا على الذم بفعل محذوف تقديره أذمّ وهذه الأوجه كلها متساوية في الترجيح وجملة يبخلون صلة الموصول لا محل لها ويأمرون عطف على يبخلون والناس مفعول به وبالبخل متعلقان بيأمرون. واستبعد بعضهم البدلية والوصفية وجعله كاملا مستأنفا لا تعلق له بما قبله (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويتولّ فعل الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلّة والفاء رابطة لجواب الشرط لوقوعه جملة اسمية وإن واسمها وهو ضمير فصل وفي قراءة بسقوطه مما يرجح كونه فعلا لا مبتدأ والغني خبر إن والحميد خبر ثان والجملة في محل جزم جواب الشرط (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل ورسلنا مفعول به وبالبيّنات حال والجملة استئنافية (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) وأنزلنا عطف على أرسلنا ومعهم ظرف مكان متعلق بمحذوف حال أي وأنزلنا الكتاب حال كونه آئلا وصائرا لأن يكون معهم إذا وصل إليهم في الأرض، والكتاب مفعول به والميزان عطف على الكتاب واللام للتعليل ويقوم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وبالقسط أي بالعدل متعلقان بمحذوف حال أي قاسطين عادلين، ولك أن تعلقه بيقوم واللام ومجرورها متعلقان بأرسلنا وأنزلنا لأنها علّة الإرسال والإنزال (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) الواو عاطفة وأنزلنا فعل وفاعل والحديد مفعول به وفيه خبر مقدّم وبأس مبتدأ مؤخر والجملة حالية من الحديد وشديد صفة أي فيه قوة ومنعة، والكلام في ذلك طويل، ومنافع للناس عطف على بأس شديد، وقلّما تخلو صناعة من الحديد (وَلِيَعْلَمَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 473 اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) الواو عاطفة وليعلم معطوف على محذوف دلّت عليه جملة فيه بأس شديد فهو علّة للتعليل لا علّة للإرسال والإنزال وبذلك تعلم فساد قول بعض المعربين كالجلال وغيره أنه معطوف على ليقوم، والله فاعل ومن مفعول به وجملة ينصره صلة من ورسله عطف على الهاء أي وينصر رسله أيضا وبالغيب حال من هاء ينصره أي غائبا عنهم في الدنيا وإن واسمها وخبراها. الفوائد: العطف على الظاهر والضمير: يعطف على الظاهر والضمير المنفصل مرفوعا كان أو منصوبا، والضمير المتصل المنصوب بلا شرط كقام زيد وعمرو وأنا وأنت قائمان وإياك والأسد، والعطف على الضمير المتصل المنصوب نحو جمعناكم والأولين فالأولين عطف على الكاف، ولا يحسن العطف على الضمير المرفوع المتصل بارزا كان أو مستترا إلا بعد توكيده بضمير منفصل نحو «لقد كنتم أنتم وآباؤكم» ونحو «اسكن أنت وزوجك الجنة» وقد أشار ابن مالك في الخلاصة إلى ذلك بقوله: وإن على ضمير رفع متصل ... عطفت فافصل بالضمير المنفصل [سورة الحديد (57) : الآيات 26 الى 29] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 474 اللغة: (وَقَفَّيْنا) التقفية جعل الشيء في إثر الشيء على الاستمرار فيه ولهذا قيل لمقاطع الشعر قواف إذ كانت تتبع البيت على إثره مستمرة في غيره على منهاجه، وفي المختار: «قفا أثره اتبعه وبابه عدا وقفى على أثره بفلان أي اتبعه إياه ومنه قوله تعالى: ثم قفينا على آثارهم برسلنا ومنه الكلام المقفى» . (وَرَهْبانِيَّةً) الرهبانية: المبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس منسوبة إلى الرهبان وهو المبالغ في الخوف من رهب كالخشيان من خشي وقرئت بالضم كأنها نسبت إلى الرهبان جمع راهب كراكب وركبان، وعبارة القاموس: «والراهب واحد رهبان النصارى ومصدره الرهبة والرهبانية أو الرهبان بالضم قد يكون واحد وجمعه رهابين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 475 ورهابنة ورهبانون ولا رهبانية في الإسلام هي كالإخصاء واعتناق السلاسل ولبس المسوح وترك اللحم ونحوها» واكتفى صاحب المنجد بالقول: «الرّهبانية والرهبانية: طريقة الرهبان» وعرف الراهب بقوله: «من اعتزل الناس إلى دير طلبا للعبادة» وسيأتي المزيد من معناها في باب الإعراب. (كِفْلَيْنِ) نصيبين ضخمين والكفل الحظ ومنه الكفل الذي يتكفل به الراكب وهو كساء أو نحوه يحويه على الإبل إذا أراد أن يرقد فيحفظه من السقوط ففيه حظ من التحرّز من الوقوع. الإعراب: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) الواو حرف عطف واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وتكرير القسم لإظهار مزيد العناية بالأمر، وأرسلنا فعل وفاعل ونوحا مفعول به وإبراهيم عطف على نوحا، وجعلنا عطف على أرسلنا وفي ذريتهما في موضع المفعول الثاني والنبوّة مفعول جعلنا الأول والكتاب عطف على النبوّة وأراد بالكتاب الجنس أي الكتب الأربعة (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) الفاء تفريعية ومنهم خبر مقدّم ومهتد مبتدأ مؤخر وكثير مبتدأ ومنهم نعت لكثير وفاسقون خبر كثير (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وقفينا فعل وفاعل وعلى آثارهم متعلقان بقفينا والباء حرف جر زائد ورسلنا مجرور لفظا منصوب محلا (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) وقفينا عطف على قفينا الأولى وبعيسى الباء حرف جر زائد وعيسى مجرور لفظا مفعول به محلا وبن بدل ومريم مضاف إليه، وآتيناه الواو عاطفة وآتيناه فعل وفاعل ومفعول به أول والإنجيل مفعول به ثان (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 476 وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ) وجعلنا فعل وفاعل وفي قلوب في موضع المفعول الثاني والذين مضاف إليه وجملة اتبعوه من الفعل والفاعل والمفعول به صلة ورأفة مفعول به أول ورحمة مفعول به ثان، ورهبانية فيها وجهان: 1- أولهما أنها منسوقة على رأفة ورحمة وجملة ابتدعوها نعت لها وإنما خصّت بذكر الابتداع لأن الرحمة والرأفة في القلب أمر غريزي لا تكسّب للإنسان فيه بخلاف الرهبانية فإنها من أفعال البدن وللإنسان فيها تكسّب. 2- الثاني أنها منصوبة بفعل مقدّر يفسّره الظاهر فتكون المسألة من باب الاشتغال وإلى هذا الإعراب نحا الزمخشري وأبو علي الفارسي والمعتزلة، وذلك أنهم يقولون ما كان من فعل الإنسان فهو مخلوق له فالرأفة والرحمة لما كانتا من فعل الله نسب خلقهما أو تصييرهما إليه والرهبانية لما لم تكن من فعل الله تعالى بل من فعل العبد نسب خلقها إليه وإلى القارئ نص عبارة أبي حيان: «ورهبانية معطوف على ما قبله فهي داخلة في الجمل وجملة ابتدعوها جملة في موضع الصفة لرهبانية وخصّت الرهبانية بالابتداع لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيها بخلاف الرهبانية فإنها أفعال بدن مع شيء في القلب ففيها موضع للتكسّب، قال قتادة: الرحمة من الله والرهبانية هم ابتدعوها» والرهبانية رفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهنّ واتخاذ الصوامع، وجعل أبو علي الفارسي ورهبانية مقتطعة من العطف على ما قبلها من رأفة ورحمة فانتصب عنده ورهبانية على إضمار فعل يفسّره ما بعده فهو من باب الاشتغال أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها واتبعه الزمخشري فقال: «وانتصابها بفعل مضمر يفسّره الظاهر تقديره وابتدعوا رهبانية ابتدعوها يعني وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها» وهذا إعراب المعتزلة وكان أبو علي معتزليا وهم يقولون ما كان مخلوقا لله لا يكون مخلوقا للعبد، والرأفة والرحمة من خلق الله والرهبانية من ابتداع الإنسان فهي مخلوقة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 477 له، وهذا الإعراب الذي لهم ليس بجيد من جهة صناعة العربية لأن مثل هذا مما لا يجوز فيه الرفع بالابتداء ولا يجوز الابتداء هنا بقوله ورهبانية لأنها نكرة لا مسوغ لها من المسوغات للابتداء بالنكرة. وقال ابن المنير متعقبا الزمخشري: «في إعراب هذه الآية تورّط أبو علي الفارسي وتحيز إلى فئة الفتنة وطائفة البدعة فأعرب رهبانية على أنها منصوبة بفعل مضمر يفسّره الظاهر وعلّل امتناع العطف فقال: ألا ترى أن الرهبانية لا يستقيم حملها على جعلنا مع وصفها بقوله ابتدعوها لأن ما يجعله هو تعالى لا يبتدعونه هم، والزمخشري أيضا ورد مورده الذميم وأسلمه شيطانه الرجيم فلما أجاز ما منعه أبو علي من جعلها معطوفة أعذر لذلك بتحريف الجعل إلى معنى التوفيق فرارا مما فرّ منه أبو علي من اعتقاد أن ذلك مخلوق لله تعالى وجنوحا إلى الإشراك واعتقاد أن ما يفعلونه هم لا يضلّه الله تعالى ولا يخلقه وكفى بما في هذه الآية دليلا بعد الأدلة القطعية والبراهين العقلية على بطلان ما اعتقداه فإن ذكر محل الرحمة والرأفة مع العلم بأن محلها النصب فجعل قوله في قلوب الذين اتبعوه تأكيدا لخلقه هذه المعاني وتصويرا لمعنى الخلق بذكر محله، ولو كان المراد أمرا غير مخلوق في قلوبهم لله تعالى كما زعما لم يبق لقوله في قلوب الذين اتبعوه موقع ويأبى الله أن يشتمل كتابه الكريم على ما لا موقع له» . أما أبو البقاء فقد جمع بين الرأيين فقال: «قوله تعالى: ورهبانية هو منصوب بفعل دلّ عليه ابتدعوها لا بالعطف على الرحمة لأن ما جعله الله تعالى لا يبتدعونه، وقيل هو معطوف عليها وابتدعوها نعت له والمعنى فرض عليهم لزوم رهبانية ابتدعوها ولهذا قال: ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله» . أما ابن هشام فقد قال في المغني: «وقول الفارسي في ورهبانية ابتدعوها أنها من باب زيدا ضربته واعترضه ابن الشجري بأن المنصوب في هذا الباب شرطه أن يكون مختصّا ليصحّ رفعه بالابتداء والمشهور أنه عطف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 478 على ما قبله وابتدعوها صفة ولا بدّ من تقدير مضاف أي وجد رهبانية وإنما لم يحمل أبو علي الآية على ذلك لاعتزاله فقال: لأن ما يبتدعونه لا يخلقه الله عزّ وجلّ» . وخلاصة الخلاف أنه لو جعل ورهبانية عطفا على ما قبله لكان في الكلام تناقض وذلك أن مفاد الكلام يقتضي أن تكون الرهبانية مخلوقة لله والوصف بالابتداع يقتضي أنها مخلوقة لهم وما كان مخلوقا لهم لا يخلقه الله فهو تناقض فعدل الفارسي وتبعه الزمخشري عن العطف وجعله من باب الاشتغال. وإنما أوردنا هذه الأقوال لنريك ما للإعراب من تأثير في توجيه المعتقد ولهذا لم نر لأنفسنا مساغا للترجيح فتدبر. ونعود إلى تتمة إعراب الآية فنقول: وجملة ابتدعوها إما صفة لرهبانية وإما مفسّرة على القولين وما نافية وكتبناها فعل وفاعل ومفعول به والجملة صفة لرهبانية على كل حال ويجوز أن تكون مستأنفة وإلا أداة استثناء إذا اعتبرنا الاستثناء منقطعا أو أداة حصر إذا اعتبرناه متصلا، فعلى الأول تعرب ابتغاء استثناء منقطعا وتكون إلا بمعنى لكن والمعنى لم نفرضها عليهم ولكنهم ابتدعوها، وعلى الثاني تعرب ابتغاء مفعولا من أجله والمعنى ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا لابتغاء مرضاة الله ويكون كتب بمعنى قضى. واكتفى الزمخشري بالوجه الأول (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) الفاء عاطفة وما نافية ورعوها فعل وفاعل ومفعول به وحق رعايتها مفعول مطلق (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) الفاء حرف عطف وآتينا فعل وفاعل والذين مفعول به وجملة آمنوا لا محل لها لأنها صلة الموصول ومنهم حال وأجرهم مفعول به ثان وكثير مبتدأ ومنهم نعت وفاسقون خبر (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) يا حرف نداء وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم والهاء للتنبيه والذين بدل وجملة آمنوا صلة واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وآمنوا فعل أمر معطوف على اتقوا وبرسوله متعلقان بآمنوا ويؤتكم فعل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 479 مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر وعلامة جزمه حذف حرف العلّة والكاف مفعول به أول وكفلين مفعول به ثان ومن رحمته نعت لكفلين (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) عطف على يؤتكم ولكم متعلقان بيجعل أو في موضع المفعول الثاني ونورا مفعول يجعل وجملة تمشون به نعت لنورا (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) عطف على ما تقدم ولكم متعلقان بيغفر والله مبتدأ وغفور خبر أول ورحيم خبر ثان (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) اللام لام التعليل وأن حرف مصدري ونصب ولا زائدة ويعلم فعل مضارع منصوب بأن أي ليعلم أعمالكم بذلك فاللام متعلقة بمحذوف مقتبس من معنى الجملة الطلبية وأهل الكتاب فاعل يعلم وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولا نافية وجملة يقدرون خبر أن والمعنى أنهم لا يقدرون وعلى شيء متعلقان بيقدرون ومن فضل الله نعت لشيء وأن وما في حيزها سدّت مسدّ مفعولي يعلم (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) الواو عاطفة وأن وما في حيزها عطف على أن لا يقدرون داخل في حيّز المعلوم وأن واسمها وبيد الله خبر أن وجملة يؤتيه مستأنفة أو خبر ثان لأن والهاء مفعول به أول ومن مفعول به ثان وجملة يشاء صلة (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الله مبتدأ وذو الفضل خبره والعظيم نعت للفضل. الفوائد: قد يعترض الكلام نفي فيلزم إظهار «أن» بعد لام التعليل التي لحقتها «لا» ولو أضمرت «أن» هنا لم يجز لأن إضمارها يؤدي إلى مباشرة حرف الجر حرف النفي وذلك غير جائز. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 480 [المجلد العاشر] (58) سورة المجادلة مدينة وآياتها ثنتان وعشرون [سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 اللغة: (يَظْهَرُونَ) مضارع ظاهر وقرىء يظهرون بتشديد الظاء والهاء، ويتظاهرون مضارع تظاهر ويتظهرون مضارع تظهر والمراد به كله الظهار وهو قول الرجل لزوجته أنت عليّ كظهر أمي يريد في التحريم كأنه إشارة إلى الركوب إذ عرفه في ظهور الحيوان والمعنى أنه لا يعلوها كما لا يعلو أمه، وفي القاموس: «والظهار قوله لامرأته أنت عليّ كظهر أمي وقد ظاهر منها وتظهّر وظهّر» وسيأتي المزيد من بحث هذه المادة في باب الفوائد. الإعراب: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ) قد حرف تحقيق وسمع الله فعل ماض وفاعل وأدغم الكسائي الدال في السين، وقول مفعول به والتي اسم موصول في محل جر بالإضافة وجملة تجادلك لا محل لها لأنها صلة الموصول وتجادلك فعل مضارع والفاعل مستتر يعود إلى المرأة المذكورة، وسيأتي حديثها في باب الفوائد، والكاف مفعول به- ولهذا سمّيت السورة المجادلة بكسر الدال على أنها اسم فاعل وقيل بفتحها وكسرها كما في حاشية الشهاب على البيضاوي والكسر أرجح على كل حال لأنه أنسب بالسياق- وفي زوجها متعلقان بتجادلك ولا بدّ من حذف مضاف أي في شأن زوجها وتشتكي عطف على تجادلك ويجوز أن تكون الواو حالية والجملة في موضع نصب على الحال وإلى الله متعلقان بتشتكي (وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) الواو حالية والله مبتدأ وجملة يسمع خبر والفاعل مستتر يعود على الله وتحاوركما مفعول به والحوار في الكلام معروف وفي المصباح: «وحاورته راجعته الكلام وتحاورا وأحار الرجل الجواب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 بالألف ردّه وما أحاره: ما ردّه» وإن واسمها وخبراها والجملة تعليلة لما قبلها (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان أحكام المظاهر، والذين مبتدأ وجملة يظاهرون صلة لا محل لها ومنكم حال أي حال كونهم منكم أيّها العرب ولا يخفى ما في هذه الحال من التهجين لعاداتهم والتوبيخ لهم، ومن نسائهم متعلقان بيظاهرون أي يحرمون نساءهم على أنفسهم كتحريم الله عليهم ظهور أمهاتهم وما نافية حجازية وهنّ اسمها وأمهاتهم خبرها ونصب بالكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم والجملة خبر المبتدأ الذي هو الموصول (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) إن نافية وأمهاتهم مبتدأ وإلا أداة حصر واللائي اسم موصول في محل رفع خبر وجملة ولدنهم صلة وولدنهم فعل وفاعل ومفعول به (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) الواو عاطفة وانهم إن واسمها واللام المزحلقة ويقولون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة خبر أنهم ومنكرا صفة لمصدر محذوف أي قولا منكرا وزورا عطف على منكرا (وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) الواو عاطفة وإن واسمها واللام المزحلقة وعفوّ خبر أول وغفور خبر ثان (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) كلام مستأنف مسوق لتفصيل حكم الظهار بعد بيان كونه منكرا ولك أن تعطف الكلام على ما تقدم لينتظم الحكم انتظاما أوليا، والذين مبتدأ وجملة يظاهرون صلة ومن نسائهم متعلقان بيظاهرون وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ويعودون عطف على يظاهرون ولما اللام حرف جر وما مصدرية والمصدر المؤول في محل جر باللام والجار والمجرور متعلقان بيعودون أي يعودون لقولهم ولك أن تجعل ما موصولة والجملة صلتها والعائد محذوف أي لما قالوه، والفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط وتحرير رقبة مبتدأ خبره محذوف أي عليه تحرير رقبة والجملة خبر الذين ومن قبل متعلق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 بمحذوف حال وأن وما بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالإضافة (ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ذلكم مبتدأ والإشارة إلى الحكم المذكور وجملة توعظون خبر فإن الغرامات زواجر عن اقتراف الجنايات والله مبتدأ وبما متعلق بخبير وجملة تعملون صلة وخبير خبر الله (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) الفاء عاطفة ومن اسم موصول مبتدأ ولم حرف نفي وقلب وجزم ويجد فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر تقديره هو، فصيام الفاء رابطة وصيام مبتدأ وشهرين مضاف إليه ومتتابعين صفة والخبر محذوف أي عليه والجملة خبر من، ومن قبل أن يتماسّا تقدم إعرابها (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) تقدم إعرابها ومسكينا تمييز (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) ذلك مبتدأ والإشارة إلى ما سلف من البيان والتعليم، ولتؤمنوا لام التعليل ومدخولها خبر ذلك ويجوز أن تعرب اسم الإشارة نصبا بمضمر أي فعلنا ذلك لتؤمنوا وبالله متعلقان بتؤمنوا ورسوله عطف على الله (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) الواو عاطفة وتلك مبتدأ وحدود الله خبر والواو عاطفة وللكافرين خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم نعت لعذاب. البلاغة: في آية الظهار فن عجيب من فنون البلاغة وهو السلب والإيجاب وقد تقدمت الإشارة إليه وأنه بناء الكلام على نفي الشيء من جهته وإيجابه من جهة أخرى أو أمر بشيء من جهة ونهي عنه من جهة ثانية وفي قوله «الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هنّ أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم» نفي لصيرورة المرأة أما بالظهار وإثبات الأمومة للتي ولدت الولد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 الفوائد: قال في الكشاف: «قالت عائشة رضي الله عنها: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد كلّمت المجادلة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في جانب البيت وأنا عنده لا أسمع وقد سمع لها، وعن عمر أنه كان إذا دخلت عليه أكرمها وقال: قد سمع الله لها» أما المرأة فهي خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت ابن عمّها رآها تصلّي وكانت قسيمة حسنة الجسم فلما سلّمت طلب وقاعها فأبت فغضب وكان به لمم فقال: أنت عليّ كظهر أمي فأتت رسول الله وشكت إليه أمرها، وروي أنها قالت له إن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليّ جاعوا فقال: ما عندي في أمرك شيء، وروي أيضا أنه قال لها: ما أراك إلا قد حرّمت عليه ولم أؤمر في شأنك بشيء فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووجدي فنزلت هذه الآيات. وأحكام الظهار ومذاهب الأئمة فيه مبسوطة في كتب الفقه فارجع إليها إن شئت. [سورة المجادلة (58) : الآيات 5 الى 7] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 اللغة: (يُحَادُّونَ) يعادون ويشاقون، وعبارة الزجّاج: المحادة أن تكون في حدّ يخالف حدّ صاحبك، فتكون المحادة كناية عن المعاداة لكونها لازمة للمعاداة. وفي معاجم اللغة «حاده: عاداه وغاضبه» . (كُبِتُوا) أخذوا وأهلكوا وقيل ذلّوا وفي المصباح: «كبت الله العدو كبتا من باب ضرب أهانه وأذلّه وكبته لوجهه صرعه» . الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كلام مستأنف مسوق لزفّ البشرى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين بكبت أعدائهم وإذلالهم وفصم عراهم وشقّ عصاهم. وإن واسمها وجملة يحادون صلة والله مفعول به ورسوله عطف على الله وجملة كبتوا خبر إن وكما نعت لمصدر محذوف وجملة كبت لا محل لها لأنها صلة الموصول الحرفي والذين نائب فاعل ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صلة الذين (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) الواو حالية وقد حرف تحقيق وأنزلنا فعل وفاعل وآيات مفعول به وبيّنات صفة لآيات وللكافرين خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر ومهين نعت (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) يجوز أن يتعلق الظرف بمهين وقيل عامله عذاب وقيل عامله الاستقرار الذي تعلق به الخبر وهو للكافرين وقيل منصوب بإضمار اذكر، وجملة يبعثهم في محل جر بإضافة الظرف إليها والله فاعل يبعثهم وجميعا حال، فينبئهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 عطف على يبعثهم وبما عملوا في موضع المفعول الثاني وجملة عملوا صلة الموصول وجملة أحصاه الله استئنافية والواو حالية وجملة نسوه في محل نصب على الحال من مفعول أحصى بإضمار قد أو بدونها (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) الله مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بشهيد وشهيد خبر الله (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة وأن واسمها وجملة يعلم خبرها وقد سدّت مسدّ مفعولي تر وما مفعول يعلم وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة الموصول وما في الأرض عطف على ما في السموات (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) كلام مستأنف مسوق لتقرير سعة علمه تعالى وتبيان كيفيته، وما نافية ويكون فعل مضارع تام ومن حرف جر زائد ونجوى مجرور بمن لفظا فاعل يكون محلا وثلاثة مضاف لنجوى وإلا أداة حصر وهو مبتدأ ورابعهم خبر والجملة في محل نصب على الحال فالاستثناء مفرغ من أعمّ الأحوال، ولا خمسة إلا هو ساسدهم عطف على ما تقدم (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) الواو عاطفة ولا نافية وأدنى عطف على لفظ نجوى وقرىء بالرفع عطفا على محلها وقيل على الابتداء، ومن ذلك متعلق بأدنى، ولا أكثر عطف على ولا أدنى وإلا أداة حصر وهو مبتدأ ومعهم ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر والجملة حالية على قراءة النصب أو العطف على المحل وخبر للمبتدأ على قراءة الرفع وأينما ظرف مكان متعلق بالاستقرار الذي تعلق به معهم أي مصاحب لهم بعلمه في أي مكان استقروا فيه وكانوا فعل وفاعل فهي كان التامة والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها لأن «ما» زيدت فيه، ويجوز أن تكون ما مصدرية فتكون الجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول الحرفي (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ثم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 حرف عطف للترتيب وينبئهم فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله وبما في موضع المفعول الثاني وجملة عملوا لا محل لها ويوم القيامة متعلق بينبئهم وإن واسمها وخبرها. البلاغة: في قوله تعالى «ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم» فن الانفصال وقد تقدمت الإشارة إليه ونعيده هنا لإتمام الفائدة فنقول: هو فنّ فحواه أن يقول المتكلم كلاما يتوجه عليه فيه دخل فلا يقتصر عليه حتى يأتي بما ينفصل به عن ذلك إما ظاهرا أو باطنا يظهره التأويل، فإن هذه الآية الكريمة يتوجه على ظاهرها عدد من الأسئلة منها: 1- لم ألغي فيها الابتداء بالإثنين وهي أول رتبة بين المتناجيين؟ 2- لم انتقل من الثلاثة إلى الخمسة وعدل عن الترتيب في الانتقال من الثلاثة إلى الأربعة؟ 3- لم لم يتجاوز الخمسة كما تجاوز الثلاثة؟ 4- لم لم يقل من نجوى ثلاثة ويقف عند ذلك ويستغني بقوله بعدها «ولا أدنى من ذلك ولا أكثر» فيتناول الأدنى من الاثنين والأكثر من الأربعة إلى ما لا نهاية له من الأعداد؟ 5- لم عدل عن الأوجز إلى الأطول مع توفية الأوجز بالمعنى المراد؟ وقبل أن نبيّن الانفصال عن ذلك لا بدّ من ذكر لمحة تاريخية ينجلي بها الرين وقد اختلف في سبب نزولها فقيل: اجتمع المشركون جماعات على هذين العددين ثلاثة ثلاثة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 12 وخمسة خمسة يتناجون في رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهم يظنّون أن ذلك يخفى عنه فنزلت ليعلم الله نبيّه بحالهم. وقيل: إنه اجتمع ثلاثة نفر من قريش وهم ربيعة وحبيب ابنا عمرو وصفوان بن أمية يوما كانوا يتحدثون فقال أحدهم: أترى الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر: يعلم بعضا ولا يعلم بعضا وقال الثالث: إن كان يعلم بعضا فهو يعلم الكل فنزلت، وقد صحّح أهل التفسير هذه الرواية الثانية. وقال الزمخشري في الجواب عن بعض ما تقدم من الاعتراض على ظاهر الآية بعد نقل سبب النزول الذي ذكرناه أن البارئ عزّ وجلّ قصد وهو أعلم أن يذكر ما جرت به العادة من أعداد أهل النجوى وأهل الشورى والمنتدبون لذلك ليسوا كل الناس وإنما هم طائفة مجتباة من أهل النهي والأحلام ورهط من أولي التجارب والرأي وأول عددهم الاثنان فصاعدا إلى الستة على ما تقتضيه الحال ويحكم به الاستصواب، ألا ترى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ترك الشورى في ستة ولم يتجاوز بها إلى سابع، هذا نص كلام الزمخشري حكيته بلفظه، لم أغادر منه شيئا، ولم تتبدل فيه لفظة بلفظة، وأما ما حكاه من الرواية الأولى فلا إشكال فيه ولا دخل عليه وأما الرواية الثانية التي وقع التصحيح فيها وهي مرويّة عن ابن عباس رضي الله عنه فيتوجه عليها الإشكال. وأما قول الزمخشري: إن الكلام جاء على عادة العرب في أهل النجوى وأهل الشورى لأن عدد هاتين الطائفتين لا يتجاوز الستة، وأما استشهاده بقضية عمر وجعله الشورى في ستة وتأكيده ذلك بقوله: ألا تراه لم يتجاوز بها معنى الشورى إلى سابع فما أدري من أين له ذلك؟ وكيف تصحّ دعواه في أن عادة العرب إنما يكون أهل النجوى وأهل الشورى على هذين العددين دون سائر الأعداد، وقد جاء القرآن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 13 العزيز بخلاف ذلك قال الله تعالى في الإخبار عن أولاد يعقوب: «فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا» وكانوا عشرة فسمى سبحانه محاورتهم تناجيا، وقال عزّ وجلّ حكاية عن ملأ فرعون وأسروا النجوى «إن هذان لساحران» وكانوا لا يحصون كثرة وقال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة» ومناجوا الرسول يحتمل أن يكونوا هم الاثنين فصاعدا إلى منتهى عدد الأمة، فإن الخطاب لكافة المؤمنين والمناجون لم يحصر سبحانه عددهم في كمية معينة، وقال سبحانه: «فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول» غير حاصر ذلك في عدد مضبوط وقال سبحانه: «وأمرهم شورى بينهم» لغير عدد معين، وبعض هذه الآيات وإن نزلت في واقعة مخصوصة فقد أنزل الله معناها بلفظ العموم لتتناول كل الأمة فالحكم فيها عام، وأما قضية عمر رضي الله عنه فمن المعلوم أنه لم يجعل الأمر شورى في تلك الستة مراعاة لهذا العدد وإنما راعى من يصلح للأمر فإن الستة الذين جعل الأمر فيهم هم أعيان الصحابة وأفضل من بقي بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبعد الشيخين وأنه لا يجوز أن يخرج هذا الأمر عنهم ولا يتجاوزهم إلى غيرهم ولو كان الصلحاء لهذا الأمر أكثر من هذا العدد أو أقل لجعل الأمر فيهم ولم يقل نقصوا عن هذه العدّة أم زادوا عليها والذي يصلح أن يكون جوابا ينفصل به عن الإشكال المقرر في أول الكلام أن يقال: الذين صحّ نزول الآية فيهم هم الثلاثة الذين سمّاهم ابن عباس رضي الله عنهما ولما كان هذا العدد أعني الثلاثة هو المقصود بالآية ذكر مقدما فيها على العدد الأخير ليعلم أئمتهم به فإن المتكلم إذا كانت له عناية بشيء قدّم ذكره في كلامه على غيره في مثل هذه المعاني، ثم ذكر الأدنى والأكثر ليرفع الاحتمال الذي قدّمناه وإذا كانت هذه هي الواقعة التي نزلت الآية بسببها سقط السؤال الأول الذي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 14 قيل فيه: لم لم يذكر أول رتب المتناجين واستغنى بذكر الأدنى بعد ذكر الثلاثة ليتناول الاثنين أو الأكثر لتناول ما فوق الثلاثة. والجواب عن قوله ما الفائدة في ذكر الخمسة بعد ذكر الثلاثة وقوله تعالى: «ولا أكثر» يغني عنها وعن غيرها إلى ما لا يتناهى أنه سبحانه أراد أن يعرّفنا كيفية التنقل في هذه الأعداد صاعدا من الثلاثة إلى الخمسة ليعلم أن الإشارة إلى جميع رتب الأعداد وأن كيفية التنقل في البقية ككيفية في الخمسة فإن قيل: فلم كان هذا التعريف بالأربعة التي ألفيت وكان ذكرها أولى لأن الانتقال من الثلاثة إلى الأربعة أصحّ من الانتقال من الثلاثة إلى الخمسة فإن مجيء العدد على ترتيب أصح من مجيئه على غير ترتيب وكان يحصل الغرض من تعريف كيفية الانتقال بذلك؟ قلت: منع من ذلك أمران: أحدهما الخشية من مجيء نظم الكلام معيبا لثقله على النطق والسمع لبشاعة تكرار لفظ التربيع بغير حاجز تباعد أحد اللفظين عن الآخر فإنه لو قيل «إلا هو رابعهم» ولا أربعة، لثقل الكلام لمجاورة لفظتين فيهما أربعة أحرف من حروف الحلق وهما العينان والهاءان وقد عاب الآمدي على أبي تمام مثل هذا في قوله: كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي وإذا ما لمته لمته وحدي وسمّاه معاظلة وهي أفظع العيوب التي نفاها عمر بن الخطاب عن شعر زهير حين وضعه وإن كان غير الآمدي قد عدّ المعاظلة غير هذا، والأمر الثاني الذي منع من ذكر الأربعة فرار ناظم الكلام البليغ من تكرار المعاني والألفاظ بغير فائدة ولو انتقل إلى الأربعة لتكرار الحكم فإن الحكم عليها قد جرى في الخمسة، فإن الخمسة أربعة وزيادة فالأربعة داخلة فيها، فما جرى عليها من الأحكام جرى على الأربعة، وللفرار أيضا من ذكر الشفع والعدول عنه إلى ذكر الوتر من المزايا التي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 15 يستوجب بها الذكر دون الشفع ما ليس لغيره وفي هذا الجواب الذي جاء عن السؤال الثاني جواب عن السؤال الثالث، وأما الجواب عن السؤال الرابع وهو قوله: لم لم ينتقل من الخمسة إلى السبعة كما انتقل من الثلاثة إلى الخمسة وينتهي إلى ذلك الحد ولا يهمل هذا العدد المختص بخصائص أودعها الله تعالى فيه من أجلها جاء وفقه عدد السموات والأرض وأيام الدهر وأقاليم الأرض وأشياء لا يتّسع المكان لذكرها فنقول: كان المراد تعريف كيفية الانتقال وقد حصل ذلك بذكر الخمسة فإعادته في عدد آخر إطالة لا فائدة فيها قد استغني عنها بما قبلها، ولو روعي للسبعة ما لها من الخصائص لوجب أن يراعى للتسعة ما لها من الخصائص أيضا وليس المراد من الآية التنبيه على خصائص الأعداد إنما المراد ما ذكرناه وإلا متى اعتبرت خصائص الأعداد وجدت الخمسة مختصّة بما لم يختصّ بها غيرها من العدد، فمن خصائصها التي انفردت بها أنها أول عدد جمع ثلاثة أوتار الواحد والثلاثة والخمسة ومنها أن عدد أوتارها وتر وهذا ليس لغيرها من جميع أعداد مرتبة الآحاد ولا ما بني على أصلها وتفرّع منه فإن الثلاثة إنما جمعت وترين وعدد أوتارها شفع كذلك، والسبعة فإن جمعت أربعة أوتار فعدد أوتارها شفع وهي مركبة بالنسبة إلى الخمسة لأنها خمسة وزيادة والخمسة بسيطة بالنسبة إليها والبسيط أصل المركب والتسعة وإن جمعت أكثر من السبعة وجاء عدد أوتارها وترا فهي مركبة بالنسبة إلى السبعة التي هي مركبة بالنسبة إلى الخمسة فالخمسة بالنسبة إليها أصل الأصل ولما كانت بهذه المثابة كان ذكرها أولى من ذكر السبعة ووجب الإتيان به لينبّه على ما لها من الشرف والفضل دون غيرها ويجب الوقوف عندها ويقتصر في تعريف الانتقال عليها، وبذلك يتحقق أن مجيء نظم الآية على ما جاء عليه أبلغ مما توهمه مورد السؤال ومفرد الإشكال. وقال الكرخي: «وخصّ الثلاثة والخمسة بالذكر لأن قوما من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 16 المنافقين تخلّفوا للتناجي وكانوا بعدّة العدد المذكور مغايظة للمؤمنين فنزلت الآية بصفة حالهم وتعريفا بهم، أو لأن العدد المفرد أشرف من الزوج لأن الله تعالى وتر يحب الوتر فخصّ العددان المذكوران بالذكر تنبيها على أنه لا بدّ من رعاية الأمور الإلهية في جميع الأمور ثم بعد ذكرهما زيد عليهما ما يعمّ غيرهما من المتناجين» . وللخازن عبارة لطيفة نوردها فيما يلي استيفاء للبحث قال: «فإن قلت: لم خصّ الثلاثة والخمسة؟ قلت: لأن أقل ما يكفي في المشاورة ثلاثة حتى يتم الغرض فيكون الاثنان كالمتنازعين في النفي والإثبات والثالث كالمتوسط الحاكم بينهما فحينئذ تحمد المشاورة ويتم الغرض وكذا كل جمع يجتمع للمشاورة لا بدّ من واحد يكون حكما بينهم مقبول القول، وقيل إن العدد الفرد أشرف من الزوج فلهذا خصّ الله تعالى الثلاثة والخمسة» . [سورة المجادلة (58) : الآيات 8 الى 10] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 17 الإعراب: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) كلام مستأنف مسوق لبيان نمط آخر من تناجيهم وتغامزهم فيما بينهم وهم اليهود والمنافقون كلما رأوا المؤمنين يريدون بذلك إثارتهم وإذكاء حفيظتهم وطالما نهاهم النبي صلّى الله عليه وسلم عن ذلك بيد أنهم لا يكادون ينتهون حتى يعودوا لمثل فعلهم. والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت وإلى الذين متعلقان بتر وجملة نهوا لا محل لأنها صلة الموصول ونهوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل وعن النجوى متعلقان بنهوا، ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ويعودون فعل مضارع مرفوع، وعدل عن صيغة الماضي المناسبة للعطف لسر لطيف وهو استحضار صورة العود وتجدده وتجسيده، ولما متعلقان بيعودون وجملة نهوا صلة وعنه متعلقان بنهوا (وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) الواو عاطفة ويتناجون فعل مضارع معطوف على يعودون، وفي صيغة المضارع ما تقدم آنفا من تجسيد واستحضار وتجدد، وبالإثم متعلقان بيتناجون والعدوان عطف على الإثم ومعصية الرسول عطف أيضا (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) الواو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة جاءوك في محل جر بإضافة الظرف إليها والواو فاعل والكاف مفعول به وجملة حيّوك لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم وبما متعلقان بحيّوك أي خاطبوك ولم حرف نفي وقلب وجزم ويحيك فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والكاف مفعول به الجزء: 10 ¦ الصفحة: 18 والله فاعل أي بما لم يشرّعه الله ويأذن به، وفي المصباح: «وحيّاه تحية أصله الدعاء بالحياة ومنه التحيات لله أي البقاء وقيل الملك ثم كثر حتى استعمل في مطلق الدعاء ثم استعمله الشرع في دعاء مخصوص وهو سلام عليك» (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ) الواو عاطفة أو حالية ويقولون فعل مضارع والواو فاعل وفي أنفسهم حال ولولا حرف تحضيض أي هلّا ويعذبنا الله فعل مضارع ومفعول به مقدّم وفاعل مؤخر وبما متعلقان بيعذبنا وما مصدرية أي بقولنا ويجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف أي بالذي نقوله والجملة مقول القول (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) حسبهم مبتدأ وجهنم خبر وجملة يصلونها حال والفاء الفصيحة وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والمصير فاعل والمخصوص بالذم محذوف أي هي (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط وجملة تناجيتم في محل جر بإضافة الظرف إليها والفاء رابطة لجواب إذا ولا ناهية وتتناجوا فعل مضارع مجزوم بلا والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وبالإثم متعلقان بتتناجوا والعدوان عطف على قوله بالإثم ومعصية الرسول عطف أيضا (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) الواو عاطفة وتناجوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وبالبرّ متعلقان بتناجوا والتقوى عطف على البرّ، واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به والذي صفة لله وإليه متعلقان بتحشرون وتحشرون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل والجملة لا محل لأنها صلة الموصول (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) إنما كافّة ومكفوفة والنجوى مبتدأ ومن الشيطان خبر واللام لام التعليل ويحزن فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام واللام ومجرورها خبر ثان، ويقال حزنه وأحزنه بمعنى، والذين مفعول به وجملة آمنوا لا محل لها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 19 لأنها صلة وقيل إن الموصول فاعل يحزن (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) الواو حالية وليس فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هو والباء حرف جر زائد وضارّهم مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس وشيئا مفعول مطلق أي شيئا من الضرر وإلا أداة حصر وبإذن الله متعلقان بضارّهم (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) الواو عاطفة وعلى الله متعلقان بيتوكل. [سورة المجادلة (58) : الآيات 11 الى 13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) اللغة: (تَفَسَّحُوا) توسعوا ولا تتضايقوا وفي الأساس: «افسحوا لأخيكم في المجلس وتفسحوا له وأما لك في هذا المكان منفسح» . (انْشُزُوا) انهضوا للتوسعة على المقبلين وفيه الأساس: «علوت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 20 نشزا من الأرض ونشزا وأنشازا، ونشز الشيء ارتفع ونشز عن مكانه ارتفع ونهض وإذا قيل انشزوا فانشزوا وأنشزه رفعه من مكانه» وللنون مع الشين فاء وعينا خاصة عجيبة وهي الدلالة على السرعة والارتفاع يقال: أنشأ الله الخلق فنشئوا وأنشأ قصيدة وشعرا وعمارة وأنشأ يفعل كذا ومن أين نشأت وأنشأت أي نهضت، ونشب العظم في الحلق والصيد في الحبالة ومخالب الجارح في الأخيذة وتنشب وأنشب فيه مخالبه ورماه بنشابة وتراموا بالنّشّاب والنشاشيب وفي جميع ذلك يبدو معنى السرعة واضحا ونشب الشر والحرب بينهم نشوبا ولم ينشب أن قال بمعنى ما لبث، ونشج الباكي نشيجا وهو الغصص بالبكاء وارتفاعه وتردده في الصدر، وأنشدني شعرا إنشادا حسنا لأن المنشد يرفع بالمنشد صوته، ونشر الثواب والكتاب ونشّر الثياب والكتب وصحف منشّرة وملاء منشّر ونشر الله الموتى نشرا وله نشر طيب وهو ما انتشر وارتفع من رائحته قال المرقش يصف نساء: النشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف الأكفّ عنم ونشّ اللحم في المقلاة نشيئا والخمر تنش إذا أخذت تغلي، ورجل نشيط طيب النفس للعمل مسرع فيه، ونشع الصبي الدواء وأنشعه أوجره فانتشعه والإسراع ملحوظ فيه وإنه لمنشوع بأكل اللحم إذا كان مشغوفا به، ونشف الماء بنفسه أسرع في النضوب، ونشق الظبي في الحبالة نشب فيها وقد مرّ معنى ذلك واستنشقت الريح وتنشقتها قال المتلمس: فلو أن محموما بخيبر مدنفا ... تنشّق رياها لأقلع صالبه ونشل اللحم من القدر بالمنشل والمنشال وهو حديدة في رأسها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 21 عقّافة، ونشّم اللحم أسرع إليه الفساد وأروح قال علقمة: وقد أصاحب فتيانا طعامهم ... خضر المزاد ولحم فيه تنشيم أي يطعمون الماء المطحلب واللحم المروح، غلّب فقال طعامهم، ونشّموا في الشر ودقوا بينهم عطر منشم قال زهير: تداركتما عبسا وذبيان بعد ما ... تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشم ورجل نشوان أسرعت النشوة إليه وامرأة نشوى وقوم نشاوى ونشيت منه رائحة طيبة واستنشيت وهذا من عجائب ما تتميز به اللغات. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط وجملة قيل في محل جر بإضافة الظرف إليها ولكم متعلقان بقيل وتفسحوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وجملة تفسحوا مقول القول وفي المجالس متعلقان بتفسحوا والفاء رابطة لجواب الشرط غير الجازم والجملة لا محل لها وافسحوا فعل أمر والواو فاعل ويفسح فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر الواقع جوابا للشرط والله فاعل ولكم متعلقان بيفسح والمراد بالمجالس مجالس رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقرىء بالإفراد أي في المجلس وقيل هو المجلس من مجالس القتال ومراكز الغزاة وقيل هو مطلق في كل ما يبتغيه الناس للمنفعة وفي كل مجلس أو ناد وهو الأولى والأقرب لأسلوب القرآن الكريم في تعليم الأدب الرفيع (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) الواو عاطفة، وإذا قيل انشزوا فانشزوا: تقدم إعراب نظيرها، ويرفع فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 22 الطلب والله فاعل والذين مفعول به وجملة آمنوا صلة والذين معطوف على الذين الأولى أو هو منصوب بفعل مضمر تقديره ويخصّ الذين أوتوا العلم وجملة أوتوا صلة وأوتوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل والعلم مفعول به ثان ومنكم حال ودرجات ظرف أو منصوب بنزع الخافض (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وبما تعملون متعلقان بخبير وخبير خبر إن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) إذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ناجيتم في محل جر بإضافة الظرف إليها وناجيتم فعل وفاعل والرسول مفعول به والفاء رابطة وقدّموا فعل أمر والواو فاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وبين ظرف متعلق بقدّموا ويدي مضاف إليه وعلامة جرّه الياء ونجواكم مضاف ليدي وصدقة مفعول به لقدموا وسيأتي مزيد بحث في باب البلاغة حول هذه الآية (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) ذلك مبتدأ والإشارة إلى تقديم الصدقة على المناجاة وخير خبر ولكم متعلقان بخير وأطهر عطف على خير (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الفاء عاطفة وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتجدوا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون وهو فعل الشرط والفاء رابطة لجواب محذوف أي فلا تثريب عليكم وجملة إن الله غفور رحيم تعليل لرفع الحرج والتثريب (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) الهمزة للاستفهام التقريري وأشفقتم فعل وفاعل أي أخفتم وأن وما في حيّزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي من أن تقدموا والجار والمجرور متعلقان بأشفقتم وقيل مفعول من أجله ومفعول تقدموا هو صدقات ومفعول أشفقتم محذوف (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) الفاء استئنافية وإذ فيها أقوال: 1- أنها ظرف لما مضى من الزمن والمعنى أنكم تركتم ذلك فيما مضى فتداركوه بإقامة الصلاة وإيتاء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 23 الزكاء. 2- أنها ظرف بمعنى إذا كقوله تعالى: «إذ الأغلال في أعناقهم» وقد تقدم القول فيها مبسوطا فارجع إليها إن شئت. 3- أنها بمعنى إن الشرطية. ولم حرف نفي وقلب وجزم وتفعلوا فعل مضارع مجزوم بلم، وتاب الواو حالية أو استئنافية أو اعتراضية والجملة معترضة بين الشرط وجوابه وتاب الله فعل وفاعل وعليكم متعلقان بتاب والفاء رابطة وأقيموا الصلاة فعل أمر وفاعل ومفعول به وآتوا الزكاة عطف على فأقيموا الصلاة وكذلك قوله وأطيعوا الله ورسوله (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) ابتداء وخبر وجملة تعملون صلة ما والجار والمجرور متعلقان بخبير. البلاغة: 1- في قوله تعالى «يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات» تعميم ثم تخصيص وتفصيل ذلك أن الجزاء برفع الدرجات هنا مناسبة للعمل لأن المأمور به تفسيح المجالس كيلا يتنافسوا في القرب من المكان الرفيع حوله صلّى الله عليه وسلم فيتضايقوا وذلك لا يليق بآداب المجلس التي من أولها تفادي إزعاج المجالسين وترنيق صفوهم، واجتناب ما يكدّر صفاءهم وينغص بالهم، ولما كان المتمثّل لذلك الأمر يخفض نفسه عمّا يتنافس فيه من الرفعة امتثالا وتواضعا جوزي على تواضعه برفع الدرجات، ثم لما علم أن أهل العلم بحيث يستوجبون عند أنفسهم وعند الناس ارتفاع مجالسهم خصّهم بالذكر عند الجزاء ليسهّل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس تواضعا لله تعالى، وفي هذا التخصيص إلماع إلى فضل العلم، وحسبنا أن نورد حديث ابن مسعود رضي الله عنه وهو أنه كان إذا تلا هذه الآية قال: يا أيّها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم، وعنه صلّى الله عليه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 24 وسلم: «بين العالم والعابد مائة درجة ما بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة» وعنه عليه الصلاة والسلام «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» فأعظم بمرتبة بين النبوّة والشهادة، وعن الأحنف: كاد العلماء يكونون أربابا وكل عزّ لم يوطد بعلم فإلى ذلك ما يصير. وما دمنا بصدد العلم ودرجته السامية فلا بدّ من الإشارة إلى نكتة بليغة وهي أنه قرن حين خصّ العلماء برفع الدرجات لما جمعوا بين العلم والعمل فإن العلم مع سموّ درجته وأنافة مرتبته يقتضي العمل المقرون به. 2- وفي قوله «بين يدي نجواكم» استعارة ممّن له يدان وقد تقدم تحقيق هذه الاستعارة في آية الحجرات فجدّد بها عهدا. [سورة المجادلة (58) : الآيات 14 الى 17] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) الإعراب: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) كلام مستأنف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 25 مسوق للتعجب من حال المنافقين الذين كانوا يتخذون اليهود أولياء يناصحونهم ويفشون إليهم بأسرار المؤمنين وقال السدي: بلغنا أنها نزلت في عبد الله بن نفيل من المنافقين، والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت وإلى الذين متعلقان بتر وجملة تولوا صلة لا محل لها والواو فاعل وقوما مفعول به وجملة غضب الله عليهم نعت لقوما (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) الجملة مستأنفة أو صفة ثانية لقوما أو حال من فاعل تولوا وما نافية حجازية وهم اسمها ومنكم خبرها، ولا الواو حرف عطف ولا نافية ومنهم عطف على منكم (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الواو عاطفة ويحلفون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والجملة معطوفة على تولوا فهي داخلة في حيّز الصلة وعلى الكذب حال والواو حالية وهم مبتدأ وجملة يعلمون خبرهم والجملة حال (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فعل وفاعل ومفعول به وإن واسمها وخبرها (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) الجملة مستأنفة أو صفة ثالثة لقوما أو حال واتخذوا فعل ماض والواو فاعل وأيمانهم مفعول به أول وجنة مفعول به ثان لاتخذوا أي سترا ووقاية لأنفسهم وأموالهم، فصدّوا الفاء عاطفة وصدّوا فعل ماض وفاعل وعن سبيل الله متعلقان بصدّوا (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) الفاء عاطفة ولهم خبر مقدّم وعذاب مبتدأ مؤخر ومهين نعت لعذاب أي ذو إهانة (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) لن حرف نفي ونصب واستقبال وتغني فعل مضارع منصوب بلن وعنهم متعلقان بتغني وأموالهم فاعل ولا أولادهم عطف على أموالهم ومن الله متعلقان بتغني على حذف مضاف أي من عذاب الله، وشيئا مفعول مطلق أي قليلا من الإغناء (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 26 أولئك مبتدأ وأصحاب النار خبره وهم مبتدأ وفيها متعلقان بخالدون وخالدون خبرهم. البلاغة: ذكر علماء البلاغة في حدّ الصدق والكذب أقوالا أربعة: 1- أن الصدق مطابقة حكم الخبر للواقع والكذب عدم مطابقته له ولو كان الاعتقاد بخلاف ذلك في الحالين. 2- وهو للنظام من كبار المعتزلة: أن الصدق المطابقة لاعتقاد المخبر ولو خطأ والكذب عدم مطابقته للاعتقاد ولو صوابا وما الاعتقاد معه على هذا القول داخل في الكذب لا واسطة. 3- وهو للجاحظ أحد شيوخ المعتزلة أيضا: أن الصدق المطابقة للخارج مع اعتقاد المخبر المطابقة والكذب عدم المطابقة للواقع مع اعتقاد عدمها وما عدا ذلك ليس بصدق ولا كذب أي واسطة بينهما، وهو أربع صور: المطابق ولا اعتقاد لشيء والمطابق مع اعتقاد عدم المطابقة وغير المطابق مع اعتقاد المطابقة وغيره ولا اعتقاد. 4- وهو للراغب، وهو مثل قول الجاحظ غير أنه وصف الصور الأربع بالصدق والكذب باعتبارين فالصدق باعتبار المطابقة للخارج أو للاعتقاد والكذب من حيث انتفاء المطابقة للخارج أو للاعتقاد. هذا واستدل النظام بقوله تعالى: «إن المنافقين لكاذبون» أي في قولهم: «إنك لرسول الله» لعدم مطابقته لاعتقادهم وردّ استدلاله بأن المراد لكاذبون في الشهادة أي في ادّعائهم مواطأة القلب للسان لتضمن قولهم: إنك إلخ ... شهادتنا من صميم القلب وهذا كذب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 27 واستدلّ الجاحظ بقوله تعالى: «افترى على الله كذبا أم به جنة» لأن الإخبار حال الجنة غير الكذب لأنه قسيمه وغير الصدق لأنهم يعتقدون عدم صدقه فثبتت الواسطة ورد بأن المعنى أم لم يغتر فعبّر عن عدم الافتراء بالجنة من جهة أن المجنون لا افتراء له لأن الافتراء الكذب عن عمد فهذا حصر للخبر الكاذب بزعمهم في نوعيه أي الكذب عن عمد ولا عن عمد. [سورة المجادلة (58) : الآيات 18 الى 22] يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 28 اللغة: (اسْتَحْوَذَ) استولى وغلب من حاذ الحمار العانة أي جمعها وساقها غالبا لها ومنه كان أحوذيا نسيج وحده، وهو أحد ما جاء على الأصل نحو استصوب واستنوق يعني على خلاف القياس فإن القياس استحاذ بقلب الواو ألفا كاستعاذ واستقام ولكن استحوذها هنا أجود. (يُحَادُّونَ) يخالفون. الإعراب: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) يوم منصوب بفعل محذوف تقديره اذكر والجملة مستأنفة وجملة يبعثهم في محل جر بإضافة الظرف إليها والله فاعل يبعثهم وجميعا حال والفاء عاطفة ويحلفون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وله متعلقان بيحلفون وكما نعت لمصدر محذوف وجملة يحلفون لا محل لها لأنها صلة الموصول الحرفي ولكم متعلقان بيحلفون (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) الواو حالية وجملة يحسبون حال من الواو في يحلفون له أي والحال أنهم يحسبون في الآخرة أن حلفهم فيها يجديهم من عذابها، وأن وما بعدها في تأويل مصدر سدّت مسدّ مفعولي يحسبون وعلى شيء خبر أنهم وألا أداة استفتاح وتنبيه وإن واسمها وهم ضمير متصل أو مبتدأ والكاذبون خبر إنهم على الأول وخبرهم على الثاني والجملة خبر إنهم (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان استيلاء الشيطان عليهم حتى جعلهم أتباعه ورعيته، وعليهم متعلقان باستحوذ والشيطان فاعله، فأنساهم عطف على استحوذ والهاء مفعول به أول وذكر الله مفعول به ثان (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) أولئك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 29 مبتدأ وحزب الشيطان خبر وألا أداة استفتاح وتنبيه وإن واسمها وهم ضمير فصل أو مبتدأ والخاسرون خبر على الحالين كما تقدم (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) إن واسمها وجملة يحادون صلة والله مفعول به ورسوله عطف على الله وأولئك مبتدأ وفي الأذلين خبر أولئك والجملة خبر إن (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) كتب الله فعل وفاعل وقد تضمن فعل كتب معنى القسم واللام جواب له وأغلبنّ فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وأنا تأكيد لفاعل أغلبنّ المستتر ورسلي عطف على الضمير وإن واسمها وخبراها والجمل لا محل لها (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) قال الزمخشري: «من باب التخييل خيّل أن من الممتنع المحال أن تجد قوما مؤمنين يوالون المشركين والغرض به أنه لا ينبغي أن يكون ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتوصية بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراس من مخالطتهم ومعاشرتهم» ولا نافية وتجد فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره أنت وقوما مفعول به أول وجملة يؤمنون بالله واليوم الآخر نعت لقوما وجملة يوادّون مفعول ثان لتجد إن كان بمعنى تعلم وإن كان بمعنى تصادف فالجملة حال أو صفة ثانية لقوما ويوادّون فعل وفاعل ومن مفعول به وجملة حاد الله صلة لا محل لها وحاد الله فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به ورسوله عطف على الله (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) الواو حالية ولو شرطية وكان واسمها وآباءهم خبرها وما بعده عطف عليه وسيأتي سر الترتيب في باب البلاغة (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أولئك مبتدأ وجملة كتب خبر وفي قلوبهم متعلقان بكتب والإيمان مفعول به وأيدهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وبروح متعلقان بأيدهم ومنه صفة لروح (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 30 الواو عاطفة ويدخلهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وجنات مفعول به ثان على السعة وجملة تجري من تحتها الأنهار نعت لجنات وخالدين حال وفيها متعلقان بخالدين (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) رضي فعل ماض والله فاعل وعنهم متعلقان برضي ورضوا عنه عطف على ما تقدم. وأولئك مبتدأ وحزب الله خبر وألا أداة استفتاح وتنبيه وإن واسمها وهم ضمير فصل أو مبتدأ والمفلحون خبر وقد تقدم أمثال هذا كثيرا. البلاغة: في قوله «ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم» روعي ترتيب عجيب فقد بدأ أولا بالآباء لأنهم أدعى إلى الاهتمام بهم لوجوب إخلاص الطاعة لهم ومع ذلك نهاهم عن موادّتهم قال تعالى: «وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا» وثنى بالأبناء لأنهم أعلق بحبات القلوب، ثم ثلث بالإخوان لأنهم هم المثابة عند الحاجة والناصر عند نشوب الأزمات كما قيل: أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح ثم ربع بالعشيرة لأنها المستغاث في الشدائد وهي الموئل والمفزع في النوائب وهم المسرعون إلى النجدة قال: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا والمقصود في الآية أبا عبيدة لأنه قتل أباه يوم أحد، وأبا بكر لأنه دعا ابنه للبراز يوم بدر فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالقعود، ومصعب بن عمير لأنه قتل أخاه أبا عزيز يوم أحد، وعليّا وغيره ممّن قتلوا عشائرهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 31 (59) سورة الحشر مدنيّة وآياتها اربع وعشرون [سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) اللغة: (يَحْتَسِبُوا) يخطر ببالهم ويظنوا. (الْجَلاءَ) الخروج من الوطن، قال الرازي: «الجلاء أخصّ من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 32 الخروج لأنه لا يقال إلا للجماعة والإخراج يكون للجماعة والواحد» وفي المختار «الجلاء بالفتح والمد: الأمر الجلي تقول منه جلا الخبر يجلو جلاء وضح والجلاء أيضا الخروج من البلد والإخراج أيضا وقد جلوا عن أوطانهم وجلاهم غيرهم يتعدى ويلزم» وعبارة المصباح: «والفاعل من الثلاثي حال مثل قاض والجماعة جالية ومنه قيل لأهل الذمّة الذين أجلاهم عمر رضي الله عنه من جزيرة العرب جالية ثم نقلت الجالية إلى الجزية التي أخذت منهم ثم استعملت في كل جزية تؤخذ وإن لم يكن صاحبها جلا عن وطنه فيقال استعمل فلان على الجالية والجمع الجوالي» وفي الأساس: «وجلوا عن بلادهم جلاء وقع عليهم الجلاء وأجليناهم عنها وجلوناهم ويقال للقوم إذا كانوا مقبلين على شيء محدقين به ثم انكشفوا عنه قد أخرجوا عنه وأجلوا عنه» . الإعراب: (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) سبّح فعل ماض ولله متعلقان بسبّح وقيل اللام زائدة وما فاعل وفي السموات متعلقان بمحذوف هو صلة الموصول وما في الأرض عطف على ما في السموات وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والحكيم خبر ثان (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) الجملة مستأنفة أو حالية وهو مبتدأ والذي خبره وجملة أخرج صلة والذين مفعول به وجملة كفروا صلة الذين ومن أهل الكتاب حال من الذين كفروا وهم بنو النضير، ومن ديارهم متعلقان بأخرج ولأول الحشر هذه اللام تتعلق بأخرج وهي لام التوقيت كقوله تعالى لدلوك الشمس أي عند أول الحشر وعبارة الزمخشري: «ولأول الحشر تتعلق بأخرج وهي اللام في قوله تعالى يا ليتني قدّمت لحياتي وقولك جئته لوقت كذا» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 33 (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) ما نافية وظننتم فعل وفاعل وأن حرف مصدري ونصب ويخرجوا فعل مضارع منصوب بأن وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي ظننتم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ) الواو عاطفة وظنوا فعل ماض من أفعال القلوب والواو فاعل وأن واسمها وقد سدّت مسدّ مفعولي ظنوا ومانعتهم خبر أنهم وحصونهم فاعل مانعتهم ويجوز أن يكون مانعتهم خبرا مقدما وحصونهم مبتدأ مؤخرا والجملة خبر أنهم ومن الله متعلقان بمانعتهم (فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) الفاء للعطف مع التعقيب وأتاهم الله فعل ماض ومفعول به مقدّم وفاعل مؤخر أي أتاهم أمره أو عذابه ومن حرف جر وحيث ظرف مكان مبني على الضم في محل جر بمن والجار والمجرور متعلقان بأتاهم ولم حرف نفي وقلب وجزم ويحتسبوا فعل مضارع مجزوم وعلامة جزمه حذف النون والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها وقذف عطف على فأتاهم وفي قلوبهم متعلقان بقذف والرعب مفعول به والرعب يقرأ بضم العين وسكونها (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة كأنها تفسير للرعب، وأن تكون حالية من الضمير في قلوبهم. ويخربون فعل مضارع وفاعل وبيوتهم مفعول به وبأيديهم متعلقان بيخربون وأيدي عطف على بأيديهم والمؤمنين مضاف إلى أيدي وقرىء يخربون بالتخفيف من أخرب وبالتشديد من خرّب (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) الفاء الفصيحة أي إن تدبرتم هذا وعقلتموه فاتعظوا بحالهم ولا تغدروا، واعتبروا فعل أمر وفاعل ويا حرف نداء وأولي منادى مضاف منصوب بالياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم والأبصار مضاف إليه (وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) الواو استئنافية ولولا حرف امتناع لوجود وأن مصدرية وهي وما بعدها في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ خبره محذوف تقديره موجود وكتب الله فعل وفاعل وعليهم متعلقان بكتب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 34 والجلاء مفعول به واللام واقعة في جواب لولا وعذبهم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وفي الدنيا متعلقان يعذبهم (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) الواو استئنافية ولهم خبر مقدّم وفي الآخرة حال وعذاب النار مبتدأ مؤخر يعني إن نجوا من عذاب الدنيا فإن عذاب الآخرة لهم بالمرصاد، ولا يجوز أن تكون الواو عاطفة لأن ذلك يؤدي إلى عطف الجملة على عذبهم في الدنيا وذلك يقتضي أن ينجوا من عذاب الآخرة أيضا لأن لولا تقتضي انتفاء الجزاء بحصول الشرط (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) ذلك مبتدأ والإشارة إلى المذكور من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة وبأنهم خبر ذلك وأن واسمها وجملة شاقوا خبرها والواو فاعل والله مفعول به ورسوله عطف على الله (وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويشاق فعل الشرط والله مفعول به والجواب محذوف تقديره يعاقب والفاء تعليلية وإن واسمها وخبرها ولك أن تجعل الفاء رابطة والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر المبتدأ. الفوائد: روى التاريخ أن بني النضير وهم رهط من اليهود نزلوا المدينة انتظارا منهم لمحمد صلّى الله عليه وسلم فغدروا بالنبي بعد أن عاهدوه وصاروا عليه مع المشركين فحاصرهم رسول الله حتى رضوا بالجلاء وكانوا أول من أجلي من أهل الذمّة من جزيرة العرب ثم أجلي آخرهم في زمن عمر بن الخطاب فكان جلاؤهم أول حشر من المدينة وآخر حشر جلاء عمر لهم، وقيل أن أول الحشر إخراجهم من حصونهم إلى خيبر وآخر الحشر إخراجهم من خيبر إلى الشام، قال ابن العربي: «الحشر أول وأوسط وآخر فالأول: إجلاء بني النضير والأوسط إجلاء أهل خيبر والآخر هو يوم القيامة» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 35 [سورة الحشر (59) : الآيات 5 الى 7] ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) اللغة: (لِينَةٍ) اللينة بالكسر في اللغة مصدر لان والمراد بها هنا النخلة من الألوان وهي ضروب النخل ما خلا العجوة والبرنية وهما أجود النخيل. وياؤها عن واو قلبت لكسرة ما قبلها كالديمة، وقيل اللينة النخلة الكريمة كأنهم اشتقوها من اللين قال ذو الرمّة: كأن قتودي مؤتها عش طائر ... على لينة سوقاء تهفو جنوبها يصف ناقته، والقتود عيدان الرحل تتخذ من القتاد وهو شجر صلب ذو شوك واللينة النخلة والسوقاء طويلة الساق والجنوب نوع من الريح والضمير للّينه، شبّه عيدان الرحل فوق الناقة بعشّ الطائر فوق النخلة. وتجمع اللّينة على لين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 36 (أَفاءَ) جعله فيئا أي غنيمة. (أَوْجَفْتُمْ) أسرعتم، وفي المصباح: «وجف الفرس والبعير وجيفا عدا وأوجفته بالألف أعديته وهو العنق في السير» . (رِكابٍ) الركاب: الإبل واحدتها راحلة وتجمع على ركب وركائب وركابات وركاب السحاب الرياح والركاب أيضا ما يعلق في السرج فيجعل الراكب رجله فيه وقال الفرّاء: «العرب لا يطلقون لفظ الراكب إلا على راكب البعير ويسمّون راكب الفرس فارسا» . (دُولَةً) بضم الدال وقرىء بفتحها لغتان ما يدول للإنسان أي يدور من الجد يقال دالت له الدولة وأديل لفلان. الإعراب: (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ) ما اسم شرط جازم في محل نصب مفعول به مقدّم لقطعتم وقطعتم فعل وفاعل في محل جزم فعل الشرط ومن لينة حال واو حرف عطف وتركتموها عطف على قطعتم وقائمة مفعول ثان لترك وعلى أصولها متعلقان بقائمة والفاء رابطة لجواب الشرط وبإذن جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف أي فقطعها بإذن الله والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) الواو عاطفة والمعطوف عليه محذوف تقديره أذن في قطعها ليسرّ المؤمنين ويغرّهم ويخزي المنافقين والفاسقين ويذلّهم واللام لام التعليل ويخزي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بالمحذوف المقدّر والفاسقين مفعول يخزي (وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان حال ما أخذ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 37 من أموالهم وما اسم موصول في محل رفع مبتدأ وجملة أفاء صلة والله فاعل وعلى رسوله متعلقان بأفاء ومنهم حال والفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وما نافية وأوجفتم فعل وفاعل وعليه متعلقان بأوجفتم ومن حرف جر زائد وخيل مجرور بمن لفظا منصوب محلا على أنه مفعول أوجفتم ولا ركاب عطف على خيل (وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) الواو حالية ولكن حرف استدراك ونصب والله اسمها وجملة يسلط خبرها ورسله مفعول به ليسلط وعلى من يشاء متعلقان بيسلط وجملة يشاء صلة من (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الله مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بقدير وقدير خبر الله (ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) كلام مستأنف مسوق لبيان مصارف الفيء، وسيأتي سر الفصل فيه، وما اسم موصول مبتدأ وجملة أفاء صلة والله فاعل وعلى رسوله متعلقان بأفاء ومن أهل القرى حال، قال مقاتل: يعني قريظة والنضير وخيبر، والفاء رابطة لما يتضمنه الموصول من معنى الشرط ولله خبر ما وللرسول وما بعده عطف على قوله لله (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) كي حرف تعليل وجر بمعنى اللام ولا نافية ويكون فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد كي واسم يكون مستتر يعود على الفيء ودولة خبرها وبين الأغنياء ظرف متعلق بمحذوف صفة لدولة أي يتداولونه بينهم ومعكم حال (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الواو عاطفة وما اسم موصول في محل نصب مفعول به لفعل محذوف دلّ عليه خذوه، ويجوز أن تعرب جملة فخذوه خبر، وجملة أتاكم صلة والكاف مفعول به والرسول فاعل والفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وخذوه فعل أمر وفاعل ومفعول به، وما نهاكم عنه فانتهوا عطف على ما تقدم (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول وإن واسمها وخبرها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 38 البلاغة: في قوله: «ما أفاء الله على رسوله» الآية. الفصل وهو ترك عطف جملة على أخرى، وضدّه الوصل وهو عطف بعض الجمل على بعض وهذا الباب أغمض أبواب المعاني حتى قيل لبعضهم: ما البلاغة؟ فقال: معرفة الفصل والوصل قال: الفصل ترك عطف جملة أتت ... من بعد أخرى عكس وصل قد ثبت ولكلّ منهما مواضع نلخصها فيما يلي: مواضع الفصل: يجب الفصل في خمسة مواضع: 1- أن يكون بين الجملتين اتحاد تام بأن تكون الثانية بدلا من الأولى كالآية التي نحن بصددها، أو بيانا لها نحو «فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد» أو مؤكدة لها نحو «فمهل الكافرين أمهلهم رويدا» ويقال في هذا الموضع إن بين الجملتين كمال الاتصال. 2- أن يكون بين الجملتين تباين تام بأن تختلفا خبرا وإنشاء كقوله: لا تسأل المرء عن خلائقه ... في وجهه شاهد يغني عن الخبر وقول الآخر: وقال رائدهم أرسوا نزاولها ... فحتف كل امرئ يجري بمقدار فلم يعطف نزاولها على أرسوا لأنه خبر لفظا ومعنى، وأرسوا إنشاء لفظا ومعنى، والرائد هو الذي يتقدم القوم لطلب الماء والكلأ للنزول عليه، وقوله أرسوا أي أقيموا بهذا الكلأ الملائم للحرب وهو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 39 مأخوذ من أرسيت السفينة أي حبستها بالمرساة، وقوله نزاولها أي نحاول أمر الحرب ونعالجها، وقوله فحتف إلخ تعليل لمحذوف يفيده ما قبله أي ولا يمنعكم من محاولة إقامة الحرب بمباشرة أعمالها خوف من الحتف وهو الموت فكل إلخ ... هذا وقد اختلف في إعراب جملة نزاولها فقيل لا محل لها لأنها تعليل لما قبلها فهي جواب عن سؤال مقدّر فليس الفصل لكمال الانقطاع بل لشبه كمال الاتصال وقيل حال أي أقيموا في حال مزاولة الحرب فلذلك ليس الفصل لكمال الانقطاع بل لأن الحال لا يعطف على الجملة المقيدة به أو بأن لا يكون بينهما مناسبة في المعنى كقولك عليّ كاتب، الحمام طائر، ويقال في هذا الموضع إن بين الجملتين كمال الانقطاع. 3- كون الجملة الثانية جوابا عن سؤال نشأ من الجملة الأولى كقوله تعالى «وما أبرىء نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء» ويقال إن بين الجملتين شبه كمال الاتصال. 4- أنه تسبق جملة بجملتين يصحّ عطفها على إحداهما لوجود المناسبة وفي عطفها على الأخرى فساد فيترك العطف دفعا للوهم كقوله: وتظنّ سلمى أنني أبغي بها ... بدلا أراها في الضلال تهيم فجملة أراها يصحّ عطفها على تظن لكن يمنع من هذا توهم العطف على جملة أبغي بها فتكون الجملة الثالثة من مظنونات سلمى مع أنه ليس مرادا ويقال إن بين الجملتين شبه كمال الانقطاع. 5- أن لا يقصد تشريك الجملتين في الحكم لقيام مانع كقوله تعالى: «وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزىء بهم» فجملة الله يستهزىء بهم لا يصحّ عطفها على إنّا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 40 معكم لاقتضائه أنه من مقولهم ولا على جملة قالوا لاقتضائه أن استهزاء الله بهم مقيد بحال خلوّهم إلى شياطينهم ويقال إن بين الجملتين في هذا الموضع توسطا بين الكمالين. مواضع الوصل: ويجب الوصل في المواضع التالية: 1- إذا اتفقت الجملتان خبرا أو إنشاء وكان بينهما جهة جامعة أي مناسبة تامة ولم يكن ثمة مانع من العطف كقوله تعالى: «إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجّار لفي جحيم» والجامع بينهما التضاد ونحو «كلوا واشربوا ولا تسرفوا» والجامع بينهما التضاد أيضا وهو وهي وذلك لأن الوهم ينزل التضاد عنده منزلة التضايف عند العقل فكما أن العقل لا يحضره أحد المتضايفين إلا ويحضره الآخر فكذا الوهم لا يحضره أحد المتضادّين إلا ويحضره الآخر. 2- إذا أوهم ترك العطف خلاف المقصود كما إذا قيل لك: هل برىء علي من المرض؟ وقلت: لا وأردت أن تدعو للسائل فلا بدّ من الوصل فتقول لا ورعاك الله إذ لو فصلت لتوهم أنه دعاء على المخاطب بعدم الرعاية ولولا هذا الإيهام لوجب الفصل لاختلافهما خبرا وإنشاء. 3- أن يكون للأولى محل من الإعراب كأن تكون خبرا ويقصد تشريك الثانية لها في حكم ذلك الإعراب نحو: زيد قام أبوه وقعد أخوه. هذا والجوامع ثلاثة: عقلي ووهمي وخيالي، ومعنى كونه عقليا أنه يصل بين الجملتين ويجمعهما عند القوة المفكرة بسبب العقل كالتماثل، فإن العقل إذا توجه إلى المثلين في الحقيقة وجردهما من العوارض ارتفع التعدد وصارا شيئا واحدا في تلك الحقيقة فيجتمعان في العطف ولكن المراد بالتماثل هنا أن يكون لهما حقيقة مخصوصة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 41 بوصف زائد، ومعنى كونه وهميا أن يحتال الوهم في جمعهما عند المفكرة كالتقارب للشبه الذي بين البياض والصفرة فإن الوهم يتوصل به إلى جمعهما وإن كان ذلك التشابه عقليا لأنه يأخذه من العقل ويجمع به ولولا الوهم ما صحّ الجمع لأن العقل ينفي الجمع لإدراك التباين معه والوهم يجعله كالتماثل، ومعنى كونه خياليا أن يحتال الخيال في الجمع عند المفكرة وهو التقارن بين المتعاطفين في المفكرة وإن كان التقارن عقليا لكن الوهم يأخذه منه فيجمع به ولما كان الجامع الخيالي هو هذا التقارن اختلف باختلاف الناس فربّ إنسان يتقارن عنده صور ولا تصحّ في خلد آخر أصلا. الفوائد: روى التاريخ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما نزل باليهود من بني النضير وقد تحصّنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها فجزع أعداء الله عند ذلك وقالوا: يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح، أمن الصلاح قطع الشجر وقطع النخيل وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض؟ فوجد المسلمون في أنفسهم من قولهم شيئا وخشوا أن يكون ذلك فسادا واختلفوا في ذلك فقال بعضهم لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا، وقال بعضهم بل نغيظهم بقطعه فأنزل الله «ما قطعتم من لينة» الآية. [سورة الحشر (59) : الآيات 8 الى 10] لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 42 اللغة: (خَصاصَةٌ) حاجة وخلّة وأصلها خصاص البيت أي فروجه. (يُؤْثِرُونَ) الإيثار: تقديم الغير على النفس يقال آثرته بكذا أي خصصته به وفضّلته. (شُحَّ) الشح الحرص على المال، والفرق بينه وبين البخل أن الشحّ غريزة والبخل المنع نفسه فهو أعمّ لأنه قد يوجد البخل ولا شحّ له ولا ينعكس وفي الصحاح: «والشحّ البخل مع حرص» . الإعراب: (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) اختلفت أقوال المعربين في تعليق الجار والمجرور فمن جنح إلى مذهب أبي حنيفة جعله بدلا من قوله لذي القربى والمعطوف عليه ومقتضاه اشتراط الفقر فيه وعلى هذا الإعراب نهج الزمخشري وأبو البقاء، ومن جنح الجزء: 10 ¦ الصفحة: 43 إلى مذهب الشافعي علّقه بمحذوف تقديره أعجبوا ومقتضاه عدم اشتراط الفقر وإن الاستحقاق يكون بالقرابة وعلى هذا نهج السيوطي وغيره وعبارة أبي حيان: «وإنما جعله الزمخشري بدلا من قوله ولذي القربى لأنه مذهب أبي حنيفة والمعنى أنه يستحق ذو القربى الفقير فالفقر شرط على مذهب أبي حنيفة ففسّره الزمخشري على مذهبه وأما الشافعي فيرى أن سبب الاستحقاق هو القرابة فيأخذ ذو القربى الغني لقرابته. والسر في التعجب أن السياق يدلّ عليه والمعنى أعجبوا لهؤلاء المهاجرين حيث تركوا أوطانهم وأموالهم وتكبدوا شظف العيش ومرارة الغربة في حبّ النبي والإسلام. والمهاجرين نعت للفقراء والذين نعت ثان وجملة أخرجوا صلة وهو فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل ومن ديارهم متعلقان بأخرجوا وأموالهم عطف على ديارهم وساغ التعبير عنه بالخروج منه لأن المال بمثابة الظرف الذي يستر صاحبه فناسب التعبير عنه بالخروج (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً) الجملة حالية أي حال كونهم طالبين منه تعالى فضلا ورضوانا، وفضلا مفعول به ومن الله متعلقان بيبتغون أو بمحذوف نعت لفضلا ورضوانا عطف على فضلا (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) الجملة معطوفة على جملة يبتغون والله مفعول ينصرون ورسوله عطف على الله وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ والصادقون خبر أولئك أو خبرهم والجملة خبر أولئك (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) كلام مستأنف مسوق لمديح الأنصار الذين حدبوا على المهاجرين وأحلّوهم دارهم، ولك أن تجعله منسوقا على الفقراء فالذين على هذين الوجهين إما مبتدأ وإما معطوف على الفقراء فهو في محل جر وجملة تبوءوا صلة والدار مفعول به والإيمان مفعول به لفعل محذوف تقديره وأخلصوا على حدّ قوله: علفتها تبنا وماء باردا. ويكون العطف من عطف الجمل لأن الإيمان لا يتخذ منزلا فاختصر الكلام، وقيل هو على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 44 حذف مضاف والمعنى دار الهجرة ودار الإيمان فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه، أو منصوب بتبوءوا بعد تضمينه معنى لزموا كأنه قال لزموا الدار ولزموا الإيمان وقيل هو من عطف المفردات على أن يكون التجوّز واقعا في الإيمان على طريق الاستعارة وسيأتي مزيد بحث عنه في باب البلاغة، ومن قبلهم حال وجملة يحبّون خبر الذين ومن مفعول به وجملة هاجر صلة وإليهم متعلقان بهاجر (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) الواو عاطفة ولا نافية ويجدون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وفي صدورهم متعلقان بيجدون وحاجة مفعول به ومما نعت لحاجة وجملة أوتوا صلة لما. (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) عطف على ما تقدم وعلى أنفسهم متعلقان بيؤثرون والواو حالية ولو شرطية وكان فعل ماض ناقص وبهم خبر كان المقدم وخصاصة اسمها المؤخر. قال ابن عمر: أهديت لرجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم شاة فقال: أخي فلان أحوج إليها وبعث بها إليه فلم يزل يبعث بها واحد بعد واحد حتى تداولها تسعة أبيات ورجعت إلى الأول فنزلت. (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الواو استئنافية ومن شرطية في محل رفع مبتدأ ويوق فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلّة وهو فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وشحّ مفعول به ثان والفاء رابطة لجواب الشرط وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان والمفلحون خبر أولئك أو خبرهم والجملة خبر أولئك وجملة فأولئك إلخ في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) الذين مبتدأ وجملة جاءوا صلة ومن بعدهم متعلقان بجاءوا وجملة يقولون خبر الذين وربنا منادى مضاف واغفر فعل دعاء وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة مقول القول الجزء: 10 ¦ الصفحة: 45 ولإخواننا عطف على لنا، والذين نعت لإخواننا وجملة سبقونا صلة الذين وبالإيمان متعلقان بسبقونا (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) الواو عاطفة ولا ناهية وتجعل فعل مضارع مجزوم بلا وفي قلوبنا في موضع المفعول الثاني لتجعل وغلّا مفعولها الأول وللذين نعت لغلّا أي حقدا. (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) ربنا منادى مضاف وإن واسمها ورءوف خبر إن الأول ورحيم خبرها الثاني. البلاغة: في قوله «والذين تبوءوا الدار والإيمان» فن الإيجاز، وقد تقدم بحثه مفصلا، وهو هنا نوع تختصر فيه بعض الألفاظ ويأتي كله بلفظ الحقيقة، لكن اختصاره من اختصار ألفاظ المجاز، وبعضهم يسمّيه اختصار الاتباع، فإن التقدير كما قدّمنا في باب الإعراب: تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان، كما قال ذو الرمّة: لما حططت الرحل عنها واردا ... علفتها تبنا وماء باردا أي وسقيتها، وكقول عبد الله بن الزبعرى: ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا أي ومتقلدا رمحا. الفوائد: للإعراب في قوله «للفقراء» أثر كبير في توجيه المعتقد، فمذهب أبي حنيفة رحمه الله أن استحقاق ذوي القربى لسهمهم من الفيء موقوف على الفقراء حتى لا يستحقه أغنياؤهم، وقد أغلظ الشافعي رحمه الله، فيما نقله عنه إمام الحرمين، الردّ على هذا المذهب بأن الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 46 تعالى علّق الاستحقاق بالقرابة ولم يشترط الحاجة، وعدم اعتبار القرابة مضادّة محادّة، واعتذر إمام الحرمين لأبي حنيفة بأن الصدقات لما حرّمت عليهم كان فائدة ذكرهم في خمس الفيء والغنيمة أنه لا يمنع صرف ذلك إليهم امتناع صرف الصدقات، ثم أتبع هذا العذر بأن قال: لا ينبغي أن يعبّر به فإن صيغة الآية ناصّة على الاستحقاق لهم تشريفا لهم وتنبيها على عظم أقدارهم، فمن حمل ذلك على جواز الصرف إليهم مع معارضة هذا الجواز بجواز حرمانهم فقد عطّل فحوى الآية، ثم استعظم الإمام وقع ذلك عليهم لأنهم يذهبون إلى اشتراط الإيمان في رقبة الظهار زيادة على النصّ فيأتون في إثبات ذلك بالقياس لأنه يستنتج وليس من شأنه الثبوت بالقياس، قال فكذلك يلزمهم أن يعتقدوا أن اشتراط الفقر في القرابة واشتراط الحاجة لقرب ما ذكروه بغرض القرب، فأما وأن أصلهم المخصوصون من نسب الرسول عليه الصلاة والسلام والنابتون من شجرته كالعجمة فلا يبقى مع هذا لمذهبهم وجه. انتهى كلام الإمام، وإنما أوردته ليعلم أن معارضته لأبي حنيفة على أن اشتراط الحاجة عند أبي حنيفة مستند إلى قياس أو نحوه من الأسباب الخارجة عن الآية فلذلك ألزمه أن يكون زيادة على النصّ فأما وقد تلقى أبو حنيفة اعتبار الحاجة من تقييد هذا البدل المذكور في الآية فإنما يسلك معه واد غير هذا فيقول هو بدل من المساكين لا غير، وتقديره أنه سبحانه أراد أن يصف المساكين بصفات تؤكد استحقاقهم وحمد الأغنياء على إيثارهم وأن لا يجدوا في صدورهم حاجة مما أوتوا فلما قصد ذلك وقد فصّل بين ذكرهم وبين ما يقصد من ذكر صفاتهم بقوله: «كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم» إلى قوله: «شديد العقاب» طرّى ذكرهم ليكون توطئة للصفات المتتالية بعده فذكر بصفة أخرى مناسبة للصفة الأولى مبدلة منها وهي الفقر لتشهد التطرية على فائدة الجمع لهم بين صفتي المسكنة والفقر ثم تليت صفاتهم على أثر ذلك وهي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 47 إخراجهم من ديارهم وأموالهم مهاجرين وابتغاؤهم الفضل والرضوان من الله، فإن ذوي القربى ذكروا بصفة الإطلاق فالأصل بقاؤهم على ذلك حتى يتحقق أنهم مرادون بالتقييد وما ذكرناه من صرف ذلك إلى المساكين يكفي في إقامة وزن الكلام فيبقى ذوو القربى على أصل الإطلاق وتلك قاعدة لا يسع الحنفية مدافعتها فإنهم يرون الاستثناء المتعقب للجمل يختصّ بالجملة الأخيرة لأن عوده إليها يقيم وزن الكلام ويبقى ما تقدمهنّ على الأصل ولا فرق بين التعقيب بالاستثناء والبدل وكل ما سوى هذا مع أنه لو جعل بدلا من ذوي القربى مع ما بعده لم يكن إبداله من ذوي القربى إلا بدل بعض من كل فإن ذوي القربى منقسمون إلى فقراء وأغنياء ولم يكن إبداله من المساكين إلا بدلا للشيء من الشيء وهما لعين واحدة، فيلزم أن يكون هذا البدل محسوسا بالنوعين المذكورين في حالة واحدة وذلك متعذر لما بين النوعين من الاختلاف والتباين وكلّ منهما يتقاضى ما يأباه الآخر فهذا القدر كان إن شاء الله تعالى وعليه أعرب الزجّاج الآية فجعله بدلا من المساكين خاصة والله تعالى الموفّق للصواب. [سورة الحشر (59) : الآيات 11 الى 17] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 48 الإعراب: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) كلام مستأنف مسوق لحكاية ما جرى بين المنافقين والكفّار من أقوال كاذبة ومحاورات متهافتة، والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلّة والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت أي تنظر وإلى الذين متعلقان بتر وجملة نافقوا صلة وجملة يقولون مستأنفة لبيان المتعجب منه والتعبير بالمضارع لاستحضار صورة القول وتجدده ولإخوانهم متعلقان بيقولون والذين نعت لإخوانهم وجملة كفروا صلة الذين ومن أهل الكتاب حال (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً) الجملة مقول قول قولهم واللام موطئة للقسم وإن شرطية وأخرجتم فعل ماض مبني الجزء: 10 ¦ الصفحة: 49 للمجهول في محل جزم فعل الشرط والتاء نائب فاعل واللام جواب القسم أيضا ونخرجن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وجواب إن الشرطية محذوف، والكثير في كلام العرب إثبات اللام المؤذنة بالقسم قبل أداة الشرط، ومعكم ظرف متعلق بنخرجنّ والواو حرف عطف ولا نافية ويطع فعل مضارع مرفوع لأنه معطوف على جملة لئن أخرجتم وكذلك قوله وإن قوتلتم فمقول قولهم ثلاث جمل وجاء الفعل مرفوعا هو وما بعده لأنها راجعة على حكم القسم لا على حكم الشرط وفقا للقاعدة المتفق عليها من أنه إذا تقدم القسم على الشرط كان الجواب للقسم، وفيكم متعلقان بنطيع على حذف مضاف أي في خذلانكم وأحدا مفعول به وأبدا ظرف للنفي متعلق بنطيع أيضا (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) الواو عاطفة وإن شرطية حذفت قبلها اللام الموطئة للقسم وقوتلتم فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط واللام جواب القسم وننصرنّكم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وجواب إن محذوف والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وقد تقدم القول في ذلك (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) والله مبتدأ وجملة يشهد خبر وإن حرف مشبّه بالفعل وكسرت همزتها لوقوع اللام المزحلقة في خبرها والهاء اسمها وكاذبون خبرها (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ) اللام موطئة للقسم وإن شرطية وأخرجوا فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وهو في محل جزم فعل الشرط وجواب إن محذوف دلّ عليه جواب القسم وهو جملة لا يخرجون ومعهم ظرف متعلق بيخرجون (وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ) عطف على ما تقدم مماثل له في إعرابه (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) عطف أيضا وقوله ليولّنّ: اللام جواب القسم ويولّنّ فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والأدبار الجزء: 10 ¦ الصفحة: 50 مفعول به وثم حرف عطف ولا نافية وينصرون فعل مضارع معطوف على يولّنّ مرفوع مثله والضمائر عائدة على اليهود أو على المنافقين (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ) اللام لام الابتداء وأنتم مبتدأ وأشد خبر ورهبة تمييز وهو مصدر رهب المبني للمجهول هنا لأن المخاطبين مرهوب منهم لا راهبون فلا يرد السؤال كيف يستقيم التفضيل بأشدية الرهبة مع أنهم لا يرهبون من الله لأنهم لو رهبوا منه لتركوا الكفر والنفاق، وفي صدورهم نعت لرهبة ومن الله متعلقان برهبة (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) ذلك مبتدأ وبأنهم خبر وأن واسمها وقوم خبرها وجملة لا يفقهون نعت لقوم (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) لا نافية ويقاتلونكم فعل مضارع مرفوع وفاعل ومفعول به وجميعا حال أي مجتمعين وإلا أداة حصر وفي قرى متعلقان بيقاتلونكم والضمير يعود لليهود ومحصنة نعت لقرى وأو حرف عطف ومن وراء عطف على في قرى وجدر مضاف إليه وهو جمع جدار وقرىء بالإفراد (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) الجملة مستأنفة لبيان حالهم أي أنهم في غاية القوة والشجاعة إذا حارب بعضهم بعضا ولكنهم إذا حاربوكم ضعفوا وجبنوا، وبأسهم مبتدأ وبينهم ظرف متعلق بشديد وشديد خبر وجملة تحسبهم استئنافية أيضا وتحسبهم فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره وأنت والهاء مفعول به أول وجميعا مفعول به ثان والواو حالية وقلوبهم مبتدأ وشتى خبره والجملة حالية (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) تقدم إعراب نظيرتها قريبا (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) كمثل خبر لمبتدأ محذوف تقديره مثلهم والذين مضاف إليه ومن قبلهم صلة الذين وقريبا ظرف متعلق بالاستقرار المحذوف الذي تعلق به من قبلهم ولك أن تعلقه بذاقوا وعلقه الزمخشري بمضاف مقدّر في الخبر أي كوجود مثل أهل بدر قريبا أي مثل اليهود من بني النضير فيما وقع لهم من الإجلاء والذل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 51 والمهانة كمثل أهل مكة فيما وقع لهم أيضا يوم بدر من الهزيمة والأسر والقتل وليس قوله ببعيد، وذاقوا فعل وفاعل ووبال أمرهم مفعول (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الواو استئنافية ولهم خبر مقدّم وعذاب مبتدأ مؤخر وعظيم نعت أي في الآخرة (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) كمثل خبر لمبتدأ محذوف أي مثل المنافقين في إغراء اليهود على القتال كمثل الشيطان وإذا ظرف لما مضى من الزمن متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر ولك أن تعلقه بمحذوف على أنه حال من مثل الشيطان كأنه بيان له وجملة قال في محل جر بإضافة الظرف إليها وللإنسان متعلقان بقال وجملة اكفر مقول القول (فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) الفاء عاطفة على محذوف أي فكفر فلما كفر، ولما ظرفية حينية أو رابطة متضمنة معنى الشرط وجملة كفر في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة قال لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وإن واسمها وبريء خبرها ومنك متعلقان ببريء (إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) الجملة تعليل كاذب لبراءته منه وإلا فهو لا يخاف الله، وإن واسمها وجملة أخاف الله خبرها ورب العالمين بدل من الله أو نعت له (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) الفاء عاطفة وكان فعل ماض ناقص وعاقبتهما خبرها المقدّم أي الغاوي والمغوى، وأن وما في حيّزها هو الخبر وأن واسمها وفي النار خبرها خالدين حال وفيها متعلقان بخالدين والواو استئنافية وذلك مبتدأ والإشارة إلى العذاب وجزاء الظالمين خبر ذلك. [سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 24] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 52 الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) كلام مستأنف مسوق لمخاطبة المؤمنين وإسداء الموعظة لهم، واتقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والله مفعوله والواو حرف عطف واللام لام الأمر وتنظر فعل مضارع مجزوم بلام الأمر ونفس فاعل وما مفعول تنظر وجملة قدّمت صلة ما والعائد محذوف أي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 53 قدّمته ولغد متعلقان بقدّمت وأطلق الغد على يوم القيامة تقريبا له وسيأتي مزيد بحث عن معنى الغد في باب البلاغة (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) كرر الأمر بالتقوى تأكيدا له، وجملة إن الله خبير بما تعملون تعليل للأمر بالتقوى وإن واسمها وخبرها (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) الواو عاطفة ولا ناهية وتكونوا فعل مضارع ناقص مجزوم بلا والواو واسمها وكالذين خبرها وجملة نسوا الله صلة الموصول، فأنساهم الفاء عاطفة وأنساهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول وأنفسهم مفعول به ثان (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان والفاسقون خبر أولئك أو خبرهم والجملة خبر أولئك (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) لا نافية ويستوي فعل مضارع مرفوع وأصحاب النار فاعل وأصحاب الجنة عطف على أصحاب النار (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان كيفية عدم الاستواء وأصحاب الجنة مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان والفائزون خبر على كل حال وقد تقدم نظيره تقريبا (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق للتشبيه ولو شرطية وأنزلنا فعل وفاعل وهذا مفعول به والقرآن بدل وعلى جبل متعلقان بأنزلنا واللام رابطة لجواب لو ورأيته فعل وفاعل ومفعول به وخاشعا مفعول ثان أو حال لأن الرؤية تحتمل القلبية والبصرية ومتصدعا حال ثانية أو نعت لخاشعا ومن خشية الله متعلقان بمتصدعا (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) الواو استئنافية وتلك مبتدأ والأمثال بدل وجملة نضربها خبر وللناس متعلقان بنضربها ولعل واسمها وجملة يتفكرون خبرها (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) هو مبتدأ والله خبر أول والذي نعت وجملة لا إله إلا هو صلة وقد تقدم إعراب كلمة الشهادة مفصّلا في البقرة فجدّد به عهدا (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 54 أخبار متعددة لله وقد تقدمت أسماء الله الحسنى (سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) سبحان مفعول مطلق لفعل محذوف وعمّا متعلقان بسبحان وجملة يشركون صلة (هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) هو مبتدأ وما بعده من الأسماء الحسنى أخبار (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) له خبر مقدم والأسماء مبتدأ مؤخر والحسنى نعت والحسنى مؤنث الأحسن الذي هو اسم تفضيل لا مؤنث أحسن المقابل لامرأة حسناء، وفي القاموس «ولا تقل رجل أحسن في مقابل امرأة حسنا وعكسه غلام أمرد ولا تقل جارية مرداء وإنما يقول هو الأحسن على إرادة أفعل التفضيل وجمعه أحاسن والحسنى بالضم ضد السوءى» (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تقدم في أول السورة. البلاغة: في قوله «ولتنظر نفس ما قدّمت لغد» تنكير النفس والغد، أما تنكير النفس فاستقلال للأنفس النواظر فيما قدّمن للآخرة، وأما تنكير الغد فلتعظيمه وإبهام أمره كأن قيل لغد لا يعرف كنهه لعظمه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 55 (60) سورة الممتحنة مدنيّة وآياتها ثلاث عشرة [سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 56 بِالْمَوَدَّةِ) يا حرف نداء وأيّها منادى نكرة مقصودة مبني على الضم والهاء للتنبيه والذين بدل من أيدي وجملة آمنوا صلة ولا ناهية وتتخذوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وعدوي مفعول به، وهو يقع على الواحد فما فوقه لأنه بزنة المصدر، وعدوكم عطف على عدوي وأولياء مفعول به ثان وجملة تلقون حال من فاعل تتخذوا ويجوز أن تكون في موضع نصب صفة لأولياء ويجوز أن تكون تفسيرية لا محل لها لموالاتهم إياهم وقيل هي استئناف مسوق للإخبار بذلك وتلقون فعل وفاعل والمفعول به محذوف تقديره إخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقيل الباء زائدة والمودّة هي المفعول به ولا حذف وإليهم متعلق بتلقون (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) الواو حالية وقد حرف تحقيق وكفروا فعل وفاعل والجملة حال من لا تتخذوا أو من تلقون والمعنى لا توادوهم وهذه حالهم وبما متعلقان بكفروا وجملة جاءكم صلة ومن الحق حال (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ) جملة يخرجون مستأنفة أو مفسّرة لكفرهم فلا محل لها على الحالين ويجوز أن تكون حالا من فاعل كفروا والرسول مفعول وإياكم عطف على الرسول وأن تؤمنوا مصدر مؤول في محل نصب مفعول لأجله أي لإيمانكم بالله وبالله متعلق بتؤمنوا وربكم بدل (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) إن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وجملة خرجتم خبر كنتم وجهادا مفعول لأجله أي لأجل الجهاد ويجوز أن يكون النصب على الحال أي حال كونكم مجاهدين وجواب الشرط محذوف دلّ عليه قوله لا تتخذوا (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) جملة تسرون إما مستأنفة وإما تابعة لتلقون إليهم على أنها بدل بعض من كل لأن إلقاء المودّة أعمّ من السرّ والجهر، وتسرون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والمفعول به محذوف وبالمودّة متعلقان بتسرون أو الباء زائدة في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 57 المفعول على غرار ما تقدم في تلقون إليهم بالمودّة والواو حالية وأنا مبتدأ وأعلم خبر على أنه اسم تفضيل وبما متعلقان بأعلم وجملة أخفيتم صلة ما ويجوز أن تكون أعلم فعلا مضارعا وما أعلنتم عطف على بما أخفيتم (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) الواو عاطفة أو مستأنفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويفعله فعل الشرط والفاعل مستتر تقديره هو والهاء مفعول به والفاء رابطة لجواب الشرط لاقترانه بقد وضلّ فعل وفاعله هو وسواء السبيل مفعوله وقيل ضلّ لازم فينصب سواء السبيل على الظرفية المكانية (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) إن شرطية ويثقفوكم فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والكاف مفعول به ويكونوا جواب الشرط وعلامة جزمه حذف النون أيضا والواو اسمها وأعداء خبرها ولكم حال وفي المصباح: «ثقفت الشيء ثقفا من باب تعب أخذته وثقفت الرجل في الحرب أدركته وثقفته ظفرت به وثقفت الحديث فهمته بسرعة والفاعل ثقيف» (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) عطف على يكونوا وإليكم متعلقان بيبسطوا وأيديهم مفعول به وألسنتهم عطف على أيديهم وبالسوء حال (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) عطف أيضا على جملة الشرط والجزاء فيكون تعالى قد أخبر بخبرين: بما تضمنته الجملة الشرطية وبودادتهم كفر المؤمنين وسيأتي سر العدول عن المضارع إلى الماضي، ولو مصدرية وتكفرون فعل مضارع مرفوع ولو وما في حيّزها مصدر في محل نصب مفعول ودّوا (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) كلام مستأنف مسوق للإعلام بأن أرحامهم وأولادهم لن ينفعوهم، ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتنفعكم فعل مضارع منصوب بلن والكاف مفعول به مقدم وأرحامكم فاعل مؤخر ولا أولادكم عطف على أرحامكم ويوم القيامة ظرف متعلق بما قبله أي لن ينفعكم يوم القيامة فيوقف عليه أو متعلق بما بعده أي يفصل بينكم يوم القيامة، ويفصل فعل مضارع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 58 وفاعله هو أي الله تعالى وقرىء يفصل بالبناء للمجهول وبينكم ظرف متعلق بيفصل على كل حال (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) الله مبتدأ وبما متعلقان ببصير وجملة تعملون صلة وبصير خبر الله. البلاغة: عدل عن المضارع المناسب لما قبله في قوله «وودّوا لو تكفرون» إلى الماضي مع أن السياق يتطلب أن يكون مضارعا مستقبلا لاعتباره قد كان أي أن ودادتهم كفركم هو المهم لديهم ولا شيء يعدله في الرجحان، يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم جميع مضار الدنيا والدين وارتدادكم كفّارا أسبق المضار لكم لأنهم يعلمون أن الدين أعزّ عليكم من أرواحكم وهذا من بديع التعبير. الفوائد: وقد آن أن ننقل إليك خلاصة وافية للقصة التي نزلت السورة بسببها لما فيها من متعة وفائدة فقد روى الأئمة واللفظ لمسلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: ائتوا روضة خاخ- بالصرف وعدمه- موضع بينه وبين المدينة اثنا عشر ميلا، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فانطلقنا نهادي خيلنا أي نسرعها فإذا نحن بامرأة فقلنا اخرجي الكتاب فقالت: ما معي كتاب فقلنا لتخرجنّ الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا؟ فقال: لا تعجل عليّ يا رسول الجزء: 10 ¦ الصفحة: 59 الله إنّي كنت امرأ ملصقا في قريش- قال سفيان: كان حليفا لهم ولم يكن من أنفسها- وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه وإن كتابي لا يغني عنهم شيئا وأنّ الله ناصرك عليهم فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: صدق فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إنه شهد بدرا وما يدريك لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فأنزل الله عزّ وجلّ: «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء» الآية. قيل اسم المرأة سارة وهي مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم. نص الكتاب: أما نص كتاب حاطب فهو «أما بعد فإن رسول الله قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله بكم ولأنجز له موعده فيكم فإن الله وليّه وناصره» . وذكر القشيري والثعلبي أن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من أهل اليمن وكان في مكة حليف بني أسد بن عبد العزّى رهط الزبير بن العوّام وقيل كان حليفا للزبير بن العوّام فقدمت من مكة سارة إلى المدينة ورسول الله يتجهز لفتح مكة فقال لها رسول الله: أمهاجرة جئت يا سارة؟ فقالت: لا فقال: أمسلمة جئت؟ قالت: لا قال: فما جاء بك؟ قالت: كنتم الأهل والموالي والأصل والعشير وقد ذهب بعض الموالي يعني قتلوا يوم بدر وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني فقال عليه الصلاة والسلام: فأين أنت من شباب مكة وكانت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 60 مغنية قالت ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر، فحث رسول الله بني عبد المطلب على إعطائها فكسوها وحملوها وأعطوها فخرجت إلى مكة وأتاها حاطب فقال أعطيك عشرة دنانير وبردا على أن تبلغي هذا الكتاب إلى أهل مكة وكتب في الكتاب أن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم إلى آخر القصة. [سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 الى 7] قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 61 اللغة: (أُسْوَةٌ) بضم الهمزة وكسرها وقد قرىء بها أيّ القدوة وما يتعزى به والجمع أسى بضم الهمزة وكسرها أيضا. (بَراءٌ) جمع بريء كظريف وظرفاء ويجمع أيضا على براء بكسر الباء كظريف وظرف وعلى براء بضم الباء كتؤام وظؤار وعلى أبراء وأبرياء والبريء الخالص والخالي وخلاف المذنب والمتهم. الإعراب: (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) كلام مستأنف مسوق لضرب المثال الجدير بالاحتذاء في النهي عن موالاة الكفّار والركون إلى الأعداء وأن الصدور المطوية على الضغن يجب أن تبقى على عدائها حتى يزول السبب القائم فإذا زال انقلبت العداوة مودّة والبغضاء محبة. وقد حرف تحقيق وكانت فعل ماض ناقص ولكم خبرها المقدّم وأسوة اسمها المؤخر وحسنة نعت لأسوة، وفي إبراهيم: لك أن تعلقه بمحذوف صفة ثانية لأسوة أو حال منها لأنها وصفت، وعبارة أبي البقاء «فيه أوجه: أحدها هو نعت آخر لأسوة والثاني هو متعلق بحسنة تعلق الظرف بالعامل والثالث أن يكون حالا من الضمير في حسنة والرابع أن يكون خبرا لكان ولكم تبيين ولا يجوز أن يتعلق بأسوة لأنها قد وصفت» وقد ردّ على أبي البقاء عدد من المعربين الوجه الأخير لأن الظروف يغتفر فيها ما لا يغتفر بغيرها، والذين عطف على إبراهيم ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف هو الصلة للذين (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) إذ ظرف لما مضى من الزمن أي حين قالوا وهو بدل اشتمال من إبراهيم والذين معه وهذا أولى الأعاريب المتكلفة التي ذكرها أبو البقاء وغيره، وجملة قالوا في محل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 62 جر بإضافة الظرف إليها ولقومهم متعلقان بقالوا وإن واسمها وبرآء خبرها والجملة مقول قولهم ومنكم متعلق ببرآء ومما عطف على منكم وجملة تعبدون صلة ومن دون الله حال (كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) الجملة مفسّرة للتبرؤ منهم ومما يعبدون ولك أن تجعلها حالا أي تبرأنا منكم حال كوننا كافرين بكم، وكفرنا فعل وفاعل وبكم متعلق بكفرنا وبدا فعل ماض وبيننا ظرف متعلق ببدا وبينكم ظرف معطوف على بيننا والعداوة فاعل والبغضاء عطف على العداوة وأبدا ظرف متعلق ببدا أيضا وحتى حرف غاية وجر وتؤمنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى وبالله متعلقان بتؤمنوا ووحده حال (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) إلا أداة استثناء وقول إبراهيم مستثنى من أسوة حسنة لأن القول من جملة الأسوة فهو استثناء متصل فكأنه قيل لكم فيه أسوة حسنة في جميع أحواله من قول وفعل إلا قوله كذا، وقيل هو استثناء منقطع والمعنى لكن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرنّ لك فلا تتأسّوا فيه وعبارة أبي حيان: والظاهر أنه من تمام قول إبراهيم متصلا بما قبل الاستثناء وهو من جملة ما يتأسى به فيه، وفصل بينهما بالاستثناء اعتناء بالاستثناء ولقربه من المستثنى منه. ولأبيه متعلقان بقول، ولأستغفرنّ اللام موطئة للقسم وأستغفرن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره أنا والجملة مقول القول ولك متعلقان بأستغفرنّ والواو للحال أو للعطف لأن الجملة من تمام قول إبراهيم فهي في محل نصب على الحال من فاعل أستغفرنّ أي أستغفر لك وليس في طاقتي إلا الاستغفار فهو مبني على ما قبله مرتب عليه بطريق الحالية ويجوز العطف أيضا، وما نافية وأملك فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا ولك متعلقان بأملك ومن الله حال لأنه كان في الأصل صفة لشيء ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا منصوب محلا على أنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 63 مفعول أملك (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) تتمة مقول قول الخليل إبراهيم والذين معه فهو من جملة المستثنى منه فيتأسى به فيه فهو في المعنى مقدّم على الاستثناء وجملة الاستثناء اعتراضية في خلال المستثنى منه وعبارة الكشاف «فإن قلت بم اتصل قوله تعالى: ربنا عليك توكلنا قلت بما قبل الاستثناء وهو من جملة الأسوة الحسنة ويجوز أن يكون المعنى: قولوا ربنا أمرا من الله تعالى للمؤمنين بأن يقولوه وتعليما منه لهم تتميما لما وصّاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفّار والائتساء بإبراهيم وقومه في البراءة منهم وتنبيها على الإثابة إلى الله والاستعاذة به من فتنة أهل الكفر والاستغفار مما فرط منهم» أي فهو مقول قول محذوف وربنا منادى مضاف وعليك متعلقان بتوكلنا وإليك متعلقان بأنبنا والواو عاطفة وإليك خبر مقدّم والمصير مبتدأ مؤخر (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ربنا منادى مضاف أيضا ولا ناهية والمقصود به الدعاء وتجعلنا فعل مضارع مجزوم بلا ونا مفعول به أول وفتنة مفعول به ثان وهو مصدر بمعنى الفاعل أي لا تجعلنا فاتنين لهم بأن ينتصروا علينا فتقصف عقولهم وتفتتن وتسوّل لهم أنفسهم أنهم على حق، أو بمعنى المفعول كما قرر البيضاوي أي لا تجعلنا مفتونين بهم بأن تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب لا طاقة لنا باحتماله، وللذين متعلقان بفتنة على الحالين وجملة كفروا صلة الموصول وربنا منادى مضاف كرره للتأكيد وإن واسمها وأنت ضمير فصل أو مبتدأ والعزيز خبر إن أو خبر أنت والجملة خبر إن والحكيم خبر ثان على كل حال (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) الجملة تابعة لجملة قد كانت لكم أسوة تأكيد لها أتى بها للمبالغة في التحريض على الحكم. واللام موطئة لقسم مقدّر وقد حرف تحقيق وكان فعل ماض ناقص ولكم خبرها المقدّم وفيهم حال وأسوة اسم كان المؤخر وحسنة نعت لأسوة ولمن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 64 بدل بعض من كل من لكم بإعادة الجار وقيل بدل اشتمال وجملة كان صلة لمن واسم كان مستتر تقديره هو وجملة يرجو الله خبر كان واليوم الآخر عطف على الله (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويتول فعل الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلّة والفاء رابطة للجواب والجواب محذوف تقديره فإن وبال توليه على نفسه وإن واسمها وخبراها تعليل للجواب (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) عسى فعل من أفعال الرجاء والله اسمها وأن يجعل في موضع الخبر وبينكم ظرف في موضع المفعول الثاني ليجعل وبين الذين عاديتهم عطف على الظرف ومودّة مفعول يجعل الأول ومنهم حال من الذين عاديتم (وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مبتدأ وخبر وعطف عليهما مثيلهما. [سورة الممتحنة (60) : الآيات 8 الى 9] لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) الإعراب: (لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) كلام مستأنف مسوق لبيان الترخيص في صلة الذين لم يقاتلوا المؤمنين ولم يخرجوهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 65 من ديارهم ولا نافية وينهاكم الله فعل مضارع ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وعن الذين متعلقان بينهاكم وجملة لم يقاتلوكم صلة الموصول وفي الدين متعلقان بيقاتلوكم أي لأجله (وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) ولم يخرجوكم عطف على لم يقاتلوكم ومن دياركم متعلقان بيخرجوكم وأن تبرّوهم في موضع جر بدل اشتمال من الذين، وتقسطوا إليهم عطف على تبروهم وإن واسمها وجملة يحبّ المقسطين خبرها وجميل قول الزمخشري بهذا الصدد «وناهيك بتوصية الله المؤمنين أن يستعملوا القسط مع المشركين به ويتحاموا ظلمهم مترجمة عن حال مسلم يجترىء على ظلم أخيه المسلم» (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ) إنما كافّة ومكفوفة وينهاكم الله فعل مضارع ومفعول به مقدّم وفاعل مؤخر وعن الذين متعلقان بينهاكم وجملة قاتلوكم صلة الذين وفي الدين متعلقان بقاتلوكم (وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) وأخرجوكم عطف على قاتلوكم ومن دياركم متعلقان بأخرجوكم وظاهروا عطف أيضا وعلى إخراجكم متعلقان بظاهروا أي عاونوا على إخراجكم وأن وما في حيّزها بدل اشتمال من الذين وقد تقدم نظيره (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويتولهم فعل الشرط والفاء رابطة وجملة أولئك هم الظالمون في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 66 [سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 الى 13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13) اللغة: (فَامْتَحِنُوهُنَّ) فابتلوهنّ واختبروهن ولذلك سمّيت السورة الممتحنة بكسر الحاء أي المختبرة، أراد المرأة أو الجماعة الممتحنة فقد ذكر فيها أمر جماعة المؤمنين بالامتحان، وإن فتحت الحاء يكون المعنى سورة المرأة المهاجرة التي نزلت فيها آية الامتحان وسيأتي حديثها في باب الفوائد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 67 (بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) العصم جمع عصمة وهي هنا عقد النكاح وكل ما عصم به الشيء فهو عصام وعصمة وقد مرّت خصائص العين والصاد فاء وعينا، والكوافر جمع كافرة كضوارب في ضاربة، وعبارة أبي حيان «وقال الكرخي: الكوافر يشمل الرجال والنساء فقال له أبو علي الفارسي النحويون لا يرون هذا إلا في النساء جمع كافرة فقال أليس يقال: طائفة كافرة وفرقة كافرة قال أبو علي: فبهت فقلت هذا تأييد» والكرخي هذا معتزلي فقيه وأبو علي معتزلي أيضا فأعجبه هذا التخريج وليس بشيء لأنه لا يقال كافرة في وصف الرجال إلا تابعا لموصوفها أو يكون محذوفا مرادا أما بغير ذلك فلا يجمع فاعلة على فواعل إلا ويكون للمؤنث. الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه وجملة جاءكم في محل جر بإضافة الظرف إليها والمؤمنات فاعل مؤخر ومهاجرات حال والفاء رابطة وجملة امتحنوهنّ لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وهو فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به (اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) الله مبتدأ وأعلم خبر وبإيمانهنّ متعلقان بأعلم لأنه أفعل تفضيل والفاء عاطفة وإن شرطية وعلمتموهنّ فعل الشرط وهو فعل وفاعل ومفعول به أول ومؤمنات مفعول به ثان والفاء رابطة للجواب لأنه جملة طلبية ولا ناهية وترجعوهنّ فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون وإلى الكفّار متعلقان بترجعوهنّ (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) الجملة لا محل لها لأنها تعليلية لقوله فلا ترجعوهنّ، ولا نافية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 68 وهنّ مبتدأ وحلّ خبر ولهم متعلقان بحل ولا هم يحلّون لهنّ عطف على الجملة الآنفة مماثلة لها (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) الواو عاطفة وآتوهم فعل ماض وفاعل ومفعول به والضمير يعود إلى الكفّار أي أعطوا أزواجهنّ الكفّار ما أنفقوا عليهن، وما مفعول به ثان وجملة أنفقوا صلة ما أي ما أنفقوا عليهنّ من المهور (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) الواو عاطفة ولا نافية للجنس وجناح اسمها المبني على الفتح وعليكم خبر لا وأن حرف مصدري ونصب وتنكحوهنّ فعل مضارع منصوب بأن والمصدر المؤول في محل نصب بنزع الخافض أي في أن تنكحوهنّ والجار والمجرور متعلقان بجناح وإذا ظرف متضمن معنى الشرط وجملة آتيتموهنّ في محل جر بإضافة الظرف إلها وأجورهنّ مفعول ثان لآتيتموهنّ (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) الواو عاطفة ولا ناهية وتمسكوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وبعصم الكوافر متعلقان بتمسكوا (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) الواو عاطفة واسألوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وما مفعول به وجملة أنفقتم لا محل لها لأنها صلة ما، وليسألوا الواو عاطفة واللام لام الأمر ويسألوا فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وما مفعول به وجمل أنفقوا صلة (ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ذلكم مبتدأ والاشارة إلى الحكم الوارد في الآيات وحكم الله خبر وجملة يحكم استئنافية أو حالية من حكم الله وبينكم ظرف متعلق بيحكم والله مبتدأ وعليم خبر أول وحكيم خبر ثان (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) الواو عاطفة لتتساوق الأحكام، وإن شرطية وفاتكم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وشيء فاعل فاتكم ومن أزواجكم فيه وجهان أولهما يجوز أن يتعلق بفاتكم أي من جهة أزواجكم ويراد بالشيء المهر الذي غرمه الزوج لأنه ورد أن الرجل المسلم إذا فرّت زوجه إلى الكفار أمر الله المؤمنين أن يعطوه ما غرمه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 69 وثاني الوجهين أنه يتعلق بمحذوف على أنه صفة لشيء ثم يجوز في شيء أن يراد به ما تقدم من المهور ولكن على هذا لا بدّ من حذف مضاف أي من مهور أزواجكم ليتطابق الموصوف وصفته ويجوز أن يراد بالشيء النساء أي نوع وصنف منهنّ، وإلى الكفار متعلقان بمحذوف حال أي ذاهبات أو سابقات، فعاقبتم الفاء عاطفة وعاقبتم فعل وفاعل أي فغزوتم وغنمتم وأصبتموهم في القتال، فآتوا الفاء رابطة وآتوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة في محل جزم جواب الشرط والذين مفعول به وجملة ذهبت أزواجهم صلة ومثل مفعول به ثان وما موصول مضاف لمثل وجملة أنفقوا صلة (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به والذي نعت وأنتم مبتدأ وبه متعلق بمؤمنون ومؤمنون خبر أنتم والجملة لا محل لها لأنها صلة الذي (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً) إذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجمل جاءك في محل جر بإضافة الظرف إليها والكاف مفعول به والمؤمنات فاعل ويبايعنك فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة والنون فاعل والكاف مفعول به والجملة حالية أي حال كونهنّ طالبات للمبايعة وعلى حرف جر وأن وما في حيّزها في محل جر بعلى والجار والمجرور متعلقان بيبايعنك وشيئا مفعول مطلق أي شيئا من الإشراك (وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ) كلام معطوف على أن لا يشركن ومعنى يقتلن أولادهنّ كما كان الحال في زمن الجاهلية من وأد البنات، وببهتان متعلقان بيأتين وجملة يفترينه حالية وبين أيديهنّ وأرجلهنّ الظرف متعلق بمحذوف حال من الضمير المنصوب في يفترينه أي يأتين بولد ملقوط ينسبنه إلى الزوج، وجميل وصفه بصفة الولد الحقيقي فإن الولد متى وضعته أمه سقط بين يديها ورجليها، فبايعهنّ الفاء رابطة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 70 لجواب إذا وجملة بايعهنّ لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الواو عاطفة واستغفر فعل أمر ولهنّ متعلقان باستغفر والله مفعول به وجملة إن الله غفور رحيم تعليل للأمر بالاستغفار (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) كلام مستأنف مسوق لاختتام السورة بمثل ما ابتدأها من النهي عن اتخاذ الكفار أولياء، ولا ناهية وتتولوا فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون وقوما مفعول به وجملة غضب الله عليهم نعت لقوما (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) الجملة نعت ثان لقوما أو حال بعد أن وصف، وقد حرف تحقيق ويئسوا فعل وفاعل ومن الآخرة متعلقان بيئسوا وكما نعت لمصدر محذوف ويئس الكفار فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول الحرفي ومن أصحاب القبور فيه وجهان أحدهما أن من لابتداء الغاية كالأولى والمعنى أنهم لا يوقنون ببعث الموتى البتة فيأسهم من الآخرة كيأسهم من موتاهم لاعتقادهم عدم بعثهم والثاني أن من لبيان الجنس يعني أن الكفّار هم أصحاب القبور فيكون متعلق الجار والمجرور بمحذوف حال ومتعلق يئس الثاني محذوفا والمعنى أن هؤلاء يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار حال كونهم من أصحاب القبور من خير الآخرة. البلاغة: في قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفّار من أصحاب القبور» فن الاستطراد وهو فن رفيع من فنون البيان وقد ذكر الحاتمي أنه نقل هذه التسمية عن البحتري الشاعر وسمّاه ابن المعتز الخروج من معنى إلى معنى ومنه في القرآن المجيد «ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود» فقد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 71 استطرد، وفي الآية التي نحن بصددها ذمّ اليهود واستطرد ذمّهم بذمّ المشركين على نوع حسن من النسبة، والاستطراد في اللغة مصدر استطرد الفارس من قرنه في الحرب وذلك أن يفرّ من بين يديه يوهمه الانهزام ثم يعطف عليه على غرّة منه، وفي الاصطلاح أن تكون في غرض من أغراض الشعر توهم أنك مستمر فيه ثم تخرج منه إلى غيره لمناسبة بينهما ولا بدّ من التصريح باسم المستطرد بشرط أن لا يكون قد تقدم له ذكر ثم ترجع إلى الأول، أو يكون آخر الكلام وقيل إن أول شاهد ورد في هذا النوع وسار مسير الأمثال قول السموأل: وإنّا لقوم لا نرى القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول فانظر إلى خروجه الداخل في الافتخار إلى الهجو وحسن عوده إلى ما كان عليه من الافتخار بقوله: يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول ومنه قول حسان بن ثابت: إن كنت كاذبة الذي حدّثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام فانظر كيف خرج من الغزل إلى هجو الحارث بن هشام وهو أخو أبي جهل أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه ومات يوم اليرموك بالشام، ومنه أيضا قول البحتري من قصيدة في وصف فرس: كالهيكل المبني إلا أنه ... في الحسن جاء كصورة في هيكل ملك العيون فإن بدا أعطيته ... نظر المحب إلى الحبيب المقبل ما إن يعاف قذى ولو أوردته ... يوما خلائق حمدويه الأحول ومثله قول بعضهم يصف خمرا طبخت حتى راقت وصفت: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 72 لم يبق منها وقود الطابخين لها ... إلا كما أبقت الأنواء من داري فما أحلى استطراده من وصف الخمر إلى وصف داره بالخراب. ومن الغريب في هذا الباب الاستطراد من الهجو إلى الهجو كقول جرير يهجو الفرزدق: لها برص بأسفل أسكيتها ... كعنفقة الفرزدق حين شابا الفوائد: اشتملت هذه السورة على فوائد تاريخية وتشريعية نورد منها ما يتعلق بموضوع كتابنا ونحيل القارئ إلى كتب الفقه والتفاسير المطوّلة: 1- روى التاريخ أنه لما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مبايعة الرجال يوم فتح مكّة أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل منه يبايعهنّ بأمره ويبلغهنّ عنه وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان منتقبة متنكرة مع النساء خوفا من رسول الله أن يعرفها لما صنعت بحمزة يوم أحد فقالت: والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيتك أخذته على الرجال وكان قد بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط فقال رسول الله ولا يسرقن فقالت إن أبا سفيان شحيح وإني أصبت من ماله هنات فما أدري أتحلّ لي أم لا فقال أبو سفيان ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها: وإنك لهند بنت عتبة قالت نعم فاعف ما سلف يا نبي الله عفا الله عنك فقال ولا يزنين فقالت أو تزني الحرة؟ وفي رواية: ما زنت منهنّ امرأة فقال عليه الصلاة والسلام: ولا يقتلن أولادهنّ فقالت ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا فأنتم وهم أعلم وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 73 رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: ولا يأتين ببهتان فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق فقال ولا يعصينك في معروف فقالت والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء. 2- ذكروا في كيفية وأد البنات روايات شتى نرى أن أقربها إلى المنطق ما روي عن ابن عباس قال: «كانت المرأة في الجاهلية إذا قربت ولادتها حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة وردّت التراب عليها وإذا ولدت غلاما أبقته، وكان الرجل في الجاهلية إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية أي بنت ست سنين يقول لأمها طيّبيها وزيّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيذهب بها إلى البئر فيقول لها انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 74 (61) سورة الصّفّ مدنيّة وآياتها أربع عشرة [سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) اللغة: (مَقْتاً) قال في الأساس: «مقته مقتا وهو بغض عن أمر قبيح وفيه قيل لنكاح الرجل رابّته: نكاح المقت «إنه كان فاحشة ومقتا» ومقت إلى الناس مقاتة نحو بغض بغاضة وهو ممقوت ومقيت» . (مَرْصُوصٌ) ملزق بعضه على بعض كأنما بني بالرصاص وقيل المرصوص: المتلاحم الأجزاء المستويها وقيل: المعقود بالرصاص وقيل المتضام من تراصّ الأسنان وفي المصباح: «والرص اتصال بعض البناء بالبعض واستحكامه وبابه ردّ» ومن غريب أمر الراء والصاد إذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 75 وقعتا فاء وعينا للكلمة دلّتا على معنى التضام والاستحكام، والتهيؤ للأمر، تقول: رصدته وارتصدته وترصدته: قعدت له على طريقه أترقبه وتراصد الرجلان قال ذو الرمة: يراصدها في جوف حدباء ضيق ... على المرء إلا ما تخرّق حالها وسبع رصيد: يرصد ليثب وأنا لك بالمرصد والمرصاد أي لا تفوتني، وقد أرصدت هذا الجيش للقتال وهذا الفرس للطراد وهذا المال لأداء الحقوق إذا أعددته لذلك وجعلته بسبيل منه، ورصع التاج: حلّاه بكواكب الحلية ورصّع الطائر عشه بالقضبان والريش قارب بعضه من بعض ونسجه وأسنانه مرتصعة مرتصّة وتراصع العصفوران: تسافدا وراصع الطائر أنثاه، ورصف الحجارة ورصّفها وجرى الماء على الرّصف والرّصاف وهي الصخر المرصوف وتراصفوا في الصلاة والقتال وتقول: تراصفوا ثم تقاصفوا ورصف إحدى قدميه إلى الأخرى ضمّها وتراصفت أسنانه تراصفا وهو تنضّدها ومن المجاز: امرأة رصوف ضيقة الهن ورجل رصيف محكم العمل ويقال: أجاب بجواب مترّص حصيف، بين رصيف، ليس بسخيف ولا خفيف، ورصن البناء وغيره رصانة فهو رصين ومن المجاز له رأي رصين، وكلام متين رصين. الإعراب: (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تقدم إعراب هذه الآية في مستهل سورة الحشر فجدد به عهدا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) لم: اللام حرف جر وما اسم استفهام يفيد الإنكار والتوبيخ وقد تقدم أن حرف الجر إذا دخل على ما الاستفهامية حذف ألفها نحو بم وفيم ومم وإلام وعلام وعمّ وحتام وإنما حذفت الألف لأن ما وحرف الجر يشبهان الشيء الواحد وقد وقع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 76 استعمالها كثيرا في كلام المستفهم محذوفة الألف وجاء استعمال الأصل قليلا، والجار والمجرور متعلقان بتقولون وتقولون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وما مفعول به ولا نافية وجملة تفعلون صلة ما (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) كبر فعل ماض أي عظم ومقتا تمييز محوّل عن الفاعل وعند الله الظرف متعلق بمحذوف صفة لمقتا أو حال وأن تقولوا مصدر مؤول في محل رفع فاعل كبر والأصل كبر مقت قولهم أي المقت المترتب على قولهم ما لا يفعلون ويجوز أن يكون كبر من باب نعم وبئس فيكون الفاعل ضميرا مستترا مفسّرا بالتمييز النكرة، وأن تقولوا مبتدأ خبره الجملة قبله لأنه المخصوص بالذم وقد تقدم بحث ذلك كله، وسيأتي المزيد من بحث هذا التركيب في باب البلاغة (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) إن واسمها وجملة يحب خبرها والذين مفعول به وجملة يقاتلون لا محل لها لأنها صلة الموصول وهو فعل مضارع والواو فاعل وفي سبيله متعلقان بيقاتلون وصفا حال من الواو في يقاتلون وكأن واسمها وبنيان خبرها ومرصوص نعت لبنيان والجملة حال ثانية من الضمير في صفا لأنه بمعنى صافّين أنفسهم فهي حال متداخلة. البلاغة: 1- في قوله «كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون» المبالغة والتكرير ولهذا اعتبرت هذه الجملة من أفصح الكلام وأبلغه في معناه لأمور: 1- قصد إلى التعجب بغير صيغة التعجب لتعظيم الأمر في قلوب السامعين لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارق للعادة والنظائر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 77 2- أسند إلى أن تقولوا ونصب مقتا على تفسيره للدلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا مشوب فيه. 3- اختيار لفظ المقت لأنه أشد البغض وأبلغه حتى قيل نكاح المقت كما تقدم في باب اللغة. 4- ثم لم يقتصر على أن جعل البغض كبيرا حتى جعله أشدّه وأفحشه وقوله عند الله أبلغ من ذلك لأنه إذ ثبت كبر مقته عند الله فقد تم كبره وشدّته وانجابت عنه الشكوك. 5- التكرار لقوله ما لا تفعلون وهو لفظ واحد في كلام واحد، ومن فوائد التكرار التهويل والإعظام وإلا فقد كان الكلام مستقلا لو قيل كبر مقتا عند الله ذلك فما إعادته إلا لمكان هذه الفائدة. 2- اندراج الخاص بالعام، وقد ورد النهي العام عن القول غير المؤيد بالفعل والمقصود اندراج الأمر الخاص الذي ورد عقب ذلك وهو قوله: «إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفّا كأنهم بنيان مرصوص» وفي ذكره ذلك عقب النهي العام مباشرة دليل على أن المقت قد تعلق بقول الذين وعدوا الثبات في قتال الكفار فلم يفوا كما تقول للمقترف جرما بعينه لا تفعل ما يلصق العار بك ولا تشاتم زيدا وفائدة مثل هذا النظم النهي عن الشيء الواحد مرتين مندرجا في العموم ومفردا بالخصوص وهو أولى من النهي عنه على الخصوص مرتين فإن ذلك معدود في خير التكرار وهذا لا يتكرر مع ما في التعميم من التعظيم والتهويل. [سورة الصف (61) : الآيات 5 الى 6] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 78 الإعراب: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) كلام مستأنف مسوق لتسلية نبيّه محمد صلّى الله عليه وسلم وتوطينه على الصبر. وإذ مفعول لفعل محذوف تقديره اذكر وجملة قال في محل جر بإضافة الظرف إليها وموسى فاعل ولقومه متعلقان بقال، ولم اللام حرف جر وما اسم استفهام في محل جر باللام وقد تقدم السر في حذف الألف من ما الاستفهامية إذا سبقها حرف جر وتؤذونني فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به والواو حالية وقد حرف تحقيق وإن دخلت على المضارع وإنما عبّر بالمضارع للدلالة على استصحاب الحال وتعلمون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وأني رسول الله أن واسمها وخبرها وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي تعلمون وإليكم متعلقان برسول وجملة وقد تعلمون إلخ في محل نصب حال. والمعنى أن من عظّم الله عظّم رسوله (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الفاء عاطفة ولما رابطة أو حينية وزاغوا فعل وفاعل وجملة أزاغ الله قلوبهم لا محل لها والله مبتدأ وجملة لا يهدي القوم الظالمين خبر (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) الظرف مفعول بفعل محذوف تقديره اذكر وجملة قال في محل جر بإضافة الظرف إليها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 79 وعيسى فاعل وابن مريم بدل من عيسى ويا بني إسرائيل منادى مضاف، ولم يقل يا قوم لأنه لا يمتّ إليهم بنسبة ما دام ليس له أب لأن النسب لا يكون إلا من جهته وإن كانت أمه مريم من أشرفهم نسبا، وإن واسمها ورسول الله إليكم خبرها والجملة مقول القول (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) مصدّقا: حال من الضمير المستكن في رسول الله لتأويله بمرسل ولما متعلقان بمصدقا والظرف متعلق بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول ويدي مضاف لبين وعلامة جره الياء لأنه مثنى ومبشّرا عطف على مصدّقا فهو حال مثله وبرسول متعلقان بمبشّرا وجملة يأتي صفة لرسول ومن بعدي متعلقان بيأتي واسمه مبتدأ وأحمد خبره والجملة صفة ثانية (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) الفاء استئنافية ولما رابطة أو حينية وجاءهم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وبالبيّنات متعلقان بجاءهم وجملة قالوا لا محل لها وجملة هذا سحر مبين من المبتدأ والخبر في محل نصب مقول قولهم. الفوائد: أهل العربية يقولون أن «قد» تصحب الماضي لتقريبه من الحال ومنه قول المؤذّن قد قامت الصلاة وتشتمل المصاحبة للماضي أيضا على معنى التوقع فلذلك قال سيبويه قد فعل جواب لما يفعل وقال الخليل هذا الخبر لقوم ينتظرونه وأما مع المضارع فإنها تفيد التقليل مثل ربما كقولهم إن الكذوب قد يصدق، فإذا كان معناها مع المضارع التقليل وقد دخلت في الآية على مضارع فالوجه أن يكون هذا من الكلام الذي يقصدون به الإفراط فيما ينعكس عنه، وتكون «قد» في هذا المعنى نظير ربما في قوله «ربما يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 80 فإنها في هذا الموضع أبلغ من كم في التكثير فلما أوردت ربما في التكثير على عكس معناه الأصلي في التقليل فكذلك إيراد «قد» هاهنا لتكثير علمهم أي تحقيق تأكيده على عكس معناها الأصلي في التقليل. [سورة الصف (61) : الآيات 7 الى 13] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) الإعراب: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) الواو استئنافية ومن اسم استفهام معناه النفي أي لا أحد في محل رفع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 81 مبتدأ وأظلم خبر وممّن متعلقان بأظلم وجملة افترى صلة لا محل لها وعلى الله متعلقان بافترى والكذب مفعول به، وهو: الواو للحال وهو مبتدأ وجملة يدعى خبر هو والجملة في محل نصب على الحال أي يدعوه ربه على لسان نبيّه إلى الإسلام الذي فيه سعادة الدارين فيجعل مكان إجابته افتراء الكذب على الله ويدعى فعل مضارع مبني للمجهول وإلى الله متعلقان بيدعى (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الله مبتدأ وجملة لا يهدي خبر والقوم مفعول به والظالمين نعت للقوم (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ) يريدون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل، وليطفئوا: ذكر المعربون في هذه اللام أوجها أقواها ثلاثة: 1- أنها مزيدة في مفعول الإرادة قال الزمخشري: «أصله يريدون أن يطفئو كما جاء في سورة براءة وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة توكيدا له لما فيها من معنى الإرادة في قولك جئتك لإكرامك كما زيدت اللام في لا أبا لك تأكيدا لمعنى الإضافة في لا أباك» وقال ابن عطية مؤيدا هذا الرأي: «واللام في ليطفئوا لام مؤكدة دخلت على المفعول لأن التقدير يريدون أن يطفئوا» . 2- أنها لام التعليل والمفعول محذوف أي يريدون إبطال القرآن أو رفع الإسلام أو هلاك الرسول ليطفئوا. 3- أنها بمعنى أن الناصبة وأنها ناصبة للفعل بنفسها، قال الفرّاء: العرب تجعل لام كي في موضع أن في أراد وأمر وإليه ذهب الكسائي أيضا. وعبارة أبي حيان بعد أن أورد قول الزمخشري وابن عطية الآنفي الذكر قال: وما ذكره ابن عطية من أن هذه اللام أكثر ما تلزم المفعول إذا تقدم ليس بأكثر بل الأكثر زيدا ضربت من لزيد ضربت وأما قولهما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 82 إن اللام للتأكيد وأن التقدير أن يطفئوا فالإطفاء مفعول يريدون فليس بمذهب سيبويه والجمهور» . (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) الواو للحال والله مبتدأ ومتمّ خبر ونوره مضاف إليه والجملة حالية من فاعل يريدون أو يطفئوا والواو للحال أيضا ولو شرطية وكره الكافرون فعل وفاعل والجملة حالية من الحالية المتقدمة فهي متداخلة وجواب لو محذوف والتقدير: أتمّه وأظهره (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة أرسل صلة ورسوله مفعول به وبالهدى متعلقان بأرسل أو بمحذوف حال ودين الحق عطف على الهدى واللام للتعليل ويظهره فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والهاء مفعول به والجار والمجرور متعلقان بأرسل وعلى الدين متعلقان بيظهره وكله تأكيد وجملة ولو كره المشركون حال ومفعول كره محذوف أي إظهاره وجواب لو محذوف أيضا والتقدير أظهره (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) هل حرف استفهام معناه الإخبار والإيجاب أي سأدلّكم وإنما أورده في صيغة الاستفهام تشويقا وإلهابا للرغبة، وأدلكم فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وعلى تجارة متعلقان بأدلكم وجملة تنجيكم صفة لتجارة ومن عذاب متعلقان بتنجيكم وأليم صفة لعذاب، وسيأتي حديث نزولها الممتنع في باب الفوائد (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) الجملة خبر لمبتدأ محذوف أي هي تؤمنون أو مستأنفة في جواب سؤال مقدّر كأنه قيل ما هي التجارة؟ وتؤمنون فعل مضارع مرفوع ولكنه بمعنى الأمر ويدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا، وفائدة العدول عن الأمر إلى الإخبار الإشعار بوجوب الامتثال وكأنهم امتثلوا فهو يخبر عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 83 إيمان وجهاد موجودين، وبالله متعلقان بتؤمنون ورسوله عطف على بالله وتجاهدون عطف على تؤمنون وفي سبيل الله متعلقان بتجاهدون أو بمحذوف حال وبأموالكم متعلقان بتجاهدون وأنفسكم عطف على أموالكم (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ذلكم مبتدأ وخير خبر ولكم متعلقان بخير وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط وجملة تعلمون خبر كنتم وجواب الشرطية محذوف تقديره فافعلوه وحذف مفعول تعلمون اختصارا للعلم به أي أنه خير لكم (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) يغفر فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب المفهوم من قوله تؤمنون كما تقدم وقيل جواب شرط مقدّر أي إن تفعلوه يغفر وعبارة أبي البقاء: «يغفر لكم في جزمه وجهان أحدهما هو جواب شرط محذوف دلّ عليه الكلام تقديره إن تؤمنوا يغفر لكم وتؤمنون بمعنى آمنوا والثاني هو جواب لما دلّ عليه الاستفهام والمعنى هل تقبلون إن دللتكم، وقال الفرّاء هو جواب الاستفهام على اللفظ وفيه بعد لأن دلالته إياهم لا توجب المغفرة» . وعبارة الزمخشري «فإن قلت هل لقول الفرّاء أنه جواب هل أدلكم وجه؟ قلت وجهه أن متعلق الدلالة هو التجارة والتجارة مفسّرة بالإيمان والجهاد فكأنه قيل: هل تتجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم» وتعقبه ابن المنير فقال: «إنما وجه إعراب الفرّاء بما ذكر لأنه لو جعله جوابا لقوله هل أدلكم فإنكم إن أدلكم على كذا وكذا أغفر لكم فتكون المغفرة حينئذ مترتبة على مجرد دلالته إياهم على الخير وليس كذلك إنما تترتب المغفرة على فعلهم لما دلّهم عليه لا على نفس الدلالة فليس أوّل هل أدلكم على تجارة بتأويل هل تتجرون بالإيمان والجهاد حتى تكون المغفرة مترتبة على فعل الإيمان والجهاد لا على الدلالة وهذا التأويل غير محتاج إليه فإن حاصل الكلام إذا صار إلى هل أدلكم أغفر لكم التحق ذلك بأمثال قوله تعالى: «قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة» فإنه رتب فعل الصلاة على الأمر بها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 84 حتى كأنه قال فإنك إن تقل لهم أقيموا يقيموها» (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ويدخلكم عطف على يغفر والكاف مفعول به وجنات مفعول به ثان على السعة وجملة تجري نعت لجنات ومن تحتها متعلقان بتجري والأنهار فاعل (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) ومساكن عطف على جنات وطيبة نعت لمساكن وفي جنات عدن نعت ثان (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ذلك مبتدأ والإشارة إلى المغفرة وإدخال الجنات والفوز خبر والعظيم نعت للفوز (وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) الواو حرف عطف وأخرى مبتدأ مؤخر وخبره المقدم محذوف أي لكم نعمة أو مثوبة أخرى ويجوز أن يكون منصوبا على إضمار فعل تقديره ويمنحكم أخرى وجملة تحبونها صفة لأخرى أو منصوبا بفعل مضمر يفسره تحبونها فيكون من باب الاشتغال وحينئذ لا تكون جملة تحبونها صفة لأنها مفسّرة للعامل قبل أخرى ونصر خبر لمبتدأ محذوف أي تلك النعمة الأخرى نصر من الله أو بدل من أخرى إذا أعربته مبتدأ ومن الله نعت لنصر وفتح عطف على نصر وقريب نعت، وبشّر الواو عاطفة وبشّر فعل أمر وهو معطوف على تؤمنون لأنه في معنى الأمر كما تقدم. البلاغة: وفي قوله «يريدون ليطفئوا نور الله» استعارة تمثيلية تمثيلا لحالتهم في اجتهادهم في إبطال الحق بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئها تهكما وسخرية بهم، وقيل الاستعارة تصريحية والإطفاء ترشيح. الفوائد: قال مقاتل نزلت هذه الآية وهي «يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 85 على تجارة تنجيكم من عذاب أليم» إلى قوله «وبشّر المؤمنين» في عثمان بن مظعون وذلك أنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم لو أذنت لي فطلّقت خولة وترهبت واختصيت وحرمت اللحم ولا أنام الليل أبدا ولا أفطر نهارا أبدا فقال صلّى الله عليه وسلم: إن من سنّتي النكاح ولا رهبانية في الإسلام إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله وخصاء أمتي الصوم ولا تحرموا طيّبات ما أحلّ لكم ومن سنّتي أنام وأقوم وأفطر وأصوم فمن رغب عن سنّتي فليس منّي فقال عثمان وددت يا نبي الله أن أعلم أيّ التجارات أحبّ إلى الله فأتجر فيها فنزلت. [سورة الصف (61) : آية 14] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14) الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ) كونوا فعل أمر ناقص والواو اسمها وأنصار الله خبرها ولفظ الجلالة مضاف لأنصار وقرىء أنصارا لله فيكون لله نعتا لأنصارا (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ) اختلف المعربون في هذه الكاف اختلافا كثيرا وحاصل ما ذكروه أنها تحتمل ثلاثة أوجه: 1- في موضع نصب على إضمار القول أي قلنا لهم ذلك كما قال عيسى. 2- أنها نعت لمصدر محذوف قيل وفيه نظر إذ لا يؤمرون بأن يكونوا كونا. 3- أنه كلام محمول على معناه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 86 دون لفظه وإليه نحا الزمخشري فإنه قال: «فإن قلت ما وجه صحة التشبيه وظاهره تشبيه كونهم أنصارا بقول عيسى من أنصاري إلى الله؟ قلت: التشبيه محمول على المعنى وعليه يصحّ والمراد كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم من أنصاري إلى الله» . وقد تقدم في آل عمران معنى أنصاري إلى الله وتعدّي هذا اللفظ بإلى. ومن اسم استفهام مبتدأ وأنصاري خبر وإلى الله متعلقان بمحذوف حال أي متوجها إلى نصر الله وفيما يلي نص عبارة الزمخشري: «فإن قلت: ما معنى قوله من أنصاري إلى الله قلت: يجب أن يكون معناه مطابقا لجواب الحواريين بقولهم نحن أنصار الله والذي يطابقه أن يكون المعنى من جندي متوجها إلى نصرة الله وإضافة أنصاري خلاف إضافة أنصار الله فإن معنى نحن أنصار الله نحن الذين ينصرون الله ومعنى من أنصاري من الأنصار الذين يختصّون بي ويكونون معي في نصرة الله ولا يصحّ أن يكون معناه من ينصرني مع الله لأنه لا يطابق الجواب والدليل عليه قراءة من قرأ: من أنصار الله» (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ) قال الحواريون فعل وفاعل والحواريون أصفياؤه وهم أول من آمن وتقدم القول في هذا اللفظ مفصلا، ونحن مبتدأ وأنصار الله خبر والجملة مقول القول وهو من إضافة الوصف إلى مفعوله أي نحن الذين ننصر الله أي دنيه (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) الفاء عاطفة على جمل محذوفة لا بدّ من تقديرها أي فلما رفع عيسى إلى السماء افترق الناس فيه فرقتين فآمنت طائفة، وطائفة فاعل آمنت ومن بني إسرائيل نعت لطائفة وكفرت طائفة عطف على فآمنت طائفة (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) الفاء عاطفة على محذوف أيضا أي فاقتتلت الطائفتان، وأيدنا فعل وفاعل والذين مفعول به وجملة آمنوا صلة وعلى عدوهم متعلقان بأيدنا فأصبحوا عطف على فأيدنا والواو اسمها وظاهرين خبرها أي غالبين قاهرين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 87 (62) سورة الجمعة مدنيّة وآياتها إحدى عشرة [سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) اللغة: (الْقُدُّوسِ) بضم القاف وتشديد الدال من أسماء الله تعالى ويفتح أي الطاهر أو المبارك وكل فعول مفتوح غير قدوس وسبوح وذرّوح وفرّوج فبالضم ويفتحن. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 88 (أَسْفاراً) جمع سفر بكسر السين وهو الكتاب الكبير لأنه يسفر ويكشف إذا قرىء عمّا فيه من المعاني. الإعراب: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) يسبّح فعل مضارع مرفوع ولله متعلقان به أو اللام زائدة في المفعول وما فاعل وغلب الأكثر على الأقل وفي السموات متعلقان بمحذوف هو الصلة للموصول وما في الأرض عطف على ما في السموات وما بعده صفات أو بدل من الله (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة بعث صلة الذي وفي الأميّين متعلقان ببعث وقد تقدم القول مسهبا في معنى الأميين في آل عمران ورسولا مفعول بعث ومنهم نعت رسولا (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) جملة يتلو نعت ثان أو حال وعليهم متعلقان بيتلو وآياته مفعول به ويزكيهم عطف على يتلو وهو فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به ويعلمهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول والكتاب مفعول به ثان والحكمة عطف على الكتاب (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الواو حالية وإن مخففة من الثقيلة مهملة وكانوا فعل ماض ناقص والواو اسمها ومن قبل حال واللام الفارقة المختصّة بإن المخفّفة وفي ضلال خبر كانوا ومبين نعت لضلال (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الواو عاطفة وآخرين مجرور عطفا على الأميّين أي وبعثه في آخرين من الأميّين أو منصوب عطفا على الضمير المنصوب في يعلمهم أي ويعلم آخرين لم يلحقوا بهم ومنهم حال من آخرين أي حال كون الآخرين من مطلق الأميين ولما حرف نفي وجزم ويلحقوا فعل مضارع مجزوم بلما وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 89 والجملة نعت لآخرين، والواو استئنافية وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والحكيم خبر ثان (ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ذلك مبتدأ والإشارة إلى الأمر العظيم وهو كون الرسول وقومه مفضلين على غيرهم وفضل الله خبر ويؤتيه فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو والهاء مفعول به والجملة في محل رفع خبر ثان لذلك ومن مفعول به ثان وجملة يشاء صلة من والله مبتدأ وذو الفضل خبر والعظيم نعت للفضل (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) كلام مستأنف مسوق لضرب المثل لليهود عند ما تركوا العمل بالتوراة ولم يؤمنوا بمحمد ومثل مبتدأ والذين مضاف إليه وجملة حملوا صلة للذين وحملوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل والتوراة مفعول به ثان، ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ولم حرف نفي وقلب وجزم ويحملوها فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به ومعنى الحمل هنا ليس من الحمل على الظهر وإنما هو من الحمالة، والحميل هو الكفيل قال في المختار: «حمل بدين ودية من باب ضرب حمالة بفتح الحاء أي كفل وحمل الرسالة تحميلا كلفه حملها وتحمل الحمالة حملها» وكمثل الحمار خبر مثل وجملة يحمل أسفارا في محل نصب على الحال من الجار وأجازوا أن تكون في محل جر نعتا للحمار لجريانه مجرى النكرة إذ المراد به الحبس فهو من وادي قوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمت قلت لا يعنيني وسيأتي المزيد من بحث هذا التشبيه في باب البلاغة وأسفارا مفعول به (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ) بئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم ومثل القوم فاعل بئس والذين صفة وجملة كذبوا صلة وبآيات الله متعلقان بكذبوا والمخصوص بالذم محذوف أي هذا المثل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 90 (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الله مبتدأ وجملة لا يهدي خبر والقوم مفعول به والظالمين نعت للقوم. البلاغة: في قوله «مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا» تشبيه تمثيلي فقد شبّه اليهود حيث لم ينتفعوا بما في التوراة من الدلالة على الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلم والإلماع إلى بعثته بالحمار الذي يحمل الكتب ولا يدري ما فيها ووجه الشبه عدم الانتفاع بما هو حاصل وكائن فالحمار يمشي في طريقه وهو لا يحسّ بشيء مما يحمله على ظهره إلا بالكد والتعب وكذلك اليهود قرءوا التوراة وحفظوها ثم أشاحوا عمّا انطوت عليه من دلائل وإرهاصات على نبوّة محمد بن عبد الله. [سورة الجمعة (62) : الآيات 6 الى 11] قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 91 الإعراب: (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يا أيها الذين تقدم إعرابها كثيرا وجملة هادوا صلة وهو فعل ماض مبني على الضم والواو فاعل أي اتخذوا اليهودية دينا وإن شرطية وزعمتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وأن وفي حيّزها سدّت مسدّ مفعولي زعمتم وأن واسمها وأولياء الله خبرها ولله متعلقان بمحذوف نعت لأولياء أو بنفس أولياء ومن دون الناس نعت ثان أو حال والفاء رابطة للجواب لأنه جملة طلبية وتمنّوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والموت مفعول به وإن شرطية وكان واسمها وخبرها والجواب محذوف أي فتمنّوه (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) الواو حرف عطف ولا نافية ويتمنّونه فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والهاء مفعول به وأبدا ظرف متعلق بيتمنّونه وبما متعلقان بما في معنى النفي لأنها سبب لنفي التمنّي وجملة قدّمت صلة وأيديهم فاعل والله مبتدأ وعليم خبر وبالظالمين متعلقان بعليم (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) قل فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت وإن واسمها والذي نعت للموت وجملة تفرّون صلة ومنه متعلقان بتفرّون والفاء رابطة لما تضمنه الموصول من معنى الشرط، وإن واسمها وملاقيكم خبرها وجملة فإنه ملاقيكم خبر إن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 92 الأولى وقد منع هذا قوم منهم الفرّاء وجعلوا الفاء زائدة وقيل الخبر هو نفس الذي وما بعده استئناف كأنه قيل إن الموت هو الشيء الذي تفرّون منه وإلى هذا نحا الزمخشري وتؤيده قراءة زيد بن علي بدون فاء (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وتردّون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وإلى عالم الغيب متعلقان بتردّون، فينبئكم عطف على تردّون وبما في موضع نصب مفعول ينبئكم الثاني وجملة كنتم صلة لا محل لها وجملة تعملون خبر كنتم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب بجوابه وجملة نودي في محل جر بإضافة الظرف إليها وللصلاة متعلقان بنودي ومن يوم الجمعة متعلقان بمحذوف حال لأنها بمثابة البيان لإذا والتفسير لها قال الزمخشري: «فإن قلت «من» في قوله من يوم الجمعة ما هي قلت هي بيان لإذا وتفسير له» وسيأتي القول في الجمعة في باب الفوائد مسهبا، وقال أبو البقاء: «أن «من» بمعنى في» أي في يوم الجمعة فتتعلق بنودي، والنداء يراد به هنا الأذان والفاء رابطة لجواب إذا، واسعوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وإلى ذكر الله متعلقان باسعوا وذروا فعل أمر والواو فاعل والبيع مفعول به (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ذلكم مبتدأ والإشارة إلى ما ذكر من السعي وترك الاشتغال بأمور الدنيا وخير خبر ولكم متعلقان بخير وإن شرطية وكنتم فعل الشرط وجملة تعلمون خبر كنتم وجواب إن محذوف دلّ عليه ما قبله (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة قضيت في محل جر بإضافة الظرف إليها والصلاة نائب فاعل والفاء رابطة وانتشروا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة لا محل لها وفي الأرض الجزء: 10 ¦ الصفحة: 93 متعلقان بانتشروا وابتغوا عطف على فانتشروا ومن فضل الله متعلقان بابتغوا (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) واذكروا عطف على فانتشروا ولفظ الجلالة مفعول به وكثيرا نعت لمصدر محذوف أو ظرف زمان ولعلّ واسمها وجملة تفلحون خبرها (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) عطف على ما تقدم وجملة انفضّوا إليها لا محل لها وقال الزمخشري: «فإن قلت كيف قال إليها وقد ذكر شيئين قلت: تقديره إذا رأوا تجارة انفضّوا إليها أو لهوا انفضوا إليه فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه» وتركوك فعل ماض وفاعل ومفعول به وقائما مفعول به ثان ويجوز إعرابه حالا وجملة تركوك قائما حالية من فاعل انفضّوا وقد مقدّرة ولك أن تجعلها معطوفة منسوقة على سوابقها (قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ما اسم موصول في محل رفع مبتدأ وعند الله ظرف متعلق بمحذوف هو الصلة وخير خبر ومن اللهو متعلقان بخير ومن التجارة عطف على من اللهو والله مبتدأ وخير الرازقين خبر. الفوائد: قرأ العامة الجمعة بضمتين وقرأ ابن الزبير وزيد بن علي وأبو حيان وأبو عمرو في رواية بسكون الميم فقيل هي لغة في الأولى وسكنت تخفيفا وهي لغة تميم وقيل هو مصدر بمعنى الاجتماع وقل لما كان بمعنى الفعل صار كرجل هزأة أي يهزأ به فلما كان في الجمعة معنى التجمع سكن لأنه مفعول به في المعنى أو يشبهه وكانت العرب تسمّيه العروبة وقيل سمّاه كعب بن لؤي لاجتماع الناس فيه وإليه وفي الكشاف: «وقيل إن الأنصار قالوا لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك فهلمّوا نجعل لنا يوما نجتمع فيه فنذكر الله فيه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 94 ونصلي فقالوا يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة فصلّى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسمّوه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه فأنزل الله آية الجمعة فهي أول جمعة كانت في الإسلام وأما أول جمعة جمعها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فهي أنه لما قدم المدينة مهاجرا نزل قباء على بني عمرو بن عوف وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسّس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة عامدا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فخطب وصلّى الجمعة، وعن بعضهم: أبطل الله قول اليهود في ثلاث: افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه فكذبهم في قوله: «فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين» وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبّههم بالحمار يحمل أسفارا وبالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة. هذا ومن يرد الإطالة والإفاضة فليراجع كتب السنّة والفقه ومطولات التفاسير. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 95 (63) سورة المنافقون مدنيّة وآياتها إحدى عشرة [سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) الإعراب: (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه وجملة جاءك في محل جر بإضافة الظرف إليها والمنافقون فاعل جاءك وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب الشرط وهي عاملة في الظرف وجملة نشهد مقول القول وإن واسمها وكسرت همزة إن لدخول اللام المزحلقة على خبرها ورسول الله خبر إن. ومعنى نشهد نحلف فهو يجري مجرى القسم (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) الواو للاعتراض والله مبتدأ وجملة يعلم خبر والجملة معترضة بين قولهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 96 نشهد إنك لرسول الله وبين قوله والله يشهد، وإن واسمها واللام المزحلقة ورسوله خبر وإن وما بعدها سدّت مسدّ مفعولي يعلم وإنما كسرت همزتها لوقوع اللام داخلة على الخبر والله مبتدأ وجملة يشهد خبر وإن واسمها واللام المزحلقة وكاذبون خبرها (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) اتخذوا فعل وفاعل وأيمانهم مفعول به أول وهو جمع يمين وجنة مفعول به ثان أي وقاية وترسا والجملة مستأنفة مسوقة لبيان كذبهم وحلفهم عليه وعبّر عن الحلف بالشهادة لأن كل واحد منهما إثبات لأمر معين والفاء عاطفة وصدّوا فعل وفاعل وعن سبيل الله متعلقان بصدّوا (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) إن واسمها وجملة ساء خبر وما فاعل ساء وجملة كانوا صلة وكان واسمها وجملة يعملون خبر كان (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) ذلك مبتدأ والباء حرف جر وأن ومدخولها في محل جر بالباء والجار والمجرور خبر ذلك أي بسبب إيمانهم ثم كفرهم والفاء حرف عطف وطبع فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وعلى قلوبهم متعلقان بطبع والفاء حرف عطف وهم مبتدأ وجملة لا يفقهون خبر. [سورة المنافقون (63) : الآيات 4 الى 6] وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 97 الإعراب: (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) الواو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة رأيتهم في محل جر بإضافة الظرف إليها والظرف متعلق بالجواب وهو تعجبك وجملة تعجبك أجسامهم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والواو عاطفة وإن شرطية ويقولوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل وتسمع جواب الشرط ولقولهم متعلقان بتسمع ولا بدّ من تضمين تسمع معنى تصغي وتميل تبريرا لتعديته باللام (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) الجملة مستأنفة أو خبر لمبتدأ محذوف أو حالية من الضمير في قولهم، وكأن واسمها وخبرها ومسندة نعت لخشب وفي المصباح» الخشب معروف الواحدة خشبة والخشب بضمتين وإسكان الثاني» (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) الجملة مستأنفة أيضا ويحسبون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وكل صيحة مفعول به أول وعليهم متعلقان بمحذوف مفعول به ثان ليحسبون أي كائنة عليهم وهم مبتدأ والعدو خبر والجملة مستأنفة والفاء الفصيحة أي إن عرفت صفتهم وماهية أحوالهم فاحذرهم، ويجوز أن يكون المفعول الثاني ليحسبون قوله هم العدو ويكون قوله عليهم متعلقان بصيحة أو صفة لها (قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) قاتلهم فعل ومفعول به والله فاعل وأنّى بمعنى كيف فهو اسم استفهام في موضع نصب على الحال ويؤفكون فعل مضارع مبني للمجهول. ومعنى قاتلهم الله لعنهم (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل وجملة قيل في محل جر بالإضافة إليها ونائب الفاعل مستتر ولهم متعلقان بقيل وتعالوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 98 فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة مقول القول ويستغفر جواب الأمر مجزوم بالسكون، ولكم متعلقان بيستغفر ورسول الله فاعل والواو فعل ماض والواو فاعل وقرىء بالتخفيف أي عطفوا رؤوسهم وأمالوها ورءوسهم مفعول به والجملة لا محل لها لأنها جواب إذا. وعبارة السمين «وهذه المسألة عدّها النحاة من الأعمال وذلك أن تعالوا يطلب رسول الله مجرورا بإلى أي تعالوا إلى رسول الله ويستغفر يطلبه فاعلا فأعمل الثاني ولذلك رفعه وحذف الأول إذ التقدير تعالوا إليه ولو أعمل الأول لقيل إلى رسول الله فيضمر في يستغفر فاعل ويمكن أن يقال ليست هذه من الأعمال في شيء لأن قوله تعالوا أمر بالإقبال من حيث هو لا بالنظر إلى مقبل عليه» (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) الواو عاطفة ورأيتهم فعل ماض وفاعل ومفعول به والرؤية بصرية وجملة يصدّون حال من الهاء في رأيتهم وجملة وهم مستكبرون حال من الواو في يصدّون (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) سواء خبر مقدّم وعليهم متعلقان بسواء والهمزة للتسوية وقد تقدم بحثها وهي مؤولة مع ما بعدها بمصدر مبتدأ مؤخر وقد استغنى بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل أي سواء استغفارك وعدمه، ولهم متعلقان باستغفرت وأم هي المعادلة لهمزة التسوية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتستغفر فعل مضارع مجزوم بلم ولهم متعلقان بتستغفر (لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) لن حرف نفي ونصب واستقبال ويغفر فعل مضارع منصوب بلن والله فاعل ولهم متعلقان بتغفر وإن واسمها وجملة لا يهدي خبرها والقوم مفعول به والفاسقين نعت. البلاغة: في قوله: كأنهم خشب مسنّدة تشبيه مرسل تمثيلي فالمشبه هم أي رؤساء المنافقين من المدينة وكانوا يحضرون مجلس النبي صلّى الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 99 عليه وسلم ويستندون فيه إلى الجدر وكان النبي ومن حضر يتعجبون من هياكلهم المنصوبة، والمشبه به هو الخشب المنصوبة المسندة إلى الحائط، ووجه الشبه كون الجانبين أشباحا خالية عن العلم والنظر على حدّ قول حسان: لا بأس بالقوم من طول ومن عظم ... جسم البغال وأحلام العصافير وفي قوله: «يحسبون كل صيحة عليهم» تشبيه تمثيلي أيضا أي أنهم لجبنهم وهلع نفوسهم واضطراب قلوبهم إذا نادى مناد في المعسكر أو انفلتت دابة أو أنشدت ضالة وجفت قلوبهم، وزايلهم رشدهم وحسبوا أن هناك شرّا يتربص بهم وكيدا ينتظر الإيقاع بأرواحهم، وقد رمق الأخطل سماء هذا المعنى فقال: ما زلت تحسب كلّ شيء بعدهم ... خيلا تكرّ عليهم ورجالا يقول الأخطل: لا زلت يا جرير تظن كل شيء بعد خذلان قومك خيلا تكرّ أي ترجع بسرعة عليهم لكثرة ما يساورك من الخوف، وغلا المتنبي في هذا المعنى فقال: وضاقت الأرض حتى صار هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا ويمكن أن يقال أن وجه الشبه هو عزوب أحلامهم وفراغ قلوبهم من الإيمان ولم يكتف بالتشبيه بالخشب بل جعلها مسندة إلى الحائط للانتفاع بها لأنها إذا كانت في سقف أو مكان ينتفع بها. [سورة المنافقون (63) : الآيات 7 الى 11] هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 100 الإعراب: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) كلام مستأنف جار مجرى التعليل لفسقهم، وهم مبتدأ والذين خبر وجملة يقولون صلة الذين ولا الناهية وتنفقوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والجملة مقول القول وعلى من جار ومجرور متعلقان بتنفقوا والظرف متعلق بمحذوف لا محل له من الإعراب لأنه صلة من ورسول الله مضاف إليه وحتى حرف تعليل ونصب وينفضّوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والمعنى لأجل أن ينفضّوا أي يذهب كل واحد منهم لطيته وشغله (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الواو حالية ولله خبر مقدم وخزائن السموات والأرض مبتدأ مؤخر والجملة نصب على الحال (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) لكن واسمها وجملة لا يفقهون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 101 خبرها (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) كلام معطوف في المعنى على يقولون قبله لأن سبب المقالتين واحد واللام موطئة للقسم وإن شرطية ورجعنا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وإلى المدينة متعلقان برجعنا، واللام واقعة في جواب القسم ويخرجن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وجوبا والأعزّ فاعله والأذل مفعوله، أرادوا بالأعز أنفسهم وبالأذل محمدا صلّى الله عليه وسلم، ومنها متعلقان بيخرجن (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) الواو حالية ولله خبر مقدم والعزّة مبتدأ مؤخر ولرسوله عطف على لله، ولكن الواو عاطفة ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) يا حرف نداء للمتوسط وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب والهاء للتنبيه والذين بدل وجملة آمنوا صلة ولا ناهية وتلهكم فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف حرف العلة وأموالكم فاعل ولا أولادكم عطف على أموالكم وعن ذكر الله متعلقان بتلهكم (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وذلك مفعول به والفاء رابطة لجواب الشرط وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ ثان أو ضمير فصل والخاسرون خبر أولئك أو خبرهم والجملة خبر أولئك وجملة فأولئك إلخ في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) الواو عاطفة وأنفقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ومما متعلقان بأنفقوا ومن تبعيضية والمراد الإنفاق الواجب وجملة رزقناكم لا محل لها لأنها صلة ومن قبل حال وأن وما في حيّزها في تأويل مصدر مجرور بالإضافة وأحدكم مفعول به مقدّم والموت مبتدأ مؤخر (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) الفاء العاطفة السببية لأنه مسبّب عن أن يأتي، ويقول الجزء: 10 ¦ الصفحة: 102 فعل مضارع معطوف على أن يأتي والفاعل مستتر يعود على أحدكم ولولا تحضيضية بمعنى هلّا وأخّرتني فعل ماض مبني على السكون ولكنه بمعنى المضارع لأن لولا التحضيضية تختص بالماضي المؤول بالمضارع إذ لا معنى لطلب التأخير في الزمن الماضي والتاء فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به وإلى أجل متعلقان بأخّرتني وقريب نعت والفاء في فأصدّق عاطفة وأكن فعل مضارع مجزوم بالعطف على محل فأصدّق فكأنه قيل إن أخّرتني أصدّق وأكن، وقرىء بنصب أكون وإثبات الواو فتكون الواو للسببية وأصدّق منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية في جواب الطلب أي التحضيض، واسم أكن مستتر تقديره أنا ومن الصالحين خبرها (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة والكلام معطوف على مقدّر أي فلا يؤخر هذا الأحد المتمنّي لأنه لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها أية كانت. ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويؤخر فعل مضارع منصوب بلن والله فاعل ونفسا مفعول به وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة جاء أجلها في محل جر بإضافة الظرف إليها والجواب محذوف دلّ عليه ما قبله أي فلن يؤخر نفسا حان حينها والله مبتدأ وخبير خبر وبما متعلقان بخبير وجملة تعملون صلة ما وقرىء يعملون بالياء. البلاغة: في قوله «يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل» فن يسمى القول بالموجب، وهو أن يخاطب المتكلم مخاطبا بكلام فيعمد المخاطب إلى كل كلمة مفردة من كلام المتكلم فيبني عليها من كلامه وما يوجب عكس معنى المتكلم لأن حقيقة القول بالموجب ردّ الخصم كلام خصمه من فحوى كلامه فإن موجب قول الجزء: 10 ¦ الصفحة: 103 المنافقين الآنف الذكر في الآية إخراج الرسول المنافقين من المدينة وقد كان ذلك، ألا ترى أن الله تعالى قال على إثر ذلك: «ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون» ومن أمثلته قول ابن حجاج البغدادي: قلت: ثقلت إذ أتيت مرارا ... قال: ثقلت كاهلي بالأيادي قلت: طولت قال لي: بل تطو ... لت وأبرمت قال: حبل ودادي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 104 (64) سورة التغابن مدنيّة وآياتها ثمانى عشرة [سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) الإعراب: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يسبّح فعل مضارع مرفوع ولله متعلقان بيسبّح أو اللام زائدة في المفعول وقد تقدم القول فيها وما فاعل وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة ما وما في الأرض عطف على ما في السموات (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) له خبر مقدّم والملك مبتدأ مؤخر والجملة حال وله الحمد عطف على له الملك وهو مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بقدير وقدير خبر هو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 105 (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة خلقكم صلة والفاء عاطفة ومنكم خبر مقدم وكافر مبتدأ مؤخر ومنكم مؤمن عطف على فمنكم كافر (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) الواو عاطفة والله مبتدأ وبما متعلقان ببصير وجملة تعملون صلة وبصير خبر الله (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) خلق فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله والسموات مفعول به والأرض عطف على السموات وبالحق حال أي ملتبسا بالحق فالباء للملابسة (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) الواو عاطفة وصوركم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به، فأحسن عطف على وصوركم، وصوركم مفعول به وإليه خبر مقدّم والمصير مبتدأ مؤخر (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) يعلم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى وما مفعول به وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة ما وما في الأرض عطف، ويعلم ما تسرّون وما تعلنون عطف أيضا. البلاغة: 1- في قوله «له الملك وله الحمد» التقديم فقد قدّم الخبر فيهما للدلالة على اختصاص الأمرين به تعالى. 2- وفي الآيات المتقدمة الطباق بين السموات والأرض وبين كافر ومؤمن وبين تسرّون وتعلنون. 3- وللزمخشري سؤال وجواب في منتهى الطرافة ننقلهما فيما يلي: «فإن قلت: كيف أحسن صورهم؟ قلت جعلهم أحسن الحيوان كله وأبهاه بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور، ومن حسن صورته أنه خلق منتصبا غير منكب كما قال عزّ وجلّ: في أحسن تقويم، فإن قلت: فكم من دميم مشوّه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 106 الصورة سمج الخلقة تقتحمه العيون؟ قلت لا سماجة ثم ولكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب فلانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقها انحطاطا بيّنا وإضافتها إلى الموفي عليها لا تستملح وإلا فهي داخلة في حيز الحسن غير خارجة عن حدّه ألا ترى أنك قد تعجب بصورة وتستملحها ثم ترى أملح وأعلى في مراتب الحسن منها فينبو عن الأولى طرفك وتستثقل النظر إليها بعد افتنانك بها وتهالكك عليها، وقالت الحكماء: شيئان لا غاية لهما الجمال والبيان» . [سورة التغابن (64) : الآيات 5 الى 10] أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 107 اللغة: (وَبالَ أَمْرِهِمْ) الوبال في الأصل الثقل ومنه الوبيل للطعام الذي يثقل على المعدة والوابل للمطر الثقيل ثم استعير للعقوبة لأنها كالشيء الثقيل المحسوس، وفي معاجم اللغة: الوبال مصدر وبل يقال وبل من باب ظرف يوبل وبلا ووبالا ووبولا ووبالة المكان وخم والشيء اشتد ووبل من باب ضرب يبل وبلا فلانا بالعصا ضربه ضربا متتابعا والصيد طرده طردا شديدا ووبلت السماء أمطرت الوبل واستوبل استيبالا المكان استوخمه واستوبلت الإبل تمارضت من وبال مرتعها. (زَعَمَ) الزعم ادّعاء العلم وهو يتعدى إلى مفعولين ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «زعموا مطية الكذب» وعن شريح: لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا، والأكثر في زعم وقوعه على أن بتخفيف النون أو أن بتشديدها مع فتح الهمزة فيهما. (التَّغابُنِ) تفاعل من الغبن وليس من اثنين بل هو من واحد كتواضع وتحامل، والغبن أخذ الشيء بدون قيمته أو بيعه كذلك وقيل الغبن: الخفاء ومنه غبن البيع لاستخفائه يقال غبن الثوب وخبنته إذا أخذت ما طال منه عن مقدارك فمعناه النقص، وسيأتي المزيد من بحث التغابن في باب البلاغة. هذا وللغين مع الباء فاء وعينا للكلمة خاصة الدلالة على الخفاء والغياب والاستسرار: يقال لحم غاب أي بائت وفيه معنى الخفاء، وسمّيت الغابة لأنها تخفي من تضمّه لاكتظاظها بالأشجار وزرته غبا أي حينا بعد حين ولا يخفى ما فيه من الخفاء عن صاحبه قال حميد بن ثوب: زور مغب ومأمول أخو ثقة ... وسائر من ثناء الصدق مشهور الجزء: 10 ¦ الصفحة: 108 وتقول: الحب يزيد مع الإغباب وينقص مع الإكباب وماء غب ومياه أغباب أي بعيدة لا يوصل إليها إلا بعد غب والمغبة عاقبة الشيء وهي خافية لا تعلم إلا بالظنون، والغابر الماضي ولا امتراء في غيبته وهو يأتي بمعنى الباقي فهو من الأضداد واغبرّ بتشديد الراء صار أغبر واليوم اشتد غباره ويقال للذين ينشدون الشعر بالألحان فيطرّبون ويرقصون ويرهجون: المغبّرة ولتطريبهم التغبير ومن عادتهم الاختفاء والاستسرار وعن الشافعي: أرى الزنادقة وضعوا هذا التّغبير ليصدّوا الناس عن ذكر الله وقراءة القرآن وجاء على ظهر الغبراء والغبيراء أي على ظهر الأرض يعني راجلا «وما أظلّت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر» ويقال للمحاويج: بنو الغبراء قال طرفة: رأيت بني الغبراء لا ينكرونني ... ولا أهل هذاك الطراف الممدّد وزففن إليّ ذئبة غبساء وتقول: لن يبلغ دبيس ما غبا غبيس وهو علم للجدي سمّي لخفائه، وخرج في الغبش ونحن في أغباش الليل وهي بقاياه وفلان يتغبش الناس أي يظلمهم وبديه أنه لن يبادهم بالظلم مبادهة، وغبط الكبش جسّ ظهره ليعرف سمنه وغبطه من بابي ضرب وعلم عظم في عينه وتمنى مثل حاله دون أن يريد زوالها عنه والغبيط الرحل يشدّ عليه الهودج فيخفي الظعينة، قال امرؤ القيس: تقول وقد مال الغبيط بنا معا ... عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل وغبقه من بابي نصر وضرب وسقاه الغبوق وهو الخمر تشرب في العشي حيث يخيفهم الليل، وغبي يغبى غبا وغباوة الشيء وعنه لم يفطن له أو جهله والشيء عليه خفي عليه ولم يعرفه ويقال في فلان غباوة ترزقه والأغنياء أكثرهم أغبياء ولا يغبى عليّ ما فعلت والغباء الخفاء من الأرض. وهذا من أعاجيب لغتنا فتدبره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 109 الإعراب: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي أو التقريري التوبيخي ولم حرف نفي وقلب وجزم ويأتكم فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والكاف مفعول به ونبأ فاعل والذين مضاف إليه وجملة كفروا لا محل لها لأنها صلة الموصول ومن قبل حال والفاء حرف عطف وذاقوا فعل ماض مبني على الضم والواو فاعل ووبال أمرهم مفعول به والواو حرف عطف ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم نعت لعذاب (ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) ذلك مبتدأ والإشارة إلى عذابي الدنيا والآخرة، وبأنه خبر وأن واسمها وجملة كانت خبرها واسم كانت مستتر يعود على الرسل وجملة تأتيهم خبر ورسلهم فاعل تأتيهم وبالبيّنات متعلقان بتأتيهم (فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) الفاء عاطفة وقالوا فعل ماض وفاعل وهو معطوف على كانت والهمزة للاستفهام الإنكاري وبشر مبتدأ ساغ الابتداء به لدخول الاستفهام عليه وأجازوا أن يكون مرفوعا على الفاعلية بفعل مضمر يفسره ما بعده فالمسألة من باب الاشتغال والتقدير أيهدينا بشر وجملة يهدوننا في محل رفع خبر على الأول ولا محل لها من الإعراب لأنها مفسّرة وجملة الاستفهام مقول القول (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) الفاء عاطفة وتفيد السببية لا التعقيب أي فكفروا بسبب هذا القول، وتولّوا عطف على فكفروا، واستغنى الله فعل وفاعل والله مبتدأ وغني خبر أول وحميد خبر ثان (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ) زعم فعل ماض والذين فاعله وجملة كفروا صلة وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولن حرف نفي ونصب واستقبال والجملة خبر أن وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي زعم وقل فعل أمر وبلى حرف جواب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 110 لإثبات النفي والواو واو القسم وربي مجرور بواو القسم وهما متعلقان بفعل القسم المحذوف واللام واقعة في جواب القسم وتبعثنّ فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه حذف النون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين واو الجماعة وهي ضمير متصل في محل رفع فاعل (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ولتنبؤن عطف على لتبعثنّ وبما في محل نصب مفعول به وجملة عملتم صلة وذلك مبتدأ والإشارة إلى ما ذكر من البعث والحساب وعلى الله متعلقان بيسير ويسير خبر ذلك (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) الفاء الفصيحة لأنها واقعة في جواب شرط مقدّر أي إذا كان الأمر كذلك فآمنوا، وآمنوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وبالله متعلقان بآمنوا ورسوله عطف على الله والنور عطف أيضا والذي نعت وجملة أنزلنا صفة والعائد محذوف أي أنزلناه (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وبما متعلقان بخبير وجملة تعملون صلة وخبير خبر الله (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) يوم ظرف متعلق بخبير أو بمحذوف دلّ عليه سياق الكلام أي تتفاوتون يوم يجمعكم وقيل هو مفعول به لفعل محذوف أي اذكروا وجملة يجمعكم في محل جر بإضافة الظرف إليها وليوم الجمع متعلقان بيجمعكم سمي بذلك لأن الله يجمع فيه بين الأولين والآخرين لإجراء الحساب والجزاء وذلك مبتدأ والإشارة إلى يوم الجمع ويوم التغابن خبره أي يغبن المؤمنون الكافرين بأخذ منازلهم، وسيأتي المزيد من معناه في باب البلاغة (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان التغابن وتفصيله ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويؤمن فعل الشرط وبالله متعلقان بيؤمن ويعمل عطف على يؤمن وصالحا مفعول به أو نعت لمصدر محذوف أي عملا صالحا ويكفّر جواب الشرط وعنه متعلقان بيكفّر وسيئاته مفعول به وفعل الشرط الجزء: 10 ¦ الصفحة: 111 والجزاء خبر من (وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ويدخله عطف على يكفّر والهاء مفعول به وجنات مفعول به ثان على السعة وجملة تجري من تحتها الأنهار نعت لجنات وخالدين حال وجمع لأنه أعاد على معنى من وهو الجمع وفيها متعلقان بخالدين وأبدا ظرف متعلق بخالدين وذلك مبتدأ والإشارة إلى ما ذكر من التكفير وإدخال الجنات والفوز خبر والعظيم نعت الفوز (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الواو عاطفة والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة وكذبوا عطف على كفروا وبآياتنا متعلقان بكذبوا وأولئك مبتدأ وأصحاب النار خبر وخالدين حال وفيها متعلق بخالدين وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والمصير فاعل والمخصوص بالذم محذوف تقديره هي أي النار. البلاغة: 1- في قوله «ذلك يوم التغابن» استعارة تمثيلية، شبّهت حال الفريقين المتمكنين من اختيار ما يؤدي إلى سعادة الآخرة فاختار كل فريق ما يشتهيه مما كان قادرا عليه بدل ما اختاره الآخر وشبّهه بحال المتبادلين بالتجارة وشبّه ما يتفرع عليه من نزول كلّ منهما منزلة الآخر بالتغابن لأن التغابن تفاعل من الغبن وهو أخذ الشيء من صاحبه بأقل من قيمته وهو لا يكون إلا في عقد المعاوضة ولا معاوضة في الآخرة، فإطلاق التغابن على ما يكون فيها إنما هو بطريق الاستعارة التمثيلية، وعبارة الزمخشري: «التغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة وهو أن يغبن بعضهم بعضا لنزول السعداء ومنازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 112 2- وفي الآية أيضا فن التهكّم وقد مرّ فيما مضى، وهنا يتهكم بالأشقياء لأن نزولهم ليس بغبن وفي الحديث: «ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة» وفي حديث آخر: «الناس غاديان فمبتاع نفسه فمعتقها ومبتاع نفسه فموبقها» . [سورة التغابن (64) : الآيات 11 الى 18] ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 113 الإعراب: (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق للرد على الكفّار الذين قالوا: لو كان المسلمون على حق لصانهم الله من المصائب في الدنيا. وما نافية وأصاب فعل ماض ومن حرف جر زائد ومصيبة مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل ومفعول أصاب محذوف أي أحدا وإلا أداة حصر وبإذن الله متعلقان بأصاب (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الواو حرف عطف ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويؤمن فعل الشرط وبالله متعلقان بيؤمن ويهد جواب الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة وقلبه مفعول به وفعل الشرط والجزاء خبر من والله مبتدأ وبكل شيء متعلقان بعليم وعليم خبر الله (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الواو حرف عطف وأطيعوا فعل أمر والواو فاعل والله مفعول به وأطيعوا الرسول عطف على أطيعوا الله والفاء استئنافية وإن حرف شرط جازم وتوليتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف تقديره فلا ضير على رسولنا في توليكم والفاء حرف تعليل وإنما كافّة ومكفوفة وعلى رسولنا مقدّم والبلاغ مبتدأ مؤخر والمبين نعت للبلاغ (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) الله مبتدأ وجملة لا إله إلا هو خبر وقد تقدم إعراب كلمة الشهادة مفصلا، وعلى الله متعلقان بيتوكل والفاء عاطفة واللام لام الأمر ويتوكل فعل مضارع مجزوم باللام والمؤمنون فاعل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) يا أيها الذين آمنوا تقدم إعرابها كثيرا، وإن حرف مشبه بالفعل ومن أزواجكم خبر إن المقدم وأولادكم عطف على أزواجكم وعدوا اسم إن المؤخر ولكم نعت لعدوا والفاء الفصيحة أي إن عرفتم ذلك فاحذروهم، واحذرهم فعل أمر وفاعل ومفعول به (وَإِنْ تَعْفُوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 114 وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الواو عاطفة وإن حرف شرط جازم وتعفوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون وتصفحوا عطف على على تعفوا وتغفروا عطف أيضا والفاء رابطة للجواب لأنه جملة اسمية وإن واسمها وخبراهاِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) إنما كافّة ومكفوفة وأموالكم مبتدأ وأولادكم عطف على أموالكم وفتنة خبرَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وعنده ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وأجر مبتدأ مؤخر وعظيم نعت لأجر والجملة خبر لله (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدّر أي إن علمتم أنه تعالى جعل أموالكم وأولادكم فتنة لكم شاغلة عن أمور الآخرة فاتقوا الله، وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر منصوب بفعل محذوف أي جهدكم واستطاعتكم، واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا أفعال أمر معطوفة على اتقوا، وخيرا فيه: 1- قول سيبويه أنه منصوب بفعل محذوف أي وائتوا خيرا لأنفسكم كقوله: «انتهوا خيرا لكم» وقد اقتصر عليه الزمخشري وأبو البقاء. 2- قول أبي عبيدة أنه خبر ليكن مقدرة أي يكن الاتفاق خيرا. 3- قول الكسائي والفرّاء أنه نعت مصدر محذوف أي إنفاقا خيرا. 4- قول الكوفيين أنه حال. 5- قول بعضهم أنه مفعول به لقوله أنفقوا على تقدير موصوف محذوف أي مالا خيرا. ولأنفسكم متعلقان بخبيرا (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 115 ويوق فعل الشرط مجزوم بحذف حرف العلة ونائب الفعل مستتر تقديره هو وشحّ نفسه مفعول به ثان والفاء رابطة لجواب الشرط وجملة فأولئك هم المفلحون في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ) إن شرطية وتقرضوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والله مفعوله وقرضا مفعول مطلق وحسنا نعت، ويضاعفه جواب الشرط والهاء مفعوله ولكم متعلقان بيضاعفه (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) ويغفر عطف على الجواب تبعه في الجزم ولكم متعلقان بيغفر والله مبتدأ وشكور خبر أول وحليم خبر ثان (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) عالم الغيب خبر لمبتدأ محذوف والعزيز خبر ثان والحكيم خبر ثالث. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 116 (65) سورة الطّلاق مدنيّة وآياتها اثنتا عشرة [سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) الإعراب: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) إذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة طلقتم النساء في محل جر بإضافة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 117 الظرف وإنما جمع لأن النداء موجّه للنبي مع أمته أو أن لفظ النبي أطلق والمراد أمته، وقال الزمخشري: «خصّ النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعمّ بالخطاب لأن النبي إمام أمته وقدوتهم كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم يا فلان افعلوا كيت وكيت اعتبارا بتقدمه وإظهارا لترؤسه بكلام حسن» والفاء رابطة للجواب وطلّقوهنّ فعل أمر وفاعل ومفعول به وفي تعليق اللام خلاف كبير بين مذاهب الفقهاء وأولى ما يقال فيها أنها متعلقة بمحذوف حال أي مستقبلين بطلاقهنّ العدّة أي الوقت الذي يشرعن فيه فيها. وعبارة البيضاوي: «لعدتهنّ أي في وقتها وهو الطهر فإن اللام في الأزمان وما يشبهها للتأقيت ومن عدد العدّة بالحيض- وهو أبو حنيفة- علّق اللام بمحذوف مثل مستقبلات، وظاهره يدلّ على أن العدّة بالأطهار وأن طلاق المعتدّة بالإقرار ينبغي أن يكون في الطهر وأنه يحرم في الحيض من حيث أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده ولا يدل على عدم وقوعه إذ النهي إذا كان لأمر خارج لا يستلزم الفساد» . وعلّق زاده في حاشيته على البيضاوي على هذا الكلام فقال: «وقوله علّق اللام بمحذوف أي لأنه لا يمكنه جعل اللام للتأقيت للإجماع على أن الإطلاق في حال الحيض منهي عنه بل يعلقها بمحذوف دلّ عليه معنى الكلام أي فطلقوهنّ مستقبلات لعدتهنّ أي متوجهات إليها وإذا طلقت المرأة في الطهر المتقدم على القرء الأول من أقرائها فقد طلقت مستقبلة لعدّتها والمراد أن يطلقن في طهر لم يجامعن فيه ثم يتركن حتى تنقضي عدّتهنّ وأيد هذا بقراءة فطلقوهنّ من قبل عدّتهنّ» . أما أبو حيان فقد أفاض في الموضوع وناقش الزمخشري مناقشة ممتعة وهذا نص عبارته: «واللام للتوقيت نحو كتبته لليلة بقيت من شهر كذا وتقدير الزمخشري هنا حالا محذوفة يدل عليها المعنى ويتعلق بها الجار والمجرور، وليس بجيد، أي مستقبلات لعدّتهنّ، لأنه قدّر عاملا خاصا ولا يحذف العامل في الظرف والجار والمجرور إذا كان خاصا بل إذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 118 كان كونا مطلقا لو قلت زيد عندك أو في الدار تريد ضاحكا عندك أو ضاحكا في الدار لم يجز فتعليق اللام بقوله فطلقوهنّ ويجعل على حذف مضاف هو الصحيح» يريد أبو حيان بتقدير المضاف أي لاستقبال عدّتهنّ. ولم يتعرض أبو البقاء لتعليق اللام، وقد رأيت تعقيبا لابن المنير قاله ردّا على الزمخشري نورده أيضا فيما يلي: «ونظر الزمخشري اللام فيها باللام في قولك مؤرخا: أتيته لليلة بقيت من المحرم وإنما يعني أن العدّة بالحيض كل ذلك تحامل لمذهب أبي حنيفة في أن الإقراء الحيض ولا يتم له ذلك فقد استدل أصحابنا بالقراءة المستفيضة وأكدوا الدلالة بالشاذّة على أن الإقراء الاطهار ووجه الاستدلال لها على ذلك أن الله تعالى جعل العدّة وإن كانت في الأصل مصدرا ظرفا للطلاق المأمور به، وكثيرا ما تستعمل العرب المصادر ظرفا مثل خفوق النجم ومقدّم الحاج وإذا كانت العدّة ظرفا للطلاق المأمور به وزمانه هو الطهر وفاقا فالظهر عدّة إذن ونظير اللام هنا على التحقيق اللام في قوله يا ليتني قدّمت لحياتي وإنما تمنّى أن لو عمل عملا في حياته» (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ) وأحصوا فعل أمر معطوف على الأمر قبله والعدّة مفعول به أي احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق لتراجعوا قبل فراغها ولتعرفوا زمن النفقة والسكنى وحلّ النكاح لأخت المطلّقة ونحو ذلك من الفوائد المبسوطة في كتب الفقه (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) لا ناهية وتخرجون فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والهاء مفعول به ومن بيوتهنّ متعلق بتخرجوهنّ، ولا يخرجن الواو حرف عطف ولا ناهية أيضا ويخرجن فعل مضارع مبني على السكون في محل جزم ونون النسوة فاعل وإنما جمع بين النهيين إشارة إلى أن الزوج لو أذن لها في الخروج لا يجوز لها الخروج، وإلا أداة حصر وأن مصدرية ويأتين فعل مضارع مبني على السكون في محل نصب بأن وهي مع ما في حيّزها في محل نصب على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 119 الحال من فاعل لا يخرجن ومن مفعول لا تخرجوهنّ أي لا يخرجن ولا تخرجوهنّ في حال من الحالات إلا في حال كونهنّ آتيات بفاحشة وبفاحشة متعلقان بيأتين ومبينة نعت لفاحشة (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) الواو استئنافية وتلك مبتدأ والإشارة إلى المذكورات وحدود الله خبر والواو عاطفة ومن شرطية مبتدأ ويتعدّ فعل الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة وحدود الله مفعول به والفاء رابطة للجواب لاقترانه بقد وظلم نفسه فعل وفاعل ومفعول به والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجزاؤه خبر من (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) جملة مستأنفة مسوقة لتعليل مضمون الشرط، وسيأتي مزيد من الحديث عن هذا الالتفات في باب البلاغة، ولا نافية وتدري فعل مضارع مرفوع وفاعله أنت ولعلّ واسمها وجملة يحدث خبرها وبعد ذلك ظرف متعلق بيحدث وأمرا مفعول يحدث وجملة لعلّ الله إلخ سدّت مسدّ مفعولي تدري المعلقة عن العمل بالترجّي واستشكل بأن النحاة لم يعدّوا الترجّي من المعلقات فتكون الجملة مستأنفة (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة بلغن في محل جر بالإضافة وأجلهنّ مفعول به والفاء رابطة وأمسكوهنّ فعل أمر وفاعل ومفعول به وبمعروف حال أو فارقوهنّ بمعروف عطف على ما تقدم (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) وأشهدوا فعل أمر وفاعل وذوي مفعول به وهو تثنية ذا بمعنى صاحب ومنكم صفة لذوي عدل، وأقيموا عطف على أشهدوا والشهادة مفعول به ولله متعلقان بأقيموا أي لوجهه (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ذلكم مبتدأ وجملة يوعظ خبر وبه متعلقان بيوعظ ومن نائب فاعل وجملة كان صلة واسم كان مستتر تقديره هو وجملة يؤمن خبر كان وبالله متعلقان بيؤمن واليوم الآخر عطف على بالله (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 120 مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الواو للاستئناف والجملة مستأنفة سيقت استطرادا عند ذكر المؤمنين وبعضهم جعلها معترضة، ومن شرطية مبتدأ ويتّق فعل الشرط مجزوم بحذف حرف العلة والله مفعول به ويجعل جواب الشرط وله متعلقان بيجعل أو في موضع المفعول الثاني ومخرجا مفعول يجعل ويرزقه عطف على يجعل ومن حيث متعلقان بيرزقه وجملة لا يحتسب في محل جر بإضافة الظرف وهو حيث إليها (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) عطف على ما تقدم ومن شرطية مبتدأ ويتوكل فعل الشرط وعلى الله متعلقان بيتوكل والفاء رابطة وهو مبتدأ وحسبه خبر والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) الجملة تعليل لما تقدم وإن واسمها وبالغ خبرها وأمره مضاف إليه وقرىء بالغ بالتنوين وأمره بالنصب مفعول به لبالغ لأنه اسم فاعل وقد حرف تحقيق وجعل الله فعل وفاعل ولكل شيء متعلقان بجعل إذا كانت بمعنى الخلق أو في موضع المفعول الثاني المقدّم إذا كانت بمعنى التصيير وأمرا مفعول به على كل حال. البلاغة: في قوله «لا تدري لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمرا» التفات من الغيبة إلى الخطاب، والفائدة منه مشافهة المتعدي بالخطاب لمزيد الاهتمام بالزجر عن التعدّي، وقد تورط بعضهم فحسب أن الخطاب للنبي والمعنى ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه وأضربها، فأنت لا تدري أيّها المتعدّي مغبّة الأمر وما عسى أن يسفر عنه لعلّ الله يحدث في قلبك بعد ذلك الذي أقدمت عليه من التعدّي أمرا يقتضي خلاف ما فعلت فيبدل ببغضها محبة وبالإعراض عنها إقبالا عليها وبالصدود رضا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 121 [سورة الطلاق (65) : الآيات 4 الى 7] وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) الإعراب: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) الواو استئنافية واللائي اسم موصول في محل رفع مبتدأ وجملة يئسن صلة ومن المحيض متعلقان بيئسن ومن نسائكم حال وإن شرطية وارتبتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة وعدّتهنّ مبتدأ وثلاثة أشهر خبره والشرط وجوابه خبر المبتدأ وقيل الجواب خبر اللائي وجواب الشرط محذوف تقديره فاعلموا أنها ثلاثة أشهر وتكون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 122 جملة الشرط وجوابه معترضة والأول أولى لسهولته وللاستغناء عن الحذف (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) الواو عاطفة واللائي مبتدأ خبره محذوف تقديره فكذلك أو مثلهنّ أي فعدتهن ثلاثة أشهر ولو قيل أنه معطوف على اللائي يئسن عطف المفردات وأخبر عن الجميع بقوله فعدتهنّ لكان وجها حسنا، وجملة لم يحضن صلة وأولات الأحمال مبتدأ ولك أن تنسقه على ما تقدم وأجلهنّ مبتدأ وأن وما في حيّزها في تأويل مصدر خبر أجلهنّ وحملهنّ مفعول والجملة خبر أولات، والأحمال جمع حمل بفتح الحاء كصحب وأصحاب وهو ما كان في البطن أو على رأس شجر والحمل بالكسر ما كان على ظهر أو رأس (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) تقدم إعرابها مرارا فجدد به عهدا ومن أمره حال (ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) ذلك مبتدأ والإشارة إلى المذكور في العدّة وتفاصيلها وأمر الله خبر وجملة أنزله إليكم حال، ومن يتّق الله اسم شرط وفعله ويكفّر جوابه وعن سيئاته متعلقان بيكفر، ويعظم له أجرا عطف على الجواب وله متعلق بيعظم وأجرا مفعول به (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) الجملة مفسرة لما شرط من التقوى في قوله تعالى: «ومن يتق الله» وأسكنوهنّ فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به ومن حيث متعلقان بأسكنوهنّ فتكون من لابتداء الغاية وقال الزمخشري «هي من التبعيضية مبعضها محذوف معناه أسكنوهنّ مكانا من حيث سكنتم أي بعض مكان سكناكم كقوله تعالى: يغضّوا من أبصارهم أي بغضّ أبصارهم، قال قتادة: إن لم يكن إلا بيت واحد فأسكنها في بعض جوانبه» وقال الرازي والكسائي: «من صلة والمعنى أسكنوهنّ حيث سكنتم» فيكون الظرف متعلقا بأسكنوهنّ ولكن زيادة من في الموجب لا تتمشى مع مذهب البصريين. وجملة سكنتم في محل جر بإضافة الظرف إليها ومن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 123 وجدكم بدل من الجار والمجرور قبله بإعادة الجار، وقال الزمخشري عطف بيان وتعقبه أبو حيان بأن تكرير العامل لم يعهد في عطف البيان، والوجد بضم الواو الوسع والطاقة وفي المختار: «ووجد في المال وجدا بضم الواو وفتحها وكسرها وجدة أيضا بالكسر أي استغنى» (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) الواو حرف عطف ولا ناهية وتضارّوهنّ فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به واللام للتعليل وتضيّقوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل والجار والمجرور متعلقان بتضارّوهم ومفعول تضيّقوا محذوف تقديره المساكن أو النفقة وعليهنّ متعلقان بتضيّقوا (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) الواو عاطفة وإن شرطية وكنّ فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والنون اسمها وأولات حمل خبرها والفاء رابطة للجواب وأنفقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وعليهنّ متعلقان بأنفقوا وحتى حرف غاية وجر ويضعن فعل مضارع مبني على السكون في محل نصب بأن مضمرة وجوبا بعد حتى ونون النسوة فاعل وحتى ومجرورها متعلقان بأنفقوا (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) الفاء عاطفة وإن شرطية وأرضعن فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط ونون النسوة فاعل ولكم متعلقان بأرضعن ومفعول أرضعن محذوف تقديره ولدا منهنّ والفاء رابطة للجواب وآتوهنّ فعل ماض وفاعل ومفعول به والجملة في محل جزم جواب الشرط وأجورهنّ مفعول به ثان، وائتمروا فعل أمر معطوف على آتوهنّ أي ليأمر بعضكم بعضا والائتمار بمعنى التآمر وكالاشتوار بمعنى التشاور وبينكم ظرف متعلق بائتمروا وبمعروف متعلقان بائتمروا أيضا (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) الواو عاطفة وإن شرطية وتعاسرتم، أي تضايقتم، فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط الجزء: 10 ¦ الصفحة: 124 والفاء رابطة للجواب والسين حرف استقبال وترضع فعل مضارع مرفوع والجملة في محل جزم جواب الشرط وله متعلقان بسترضع وأخرى فاعل والضمير في له عائد على الأب (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ) اللام لام الأمر وينفق فعل مضارع مجزوم باللام وذو سعة فاعل ومن سعته متعلقان بينفق والواو حرف عطف ومن اسم شرط جازم مبتدأ وقدّر بالبناء للمجهول فعل ماض في محل جزم فعل الشرط أي ضيّق عليه رزقه وعليه متعلقان بقدر ورزقه نائب فاعل والفاء رابطة للجواب واللام لام الأمر وينفق فعل مضارع مجزوم باللام والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجزاؤه خبر من ومما متعلقان بينفق وجملة آتاه الله صلة ما (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) الجملة مستأنفة ولا نافية ويكلف فعل مضارع مرفوع والله فاعل ونفسا مفعول به وإلا أداة حصر وما مفعول به ثان وجملة آتاها صلة ما (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) كلام مستأنف أيضا مسوق لتأكيد الوعد للفقراء بفتح أبواب الرزق، والسين حرف استقبال ويجعل فعل مضارع مرفوع والله فاعل وبعد عسر ظرف متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني ليجعل ويسرا مفعول يجعل الأول. [سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 12] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 125 الإعراب: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) كلام مستأنف مسوق لتصديق وعد الله بالفتح، وكأين خبرية بمعنى كم، وقد تقدم الكلام عليها مفصلا في آل عمران، ومن قرية تمييز كأين وهي في محل رفع مبتدأ وجملة عتت أي أعرضت خبر وعن أمر ربها متعلقان بعتت ورسله عطف على ربها (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) الفاء عاطفة وحاسبناها فعل ماض وفاعل ومفعول به وحسابا مفعول مطلق وشديدا نعت، وعذبناها عطف على حاسبناها وعذابا مفعول مطلق ونكرا نعت وهي بضم الكاف وسكونها وهما قراءتان أي شنيعا قبيحا جاوز الحد (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) الفاء عاطفة وذاقت فعل ماض والتاء تاء التأنيث الساكنة والفاعل مستتر يعود على قرية ووبال أمرها مفعول به وكان فعل ماض ناقص وعاقبة أمرها اسمها وخسرا خبرها (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) الجملة مفسّرة لما تقدم تأكيدا للوعيد، وأعدّ الله فعل ماض وفاعل ولهم متعلقان بأعدّ وعذابا مفعول به وشديدا نعت والفاء الفصيحة أي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 126 إن عرفتم ذلك فاتقوا الله ويا حرف نداء وأولي الألباب منادى مضاف منصوب بالياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم (الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) الذين نعت للمنادى أو بدل منه وجملة آمنوا صلة وقد حرف تحقيق وأنزل الله فعل وفاعل وإليكم متعلقان بأنزل وذكرا مفعول به (رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ) في نصب رسولا أوجه تكاد تكون متساوية نوردها لك فيما يلي: 1- منصوب بالمصدر المنوّن قبله وهو ذكرا كما عمل «أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما» وكما قال الشاعر: بضرب السيوف رؤوس قوم ... أزلنا هامهنّ عن المقيل وإلى هذا الإعراب ذهب الزجّاج والفارسي. 2- بدل من ذكرا وجعل نفس الذكر مبالغة، وإليه جنح الزمخشري. 3- بدل من ذكرا على حذف مضاف من الأول تقديره ذا ذكر رسولا. 4- مفعول به لفعل محذوف أي أرسل رسولا لدلالة ما تقدم عليه. 5- أن يكون مفعولا به لفعل محذوف على طريقة الإغراء أي اتبعوا والزموا رسولا هذه صفته. وجملة يتلو عليكم في محل نصب صفة وعليكم متعلقان بيتلو وآيات الله مفعول به ومبينات حال. (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) اللام للتعليل ويخرج فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بيتلو، والذين مفعول به وما بعده صلة ومن الظلمات الجزء: 10 ¦ الصفحة: 127 متعلقان بيخرج وإلى النور متعلقان بيخرج أيضا (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويؤمن فعل الشرط وبالله متعلقان بيؤمن ويعمل عطف على يؤمن وصالحا نعت لمصدر محذوف أي عملا صالحا أو مفعول به ويدخله جواب الشرط والهاء مفعول به أول وجنات مفعول به ثان على السعة وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة لجنات وخالدين حال من الهاء وروعي معنى «من» بعد مراعاة لفظها، وفيها متعلقان بخالدين وكذلك الظرف أبدا (قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً) الجملة حال ثانية وقد روعي لفظ من وقد حرف تحقيق وأحسن الله فعل وفاعل وله متعلقان بأحسن ورزقا مفعول به (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) الله مبتدأ والذي خبره وجملة خلق صلة وسبع سموات مفعول ومن الأرض حال ومثلهنّ معطوف على سبع سموات أو منصوب بفعل مقدّر بعد الواو أي وخلق مثلهنّ من الأرض وقرىء مثلهنّ بالرفع على أنه مبتدأ مؤخر والجار والمجرور قبله خبر مقدم (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الجملة مستأنفة ويتنزل الأمر فعل وفاعل أي الوحي وبينهنّ متعلقان بيتنزل واللام لام التعليل وتعلموا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والواو فاعل واللام ومجرورها متعلقان بيتنزل أيضا وإن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي تعلموا (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) الواو عاطفة وأن واسمها وجملة قد أحاط خبرها وبكل شيء متعلقان بأحاط وعلما تمييز محوّل عن الفاعل. البلاغة: 1- في قوله «وكأين من قرية عتت عن أمر ربها» مجاز مرسل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 128 علاقته المحلية، من إطلاق المحل وإرادة الحال وقد تقدمت له نظائر كثيرة. 2- وفي قوله «ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور» استعارتان تصريحيتان شبّه الكفر بالظلمات ثم حذف المشبّه وأبقى المشبّه به وشبّه الإيمان بالنور وحذف المشبّه وأبقى المشبّه به أيضا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 129 (66) سورة التحريم مدنيّة وآياتها اثنتا عشرة [سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 130 اللغة: (تَحِلَّةَ) مصدر لحلل مضعفا نحو تكرمة وهذان ليسا بمقيسين فإن قياس مصدر التفعيل إذا كان صحيحا غير مهموز فأما المعتل اللام نحو زكّى والمهموز اللام نحو نبأ فمصدرهما تزكية وتنبئة على أنه قد جاء التفعيل كاملا في المعتل نحو: باتت تنزي دلوها تنزيا ... كما تنزي شهلة صبيا وأصله تحللة كتكرمة فأدغمت. (تَظاهَرا) بإدغام التاء الثانية في الأصل في الظاء وفي قراءة بدونها أي تتعاونا. (قانِتاتٍ) مطيعات. (ثَيِّباتٍ) جمع ثيّب من ثاب يثوب أي رجع كأنها ثابت بعد زوال عذرتها وأصلها ثيوب كسيد وميت أصلهما سيود وميوت فأعلّا الإعلال الذي يأتي في باب الفوائد. الإعراب: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يا أيها النبي تقدّم إعرابها كثيرا، ولم: اللام حرف جر وما اسم استفهام في محل جر باللام وقد تقدم أن ما الاستفهامية إذا دخل عليها حرف جر حذف ألفها، والجار والمجرور متعلقان بتحرم وما مفعول به وجملة أحلّ الله صلة ولك متعلقان بأحلّ وجملة تبتغي حالية من فاعل تحرم ومرضاة أزواجك مفعول به والله مبتدأ وغفور خبر ورحيم خبر ثان (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) قد حرف تحقيق وفرض الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 131 فعل وفاعل ولكم متعلقان بفرض وتحلّة مفعول به وأيمانكم مضاف إليه أي شرع الله لكم تحليل أيمانكم بما هو مبسوط في كتب التشريع (وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) الواو عاطفة والله مبتدأ ومولاكم خبر وهو مبتدأ والعليم خبر أول والحكيم خبر ثان (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) الواو استئنافية وإذ مفعول به لفعل محذوف أي اذكر وجملة أسرّ النبي في محل جر بإضافة الظرف إليها وحديثا مفعول به (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) الفاء عاطفة ولما ظرف بمعنى حين أو رابطة متضمنة معنى الشرط وجملة نبأت في محل جر بإضافة الظرف إليها والأصل في أنبأ ونبأ وأخبر وخبّر وحدّث أن تتعدى إلى واحد بأنفسها وإلى ثان بحرف الجر ويجوز حذفه فتقول نبأت به المفعول الأول محذوف أي غيرها ومن أنبأك هذا أي بهذا قال نبّأني أي نبأني به أو نبأنيه فإذا ضمنت معنى أعلم تعدّت إلى ثلاثة مفاعيل نحو قوله: نبئت زرعة والسفاهة كاسمها ... يهدي إليّ غرائب الأشعار وقد تعدى نبأت في الآية لاثنين حذف أولهما والثاني مجرور بالباء أي نبأت به غيرها، وأظهره: الواو حرف عطف وأظهره أي أطلعه فعل ومفعول به والله فاعل وعليه متعلقان بأظهره وجملة عرف لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وبعضه مفعول به وأعرض عطف على عرف وعن بعض متعلقان بأعرض ومفعول عرف الثاني محذوف أي عرفها بعض ما فعلت وفي قراءة عرف بالتخفيف أي جازى بالعتب واللوم كما تقول لمن يؤذيك لأعرفنّ لك ذلك أي لأجازينّك (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) الفاء حرف عطف ولما ظرفية حينية أو رابطة متضمنة معنى الشرط على كل حال ونبأها فعل وفاعل مستتر ومفعول به وجملة قالت لا محل لها ومن اسم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 132 استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة أنبأك خبر والكاف مفعول أول وهذا مفعول ثان وقال فعل ماض وجملة نبأني العليم الخبير مقول القول والعليم فاعل نبأني والخبير صفة (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) إن شرطية وتتوبا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والألف فاعل وإلى الله متعلقان بتتوبا وجواب الشرط محذوف تقديره يتب عليكما والفاء تعليلية وقد حرف تحقيق وصغت أي مالت فعل ماض مبني على الفتح المقدّر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والتاء تاء التأنيث الساكنة وقلوبكما فاعل صغت (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة وإن شرطية وتظاهرا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والألف فاعل وعليه متعلقان بتظاهرا وجواب الشرط محذوف تقديره يجد ناصرا والفاء تعليلية وإن واسمها وهو ضمير فصل ومولاه خبران والوقف هنا، وجبريل مبتدأ وصالح المؤمنين عطف على جبريل وصالح اسم جنس لا جمع ولذلك جاء من غير واو بعد الحاء وجوّزوا أن يكون جمعا بالواو والنون وحذفت النون للإضافة وكتبت دون واو اعتبارا بلفظ لأن الواو ساقطة لالتقاء الساكنين ولا داعي لهذا التكلّف، ويجوز أن تعطف جبريل وصالح المؤمنين على محل إن واسمها فالخبر عن الجميع مولاه وعلى الابتداء يكون الخبر قوله ظهير لأن فعيلا يستوي فيه الواحد والجمع كما تقدم (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) لك أن تعطف الملائكة على ما تقدم أو تعربها مبتدأ خبره ظهير، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ) عسى فعل ماض من أفعال الرجاء وربه اسمها وإن شرطية وطلقكنّ فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به في محل جزم فعل الشرط وأن حرف مصدري ونصب ويبدله بالتخفيف وقرىء بالتشديد فعل مضارع منصوب بأن وأن وما في حيّزها خبر عسى والهاء مفعول به أول وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله أي فعسى، وأزواجا مفعول به الجزء: 10 ¦ الصفحة: 133 ثان وخيرا صفة ومنكنّ متعلقان بخيرا وفصل بين عسى وخبرها بالشرط اهتماما بالأمر وتخويفا لهنّ (مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) مسلمات نعت لأزواجا ثان ويجوز أن يعرب حالا ونصبه بعضهم على الاختصاص وهو جميل وما بعده صفات متعددة، ووسطت الواو بين ثيّبات وأبكارا لتنافي الوصفين فيه دون سائر الصفات وليست هي واو الثمانية كما توهم بعضهم وقد مرّ بحث ذلك مفصلا. البلاغة: أتى بالجمع في قوله «قلوبكما» وساغ ذلك لإضافته إلى مثنى وهو ضميراهما والجمع في مثل هذا أكثر استعمالا من المثنى والتثنية دون الجمع كما قال: فتخالسا نفسيهما بنوافذ ... كنوافذ العبط التي لا ترفع وهذا كان القياس وذلك أن يعبّر عن المثنى بالمثنى ولكن كرهوا اجتماع تثنيتين فعدلوا إلى الجمع لأن التثنية جمع في المعنى والإفراد لا يجوز عند البصريين إلا في الشعر كقوله: حمامة بطن الواديين ترنمي ... سقاك من العز الفوادي مطيرها يريد بطني. الفوائد: لم يجعل الرسول من هيبة النبوّة سدّا رادعا بينه وبين نسائه بل أنساهنّ برفقه وإيناسه، أنهنّ يخاطبن رسول الله في بعض الأحايين، فكانت منهنّ من تقول له أمام أبيها: تكلم ولا تقل إلا حقا، ومن تراجعه أو تغاضبه سحابة نهارها، ومن تبلغ الاجتراء عليه ما يسمع به الجزء: 10 ¦ الصفحة: 134 رجل كعمر بن الخطاب في شدّته فيعجب له ويهمّ بأن يبطش بابنته حفصة لأنها تجترىء كما تجترىء الزوجات الأخريات، والقصة التالية نموذج صحيح لهذه المعاملة السامية، قال معظم المفسرين ما خلاصته: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة فقال لها اكتمي وقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان من بعدي أمر أمتي فأخبرت به عائشة وكانتا متصادقتين، وقيل خلا بها في يوم حفصة فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتم فطلّقها واعتزل نساءه ومكث تسعا وعشرين ليلة في بيت مارية، وروي أن عمر قال لها: لو كان في آل الخطاب خير لما طلّقك فنزل جبريل عليه السلام وقال: راجعها فإنها صوّامة قوّامة وإنها من نسائك في الجنة. وروي أنه شرب عسلا في بيت زينب بنت جحش فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا له: إنّا نشم منك ريح المغافير والمغافير جمع مغفور بالضم كعصفور أي صمغ حلوله رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له العرفط بضم العين المهملة والفاء يكون بالحجاز له رائحة كرائحة الخمر وكان صلّى الله عليه وسلم يكره أن يوجد منه الريح الكريه فحرّم العسل. وقد تجرأ الزمخشري فأطلق في حق النبي صلّى الله عليه وسلم ما لا يسوغ إطلاقه مما لا يسيغ نقله، وقد ردّ عليه ابن المنير ردّا صائبا وحلّل هذا التحريم تحليلا لطيفا ونكتفي بنقله ضاربين صفحا عن بقية الأقوال المتعددة قال ابن المنير: «ما أطلقه الزمخشري في حق النبي صلّى الله عليه وسلم تقوّل وافتراء والنبي منه براء، وذلك أن تحريم ما أحلّ الله على وجهين: اعتقاد ثبوت حكم التحريم فيه فهذا بمثابة اعتقاد حكم التحليل فيما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 135 حرّمه الله عزّ وجلّ وكلاهما محظور لا يصدر من المتّسمين بسمة الإيمان وإن صدر سلب المؤمن حكم الإيمان واسمه، الثاني الامتناع مما أحلّه الله عزّ وجلّ وحمل التحريم بمجرده صحيح لقوله وحرّمنا عليه المراضع من قبل أي منعنا لا غير وقد يكون مؤكدا باليمين مع اعتقاد حلّه وهذا مباح صرف، وعلى القسم الثاني تحمل الآية والتفسير الصحيح يعضده فإن النبي صلّى الله عليه وسلم حلف بالله لا أقرب مارية ولما نزلت الآية كفّر عن يمينه ويدلّ عليه: قد فرض الله لكم تحلّة أيمانكم وهذا المقدار مباح ليس في ارتكابه جناح وإنما قيل له لم تحرّم ما أحلّ الله لك رفقا به وشفقة عليه وتنويها لقدره ولمنصبه صلّى الله عليه وسلم أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشقّ عليه جريا على ما ألف من لطف الله تعالى بنبيّه ورفعه عن أن يخرج بسبب أحد من البشر الذين هم أتباعه ومن أجله خلقوا ليظهر الله كمال نبوّته بظهور نقصانهم عنه، والزمخشري لم يحمل التحريم على هذا الوجه لأنه جعله زله فيحمل على المحمل الأول ومعاذ الله وحاش لله وأن آحاد المؤمنين حاش أن يعتقد تحريم ما أحلّ الله فكيف لا يربأ بمنصب النبي عمّا يرتفع عنه منصب عامّة الأمة وما هذه من الزمخشري إلا جراءة على الله ورسوله وإطلاق القول من غير تحرير وإبراز الرأي الفاسد بلا تخمير» . [سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 8] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 136 الإعراب: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) قوا فعل أمر من الوقاية فوزنه عوا لأن الفاء حذفت لوقوعها في المضارع بين ياء وكسرة وهذا محمول عليه واللام حذفت حملا له على المجزوم وبيانه أن أوقوا كاضربوا فحذفت الواو التي هي فاء الكلمة لما تقدم وحذفت همزة الوصل لحذف مدخولها الساكن واستثقلت الضمة على الياء فحذفت فالتقى ساكنان فحذفت الياء وضم ما قبل الواو لتصحّ، والواو فاعل وأنفسكم مفعول به أول وأهليكم عطف على أنفسكم وعلامة نصبه الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم ونارا مفعول به ثان ووقودها مبتدأ والناس خبر أو بالعكس والحجارة عطف على النار وجملة وقودها الناس صفة لنارا (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) الجملة صفة ثانية لنارا وعليها خبر مقدّم وملائكة مبتدأ مؤخر وغلاظ نعت لملائكة وشداد نعت ثان ولا نافية ويعصون الله فعل مضارع مرفوع وفاعل ومفعول به وما مصدرية وأمرهم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وما مع مدخولها في تأويل مصدر في محل نصب بدل اشتمال من الله كأنه قيل لا يعصون أمره الجزء: 10 ¦ الصفحة: 137 وأجاز أبو حيان نصبه على نزع الخافض أي فيما أمرهم، ويفعلون الواو عاطفة ويفعلون فعل مضارع مرفوع وفاعل وما اسم موصول مفعول به وجملة يؤمرون صلة والعائد محذوف أي به، قال الزمخشري: «فإن قلت: أليست الجملتان في معنى واحد؟ قلت: لا فإن معنى الأولى أنهم يقبلون أوامره ويلتزمونها ومعنى الثانية أنهم يؤدّون ما يؤمرون به ولا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه» فحصلت المغايرة، وأما البيضاوي فقد أجاب عن هذا السؤال بقوله «وقيل لا يعصون الله فيما مضى ويفعلون ما يؤمرون فيما يستقبل» (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) لا ناهية وتعتذروا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية واليوم ظرف متعلق بتعتذروا والجملة مقول قول محذوف أي يقال لهم ذلك عند دخول النار وإنما كافّة ومكفوفة وتجزون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وما مفعول به ثان وجملة كنتم صلة ما وجملة تعملون خبر كنتم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) توبوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وإلى الله متعلقان بتوبوا وتوبة مفعول مطلق ونصوحا نعت لتوبة (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) عسى فعل ماض جامد من أفعال الرجاء وربكم اسمها وأن وما في حيّزها في موضع نصب خبر عسى وعنكم متعلقان بيكفر وسيئاتكم مفعول به (وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ويدخلكم عطف على يكفر والكاف مفعول به وجنات مفعول به ثان على السعة وجملة تجري نعت لجنات ومن تحتها متعلقان بتجري والأنهار فاعل تجري (يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ) الظرف متعلق بيدخلكم أو بفعل محذوف تقديره اذكر فيكون مفعولا به ولا نافية ويخزي الله فعل مضارع وفاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها والنبي مفعول به (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) يجوز أن تكون الواو عاطفة والذين في محل نصب نسقا على النبي فيكون نورهم مبتدأ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 138 وجملة يسعى خبر والجملة مستأنفة أو حالية، ويجوز أن تكون الواو استئنافية والذين مبتدأ وجملة نورهم يسعى خبره وبين أيديهم الظرف متعلق بيسعى وبأيمانهم عطف على الظرف متعلق بما تعلق به (يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) الجملة خبر ثان أو حالية وربنا منادى مضاف وجملة النداء وفعل الأمر بعدها وفاعله ومفعوله مقول القول (وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) عطف على ما تقدم. البلاغة: 1- في قوله «توبة نصوحا» إسناد مجازي، أسند النصح إلى التوبة مجازا وإنما هو من التائب للمبالغة، وقد تقدم نظيره كثيرا. 2- في قوله «لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون» فن عجيب سمّوه «السلب والإيجاب» وهو بناء الكلام على نفي الشيء من جهة وإيجابه من جهة أخرى أو أمر بشيء من جهة ونهي عنه من غير تلك الجهة وقد تقدم بحثه فيما مضى، وهو في الآية ظاهر فقد سلب عزّ وجلّ عن هؤلاء الموصوفين العصيان وأوجب لهم الطاعة، فإن قيل على ظاهر هذه الآية إشكال من جهة التداخل والتكرار فإن معنى عجزها داخل في معنى صدرها فهو مكرر وإن اختلف لفظه وهذا عيب يتحاشى عن نظم الكتاب العزيز فإن من لا يعصي يطيع، ولم أر من تعرّض لهذا الإشكال وأجاب عنه إلا الإمام فخر الدين الرازي فقال «لا يعصون الله في الحال ويفعلون ما يؤمرون في المستقبل» وهو على كل حال جواب لا يحلّ الإشكال بل يبقى واردا وأجاب ابن أبي الإصبع بقوله: «الوصف بالطاعة والعصيان على ثلاثة أقسام: تقول: زيد لا يعصي ويطيع ونقيضه لا يطيع ويعصي والواسطة لا يعصي ولا يطيع والأول وصف أعلى والثاني وصف أدنى والثالث وصف متوسط والحق سبحانه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 139 أراد، وهو أعلم، أن يصف هؤلاء الملائكة بالوصف الأعلى فلو اقتصر عزّ وجلّ على قوله لا يعصون احتمل أن يوصل بقولك ولا يطيعون فلا يوفي ذلك بالمعنى المراد فإن المراد وصفهم بأعلى الأوصاف فوجب أن يقول ويفعلون فتكمل الوصف والله أعلم» . وأورد الزمخشري هذا الإشكال وأجاب عنه بما يلي: «فإن قلت أليست الجملتان في معنى واحد؟ قلت: لا فإن معنى الأولى يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها ومعنى الثانية أنهم يؤدّون ما يؤمرون، به ولا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه، فإن قلت قد خاطب الله المشركين المكذبين بالوحي بهذا بعينه في قوله تعالى: فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة، وقال: أعدّت للكافرين فجعلها معدّة للكافرين فما معنى مخاطبته به المؤمنين؟ قلت: الفسّاق وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفّار فإنهم مساكنون للكفّار في دار واحدة فقيل للذين آمنوا قوا أنفسكم باجتناب الفسوق مساكنة الكفّار الذين أعدّت لهم هذه النار الموصوفة، ويجوز أن يأمرهم بالتوقّي من الارتداد والندم على الدخول في الإسلام. وتعقبه ابن المنير المالكي في كتابه الانتصاف فقال: «جوابه الأول مفرع على قاعدته الفاسدة في اعتقاد خلود الفسّاق في جهنم ولعلّه إنما أورد السؤال ليتكلف عنه بجواب ينفّس عمّا في نفسه مما لا يطيق كتمانه من هذا الباطل» . [سورة التحريم (66) : الآيات 9 الى 12] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 140 اللغة: (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) شدّد عليهم في الخطاب ولا تأخذك هوادة أو لين في معاملتهم. وفي القاموس: «الغلظة مثلته والغلاظة بالكسر وكعنب ضد الرقّة، والفعل ككرم وضرب فهو غليظ وغلاظ كغراب وأغلظ له في القول خشن» . الإعراب: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) يا أيها النبي تقدّم إعرابها كثيرا وجاهد فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والكفّار مفعول به والمنافقين عطف على الكفّار واغلظ فعل أمر معطوف على جاهد وعليهم متعلقان بأغلظ (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الواو استئنافية ومأواهم مبتدأ وجهنم خبر وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والمصير فاعل والمخصوص بالذم محذوف أي هي (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ) كلام مستأنف مسوق لإيراد حالة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 141 غريبة ليعرف على ضوئها حالة غريبة أخرى مشاكلة لها في الغرابة. وضرب الله فعل وفاعل ومثلا مفعول به ثان مقدّم واللام ومجرورها متعلقة بمحذوف صفة لمثلا وامرأة نوح مفعول به أول وامرأة لوط عطف على امرأة نوح (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما) الجملة مستأنفة مسوقة لتفسير ضرب المثل، وكان فعل ماض ناقص والتاء تاء التأنيث الساكنة والألف اسم كان وتحت عبدين الظرف متعلق بمحذوف خبر كان ومن عبادنا نعت لعبدين، فخانتاهما عطف وهو فعل ماض وفاعل ومفعول به، وسيأتي اسم المرأتين وحديثهما في باب الفوائد (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) الفاء عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم ويغنيا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون والألف فاعل وعنهما متعلقان بيغنيا ومن الله حال وشيئا مفعول مطلق أو مفعول به وقيل عطف على ما تقدم وهو فعل ماض مبني للمجهول وجملة ادخلا مقول القول والنار مفعول به على السعة ومع الداخلين ظرف متعلق بادخلا والفعل الماضي قيل مضارع في المعنى أي ويقال لهما (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) عطف على ما تقدم وإذ ظرف متعلق بمثلا ولعلّ الأولى أن يقال أنه متعلق بمحذوف بدل من مثلا وجملة قالت في محل جر بإضافة الظرف إليها وربّ منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وابن فعل أمر للدعاء مبني على حذف حرف العلة ولي متعلقان بابن وعندك ظرف متعلق بمحذوف حال من ضمير المتكلم أو من بيتا لتقدمه عليه وفي الجنة عطف بيان أو بدل لقوله عندك أو متعلقان بابن (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ونجّني عطف على ابن ومن فرعون متعلقان بنجّني وعمله عطف ومن القوم متعلقان بنجّني والظالمين نعت للقوم (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) ومريم عطف على امرأة فرعون وابنة بدل أو نعت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 142 لمريم وعمران مضاف وجر بالفتحة لأنه لا ينصرف للعلمية وزيادة الألف والنون والتي نعت لمريم وجملة أحصنت فرجها صلة التي أي حفظته وصانته من الرجال، فنفخنا عطف على أحصنت وفيه متعلقان بنفخنا ومن روحنا صفة لمفعول به محذوف أي روحا من روحنا ومن للتبعيض، وقد مرّ معنى النفخ فيما تقدم (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) وصدّقت عطف على محذوف مقدّر مناسب للسياق أي فحملت بعيسى وصدّقت، وبكلمات متعلقان بصدّقت وربها مضاف إليه وكتبه عطف على كلمات وكانت فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هي ومن القانتين خبر، ويجوز في من وجهان أحدهما أنها لابتداء الغاية والثاني أنها للتبعيض والتذكير للتغليب. البلاغة: في ضرب المثل تعريض بحفصة وعائشة المذكورتين في أول السورة وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بما كرهه وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشدّه لما في التمثيل من ذكر الكفر ونحوه وإشارة إلى أن من حقهما أن تكونا في الإخلاص والكتمان فيه كمثل هاتين المؤمنتين وأن لا تتكلا على أنهما زوجتا رسول الله فإن ذلك الفضل لا ينفعهما إلا مع كونهما مخلصتين، والتعريض بحفصة لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله، قال ابن عطية: «إن في المثلين عبرة لزوجات النبي صلّى الله عليه وسلم حين تقدّم عتابهنّ وفي هذا بعد لأن النص أنه للكفّار يبعد هذا» . الفوائد: ذكر المفسرون أن امرأة نوح كانت تقول لقومه إنه مجنون واسمها واهلة بتقديم الهاء على اللام وقيل بالعكس وامرأة لوط تدل قومه على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 143 أضيافه إذا نزلوا به ليلا بإيقاد النار ونهارا بالتدخين واسمها واعلة بتقديم العين على اللام وقيل بالعكس. أما امرأة فرعون واسمها آسية بنت مزاحم وكانت ذات فراسة صادقة في يوسف حين قالت قرّة عين لي ولك، ومن فضائلها أنها اختارت القتل على الملك وعذاب الدنيا على النعيم الذي كانت ترفل فيه. هذا وقد وقع الإجماع على أنه ما زنت امرأة نبي قط، وقيل كانت خيانتهما النفاق، وقيل خانتاهما بالنميمة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 144 (67) سورة الملك مكيّة وآياتها ثلاثون [سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) اللغة: (طِباقاً) جمع طبقة كرحبة ورحاب أو جمع طبق كجمل وجمال وجبل وجبال، وفي المصباح «وأصل الطبق الشيء على مقدار الشيء مطبقا له من جميع جوانبه» . (فُطُورٍ) صدوع وشقوق وفي المختار: «والفطر الشق يقال فطره فانفطر وتفطر الشيء تشقّق وبابه نصر» . (حَسِيرٌ) في المختار: «حسر بصره انقطع نظره من طول مدى وما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 145 أشبه ذلك فهو حسير ومحسور أيضا وبابه جلس» وهو فعيل بمعنى فاعل من الحسور وهو الإعياء. الإعراب: (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تبارك فعل ماض أي تنزّه عن صفات المحدّثين والذي فاعل وبيده خبر مقدّم والملك مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية لا محل لها لأنها صلة الموصول وهو مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بقدير وقدير خبر هو وهذه الجملة معطوفة على الصلة مقررة لمضمونها (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) الذي بدل من اسم الموصول الأول وجملة خلق الموت والحياة لا محل لها لأنها صلة، وليبلوكم اللام للتعليل ويبلو فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والفاعل هو والكاف مفعول به وأيّكم مبتدأ وأحسن خبر وعملا تمييز والجملة الاسمية في محل نصب مفعول ثان ليبلوكم ولام التعليل ومجرورها متعلقان بخلق من حيث تعلقه بالحياة إذ هي محل الاختبار والتكليف وأما الموت فلا شيء من ذلك فيه. وفي الكلام استعارة تمثيلية تبعية على تشبيه حالهم في تكليفه تعالى لهم بتكاليفه، وخلق الموت والحياة لهم وإثابته لهم وعقوبته بحال المختبر مع من جرّبه واختبره لينظر مدى طاعته أو عصيانه فيكرمه أو يهينه (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) مبتدأ وخبراه (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) الذي بدل ثان من اسم الموصول وقيل من العزيز الغفور وقيل نعت لهما أو أنه في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف أو منصوب على المدح وجملة خلق صلة وسبع سموات مفعول به وطباقا صفة لسبع سموات أو منصوب بفعل مقدّر أي طبقت طباقا فيكون مصدر طابق مطابقة وطباقا (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 146 كلام مستأنف مسوق لتوكيد استقامة خلقه تعالى وما نافية وترى فعل مضارع وفاعله مستتر يعود على من يصلح للخطاب وفي خلق الرحمن متعلقان بتري ومن حرف جر زائد وتفاوت مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول ترى وقرىء تفوت بالتشديد للواو دون ألف، والتفاوت عدم التناسب لأن بعض الأجزاء يفوت الآخر، ومن الغريب أن الزمخشري جعل هذه الجملة صفة متابعة لقوله طباقا قال: «وهذه الجملة المنفية صفة لقوله طباقا وأصلها ما ترى فيهنّ فوضع مكان الضمير خلق الرحمن تعظيما لخلقهنّ وتنبيها على سبب سلامتهنّ وهو خلق الرحمن» وفي هذا من التعسّف ما فيه لانفلات الكلام بعضه من بعض. فارجع: الفاء تعليلية لأن قوله فارجع البصر متسبّب عن قوله ما ترى، وارجع البصر فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وهل حرف استفهام وترى فعل مضارع مرفوع ومن حرف جر زائد وفطور مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به والجملة الاستفهامية في موضع نصب بفعل محذوف وهذا الفعل معلق بالاستفهام أي هل ترى (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وارجع البصر فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وكرتين نصب على المصدر كمرتين وهو وإن كان مثنى لا يقصد به التثنية بل المقصود به التكثير، وينقلب فعل مضارع مجزوم لأنه وقع جوابا للطلب وإليك متعلقان بينقلب والبصر فاعل وخاسئا حال والواو حالية وهو مبتدأ وحسير خبر والجملة حال إما من صاحب الأولى وإما من الضمير المستكن في الحال قبلها فتكون حالا متداخلة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 147 [سورة الملك (67) : الآيات 5 الى 11] وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) اللغة: (رُجُوماً) الرجوم جمع رجم وهو مصدر سمّي به المفعول أي ما يرجم به ويجوز أن يكون باقيا على مصدريته ويقدّر مضاف أي ذات رجوم وإنما جمع المصدر باعتبار أنواعه. الإعراب: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في ذكر دلائل أخرى على تمام قدرته تعالى واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وزينّا فعل وفاعل والسماء مفعول به والدنيا نعت أي القربى إلى الأرض وبمصابيح متعلقان بزينّا، وجعلناها فعل وفاعل ومفعول به ورجوما مفعول به ثان وللشياطين متعلقان برجوما أو نعت له (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 148 وأعتدنا عطف على زينّا ولهم متعلقان بأعتدنا وعذاب السعير مفعول به (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الواو عاطفة وللذين خبر مقدّم وجملة كفروا صلة وبربهم متعلقان بكفروا وعذاب جهنم مبتدأ مؤخر وبئس المصير فعل جامد لإنشاء الذم وفاعله، والمخصوص بالذم محذوف تقديره هي (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ) إذا ظرف زمان مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بسمعوا وجملة ألقوا في محل جر بإضافة الظرف إليها و. لقوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل وفيها متعلقان بألقوا والجملة مستأنفة وجملة سمعوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ولها متعلقان بمحذوف حال من شهيقا لأنه في الأصل صفته وتقدم عليه وشهيقا مفعول سمعوا والواو حالية وهي مبتدأ وجملة تفور خبر والجملة حالية من الهاء في لها (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) الجملة مستأنفة كأنها وقعت جوابا لسؤال سائل، وتكاد فعل مضارع من أفعال المقاربة واسمها مستتر تقديره هي وجملة تميّز خبر، وتميّز أصلها تتميّز فعل مضارع أي تتقطع فحذفت إحدى التاءين، ومن الغيظ في محل نصب على التمييز أي غيظا وكلما ظرف زمان متعلق بجوابه وهو سألهم وقد مرّ تفصيل إعرابها، وألقي فعل ماض مبني للمجهول وفيها متعلقان بألقي وفوج نائب فاعل وجملة سألهم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وهو فعل ماض ومفعول به وخزنتها فاعل والهمزة للاستفهام التقريري التوبيخي ولم حرف نفي وقلب وجزم ويأتكم فعل مضارع مجزوم بلم والكاف مفعول به ونذير فاعل وجملة الاستفهام مفعول به ثان لسأل (قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ) قالوا فعل وفاعل وقد حرف تحقيق وجاءنا فعل ماض ومفعول به مقدّم ونذير فاعل مؤخر والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر كأنه قيل: فماذا قالوا بعد السؤال، فقال: قالوا بلى قد جاءنا نذير وجملة قد جاءنا في محل نصب مقول القول (فَكَذَّبْنا وَقُلْنا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 149 ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) الفاء حرف عطف وكذبنا فعل وفاعل وقلنا عطف على كذبنا وما نافية ونزل فعل ماض والله فاعل ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به والجملة مقول القول (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) إن نافية وأنتم مبتدأ وإلا أداة حصر وفي ضلال خبر أنتم وكبير نعت (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) الواو عاطفة وقالوا فعل ماض وفاعل ولو شرطية وكان واسمها وجملة نسمع خبرها وأو حرف عطف ونعقل عطف على نسمع وما نافية وكان واسمها وفي أصحاب السعير خبرها والجملة لا محل لها وجملة الشرط وجوابه مقول القول (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) الفاء عاطفة واعترفوا فعل وفاعل وبذنبهم متعلقان باعترفوا والفاء عاطفة وسحقا منصوب على المصدر تقديره سحقهم الله سحقا فناب المصدر عن عامله في الدعاء نحو جدعا له وعقرا فلا يجوز إظهاره وقيل هو مفعول به لفعل محذوف أي ألزمهم الله سحقا وفي المختار: «والسحق البعد يقال سحقا له والسحق بضمتين مثله وقد سحق الشيء بالضم سحقا بوزن بعد فهو سحيق أي بعيد وأسحقه الله أي أبعده» وكان القياس إسحاقا فجاء بالمصدر على المحذوف، واللام في لأصحاب السعير للبيان كما في هيت لك. البلاغة: 1- في قوله «ولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح» استعارة تصريحية، شبّه الكواكب والنجوم بمصابيح وحذف المشبه وأبقى المشبه به على طريق الاستعارة التصريحية الأصلية لأن الناس يزيّنون مساجدهم ودورهم بإثقاب المصابيح ولكنها مصابيح لا توازيها مصابيحكم إضاءة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 150 2- وفي قوله: «تكاد تميز من الغيظ» استعارة مكنية تبعية، شبّه جهنم بالمغتاظة عليهم لشدة غليانها بهم وحذف المشبه به وأبقى شيئا من لوازمه لأن المغتاظة تتميز وتتقصف غضبا ويكاد ينفصل بعضها عن بعض لشدة اضطرابها ويقولون فلان يتميز غيظا إذا وصفوه بالإفراط في الغضب. وفي هذه الآية أيضا فن حسن الاتباع فقد جرى الشعراء على نهجها فولعوا بإسناد أفعال من يعقل إلى ما لا يعقل وقد أوردنا له أمثلة في الكهف وفي الفرقان فجدّد بها عهدا. [سورة الملك (67) : الآيات 12 الى 17] إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) اللغة: (ذَلُولًا) فعوّل بمعنى مفعول أي مذللة مسخرة منقادة لما تريدون منها. (مَناكِبِها) المناكب جمع منكب وهو مجتمع رأس الكتف والعضد يقال: تشابهت منهم المناكب والرءوس أي ليس فيهم مفضل، ويقال: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 151 هزّ منكبه لكذا أي فرح به وفلان معي على حدّ منكب أي كلما رآني التوى ولم يتلقني بوجهه، والمنكب أيضا: ناحية كل شيء وجانبة يقال سرنا في منكب من الأرض أو الجبل أي في ناحية والمنكب من القوم عريفهم أو عونهم والمنكب من الأرض: الطريق والموضع المرتدم وفي القرآن الكريم «فامشوا في مناكبها» أي في مواضعها المرتفعة فعلى هذا يكون الكلام حقيقة وعلى الأول يكون فيه استعارة تصريحية وإلى هذا جنح الزمخشري فقال: «المشي في مناكبها مثل لفرط التذليل ومجاوزته الغاية لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وأنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه فإذا جعلها من الذل بحيث يمشي في مناكبها لم يترك شيئا منها إلا قد ذلله» وقال الزجّاج «معناه سهّل لكم السلوك في جبالها فإذا أمكنكم السلوك في جبالها فهو أبلغ في التذليل» وقيل جوانبها. (تَمُورُ) تتحرك بكم وفي المختار: «مار من باب قال تحرّك وجاء وذهب ومنه: يوم تمور السماء مورا، قال الضحّاك: تموج موجا» . الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) إن واسمها وجملة يخشون صلة الذين وربهم مفعول به وبالغيب حال من الواو في يخشون والباء بمعنى في ولهم خبر مقدم ومغفرة مبتدأ مؤخر وأجر عطف على مغفرة وكبير نعت لأجر والجملة الاسمية خبر إن (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) الواو استئنافية وأسرّوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وقولكم مفعول به وأو حرف عطف واجهروا فعل أمر وفاعل وبه متعلقان باجهروا وإن واسمها وعليم خبرها وبذات الصدور متعلقان بعليم وجملة إن وما في حيّزها تعليل للأمر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 152 بتساوي السر والجهر بالنسبة إلى علمه تعالى (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الهمزة للاستفهام ولا نافية ويعلم فعل مضارع مرفوع ومن اسم موصول في محل نصب مفعول به والفاعل مستتر يعود على الله تعالى والمعنى أينتفي علمه بمن خلق وهو الذي أحاط بمكنونات الأمور وجليّاتها وأجاز الزمخشري ورجحه الجمل في حاشيته نقلا عن شيخه أبو البقاء وغيرهما أن يكون من فاعل يعلم والمفعول محذوف كأنه قال ألا يعلم الخالق سرّكم وجهركم والاستفهام معناه الإنكار وعبارة الزمخشري: «ويجوز أن يكون من خلق منصوبا بمعنى ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله وروي أن المشركين كانوا يتكلمون فيما بينهم بأشياء فيظهر الله رسوله عليها فيقولون أسرّوا قولكم لئلا يسمعه إله محمد، فنبّه الله على جهلهم فإن قلت قدّرت في ألّا يعلم مفعولا على معنى ألا يعلم ذلك المذكور فما أضمر في القلب وأظهر باللسان من خلق فهلّا جعلته مثل قولهم: هو يعطي ويمنع وهلّا كان المعنى ألا يكون عالما من هو خالق لأن الخلق لا يصحّ إلا مع العلم قلت: أبت ذلك الحال التي هي قوله وهو اللطيف الخبير لأنك لو قلت: ألا يكون عالما من هو خالق وهو اللطيف الخبير لم يكن معنى صحيحا لأن ألا يعلم معتمد على الحال والشيء ولا يوقت بنفسه فلا يقال: ألا يعلم وهو عالم ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم بكل شيء» . وقد تعقب ابن المنير المالكي الزمخشري وناقشه مناقشة قيّمة قال فيها: «هذه الآية ردّ على المعتزلة وتصحيح للطريق التي يسلكها أهل السنّة في الردّ عليهم فإن أهل السنّة يستدلون على أن العبد لا يخلق أفعاله بأنه لا يعلمها وهو استدلال بنفي اللازم الذي هو العلم على نفي الملزوم الذي هو الخلق وبهذه الملازمة دلّت الآية فإن الله تعالى أرشد إلى الاستدلال على ثبوت العلم له عزّ وجلّ بثبوت الخلق وهو استدلال بوجود الملزوم على وجود اللازم فهو نور واحد يقتبس منه ثبوت العلم للبارىء عزّ وجلّ وإبطال خلق العبد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 153 لأفعاله وإعراب الآية ينزل على هذا المعنى فإن الوجه فيها أن يكون من فاعلا مرادا به الخالق ومفعول العلم محذوف تقديره ذلك إشارة إلى السر والجهر ومفعول خلق محذوف ضميره عائد إلى ذلك والتقدير في الجميع ألا يعلم السر والجهر من خلقهما ومتى حذونا غير هذا الوجه من الإعراب ألقانا إلى مضايق التكلّف والتعسّف فمن المحتمل أن يكون من مفعولة واقعة على فاعل السر والجهر والتقدير ألا يعلم الله المسرّين والجاهرين وليس مطابقا للمفصل فإنه لم يقع على ذوات الفاعلين وإنما وقع على أفعالهم من السرّ والجهر وعليه وقع الاستدلال ويحتمل غير ذلك أبعد منه والأول هو الأولى لفظا ومعنى والله الموفّق» والواو حالية وهو مبتدأ واللطيف خبر أول والخبير خبر ثان (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) هو مبتدأ والذي خبر وجملة جعل صلة ولكم متعلقان بذلولا والأرض مفعول جعل الأول وذلولا مفعولها الثاني إذا كانت بمعنى صيّر وإن كانت بمعنى خلق يعرب حالا والفاء الفصيحة أي إن عرفتم ذلك فامشوا والأمر أمر إباحة وفي مناكبها متعلقان بامشوا وكلوا فعل أمر وفاعل ومن رزقه متعلق بكلوا وإليه خبر مقدم والنشور مبتدأ مؤخر (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ) الهمزة للاستفهام الإنكاري وأمنتم فعل وفاعل ومن مفعول به وهي عبارة عن الله تعالى وفي السماء متعلقان بمحذوف صلة الموصول وأن يخسف المصدر المؤول في محل نصب بدل اشتمال من «من» وبكم متعلقان بيخسف والأرض مفعول به والفاء عاطفة وإذا الفجائية وقد تقدم القول فيها وهي مبتدأ وجملة تمور خبر (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) أم عاطفة بمعنى بل كأنه أضرب عن التهديد الأول لينتقل إلى تهديد آخر وأمنتم فعل وفاعل ومن مفعول به وفي السماء صلة وأن وما في حيّزها بدل اشتمال من «من» وحاصبا مفعول به الجزء: 10 ¦ الصفحة: 154 والفاء الفصيحة والسين حرف استقبال وتعلمون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون وكيف اسم استفهام خبر مقدّم ونذيري مبتدأ مؤخر وحذفت ياء المتكلم رسما والجملة المعلقة في محل نصب مفعول تعلمون. [سورة الملك (67) : الآيات 18 الى 22] وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) اللغة: (الطَّيْرِ) في المصباح: «جمع الطائر طير مثل صاحب وصحب وراكب وركب وجمع الطير طيور وأطيار وقال أبو عبيدة وقطرب: ويقع الطير على الواحد والجمع وقال ابن الأنباري: الطير جماعة وتأنيثها أكثر من تذكيرها ولا يقال للواحد طير بل طائر وقلّما يقال للأنثى طائرة» وفي القاموس واللسان وغيرهما ما خلاصته: الطير مصدر وجمع طائر وقد يقع على الواحد والاسم من التطيّر ومنه قولهم: لا طير إلا طير الله وطير الله لا طيرك كما يقال: صباح الله لا صباحك ويقال أيضا: كأنّ على رءوسهم الطير أي هم ساكنون هيبة وأصله أن الغراب يقع على رأس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 155 البعير فيلقط منه القراد فلا يتحرك البعير لئلا ينفر عنه الغراب، وازجر أحناء طيرك أي جوانب خفتك وطيشك. (صافَّاتٍ) باسطات أجنحتهنّ في الجو عند طيرانها. (وَيقبضنها) ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهنّ، وسيأتي المزيد في باب البلاغة. (لَجُّوا) تمادوا. (مُكِبًّا) اسم فاعل من أكب اللازم المطاوع لكبه يقال كبّه الله على وجهه في النار فأكبّ أي سقط وهذا على خلاف القاعدة في أن الهمزة إذا دخلت على اللازم تصيّره متعديا، وهنا قد دخلت على اللازم فصيّرته لازما، هذا ما ذكره اللغويون وأنكره الزمخشري قال: «يجعلون أكبّ مطاوع كبّه يقال: كببته فأكبّ من الغرائب والشواذ ونحوه قشعت الريح السحاب فأقشع وما هو كذلك ولا شيء من بناء أفعل مطاوعا ولا يتقن هذا إلا حملة كتاب سيبويه وإنما أكبّ من باب أنغض وألأم ومعناه دخل في الكب وصار ذا كب وكذلك أقشع السحاب دخل في القشع ومطاوع كب وقشع انكبّ وانقشع» وفي الصحاح ما يؤيد قول الزمخشري قال: «أنغض القوم هلكت أموالهم وانفضّوا أيضا مثل أرملوا فني زادهم» وفيه أيضا: «ألأم الرجل إذا صنع ما يدعوه الناس عليه لئيما» . وقال أبو حيان: «ومكبّا حال من أكبّ وهو لا يتعدى وكب متعد قال تعالى: فكبت وجوههم في النار، والهمزة فيه للدخول في الشيء أو للصيرورة ومطاوع كب: انكب تقول كببته فانكب» . وفي القاموس: «كبه قلبه وصرعه كأكبّه وكبكبه فأكبّ وهو لازم ومتعدّ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 156 وعبارة الأساس: «أكبّ لوجهه وعلى وجهه فانكبّ: أفمن يمشي مكبّا على وجهه، وكببته وهو مكبوب ومكبوت وكببته في الهوّة وكبكبته وكذلك إذا رمى به من رأس جبل أو حائط، والفارس يكبّ الوحوش وهم يكبّون العشار قال: يكبّون العشار لمن أتاهم ... إذا لم تسكت المائة الوليدا ورجل أكب لا يزال يعثر قال عدي: إن يصبني بعض الهنات فلا وا ... ن ضعيف ولا أكبّ عثور ومن المجاز: أكبّ على عمله وهو مكبّ عليه لازم له لا يفارقه قال لبيد: جنوح الهالكي على يديه ... مكبّا يجتلي نقب النصال وأكبّ فلان على فلان يطلبه» الإعراب: (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) الواو استئنافية واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وكذب فعل ماض والذين فاعل ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صلة الموصول والفاء حرف عطف وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان مقدّم وكان فعل ماض ناقص ونكير اسمها وحذفت الياء اتّباعا لرسم المصحف أي إنكاري عليهم (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو عاطفة على مقدّر أي أغفلوا ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل وإلى الطير متعلقان بيروا وفوقهم ظرف متعلق بصافّات وصافّات حال، ويقبضن الواو عاطفة ويقبضن فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة ونون النسوة فاعل، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 157 وسيأتي سر عطف المضارع على الاسم المشتق في باب البلاغة، ومفعول يقبض محذوف أي أجنحتهنّ (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) الجملة مستأنفة أو في محل نصب على الحال من فاعل يقبضن وأعربها أبو البقاء بدلا من الضمير في يقبضن ولم أر لهذا الإعراب مساغا، وما نافية ويمسكهنّ فعل مضارع مرفوع والهاء مفعول به وإلا أداة حصر والرحمن فاعل وإن واسمها وبكل شيء متعلقان ببصير وبصير خبر إن والجملة تعليل للقدرة التي تدخل كل شيء في نطاق علمها (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) أم حرف عطف بمعنى بل فهي منقطعة ومن اسم استفهام مبتدأ وهذا اسم إشارة خبر والذي بدل من هذا أو صفة لاسم الإشارة وهو مبتدأ وجند خبر ولكن نعت والجملة الاسمية لا محل لها لأنها صلة وجملة ينصركم نعت ثان أو حال ومن دون الرحمن متعلقان بمحذوف حال من فاعل ينصركم (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) إن نافية والكافرون مبتدأ وإلا أداة حصر وفي غرور خبر المبتدأ والجملة معترضة لا محل لها (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) عطف على ما تقدم وإن شرطية وأمسك فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف دلّ عليه ما تقدم ورزقه مفعول به (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) بل حرف إضراب وعطف ولجوا فعل ماض وفاعل وفي عتو متعلقان بلجوا ونفور عطف على عتو (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الهمزة للاستفهام التوبيخي والفاء عاطفة على محذوف مقدّر ومن اسم موصول مبتدأ وجملة يمشي صلة ومكبّا حال من فاعل يمشي وعلى وجهه متعلق بمكبّا وأهدى خبر وأم حرف عطف معادل لهمزة الاستفهام ومن عطف على من الأولى وجملة يمشي صلة وسويا حال وعلى صراط مستقيم متعلقان بيمشي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 158 البلاغة: 1- في قوله «أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافّات ويقبضن» عطف الفعل على الاسم والسياق يقتضي أن يقول قابضات وذلك لسرّ لطيف، فإن أصل الطيران هو رصف الأجنحة لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء والأصل في السباحة مدّ الأطراف وبسطها وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرّك فجيء بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهنّ صافّات ويكون منهنّ القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح، وخلاصة القول أن الغالب هو البسط فكأنه هو الثابت فعبّر عنه بالاسم والقبض متجدّد فعبّر عنه بالفعل. 2- وفي قوله «أفمن يمشي مكبّا على وجهه أهدى أم من يمشي سويّا على صراط مستقيم» استعارة تمثيلية وهو مثل للمؤمن والكافر، فالكافر أعمى لا يهتدي إلى الطريق بل يمشي متعسفا فلا يزال يتعثر وينكب على وجهه والمؤمن صحيح البصر يمشي في طريق واضحة مستقيمة سالما من العثور والخرور على وجهه. وهكذا تتجلى طريقة القرآن في التجسيد. [سورة الملك (67) : الآيات 23 الى 30] قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 159 اللغة: (زُلْفَةً) الزلفة: القرب. الإعراب: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) هو مبتدأ والذي خبر وجملة أنشأكم صلة والجملة الاسمية مقول القول وجعل عطف على أنشأكم ولكم متعلقان بجعل أو في محل نصب مفعول به لجعلنا، وقد تقدم الفرق بين الجعل بمعنى الخلق والجعل بمعنى التصيير، والسمع مفعول به والأبصار عطف على السمع والأفئدة عطف أيضا وقليلا صفة مصدر مقدّم وما زائدة لتأكيد التقليل وتشكرون فعل مضارع مرفوع ويجوز إعراب قليلا ظرف متعلق بتشكرون والجملة في محل نصب حال مقدّرة (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة ذرأكم صلة والجملة مقول القول وفي الأرض متعلقان بذرأكم وإليه متعلقان بتحشرون وتحشرون فعل مضارع مرفوع والواو نائب فاعل (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الواو عاطفة ويقولون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل ومتى اسم استفهام في محل نصب ظرف زمان والظرف متعلق بمحذوف في محل رفع خبر مقدم وهذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 160 مبتدأ مؤخر والوعد بدل وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط وكان واسمها وصادقين خبرها وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم صادقين فيما تخبرون به من أمر القيامة والحشر فبيّنوا وقته على وجه التحديد (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) إنما كافّة ومكفوفة والعلم مبتدأ وعند الله ظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدأ وإنما عطف على إنما الأولى وأنا مبتدأ ونذير خبر ومبين نعت والجملتان مقول القول (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) الفاء الفصيحة لأنها أعربت عن جملتين مقدرتين كأنه قيل وقد أتاهم ما وعدوا به فرأوه فلما رأوه، ولما حينية أو رابطة متضمنة معنى الشرط ورأوه فعل ماض وفاعل ومفعول به وزلفة حال من مفعول رأوه وهو اسم مصدر لأزلف وهو بمعنى اسم الفاعل وأجاز الزمخشري إعرابها ظرفا أي مكانا ذا زلفة، وجملة سيئت لا محل لها لأنها جواب لما ووجوه نائب فاعل والذين مضاف إليه وجملة كفروا صلة (وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) الواو عاطفة وقيل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر أي قال الخزنة لهم، وهذا مبتدأ والذي اسم موصول في محل رفع صفة للخبر المحذوف أي هذا العذاب الذي وجملة كنتم صلة وكان واسمها وبه متعلقان بتدعون وجملة تدعون خبر كنتم (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا) أرأيتم الهمزة للاستفهام الإنكاري ورأيتم بمعنى أخبروني فعل وفاعل وإن شرطية وأهلكني الله فعل ماض ومفعول به وفاعل والجملة الشرطية التالية سدّت مسدّ مفعولي أرأيتم وقد تقدمت لهذا الإعراب نظائر وإن شرطية وأهلكني فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والنون للوقاية والياء مفعول به والله فاعل وجواب الشرط محذوف تقديره فلا فائدة لكم ولا نفع يعود عليكم والواو حرف عطف ومن عطف على الياء ومعي ظرف متعلق بمحذوف صلة من وأو حرف عطف ورحمنا فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 161 عَذابٍ أَلِيمٍ) الفاء تعليلية ومن اسم استفهام معناه النفي، أي لا أحد، في محل رفع فاعل وجملة يجير خبر والكافرين مفعول ومن عذاب أليم متعلقان بيجير (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) هو مبتدأ والرحمن خبر وجملة آمنّا به خبر ثان وبه متعلقان بآمنّا وعليه متعلقان بتوكلنا والجملة عطف على آمنّا به (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الفاء الفصيحة والسين حرف استقبال وتعلمون فعل وفاعل ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وهو ضمير فصل وفي ضلال مبين خبر من والجملة الاستفهامية سادّة مسدّ مفعولي تعلمون المعلقة بالاستفهام (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أرأيتم تقدم قريبا إعرابها فجدّد به عهدا، والجملة الشرطية سدّ مسدّ مفعوليها وماؤكم اسم أصبح وغورا خبر أي غائرا ذاهبا في مسارب الأرض لا تناله الدلاء والأرشية والفاء رابطة ومن اسم استفهام مبتدأ وجملة يأتيكم خبر والجملة في محل جزم جواب الشرط ، وبما متعلقان بيأتيكم ومعين صفة لماء أي ظاهر تتراءاه العيون وأصله معيون بوزن مفعول كمبيع أصله مبيوع فنقلت ضمة الياء إلى العين قبلها فالتقى ساكنان الياء والواو فحذفت الواو ثم كسرت العين لتصح الياء، وقيل هو من معن الماء أي كثر فهو على هذا الاعتبار فعيل لا مفعول والميم أصلية أما على الأول فالميم زائدة لأن الفعل عين. البلاغة: في قوله: «آمنّا به وعليه توكلنا» التقديم والتأخير فقد قدّم المفعول في قوله وعليه توكلنا وأخّره في قوله آمنّا به، وقال الزمخشري بصدده: «فإن قلت لم أخّر مفعول آمنّا وقدّم مفعول توكلنا؟ قلت لوقوع آمنّا تعريضا بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم كأنه قيل آمنّا ولم نكفر كما كفرتم ثم قال وعليه توكلنا خصوصا لم نتوكل على ما أنتم متوكلون عليه من رجالكم وأموالكم» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 162 (68) سورة القلم مكيّة وآياتها ثنتان وخمسون [سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) الإعراب: (ن، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) ن تقدم القول في إعراب فواتح السور، ونضيف ما قاله الزمخشري في الرد على المتعسفين، قال: هذا الحرف من حروف المعجم وأما قولهم هو الدواة فما أدري أهو وضع لغوي أم شرعي ولا يخلو إذا كان اسما للدواة من أن يكون جنسا أو علما فإن كان جنسا فأين الإعراب والتنوين وإن كان علما فأين الإعراب وأيّهما كان فلا بدّ له من موقع في تأليف الكلام فإن قلت هو مقسم به الجزء: 10 ¦ الصفحة: 163 وجب إن كان جنسا أن تجرّه وتنوّنه ويكون القسم بدواة منكرة مجهولة كأنه قيل ودواة والقلم، وإن كان علما أن تصرفه وتجرّه أو لا تصرفه وتفتحه للعملية والتأنيث وكذلك التفسير بالحوت إما أن يراد نون من النينان أو يجعل علما للبهموت الذي يزعمون والتفسير باللوح من نور أو ذهب والنهر في الجنة. وأكد أبو حيان أنه لا يصحّ شيء من ذلك. والواو حرف قسم وجر والقلم مقسم به والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وأقسم تعالى بالقلم تعظيما لأمره وتنويها بشأنه ولما فيه من الفوائد والمنافع التي لا يحيط بها الوصف أي فالمراد به جنس القلم الشامل للأقلام التي يكتب بها، قال تعالى «وربك الأكرم الذي علّم بالقلم» وبأنه ينتفع به كما ينتفع بالمنطق ولهذا قيل: القلم أحد اللسانين. والواو حرف عطف وما موصولة أو مصدرية وعلى كل حال هي معطوفة على القلم فأقسم أولا بالقلم ثم بسطر الملائكة أو بمسطورهم فالمقسم به شيئان على ثلاثة أشياء نفي الجنون عنه وثبوت الأجر له وكونه على الملّة الحنيفية السمحاء (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) جملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب القسم وما نافية حجازية وبنعمة ربك متعلقان بمعنى النفي المدلول عليه بما والباء للسبب والباء حرف جر زائد ومجنون مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما والمعنى انتفى عنك الجنون بسبب إنعام ربك عليك بالنبوّة وغيرها، وسيأتي مزيد بيان لتعلق الجار والمجرور والظرف بمعنى النفي في باب الفوائد (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) الواو حرف عطف والجملة وما بعدها عطف على جملة جواب القسم فهما من جملة المقسم عليه كما تقدم آنفا وإن حرف مشبه بالفعل ولك خبرها المقدم واللام المزحلقة وأجرا اسمها وغير ممنون نعت أي غير مقطوع (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) إن واسمها واللام المزحلقة وعلى خلق خبر وعظيم نعت (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) الفاء استئنافية والسين حرف استقبال وتبصر فعل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 164 مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنت ويبصرون عطف على ستبصر (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) اختلف المعربون فيها اختلافا شديدا ونورد أرجح الأقوال وهي أربعة: 1- أن الباء مزيدة في المبتدأ والتقدير أيّكم المفتون فزيدت الباء كزيادتها في نحو بحسبك زيد 2- أن الباء بمعنى في فهي ظرفية كقولك زيد بالبصرة أي فيها والمعنى في أيّ فرقة وطائفة منكم المفتون 3- أنه على حذف مضاف أي بأيّكم فتن المفتون فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وتكون الباء سببية 4- أن المفتون مصدر جاء على مفعول كالمعقول والميسور والتقدير بأيّكم الفتون والجملة على كل حال في محل نصب معمولة لما قبلها لأنه معلق بأداة الاستفهام وسيأتي مزيد بحث في هذا الصدد في باب الفوائد (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) الجملة لا محل لها لأنها تعليل لما تقدم لأن ما قبلها أنبأ بظهور جنونهم بحيث لا يخفى على أحد، وإن واسمها وهو مبتدأ وأعلم خبر والجملة خبر إن، ولك أن تعرب هو ضمير فصل وأعلم خبر وبمن متعلقان بأعلم وجملة ضلّ صلة وعن سبيله متعلقان بضل وهو مبتدأ وأعلم خبر وبالمهتدين متعلقان بأعلم. البلاغة: في قوله «ن والقلم وما يسطرون» إلى قوله «غير ممنون» فن المناسبة اللفظية، وهي عبارة عن الإتيان بلفظات متّزنات مقفّات. الفوائد: 1- منع جمهور النحاة تعليق الجار والمجرور والظرف بأحرف المعاني، وأجازه بعضهم وفصّل بعضهم، فقال إن كان نائبا عن فعل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 165 حذف جاز ذلك على سبيل النيابة لا الأصالة وإلا فلا، قال ابن هشام في المغني: ومن ذلك قوله تعالى: ما أنت بنعمة ربك بمجنون، الباء متعلقة بالنفي إذ لو علقت بمجنون لأفاد نفي جنون خاص وهو الذي يكون من نعمة الله وليس في الوجود جنون هو نعمة. هذا ما ذكره ابن الحاجب وغيره وهو كلام بديع إلا أن جمهور النحويين لا يوافقون على صحة التعلّق بالحرف فينبغي أن يقدّر على قولهم أن التعلق بفعل دلّ عليه النافي أي انتفى ذلك بنعمة ربك وقد ذكرت في شرحي لقصيدة كعب بن زهير عند الكلام على قوله: وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول إن المختار تعلق الظرف بمعنى التشبيه الذي تضمنه البيت وذلك على أن الأصل وما كسعاد إلا ظبي أغن على التشبيه المعكوس للمبالغة لئلا يكون الظرف متقدما في التقدير على اللفظ الحامل لمعنى التشبيه وإذا جاز لحرف التشبيه أن يعمل في الحال في نحو قوله: كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي مع أن الحال شبيهة بالمفعول به فعمله في الظرف أجدر. أما الزمخشري فقد سلك مسلكا غريبا في تعليق بنعمة قال: «فإن قلت: بم تتعلق الباء في بنعمة ربك وما محله؟ قلت يتعلق بمجنون منفيا كما يتعلق بعاقل مثبتا في قولك: أنت بنعمة الله عاقل مستويا في ذلك الإثبات والنفي استواءهما في قولك ضرب زيد عمرا وما ضرب زيد عمرا تعمل الفعل مثبتا ومنفيا إعمالا واحدا كأنه قال: ما أنت بمجنون منعما عليك بذلك ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله لأنها زائدة لتأكيد النفي» وقد تبع الزمخشري معظم المفسرين، قال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 166 النسفي: «الباء تتعلق بمحذوف ومحله النصب على الحال والعامل فيها بمجنون» . وتعقب أبو حيان الزمخشري فيما ذهب إليه فقال: «وما ذهب إليه الزمخشري من أن بنعمة ربك متعلق بمجنون وأنه في موضع الحال يحتاج إلى تأمل وذلك أنه إذا تسلط النفي على محكوم به وذلك له معمول ففي ذلك طريقان أحدهما أن النفي يتسلط على ذلك المعمول فقط والآخر أن يتسلط النفي على المحكوم به فينتفي معموله لانتفائه بيان ذلك تقول ما زيد قائم مسرعا فيتبادر إلى الذهن أنه منتف إسراعه دون قيامه فيكون قد قام غير مسرع والوجه الآخر أنه انتفى قيامه فانتفى إسراعه أي لا قيام فلا إسراع وهذا الذي قررناه لا يتأتّى معه قول الزمخشري بوجه بل يؤدي إلى ما لا يجوز أن ينطق به في حق المعصوم صلّى الله عليه وسلم. 2- ذكر صاحب المغني أن الباء في «بأيّكم المفتون» زائدة، قال في مواضع الباء الزائدة: «الثالث المبتدأ وذلك في قولهم بحسبك درهم وخرجت فإذا بزيد وكيف بك إذا كان كذا وكذا ومنه عند سيبويه: بأيّكم المفتون وقال أبو الحسن بأيّكم متعلق باستقرار محذوف يخبر به عن المفتون ثم اختلف فقيل المفتون مصدر بمعنى الفتنة وقيل الباء ظرفية أي في أي طائفة منكم المفتون» . هذا وقد قال أبو حيان: «لا ينبغي حمله عليه لقلته» فالمعروف أن الباء لا تزاد في المبتدأ إلا إذا كان لفظ «حسب» قياسا، وقال ابن يعيش: «أما زيادتها في المبتدأ ففي موضع واحد وهو بحسبك» وذكر الكافيجي: «إن زيادتها في بحسبك زيادة في الخبر وجعل درهم مبتدأ مؤخرا وبحسبك هو الخبر لأنه هو محطّ الفائدة والمعنى درهم واحد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 167 كافيك» قال تلميذه السيوطي: «وهو من الحسن بمكان ولا أعلم في اختياراته في العربية أحسن منه» والمسوغ حينئذ هو تقدم الخبر وهو جار ومجرور. [سورة القلم (68) : الآيات 8 الى 16] فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) اللغة: (تُدْهِنُ) أصل الإدهان اللين والمصانعة والمقاربة في الكلام وجعله الزمخشري في أساس البلاغة من المجاز قال: «ومن المجاز أدهن في الأمر وداهن صانع ولاين» . (هَمَّازٍ) عياب أي مغتاب وقيل الهمّاز الذي يهمز الناس بيده ويضربهم واللمّاز باللسان وفي المختار: «اللمز العيب وأصله الإشارة بالعين ونحوها وبابه ضرب ونصر وقرىء بهما في قوله تعالى: ومنهم من يلمزك في الصدقات ورجل لمّاز ولمزة بوزن همزة أي عياب» وفيه أيضا: «الهمز كاللمز وزنا ومعنى وبابه ضرب والهامز والهمّاز العيّاب والهمزة مثله يقال رجل همزة وامرأة همزة أيضا وهمزات الشيطان خطراته التي يخطرها بقلب الإنسان والمهماز حديدة تكون في مؤخر خفّ الرائض» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 168 (مَشَّاءٍ) صيغة مبالغة أي ساع بالكلام بين الناس على وجه الإفساد بينهم. (بِنَمِيمٍ) النميم قيل هو مصدر كالنميمة وقيل هو اسم جنس لها كتمرة وتمر وهو نقل الكلام الذي يسوء سامعه ويحرش بين الناس لتأريث نار البغضاء في الصدور وفي المصباح: «نم الرجل الحديث نما من بابي قتل وضرب سعى به ليوقع فتنة أو وحشة فالرجل نم تسميته بالمصدر ونمّام مبالغة والاسم النميمة والنميم أيضا» وقال الزمخشري: والنميم والنميمة السعاية، وأنشدني بعض العرب: تشبّبي تشبّب النميمة ... تمشي بها زهر إلى تميمه والبيت الذي استشهد به الزمخشري لأعرابي يخاطب النار والتشبّب التوقد والنميمة تزوير الكلام وتزويقه للإفساد بين الناس وثوب منمنم ومنمّم أي منقّش محسّن وزهر اسم امرأة اشتهرت بالنميمة وتميمة قبيلة معروفة، نزّل النار منزلة العاقل فأمرها وقال: اشتعلي كاشتعال التميمة حال كونها تمشي بها هذه المرأة إلى بني تميم وكانت كثيرة الإفساد بين العرب حتى ضرب بها المثل، وبين نميمة وتميمة الجناس اللاحق. (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي بخيل بالمال والخير هنا يراد به عموم ما يطلق عليه. (عُتُلٍّ) غليظ جاف قيل في الطبع وقيل في الجسم وقال أبو عبيدة: هو الفاحش اللئيم وقيل الغليظ الجافي ويقال عتلته وعتنته. (زَنِيمٍ) دعي، قال حسّان بن ثابت: وأنت زنيم نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد يخاطب حسان بهذا البيت الوليد بن المغيرة فيقول إنه زنيم أي معلّق في آل هاشم كالزنمة في الإهاب وهي قطعة جلد صغيرة تترك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 169 معلقة بطرفه فشبهه بها وشبّهه بالقدح المنفرد الفارغ المعلق خلف الراكب وكان الوليد دعيا في قريش ليس من سنخهم، ادّعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده وقيل بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت هذه الآية، جعل جفاءه ودعوته أشدّ معايبه لأنه إذا جفا وغلظ قسا قلبه واجترأ على كل معصية ولأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الناشئ منها ومن ثم جاء في الحديث: «لا يدخل الجنة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده» ويروى أنه لما نزلت قال الوليد لأمه: إن محمدا وصفني بتسع صفات أعرفها غير التاسع منها فإن لم تصدقيني الخبر ضربت عنقك فقالت له: إن أباك عنين فخفت على المال فمكنت الراعي من نفسي فأنت منه، هذا ما قاله المفسرون والذي نراه ورجحه أبو حيان أن هذه الأوصاف ليست لمعين ألا ترى إلى قوله كل حلّاف فإنما وقع النهي عن طواعية من هو بهذه الصفات التي جاءت للمبالغة وسيأتي مزيد بحث عنها في باب البلاغة. (سَنَسِمُهُ) نضع العلامة على الوجه. (الْخُرْطُومِ) أنف السباع وغالب ما يستعمل في أنف الفيل والخنزير، وفي القاموس: «الخرطوم كزنبور الأنف أو مقدمه أو ما ضممت عليه الحنكين كالخرطم القنفذ» . الإعراب: (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) الفاء الفصيحة لأنها عطفت على محذوف دلّ عليه السياق وينبىء عنه ما قبله والنهي بمنابه التهييج وإلهاب التصميم على معاصاتهم، ولا ناهية وتطع فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت والمكذبين مفعول به (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) ودّوا فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة ولو حرف مصدري للتمنّي على رأي البصريين لوقوعه بعد فعل الودادة وقد تقدم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 170 القول فيه مفصّلا في قوله تعالى «يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنة» وهي وما في حيّزها في تأويل مصدر مفعول ودّوا وقيل إن مفعول ودّوا محذوف أي ودّوا إدهانكم وحذف لدلالة ما بعده عليه ولو باقية على بابها من كونها حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره وجوابها عندئذ محذوف تقديره لسرّوا بذلك والفاء حرف عطف ويدهنون فعل مضارع معطوف على تدهن فهو في حيّز لو فهو من المتمنى، والمتمنى شيئان ثانيهما متسبّب عن الأول أو هو خبر لمبتدأ مضمر أي فهم يدهنون، وفي الكشاف: «فإن قلت لم رفع فيدهنون ولم ينصب بإضمار أن وهو جواب التمنّي قلت قد عدل به إلى طريق آخر وهو أنه جعل خبر مبتدأ محذوف أي فهم يدهنون» (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) الواو عاطفة ولا ناهية وتطع فعل مضارع مجزوم بلا وكل حلّاف مفعول به ومهين نعت لحلّاف (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) صفات مسرودة سيأتي الحديث عنها في باب البلاغة وبنميم متعلق بمشاء وللخير متعلقان بمنّاع (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) الظرف متعلق بزنيم وهذه البعدية في الرتبة أي هذا الوصف وهو زنيم متأخر في الرتبة والشناعة عن الصفات السابقة فبعد هنا كثم التي للترتيب والتراخي في الرتبة (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) أن مصدرية وهي وما في حيّزها في موضع نصب بنزع الخافض أي لأن كان وهو متعلق بما دلّ عليه إذا تتلى أي كذب بها ولا يصحّ أن يكون معمولا لفعل الشرط لأن إذا تضاف إلى الجملة بعدها والمضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف ولا يصحّ أن يكون معمولا لقال الذي هو جواب الشرط لأن ما بعد أداة الشرط لا يعمل فيما قبلها وقال الزمخشري «متعلق بقوله ولا تطع يعني ولا تطعه مع هذه المثالب لأنه كان ذا مال أي ليساره وحظه من الدنيا» وقال أبو حيان: «ويجوز أن يتعلق بما بعده على معنى لكونه متموّلا مستظهرا بالبنين كذب آياتنا» وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هو وذا مال خبرها وبنين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 171 عطف على مال (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) إذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وهو متعلق بجوابه وجملة تتلى عليه في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة قال لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وأساطير الأولين خبر لمبتدأ مضمر أي هي أساطير الأولين (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) جملة مستأنفة كأنه لما ذكر قبائح أفعاله وأقواله ذكر ما يفعل به على سبيل التوعد، والسين حرف استقبال ونسمه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وعلى الخرطوم متعلقان بنسمه. البلاغة: 1- في مجيء هذه الصفات مسرودة على نمط عجيب خلّاب فن المناسبة، فجاء حلّاف وبعده مهين لأن النون فيها مع الميم تراخ ثم جاء همّاز مشّاء بنميم بصفتي المبالغة ثم جاء منّاع للخير معتد أثيم وبعد ما عدّله من المثالب والنقائص أتى بصفتين من أشدّ معايبه وقد دلّت البعدية لتدل على ذلك. 2- وفي قوله «سنسمه على الخرطوم» كناية عن المهانة وأحطّ دركات الذل إذ لما كان الوجه أشرف ما في الإنسان والأنف أكرم ما في الوجه جعلوه مكان العزّة والحمية واشتقوا منه الأنفة ومن أقوالهم: حمي الأنف شامخ العرنين وقالوا في الذليل جدع أنفه ورغم أنفه وكان أيضا مما تظهر السمات فيه لعلوه، قال سنسمه على الخرطوم وهو غاية الإذلال والإهانة والاستبلاد إذ صار كالبهيمة لا يملك الدفع عن وسمه في الأنف وإذا كان الوسم في الوجه شينا فكيف به في أكرم عضو فيه وقد قيل: الجمال في الأنف قال بعضهم: وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطل ... فكيف إذا ما الخال كان له حليا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 172 وجعلها الرازي استعارة، استعار الخرطوم للأنف ولا أرى له مناسبة. وتعسف النضر بن شميل فقال إن الخرطوم الخمر وإنه سيحد على شربها وهذا منتهى التعسف في التأويل وإن كان الخرطوم من أسماء الخمر وقيل للخمر الخرطوم لأنها تطير في الخياشيم. [سورة القلم (68) : الآيات 17 الى 33] إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 173 اللغة: (بَلَوْناهُمْ) امتحناهم واختبرناهم. (لَيَصْرِمُنَّها) الصرم القطع والمراد يقطعون ثمرتها يقال صرم العذق عن النخلة وأصرم النخل أي حان صرامه مثل اركب المهر وأحصد الزرع أي حان ركوبه وحصاده، وفي المختار: «صرم النخل جذه وبابه ضرب وأصرم النخل حان له أن يصرم، والانصرام الانقطاع والتصارم التقاطع والتصرّم التقطع» . (طائِفٌ) قال الفرّاء هو الأمر الذي يأتي ليلا وردّ عليه بقوله تعالى «إذا مسّهم طائف من الشيطان» وذلك لا يختصّ بليل ولا نهار ولكنه غلب في الشر. (الصريم) قيل، هو الليل الشديد الظلمة وسمى الليل صريما لانصرامه وانفصاله عن النهار وانقطاعه عنه كما يسمى النهار صريما أيضا لانصرامه عن الليل وله معان عديدة أيضا منها البستان الذي صرم ثماره بحيث لم يبق فيه شيء فهو فعيل بمعنى مفعول وقطعة ضخمة من الرمل منصرمة عن سائر الرمال. (يَتَخافَتُونَ) يتسارّون فيما بينهم وخفي وخفت وخفد ثلاثتها في معنى الكتم. (حَرْدٍ) منع أو قصد والحرد بالتحريك الغضب وفي المختار: «حرد قصد وبابه خرب وقوله تعالى: «وغدوا على حرد قادرين» أي على قصد وقيل على منع والحرد بالتحريك الغضب وقال أبو نصر صاحب الأصمعي هو مخفّف فعلى هذا بابه فهم وقال ابن السكّيت وقد يحرّك فعلى هذا بابه طرب فهو حارد وحردان» وفي السمين: والحرد فيه أقوال كثيرة قيل الغضب والحنق وقيل المنع من حاردت الإبل قلّ لبنها والسنة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 174 قلّ ماؤها قاله أبو عبيد ويقال حرد بالكسر يحرد حردا وقد يفتح فيقال حرد فهو حردان وحارد ويقال أسد حارد وليوث حوارد وقيل الحرد والحرد الانفراد يقال حرد بالفتح يحرد بالضم حرودا وحردا وحرد انعزل ومنه كوكب حارد أو منفرد وقيل الحرد القصد يقال حرد حردك أي قصد قصدك. الإعراب: (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) إن واسمها وجملة بلوناهم خبرها وهو فعل وفاعل ومفعول به والهاء تعود على أهل مكة، وكما الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف أي بلوناهم بلاء وما مصدرية وقيل بمعنى الذي وإذ ظرف ماض متعلق ببلونا وجملة أقسموا في محل جر بإضافة الظرف إليها واللام واقعة في جواب القسم ويصرمنّها فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل أي ليصرموننها ومصبحين حال من فاعل ليصرمنّها وهو اسم فاعل من أصبح التامة (وَلا يَسْتَثْنُونَ) الواو استئنافية أو حالية ولا نافية ويستثنون فعل مضارع مرفوع أي لا يستثنون في إيمانهم ويضعف كون الواو حالية من حيث أن المضارع المنفي بلا كالمثبت في عدم دخول الواو عليه وإلا فبإضمار مبتدأ قبله ومعنى لا يستثنون لا يثنون عزمهم عن الحرمان وقيل لا يقولون إن شاء الله تعالى وسمي استثناء وهو شرط لأن معنى لأخرجنّ إن شاء الله ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ) الفاء عاطفة وطاف فعل ماض وعليها متعلقان به وطائف فاعل ومن ربك نعت لطائف والواو حالية وهم مبتدأ ونائمون خبر (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) الفاء عاطفة وأصبحت فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هي وكالصريم خبر (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ) الفاء عاطفة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 175 وتنادوا فعل ماض وفاعل ومصبحين حال والجملة عطف على أقسموا (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) أن مفسّرة لأنها مسبوقة بما فيه معنى القول دون حروفه ولك أن تجعلها مصدرية فتكون هي وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي بأن أغدو، واغدوا فعل أمر ناقص والواو اسمها وعلى حرثكم خبر وعدّي بعلى لأنه متضمن معنى أقبلوا، قال الزمخشري: «فإن قلت هلّا قيل اغدوا إلى حرثكم وما معنى على؟ قلت لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه كان غدوا عليه كما تقول غدا عليهم العدو ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال كقولهم يغدى عليهم بالجفنة ويراح أي فأقبلوا على حرثكم باكرين» وردّ أبو حيان قول الزمخشري الأول بقوله «واستسلف الزمخشري أن غدا يتعدى بإلى ويحتاج ذلك إلى نقل بحيث يكثر ذلك فيصير أصلا فيه ويتأول ما خالفه، والذي في حفظي أنه يتعدى بعلى كقول الشاعر: بكرت عليه غدوة فرأيته ... قعودا عليه بالصريم عواذله وإن شرطية وجوابها محذوف أي إن كنتم صادقين فاغدوا (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) الفاء عاطفة وانطلقوا فعل ماض وفاعل والواو حالية وهم مبتدأ وجملة يتخافتون خبر والجملة نصب على الحال (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) أن مفسرة أو مصدرية وقد تقدمت نظيرتها ولا نافية ويدخلنها فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والهاء مفعول به على السعة واليوم ظرف متعلق بيدخلنّها وعليكم متعلقان بيدخلنّها أيضا ومسكين فاعل (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) الواو عاطفة وغدوا فعل ماض ناقص والواو اسمها وعلى حرد متعلقان بقادرين وقادرين خبر غدوا ويجوز أن تكون غدوا تامة وتكون قادرين حالا من فاعل غدوا وعلى حرد متعلقان به وأن يكون على حرد هو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 176 الحال وقادرين حال ثانية أو حال من ضمير الحال الأولى فتكون حالا متداخلة (فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وجملة رأوها في محل جر بإضافة الظرف إليها ورأوها فعل وفاعل ومفعول به وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وإن واسمها واللام المزحلقة وضالّون خبرها وإن واسمها وخبرها مقول القول (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) بل حرف إضراب وعطف ونحن مبتدأ ومحرومون خبر (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ) قال فعل ماض وأوسطهم فاعل، ومعنى أوسطهم أمثلهم وأعقلهم، والهمزة للاستفهام الإنكاري ولم حرف نفي وقلب وجزم وأقل فعل مضارع مجزوم بلم ولولا حرف تحضيض أي هلّا وتسبحون فعل مضارع وفاعل ومفعوله محذوف أي الله وذلك بالتوبة له (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) قالوا فعل ماض وفاعل وسبحان مفعول مطلق لفعل محذوف وربنا مضاف إليه وإن واسمها وجملة كنّا خبرها وظالمين خبر كنّا وجملة إنّا كنّا تعليل للتنزيه اعترفوا به بظلمهم في منع المعروف وترك الاستثناء (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) الفاء عاطفة وأقبل بعضهم فعل ماض وفاعل وعلى بعض متعلقان بأقبل وجملة يتلاومون حال (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) يا حرف نداء وويلنا منادى مضاف، نادوا على أنفسهم بالويل أي يا ويلنا هذا وقت حضورك إلينا فإنك الآن مثابتنا وعلالتنا وإن واسمها وجملة كنّا خبرها وطاغين خبر كنّا (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) عسى فعل ماض ناقص من أفعال الرجاء وربنا اسمها وأن وما في حيّزها خبرها وخيرا مفعول به ثان وإن واسمها وإلى ربنا متعلقان براغبون وراغبون خبر إنّا، رجوا أن يقبل الله توبتهم ويبدلهم خيرا من جنتهم (كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) كذلك خبر مقدّم والعذاب مبتدأ مؤخر والواو حالية أو استئنافية. واللام لام الابتداء وعذاب الآخرة مبتدأ وأكبر خبر ولو شرطية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 177 وكان واسمها وجملة يعلمون خبرها وجواب لو محذوف دل عليه سياق الكلام تقديره لما فرط منهم ما سلف من ظلم وإحجام عن الاستثناء. البلاغة: في قوله «فطاف عليها طائف من ربك» تنكير طائف والفائدة منه الإبهام تعظيما لما أصاب جنتهم ومعنى كالصريم أي لهلاك ثمرها وقيل الصريم الليل لأنها احترقت واسودّت وقيل النهار لأنها صارت خالية فارغة ومنه البياض من الأرض أي الخالية من الشجر ومعنى صارمين حاصدين ومعنى يتخافتون يسرّون حديثهم خيفة من ظهور المساكين عليهم والحرد من حاردت السنة إذا منعت خيرها المعنى وغدوا على نكد ومنع وقيل الحرد السرعة أي غدوا مسارعين نشيطين لما عزموا عليه من الحرمان قال: أقبل سيل جاء من أمر الله ... يحرد حرد الجنة المغلة يصف سيلا بالكثرة وحذفت الألف قبل الهاء من لفظ الجلالة لأنه جائز في الوقف ومعنى يحرد حرد الجنة المغلة: يسرع إسراع الجنة أي البستان المغلة أي كثيرة الغلّة والخير ومعنى إسراعها ظهور خيرها قبل غيرها في زمن يسير بسبب السيل الذي داهمها فأمرعها وأخصبها. [سورة القلم (68) : الآيات 34 الى 43] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 178 الإعراب: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) إن حرف مشبه بالفعل وللمتقين خبرها المقدّم وعند ربهم الظرف متعلق بمحذوف حال من جنات أو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر وجنات النعيم اسم إن المؤخر والجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما أعدّ الله للمتقين يوم القيامة وللرد على صناديد قريش الذين كانوا يقولون إن صحّ أنّا بنبعث لم تكن حالنا وحال المؤمنين إلا مثل ما هي في الدنيا (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء حرف عطف والجملة معطوفة على مقدّر يقتضيه السياق أي أنحيف في الحكم فجعل المسلمين كالكافرين، ونجعل فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر والمسلمين مفعول به أول وكالمجرمين في موضع المفعول الثاني وهذا أول توبيخ وتقريع للكافرين وستتلوه خمسة توبيخات أخرى (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) وهذا هو التقريع الثاني وما اسم استفهام مبتدأ ولكم خبر وكيف اسم استفهام في محل نصب حال وتحكمون فعل مضارع وفاعل والجملة حالية وهي التقريع الثالث (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ) أم حرف عطف للإضراب الانتقالي والهمزة التي في ضمنها للاستفهام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 179 الإنكاري التوبيخي وهو التقريع الرابع ولكم خبر مقدّم وكتاب مبتدأ مؤخر وفيه متعلقان بتدرسون وتدرسون فعل مضارع مرفوع وفاعل وجملة تدرسون حالية أو مستأنفة (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) الجملة مفعول به لتدرسون لأنها هي المدروسة وكان الظاهر فتح همزة ان لكن لما جيء باللام المختصة بالمكسورة كسرت وعلقت الفعل عن العمل في لفظ الجملة ودخله التعليق وإن الدرس من أفعال القلوب لتضمنه معنى الحكم، ولكم خبر إن المقدم وفيه حال واللام المزحلقة جيء بها للتأكيد وما اسم إن المؤخر وجملة تخيرون صلة، وأصل تخيرون تتخيرون بمعنى تختارون (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) هذا هو التقريع الخامس ولكم خبر مقدم وأيمان مبتدأ مؤخر وعلينا صفة لأيمان وبالغة صفة ثانية وإلى يوم القيامة متعلقان بالاستقرار الذي تعلق به الخبر وهو لكم أو ببالغة أي تبلغ إلى ذلك اليوم وتنتهي إليه وفي قوله أم لكم إلخ معنى القسم كأنه قيل أقسمنا لكم أيمانا موثقة (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) الجملة جواب القسم الملحوظ فلا محل لها وإن حرف مشبه بالفعل ولكم خبرها المقدم واللام المزحلقة للتأكيد وما اسم إن المؤخر وجملة تحكمون صلة (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) الجملة مستأنفة وسل فعل أمر وفاعله المستتر ومفعوله الأول وأيّهم مبتدأ وبذلك متعلقان بزعيم وزعيم خبر أيّهم والجملة في محل نصب مفعول ثان لسل لأنها تنصب مفعولين وعلقت عن العمل بالاستفهام الذي هو التقريع السادس (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) هذا هو التقريع السابع ولهم خبر مقدم وشركاء مبتدأ مؤخر وهذه الجملة معطوفة في المعنى على جملة أيّهم بذلك زعيم، والفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدّر والتقدير إن كان ذلك كذلك فليأتوا واللام لام الأمر ويأتوا فعل مضارع مجزوم باللام والواو فاعل وبشركائهم متعلقان بيأتوا وإن شرطية وكانوا فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والواو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 180 اسمها وصادقين خبرها والجواب محذوف دلّ عليه ما تقدم أي فليأتوا بشركائهم (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) الظرف مفعول به لأذكر مقدرة أو هو متعلق بقوله فليأتوا وقال الزمخشري «وناصب الظرف فليأتوا أو إضمار اذكر أو يوم يكشف عن ساق كان كيت وكيت فحذف للتهويل البليغ» وجملة يكشف في محل جر بإضافة الظرف إليها ويكشف بالبناء للمجهول وعن ساق ناب مناب نائب الفاعل، ويدعون الواو عاطفة ويدعون فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع بثبوت النون والواو نائب فاعل وإلى السجود متعلقان بيدعون والفاء عاطفة ولا نافية ويستطيعون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) خاشعة حال من ضمير يدعون أي ذليلة وأبصارهم فاعل خاشعة وجملة ترهقهم حال ثانية وترهقهم فعل مضارع ومفعول به مقدّم وذلّة فاعل مؤخر (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) الواو حالية وقد حرف تحقيق وكانوا فعل ماض ناقص والواو اسمها وجملة يدعون خبر كانوا وإلى السجود متعلقان بيدعون والواو حالية وهم مبتدأ وسالمون خبر. البلاغة: 1- الاستفهام الإنكاري التقريعي: تقدم في الإعراب أن الاستفهامات التي وردت في هذه الآيات سبعة وقد خرجت عن معناها الأصلي إلى الإنكار والتوبيخ والتقريع على ما أرجفوا به من زعمهم أن الله فضّلنا عليكم في الدنيا فلا بدّ من أن يفضّلنا عليكم في الآخرة أو على الأقل إن لم يحصل التفضيل فلا أقل من المساواة ففند الله مزاعمهم الفائلة مقرّعا وموبّخا وجاءت متعاقبة: أولها أفنجعل، والثاني ما لكم، والثالث كيف تحكمون، والرابع أم لكم كتاب، والخامس أم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 181 لكم أيمان، والسادس أيّهم بذلك زعيم، والسابع أم لهم شركاء، وقد انتظمت في سلك من الفصاحة والبيان يعنو له كل بيان. 2- وفي قوله «يوم يكشف عن ساق» استعارة تمثيلية، وأصل هذا الكلام يقال لمن شمّر عن ساقه عند العمل الشاق لأن من وقع في شيء يحتاج إلى الجدّ يشمّر عن ساقه فاستعير الساق والكشف عنها لشدّة الأمر، وعبارة الزمخشري: «الكشف عن الساق والإبداء عن الخدام مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهنّ في الهرب وإبداء خدامهنّ عند ذلك» . وقول الزمخشري: والإبداء عن الخدام جمع خدمة وهي الخلخال وذلك كرقاب جمع رقبة قال حاتم: أخو الحرب إن غصّت به الحرب عضّها ... وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا وقال ابن الرقيات: تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ... عن خدام العقيلة العذراء والتشمير عن الساق كناية عن اشتداد الأمر وصعوبته وأصله أن يسند للإنسان لأن تشمير الثوب عن الساق لخوض لجة أو جري أو نحوه فأسند للحرب لتشبيهها بالإنسان على طريق الاستعارة، أما البيت الثاني فقبله: كيف نومي على الفراش ولما ... تشمل الشام غارة شعواء تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ... عن خدام العقيلة العذراء والخدام الخلخال والعقيلة الكريمة وعقيلة كل شيء أكرمه ومن النساء المخدرة التي عقلت في خدرها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 182 3- وفي تنكير الساق إبهام للمبالغة في الدلالة على أنه أمر مبهم في الشدّة منكر خارج عن المألوف المعتاد. 4- وفي نسبة الخشوع إلى الأبصار مجاز عقلي لأن ما في القلب يعرف من العين. [سورة القلم (68) : الآيات 44 الى 52] فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) اللغة: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) نأخذهم قليلا قليلا، يقال: استدرجه إلى كذا: قرّبه إليه ورقّاه من درجة إلى درجة وجعله يدرج على الأرض قال الخطيب: «سنستدرجهم أي سنأخذهم بعظمتنا على التدريج لا على غرّة في عذاب لا شك فيه» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 183 (مَكْظُومٌ) مملوء غمّا أو كربا، قال الماوردي: «والفرق بينهما أن الغم في القلب والكرب في الأنفاس» وقيل مكظوم: محبوس والكظم الحبس وقال المبرد: «إنه المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس» . (لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) أي ينظرون إليك نظرا شديدا يكاد يصرعك ويسقطك من مكانك. الإعراب: (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) الفاء عاطفة لترتيب الأمر على ما قبلها من أحوالهم المحكية ولك أن تجعلها فصيحة لأنها جواب شرط مقدّر والتقدير إذا كانت أحوالهم كذلك فذرني، وذر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت يعود على الرسول صلّى الله عليه وسلم والياء في محل نصب مفعول به والواو حرف عطف ومن عطف على الياء أو الواو للمعية ومن في محل نصب مفعول معه والأول أرجح وجملة يكذب صلة للموصول لا محل لها وبهذا متعلقان بيكذب والحديث بدل من اسم الإشارة (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان كيفية التعذيب المستفاد من الأمر السابق إجمالا والضمير لمن، والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في يكذب باعتبار لفظها، ونستدرجهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به ومن حرف جر وحيث ظرف مبني على الضم في محل جر بمن والجار والمجرور متعلقان بنستدرجهم وجملة لا يعلمون في محل جر بإضافة الظرف إليها (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) الواو عاطفة وأملي فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا لأنه معطوف على سنستدرجهم ولهم متعلقان بأملي والإملاء الإمهال ومرادفة النعم والآلاء ليغترّوا، وسيأتي إيضاح هذا المجاز في باب البلاغة، وإن واسمها وخبرها والجملة بمثابة التعليل للإملاء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 184 (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) عطف على ما تقدم من قوله أم لهم شركاء أي أم أتلتمس منهم ثوابا على ما تدعوهم إليه من الهداية والإيمان، وتسألهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول وأجرا مفعول به ثان والفاء عاطفة وهم مبتدأ ومن مغرم متعلقان بمثقلون ومثقلون خبر أي مكلفون حملا ثقيلا ينوءون تحته (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) عطف أيضا وعندهم ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدّم والغيب مبتدأ مؤخر والفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة يكتبون خبر (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) الفاء الفصيحة واصبر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولحكم ربك متعلقان باصبر والواو حرف عطف ولا ناهية وتكن فعل مضارع مجزوم بلا واسمها مستتر تقديره أنت وكصاحب الحوت خبر يعني يونس عليه السلام وقد تقدم حديثه وإذ ظرف منصوب بمضاف محذوف أي ولا يكن حالك كحاله وقصتك كقصته في وقت ندائه والمعنى لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة فتبتلى بلاءه وجملة نادى في محل جر بإضافة الظرف إليها والواو حالية وهو مبتدأ ومكظوم خبر والجملة حال من ضمير نادى (لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) لولا حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط وأن حرف مصدري ونصب وتداركه فعل ماض والهاء مفعول به ونعمة فاعل وذكر الفعل لأن تأنيث النعمة غير حقيقي ومن ربه نعت لنعمة وأن وما في حيّزها في موضع رفع مبتدأ خبره محذوف وجوبا، واللام واقعة في جواب لولا ونبذ فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وبالعراء متعلقان بنبذ أي بالأرض الفضاء الجرداء والواو حالية وهو مبتدأ ومذموم خبر والجملة حال من ضمير نبذ (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) الفاء عاطفة على مقدّر أي فأدركته نعمة من ربه فاجتباه، واجتباره فعل ماض ومفعول به وربه فاعله أي فجمعه إليه وقرّبه بالتوبة عليه، فجعله عطف على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 185 فاجتباه والهاء مفعول به أول ومن الصالحين في موضع المفعول الثاني (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) الواو استئنافية وإن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن أو هي مهملة على الأرجح ويكاد فعل مضارع من أفعال المقاربة والذين اسمها وجملة كفروا صلة واللام الفارقة ويزلقونك فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والكاف مفعول به وبأبصارهم متعلقان بيزلقونك ولما رابطة أو حينية ظرفية وسمعوا فعل وفاعل والذكر مفعول به والمعنى أنهم من شدّة تحديقهم وإرسال النظر الشزر إليك يكادون يزلّون قدمك أو يهلكونك قال: يتقارضون إذا التقوا في موطن ... نظرا يزل مواطىء الأقدام وجواب لما محذوف للدلالة عليه أي لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) الواو عاطفة ويقولون عطف على يزلقونك وإن واسمها واللام المزحلقة ومجنون خبرها والجملة مقول قولهم (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) الواو حالية وما نافية مهملة لانتقاض النفي بإلا وهو مبتدأ وإلا أداة حصر وذكر خبر هو وللعالمين نعت لذكر. البلاغة: 1- في قوله «وأملي لهم إن كيدي متين» مجاز مرسل فقد سمى إمهاله إياهم ومرادفة النعم والآلاء عليهم كيدا لأنه سبب التورط والهلاك لأن حقيقة الكيد ضرب من الاحتيال، والاحتيال أن تفعل ما هو نفع وحسن في الظاهر وأنت تريد ضده وما حصل من سعة أرزاقهم وبلهنية عيشهم وطول أعمارهم هو في الظاهر إحسان عليهم والمقصود به الضرر والهلكة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 186 2- وفي قوله «وهو مذموم» مجاز مرسل أيضا لأن اللوم في الحقيقة سبب للذم فالعلاقة السببية، وجميل قول الرازي: «وهو مذموم على كونه فاعلا للذنب قال والجواب من ثلاثة أوجه: الأول أن كلمة لولا دالّة على أن هذه المذمومية لم تحصل، الثاني لعل المراد من المذمومية ترك الأفضل فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، الثالث لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوّة» وحمل الآية على المجاز أولى من تكلف هذه الاحتمالات. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 187 (69) سورة الحاقة مكيّة وآياتها ثنتان وخمسون [سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) اللغة: (الْحَاقَّةُ) القيامة والساعة الواجبة الوقوع وهو اسم فاعل من حق الشيء وجب، وسيأتي مزيد حديث عنها في باب البلاغة. (القارعة) القيامة والساعة أيضا لأنها تقرع القلوب بأهوالها، والقرع في اللغة نوع من الضرب وهو إمساس جسم لجسم بعنف وفي المصباح: «وقرعت الباب من باب نفع طرقته ونقرت عليه» . (بِالطَّاغِيَةِ) بالواقعة المجاوزة للحدّ والمراد بها الصيحة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 188 (صَرْصَرٍ) الصرصر: الشديدة الصوت وقيل الباردة وتكرير الصاد والراء إشعار بتكريرهما. (عاتِيَةٍ) قوية شديدة وسيأتي مزيد بحث عنها. (حُسُوماً) سيأتي ذكرها في الإعراب والفوائد. الإعراب: (الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ) الحاقة مبتدأ أو هي نعت لمنعوت وما اسم استفهام تعظيمي في محل رفع مبتدأ والحاقة خبرهما والجملة الاسمية خبر الحاقة والرابط هو إعادة المبتدأ بلفظه (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) الواو عاطفة وما اسم استفهام للتعظيم في محل رفع مبتدأ وجملة أدراك خبر ما وما الثانية اسم استفهام للتعظيم أيضا في محل رفع مبتدأ والحاقة خبر والجملة الاسمية في محل نصب مفعول أدراك الثاني والثالث لأن أدرى ينصب ثلاثة مفاعيل ومعناه أعلم، وقد علقت أدراكم عن العمل بالاستفهام وعبارة أبي حيان: «وما استفهام أيضا مبتدأ وأدراك الخبر والعائد على ما ضمير الرفع في أدراك وما مبتدأ والحاقة خبر والجملة في موضع نصب بأدراك وأدراك معلقة وأصل درى يتعدى بالباء وقد تحذف على قلة فإذا دخلت همزة النقل تعدى إلى واحد بنفسه وإلى الآخر بحرف الجر فقوله ما الحاقة بعد أدراك في موضع نصب بعد إسقاط حرف الجر» (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) كلام مستأنف مسوق لبسط بعض أحوال الحاقة وكذبت ثمود فعل ماض وفاعل وعاد عطف على ثمود وبالقارعة متعلقان بكذبت (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) الفاء عاطفة وأما حرف شرط وتفصيل وثمود مبتدأ والفاء رابطة لجواب أما وأهلكوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل، وبالطاغية متعلقان بأهلكوا والجملة خبر ثمود (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 189 عاتِيَةٍ) عطف على الجملة السابقة وصرصر وعاتية صفتان لريح (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) الجملة صفة ثالثة لريح وسخرها فعل ماض ومفعول به والفاعل يعود على الله وعليهم متعلقان بسخرها وسبع ليال نصب على الظرفية الزمانية وثمانية أيام عطف على سبع ليال وحسوما نعت لسبع ليال وثمانية أيام أو مصدر منصوب بفعل من لفظه أي تحسمهم حسوما أو حال من مفعول سخرها أي ذات حسوم أو مفعول لأجله، وعبارة الزمخشري في هذا الصدد جيدة ننقلها فيما يلي لنفاستها: الحسوم لا يخلو من أن يكون جمع حاسم كشهود وقعود أو مصدر كالشكور والكفور، فإن كان جمعا فمعنى قوله حسوما نحسات حسمت كل خير واستأصلت كل بركة أو متتابعة هبوب الرياح ما خفتت ساعة حتى أتت عليهم تمثيلا لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء كرّة بعد أخرى حتى ينحسم، وإن كان مصدرا فإما أن ينتصب بفعله مضمرا أي تحسم حسوما بمعنى تستأصل استئصالا، أو يكون صفة كقولك ذات حسوم، أو يكون مفعولا له أي سخرها عليهم للاستئصال، وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابي: ففرّق بين بينهم زمان ... تتابه فيه أعوام حسوم أقول: فبينهم ظرف للتفريق إلا أنه أراد المبالغة بجعل التفرق بين أجزاء هذا الظرف أيضا فقال ففرّق بين بينهم زمان وإذا فرق بين الظرف فقد فرّق بين أصحابه بالضرورة فهو من باب الكناية (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) الفاء عاطفة وترى القوم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وفيها متعلقان بتري والضمير يعود على الأيام والليالي أو على الريح وأعاده الزمخشري على مهابها وصرعى حال لأن الرؤية هنا بصرية، وكأنهم كأن واسمها وأعجاز نخل خبرها وخاوية نعت لنخل أي ساقطة وجملة كأنهم حال من القوم ولك أن تجعلها مستأنفة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 190 (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) الفاء عاطفة وهل حرف استفهام معناه النفي أي لا ترى لهم وجعله بعضهم للإنكار ولا مساغ للإنكار هنا وترى فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنت ولهم متعلقان بتري ومن حرف جر زائد وباقية مجرور لفظا منصوب محلا لأنه مفعول ترى أي من بقية أو من نفس باقية أو من بقاء كالطاغية بمعنى الطغيان. البلاغة: 1- في قوله «الحاقة ما الحاقة» فنان رفيعان أولهما الإسناد المجازي للزمان على حد ليل قائم فالمراد بها الزمان الذي يحق أن يتحقق فيه ما أنكر في الدنيا من البعث فيصير فيها محسوسا مشاهدا بالعيان، وقيل سمّيت حاقة لأنها تكون من غير شك وقيل سمّيت بذلك لأن كل إنسان يصير فيها حقيقا بجزاء عمله فلا يكون في الكلام مجاز على هذين الوجهين، وقال الأزهري: «يقال حاققته فحققته أحقه أي غالبته فغلبته فالقيامة تحقّ كل محاق في دين الله بالباطل أي كل مخاصم» وفي الصحاح: «وحاقه أي خاصمه وادعى كل واحد منهما الحق فإذا غلبه قيل حقه والتحاق التخاصم والاحتقاق الاختصام والحاقة والحقة والحق ثلاث لغات» وفي الاستفهام تعظيم لشأن الحاقة وتهويل لأمرها وهناك فن ثالث وهو وضع الظاهر موضع المضمر فلم يقل ما هي والفائدة منه زيادة التهويل والتفخيم لشأنها. 2- وفي قوله «حسوما» مجاز مرسل من استعمال المقيد وهو الحسم الذي هو تتابع الكي لمطلق التتابع وقيل هو استعارة تصريحية تبعية فقد شبّه تتابع الريح المستأصلة بتتابع الكي القاطع للداء. 3- وفي قوله «كأنهم أعجاز نخل خاوية» تشبيه مرسل، فقد شبّههم بالجذوع لطول قاماتهم وكانت الريح تقطع رءوسهم كما تقطع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 191 رءوس النخل المتطاولة خلال تلك الأيام الثمانية أو الليالي السبع قيل هي أيام العجوز وذلك أن عجوزا من عاد توارت في سرب فانتزعتها الريح في اليوم الثامن فأهلكتها وقيل هي أيام العجز وهي آخر الشتاء وأسماؤها: الصّن والضبر والوبر والآمر والمؤتمر والمعلل ومطفىء الجمر ومكفىء الظعن. [سورة الحاقة (69) : الآيات 9 الى 18] وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) اللغة: (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) هي قرى قوم لوط وقد تقدم الحديث عنها. (بِالْخاطِئَةِ) أي بالفعلة أو الفعلات الخاطئة أو بالخطأ فيكون مصدرا جاء على فاعلة كالعاقبة أو أنها صيغة نسب كتامر وباقل، قال في الخلاصة: ومع فاعل وفعال فعل ... في نسب أغنى عن اليا فقل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 192 (رابِيَةً) زائدة في شدّتها على غيرها يقال ربا الشيء يربو إذا زاد. (واعِيَةٌ) حافظة لما تسمع. (فَدُكَّتا) الدك فيه تفرق الأجزاء والدق فيه اختلاط الأجزاء. (أَرْجائِها) جوانبها جمع رجا ويكتب بالألف لأنه من ذوات الواو لقولهم في التثنية رجوان ومن غريب أمر هذه اللفظة أنها تعذب في الجمع وتسمج في المفرد ولعلك لا تجدها في كلام شاعر فصيح ولم تستعمل إلا مجموعة لأن الجمع يلبسها ثوبا من الحسن لم يكن لها في حال كونها موحدة وقد تستعمل موحدة بشرط الإضافة وهي بهذا تخالف الأرض فإنها تعذب مفردة وتجمع مجموعة ولهذا لم ترد في القرآن الكريم إلا مفردة فإذا ذكرت السماء مجموعة جيء بها مفردة معها في كل موضع من القرآن ولما أريد أن يؤتى بها مجموعة قيل: «ومن الأرض مثلهنّ» في قوله تعالى «الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهنّ» وهذا مردّه إلى الذوق السليم لأنه الحاكم في الفرق بين الألفاظ. الإعراب: (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ) كلام مستأنف أو معطوف على سابقه، وجاء فرعون فعل ماض وفاعله ومن عطف على فرعون وقبله ظرف زمان متعلق بمحذوف لا محل له لأنه صلة من وقرىء قبله بكسر القاف وفتح الباء أي ومن هو في جهته والمؤتفكات عطف أيضا وبالخاطئة متعلقان بجاء (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) الفاء حرف عطف وعصوا فعل ماض وفاعل ورسول ربهم مفعول به، فأخذهم عطف على فعصوا وأخذة مفعول مطلق ورابية نعت وفتح الجزء: 10 ¦ الصفحة: 193 همزة أخذة لأنها مصدر مرة وليست مصدر هيئة وإنما معنى الهيئة مستفاد من النعت (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) إن واسمها ولما ظرفية حينية أو رابطة وطغى الماء فعل وفاعل وجملة حملناكم خبر إنّا والمراد آباؤكم وفي الجارية متعلقان بحملناكم (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) اللام للتعليل ونجعلها فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بحملناكم والهاء مفعول أول لنجعلها ولكن حال وتذكرة مفعول به ثان وتعيها منصوب بالعطف على نجعل ولكم حال وتذكرة مفعول به ثان وتعيها منصوب بالعطف على نجعل وأذن فاعل وواعية نعت لأذن والضمير في لنجعلها عائد للفعلة وهي نجاة المؤمنين وإغراق الكافرين (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) الفاء استئنافية والكلام مستأنف مسوق للشروع في ذكر تفاصيل أحوال القيامة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة نفخ في محل جر بإضافة الظرف إليها ونفحة نائب الفاعل وهو مصدر متصرف لكونه مرفوعا ومختص لكونه موصوفا بواحدة، وسيأتي مزيد بيان لهذا البحث، وواحدة نعت (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) وحملت فعل ماض مبني للمجهول معطوف على نفخ والأرض نائب فاعل والجبال عطف على الأرض، فدكّت عطف أيضا ودك فعل ماض مبني للمجهول والتاء تاء التأنيث الساكنة والألف نائب فاعل ودكة مفعول مطلق وواحدة نعت ولم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة والأرض كالجملة الواحدة (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) الفاء رابطة للجواب ويوم ظرف أضيف إلى مثله والتنوين عوض عن جملة مكوّنة من جملتي نفخ وحملت والظرف متعلق بوقعت ووقعت الواقعة فعل وفاعل (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) الواو عاطفة وانشقت السماء فعل وفاعل والفاء عاطفة وهي مبتدأ ويومئذ ظرف مضاف إلى مثله متعلق بواهية والتنوين عوض عن جملة وقد تقدم ذلك وواهية خبر هي (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) والملك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 194 مبتدأ وعلى أرجائها خبر ويحمل فعل مضارع مرفوع وعرش ربك مفعول به وفوقهم ظرف متعلق بمحذوف حال من العرش أي حال كونه فوق الملائكة ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله متعلق بيحمل وثمانية فاعل أي يحمله فوق رؤوسهم يوم القيامة ثمانية أملاك وقيل ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله عزّ وجلّ (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) يومئذ ظرف أضيف إلى مثله متعلق بتعرضون وتعرضون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل ولا نافية وتخفى فعل مضارع مرفوع ومنكم متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لخافية وخافية فاعل والجملة حال من الواو في تعرضون. البلاغة: 1- في قوله «إنّا لما طغى الماء حملناكم في الجارية» استعارة تمثيلية وهي من باب استعارة المعقول للمحسوس للاشتراك في أمر معقول وهي الاستعارة المركبة من الكثيف واللطيف، فالمستعار الطغي وهو الاستعلاء المنكر، والمستعار منه كل مستعل متكبر متجبر مضر، والمستعار له الماء، والطغي معقول والماء محسوس والمستعار منه محسوس. 2- في قوله «فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة» تكرر حذف الفاعل في هذه الآيات، ومن الظواهر الأسلوبية اللافتة في البيان المعجز ظاهرة الاستغناء عن الفاعل التي توزعت في دراساتنا وكتبنا بين أبواب شتى متباعدة لا تعطي سر هذا الاستغناء، فأنت تقرأ في الصرف كيفية بناء الفعل للمجهول وصيغ المطاوعة وفي النحو أحكام نائب الفاعل أما لماذا حذف الفاعل فذلك موضوع آخر ندرسه في علم آخر هو علم المعاني التي انفصلت عن الإعراب فعاد هذا الإعراب صنعة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 195 وهو في الأصل من صميم المعنى كما ندرس في علم البيان إسناد الفعل إلى فاعله على سبيل المجاز دون أن نحاول جمع هذا الشتات المنتشر للظاهرة الأسلوبية لاجتلاء سرّها الذي من أجله تستغني العربية عن الفاعل فتسنده إلى غير فاعله بالبناء للمجهول أو بالمطاوعة أو بالإسناد المجازي، ومما يلفت النظر اطّراد هذه الظاهرة في البيان القرآني في موقف واحد هو موقف القيامة وفي الآيات المكيّة بنوع خاص كما سترى وغاية ما يقوله البلاغيون أنه قد يحذف الفاعل للخوف منه أو عليه وللعلم أو للجهل به وقد مضى المفسرون على تقدير فاعل محذوف لأحداث القيامة هو الله سبحانه أو ملك من ملائكته مع وضوح العمد في البيان القرآني إلى صرف النظر عن الفاعل والاستغناء عن ذكره وأكثر ما قالوه في تأويل ذلك أن الفاعل محذوف للعلم به فما سرّ ظاهرة الاستغناء عنه في أحداث القيامة. الفوائد: يشترط في نيابة المصدر عن الفاعل أن يكون متصرفا مختصا بصفة أو غيرها نحو فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة، وغير المتصرف من المصادر ما لزم النصب على المصدرية نحو سبحان الله، وغير المختص المبهم نحو سير سير فيمتنع سبحان الله بالضم على أن يكون نائب فاعل فعله المقدر على أن الأصل يسبّح سبحان الله لعدم تصرفه ويمتنع سير سير لعدم الفائدة إذ المصدر المبهم مستفاد من الفعل فيتحد معنى المسند والمسند إليه ولا بدّ من تغايرهما بخلاف ما إذا كان مختصّا فإن الفعل مطلق ومدلول المصدر مقيد فيتغايران فتحصل الفائدة وإذا امتنع سير سير مع إظهار المصدر فامتناع سير بالبناء للمفعول على إضمار ضمير المصدر أحقّ بالمنع لأن ضمير المصدر المؤكد أكثر إبهاما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 196 من ظاهره خلافا لمن أجازه كالكسائي وهشام فيما نقل ابن السيد أنهما أجازا جلس بالبناء للمفعول وفيه ضمير مجهول، قال ثعلب: أراد أن فيه ضمير المصدر وتبعهما أبو حيان في النكت الحسان فقال ومضمر المصدر يجري مجرى مظهره فيجوز أن تقول: قيم وقعد فتضمر المصدر كأنك قلت قيم القيام وقعد القعود انتهى، والصحيح المنع، وأما قول امرئ القيس: وقالت متى يبخل عليك ويعتلل ... يسؤك وإن يكشف غرامك تدرب فالنائب عن الفاعل بيتعلل ضمير مصدر مختص بلام العهد أو بصفة محذوفة والمعنى ويعتلل الاعتلال المعهود أو اعتلال ثم خصّصه أخرى محذوفة للدليل الدّال عليها وهو عليك المذكورة قبل الفعل وحذفت كما تحذف الصفات المخصصة للموصوفات للدليل كقوله تعالى: فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا، أي نافعا لأن أعمالهم توزن بدليل ومن خفّت موازينه الآية قاله في المغني وإضمار ضمير المصدر النوعي أجازه سيبويه لأن الفعل لا يدل عليه قاله ابن خروف في شرح كتاب سيبويه ويسؤك من الإساءة جواب الشرط الأول وتدرب بالدال المهملة من الدربة وهي العادة جواب الشرط الثاني والاعتلال الاعتذار يقال اعتلّ عليه بعلة اعتذر له عن قضاء غرضه بعذر وبذلك التوجيه يوجّه وحيل بينهم بالنصب فيكون المعنى وحيل هو أي الحول المعهود أو حول بينهم إلا أن الصفة هنا مذكورة وبذلك يوجه أيضا قول طرفة بن العبد: فيا لك من ذي حاجة حيل دونها ... وما كل ما يهوى امرؤ هو نائله فيكون المعنى حيل هو أي الحول المعهود أو حول دونها وليس النائب الظرف فيهما لأنه غير متصرف عند جمهور البصريين، وعن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 197 الأخفش أنه أجاز في لقد تقطع بينكم ومنا دون ذلك أن يكون الظرف في موضع رفع مع فتحه ثم قال أبو علي وتلميذه ابن جنّي فتحة إعراب واستشكل وقال غيرهما فتحة بناء وهو المشهور. [سورة الحاقة (69) : الآيات 19 الى 37] فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37) الإعراب: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) الفاء استئنافية وأما حرف شرط أو تفصيل ومن اسم موصول في محل رفع مبتدأ وجملة أوتي صلة وأوتي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 198 فعل ماض مبني للمجهول وكتابه مفعول به ثان والأول نائب الفاعل المستتر وبيمينه متعلق بأوتي (فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) الفاء رابطة لجواب أما وجملة يقول خبر من وهاؤم فيها استعمالان: 1- أنها تكون فعلا صريحا. 2- أنها تكون اسم فعل ومعناها في الحالين خذوا. فإن كانت اسم فعل وهي المذكورة ففيها لغتان المدّ والقصر تقول هاء درهما يا زيد وها درهما يا زيد ويكونان كذلك في الأحوال كلها من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث وتتصل بهما كاف الخطاب اتصالها باسم الإشارة فتطابق مخاطبك بحسب الواقع مطابقتها وهي أن الكاف ضمير المخاطب تقول: هاك هاءك هاك هاءك إلى آخره ويخلف كاف الخطاب همزة متصرفة تصرف كاف الخطاب فتقول هاء يا زيد، هاء يا هند، هاؤما، هاؤم، هاؤن، وهي لغة القرآن. وإذا كانت فعلا صريحا لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة بها كان فيها ثلاث لغات إحداها أنها تكون مثل عاطى يعاطي فيقال: هاء يا زيد هائي يا هند هائيا يا زيدان أو يا هندان هاءوا يا زيدون، هائين يا هندات، الثانية أن تكون مثل هب فيقال هأهيء هآهئوا هئن مثل هب هبي هبا هبوا هبن، الثالثة أن تكون مثل خف أمرا من الخوف فيقال هأهائي هاءا هاءوا هأن مثل خف خافي خافا خافوا خفن، واختلف في مدلولها والمشهور أنها بمعنى خذوا وقيل معناها تعالوا فتتعدى بإلى وقيل معناها القصد. وعبارة البحر: «هاء بمعنى خذ وقال الكسائي وابن السكيت: والعرب تقول: هاء يا رجل وللاثنين رجلين وامرأتين هاؤما وللرجال هاؤم وللمرأة هاء بهمزة مكسورة من غير ياء وللنساء هاين، وقيل: هاؤم كلمة وضعت لإجابة الداعي عند الفرح والنشاط وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام ناداه أعرابي بصوت عال فجاوبه عليه الصلاة والسلام هاؤم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 199 بصولة صوته، وزعم قوم أنها مركبة في الأصل والأصل هاء أموا ثم نقله التخفيف والاستعمال وزعم قوم أن هذه الميم ضمير جماعة الذكور» . واقتصر في الكشاف على قوله: «هاء صوت يصوّت به فيفهم منه معنى خذ كأفّ وحس وما أشبه ذلك» وهذا هو المشهور فيها. واقرءوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وكتابيه تنازع فيه هاؤم واقرءوا فأعمل الأول عند الكوفيين والثاني عند البصريين وأضمر في الآخر أي هاؤموه اقرءوا كتابيه أو هاؤم اقرءوه كتابيه وأصله كتابي فأدخلت عليه هاء السكت لتظهر فتحة الياء وقد تقدم بحث هاء السكت والجملة مقول القول (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) إن واسمها وجملة ظننت خبرها وأن واسمها سدّ مسدّ مفعولي ظننت وملاق بخبر أني وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين وحسابيه مفعول به لملاق لأنه اسم الفاعل والياء مضاف إليه والهاء للسكت (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) الفاء الفصيحة وهو مبتدأ وفي عيشة خبر وراضية نعت لعيشة وفيها ثلاثة أقوال: 1- أنها على النسب أي ذات رضا نحو لابن وتامر لصاحب اللبن والتمر أي ثابت لها الرضا ودائم لها لأنها في غاية الحسن والكمال، والعرب لا تعبّر عن أكثر السعادات بأكثر من العيشة الراضية بمعنى أن أهلها راضون بها والمعتبر في كمال اللذة الرضا. 2- أنها على إظهار جعل المعيشة راضية لمحلها وحصولها في مستحقها وأنه لو كان للمعيشة عقل لرضيت لنفسها بحالتها فهي من باب المجاز. 3- وقال أبو عبيدة والفرّاء إن هذا مما جاء فيه فاعل بمعنى مفعول نحو ماء دافق بمعنى مدفوق بمعنى أن صاحبها يرضى بها ولا يسخطها كما جاء مفعول بمعنى فاعل كما في قوله تعالى: حجابا مستورا أي ساترا، وعبارة أبي عبيدة في كتابه «مجاز القرآن» ومن مجاز ما يقع المفعول إلى الفاعل إن العرب وصفوا أشياء من كلامهم في موضع الفاعل والمعنى أنه مفعول وفي القرآن: في عيشة راضية وإنما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 200 يرضى بها الذي يعيش فيها. (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) الجار والمجرور بدل من قوله في عيشة وعالية صفة أي مرتفعة المكان والدرجات (قُطُوفُها دانِيَةٌ) مبتدأ وخبر والجملة صفة ثانية لجنة والقطوف جمع قطف بكسر القاف بمعنى مفعول كالذبح بمعنى المذبوح وهو ما يقطفه القاطف من الثمار وأما القطف بفتح القاف فهو المصدر (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) الجملة مقول قول محذوف أي يقال لهم ذلك وهنيئا حال أي مهنئين وقال الزمخشري: «هنيئا أكلا وشربا هنيئا أو هنيتم هنيئا على المصدر» ولا يجوز ذلك إلا على تقدير الإضمار عند من يجيز ذلك أي أكلا هنيئا وشربا هنيئا وقد تقدم القول مفصلا في هنيئا، وبما الباء حرف جر للسببية وما مصدرية أو موصولة والجار والمجرور متعلقان بهنيئا وجملة أسلفتم لا محل لها على كل حال وفي الأيام متعلقان بأسلفتم والخالية نعت للأيام (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) الجملة معطوفة على الجملة السابقة، ويا حرف نداء والمنادى محذوف أو لمجرد التنبيه وليت حرف مشبّه بالفعل للتمنّي والنون للوقاية والياء اسمها وجملة لم أوت خبر وكتابيه مفعول به ثان والأول نائب الفاعل المستتر (وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) الواو عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم وأدر فعل مضارع مجزوم بلم وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وحسابيه خبرها والهاء للسكت والجملة سدّت مسدّ مفعولي أدر المعلقة عن العمل بالاستفهام ومعنى الاستفهام التعظيم والتهويل (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) الياء للنداء أو للتنبيه وقد تقدمت وليت واسمها والضمير يعود على الموتة في الدنيا وجملة كانت خبر ليت واسم كان ضمير مستتر يعود على الموتة والقاضية خبر كانت (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) ما نافية وأغنى فعل ماض وعنّي متعلقان بأغنى وماليه فاعل أغنى ومفعول أغنى محذوف للتعميم، ولك أن تعرب ما استفهامية في محل نصب مفعول مطلق لأغنى فيكون الاستفهام للتوبيخ وبّخ نفسه أي أيّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 201 إغناء أغنى ما كان لي من اليسار في الدنيا الذي ضننت به على الفقراء، وبعضهم يعربها مفعولا به مقدما لأغني أي أيّ شيء، فيهمل المصدر والعودة إليه والأول أرجح ويجوز في ماليه أن تكون ما اسم موصول هي فاعل أغنى واللام حرف جر والياء في محل جر والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول أي الذي ثبت واستقر لي والأول أرجح (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) هلك فعل ماض وعني متعلقان به وسلطانيه فاعل هلك والياء في محل جر بالإضافة والهاء للسكت (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) الجملة مقول قول مقدّر وجملة القول مستأنفة مسوقة للإجابة عن سؤال مقدّر كأنه قيل: وما يفعل به بعد هذا التحسّر الصادر عنه فقيل يقال خذوه، وخذوه فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به، فغلّوه عطف على خذوه والخطاب للزبانية الموكلين بالعذاب (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي والجحيم مفعول به لفعل محذوف يفسره ما بعده وصلوه فعل أمر وفاعل ومفعول به (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وفي سلسلة متعلقان باسلكوه ولم تمنع الفاء من ذلك لأنه قدّم للاهتمام والتخصيص، وذرعها مبتدأ وسبعون خبره وذراعا تمييز والفاء عاطفة أيضا واسلكوه فعل أمر وفاعل ومفعول به، ثم إن كلمتي ثم والفاء الواقعتين في الجملة الأخيرة إن كانتا لعطف جملة فاسلكوه لزم اجتماع حرفي العطف على معطوف واحد فينبغي أن تكون كلمة ثم لعطف قول مضمر على ما أضمر قبل قوله خذوه أي قيل لخزنة جهنم خذوه فغلّوه ثم الجحيم صلّوه ثم قيل لهم في سلسلة إلخ وتكون الفاء لعطف المقول على المقول وثم لعطف القول على القول وعبارة الزمخشري: «ومعنى ثم الدلالة على تفاوت ما بين الغلّ والتصلية بالجحيم وما بينها وبين السلك في السلسلة لا على تراخي المدة» (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ) الجملة تعليلة مسوقة لتعليل هذا العذاب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 202 الشديد الذي يلقاه وإن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر يعود عليه وجملة لا يؤمن خبر كان وبالله متعلقان بيؤمن والعظيم نعت لله وعبارة الزمخشري «أنه تعليل على طريق الاستئناف وهو أبلغ كأنه قيل: ما له يعذب هذا العذاب الشديد فأجيب بذلك» (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) الواو عاطفة لتجمع بين الأمرين المستوبلين وهما الكفر والبخل وهما أقبح العقائد والرذائل، ولا نافية ويحضّ فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو وعلى طعام المسكين متعلق بيحضّ (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) الفاء الفصيحة كأنه قيل إن شئت أن تعرف مصيره بعد الحالة الدينية التي ارتطم فيها فليس. وليس فعل ماض ناقص وله خبر مقدّم واليوم ظرف متعلق بمحذوف حال أو متعلق بما في الخبر من معنى الاستقرار وها للتنبيه وهنا اسم إشارة في محل نصب على الظرفية متعلق بما تعلق به اليوم أيضا وحميم اسم ليس ولا يصحّ أن يكون اليوم خبر ليس لأنه زمان والمخبر عنه جثة وحميم اسم ليس (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) الواو حرف عطف ولا نافية وطعام عطف على حميم وإلا أداة حصر ومن غسلين نعت لطعام فدخل الحصر على الصفة كقولك ليس عندي رجل إلا من بني تميم إذ المراد بالحميم الصديق فعلى هذا الصفة مختصة بالطعام أي ليس له صديق ينفعه ولا طعام إلا من كذا، ونون غسلين وياؤه زائدتان وهو ما يجري من الجراح إذا غسلت، ومن الغريب أن يجيز أبو البقاء جعل من غسلين صفة للحميم كأنه أراد به الشيء الذي يحم البدن من صديد النار على أنه عاد فذكر قوله «وقيل من الطعام والشراب لأن الجميع يطعم بدليل قوله ومن لم يطعمه فعلى هذا يكون قوله إلا من غسلين صفة لحميم ولطعام» وما أكثر ما للنقل من آفات (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) الجملة صفة لغسلين ولا نافية ويأكله فعل مضارع ومفعول به مقدم وإلا أداة حصر والخاطئون فاعل ليأكله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 203 البلاغة: في تقديم السلسلة على السلك نكتة بلاغية هامة وهي التخصيص وكذلك تقديم الجحيم على التصلية أي لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم، وفي تخصيص الطول بسبعين ذراعا مبالغة في إرادة الوصف بالطول كما قال إن تستغفر لهم سبعين مرة يريد مرات كثيرة لأن السلسلة كلما طالت كان الإرهاق أشد والعذاب أمضّ. والعدد عند الجاحظ لا يحمل في القرآن معنى التحديد الكمّي، إنما المقصود التعدّد والكثرة. [سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 52] فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) اللغة: (تَقَوَّلَ) التقوّل: افتعال القول لأن فيه تكلفا من المفتعل، وقال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 204 أبو حيان: «التقوّل: أن يقول الإنسان عن آخر إنه قال شيئا لم يقله» . (الْأَقاوِيلِ) جمع الجمع وهو أقوال كبيت وأبيات وأبابيت، وقال الزمخشري وسمى الأقوال المتقولة أقاويل تصغيرا لها وتحقيرا كقولك الأعاجيب والأضاحيك كأنها جمع أفعولة من القول. (الْوَتِينَ) عرق في القلب يجري منه الدم إلى العروق كلها ويجمع على وتن وأوتنة. الإعراب: (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ) الفاء استئنافية ولا زائدة وقد تقدم الكلام في لا قبل القسم في قوله فلا أقسم بمواقع النجوم، وأقسم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا وبما متعلقان بأقسم وتبصرون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجملة صلة وفي البيضاوي «فلا أقسم لظهور الأمر واستغنائه عن التحقيق بالقسم أو فأقسم ولا مزيدة أو فلا رد لإنكارهم البعث وأقسم مستأنف» ويرد قول البيضاوي الأول أي جعلها نافية للقسم تعيين المقسم به بقوله بما تبصرون وما لا تبصرون (وَما لا تُبْصِرُونَ) عطف على ما تبصرون (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) إن واسمها واللام المزحلقة وقول رسول خبرها وكريم صفة لرسول والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم فهو المحلوف عليه والضمير يعود على القرآن أي قاله الرسول تبليغا عن الله (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ) الواو عاطفة وما نافية حجازية وهو اسمها والباء حرف جر زائد وقول مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما الحجازية وشاعر مضاف إليه وقليلا صفة لمصدر محذوف فهو مفعول مطلق أو صفة لزمان محذوف فهو ظرف زمان أي تؤمنون إيمانا قليلا أو زمانا قليلا، وما يحتمل أن تكون نافية فينتفي أيمانهم البتة ويحتمل أن تكون مصدرية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 205 والمتّصف بالقلّة هو الإيمان اللغوي ويكون المصدر المؤول في موضع رفع على الفاعلية بقليلا أي قليلا إيمانكم ويحتمل أن تكون زائدة مؤكدة ولعل هذا الوجه أصوب الوجوه لأنه المناسب لتأكيد القلّة والمعنى أنهم آمنوا بأشياء يسيرة مما أتى به النبي صلّى الله عليه وسلم من الخير كالصلة والعفاف وإنما آمنوا بهذه الأشياء لأنها جارية وفق طباعهم منسجمة مع مقتضيات مروءاتهم (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ) عطف على الجملة السابقة مماثلة لها في إعرابها (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) خبر لمبتدأ محذوف أي هو تنزيل ومن رب العالمين متعلقان بتنزيل (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) الواو عاطفة ولو شرطية وتقوّل فعل ماض وفاعله يعود على النبي صلّى الله عليه وسلم وتأدب أبو حيان فقال أنه يعود على المتقوّل المضمر وليس عائدا على الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم لاستحالة وقوع ذلك منه قال أبو حيان «فنحن نمنع أن يكون ذلك على سبيل الفرض في حقه عليه الصلاة والسلام» وعلينا متعلقان بتقول وبعض الأقاويل نائب مفعول مطلق (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) اللام واقعة في جواب لو وأخذنا فعل وفاعل ومنه متعلقان بأخذنا وباليمين يجوز أن تكون الباء على أصلها غير مزيدة والمعنى لأخذناه بقوة منّا فالباء حالية والحال من الفاعل وتكون منه في حكم الزائدة ويجوز أن تكون الباء زائدة والمعنى لأخذنا منه يمينه (ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ولقطعنا عطف على لأخذنا ومنه متعلقان بقطعنا أو بمحذوف حال والوتين مفعول به (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) الفاء عاطفة وما نافية حجازية ومنكم حال لأنه كان في الأصل صفة لأحد فلما تقدم صار حالا ومن حرف جر زائد وأحد مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه اسم ما وعنه متعلقان بحاجزين وحاجزين خبر ما لأنه هو محطّ الفائدة وقال الحوفي والزمخشري حاجزين نعت لأحد على اللفظ وجمع على المعنى لأنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 206 في معنى الجماعة يقع في النفي العام للواحد والجمع والمذكر والمؤنث وعلى هذا الإعراب يكون أحد مبتدأ والخبر منكم وقد ضعف أبو حيان هذا الإعراب قال: «ويضعف هذا القول لأن النفي يتسلط على الخبر وهو كينونته منكم فلا يتسلط على الحجز وإذا كان حاجزين خبرا تسلط النفي عليه وصار المعنى ما أحد منكم يحجزه عمّا يريد به من ذلك والضمير في عنه للقتل أي لا يقدر أحد منكم أن يحجزه عن ذلك ويدفعه عنه أو لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أي لا تقدرون أن تحجزوا عنه القاتل وتحولوا بينه وبينه والخطاب للناس» وعبارة الجلال «حاجزين مانعين خبر ما وجمع لأن أحدا في سياق النفي بمعنى الجمع وضمير عنه للنبي صلّى الله عليه وسلم أي لا مانع لنا عنه من حيث العقاب» وعبارة أبي البقاء: «من زائدة وأحد مبتدأ وفي الخبر وجهان أحدهما حاجزين وجمع على معنى أحد وجر على لفظ أحد وقيل هو منصوب بما ولم يعتد بمنكم فصلا وأما منكم على هذا فحال من أحد وقيل تبيين والثاني الخبر منكم وعن يتعلق بحاجزين» (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) الواو عاطفة والكلام معطوف على جواب القسم السابق فهو من جملة المقسم به وما بينهما اعتراض وإن واسمها والضمير يعود على القرآن واللام المزحلقة وتذكرة خبر وللمتقين متعلقان بتذكرة (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) عطف أيضا وإن واسمها واللام المزحلقة وجملة نعلم خبر وأن وما بعدها سدّت مسدّ مفعولي نعلم ومنكم خبر أن المقدم ومكذبين اسمها المؤخر (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) عطف أيضا وإن واسمها وخبرها وعلى الكافرين نعت لحسرة أو متعلق به (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) عطف أيضا وإن واسمها وخبرها (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) الفاء الفصيحة وسبّح فعل أمر وباسم ربك متعلقان بسبّح أو الباء زائدة وقد تقدم إعراب نظيره والعظيم نعت لربك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 207 (70) سورة المعارج مكيّة وآياتها أربع وأربعون [سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) اللغة: (الْمَعارِجِ) المصاعد جمع معرج. (المهل) : دردي الزيت أو ذائب الفضة وقد تقدم ذكره في سورة الدخان. (العهن) الصوف على الإطلاق دون تقييد أو المصبوغ بالأحمر أو بشتى الألوان أقوال. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 208 الإعراب: (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) سأل فعل ماض مبني على الفتح متضمن معنى دعا ولذلك عدّي تعديته وسائل فاعله وبعذاب متعلقان بسأل وواقع نعت وقيل هو على بابه والباء بمعنى عن واختاره أبو البقاء، وقال أبو علي الفارسي: «وإذا كان من السؤال فأصله أن يتعدى إلى مفعولين ويجوز الاقتصار على أحدهما وإذا اقتصر على أحدهما جاز أن يتعدى إليه بحرف جر فيكون التقدير سأل سائل الله أو النبي صلّى الله عليه وسلم أو المسلمين بعذاب أي عن عذاب» والسائل هو النضر بن الحارث حين قال: اللهمّ إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، وهو ممّن قتل يوم بدر وقال الواحدي: «الباء في بعذاب للتوكيد كقوله: وهزي إليك بجذع النخلة والمعنى سأل سائل عذابا واقعا» (لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) في الجار والمجرور أقوال أحدها أنه متعلق بسأل مضمنا معنى دعا أي دعا لهم، والثاني أن يتعلق بواقع واللام للعلّة أي نازل لأجلهم، والثالث أن تكون اللام بمعنى على أي واقع على الكافرين وعلى هذا فهي متعلقة بواقع أيضا وجملة ليس له دافع نعت ثان لعذاب أو حال من عذاب لأنه وصف. وليس فعل ماض ناقص وله خبرها المقدّم ودافع اسمها المؤخر (مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ) متعلق بواقع أي واقع من عنده ومن جهته أو متعلق بدافع بمعنى ليس له دافع من جهته إذا جاء وقته وذي المعارج نعت لله (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) كلام مستأنف مسوق لتأكيد العلو البعيد، وتعرج الملائكة فعل مضارع وفاعل والروح عطف على الملائكة وأراد به جبريل فهو من عطف الخاص على العام وإليه متعلقان بتعرج وفي يوم متعلقان بمحذوف دلّ عليه واقع أي يقع العذاب بهم في يوم القيامة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 209 وكان واسمها وخمسين خبرها وألف سنة تمييز خمسين أو متعلق بتعرج أيضا (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا) الفاء الفصيحة أي إن عرفت هذا وتدبرت فحواه فاصبر، واصبر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وصبرا مفعول مطلق وجميلا نعت (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً) إن واسمها وجملة يرونه خبرها والضمير للعذاب وبعيدا مفعول به ثان لأن الرؤية علمية والجملة تعليلية لا محل لها (وَنَراهُ قَرِيباً) عطف على الجملة السابقة داخلة في حيّز الخبر (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) الظرف متعلق بقريبا أو بمحذوف يدل عليه واقع أي يقع يوم تكون وجملة تكون في محل جر بإضافة الظرف إليها والسماء اسمها وكالمهل خبرها (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) عطف على الجملة السابقة مماثلة لها في إعرابها (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) الواو عاطفة ولا نافية ويسأل حميم فعل مضارع وفاعله وحميما مفعول يسأل الأول والمفعول الثاني محذوف والتقدير شفاعته ونصره وقيل حميما منصوب بنزع الخافض ويسأل لا حاجة لها إلى مفعول. البلاغة: 1- في قوله «يوم تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة» فن التمثيل فليس المراد حقيقة ذلك العدد بل المراد الإشارة إلى أنه يبدو للكافر طويلا لما يلقاه خلاله من الهول والشدائد فلا تنافي مع آية السجدة «في يوم كان مقداره ألف سنة» والعرب تصف أيام الشدّة بالطول وأيام الفرح بالقصر قال: فقصارهنّ مع الهموم طويلة ... وطوالهنّ مع السرور قصار وقال آخر: ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطفاق المزاهر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 210 2- وفي قوله «يوم تكون السماء كالمهل» تشبيه مرسل ووجه الشبه التلوّن وكذلك قوله «وتكون الجبال كالعهن» ووجه الشبه التطاير والتناثر وقد رمق أبو العلاء هذه السماء العالية من البلاغة إذ قال في رثاء أبيه: فيا ليت شعري هل يخفّ وقاره ... إذا صار أحد في القيامة كالعهن [سورة المعارج (70) : الآيات 11 الى 23] يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) اللغة: «وفصيلته» الفصيلة العشيرة وقال ثعلب الآباء الأدنون فهي فعيلة بمعنى مفعولة أي مفعول منها. (لَظى) اسم جهنم لأنها تتلظى أي تتلهب على من يصلاها. (لِلشَّوى) الشوى جمع شواة وهي جلدة الرأس. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 211 الإعراب: (يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ) الجملة مستأنفة أو حالية، وأجاز الزمخشري أن تكون صفة أي حميما مبصرين، ويبصرونهم فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل والهاء مفعول به ثان، وعدّي بالتضعيف إلى مفعول ثان وقام الأول مقام الفاعل وإنما جمع الضميران في يبصرونهم وهما للحميمين حملا على معنى العموم لأنهما نكرتان في سياق النفي وفيه دليل على أن الفاعل والمفعول الواقعين في سياق النفي يعمّان كما التزم في قوله والله لا أشرب ماء من أداوة إنه يعمّ المياه والأداوي خلافا لبعضهم في الإداوة أي يبصر الأصحّاء بعضهم بعضا ويتعارفون ولكنهم لا يتبادلون الكلام لتشاغلهم بأنفسهم، ويودّ المجرم فعل مضارع وفاعل والجملة حالية ولو مصدرية بمعنى أن لأنها وقعت بعد فعل الودادة وهي مع ما في حيّزها في تأويل مصدر مفعول يودّ أي يودّ افتداء ومن عذاب متعلقان بيفتدي ويومئذ ظرفان مضافان والتنوين عوض عن جمل محذوفة والتقدير يوم إذ تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميما، وببنيه متعلقان بيفتدي أيضا (وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ) عطف على بنيه وجملة تؤويه صلة أي تضمه في النسب (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ) عطف أيضا وفي الأرض صلة الموصول وجميعا حال وثم حرف عطف للتراخي لشدة الهول وينجيه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أي يودّ لو يفتدي ثم لو ينجيه الافتداء، وثم لاستبعاد الإنجاء يعني تمنى لو كان هؤلاء جميعا في متناول يده وبذلهم في فداء نفسه وهيهات (كَلَّا إِنَّها لَظى) كلا حرف ردع وزجر لودادتهم الافتداء وتنبيه على أن ذلك التمنّي غير وارد وليس بذي طائل وإن واسمها ولظى خبرها والضمير للنار الدّال عليها العذاب (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) حال مؤكدة أو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 212 مبينة أو نصبت على الاختصاص للتهويل وعلى الحال يكون العامل فيها ما دلّت عليه لظى من معنى الفعل أي تتلظى نزّاعة وقرىء بالرفع فهو خبر ثان أي خبر لمبتدأ محذوف أي هي نزّاعة وقيل هي بدل من لظى وقيل كلاهما خبر وقيل لظى بدل من اسم إن ونزّاعة خبرها (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) الجملة حالية من الضمير في نزّاعة وفاعل تدعو مستتر يعود على لظى ومن موصول مفعول به وجملة أدبر لا محل لها لأنها صلة وتولى عطف على أدبر، وسيأتي مزيد بيان لهذه الدعوة في باب البلاغة (وَجَمَعَ فَأَوْعى) عطف على أدبر وتولى ومعنى أوعى جمع المال فجعله في وعاء وكنزه ولم يؤد به حق الله تعالى (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) الجملة بمثابة التعليل لما تقدم وإن واسمها وأل في الإنسان جنسية وجملة خلق خبر إن ونائب الفاعل مستتر يعود على الإنسان وهلوعا حال مقدّرة لأنه ليس متصفا بهذه الصفات قبل ولادته ووقت خلقه (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً) إذا ظرف متعلق بجزوعا وجملة مسّه في محل جر بإضافة الظرف إليها والشر فاعل وجزوعا حال من الضمير في هلوعا ولك أن تجعله نعتا لهلوعا (وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) عطف على الجملة السابقة مماثلة لها في إعرابها (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) استثناء من الإنسان المراد به الجنس فهو استثناء متصل (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) الذين نعت للمصلين وهم مبتدأ وعلى صلاتهم متعلقان بدائمون ودائمون خبرهم والجملة الاسمية صلة الذين. البلاغة: في قوله «تدعو من أدبر وتولى» مجاز عقلي عن إحضارهم كأنها تدعوهم فتحضرهم، وقد تقدم بحث المجاز العقلي في هذا الكتاب، أو استعارة مكنية، ومنه قول ذي الرمة يصف ثورا وحشيا: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 213 أمسى بوهبين مجتازا لمرتعه ... من ذي الفوارس تدعو أنفه الربب ووهبين اسم موضع وكذلك ذو الفوارس والربب بموحدتين جمع ربة وهي أول ما ينبت من الكلأ والدعاء الطلب وهو هنا مجاز عن التسبّب في الأمر لأن النبات الصغير سبب في وصول أنفه للأرض ليرعاه. ويجوز أن يكون الدعاء من باب الاستعارة، شبّه الربب بالداعي وحذف المشبّه به وأخذ شيئا من خصائصه. ومنه أيضا قول ذي الرمة: ليالي اللهو يطبيني فأتبعه ... كأنني ضارب في غمرة لعب وليالي منصوب على الظرفية واللهو مبتدأ وطباه يطبوه ويطبيه إذا دعاه وجذبه أي اللهو يدعوني في ليال كثيرة فأتبعه كأني سابح في لجّة من الماء تغمر القامة. ولعب خبر ثان والظرف متعلق بيطبيني وقيل هو متعلق بما قبلها والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها. [سورة المعارج (70) : الآيات 24 الى 35] وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 214 الإعراب: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) والذين عطف على الذين الأولى وفي أموالهم خبر مقدّم وحق مبتدأ مؤخر ومعلوم نعت والمراد به الزكاة المفروضة والجملة الاسمية صلة الموصول (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) نعت لحق (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) عطف أيضا وجملة يصدقون صلة الموصول وبيوم الدين متعلقان بيصدقون أي يوم الجزاء (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) عطف أيضا وهم مبتدأ ومشفقون خبره ومن عذاب ربهم متعلقان بقوله مشفقون والجملة صلة (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) الجملة تعليل للإشفاق وإن واسمها وغير مأمون خبرها (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) عطف أيضا وهم مبتدأ وحافظون خبره ولفروجهم متعلقان بحافظون أي عن المحرمات والمحظورات (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) إلا أداة استثناء وعلى أزواجهم استثناء من أعمّ الأحوال واو حرف عطف وما عطف على أزواجهم وجملة ملكت صلة وأيمانهم فاعل والمراد بما ملكت أيمانهم الإماء، فإنهم الفاء عاطفة وإن واسمها وغير ملومين خبرها (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) الفاء عاطفة ومن اسم شرط جازم مبتدأ وابتغى فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله ضمير مستتر يعود على من ووراء مفعول به لابتغى فقد خرجت وراء عن الظرفية أي طلب وراء ذلك أي الاستمتاع بالنكاح وملك اليمين ولك أن تبقيها على الظرفية وتعلقها بمحذوف صفة للمفعول به المحذوف أي فمن طلب أمرا كائنا وراء ذلك والفاء رابطة لجواب الشرط وأولئك اسم إشارة في محل رفع مبتدأ وهم ضمير فصل والعادون خبر أولئك والجملة في محل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 215 جزم جواب الشرط، ولك أن تجعل هم مبتدأ ثانيا والعادون خبره والجملة خبر أولئك (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) عطف على ما تقدم وهم مبتدأ وراعون خبره ولأماناتهم متعلقان براعون والجملة الاسمية صلة الموصول (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) عطف أيضا وفي قراءة بالإفراد (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) عطف أيضا (أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) أولئك مبتدأ وفي جنات خبر ومكرمون خبر ثان ولك أن تعلّق في جنات بمكرمون. البلاغة: في تكرير الصلاة مبالغة لا تخفى اهتماما بشأنها وتنويها بفضلها، ويضاف إلى التكرير تصدير الجملة بالضمير وبناء الجملة عليه وتقديم الجار والمجرور على الفعل وفعلية الخبر فتفيد الجملة الاسمية الدوام والاستمرار وتفيد الجملة الفعلية التجدّد مع الاستمرار، وهذا نمط عجيب انفرد به كتاب الله. [سورة المعارج (70) : الآيات 36 الى 44] فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 216 اللغة: (مُهْطِعِينَ) مسرعين نحوك مادّي أعناقهم مقبلين بأبصارهم عليك فهي من الكلمات التي يحتاج تفسيرها إلى جمل، وفي القاموس: «هطع كمنع هطعا وهطوعا أسرع مقبلا خائفا وأقبل ببصره على الشيء لا يقلع عنه وهطع مدّ عنقه وصوّب رأسه كاستهطع، وكأمير: الطريق الواسع، وكمحسن: من ينظر في ذل وخضوع لا يقلع بصره أو الساكت المنطلق إلى من هتف به، وبعير مهطع في عنقه تصويب خلقة» وقد تقدم شرح هذه المادة في سورة إبراهيم. (عِزِينَ) جمع عزة، قال أبو عبيدة: جماعات في تفرقة وقيل الجمع اليسير كثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة وقال الأصمعي: في الدار عزون أي أصناف من الناس وقال الكميت: ونحن وجندل باغ تركنا ... كتائب جندل شتّى عزينا وعزة مما حذفت لامه فقيل هي واو وأصله عزوة كأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الأخرى فهم متفرقون ويقال عزاه يعزوه إذا أضافه إلى غيره وقيل لامها هاء والأصل عزهة وجمعت عزة بالواو والنون كما جمعت سنّة وأخواتها بذلك وقيل هي ياء إذ يقال عزيته بالياء أعزيه بمعنى عزوته وقد تقدم بحث ما ألحق بجمع المذكر السالم. (نُصُبٍ) تقدم القول فيه مفصلا ونضيف إليه هنا أنه قرىء نصب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 217 بالفتح والإسكان وقراءتنا بضمتين وقرىء بفتحتين وقرىء بضم فسكون، فالأول اسم مفرد بمعنى العلم المنصوب الذي يسرع الشخص نحوه وقال أبو عمرو: هو شبكة الصائد يسرع إليها عند وقوع الصيد فيها مخافة انفلاته، وأما الثانية فتحتمل ثلاثة أوجه: أحدها أنه اسم مفرد بمعنى الصنم المنصوب للعبادة والثاني أنه جمع نصاب ككتب جمع كتاب والثالث أنه جمع نصب كرهن في رهن وسقف في سقف وجمع الجمع أنصاب، وأما الثالثة ففعل بمعنى مفعول أي منصوب كالقبض بمعنى المقبوض والرابعة تخفيف من الثانية. (يُوفِضُونَ) يسرعون إلى الداعي مستبقين. الإعراب: (فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) الفاء استئنافية وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وللذين خبر ما أي فأي شيء ثبت لهم وحملهم على النظر إليك والتفرّق، كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلّي عند الكعبة ويقرأ القرآن فكانوا يحتفون به حلقا حلقا يسمعون ويستهزئون بكلامه ويقولون إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنّها قبلهم فنزلت. وقبلك ظرف مكان متعلق بمحذوف حال أو بمهطعين أي كائنين في الجهة التي تليك عن اليمين وعن الشمال ومهطعين حال من الذين (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) الجار والمجرور حال من الموصول أيضا وقيل متعلق بمهطعين وعزين حال من الموصول أيضا فالأربعة أحوال من الموصول وقيل حال من الضمير في مهطعين فتكون حالا متداخلة، وعلّق أبو البقاء عن اليمين وعن الشمال بعزين وأعرب بعضهم عزين صفة لمهطعين (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) الهمزة للاستفهام الإنكاري ويطمع فعل مضارع وكل امرئ فاعله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 218 ومنهم صفة لامرىء وأن وما في حيّزها في محل نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بيطمع أي أيطمع في الدخول ونائب فاعل يدخل مستتر تقديره هو وجنة نعيم مفعول به ثان على السعة (كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) كلا حرف ردع وزجر عن طمعهم الأشعبي بدخول الجنة وجملة إنّا خلقناهم تعليل للردع وإن واسمها وجملة خلقناهم خبرها ومما متعلقان بخلقناهم وجملة يعلمون صلة والمعنى أنهم مخلوقون من نطفة قذرة لا تناسب عالم القدس فمن لم يتحلّ بالإيمان ويرحض عنه الأقذار بالعمل الصالح وأضاف الكمالات لم يكن أهلا لدخول الجنان أو هو استدلال بالنشأة الأولى على النشأة الثانية وإن من قدر على الخلق الأول لم تعجزه الإعادة (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ) الفاء استئنافية ولا زائدة وأقسم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا وبرب المشارق والمغارب متعلقان بأقسم وجملة إنّا لقادرون لا محل لها لأنها جواب القسم وإن واسمها واللام المزحلقة وقادرون خبرها (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أن وما في حيّزها في محل جر بعلى والجار والمجرور متعلقان بقادرون وخيرا مفعول نبدل ومنهم متعلقان بخيرا والواو حرف عطف وما حجازية ونحن اسمها والباء حرف جر زائد ومسبوقين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبرها والجملة معطوفة على جواب القسم داخلة في ضمن المقسم عليه (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) الفاء الفصيحة أي إذا تبين أنه لا يفوتنا ولا يعجزنا إنزال ما نريده بهم فذرهم، وذرهم فعل أمر مات ماضيه وفاعل مستتر ومفعول به ويخوضوا فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب ويلعبوا عطف على يخوضوا وحتى حرف غاية وجر ويلاقوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والواو فاعل ويومهم مفعول به والذي نعت ليومهم وجملة يوعدون صلة الموصول وهو فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل (يَوْمَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 219 يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) يوم بدل من يومهم وجملة يخرجون في محل جر بإضافة الظرف إليها ومن الأجداث متعلقان بيخرجون وسراعا حال من الواو وجملة كأنهم حال ثانية من الواو أيضا فتكون مترادفة أو من الضمير في سراعا فتكون متداخلة وكأن واسمها وإلى نصب متعلقان بيوفضون وجملة يوفضون خبر كأنهم (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) خاشعة حال من فاعل يوفضون أو من فاعل يخرجون والأول أقرب وأبصارهم فاعل بخاشعة وجملة ترهقهم ذلة حال ثانية ولك أن تجعلها مستأنفة وذلك مبتدأ واليوم خبره والذي صفة وكان واسمها وجملة يوعدون خبرها والجملة صلة وجملة ذلك اليوم مستأنفة أو مفسرة وعلى كل حال لا محل لها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 220 (71) سورة نوح مكيّة وآياتها ثمان وعشرون [سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9) اللغة: (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) وتغطوا بها كأنهم طلبوا أن تغشاهم ثيابهم أو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 221 تغشيهم لئلا يبصروه كراهة النظر إلى من ينصحهم في دين الله. الإعراب: (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) إن واسمها وجملة أرسلنا خبرها ونوحا مفعول به وإلى قومه متعلقان بأرسلنا (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) يجوز أن تكون أن مصدرية فتكون مع مدخولها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بأرسلنا والمعنى أرسلناه بأن قلنا له أنذر ويجوز أن تكون مفسّرة لأن الإرسال فيه معنى القول وأنذر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وقومك مفعول به ومن قبل متعلقان بأنذر وأن وما في حيّزها في تأويل مصدر في محل جر بالإضافة ويأتيهم فعل مضارع منصوب بأن والهاء مفعول به وعذاب فاعل وأليم نعت (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ويا حرف نداء وقوم منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة وقد تقدم بحث المنادى المضاف إلى ياء المتكلم وإن واسمها ولكم متعلقان بنذير ونذير خبر ومبين نعت (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) أن مصدرية أو مفسّرة وقد تقدم القول فيها آنفا واعبدوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والله مفعول به واتقوه وأطيعون معطوفان على اعبدوا وحذفت ياء المتكلم لمناسبة رءوس الآي أي وأطيعوني (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) يغفر فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب ولكم متعلقان بيغفر ومن ذنوبكم في موضع نصب مفعول يغفر لأن من للتبعيض أي بعض ذنوبكم لأن الإيمان يجبّ ما قبله من الذنوب لا ما بعده وقيل لابتداء الغاية وقيل زائدة وهو مذهب الأخفش لأنه يجيز زيادتها في الموجب وغيره والبصريون ومعظم الكوفيين يشترطون لزيادتها أن يسبقها نفي أو نهي أو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 222 استفهام وأن تدخل على النكرة، ويؤخركم عطف على يغفر والكاف مفعول به وإلى أجل متعلقان بيؤخركم ومسمى نعت لأجل، وسنورد مناقشة طريفة حول هذا التأخير للعذاب في باب الفوائد (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الجملة تعليل لما تقدم وإن واسمها وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه متعلق بجوابه وجملة جاء في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة لا يؤخر لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ولو شرطية وكنتم كان واسمها وجملة تعلمون خبرها وجواب لو محذوف كما حذف مفعول تعلمون أي لو كنتم تعلمون ذلك لآمنتم (قالَ: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً) ربّ منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة وحذف حرف النداء وإن واسمها وجملة دعوت خبرها وقومي مفعول به وليلا ونهارا ظرفان متعلقان بدعوت والجملة مقول القول (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) الفاء عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم ويزدهم فعل مضارع مجزوم بلم والهاء مفعول به أول ودعائي فاعل وإلا أداة حصر وفرارا مفعول به ثان والاستثناء مفرغ (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) الواو عاطفة وإن واسمها وكلما ظرف متعلق بجعلوا أو ما مصدرية أو نكرة ودعوتهم فعل وفاعل ومفعول به واللام للتعليل وتغفر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام للتعليل والجار والمجرور متعلقان بدعوتهم وجملة جعلوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وهو كلما وأصابعهم مفعول جعلوا الأول وفي آذانهم في موضع المفعول الثاني (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) واستغشوا عطف على جعلوا وثيابهم مفعول به وأصرّوا واستكبروا معطوفان أيضا واستكبارا مفعول مطلق (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وإن واسمها وجملة دعوتهم خبرها وجهارا مفعول مطلق على أنه مصدر من المعنى لأن الدعاء يكون جهارا وغيره الجزء: 10 ¦ الصفحة: 223 فهو من باب رجع القهقرى وقعد القرفصاء ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال أي مجاهرا وذا جهار وجعل نفس المصدر مبالغة (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) عطف على ما تقدم وإسرارا مفعول مطلق. البلاغة: في قوله «واستغشوا ثيابهم» كناية عن المبالغة في إعراضهم عمّا دعاهم إليه فمنهم بمثابة من سدّ سمعه وغشى بصره كيلا يسمع ويرى، يقال لبس فلان ثياب العداوة، وقيل الكلام حقيقي ومعنى استغشوا ثيابهم غطّوا بها وجوههم لئلا يروني أو جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامي فيكون استغشاء الثياب على هذا زيادة في سدّ الآذان. وفي التراخي وتكرير الدعوة بيان وتوكيد، وننقل بهذا الصدد عبارة الزمخشري لنفاستها قال: «فإن قلت ذكر أنه دعاهم ليلا ونهارا ثم دعاهم جهارا ثم دعاهم في السر والعلن فيجب أن تكون ثلاث دعوات مختلفات حتى يصحّ العطف قلت: قد فعل عليه الصلاة والسلام كما يفعل الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في الابتداء بالأهون والترقي في الأشد فالأشد فافتتح بالمناصحة في السر فلما لم يقبلوا ثنى بالمجاهرة فلما لم تؤثر ثلث بالجمع بين الإسرار والإعلان ومعنى ثم الدلالة على تباعد الأحوال لأن الجهار أغلظ من الإسرار والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما» وهذا كلام بديع قلّما يكتنه غوره أحد فإنه يعلم من قوله: ثم إني دعوتهم جهارا أن الدعوة السابقة بالإسرار فأفادت ثم التفاوت بين الجهار والإسرار السابق وأفادت ثم الثانية أن الجمع بينهما أغلظ من إفراد كلّ منهما. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 224 الفوائد: هذا وقد وعدناك بإيراد مناقشة ممتعة شجرت بين أكابر المفسّرين حول قوله: ويؤخركم إلى أجل مسمى فقد قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف قال ويؤخركم مع إخباره بامتناع تأخير الأجل وهل هذا إلا تناقض؟ قلت: قضى الله مثلا أن قوم نوح إن آمنوا عمّرهم ألف سنة وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة فقيل لهم آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى أي إلى وقت سمّاه الله وضربه أمدا تنتهون إليه لا تتجاوزونه وهو الوقت الأطول تمام الألف ثم أخبر أنه إذا جاء ذلك الأجل الأمد لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت ولم تكن لكم حيلة فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير» . وقال ابن عطية: «ويؤخركم إلى أجل مسمى مما تعلقت المعتزلة به في قولهم إن للإنسان أجلين قالوا: لو كان واحدا محددا لما صحّ التأخير إن كان الحدّ قد بلغ ولا المعالجة إن كان لم يبلغ» قال: «وليس لهم في الآية تعلق لأن المعنى أن نوحا عليه السّلام لم يعلم هل هم ممّن يؤخر أو ممّن يعاجل ولا قال لهم إنكم تؤخرون عن أجل قد حان لكم لكن سبق في الأزل أنهم إما ممّن قضي له بالإيمان والتأخير وإما ممّن قضي له بالكفر والمعالجة ثم تشدّد هذا المعنى ولاح بقوله: إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر» . وقد جلا السيوطي الغموض الذي تحيف هذا التعبير بقوله في تفسيره الممتع «ويؤخركم بلا عذاب» أي في الدنيا فلا يخالف قوله إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لأن المنفي تأخيره فيه هو الأجل نفسه فلا تخالف بين هذين المحلين. وعبارة الكرخي في حاشيته على الجلالين: «قوله ويؤخركم بلا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 225 عذاب جواب كيف، قال ويؤخركم إلى أجل مسمى خطابا لقوم نوح لأنه إن كان المراد تأخيرهم عن الأجل المقدّر أزلا فهو محال لقوله تعالى: ولن يؤخّر الله نفسا إذا جاء أجلها، أو تأخيرهم إلى مجيء أجلهم المقدّر منهم كغيرهم سواء آمنوا أم لا، وإيضاحه أن معناه يؤخركم عن العذاب إلى منتهى آجالكم على تقدير الإيمان فلا يعذبكم في الدنيا إن وقع منكم ذنب كما عذب غيركم من الأمم الكافرة فيها» . [سورة نوح (71) : الآيات 10 الى 20] فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) اللغة: (مِدْراراً) كثير الدرور ويستوي فيه المذكر والمؤنث ويطّرد هذا الاستواء في وزن مفعال صيغة للمبالغة. (أَطْواراً) جمع طور وهو الحال والتارة، وفي المصباح: «والطور الجزء: 10 ¦ الصفحة: 226 بالفتح التارة وفعل ذلك طورا بعد طور أي مرة بعد مرة والطور الحال والهيئة والجمع أطوار مثل ثوب وأثواب وتعدى طوره أي حاله التي تليق به» . (فِجاجاً) واسعة جمع فج وهو الطريق الواسع وقيل هو المسلك بين الجبلين. الإعراب: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) الفاء عاطفة وقلت فعل وفاعل واستغفروا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وربكم مفعول به وإن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وغفارا خبرها وجملة استغفروا مقول القول وجملة إنه كان غفارا لا محل لها لأنها تعليل للاستغفار، وفي الشهاب: «وليس المراد بالاستغفار مجرد قول استغفر الله بل الرجوع عن الذنوب وتطهير الألسنة والقلوب» (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) يرسل فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب والفاعل مستتر يعود على الله تعالى والسماء مفعول به وعليكم متعلقان بيرسل ومدرارا حال من السماء (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) ويمددكم عطف على يرسل والكاف مفعول به وبأموال متعلقان بيمددكم وبنين عطف على أموال ويجعل فعل مضارع مجزوم عطف على ويمددكم ولكم في موضع المفعول الثاني وجنات مفعول به ويجعل لكم أنهارا عطف على الجملة السابقة والمراد بجنّات الدنيا البساتين (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) ما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ ولكم خبر ولا نافية وترجون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وجملة لا ترجون حال من الكاف في لكم ولله حال لأن اللام للتبيين ولو تأخرت لكانت صفة للوقار، ووقارا مفعول به لترجون أي توقيرا وتعظيما، وسيأتي مزيد بيان لهذا التعبير في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 227 باب الفوائد (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) الواو للحال وقد حرف تحقيق وخلقكم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به والجملة حالية من فاعل ترجون وأطوارا حال مؤولة بالمشتق أي متنقلين من حال إلى حال (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) الهمزة للاستفهام الإنكاري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتروا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والرؤية علمية أي لم تعتبروا وتتفكروا، وكيف اسم استفهام في محل نصب على الحال والعامل فيها خلق، وخلق الله فعل ماض وفاعل والجملة سدّت مسدّ مفعولي تروا المعلقة عن العمل بالاستفهام وسبع سموات مفعول به وطباقا نعت لسبع أي بعضها فوق بعض أو منصوب بفعل محذوف أي طبقت طباقا فيكون مصدر طابقت مطابقة وطباقا وقد ذكر ذلك في سورة الملك (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) الواو عاطفة وجعل القمر فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وفيهن حال ونورا مفعول به ثان وجعل الشمس سراجا عطف على الجملة السابقة (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) الواو عاطفة والله مبتدأ وجملة أنبتكم خبر ومن الأرض متعلقان بأنبتكم ونباتا مفعول مطلق ويجوز أن يكون مصدرا لأنبت على حذف الزوائد ويسمى اسم مصدر ويجوز أن يكون مصدرا لنبتم مقدرا أي فنبتم نباتا فيكون منصوبا بالمطاوع المقدّر، وعبارة الزمخشري «والمعنى أنبتكم فنبتم نباتا أو نصب بأنبتكم لتضمنه معنى نبتم» (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) عطف على ما تقدم (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) الواو حرف عطف والله مبتدأ وجملة جعل خبر ولكم حال والأرض مفعول به أول وبساطا مفعول به ثان (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً) اللام لام التعليل وتسلكوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بجعل ومنها حال من سبلا أي كائنة من الأرض ولو تأخر لكان صفة لها وسبلا مفعول به وفجاجا نعت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 228 البلاغة: 1- في قوله «يرسل السماء عليكم مدرارا» مجاز مرسل علاقته المحلية، فقد أراد بالسماء المطر لأن المطر ينزل منها قال: إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا والمراد بالبيت وصف شجاعتهم لأنهم إذا اجترءوا على رعي نبات القوم الغضاب فهم أحرى بأن يجترئوا على غيرهم، وفي البيت أيضا استخدام فقد أطلق السماء وأعاد عليها الضمير بمعنى النبات لأنها سببه. 2- وفي قوله «والله أنبتكم من الأرض نباتا» استعارة تصريحية لأنه شبّههم بالنبات، فقد استعار الإنبات للإنشاء كما يقال زرعك الله للخير، وكانت هذه الاستعارة ذات فائدة لأنها دلّت على الحدوث فإنهم إذا كانوا نباتا كانوا محدثين لا محالة حدوث النبات وفيه قيل للحشوية النباتية والنوابت لحدوث مذهبهم في الإسلام. الفوائد: اختلفت أقاويل المفسرين في قوله: «ما لكم لا ترجون لله وقارا» ونحن نورد هنا مقتطفات من أقوالهم ثم نعقب عليها بما يجلو غامضها، فالرجاء معناه الأمل والخوف، فقال أبو عبيدة: «لا ترجون: لا تخافون» قالوا والوقار بمعنى العظمة والسلطان فالكلام وعيد وتخويف، وعبارة الزمخشري «والمعنى ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب، ولله بيان للموقر ولو تأخر لكان صلة للوقار ... أو لا تخافون لله حلما وترك معاجلة العقاب فتؤمنوا وقيل ما لكم لا تخافون لله عظمة، وعن ابن عباس لا تخافون لله عاقبة لأن العاقبة حال استقرار الجزء: 10 ¦ الصفحة: 229 الأمور وثبات الثواب والعقاب من وقر إذا ثبت واستقر» وعبارة أبي حيان: «وقيل ما لكم لا تجعلون رجاءكم لله وتلقاءه وقارا ويكون على هذا منهم كأنه يقول تؤدة منكم وتمكنا في النظر لأن الفكر مظنة الخفة والطيش وركوب الرأس» وقال قطرب: هذه لغة حجازية، وهذيل وخزاعة ومضر يقولون: لم أرج لم أبال. وعبارة أبي السعود: «ما لكم لا ترجون لله وقارا إنكار لأن يكون لهم سبب ما في عدم رجائهم لله تعالى وقارا على أن الرجاء بمعنى الاعتقاد ولا ترجون حال من ضمير المخاطبين والعامل فيها معنى الاستقرار في لكم ولله متعلقان بمضمر وقع حالا من وقارا ولو تأخر لكان صفة له أي أيّ سبب حصل لكم حال كونكم غير معتقدين لله تعالى عظمة موجبة لتعظيمه بالإيمان به والطاعة له وقد خلقكم أطوارا أي والحال أنكم على حال منافية لما أنتم عليه بالكلية وهي أنكم تعلمون أنه تعالى خلقكم تارة عناصر ثم أغذية ثم أخلاطا ثم نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما ولحوما ثم أنشأكم خلقا آخر فإن التقصير في توقير من هذه شئونه في القدرة القاهرة والإحسان التام مع العلم بها مما لا يكاد يصدر عن العاقل» . والذي يتحصل معنا من هذا كله: هو أن القوم كانوا يبالغون في احتقاره عليه السلام والاستهزاء به والتندّر عليه فأمرهم الله بالتزام الجدّ في توقيره واحترامه والصدوف عن هذه المعاملة غير اللائقة، أي أنكم إذا وقرتم نوحا وتركتم الاستخفاف به والتندّر عليه كان ذلك طاعة لله وتقربا إليه وامتثالا لأوامره فما لكم لا تهتبلون هذه الفرصة فتفوزوا برضا الله بتوقيره واحترامه؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 230 [سورة نوح (71) : الآيات 21 الى 28] قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28) اللغة: (كُبَّاراً) بضم الكاف وتشديد الباء وهو بناء مبالغة أبلغ من كبار بالضم والتخفيف. (ود، سواع، يَغُوثَ، يَعُوقَ، نسر) أسماء أصنام كانوا يعبدونها. (دَيَّاراً) قال الزمخشري: من الأسماء المستعملة في النفي العام يقال ما بالدار ديار وديور كقيام وقيوم وهو فيعال من الدوار أو من الدار وأصله ديوار ففعل به ما فعل بأصل سيد وميت ولو كان فعالا لكان دوارا» وعبارة أبي حيان: «ديارا من ألفاظ العموم التي تستعمل في النفي وما أشبهه ووزنه فيعال أصله ديوار اجتمعت الياء والواو وسبقت أحداهما بالسكون فأدغمت» وفي القاموس: «وما به داريّ وديّار ودوريّ وديّور: أحد» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 231 (تَباراً) هلاكا. الإعراب: (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) قال نوح فعل ماض وفاعل ورب منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة وإن واسمها وجملة عصوني خبرها والجملة مقول القول (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) واتبعوا عطف على عصوني ومن مفعول به ولم حرف نفي وقلب وجزم ويزده فعل مضارع مجزوم بلم والهاء مفعول به وماله فاعل وولده عطف على ماله وإلا أداة حصر وخسارا مفعول به ثان ليزده (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) الواو عاطفة ومكروا فعل ماض وفاعل ومكرا مفعول مطلق وكبارا نعت لمكرا أي عظيما جدا (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) الواو عاطفة وقالوا فعل ماض وفاعل ولا ناهية وتذرن فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة وآلهتكم مفعول به، ولا تذرن عطف على لا تذرن الأولى وودّا وما عطف عليه مفعول تذرن ويغوث ويعوق ممنوعان من الصرف للعلمية ووزن الفعل إن كانا عربيين والعلمية والعجمة إن كانا أعجميين، وقرىء ولا يغوثا ويعوقا مصروفين لأمرين أحدهما أن صرفهما للتناسب إذ قبلهما اسمان منصرفان وبعدهما اسم منصرف والثاني أنه جاء على لغة من يصرف غير المنصرف مطلقا وهي لغة حكاها الكسائي. (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا) الواو عاطفة وجملة قد أضلّوا مقول قول محذوف معطوف على قال السابقة أي قال إنهم عصوني وقال قد أضلّوا. وأضلّوا فعل وفاعل وكثيرا مفعول به والواو عاطفة على القول المحذوف قال الزمخشري: «فإن قلت علام عطف قوله ولا تزد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 232 الظالمين قلت على قوله رب إنهم عصوني على حكاية كلام نوح عليه السلام بعد قال وبعد الواو النائبة عنه ومعناه قال رب إنهم عصوني وقال لا تزد الظالمين إلا ضلالا أي قال هذين القولين وهما في محل النصب لأنهما مفعولا قال» ولا ناهية وتزد فعل مضارع مجزوم بلا والظالمين مفعول وإلا أداة حصر وضلالا مفعول به وعبارة أبي حيان: «ولا تزد عطف على قد أضلّوا لأنها محكية بقال مضمرة ولا يشترط التناسب في الجمل المتعاطفة بل يعطف خبر على طلب وبالعكس خلافا لمن اشترطه» وعبارة الشهاب الخفاجي: «يعني لا تزد مقول ثان لنوح عليه السلام، عطف الله أحد مقوليه على الآخر والواو فيه من كلامه تعالى لا من كلام نوح لاستلزامه عطف الإنشاء على الإخبار فحكى الله أحد مقوليه بتصديره بلفظ قال وحكى قوله الآخر بعطفه على قوله الأول بالواو النائبة عن لفظ قال» (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) من حرف جر وما زائدة وخطيئاتهم مجرور بمن التعليلية والجار والمجرور متعلقان بأغرقوا وأغرقوا فعل ماض مبني للمجهول، فأدخلوا عطف على أغرقوا وجعل دخولهم النار متعقبا لإغراقهم نظرا لاقترابه ولأنه كائن لا محالة فكأنه قد كان ونارا مفعول به ثان على السعة (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً) عطف متعقب أيضا ولم حرف نفي وقلب وجزم ويجدوا فعل مضارع مجزوم بلم ولهم في موضع المفعول الثاني ليجدوا ومن دون الله حال وأنصارا مفعول يجدوا الأول (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) الواو عاطفة وقال نوح فعل ماض وفاعل ورب منادى محذوف منه حرف النداء وهو مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة ولا ناهية وتذر فعل مضارع مجزوم بلا وعلى الأرض متعلقان بتذر ومن الكافرين حال لأنه كان في الأصل صفة لديارا وديارا مفعول تذر (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) إن واسمها والجملة تعليل لطلب نوح عليه السّلام، فإن قيل كيف علم أن أولادهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 233 يكونون مثلهم أجيب بأنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فاكتنه دخائلهم وسبر أغوارهم فقد كان الرجل منهم ينطلق بابنه ويقول له: احذر هذا فإنه كذاب وإن أبي قد حذرني منه فيموت الكبير وينشأ الصغير على ما كان والده قد لقنه وعلمه من قبل. وإن شرطية وتذرهم فعل الشرط والهاء مفعول به ويضلّوا جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر إنك وعبادك مفعول به والواو حرف عطف ولا نافية ويلدوا فعل مضارع معطوف على يضلوا والواو فاعل وإلا أداة حصر وفاجرا مفعول يضلّوا وكفّارا نعت (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) رب منادى مضاف وقد تقدمت له نظائر، واغفر فعل دعاء ولي متعلقان باغفر ولوالدي عطف على لي ولمن عطف أيضا وجملة دخل بيتي صلة الموصول ومؤمنا حال وللمؤمنين والمؤمنات عطف أيضا (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) الواو عاطفة ولا ناهية دعائية وتزد فعل مضارع مجزوم بلا والظالمين مفعول به أول وإلا أداة حصر وتبارا مفعول به ثان والاستثناء مفرغ وفي المصباح «وتبر يتبر من بابي قتل وتعب إذ هلك ويتعدى بالتضعيف فيقال تبره والاسم التبار، والفعال بالفتح يأتي كثيرا من فعّل نحو كلم كلاما وسلّم سلاما وودّع وداعا» . البلاغة: في قوله «ولا يلدوا إلا فاجرا كفّارا» مجاز مرسل علاقته ما يئول إليه لأنهم لم يفجروا وقت الولادة بل بعدها بزمن طويل على كل حال. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 234 (72) سورة الجنّ مكيّة وآياتها ثمان وعشرون [سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) اللغة: (نَفَرٌ) النفر: الجماعة ما بين الثلاثة إلى العشرة وفي القاموس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 235 «والنفر الناس كلهم وما دون العشرة من الرجال كالنفير والجمع أنفار» وفي شرح القاموس: «قال أبو العباس النفر والرهط والقوم هؤلاء معناها الجمع لا واحد لها من لفظها والنسب إليه نفري قال الزجّاج النفير جمع نفر كالعبيد» . (جَدُّ رَبِّنا) عظمته من قولك جدّ فلان في عيني أي عظم وفي حديث عمر رضي الله عنه كان الرجل منّا إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا، وسيأتي مزيد من بحثه في باب البلاغة. الإعراب: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت أي يا محمد وأوحي فعل ماض مبني للمجهول وإليّ متعلقان بأوحي وأن وما في حيّزها في محل رفع نائب فاعل وأن واسمها وجملة استمع خبرها ونفر فاعل استمع ومن الجن صفة لنفر، فقالوا عطف على استمع وإن واسمها وجملة سمعنا خبر إنّا وقرآنا مفعول به وعجبا نعت أي يتعجب منه لفصاحته وبلاغته وما ينطوي عليه من معان سامية وغير ذلك (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) جملة يهدي إلى الرشد صفة ثانية لقرآنا وإلى الرشد متعلقان بيهدي، فآمنّا عطف على سمعنا وبه متعلقان بآمنّا، ولن الواو حرف عطف ولن حرف نفي ونصب واستقبال ونشرك فعل مضارع منصوب بلن وبربنا متعلقان بنشرك وأحدا مفعول به لنشرك (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) الواو حرف عطف وأن وما في حيّزها عطف على ما تقدم وأن واسمها وتعالى فعل ماض وجدّ ربنا فاعل والجملة معترضة بين الاسم والخبر وجملة ما اتخذ خبر أن ولا ولدا عطف على صاحبة (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً) عطف على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 236 ما تقدم وأن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وسفيهنا فاعل وعلى الله متعلقان بيقول وشططا نعت لمصدر محذوف أي قولا شططا أي غلوا في الكذب وذلك بوصفه بالصاحبة والولد وجملة يقول خبر كان (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً) وأنّا عطف على ما تقدم وأن واسمها وجملة ظننا خبرها، وظن فعل ماض من أفعال القلوب ونا فاعل وأن مخففة واسمها ضمير الشأن وجملة لن تقول خبرها ولن حرف نفي ونصب واستقبال والإنس فاعل والجن عطف على الإنس وعلى الله متعلقان بتقول وكذبا نعت لمصدر محذوف (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) وأنه عطف أيضا وأن واسمها وجملة كان خبرها ورجال اسم كان ومن الإنس نعت لرجال وجملة يعوذون خبر كان وبرجال متعلقان بيعوذون ومن الجن نعت لرجال، فزادوهم عطف على كان رجال وزادوهم فعل وفاعل ومفعول به أول ورهقا مفعول ثان (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً) وأنهم عطف على ما تقدم أيضا وأن واسمها وجملة ظنوا خبرها وكما نعت لمصدر محذوف وجملة ظننتم لا محل لها لأنها موصولة للموصول الحرفي وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي ظنوا وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن المحذوف ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويبعث فعل مضارع منصوب بلن والجملة خبر أن والله فاعل يبعث وأحدا مفعوله (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) عطف على ما تقدم أيضا وأن واسمها وجملة لمسنا خبرها والسماء مفعول به، وسيأتي معنى لمس السماء في البلاغة، والفاء حرف عطف ووجدناها فعل وفاعل ومفعول به وجملة ملئت مفعول به ثان وملئت فعل ماض مبني للمجهول والتاء تاء التأنيث الساكنة ونائب الفاعل مستتر تقديره هي أي السماء وحرسا تمييز وشديدا نعت وشهبا عطف على حرسا وقيل وجدناها هنا متعدية لواحد فجملة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 237 ملئت حال لأن معناها صادفناها (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) عطف على ما تقدم أيضا وأن واسمها وجملة كنّا خبرها وكان واسمها وجملة نقعد خبر كنّا ومنها متعلقان بمقاعد ومقاعد ظرف مكان متعلق بنقعد وللسمع متعلقان بمضمر هو صفة لمقاعد أي مقاعد كائنة للسمع والفاء عاطفة ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويستمع فعل الشرط والآن ظرف حالي مستعار للاستقبال وهو متعلق بيستمع ويجد جواب الشرط وله في موضع المفعول الثاني ليجد وشهابا مفعول يجد الأول ورصدا نعت لشهابا وهو بمعنى اسم المفعول أي أرصد وأعدّ له. البلاغة: 1- في قوله تعالى «تعالى جدّ ربنا» استعارة تصريحية لأنها استعارة من الحظ الذي هو البخت والدولة لأن الأغنياء هم المجدودون، والمعنى وصفه بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته واستغنائه. 2- وفي قوله: «وأنّا لمسنا السماء» مجاز مرسل لأن المسّ هو اللمس، واللامس هو طالب متعرف قال: مسسنا من الآباء شيئا وكلنا ... إلى نسب في قومه غير واضع والبيت ليزيد بن الحاكم الكلابي ومسسنا أي نلنا، فالمسّ مجاز مرسل فكلّ منّا ينتمي إلى نسب في قومه غير منخفض ويروى إلى حسب فاستوينا من جهة الآباء في التفاخر فلما بلغنا فيه ذكر الأمهات وجدتم أقاربكم كرام المضاجع كناية عن الأزواج أو عبر باسم المحل عن الحال فيه وهنّ الأزواج مجازا مرسلا وكرم النساء مذموم لأنه كناية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 238 عن الخنا، كما يكنّى ببخلهنّ عن العفّة فلسنا سواء في الأمهات وبعده: فلما بلغنا الأمهات وجدتم ... بني عمكم كانوا كرام المضاجع [سورة الجن (72) : الآيات 10 الى 19] وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) اللغة: (قِدَداً) جمع قدّة بالكسر وهي الطريقة وفي المصباح: «والقدّة الطريقة والفرقة من الناس والجمع قدد مثل سدرة وسدر وبعضهم يقول الجزء: 10 ¦ الصفحة: 239 الفرقة من الناس إذا كان هوى كل واحد على حدة» ويؤخذ من اللسان وغيره أنه يقال: كنّا طرائق قددا أي فرقا مختلفة الأهواء وتجمع أيضا على أقدّة. (الْقاسِطُونَ) الجائرون بكفرهم والقاسط الجائر لأنه عدل عن الحق والمقسط العادل إلى الحق من قسط إذا جار وأقسط الرباعي بمعنى عدل وعن سعيد بن جبير أن الحجاج قال له حين أراد قتله: ما تقول فيّ؟ قال: قاسط عادل فقال القوم: ما أحسن ما قال حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل فقال الحجاج: يا جهلة إنه سمّاني ظالما مشركا وتلا لهم قوله تعالى: «وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا» «ثم الذين كفروا بربهم يعدلون» . (تَحَرَّوْا رَشَداً) أي قصدوا هداية وطلبوها باجتهاد وفيه التحرّي في الشيء يقال حرى الشيء يحريه أي قصد حراه أي جانبه وتحرّاه كذلك. كذلك قال الراغب والذي في المعاجم أن حرى الشيء نقص. (غَدَقاً) الغدق بفتح الدال وكسرها لغتان في الماء الغزير ومنه الغيداق للماء الكثير وللرجل الكثير العدو والكثير النطق وفي المصباح: «غدقت العين غدقا من باب تعب كثر ماؤها فهي غدقة وفي التنزيل: لأسقيناهم ماء غدقا أي كثيرا وأغدقت إغداقا كذلك وغدق المطر غدقا وأغدق إغداقا مثله وغدقت الأرض تغدق من باب ضرب إذا ابتلت بالغدق» . (صَعَداً) بفتح الصاد والعين مصدر صعد بكسر العين كفرح. (لِبَداً) بكسر اللام وقرىء بفتحها فهما لغتان جمع لبدة بكسر اللام كسدرة وسدر على اللغة وعلى اللغة الثانية كغرفة وغرف وفي المختار: «اللبد بوزن الجلد واحد اللبود واللبدة أخصّ منه قلت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 240 وجمعها لبد ومنه قوله تعالى: كادوا يكونون عليه لبدا» وعبارة القرطبي: «قال مجاهد لبدا أي جماعات وهو من تلبد الشيء على الشيء أي تجمع ومنه اللبد الذي يفرش لتراكم صوفه وكل شيء ألصقته إلصاقا شديدا فقد لبدته ويقال للشعر الذي على ظهر الأسد لبدة وجمعها لبد ويقال للجراد الكثير لبد وفيه أربع لغات وهي قراءات: بفتح الباء وكسر اللام وهي قراءة العامة وضم اللام وفتح الباء وهي قراءة مجاهد وابن محيصن وهشام من أهل الشام واحدتها لبدة بضم اللام وكسرها وبضم اللام والباء وهي قراءة أبي حيان وأبي الأشهب والعقيلي والجحدري وأحدها لبد مثل سقف في سقف ورهن في رهن وبضم اللام وتشديد الباء المفتوحة وهي قراءة الحسن وأبي العالية والجحدري أيضا واحدها لا بدّ مثل راكع وركع وساجد وسجد» . الإعراب: (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) وأنا عطف على ما تقدم وأن واسمها وجملة لا ندري خبرها وأشر فيه وجهان: الرفع بفعل مضمر على الاشتغال والثاني الرفع على الابتداء وجملة أريد هي الخبر والأول أرجح لتقدّم ما هو طالب للفعل وهو همزة الاستفهام وبمن متعلقان بأريد ونائب فاعل أريد مستتر وعلى الوجه الأول تكون جملة أريد مفسّرة لا محل لها وفي الأرض صلة من وأم حرف عطف معادلة وبهم متعلقان بأراد وربهم فاعل ورشدا مفعول به، وسيأتي مزيد من بحث هذه الآية في باب البلاغة (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) عطف أيضا ومنّا خبر مقدم والصالحون مبتدأ مؤخر والجملة خبر أنّا ومنّا خبر مقدم ودون ظرف متعلق بمحذوف هو المبتدأ المؤخر والتقدير ومنّا فريق أو فوج دون ذلك وأجاز الأخفش وغيره أن تكون دون بمعنى غير أي ومنّا غير الصالحين وهو مبتدأ وإنما فتح الجزء: 10 ¦ الصفحة: 241 لإضافته إلى غير متمكّن كقوله: لقد تقطع بينكم في قراءة من نصب على أحد الأقوال والأول أرجح وحذف الموصوف مع من التبعيضية كثير كقولهم منّا ظعن ومنّا أقام أي منّا فريق ظعن ومنّا فريق أقام، وذلك مضاف إليه (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) فيه أوجه أحدها أن التقدير كنّا ذوي طرائق أي ذوي مذاهب مختلفة، الثاني أن التقدير كنّا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة، الثالث أن التقدير كنّا في طرائق مختلفة، الرابع أن التقدير: كانت طرائقنا قددا على حذف المضاف الذي هو الطرائق وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه، وعلى كل حال كان واسمها وطرائق خبرها وقددا نعت، وعلى الوجه الثالث تكون طرائق منصوبة بنزع الخافض والجار والمجرور خبر كنّا، ولم يرتض أبو حيان هذا الوجه وقال: «وأما التقدير الثالث وهو أن ينتصب على إسقاط «في» فلا يجوز ذلك إلا في الضرورة وقد نصّ سيبويه على أن عسل الطريق شاذ فلا يخرج القرآن عليه» أراد أبو حيّان بعسل الطريق قول ساعدة ابن جؤية في وصف رمح: لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب والشاهد فيه قوله عسل الطريق حيث حذف حرف الجر ونصب الاسم الذي كان مجرورا به، وأصل الكلام عسل في الطريق وهو ضرورة (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) عطف أيضا وظننا فعل وفاعل وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن المحذوف وجملة لن نعجز الله خبرها وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي ظننا وفي الأرض حال ولن نعجزه عطف على لن نعجز الله وهربا مصدر في موضع الحال تقديره لن نعجزه كائنين في الأرض أينما تنقلنا فيها ولن نعجزه هاربين إلى السماء موغلين فيها (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ) عطف أيضا وأن واسمها ولما رابطة أو حينية وسمعنا فعل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 242 وفاعل والهدى مفعول به وجملة آمنّا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وبه متعلق بآمنّا (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) الفاء عاطفة ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويؤمن فعل الشرط وفاعله هو وبربه متعلقان بيؤمن والفاء رابطة ولا نافية ويخاف فعل مضارع مرفوع وفاعله هو وجملة لا يخاف خبر لمبتدأ محذوف أي فهو لا يخاف والجملة الاسمية المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط وبخسا مفعول به ولا رهقا عطف على بخسا، وسيأتي سبب رفع الفعل وتقدير مبتدأ قبله حتى يقع خبرا له في باب البلاغة (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) عطف على ما تقدم أيضا وأن واسمها ومنّا خبر مقدم والمسلمون مبتدأ مؤخر والجملة خبر أنّا ومنّا القاسطون عطف على منّا المسلمون (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) الفاء عاطفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وأسلم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة وأولئك مبتدأ وجملة تحرّوا خبر ورشدا مفعول بهَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) الواو عاطفة وأما حرف شرط وتفصيل والقاسطون مبتدأ والفاء واقعة في جواب الشرط غير الجازم وكانوا فعل ماض ناقص والواو اسمها والجملة خبر القاسطون ولجهنم حال لأنه كان في الأصل صفة لحطبا وتقدمت وحطبا خبر كانوا والجملة خبر القاسطون (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) عطف أيضا على أنه استمع وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن المحذوف أي وأوحي إليّ أن لو استقاموا، ولو شرطية وجملة استقاموا خبر أن وعلى الطريقة متعلقان باستقاموا واللام واقعة في جواب لو وأسقيناهم فعل وفاعل ومفعول به أول وماء مفعول به ثان وعذقا نعت لماء (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) اللام لام التعليل ونفتنهم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بأسقيناهم وفيه متعلقان بنفتنهم والمعنى لنختبرهم في الماء فنعلم علم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 243 ظهور للخلائق كيف يشكرون وكيف يكفرون وإلا فهو سبحانه عالم لا يخفى عليه شيء، والواو عاطفة ومن شرطية مبتدأ ويعرض فعل الشرط وعن ذكر ربه متعلقان بيعرض ويسلكه جواب الشرط والهاء مفعول به أي يدخله وعذابا منصوب بنزع الخافض والأصل نسلكه في عذاب كقوله تعالى واختار موسى قومه سبعين رجلا، وصعدا نعت وصعدا مصدر صعد بكسر العين كفرح ووصف به العذاب على تأويله باسم الفاعل أي عذابا عاليا يغمره ويعلو عليه ويجتاحه (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) عطف على أنه استمع أي أوحي إليّ أن المساجد لله أي مختصّة به، وأن واسمها ولله خبرها والفاء عاطفة ولا ناهية وتدعوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون ومع الله ظرف متعلق بتدعوا وأحدا مفعول تدعوا (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) عطف على أنه استمع أيضا وأن واسمها ولما رابطة أو ظرفية حينية متضمنة معنى الشرط وقام عبد الله فعل ماض وفاعل وجملة يدعوه حال أي داعيا والمراد به محمد صلّى الله عليه وسلم أي مصليا صلاة الصبح أو مجرد العبادة ببطن نخلة، وجملة كادوا لا محل لها لأنها جواب ولما وشرطها وجوابها خبر أنه وكاد من أفعال المقاربة والواو اسمها وجملة يكونون خبرها والواو في يكونون اسم يكون وعليه متعلقان بمحذوف حال ولبدا خبر يكونون. البلاغة: 1- في قوله «وأنّا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا» اختلاف صورة الكلام لاختلاف الأحوال فإن ما قبل أم صورة من الكلام تخالف صورة ما بعدها لأن الأولى فيها فعل الإرادة مبني للمجهول والثانية فيها فعل الإرادة مبني للمعلوم والحال الداعي لذلك نسبة الخير إليه سبحانه في الثانية ومنع نسبة الشر إليه في الأولى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 244 قال ابن المنير: «ومن عقائدهم- أي الجن- إن الرشد والضلال جميعا مرادان لله تعالى بقولهم: وأنّا لا ندري «الآية» ولقد أحسنوا الأدب في ذكر إرادة الشر محذوفة الفاعل والمراد بالمريد هو الله عزّ وجلّ وإبرازهم لاسمه عند إرادة الخير والرشد فجمعوا بين العقيدة الصحيحة والآداب المليحة» وعبارة أبي حيان: «ولما رأوا ما حدث من كثرة الرجم ومنع الاستراق قالوا: وأنا لا ندري أشرّ أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا، فيؤمنون به فيرشدون وحين ذكروا أشرّ لم يسندوه إلى الله تعالى وحين ذكروا الرشد أسندوه إليه تعالى» . 2- وفي قوله: «وأنّا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا» فن الإيضاح وقد تقدم القول فيه وأنه حلّ للإشكال الوارد في ظاهر الكلام وهو يكون في معاني البديع من الألفاظ وفي إعرابها ومعاني النفس دون الفنون وقد ذكرنا مفصلا في آل عمران فإن الظاهر جزم الاستغناء عن الفاء وجزم الفعل تفاديا من تقدير المبتدأ قبله ولكنه عدل عمّا هو الظاهر لفائدة وهي أنه إذا فعل ذلك فكأنه قيل فهو لا يخاف فكان دالّا على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص بذلك دون غيره، ومن جهة ثانية فإن الجملة الاسمية أدلّ وآكد من الفعلية على تحقيق مضمون الجملة. [سورة الجن (72) : الآيات 20 الى 28] قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 245 اللغة: (مُلْتَحَداً) : الملتحد: الملتجأ وقيل محيصا وقيل معدلا وعبارة القاموس: «وألحد إليه مال كالتحد والملتحد المتلجأ» وفي المصباح: «والملتحد بالفتح اسم الموضع وهو الملجأ» . (وَأَحْصى) أصل الإحصاء أن المحاسب إذا بلغ عقدا معينا من عقود الأعداد كالعشرة والمائة والألف وضع حصاة ليحفظ بها كمية ذلك العقد فينبي على ذلك حسابه. الإعراب: (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) كلام مستأنف مسوق للرد على الكفّار المتظاهرين عليه القائلين له: إنك قد أقدمت على أمر عظيم لم يخطر على بال غيرك الإقدام عليه فارفق بنفسك واصدف عنه ونحن نجيرك. وقال فعل ماض وفاعله مستتر يعود على النبي عليه السّلام وإنما كافّة ومكفوفة وأدعو ربي فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول الجزء: 10 ¦ الصفحة: 246 به والواو حرف عطف ولا نافية وأشرك فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا وبه متعلقان بأشرك وأحدا مفعول به وقرىء قل على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) كلام مستأنف أيضا مسوق للرد عليهم ولبيان عجزه عن شئون نفسه وأن الأمر كله بيد الله، وإن واسمها وجملة لا أملك خبرها ولكم متعلقان بضرّا وضرّا مفعول به ولا رشدا عطف على ضرّا وجملة إني لا أملك مقول القول (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) إن واسمها وجملة لن يجيرني خبر ومن الله متعلقان بيجيرني وأحد فاعل يجيرني ولن أجد عطف على لن يجيرني ومن دونه في موضع المفعول الثاني ليجدني وملتحدا هو المفعول الأول (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ) إلا أداة استثناء، وبلاغا فيه أوجه: 1- أنه استثناء من مفعول أملك أي من مجموع الأمرين وهما ضرّا ورشدا بعد تأويلهما بشيئا كأنه قال لا أملك لكم شيئا إلا بلاغا فهو استثناء متصل، وعلى هذا ففي نصبه وجهان: أولهما أنه بدل من ملتحدا لأن الكلام غير موجب وثانيهما النصب على الاستثناء. 2- أنه استثناء منقطع لأن البلاغ من الله لا يكون داخلا تحت قوله: ولن أجد من دونه ملتحدا ولأنه لا يكون من دون الله بل يكون من الله وبإعانته. 3- أنه استثناء من قوله: لا أملك لكم ضرّا، وقدّره الزمخشري فقال: «أي لا أملك إلا بلاغا من الله وقل إني لن يجيرني جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه على معنى أن الله إن أراد به سوءا من مرض أو موت أو غيرهما لم يصحّ أن يجيره منه أحد أو يجد من دونه ملاذا يأوي إليه» واستبعد أبو حيان هذا الوجه، وفيما يلي نص عبارته لنفاستها: «إلا بلاغا قال الحسن هو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 247 استثناء منقطع أي لن يجيرني أحد لكن إن بلغت رحمتي بذلك، والإجارة للبلاغ مستعارة إذ هو سبب إجارة الله ورحمته وقيل على هذا المعنى هو استثناء متصل أي لن يجيرني أحد لكن لم أجد شيئا أميل إليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيرني الله فيجوز نصبه على الاستثناء من ملتحدا وعلى البدل وهو الوجه لأن ما قبله نفي وعلى البدل خرجه الزجّاج وقال أبو عبد الله الرازي: هذا الاستثناء منقطع لأنه لم يقل ولم أجد ملتحدا بل قال من دونه والبلاغ من الله لا يكون داخلا تحت قوله من دونه ملتحدا لأنه لا يكون من دون الله بل يكون من الله وبإعانته وتوفيقه، وقال قتادة: التقدير لا أملك إلا بلاغا إليكم فأما الإيمان والكفر فلا أملك انتهى وفيه بعد لطول الفصل بينهما وقيل إلا في تقدير الانفعال إن شرطية ولا نافية وحذف فعلها لدلالة المصدر عليه والتقدير إن لم أبلغ بلاغا من الله ورسالته وهذا كما تقول: إن لا قياما قعودا أي إن لم تقم قياما فاقعد قعودا وحذف هذا الفعل قد يكون لدلالته عليه بعده أو قبله كما حذف في قوله: فطلقها فلست لها بكفء ... وإلا يعل مفرقك الحسام والتقدير وإن لا تطلقها فحذف تطلقها لدلالة فطلقها عليه ومن لابتداء الغاية» واقتصر أبو البقاء على الاستثناء المنقطع لأنه من غير الجنس. ومن الله صفة لبلاغا ورسالاته عطف على بلاغا وقد اختاره الزمخشري وقال: «كأنه قيل: لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالة والمعنى إلا أن أبلغ عند الله فأقول قال الله كذا ناسبا قوله إليه وأن أبلغ رسالاته التي أرسلني بها من غير زيادة ولا نقصان» ورجح أبو حيان والسمين والكرخي أن يكون معطوفا على الله أي إلا عن الله وعن رسالاته وكلاهما سديد (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ ويعص فعل الشرط وفاعله مستتر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 248 تقديره هو ولفظ الجلالة مفعول به ورسوله عطف عليه والفاء رابطة للجواب وإن حرف مشبه بالفعل وله خبرها المقدم ونار جهنم اسمها المؤخر وخالدين حال من الضمير في له والعامل في هذه الحال الاستقرار المحذوف وجمع خالدين حملا على معنى الجمع في من وفيها متعلق بخالدين وأبدا ظرف زمان متعلق بخالدين أيضا (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) حتى هنا حرف ابتداء أي يصلح أن يجيء بعدها جملة الابتداء والخبر ومع ذلك فيها معنى الغاية قال الزمخشري: «فإن قلت بم تعلق حتى وجعل ما بعده غاية له؟ قلت: بقوله يكونون عليه لبدا على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ويستضعفون أنصاره ويستقلون عددهم حتى إذا رأوا ما يوعدون من يوم بدر وإظهار الله له عليهم أو من يوم القيامة فسيعلمون حينئذ أنهم أضعف ناصرا وأقل عددا ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلّت عليه الحال من استضعاف الكفّار له واستقلالهم لعدده كأنه قال: لا يزالون على ما هم عليه حتى إذا رأوا ما يوعدون قال المشركون متى يكون هذا الموعود إنكارا له فقيل: قل إنه كائن لا ريب فيه فلا تنكروه فإن الله قد وعد ذلك وهو لا يخلف الميعاد وأما وقته فما أدرى متى يكون لأن الله لم يبيّنه لما رأى في إخفاء وقته من المصلحة» وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه وجملة رأوا في محل جر بإضافة الظرف إليها ورأوا فعل ماض وفاعل وما اسم موصول مفعول به وجملة يوعدون لا محل لها لأنها صلة الموصول والفاء رابطة للجواب والسين حرف استقبال ويعلمون فعل مضارع وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وهنا إشكال لم ينبّه عليه أحد ممّن تصدّوا لتفسير هذه الآية وإعرابها وهو أن السين حرف استقبال ووقت رؤية العذاب يحصل فور علم الضعيف من القوي والسين تقتضي أنه يتأخر عنه ولا مفر من هذا الإشكال إلا بجعل السين حرفا للتأكيد المجرد لا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 249 للاستقبال، هذا ويجوز تعليق حتى إذا بمحذوف دلّت عليه الحال من استضعاف الكفّار له واستقلالهم لعدده كأنه قال لا يزالون على ما هم عليه حتى إذا رأوا ما يوعدون قال المشركون متى يكون هذا الموعود إنكارا له فقيل لهم قيل أنه كائن لا ريب فيه فلا تنكروه فإن الله قد وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد وأما وقته فلا أدري متى يكون وعبارة الجلال «حتى إذا رأوا ابتدائية فيها معنى الغاية لمقدّر قبلها أي لا يزالون على كفرهم إلى أن يروا ما يوعدون من العذاب فسيعلمون عند حلوله بهم» ومن يجوز أن تكون استفهامية فترفع بالابتداء وأضعف خبره والجملة في موضع نصب سادّة مسدّ مفعولي يعلمون لأنها معلقة للعلم قبلها ويجوز أن تكون موصولة في محل نصب مفعول به وأضعف خبر لمبتدأ محذوف أي هو أضعف والجملة صلة ويكون العلم على هذا الوجه بمعنى العرفان فلا تحتاج لمفعولين وناصرا تمييز وأقل عددا عطف على أضعف ناصرا. هذا وقد أورد أبو حيان اعتراضا على هذا الإعراب الذي أوردناه ننقله بنصّه قال في معرض ردّه على الزمخشري: «قوله بم تعلق إن عنى تعلّق حرف الجر فليس بصحيح لأنها حرف ابتداء فما بعدها ليس في موضع جر خلافا للزجّاج وابن درستويه فإنهما زعما أنها إذا كانت حرف ابتداء فالجملة الابتدائية بعدها في موضع جر وإن عنى بالتعليق اتصال ما بعدها بما قبلها وكون ما بعدها غاية لما قبلها فهو صحيح وأما تقديره أنها تتعلق بقوله يكونون عليه لبدا فهو بعيد جدا لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة، وقال التبريزي: حتى جاز أن تكون غاية لمحذوف ولم يبيّن ما المحذوف، وقيل: المعنى دعهم حتى إذا رأوا ما يوعدون من الساعة فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا أهم أم أهل الكتاب؟ والذي يظهر لي أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم بكينونة النار لهم كأنه قيل: إن العاصي يحكم له بكينونة النار لهم والحكم بذلك هو وعيد حتى إذا رأوا ما حكم بكينونته الجزء: 10 ¦ الصفحة: 250 لهم فسيعلمون فقوله فإن له نار جهنم هو وعيد لهم بالنار ومن أضعف مبتدأ وخبر في موضع نصب لما قبله وهو معلق عنه لأن من استفهام ويجوز أن تكون موصولة في موضع نصب بسيعلمون وأضعف خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة لمن وتقديره هو أضعف وحسن حذفه طول الصلة بالمعمول وهو ناصرا» (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وإن نافية وأدري فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا والهمزة للاستفهام وقريب خبر مقدم وما توعدون مبتدأ مؤخر، ويجوز أن يكون قريب مبتدأ لاعتماده على الاستفهام وما توعدون فاعل به أي أقرب الذي توعدون نحو أقائم أبواك، وما يجوز أن تكون موصولة فالعائد محذوف وجملة توعدون صلة وأن تكون مصدرية فلا عائد وأم متصلة ويجعل فعل مضارع مرفوع وله في موضع المفعول الثاني وربي فاعل وأمدا مفعول يجعل الأول والجملة المعلقة بالاستفهام في محل نصب سدّت مسدّ مفعولي أدري (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) خبر لمبتدأ محذوف أي هو عالم ويجوز أن يعرب بدلا من ربي والفاء عاطفة لترتيب عدم الإظهار على تفرده بعلم الغيب على الإطلاق ولا نافية ويظهر فعل مضارع مرفوع وعلى غيبه متعلقان بيظهر وأحدا مفعول به (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) إلا أداة حصر والاستثناء منقطع أي لكن من ارتضاه فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه بالوحي، ومن اسم موصول أو شرطية مبتدأ على كل حال وعلى الشرطية تكون جملة «فإنه» في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر المبتدأ ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا أي إلا رسولا ارتضاه فتعرب من بدلا من أحد ومن بين يديه متعلقان بيسلك ومن خلفه عطف على من بين يديه ورصدا مفعول يسلك وجملة يسلك خبر إنه أي يسلك ملائكة رصدا (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) اللام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 251 لام التعليل ويعلم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بيسلك غاية له من حيث أنه مترتب على الإبلاغ المترتب عليه، وعلّقه القرطبي بمحذوف وعبارته «وفيه حذف تتعلق به اللام أي أخبرناه بحفظنا الوحي ليعلم أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلغ الرسالة، وأن محففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن المحذوف وقد حرف تحقيق وجملة أبلغوا رسالات ربهم خبر أن (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) عطف على مقدّر أي فعلم ذلك وأحاط فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى وبما متعلقان بأحاط ولديهم ظرف متعلق بمحذوف هو الصلة وأحصى عطف على أحاط وكل شيء مفعول أحصى وعددا تمييز محول عن المفعول أي أحصى عدد كل شيء، وأعربه الزمخشري حالا وعبارته: «وعددا حال أي وضبط كل شيء معدودا محصورا أو مصدر في معنى إحصاء» وبدأ أبو البقاء بالمصدرية وأجاز التمييز، وعبارة أبي حيان: «عددا أي معدودا وانتصابه على الحالية من كل شيء وإن كان نكرة لاندراج المعرفة في العموم ويجوز أن ينتصب نصب المصدر لأحصى لأنه في معنى إحصاء» . الفوائد: شجر بين أهل السنّة والاعتزال خلاف حول كرامات الأولياء فقد قال الزمخشري بصدد الحديث عن قوله تعالى: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا» بعد كلام طويل: «وفي هذا إبطال للكرامات لأن الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل وقد خصّ الله الرسل من بين المرتضين بالاطّلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابها أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 252 وتعقبه ابن المنير فقال: «ادعى عاما واستدل خاصا فإن دعواه إبطال الكرامات بجميع أنواعها والمدلول عليه بالآية إبطال اطّلاع الولي على الغيب خاصة ولا يكون كرامة وخارق العادة إلا الاطّلاع على الغيب لا غير وما القدرية إلا ولهم شبهة في إبطالها وذلك أن الله عزّ وجلّ لا يتخذ منهم وليّا أبدا وهم لم يحدثوا بذلك عن أشياعهم قطّ فلا جرم أنهم يستمرون على الإنكار ولا يعلمون أن شرط الكرامة الولاية وهي مسلوبة عنهم اتفاقا أما سلب الإيمان فمسألة خلاف .... وهو يريد الكرامة لأنه لم يؤتها» . ونحا القرطبي نحوا آخر فقال: «قال العلماء لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ثم استثنى من ارتضاه من الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم» ثم ذكر استدلالا على بطلان ما يقوله المنجم ثم قال باستحلال دم المنجم. وقال الواحدي: «في هذا دليل على أن من ادّعى أن النجوم تدل على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن» . وقال أبو عبد الله الرازي: «والواحدي تجوز الكرامات على ما قال صاحب الكشاف بجعلها تدل على المنع من الأحكام النجومية ولا تدل على الإلهامات مجرد تشبه، وعندي أن الآية لا تدل على شيء مما قالوه لأن قوله: على غيبه ليس فيه صفة عموم» إلى أن يقول: «واعلم أنه لا بدّ من القطع بأنه ليس المراد من هذه الآية أنه لا يطّلع أحد على شيء من المغيبات إلا الرسل عليهم الصلاة والسلام والذي يدل عليه وجوه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 253 أحدها: أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقا وسطيحا كانا كاهنين يخبران بظهور محمد صلّى الله عليه وسلم قبل زمان ظهوره وكانا في العرب مشهورين بهذا النوع من العلم حتى رجع إليهما كسرى في تعرّف أخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وثانيها: إطباق الأمم على صحة علم التعبير فيخبر المعبر عمّا يأتي في المستقبل ويكون صادقا. وثالثها: أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملكشاه من بغداد إلى خراسان سألها عن أشياء في المستقبل فأخبرت بها ووقعت على وفق كلامها فقد رأيت أناسا محققين في علوم الكلام والحكمة حكوا عنها أنها أخبرت عن الأشياء الغائبة على سبيل التفصيل وجاءت كذلك، وبالغ أبو البركات صاحب المعتبر في شرح حالها في كتاب التعبير وقال: فحصت عن حالها منذ ثلاثين سنة حتى تيقنت أنها كانت تخبر عن المغيبات أخبارا مطابقة موافقة. ورابعها: أنّا نشاهد أصحاب الإلهامات الصادقة وليس هذا مختصا بالأولياء فقد يوجد في السحرة وفي الأخبار النجومية ما يوافق الصدق وإن كان الكذب يقع منهم كثيرا وإذا كان ذلك مشاهدا محسوسا فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر إلى الطعن بالقرآن وذلك باطل فعلمنا أن التأويل الصحيح ما ذكرناه» . وتعقبه أبو حيان فقال: «وإنما أوردنا كلام هذا الرجل في هذه المسألة لننظر فيما ذكر من تلك الوجوه، أما قصة شق وسطيح فليس فيها شيء من الإخبار بالغيب لأنه فما يخبر به رئي الكهان من الشياطين مسترقة السمع كما جاء في الحديث أنهم يسمعون وبل الكلمة ويكذبون ويلقون إلى الكهنة وتزيد الكهنة للكلمة مائة كذبة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 254 وليس هذا من علم الغيب إذ تكلمت به الملائكة وتلقفها الجنّي وتلقفها منه الكاهن فالكاهن لم يعلم الغيب، وأما تعبير المنامات فالمعبر غير المعصوم لا يعبّر بذلك على سبيل القطع والبت بل على سبيل الحزر والتخمين فقد يقع ما يعبر وقد لا يقع، وأما الكاهنة البغدادية وما حكي عنها فحسبه عقلا أن يستدل بأحوال امرأة لم يشاهدها ولو شاهد ذلك لكان في عقله ما يجوز أنه ليس عليه هذا وهو العالم المصنّف الذي طبق ذكره الآفاق وهو الذي شكك في دلائل الفلاسفة وسامهم الخسف، وأما حكايته عن صاحب المعتبر فهو يهودي أظهر الإسلام وهو منتحل طريقة الفلاسفة، وأما مشاهدته أصحاب الإلهامات الصادقة فلي من العمر نحو من ثلاث وسبعين سنة أصحب العلماء وأتردد إلى من ينتمي إلى الصلاح ولم أر أحدا منهم صاحب إلهام صادق، وأما الكرامات فإني لا أشك في صدور شيء منها لكن ذلك على سبيل الندرة وذلك فيما سلف من صلحاء هذه الأمة وربما قد يكون في أعصارنا من تصدر منه الكرامة ولله تعالى أن يخصّ من شاء بما شاء» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 255 (73) سورة المزّمل مكيّة وآياتها عشرون [سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 256 اللغة: (الْمُزَّمِّلُ) المتزمل وهو الذي تزمل في ثيابه أي تلفف بها بإدغام التاء في الزاي ونحوه المدّثر في المتدثر، يقال تزمّل في ثوبه التفّ وزمل لف قال امرؤ القيس: كأن ثبيرا في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمل وقال ذو الرمّة: وكائن تخطّت ناقتي من مفازة ... ومن نائم عن ليلها متزمل وفي المصباح «زملته بثوبه تزميلا فتزمل مثل لففته فتلفف، وزملت الشيء حملته، ومنه قيل للبعير زاملته بالهاء للمبالغة لأنه يحمل متاع المسافر» وسيأتي المزيد من معناه في باب الفوائد. (ناشِئَةَ اللَّيْلِ) القيام بعد النوم فهي صفة لمحذوف أي إن النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها للعبادة أي ترتفع وتنهض من نشأت السحابة إذا ارتفعت وقيل أنها مصدر بمعنى القيام من نشأ إذا قام ونهض فتكون كالعاقبة وفي المختار: «وناشئة الليل أول ساعاته وقيل ما ينشأ فيه من الطاعات» . (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ) انقطع إليه وتبتيلا مصدر على غير المصدر وهو واقع موقع التبتل لأن مصدر تفعّل تفعلا، نحو تصرف تصرفا وتكرم تكرما وأما التبتيل فمصدر تبل نحو صرف تصريفا قال في الخلاصة: وغير ذي ثلاثة مقيس ... مصدره كقدس التقديس قال في الكشاف: «فإن قلت كيف قيل تبتيلا مكان تبتلا قلت: لأن معنى تبتل بتل نفسك فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 257 وعبارة أبي البقاء: «قوله تعالى تبتيلا مصدر على غير المصدر واقع موقع تبتل وقيل المعنى بتل نفسك تبتيلا» . (النَّعْمَةِ) بالفتح التنعم وبالكسر الإنعام وبالضم المسرّة. (أَنْكالًا) قيودا ثقالا جمع نكل بكسر النون. (كَثِيباً) رملا مجتمعا. (مَهِيلًا) سائلا بعد اجتماعه وهو من هال يهيل وهو اسم مفعول أصله مهيول استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى الهاء وحذفت الواو ثاني الساكنين لزيادتها وقلبت الضمة كسرة لمجانسة الياء وفي المختار «هال الدقيق في الجراب صبّه من غير كيل وكل شيء أرسله إرسالا من رمل أو تراب أو طعام ونحوه فقد هاله فانهار أي جرى وانصبّ وبابه باع وأهال لغة فيه فهو مهال ومهيل» . الإعراب: (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) يا حرف نداء وأيها منادى مبني على الضم لأنه نكرة مقصودة والهاء للتنبيه والمزمل بدل أو نعت وقم فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والليل ظرف لقم وإن استغرقه الحدث الواقع فيه وإلا أداة استثناء وقليلا مستثنى من الليل وفيه دليل على أن المستثنى قد يكون مبهم المقدار (نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا) جوّز المعربون في نصفه أن يكون بدلا من الليل ومن قليلا فإذا كان بدلا من الليل كان الاستثناء منه وكان المأمور بقيامه نصف الليل إلا قليلا منه والضمير في منه وعليه عائد على النصف فيصير المعنى قم نصف الليل إلا قليلا أو أنقص من نصف الليل قليلا أو زد على نصف الليل فيكون قوله أو أنقص من نصف الليل قليلا تكرارا لقوله إلا قليلا من نصف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 258 الليل وذلك تركيب غير فصيح ينزّه القرآن عنه. قال الزمخشري: «نصفه بدل من الليل وإلا قليلا استثناء من النصف كأنه قال: قم أقل من نصف والضمير في منه وعليه للنصف والمعنى التخيير بين أمرين بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البتّ وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف والزيادة عليه» وقال أبو حيان تعقيبا على إعراب الزمخشري: «فلم ينتبه للتكرار الذي يلزمه في هذا القول لأنه على تقديره قم أقل من نصف الليل كان أو أنقص من نصف الليل تكرارا، وإذا كان نصفه بدلا من قوله إلا قليلا فالضمير في نصفه إما أن يعود على المبدل منه أو على المستثنى منه وهو الليل لا جائز أن يعود على المبدل منه لأنه يصير استثناء مجهول من مجهول إذ التقدير إلا قليلا نصف القليل وهذا لا يصح له معنى البتة وإن عاد الضمير على الليل فلا فائدة من الاستثناء من الليل إذ كان يكون أخصر وأوضح وأبعد عن الالتباس أن يكون التركيب قم الليل نصفه وقد أبطلنا قول من قال: إلا قليلا استثناء من البدل وهو نصفه وإن التقدير قم الليل نصفه إلا قليلا منه أي من النصف وأيضا ففي دعوى أن نصفه بدل من إلا قليلا وأن الضمير في نصفه عائد على الليل إطلاق القليل على النصف ويلزم أيضا أن يصير التقدير إلا نصفه فلا تقمه أو أنقص من النصف الذي لا تقومه أو زد عليه النصف الذي لا تقومه وهذا معنى لا يصحّ وليس المراد من الآية قطعا» وقال الزمخشري أيضا «وإن شئت جعلت نصفه بدلا من قليلا وكان تخييرا بين ثلاث: بين قيام النصف بتمامه وبين قيام الناقص منه وبين قيام الزائد عليه وإنما وصف النصف بالقلّة بالنسبة إلى الكل وإن شئت قلت: لما كان معنى قم الليل إلا قليلا نصفه إذا أبدلت النصف من الليل قم أقل من نصف الليل رجع الضمير في منه وعليه إلى الأقل من النصف فكأنه قيل: قم أقل من نصف الليل وقم أنقص من ذلك الأقل أو أزيد منه قليلا فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 259 وبين الثلث ويجوز إذا أبدلت نصفه من قليلا وفسّرته به أن تجعل قليلا الثاني بمعنى نصف النصف وهو الربع كأنه قيل أو أنقص منه قليلا نصفه وتجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع نصف الربع كأنه قيل أو زد عليه قليلا نصفه ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث فتكون تخييرا بين النصف والثلث والربع» . وتعقبه أبو حيان كعادته فقال: «وما أوسع خيال هذا الرجل فإنه يجوز ما يقرب وما يبعد والقرآن لا يجوز أن يحمل إلا على أحسن الوجوه التي تأتي في كلام العرب» وممّن نصّ على جواز أن يكون نصفه بدلا من الليل أو من قليلا الزمخشري كما ذكرنا عنه وابن عطية أورده مورد الاحتمال وأبو البقاء قال: «أشبه بظاهر الآية أن يكون بدلا من قليلا أو زد عليه والهاء فيهما للنصف فلو كان الاستثناء من النصف صار التقدير قم نصف الليل إلا قليلا أو أنقص منه قليلا والقليل المستثنى غير مقدّر فالنقصان منه لا يتحصل» وأما الخوفي فأجاز أن يكون بدلا من الليل ولم يذكر غيره. وقال ابن عطية: «وقد يحتمل عندي قوله إلا قليلا أنه استثناء من القيام فيجعل الليل اسم جنس» ثم قال: «إلا قليلا، أي الليالي التي تخل بقيامها عند العذر البيّن وهذا النظر يحسن مع القول بالندب» . وقال أبو حيان معقّبا: «وهذا خلاف الظاهر وقيل المعنى أو نصفه كما تقول أعطه درهما درهمين ثلاثة تريد أو درهمين أو ثلاثة وفيه حذف حرف العطف من غير دليل عليه» أو قال التبريزي: «الأمر بالقيام والتخيير في الزيادة والنقصان وقع على الثلثين من آخر الليل لأن الثلث الأول وقت العتمة والاستثناء وارد على المأمور به فكأنه قال قم الليل إلا قليلا ثم جعل نصفه بدلا من قليلا فصار القليل مفسّرا بالنصف من الثلثين وهو قليل من الكل فقوله أو أنقص منه أي من المأمور به وهو قيام الثلث قليلا أي ما دون نصفه أو زد عليه أي على الثلثين فكان التخيير في الزيادة والنقصان واقعا على الثلثين (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) أو عاطفة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 260 للتخيير أي بين قيام نصف الليل وبين الزائد عليه إلى الثلثين وبين الناقص عنه إلى الثلث، وزد فعل أمر وعليه متعلقان بزد ورتل القرآن فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وترتيلا مفعول مطلق (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) الجملة اعتراض بين الأمر بقيام الليل وبين تعليله بقوله الآتي: إن ناشئة الليل إلخ وقيل مستأنفة وعبارة الزمخشري: «وهذه الآية اعتراض ويعني بالقول الثقيل القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين وخاصة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأنه متحملها بنفسه ومحملها أمته فهي أثقل عليه وأبهظ له، وأراد بهذا الاعتراض أن ما كلفه من قيام الليل من جملة التكاليف الثقيلة الصعبة التي ورد بها القرآن لأن الليل وقت السبات والراحة والهدوء فلا بدّ لمن أحياه من مضادة لطبعه ومجاهدة لنفسه» وإن واسمها وجملة سنلقي خبرها وعليك متعلقان بنلقي وقولا مفعول به وثقيلا نعت أي كلاما عظيما جليلا مهيبا ذا خطر وكل شيء له خطر ومقدار فهو ثقيل (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا) الجملة تعليل لما تقدم وإن واسمها وهي ضمير فصل أو مبتدأ وأشدّ خبر إن أو خبر هي والجملة خبر إن ووطئا تمييز وأقوم عطف على أشد وقيلا تمييز أي قولا (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا) إن حرف مشبه بالفعل ولك خبر إن المقدّم وفي النهار حال لأنه كان في الأصل صفة لسبحا وسبحا اسم إن وطويلا اسمها المؤخر، وسيأتي معنى السبح في باب البلاغة (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) عطف على ما تقدم واسم ربك مفعول اذكر أي دم عليه ليلا ونهارا على أيّ حال ووجه وتبتل فعل أمر وإليه متعلقان به وتبتيلا مفعول مطلق (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) رب المشرق يقرأ بالرفع فهو خبر لمبتدأ محذوف ويقرأ بالجر على أنه بدل من ربك والقراءتان سبعيتان ولا إله إلا هو تقدم إعراب الشهادة في البقرة، والفاء الفصيحة أي إن عرفت ذلك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 261 وآمنت به فاتخذه، واتخذه فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به أول ووكيلا مفعول به ثان (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا) عطف على ما تقدم واصبر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره هو وعلى ما متعلقان باصبر وجملة يقولون صلة ما واهجرهم عطف على اصبر وهجرا مفعول مطلق وجميلا نعت (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا) عطف أيضا وذرني فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به والمكذبين مفعول معه أو عطف على المفعول به والمعنى أنا أكفيك أمرهم فلا تأس ولا تحزن، وأولي النعمة نعت للمكذبين، ومهّلهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وقليلا نعت لمصدر محذوف أو ظرف أي قليلا من الزمن (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً) إن حرف مشبّه بالفعل ولدينا ظرف متعلق بمحذوف خبرها المقدم وأنكالا اسمها المؤخر وجحيما عطف على أنكالا (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً) عطف على أنكالا وذا غصة نعت وهو الزقوم أو الضريع يغصّ به في الحلق وعذابا عطف أيضا (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا) الظرف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به لدينا ولك أن تعلقه بمحذوف نعت لعذابا أي عذابا واقعا يوم ترجف وجملة ترجف الأرض في محل جر بإضافة الظرف إليها والواو حرف عطف وكانت الجبال كان واسمها وكثيبا خبرها ومهيلا نعت لكثيبا. البلاغة: 1- في الآيات المتقدمة يبدو الطباق واضحا بين المشرق والمغرب. 2- وفي قوله «إن لك في النهار سبحا طويلا» استعارة تصريحية، فالسبح مصدر سبح وقد استعير من السباحة في الماء للتصرّف في مناحي العيش وحوائج الناس أي إن لك في النهار تصرفا وتقلبا في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 262 المهمات كما يتردد السابح في الماء قال الشاعر: أباحوا لكم شرق البلاد وغربها ... ففيها لكم يا صاح سبح من السبح وقرىء سبخا بالخاء المعجمة ومعناه خفه من التكاليف، والتسبيخ التخفيف وهو استعارة من سبخ الصوف إذا نفشه ونشر أجزاءه ومعناه انتشار الهمّة وتفرّق الخاطر في الشواغل ويقال لقطع القطن سبائخ الواحدة سبيخة ومنه قول الأخطل: فأرسلوهنّ يذرين التراب كما ... يذري سبائخ قطن ندف أوتار الفوائد: اختلفت أقوال المفسرين في هذا الخطاب على ثلاثة أقوال: 1- قال عكرمة يا أيها المزمّل بالنبوّة والمتدثّر بالرسالة وعنه أيضا: يا أيها الذي زمّل هذا الأمر أي حمله ثم فتر. 2- قال ابن عباس: يا أيها المزمّل بالقرآن. 3- قال قتادة: يا أيها المزمّل بثيابه، وكان هذا في ابتداء ما أوحي إليه فإنه صلّى الله عليه وسلم لما جاءه الوحي في غار حراء رجع إلى خديجة زوجه يرجف فؤاده فقال: زمّلوني زمّلوني لقد خشيت على نفسي أن يكون هذا مبادئ شعر أو كهانة وكل ذلك من الشيطان وأن يكون الذي ظهر بالوحي ليس الملك فقالت له خديجة وكانت وزيرة صدق كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك تصل الرحم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق. وقيل أنه صلّى الله عليه وسلم كان نائما في الليل متزمّلا في قطيفة فنودي بما يهجن تلك الحالة التي كان عليها من التزمّل في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 263 قطيفته، وقد تشبث الزمخشري بهذا الرأي وقال عبارة بليغة في حدّ ذاتها ولكنه أساء إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم وننقل فيما يلي عبارته وتعقيب ابن المنير عليها لطرافتهما ولكونهما من الأدب الرفيع: قال الزمخشري: «وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم نائما بالليل متزمّلا في قطيفته فنودي بما يهجن إليه الحالة التي كان عليها من التزمّل في قطيفته واستعداده للاستثقال في النوم كما يفعل من لا يهمّه أمر ولا يعنيه شأن، ألا ترى إلى قول ذي الرمّة: وكائن تخطّت ناقتي من مفازة ... ومن نائم عن ليلها متزمّل يريد الكسلان المتقاعس الذي لا ينهض في معاظم الأمور وكفايات الخطوب ولا يحمل نفسه المشاق والمتاعب ونحوه: فأتت به حوش الفؤاد مبطنا ... سهدا إذا ما نام ليل الهوجل وفي أمثالهم: أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا يا سعد تورد الإبل فذمّه بالاشتمال بكسائه وجعل ذلك خلاف الجدّ والكيس وأمر بأن يختار على الهجود التهجد، وعلى التزمّل التشمّر والتخفّف للعبادة والمجاهدة في الله لا جرم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد تشمّر لذلك مع أصحابه حق التشمّر وأقبلوا على إحياء لياليهم ورفضوا له الرقاد والدعة وتجاهدوا فيه حتى انتفخت أقدامهم واصفرّت ألوانهم وظهرت السيما في وجوههم وترامى أمرهم إلى حد رحمهم له ربهم فخفف عنهم» ولعمري لقد أنصف الزمخشري النبي وأصحابه ووصف عبادتهم وإنضاء نفوسهم وصفا يليق بهم بيد أن العبارات الأولى موهمة قليلا لذلك أخذها عليه ابن المنير بقوله: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 264 «أما قوله الأول أن نداءه تهجين للحالة التي ذكر أنه كان عليها واستشهاده بالأبيات المذكورة فخطأ وسوء أدب ومن اعتبر عادة خطاب الله تعالى له في الإكرام والإجلال علم بطلان ما تخيله الزمخشري فقد قال العلماء أنه لم يخاطب باسمه نداء وإن ذلك من خصائصه دون سائر الرسل إكراما له وتشريفا فأين نداؤه بصيغة مهجنة من ندائه باسمه واستشهاده على ذلك بأبيات قيلت ذمّا في جفاة حفاة من الرعاة فأنا أبرأ إلى الله من ذلك وأربأ به صلّى الله عليه وسلم» ولقد ذكرت بقوله «أوردها سعد وسعد مشتمل» ما وقفت عليه من كلام ابن خروف النحوي يردّ على الزمخشري ويخطىء رأيه في تصنيفه المفصل وإجحافه في الاختصار بمعاني كلام سيبويه حتى سمّاه ابن خروف البرنامج وأنشد عليه: أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا يا سعد تورد الإبل أقول: ولا مندوحة عن القول أن ابن المنير قد تجنى على الزمخشري كثيرا وتجاهل ما أورده من الوصف الممتع الدقيق لتشميره صلّى الله عليه وسلم وعبادته ولكن إيراد الأبيات التي قيلت في الذم بهذا الصدد خطأ وقع فيه الزمخشري وربّ خطأ نشأ عن صواب ولا بأس بعد هذا من إيراد عبارة السهيلي بهذا الصدد فقد بلغ بها الغاية في التعليل والتأويل والتلطف في التحليل قال: «ليس المزمّل باسم من أسمائه عليه الصلاة والسلام يعرف به وإنما هو مشتق من حالته التي كان التبس بها حالة الخطاب والعرب إذا قصدت الملاطفة بالمخاطب تترك المعاتبة نادوه باسم مشتق من حالته التي هو عليها كقول النبي صلّى الله عليه وسلم لعلي كرّم الله وجهه: وقد نام ولصق بجنبه التراب: قم أبا تراب إشعارا بأنه ملاطف له فقوله يا أيها المزمّل فيه تأنيس وملاطفة» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 265 [سورة المزمل (73) : الآيات 15 الى 20] إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) اللغة: (وَبِيلًا) ثقيلا شديدا من قولهم كلأ وبيل وضم لا يستمرأ لثقله والوبيل العصا الضخمة ومنه الوابل للمطر العظيم وفي المصباح: «وبلت السماء وبلا من باب وعد ووبولا اشتد مطرها وكان الأصل وبل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 266 مطر السماء فحذف للعلم به ولهذا يقال للمطر وابل والوبيل الوضيم وو معنى» . الإعراب: (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا) كلام مستأنف مسوق لخطاب أهل مكة على طريق الالتفات مر الغيبة في قوله واصبر على ما يقولون وقوله والمكذبين، وإن واسمها وجملة أرسلنا خبرها وإليكم متعلقان بأرسلنا ورسولا مفعول به وشاهد نعت لرسولا وعليكم متعلقان بشاهدا وكما نعت لمصدر محذوف أي إرسالا كإرسالنا إلى فرعون رسولا وما مصدرية وجملة أرسلنا لا محل لها وإلى فرعون متعلقان بأرسلنا ورسولا مفعول به وإنما خصّ موسى وفرعون بالذكر لأن أخبارهما كانت منتشرة بمكة (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا) الفاء عاطفة وعصى فرعون الرسول فعل ماض وفاعل ومفعول به وإنما عرف الرسول لأن النكرة إذا أعيدت أعيدت معرفة بأل العهدية والعرب إذا قدّمت اسما ثم حكت عنه ثانيا أتوا به معرّفا بأل وأتوا بضميره لئلا يلتبس بغيره نحو رأيت رجلا فأكرمت الرجل ولو قلت فأكرمت رجلا لتوهم أنه غير الأول وسيأتي تحقيق هذا عند قوله: إن مع العسر يسرا وقوله صلّى الله عليه وسلم لن يغلب عسر يسرين، وعبارة أبي البقاء: «إنما أعاده بالألف واللام ليعلم أنه الأول فكأنه قال فعصاه فرعون» فأخذناه عطف على فعصى وهو فعل ماض وفاعل ومفعول به وأخذا مفعول مطلق ووبيلا نعت (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) الفاء عاطفة وكيف اسم استفهام في محل نصب على الحال وتتقون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وإن شرطية وكفرتم فعل ماض وفاعل في محل جزم فعل الشرط والجواب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 267 محذوف دلّ عليه ما قبله أي فكيف تتقون ويوما مفعول تتقون أي فكيف تقون أنفسكم يوم القيامة وهوله إن بقيتم على الكفر ولم تؤمنوا وتعملوا صالحا ويجوز أن يكون ظرفا أي فكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم قاله الزمخشري وردّ عليه السمين بأنه لا يجوز أن ينتصب ظرفا لأنهم لا يكفرون في ذلك اليوم بل يؤمنون فيه لا محالة ويجوز أن ينتصب بنزع الخافض أي إن كفرتم بيوم القيامة. وجملة يجعل صفة ليوما والولدان مفعول به أول وشيبا مفعول به ثان، وسيأتي مزيد من معنى هذا الوصف في باب البلاغة (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا) الجملة صفة ثانية ليوما والسماء مبتدأ ومنفطر به خبر وقد يسأل سائل لم لم تؤنّث الصفة فيقال منفطرة ويجاب بأجوبة منها أن هذه الصيغة صيغة نسب أي ذات انفطار نحو امرأة مرضع وحائض أي ذات إرضاع وذات حيض ومنها أنها لم تؤنّث لأن السماء بمعنى السقف قال تعالى: وجعلنا السماء سقفا محفوظا، قال الزمخشري: «وصف لليوم بالشدّة أيضا وإن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه فما ظنك بغيرها من الخلائق والمعنى ذات انفطار أو على تأويل السماء بالسقف والباء في به مثلها في قولك: فطرت العود بالقدوم فانفطر به» فتكون على رأي الزمخشري للاستعانة وقيل سببية، وقال القرطبي إنها بمعنى في والجميع سواء. وكان فعل ماض ناقص ووعده اسمها ومفعولا خبرها والوعد مصدر مضاف لفاعله فيكون الضمير في به عائدا على الله تعالى ويجوز أن يعود على اليوم فيكون الوعد مصدرا مضافا إلى مفعوله أي وعد يوم القيامة والفاعل محذوف (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا) إن واسمها والإشارة إلى الآيات الناطقة بالوعد والوعيد وتذكرة خبرها والفاء عاطفة ومن شرطية مبتدأ وشاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ومفعول شاء محذوف تقديره فمن شاء النجاة، واتخذ فعل ماض في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من وإلى ربه حال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 268 لأنه كان في الأصل صفة لسبيلا وسبيلا مفعول اتخذ (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) جملة مستأنفة مسوقة لإيضاح ما أجمل في أول السورة وإن واسمها وجملة يعلم خبرها وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي يعلم والكاف اسم أن وجملة تقوم خبر أنك وأدنى ظرف زمان أي وقتا أدنى ومن ثلثي الليل متعلقان بأدنى وإنما استعير الأدنى وهو الأقرب للأقل لأن المسافة إذا دنت بين الشيئين قلّ ما بينهما من الأحياز وإذا بعدت كثر ذلك (وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) أوضح الزمخشري هذا الإعراب بقوله: «وقرىء ونصفه وثلثه بالنصب على أنك تقوم أقل من الثلثين وتقوم النصف والثلث وهو مطابق لما مرّ في أول السورة من التخيير بين قيام النصف بتمامه وبين قيام الناقص منه وهو الثلث وبين قيام الزائد عليه وهو الأدنى من الثلثين وقرىء ونصفه وثلثه بالجر أي تقوم أقل من الثلثين وأقل من النصف والثلث وهو مطابق للتخيير بين النصف وهو أدنى من الثلثين والثلث وهو أدنى من النصف والربع وهو أدنى من الثلث وهو الوجه الأخير» (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) الواو حرف عطف وطائفة عطف على ضمير تقوم وجاز من غير تأكيد للفصل وقيام طائفة من أصحابه كذلك للتأسّي به ومنهم من كان لا يدري كم صلّى من الليل وكم بقي منه فكان يقوم الليل كله احتياطا فقاموا حتى انتفخت أقدامهم سنة أو أكثر فخفّف الله عنهم، ومن الذين صفة لطائفة ومعك ظرف متعلق بمحذوف هو الصلة (وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة يقدّر الليل والنهار خبر (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) علم فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن المحذوف وجملة لن تحصوه خبرها وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي علم والضمير في تحصوه قال الزمخشري «المصدر يقدّر أي علم أنه لا يصحّ منك ضبط الأوقات ولا يتأتى حسابها بالتعديل والتسوية إلا أن تأخذوا بالأوسع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 269 للاحتياط وذلك شاق عليكم بالغ منكم» وهذا أحسن من قول الجلال وغيره يعود إلى الليل لأنه المحدّث عنه أول السورة وإن كان المعنى واحدا. فتاب عطف على علم وعليكم متعلقان بتاب والفاء عاطفة واقرءوا فعل أمر وفاعل وما مفعول به وجملة تيسر صلة ومن القرآن متعلقان به (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ) الجملة مستأنفة وأن مخففة من الثقيلة أي أنه وجملة سيكون خبرها ومنكم خبر يكون المقدّم ومرضى اسمها المؤخر وآخرون مبتدأ ومنكم حال وجملة يضربون في الأرض خبر أي يسافرون (يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) جملة يبتغون حالية من الضمير في يضربون ومن فضل الله متعلقان بيبتغون وآخرون مبتدأ وجملة يقاتلون في سبيل الله خبر وهذه الفرق الثلاث يشقّ عليهم ما ذكر من قيام الليل (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) الفاء عاطفة واقرءوا فعل أمر وفاعل وما مفعول به وجملة تيسر صلة ومنه متعلقان بتيسر، وأقيموا الصلاة فعل أمر وفاعل ومفعول به وآتوا الزكاة عطف على أقيموا الصلاة (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) وأقرضوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول وقرضا مفعول مطلق وحسنا نعت والواو عاطفة وما شرطية في محل نصب مفعول مقدم لتقدموا وتقدموا فعل الشرط ولأنفسكم متعلقان بتقدموا ومن خير حال وتجدوه جواب الشرط وعند الله ظرف لتجدوه وهو ضمير فصل أو تأكيد للضمير، ووهم أبو البقاء فيجاز أن يكون بدلا من الهاء ولو كان بدلا لطابق في النصب فكان يكون إياه. وخيرا مفعول به ثان لتجدوه وأعظم عطف على خيرا وأجرا تمييز وجاز أن يكون هو فصلا وإن لم يقع بين معرفتين لأنه وقع بين معرفة ونكرة ولكن النكرة يشبه المعرفة لامتناعه من التعريف بأداة التعريف ووجه امتناعه من التعريف بها أنه اسم تفضيل ولا يجوز دخول أل عليه إذا كان معه «من» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 270 لفظا أو تقديرا وهنا «من» مقدرة أي خيرا مما خلفتم (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) عطف على ما تقدم وإن واسمها وخبراها جملة اسمية تعليلية للاستغفار أي استغفروه في جميع أحوالكم فإن الإنسان مستهدف للتفريط. البلاغة: في قوله «يوما يجعل الولدان شيبا» مجاز إسنادي كناية عن شدة الهول، يقال في اليوم الشديد: يوم يشيب نواصي الأطفال وأصله أن الهموم والأحزان إذا تفاقمت في الإنسان واستحوذت عليه أسرع فيه الشيب، وقد تعلق أبو الطيب بأهداب هذا المجاز فقال: والهمّ يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبي ويهرم الفوائد: قرأ أبو الشمائل وابن السميقع: هو خير، برفعهما على الابتداء والخبر، قال أبو زيد هو لغة بني تميم يرفعون ما بعد الفاصلة يقولون: كان زيد هو العاقل بالرفع فهذا البيت لقيس بن ذريح وهو: تحنّ إلى ليلى وأنت تركتها ... وكنت عليها بالملا أنت أقدر قال أبو عمرو الجرمي: أنشد سيبويه هذا البيت شاهدا للرفع والقوافي مرفوعة قلت وبهذا يتخرج بيت أبي نواس الذي لحنه بعضهم، وهو: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 271 (74) سورة المدّثر مكيّة وآياتها ستّ وخمسون [سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 31] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 272 اللغة: (الْمُدَّثِّرُ) لابس الدثار وهو ما فوق الشعار أي الثوب الذي يلي الجسد وأصله المتدثر أدغمت التاء في الدال كما تقدم في المزمل أي المتلفف بثيابه عند نزول الوحي عليه، روي عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: كنت على جبل حراء فنوديت يا محمد إنك رسول الله فنظرت عن يميني ويساري فلم أر شيئا، فنظرت فوقي فإذا به قاعد على عرش بين السماء والأرض، يعني الملك الذي ناداه، فرعبت ورجعت إلى خديجة فقلت: دثروني دثروني فنزل جبريل وقال يا أيها المدثر. (الرُّجْزَ) بكسر الراء وهي قراءة الجمهور وقرأ حفص ومجاهد والسلمي وغيرهم بضمها فقيل هما بمعنى واحد يراد بهما الأصنام والأوثان، وقيل: الكسر لتبيين النقائض والفجور والضم لضمين أساف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 273 ونائلة وقال الحسن كل معصية والمعنى في الأمر اثبت ودم على هجره لأنه صلّى الله عليه وسلم كان بريئا منه، وقال النخعي الإثم، وقال القتبي: العذاب أي اهجر ما يؤدي إليه، وأخذ به الزمخشري قال: «والرجز بالكسر والضم وهو العذاب ومعناه اهجر ما يؤدي إليه من عبادة الأوثان وغيرها من المآثم. والمعنى الثبات على هجره لأنه كان بريئا منه» . وفي القاموس «الرجز بالكسر والضم القذر وعبادة الأوثان والشرك» والزاي منقلبة عن السين والعرب تعاقب بينهما والمعنى واحد. (النَّاقُورِ) النقر الصوت قال الشاعر: أخفضه بالنقر لما علوته ... ويرفع طرفا غير خاف غضيض والناقور فاعول منه كالجاسوس مأخوذ من التجسس والمراد هنا الصور وهو القرن. (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) التمهيد في الأصل التسوية والتهيئة ويتجوز به عن بسط المال والجاه، قال في الكشاف: «وبسطت له الجاه العريض والرياسة في قومه فأتممت عليه نعمتي المال والجاه» . (عَبَسَ) يعبس عبسا وعبوسا قطب وجهه وبابه جلس والعبس ما يبس في أذناب الإبل من البعر والبول. (بَسَرَ) بسر يبسر بسرا وبسورا إذا قبض ما بين عينيه كراهية للشيء واسود وجهه منه وبابه دخل ويقال وجه باسر أي منقبض أسود وقال الراغب: «البسر استعجال الشيء قبل أوانه نحو بسر الرجل حاجته: طلبها في غير أوانها، وماء بسر: متناول من غدير قبل سكونه، ومنه قيل للذي لم يدرك من الثمر بسر وقوله تعالى: (عَبَسَ وَبَسَرَ) أي أظهر العبوس قبل أوانه وقبل وقته فإن قيل: فقوله تعالى: «ووجوه يومئذ باسرة» ليس يفعلون ذلك قبل الوقت وقد قلت إن ذلك فيما يقع قبل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 274 وقته قيل أشير بذلك إلى حالهم قبل الانتهاء إلى النار فحص لفظ البسر تنبيها على أن ذلك مع ما ينالهم منه يجري مجرى التكليف ومجرى ما يفعل قبل وقته ويدل على ذلك قوله تظن أن يفعل بها فاقرة» . (سَقَرَ) اسم من أسماء جهنم وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث. (لَوَّاحَةٌ) محرقة لظاهر الجلد وهي بناء مبالغة وفيها معنيان أحدهما من لاح يلوح أي ظهر أي أنها تظهر للبشر وثانيهما وهو الأرجح أنها من لوّحه أي غيّره وسوّده، وعبارة الزمخشري: «لواحة من لوح الهجير قال: تقول ما لاحك يا مسافر ... يا ابنة عمي لاحني الهواجر قيل تلفح الجلد لفحة فتدعه أشد سوادا من الليل والبشر عالي الجلود. الإعراب: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) تقدم إعراب يا أيها المدثر في يا أيها المزمل، وقم فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت فأنذر عطف على قم. وقال الزجاج: «إن الفاء في فكبر دخلت على معنى الجزاء كما دخلت في فأنذر قال ابن جني: هو كقولك زيدا فاضرب أي زيدا اضرب فالفاء زائدة» . والواو عاطفة وربك مفعول به مقدم والفاء رابطة لشرط مقدر يقتضيه السياق كأنه قيل وأيا ما كان فلا تدع تكبيره ونحوه قولك زيدا فاضربه، قال النحاة تقديره تنبه فاضرب زيدا فالفاء جواب الأمر إما على أنه مضمن معنى الشرط وإما على أن الشرط بعده محذوف على الخلاف الذي فيه عندهم، وكبر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت. (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) الواو عاطفة وثيابك مفعول مقدم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 275 والفاء تقدم القول فيها قريبا، وطهر فعل أمر. (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) عطف أيضا على ما تقدم. (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) الواو عاطفة ولا ناهية وتمنن فعل مضارع مجزوم بلا وتستكثر فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة نصب على الحال أي ولا تعط مستكثرا، وقرىء مجزوما على أنه جواب النهي أو على البدلية من تمنن والتقدير على جعله جوابا للنهي أي أنك إن لا تمنن بعملك أو بعطيتك تزدد من الثواب لسلامة ذلك من الإبطال بالمن على حد قوله تعالى: «لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى» ووجه الإبدال أنه كقوله تعالى: «ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب» ، وفي قراءة من جزم بدلا من قوله يلق وكقول الشاعر: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) الواو عاطفة ولربك متعلقان باصبر. (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) الفاء للتسبيب والعلة كأنه قال اصبر على أذاهم فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه مغبة أذاهم وتلقى فيه عاقبة صبرك، وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وهو متعلق بما يدل عليه الإشارة في قوله فذلك لأنه إشارة إلى النقر ويجوز أن يتعلق بما دل عليه عسير ولا يعمل فيه عسير نفسه لأن الصفة لا تعمل فيما قبلها والتقدير اشتد الأمر وعسر، ونقر فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو أي إسرافيل. والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها وفي الناقور متعلقان بنقر. (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) الفاء رابطة لجواب إذا وذلك مبتدأ والإشارة إلى وقت النقر ويومئذ بدل من ذلك وبني لإضافته إلى غير متمكن وهو إذ والتنوين عوض عن جملة أي يوم إذ نفخ في الصور، ويوم خبر المبتدأ وعسير نعت. (عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) على الكافرين متعلقان بعسير وغير يسير نعت ثان ليوم، وللزمخشري تعليل طريف قال: «فإن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 276 قلت فما فائدة قوله غير يسير وعسير مغن عنه، قلت لما قال على الكافرين فقصر العسر عليهم قال غير يسير ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيرا هنيا ليجمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم وبشارة المؤمنين وتسليتهم ويجوز أن يراد أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيرا كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا» . (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) ذرني فعل أمر والنون للوقاية والفاعل مستتر تقديره أنت والياء مفعول ومن الواو للمعية ومن مفعول معه ويجوز أن تكون الواو عاطفة ومن معطوفة على المفعول في ذرني وجملة خلقت صلة الموصول والعائد محذوف أي خلقته، ووحيدا حال من العائد المحذوف أو حال من ضمير النصب في ذرني أو من التاء في خلقت أي خلقته وحيدا لم يشركني في خلقه أحد فأنا أهلكه ولا أحتاج إلى نصير، قيل الأول أولى لأن المراد به الوليد بن المغيرة المخزومي والد خالد بن الوليد لأنه كان يزعم أنه وحيد قومه في رياسته ويساره وتقدمه في الدنيا وليس في ذلك ما يقتضي صدق مقالته لأن هذا لقب شهر به وقد يلقب الإنسان بما لا يتصف به وقيل هو عام. (وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً) عطف على ما تقدم وله متعلقان بمحذوف هو المفعول الثاني ومالا هو المفعول الأول وممدودا نعت وقيل هو ما كان للوليد بمكة والطائف من الزروع والضروع والتجارة. (وَبَنِينَ شُهُوداً) عطف على مال قيل كان للوليد عشرة أولاد ذكور أو سبعة وهم الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وعبد شمس، أسلم منهم ثلاثة خالد وهشام وعمارة ونقل عن ابن حجر في الإصابة: أن عمارة مات كافرا وذكر بدله الوليد بن الوليد فهم خالد وهشام والوليد. وشهودا نعت لنبين جمع شاهد بمعنى حاضر فهم يشهدون مع أبيهم الأندية والمجتمعات. (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) عطف على ما تقدم وله متعلقان بمهدت وتمهيدا مفعول مطلق. (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وفيه استبعاد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 277 واستنكار بطمعه وحرصه وتهالكه على زيادة المال والنعمة ويطمع فعل مضارع مرفوع معطوف على جعلت ومهدت وفاعله مستتر تقديره هو وأن وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض متعلق بيطمع أي يطمع في الزيادة على ما ذكر من المال والبنين والتمهيد. (كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) كلا ردع وزجر له لقطع رجائه وطمعه وتهالكه، وإن وما بعدها جملة تعليلية للردع لأن معاندة آيات المنعم مع وضوحها وكفرانها مع شيوعها من موبقات النفس وموجبات الحرمان وإن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو ولآياتنا متعلقان بعنيدا وعنيدا خبرها والعين الجاحد والمعرض والمجانب للحق والهدى ويجمع على عند. (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) السين حرف استقبال وأرهقه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول وصعودا مفعول به ثان لأن أرهقه متضمن معنى أكلفه، والصعود في اللغة العقبة الشاقة وإذا لم يتضمن أرهقه معنى أكلفه كانت صعودا في موضع نصب بنزع الخافض أي سأعنته بمشقة وعسر. (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) تعليل لاستحقاقه هذا الوعيد الآنف الذكر وإن واسمها وجملة فكر خبر وقدر عطف على فكر. روي أن الوليد حاجّ أبا جهل وجماعته من قريش في أمر القرآن وقال: إن له لحلاوة وإن أسفله لمفرقه وإن فرعه لجناه وإنه ليحطم ما تحته وإنه ليعلو وما يعلى ونحو هذا الكلام فخالفوه وقالوا: هو شعر فقال: والله ما هو بشعر وقد عرفنا الشعر هزجه وبسيطه قالوا فهو كاهن قال: والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان قالوا: هو مجنون قال: والله ما هو بمجنون لقد رأينا المجنون وخنقه قالوا: هو سحر قال: أما هذا فيشبه أنه سحر ويقول أقوال نفسه وروي غير ذلك بما لا يخرج عن هذه المعاني مما يرجع إليه في المطولات. (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) الفاء عاطفة وقتل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو ومعناه لعن وقيل غلب وقهر، قال امرؤ القيس: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 278 وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل أي مذلل مقهور بالحب. فإذا كان معناه لعن فالجملة دعائية وإذا كان معناه غلب وقهر فالجملة معطوفة على ما تقدم وكيف اسم استفهام منصوبة على الحال من الضمير في قدر والمقصود من الاستفهام التعجب من تقديره وتوبيخه والاستهزاء به. (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) ثم حرف عطف للترتيب والتراخي وأتي بها للدلالة على أن هذه الجملة أبلغ من الجملة الأولى فهي للتفاوت في الرتبة وهي مؤكدة لنظيرتها المتقدمة فالتكرار للتأكيد. (ثُمَّ نَظَرَ) ثم حرف عطف أيضا للترتيب مع التراخي أي نظر في وجوه الناس مغضبا مما قالوه فيه وهو أنه صبأ ومال إلى محمد. (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) عطف أيضا أي ثم قطب وجهه ثم تشاوس وتخازر مستكبرا. (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) عطف أيضا أي أدبر عن الإيمان وتكبر عن اتباع النبي فهو عطف مساو في المعنى. فقال: (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) الفاء عاطفة وإن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وسحر خبر وجملة يؤثر صفة لسحر أي منقول عن السحرة. (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) هذه الجملة تأكيد للجملة السابقة أي ملتقط من أقوال الناس. (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) السين حرف استقبال وأصليه فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا ومفعول به أول وسقر مفعول به ثان والجملة كلها بدل من قوله سأرهقه صعودا. (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) الواو عاطفة وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وأدراك فعل ماض وفاعل مستتر تقديره هو ومفعول به أول والجملة خبر ما أي أيّ شيء أعلمك، وما اسم استفهام مبتدأ وسقر خبره والجملة سادة مسد المفعول الثاني لأدراك المعلقة عن العمل بالاستفهام وقد مرّ نظيره في الحاقة. (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) الجملة حالية والعامل فيها معنى التهويل والتعظيم لأمرها لأن الاستفهام بقوله ما سقر للتعظيم فالمعنى استعظموا سقر في هذه الحال ولا نافية وتبقي فعل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 279 مضارع وفاعله مستتر تقديره وهي وتذر عطف على تبقي ومفعول تبقي وتذر محذوف أي لا تبقي ما ألقي فيها ولا تذره بل تهلكه ولك أن تجعلها جملة مستأنفة. (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) لواحة خبر لمبتدأ محذوف وللبشر متعلقان بلواحة والجملة حال ثانية وقرئت لواحة بالنصب على الحال فقيل هي حال من سقر وقيل هي حال من الضمير في لا تبقي وقيل من الضمير في لا تذر واختار الزمخشري نصبها على الاختصاص للتهويل. (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) الجملة حال ثالثة أو مستأنفة كما تقدم في لواحة للبشر وعليها خبر مقدم وتسعة عشر جزءان عدديان مبنيان على الفتح في محل رفع مبتدأ مؤخر، وسيأتي المزيد من معنى هذا العدد في باب البلاغة. (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) الواو استئنافية والكلام استئناف مسوق للرد على أبي الأشد به كلدة بن خلف الجمحي قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية: «عليها تسعة عشر» قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم محمد يخبر أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الشجعان أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم؟ فقال أبو الأشد: أنا أكفيكم منهم سبعة عشر: عشرة على ظهري وسبعة على بطني وأكفوني أنتم اثنين فنزلت. وما نافية وجعلنا فعل ماض وفاعل وأصحاب النار مفعول به أول وإلا أداة حصر وملائكة مفعول به ثان أي ما جعلناهم رجالا من جنسكم تغالبونهم وإنما جعلناهم ملائكة لا يطاقون. (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) الواو عاطفة وما نافية وجعلنا فعل ماض وفاعل وعدتهم مفعول به وإلا أداة حصر وفتنة مفعول به ثان على حذف مضاف أي سبب فتنته وليست مفعولا من أجله كما يتوهم، وللذين متعلقان بفتنة وجملة كفروا صلة الموصول. (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) اللام لام التعليل ويستيقن فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام التعليل وهو متعلق بجعلنا الثانية لا بفتنة لأن الفتنة ليست معلولة للاستيقان بل المعلول جعل العدة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 280 سببا لفتنة الذين أوتوا الكتاب، وقيل ليستيقن متعلق بفعل مضمر أي فعلنا ذلك ليستيقن، والذين فاعل وجملة أوتوا الكتاب صلة والكتاب مفعول أوتوا الثاني لأن الواو نائب فاعل أوتوا ويزداد عطف على ليستيقن والذين فاعل وجملة آمنوا صلة وإيمانا مفعول به ثان. (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) الواو عاطفة ولا نافية ويرتاب الذين فعل مضارع وفاعل وجملة أوتوا الكتاب صلة والمؤمنون عطف على الذين. (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا) عطف على ما تقدم واللام لام التعليل والذين فاعل وفي قلوبهم خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر والجملة صلة الذين وماذا اسم استفهام في محل نصب مفعول مقدم لأراد وبهذا متعلقان بأراد ومثلا حال من هذا أي حال كونه مشابها للمثل، ولك أن تجعل ما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبره وأراد الله صلة للموصول وجملة ماذا أراد إلخ مقول القول. (كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) كذلك نعت لمصدر محذوف يضل إضلالا مثل ذلك والله فاعل يضل ومن مفعوله وجملة يشاء صلة والعائد محذوف ويهدي من يشاء عطف على الجملة السابقة. (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) الجملة مستأنفة. (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) الواو عاطفة وما نافية وهي ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ والضمير يعود إلى سقر وإلا أداة حصر وذكرى خبر وللبشر متعلقان بذكرى. البلاغة: 1- في قوله تعالى: (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) فن الإبهام وقد تقدم الإلماع إليه في هذا الكتاب ونعيده هنا بمزيد من التفصيل لأهمية هذه الآية ولكثرة ما خاض علماء البلاغة والمفسرون فيها، فنقول: الإبهام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 281 فن من فنون البلاغة، وهو أن يقول المتكلم كلاما يحتمل معنيين متغايرين لا يتميز أحدهما عن الآخر والفرق بينه وبين الاشتراك المعيب أن الاشتراك لا يصح إلا في لفظة مفردة لها مفهومان لا يعلم أيهما أراد المتكلم، والإبهام لا يكون إلا في الجمل المؤتلفة المفيدة ويختص بالفنون كالمدح والهجاء والعتاب والاعتذار والفخر والرثاء والنسيب وغير ذلك، ومنه نوع آخر يقع لأحد أمرين: إما لامتحان جودة الخاطر وإما لامتحان قوة الإيمان وضعفه، وهذه الآية التي نحن بصددها من هذا النوع أي امتحان قوة الإيمان وضعفه فإنه معنى (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) مبهم أشدّ الإبهام، فإن لقائل أن يقول: ما النكتة في ذكر هذا العدد؟ ولا يقال إن هذا السؤال ساقط فإنه يرد على أي عدد فرض بحيث لو قيل عليها خمسة عشر أو أحد عشر أو عشرون أو غير ذلك ورد السؤال عليه وما كان بهذه المثابة فهو ساقط لأنّا نقول: هذا فيما يرد من المخلوق الذي يدخل خبره الخلف وليس بمعصوم من الكذب أما البارئ سبحانه الذي لا يدخل خبره الخلف وإذا أخبر بشيء كان خبره على ما أخبر به فإنه إذا أخبر بعدد لا يجوز أن يقال فيه لو قال غيره ورد عليه السؤال لأنه الحق الواقع الذي لا مرية فيه وإذا كان ذلك كذلك يمكن لقائل أن يقول: ما الحكمة في جعل ملائكة العذاب على هذه العدة؟ فيكون السؤال واردا مستحقا للجواب ليزول هذا الإبهام الذي على ظاهر الكلام، هذا ونورد خلاصة لما قاله كبار الأعلام في تفسير هذا الإبهام ثم نورد بعد ذلك رأيا آثرناه على غيره ليكون في ذلك إيراد للذهن وحفز للقرائح، على أننا لم نورد ما رأيناه غير جدير بالعناية. أما الإمام فخر الدين بن الخطيب فقد رأى رأيا فيه كثير من السداد والحصافة قال: «لما كان المكلف عبارة عن حواس ظاهرة وحواس باطنة وهي عشر وطبائع وقوى خمس وهي الهاضمة والغازية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 282 والماسكة والدافقة. وكانت هذه الأشياء هي التي تدعو إلى الاشتغال بالملاذ الدنيوية والشهوات البهيمية ودفع المضارّ البدنية عن الاشتغال بما يدني من الجنان ويباعد من النيران وكانت عدة هذه الأشياء تسعة عشر جعلت الملائكة الموكلة بتعذيب الإنسان وفق هذه العدة ليكون بإزاء كل شيء من هذه الأشياء ملك موكل باستيفاء ما يجب على ذلك الشيء الذي هو أحد الأسباب المانعة من الخير» . هذا ما ذكره الرازي وهو على وجاهته ونفاسته لا يخلو من التكلف. أما الكرخي فقد اختصر ما ذكره الرازي وزاد عليه من جهة ثانية فقال: «وخص هذا العدد بالذكر لأنه موافق لعدد أسباب فساد النفس الإنسانية وهي القوى الإنسانية والطبيعية إذ القوى الإنسانية اثنتا عشرة الخمسة الظاهرة والخمسة الباطنة والشهوة والغضب، والقوى الطبيعية سبعة الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والعادية والنامية والمولدة والمجموع تسعة عشر» . أما الأقدمون وعلى رأسهم الزمخشري فقد استنبطوا استنباطا بيانيا جميلا، قال الزمخشري: «إن حال هذه العدة الناقصة واحدا من عقد العشرين أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته ويعترض ويستهزىء ولا يذعن إذعان المؤمن وإن خفي عليه وجه الحكمة كأنه قيل ولقد جعلنا عدتهم عدة من شأنها أن يفتتن بها لأجل استيقان المؤمن وحيرة الكافر واستيقان أهل الكتاب لأن عدتهم تسعة عشر في الكتابين فإذا سمعوا بمثلها في القرآن أيقنوا أنه منزل من الله وازدياد المؤمنين إيمانا لتصديقهم بذلك كما صدقوا سائر ما أنزل ولما رأوا من يسلم أهل الكتاب» وهذا على وجاهته لا يخلو من اعتراض. أما القرطبي فلم يخرج عن الحدود السمعية ولم يلجأ إلى الاجتهاد فقال بعد كلام طويل: «قلت والصحيح إن شاء الله أن هؤلاء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 283 التسعة عشر هم الرؤساء والنقباء وأما جملتهم فالعبارة تعجز عنها كما قال تعالى: (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) . أما أبو حيان فقد أطال ودندن ووثب حينا وأسف حينا ومما نختاره من عبارته: «عليها تسعة عشر التمييز محذوف والمتبادر إلى الذهن أنه ملك ألا ترى العرب وهم الفصحاء كيف فهموا منه أن المراد ملك حين سمعوا ذلك» ، ونقل الرواية التي أوردناها ثم قال: «وقيل التمييز المحذوف صنفا من الملائكة وقيل نقيبا ومعنى عليها يتولون أمرها وإليهم جماع زبانيتها فالذي يظهر من العدد ومن الآية بعد ذلك ومن الحديث أن هؤلاء هم النقباء» ويكاد هذا يكون نفس ما قاله القرطبي. أما رأي الرازي والكرخي فلا يخلو من دخل عليه لما فيه من التعسف والتكلف كما ترى ووجه الدخل عليه أنه يلزم أن يكون لكل إنسان مثل هذه العدة من الملائكة ولم تكن هي جملة عدة الملائكة لجهنم ولجميع من حوت من المعذبين. أما الجواب الفني الذي يحل الإبهام حلا أدنى إلى المنطق وأقرب إلى الإقناع وأشبه ببلاغة القرآن الكريم فهو أن يقال: إنه لا مرية في أن أهل النار يزيدون على أهل الجنة بأضعاف مضاعفة ولأن المؤمنين من كل أمة عشر معشار كفارها، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن الجنة أن عرضها السموات والأرض فما ظنك بطولها والطول من كل شيء في معترف العادة أكثر من العرض فأهلها على هذا لا يحصيهم العد ولا يحصرهم الحد، وقد تبين أن أهل النار أضعافهم فهم إلى تجاوز الحدّ في العد أقرب وأقلّ ما يظنّ بالملائكة الموكلين بعذابهم أن تكون عدتهم وفق عدتهم ليكون بإزاء كل معذّب معذّب وهذا عدد لا نهاية له ولا لكميته، فلما أراد الحق الإخبار بعدة هذه الملائكة عدل عن ذكر عددهم الذي هو معلوم عنده، وإن تجاوز النهاية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 284 بالنسبة إلينا لئلا يخرج الكلام بكثرة الألفاظ وطول الفصول عن حد البلاغة إلى إشارة يفهم منها أن عدة هذه الملائكة عدد لا يتناهى مرتبة، فاقتصر سبحانه على ذكر آخر مرتبة الآحاد من العدد وأول مرتبة العشرات منه فإن مراتب العدد أربع آحاد وعشرات ومئون وألوف، الأصول منها الآحاد وأول مرتبته فإن نهاية مرتبة الآحاد التسعة وهي عبارة عن تكرار الواحد تسع مرات ثم ينتقل إلى ذكر العشرة التي هي أول مرتبة العشرات ثم يكررها كما كرر الواحد من العشرين إلى التسعين كما فعل في المرتبة الأولى ثم ينتقل إلى مرتبة الألوف فيكررها تكرير الواحد بلفظ الآحاد وهكذا إلى غير النهاية وإذا انتهت مرتبة الألوف عاد إلى مرتبة العشرات فقال: عشرة آلاف إلى ما لا نهاية له لا يزيد على أن يضيف إلى الألف لفظ الآحاد والعشرات فيعود إلى أصول الأعداد فدلّ ذلك على أن أصول جميع الأعداد التي لا تتناهى الآحاد وهي تسعة وأول العشرات هي العشرة فالاقتصار على ذكرهما للعرب الواضعين لهذه الأسماء يشير إلى أعداد لا نهاية لها، واستغنى عن ذكر لفظتي المائة والألف لما جاء في الكلام من المثال الذي يحتذى على مثاله والأصل الذي يقاس الفرع عليه واللفظتان يعني المائة والألف عند المخاطب معروفتان والطريق في التكرير قد وضحت. 2- في قوله: «وربك فكبر» فن طريف ابتدعه المتأخرون وأساءوا فيه، لأنه لا يأتي جيدا إلا في الندرة، أما تكلفه فيؤدي إلى إسفافه، وقد وضع له علماء البديع اسم «ما لا يستحيل بالانعكاس» وسماه بعضهم «القلب» وبعضهم الآخر سماه «المقلوب المستوي» وهو أن يكون الكلام بحيث إذا قلبته وابتدأت من حرفه الأخير إلى الحرف الأول كان الحاصل هو هذا الكلام عينه وهو قد يكون في النظم وقد يكون في النثر أما في النظم فمنه قول القاضي الأرجاني: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 285 مودته تدوم لكل هول ... وهل كلّ مودته تدوم وقد يكون ذلك في شطر بيت كقول القائل: ولما تبدى لنا وجهه ... أرانا الإله هلالا أنارا والشاهد في المصراع الثاني أما في النثر فقال الله تعالى: (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) ، (رَبَّكَ فَكَبِّرْ) ويحكى عن العماد الكاتب أنه لقي القاضي الفاضل يوما وهو راكب فرسا فقال له: سر فلا ركبا بك الفرس، فقال له القاضي: دام علا العماد، وهذا كله مستاغ لا تكلف فيه فلذلك أتى مستملحا جاريا في حدود الطبع، أما ما تكلفوه فقد ضربنا عنه صفحا لأنه لا يمت إلى البلاغة بأي نسب. 3- في قوله تعالى: «وثيابك فطهر» إن أريد الثياب الحقيقة الظاهرة على البدن فالكلام جار على الحقيقة وليس فيه شيء من فنون البلاغة لأن طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة ويقبح أن تكون ثياب المؤمن نجسة وإن أريد القلب كان الكلام كناية على حد قول امرئ القيس: وإن تك قد ساءتك مني خليقة ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي أي قلبي من قلبك وقيل كنى عن النفس بالثياب، قال عنترة: فشككت بالرمح الطويل ثيابه ... ليس الكريم عن القنا بمحرم وقيل كنى بها عن الجسم، قالت ليلى وقد ذكرت إبلا: رموها بأثواب خفاف فلا نرى ... لها شبها إلا النعام المنضرا أي ركبوها فرموها بأنفسهم. [سورة المدثر (74) : الآيات 32 الى 56] كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 286 اللغة: (قَسْوَرَةٍ) القسورة: جماعة الرماة الذين يتصيدونها وقيل: الأسد يقال: ليوث قساور وهي فعولة من القسر وهو القهر والغلبة وفي وزنه الحيدرة من أسماء الأسد، وفي المختار: «القسور والقسورة: الأسد» وفي القاموس: «والقسورة: العزيز والأسد كالقسور ونصف الليل أو أوله أو معظمه ونبات سهلي والجمع قسور والرماة من الصيادين الواحد قسور» وتعقبه شارحه التاج بقوله: «قوله الواحد قسور هكذا قاله الليث وهو خطأ لا يجمع قسور على قسورة إنما القسورة اسم جامع للرماة ولا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 287 واحد لها من لفظها» وعبارة أبي حيان: «القسورة الرماة والصيادون قاله ابن كيسان أو الأسد قاله جماعة من اللغويين قال: مضمر تحدره الأبطال ... كأنه القسورة الريبال أو الرجال الشداد، قال لبيد: إذا ما هتفنا هتفة في ندينا ... أتانا الرجال الصائدون القساور أو ظلمة أول الليل لا ظلمة آخره، قاله ابن الأعرابي وثعلب. الإعراب: (كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) كلا حرف ردع وزجر لمن ينكر أن تكون إحدى الكبر نذيرا للبشر والواو حرف قسم وجرّ والقمر مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم ولا معنى لما قاله الجلال: «كلا استفتاح بمعنى ألا» ولا لما قاله القرطبي نقلا عن الفراء «إنها صلة للقسم والتقدير إي والقمر» والليل جار ومجرور والواو للقسم وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بفعل القسم وجملة أدبر في محل جر بإضافة الظرف إليها (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) الواو حرف قسم وجر والصبح مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وإذا ظرف زمان متعلق بفعل القسم المحذوف وجملة أسفر في محل جر بإضافة الظرف إليها (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) الجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وإن واسمها واللام المزحلقة وإحدى الكبر خبر إنها (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) حال من إحدى الكبر وأعربها الزمخشري تمييز من إحدى الكبر على معنى أنها إحدى الدواهي إنذارا كما تقول هي إحدى النساء عفافا وننقل فيما يلي عبارتي السمين وأبي البقاء ونترك لك الخيار. «وقوله تعالى: «نذيرا للبشر» فيه أوجه: أحدها أنه تمييز من إحدى لما تضمنته من معنى التعظيم كأنه قيل: أعظم الكبر إنذارا فنذير بمعنى الإنذار، والثاني أنه مصدر بمعنى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 288 الإنذار أيضا ولكنه نصب بفعل مقدّر قاله الفرّاء، الثالث أنه فعيل بمعنى مفعل وهو حال من الضمير في إنها قاله الزجّاج، الرابع أنه حال من الضمير في إحدى لما تضمنت من معنى التعظيم كأنه قيل أعظم الكبر منذرة، الخامس أنه حال من فاعل قم فأنذر أول السورة، السادس أنه مصدر منصوب بأنذر أول السورة، السابع أنه حال من الكبر، الثامن أنه حال من ضمير الكبر، التاسع هو حال من إحدى الكبر قاله ابن عطية، العاشر أنه منصوب بإضمار أعني وقيل غير ذلك» . أما عبارة أبي البقاء فهي: «قوله تعالى: نذيرا في نصبه أوجه أحدها هو حال من الفاعل في قوله: قم في أول السورة، والثاني من الضمير في فأنذر حال مؤكدة، والثالث هو حال من الضمير في إحدى، والرابع هو حال من نفس إحدى، والخامس حال من الكبر أو من الضمير فيها، والسادس حال من اسم إن، والسابع أن نذيرا في معنى إنذارا أي فأنذر إنذارا أو أنها لإحدى الكبر لإنذار البشر، وفي هذه الأقوال ما لا نرتضيه ولكن حكيناها والمختار أن يكون حالا مما دلّت عليه الجملة تقديره عظمت عليه نذيرا» . أما أبو حيان فبعد أن أورد هذه الأوجه قال: «قال أبو البقاء والمختار أن يكون حالا مما دلّت عليه الجملة تقديره عظمت نذيرا وهو قول لا بأس به» . وقرىء نذير بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي نذير (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) لمن بدل من قوله للبشر بإعادة الجار وجملة شاء لا محل لها لأنها صلة من ومنكم حال وأن وما في حيّزها في موضع نصب بشاء وفاعل شاء يعود على من وقيل الفاعل ضمير يعود على الله تعالى أي لمن شاء هو أي الله تعالى. وقال الزمخشري: أن يتقدم في موضع الرفع بالابتداء ولمن شاء خبر مقدّم عليه كقولك: لمن توضأ أن يصلي ومعناه مطلق لمن شاء التقدم والتأخر أن يتقدم أو يتأخر والمراد بالتقدم السبق إلى الخير والتخلّف عنه وهو كقوله: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر انتهى، وهو معنى لا يتبادر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 289 إلى الذهن وفيه حذف (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) كلام مستأنف لبيان أن كل نفس رهن بما كسبت وكل نفس مبتدأ وبما متعلقان برهينة وجملة كسبت لا محل لها لأنها صلة ما ورهينة خبر وهي مصدر بمعنى رهن كالشتيمة بمعنى الشتم وليست بمعنى مفعول لأنها بغير تاء ولو قصدت الصفة لقيل رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث ومنه بيت الحماسة: أبعد الذي بالنعف نعف كويكب ... رهينة رمس ذي تراب وجندل أأذكر بالبقيا على من أصابني ... وبقياي أني جاهد غير مؤتل والبيتان لزياد بن مسور الحارثي وقيل لعبد الرحمن بن زيد قتل أبوه زياد فعرض عليه فيه سبع ديّات فأبى إلا الثأر، والاستفهام إنكاري والنعف بالفتح الجبل والمكان المرتفع وقيل ما يستقبلك من الجبل وكويكب جبل بعينه وفي هذا الإبدال من التفصيل بعد الإجمال ما ينبئ عن تفخيم المحل والحال أي أبعد قتل أبي المدفون في ذلك الموضع حال كونه محتبسا في رمس وقيل رهينة بالجر بدل من الذي فهو اسم ملحق بالجواحد بمعنى الرهن ويقال رمست الشيء رمسا إذا دفنته في التراب فأطلق المصدر وأريد مكانه وهو القبر والجندل الحجارة وكررت همزة الاستفهام في قوله أأذكر توكيدا للأولى لأنها داخلة على هذا الفعل تقديرا أيضا ويحتمل أنها داخلة على مقدّر أي أبعد أبي أفرح بالديّة والبقيا الإبقاء على الشيء أي لا أذكر بين الناس بأني أبقيت على قاتل أبي والحال إن إبقائي عليه كوني جاهدا أو مصمّم العزم على الفتك به غير حالف على ذلك لأني غير محتاج إلى الحلف في تنفيذ أموري أو غير مقصر في الاجتهاد لأن الائتلاء يجيء بمعنى الحلف وبمعنى التقصير (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) إلا أداة استثناء وأصحاب اليمين مستثنى قيل هو متصل لأن الله تعالى جعل تكليف عباده كالدين عليهم ونفوسهم تحت استيلائه وقهره فهي رهينة فمن وفى دينه الذي كلّف به الجزء: 10 ¦ الصفحة: 290 خلّص نفسه من عذاب الله تعالى الذي نزل منزلة علامة الرهن وهو أخذه في الدين ومن لم يوف عذّب وقيل هو منقطع إذ المراد بهم الأطفال لأنهم لا أعمال لهم يرتهنون بها وقيل الملائكة (فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ) في جنات خبر لمبتدأ محذوف أي هم في جنات والجملة مستأنفة كأنها نشأت جوابا لسؤال نشأ من الاستثناء والتقدير فما شأنهم وحالهم وجملة يتساءلون خبر ثان واختار أبو البقاء أن يكون في جنات حالا من أصحاب اليمين وأن يكون حالا من الضمير في يتساءلون وأن يتعلق بيتساءلون فيكون ظرفا للفعل ومعنى يتساءلون يسأل بعضهم بعضا وعن المجرمين متعلقان بيتساءلون ولا بدّ من تقدير مضاف أي عن حال المجرمين (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) الجملة مقول قول محذوف أي قائلين فجملة القول في محل نصب حال وما اسم استفهام مبتدأ والاستفهام للتوبيخ والتعجب من حالهم وجملة سلككم خبر وفي سقر متعلقان به (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) قالوا فعل وفاعل ولم حرف نفي وقلب وجزم ونك فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون المقدّرة على النون المحذوفة للتخفيف لأنها تحذف من مضارع كان المجزوم إذا لم يله ساكن وقد تقدم نظيره واسم نك ضمير مستتر تقديره نحن ومن المصلّين خبرها (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) عطف على الجملة السابقة مماثلة لها في إعرابها (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) عطف على ما تقدم وكان واسمها وجملة نخوض خبرها ومع ظرف مكان متعلق بنخوض والخائضين مضاف إليه أي نشرع في الباطل مع الخائضين وهذا تحذير لكل من تسوّل له نفسه أن يسرع في الإجابة عمّا لا يعلمه (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) عطف على ما تقدم أيضا (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) حتى حرف غاية وجر وأتانا اليقين فعل ماض ومفعول به مقدّم وفاعل مؤخر والغاية للأمور الأربعة الآنفة (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) الفاء عاطفة وما نافية وتنفعهم فعل مضارع ومفعول به وشفاعة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 291 الشافعين فاعل والمعنى لا شفاعة لهم وسيأتي المزيد من معناها في باب البلاغة (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) الفاء استئنافية وما اسم استفهام إنكاري في محل رفع مبتدأ ولهم خبر وعن التذكرة متعلقان بمعرضين ومعرضين حال من الضمير المجرور باللام ووهم من جعله حالا من الضمير المستكن في الخبر لأنه عائد على ما وهي عبارة عن شيء وسبب ومعرضين وصف للأشخاص أنفسهم فلا يصحّ كونه وصفا لأسباب الإعراض على القاعدة في أن الحال وصف لصاحبها (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) الجملة حالية من الضمير المستكن في معرضين فهي حال متداخلة وكأن واسمها وحمر خبرها ومستنفرة نعت وقرئ في السبع بكسر الفاء وفتحها فالأول بمعنى نافرة والثاني بمعنى نفرها الأسد أو الصياد (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) الجملة نعت ثان لحمر وفرت فعل ماض والفاعل مستتر يعود على الحمر والتاء تاء التأنيث الساكنة ومن قسورة متعلقان بفرت (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) بل إضراب انتقالي عن محذوف هو جواب الاستفهام السابق كأنه قيل: فلا جواب لهم عن هذا السؤال أي لا سبب لهم في الإعراض بل يريد، ويريد فعل مضارع مرفوع وكل امرئ فاعل ومنهم نعت وأن وما في حيّزها في موضع نصب مفعول به ويؤتى فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وصحفا مفعول به ثان ومنشرة نعت لصحفا أي منشورة غير مطويّة يقرؤها كلّ من رآها (كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) كلا ردع عن الإرادة وبل إضراب انتقالي لبيان سبب هذا التعنت ولا نافية ويخافون الآخرة فعل مضارع وفاعل ومفعول به (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) كلا ردع عن الإعراض وإن واسمها أي القرآن وتذكرة خبرها (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) الفاء عاطفة ومن شرطية مبتدأ وشاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ومفعول شاء محذوف تقديره أن يذكره وذكره فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به والجملة جواب الشرط والشرط وجوابه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 292 خبر المبتدأ (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) الواو عاطفة وما نافية ويذكرون فعل مضارع وفاعل وإلا أداة استثناء وأن يشاء الله المصدر استثناء من أعمّ الأحوال أطلق نفي الذكر ثم استثنى منه حال المشيئة المطلقة وهو مبتدأ وأهل التقوى خبره وأهل المغفرة عطف على أهل التقوى. البلاغة: 1- في قوله تعالى «فما تنفعهم شفاعة الشافعين» فن تقدم الإلماع إليه وهو «نفي الشيء بإيجابه» وهو أن يثبت المتكلم شيئا في ظاهر كلامه بشرط أن يكون المثبت مستعارا ثم ينفي ما هو من سببه مجازا والمنفي حقيقة في باطن الكلام وقد تحدثنا عنه طويلا في البقرة عند قوله لا يسألون الناس إلحافا وفي غافر عند قوله «ولا شفيع يطاع» وهنا تعريف أكثر إيضاحا وهو أن تذكر كلاما يدل ظاهره أنه نفي لصفة موصوف وهي نفي للموصوف أصلا واعتاد البلاغيون أن يمثلوا له بقول امرئ القيس: على لاحب لا يهتدى بمناره ... إذا سافه العود الديافي جرجرا فقوله لا يهتدى لمناره أي إن له منارا إلا أنه لا يهتدى به وليس المراد ذلك بل المراد أنه لا منار له يهتدى به وهنا ليس المعنى أنهم يشفع لهم فلا تنفعهم شفاعة من يشفع لهم وإنما المعنى نفي الشفاعة فانتفى النفع أي لا شفاعة شافعين لهم فتنفعهم من باب «على لاحب لا يهتدي بمناره» أي لا منار له فيهتدي به وتخصيصهم بانتفاء شفاعة الشافعين يدل على أنه قد تكون شفاعات ينتفع بها. 2- في قوله «كأنهم حمر مستنفرة، فرّت من قسورة» تشبيه مرسل، شبّههم بالحمر المستنفرة وفي ذلك مذمة ظاهرة وتهجين لحالهم وشهادة عليهم بالبله وقلة العقل ولا ترى مثل نفار حمر الوحش واطّرادها في العدو إذا رابها رائب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 293 (75) سورة القيامة مكيّة وآياتها أربعون [سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 19] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 294 اللغة: (بَنانَهُ) البنان أطراف الأصابع جمع أو اسم جمع لبنانة قولان وفي المختار: «البنانة واحد البنان وهي أطراف الأصابع ويقال بنان مخضّب لأن كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء فإنه يؤنّث ويذكّر» . (بَرِقَ) يبرق من باب دخل برقا وبروقا وبرقانا وبريقا البرق: ظهر والشيء: لمع وتلألأ والسماء: بدا منها البرق والرجل: توعّد وبرق يبرق من باب تعب برقا تحيّر ودهش فلم يبصر وقد قرئ بهما معا. (خَسَفَ) أظلم وذهب ضوءه. (وَزَرَ) ملجأ يتحصن به وكل ما التجأت إليه من جبل أو غيره وتخلصت به فهو وزرك. الإعراب: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) قال الزمخشري: إدخال لا على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم قال امرؤ القيس: ولا وأبيك ابنة العامريّ ... لا يدّعي القوم أني أفرّ وإنما كان دخول لا النافية قبل القسم شائعا في لسان العرب لأنه غالبا يكون لردّ دعوى الخصم ونفيها فالتقدير: ولا يحصل ذلك وحق أبيك، وقال غوية بن سلمى: ألا نادت أمامة باحتمال ... لتحزنني فلا بك ما أبالي وقال الزمخشري: «وفائدتها توكيد القسم وقالوا إنها صلة مثلها في «لئلا يعلم أهل الكتاب» واعترضوا عليه بأنها إنما تزاد في وسط الجزء: 10 ¦ الصفحة: 295 الكلام لا في أوله، وأجابوا بأن القرآن في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض والاعتراض صحيح لأنها لم تقع مزيدة إلا في وسط الكلام ولكن الجواب غير سديد، ألا ترى إلى امرئ القيس كيف زادها في مستهل قصيدته والوجه أن يقال هي للنفي والمعنى أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له يدلك على ذلك قوله تعالى: «فلا أقسم بمواقع النجوم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم» فكأنه بإدخال حرف النفي يقول: إن إعظامي له بإقسامي به كلا إعظام يعني أنه يستأهل فوق ذلك وقيل إن لا نفي لكلام وردّ له قبل القسم كأنهم أنكروا البعث فقيل: لا أي ليس الأمر على ما ذكرتم ثم قيل أقسم بيوم القيامة» وقيل هي ردّ لكلامهم حيث أنكروا البعث كأنه قال: ليس الأمر كما ذكرتم أقسم بيوم القيامة، وهذا قول الفراء وكثير من النحويين. وقد تقدم الكلام عليها في الواقعة فجدّد به عهدا. وأقسم فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر تقديره أنا وبيوم القيامة متعلقان بأقسم (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) عطف على الجملة السابقة واللوّامة نعت للنفس أي التي تلوم نفسها في يوم القيامة على ما فرط منها من قصور أو التي لا تزال تلوم نفسها في الدنيا، وقد روي أنه عليه السّلام قال: «ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلا وتلوم نفسها يوم القيامة إن عملت خيرا قالت: كيف لم أزدد وإن عملت شرّا قالت: ليتني كنت أقصرت عن الشر» وجواب القسم محذوف أي لتبعثنّ دلّ عليه ما بعده وهو: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي ويحسب فعل مضارع مرفوع والإنسان فاعل وأن مخفّفة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولن وما في حيّزها في موضع الخبر والفاصل هنا حرف النفي وأن المخففة وما في حيّزها سادّة مسدّ مفعولي يحسب وعظامه مفعول نجمع للبعث والإحياء. قال النحّاس: وإنما خصّ العظام لأنها قالب الخلق. (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) بلى حرف جواب وهو إيجاب لما بعد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 296 النفي المنسحب عليه الاستفهام وقادرين حال من فاعل الفعل المقدّر المدلول عليه بحرف الجواب أي بلى نجمعها قادرين وهذا هو الوجه، وقال بعضهم هو منصوب على أنه خبر كان مضمرة أي بلى كنّا قادرين في الابتداء وليس بذاك. وقرئ قادرون رفعا على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي بلى نحن قادرون، وعلى حرف جر وأن المصدرية وما في حيّزها في تأويل مصدر مجرور بعلى والجار والمجرور متعلقان بقادرين وفاعل نسوّي ضمير مستتر تقديره نحن وبنانه مفعول به. وعند سيبويه تنتصب قادرين بفعل مقدّر تقديره نجمعها قادرين. (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) بل حرف عطف للإضراب الانتقالي ويريد معطوف على أيحسب فيجوز أن يكون مثله استفهاما وأن يكون إيجابا ويجوز أن تكون بل لمجرد الإضراب الانتقالي من غير عطف كأنه أضرب عن الكلام الأول وأخذ في آخر، ويريد الإنسان فعل مضارع وفاعل ومفعول يريد محذوف والمعنى بل يريد الإنسان الثبات والديمومة على ما هو عليه من عدم التقيد بقيد الإيمان ليسترسل على فجوره ويدوم على غيّه واللام للتعليل ويفجر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الإنسان وأمامه ظرف مكان استعير للزمان أي ليستمر في فجوره ويدوم عليه فيما بين يديه من الأوقات وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه ولا يتنصّل منه ولام التعليل متعلقة بيريد، وأعربه الجلال وغيره على وجه آخر خلاصته أن اللام زائدة ويفجر منصوب بأن مقدرة والمصدر المنسبك منه ومن أن مفعول يريد ولا داعي لزيادة اللام فالوجه الأول هو الصحيح (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) الجملة في موضع نصب على الحال أي يريد أن يستمر في فجوره في حال كونه سائلا على سبيل الاستهزاء أيان يوم القيامة وقيل مستأنفة وقال أبو البقاء تفسير ليفجر فتكون مفسّرة مستأنفة أو بدلا من الجملة قبلها لأن التفسير يكون بالاستئناف وبالبدل وأيان اسم استفهام في محل نصب على الظرفية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 297 الزمانية وهو متعلق بمحذوف في محل رفع خبر مقدّم ويوم القيامة مبتدأ مؤخر (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) الفاء استئنافية وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متعلق بالجواب وهو يقول وجملة برق البصر جملة فعلية في محل جر بإضافة الظرف إليها (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) عطف على برق البصر وهو فعل ماض وفاعل (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) عطف أيضا داخل في حيز فعل الشرط وجمعهما من آيات الله الكبرى (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) جملة يقول الإنسان لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ويوم ظرف أضيف إلى مثله وهو متعلق بيقول والتنوين عوض عن جملة أي يوم إذ برق البصر إلخ وأين اسم استفهام في محل نصب ظرف مكان والظرف متعلق بمحذوف في محل رفع خبر مقدم والمفر مبتدأ مؤخر والمفر مصدر ميمي بمعنى الفرار او اسم مكان للفرار والأول مفتوح الفاء والثاني مكسورها وقد قرئ بهما (كَلَّا لا وَزَرَ) كلا حرف ردع وزجر عن طلب الفرار ولا نافية للجنس ووزر اسمها المبني على الفتح وخبرها محذوف أي موجود متاح لهم (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) إلى ربك خبر مقدم ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله وهو متعلق بفعل مقدّر دلّ عليه المستقر أي يستقر الأمر إلى ربك يوم إذ كانت هذه الأمور المذكورة ولا يجوز أن يتعلق بالمستقر لأنه إن كان مصدرا فلتقدمه وإن كان مكانا فلا عمل له البتّة، والمستقر مبتدأ مؤخر (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) الجملة تفسيرية مستأنفة كما تقدم وينبأ فعل مضارع مبني للمجهول والإنسان نائب فاعل ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله متعلق بينبأ وبما في موضع المفعول الثاني وجملة قدّم وأخّر المعطوفة عليها لا محل لها لأنها صلة ما أي يخبر الإنسان يوم إذ كانت هذه الأمور الثلاثة وهي برق البصر وخسف القمر والجمع بين الشمس والقمر بما قدّم من عمل عمله وبما أخّر منه لم يعمله (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) بل حرف عطف وإضراب انتقالي والإنسان مبتدأ وعلى نفسه متعلقان ببصيرة وبصيره الجزء: 10 ¦ الصفحة: 298 يجوز فيها أن تكون خبرا للإنسان وهو الأرجح والمعنى بل الإنسان بصيرة على نفسه وعلى هذا يرد السؤال الآتي: لماذا أنّث الخبر؟ وقد اختلف النحاة في الإجابة فقال بعضهم الهاء فيه ليست للتأنيث بل للمبالغة وقال الأخفش: هو كقولك فلان عبرة وحجّة وقيل: المراد بالإنسان الجوارح فكأنه قال: بل جوارحه بصيرة أي شاهدة ويجوز أن تكون بصيرة مبتدأ مؤخرا وعلى نفسه خبرا مقدما والجملة خبر عن الإنسان وعلى هذا تكون بصيرة صفة لمحذوف أي عين بصيرة أو جوارح والتاء على هذا الوجه للتأنيث وإلى هذا ذهب الزمخشري فقال: «بصيرة: حجة بيّنة وصفت بالبصارة على المجاز كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله: فلما جاءتهم آياتنا مبصرة، أو لأعين بصيرة» ويجوز أن يكون على نفسه خبرا وبصيرة فاعل به والأصل في الإخبار الإفراد والأوجه الثلاثة متساوية في القوة والأرجحية. (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) الواو حالية من الفاعل المستكن في بصيرة ولو شرطية وألقى فعل ماض وهو فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره هو ومعاذيره مفعول به وجواب الشرط محذوف أي ما ساغت وما قبلت والمعاذير جمع معذرة على غير قياس كملاقيح ومذاكير جمع لقحة وذكر، وللنحويين في هذا ونحوه قولان: أحدهما أنه جمع للملفوظ به وهو لقحة والثاني أنه جمع لغير بملفوظ به بل مقدّر أي ملقحة ومذكار قال الزمخشري: «فإن قلت أليس قياس المعذرة أن يجمع على معاذر معاذير؟ قلت المعاذير ليست جمع معذرة بل اسم جمع لها ونحوه المناكير في المنكر» وقال أبو حيان معقبا: «وليس هذا البناء من أبنية اسم الجموع وإنما هو من أبنية جمع التكسير فهو كمذاكير وملاميح والمفرد منهما لمحة وذكر ولم يذهب أحد إلى أنهما من أسماء الجموع وقيل هما جمع للمحة وذكر على غير قياس أو هما جمع لمفرد لم ينطق به وهو مذكار وملمحة» (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 299 بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) الجملة مقول قول محذوف مستأنف ولا ناهية وتحرك فعل مضارع مجزوم بلا وبه متعلقان بتحرك ولسانك مفعول به واللام لام التعليل وتعجل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل واللام وما في حيّزها متعلقة بتحرك وبه متعلقان بتعجل والضمير للقرآن أي بقراءته وحفظه على عجلة لئلا يفلت منك، ثم علّل النهي عن العجلة بقوله: إن علينا جمعه. وإن وخبرها المقدّم واسمها المؤخر وقرآنه عطف على جمعه (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) الفاء عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملته قرأناه في محل جر بإضافة الظرف إليها والفاء رابطة لجواب إذا واتبع فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وقرآنه مفعول به أي فكن مقفيا فيه ولا تراسله وطامن نفسك أنه لا يبقى غير محفوظ (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وإن حرف مشبه بالفعل وعلينا خبر إن المقدّم وبيانه اسم إن المؤخر. البلاغة: في قوله: «لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوّامة» فن «صحة الأقسام» وسمّاه صاحب المثل السائر «التناسب بين المعاني» وقد مرّت أمثلة كثيرة منه في هذا الكتاب كما تحدّثنا عنه بإسهاب والآية التي نحن بصددها تعدّ من محاسن التقسيم لتناسب الأمرين المقسم بهما، فقد أقسم بيوم البعث أولا ثم أقسم بالنفوس المجزية فيه على حقيقة البعث والجزاء، فسبحان المتكلم بهذا الكلام. [سورة القيامة (75) : الآيات 20 الى 40] كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 300 اللغة: (ناضِرَةٌ) من النضرة حسنة مضيئة والنضرة هي التنعم ومنه غصن ناضر، يقال: نضر ينضر من باب دخل ونضر ينضر من باب تعب ونضر ينضر من باب ظرف نضرا ونضرة ونضرا ونضورا ونضارة الوجه أو اللون أو الشجر وغيرها: نعم وحسن وكان جميلا فهو ناضر ونضر ونضير، وأنضر العود أيضا قال الكميت: ورت بك عيدان المكارم كلها ... وأورق عودي في ثراك وأنضرا وفي الأساس: «ولها سوار من نضر ونضار وهو الذهب وقيل: كل خالص نضار من ذهب وغيره، وقدح من نضار وهو أثل ورسيّ اللون بغور الحجاز، ومن المجاز: نضر وجهه: حسن وغضّ وجارية غضة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 301 ناضرة وغلام غضّ: ناضر ونضر الله وجهه وأنضره: حسّنه وقد يقال نضره بالتخفيف ووجه منضور وليس بذاك، قال: نضّر الله أعظما دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات وفي الحديث «نضّر الله من سمع مقالتي فوعاها» ونجار نضار: خالص، قال الأفوه: كرم الفعل إذا ما فعلوا ... ونجار في اليمانين نضار» (فاقِرَةٌ) داهية عظيمة تكسر الظهر أو فقاره والفقار بفتح الفاء كما في القاموس وهو جمع فقارة بفتح الفاء وفي المصباح: «وفقرت الداهية الرجل فقرا من باب قتل نزلت به فهو فقير فعيل بمعنى مفعول وفقارة الظهر بالفتح الخرزة والجمع فقار بحذف الهاء مثل سحابة وسحاب، قال ابن السكيت: ولا يقال فقارة بالكسر والفقرة لغة في الفقارة وجمعها فقر وفقرات مثل سدرة وسدر وسدرات» وفي القاموس: «والفقر بالكسر والفقرة والفقارة بفتحهما ما يتصل من عظام الصلب من لدن الكاهل إلى العجب» . (التَّراقِيَ) جمع الترقوة وهي العظم الذي في أعلى الصدر بين ثغرة النحر والعاتق وهما ترقوتان والجمع التراقي والترايق ويقال: ترقاه ترقاة أي أصاب ترقوته وقد بلغت روحه التراقي إذا شارف الموت. (راقٍ) اسم فاعل إما من رقي بالفتح في الماضي والكسر في المضارع من الرقية وهي كلام معد للاستشفاء يرقى به المريض ليشفى وفي الحديث: وما أدراك أنها رقية يعني الفاتحة وهي من أسمائها وإما من رقي بالكسر في الماضي والفتح في المضارع من الرقي وهو الصعود أي إن الملائكة تقول: من يصعد بهذه الروح. (يَتَمَطَّى) مضارع تمطى وفيه قولان: أحدهما أنه من المطا وهو الظهر ومعناه يتبختر أي يمدّ مطاه ويلويه تبخترا في مشيته والثاني أن أصله يتمطط من تمطط أي تمدّد ومعناه أنه يتمدد في مشيته تبخترا ومن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 302 لازم التبختر ذلك فهو يقرب من معنى الأول ويفارقه في مادته إذ مادة المطا م ط وو مادة الثاني م ط ط وإنما أبدلت الطاء الثانية ياء كراهة اجتماع الأمثال والمطيطاء التبختر ومدّ اليدين في المشي والمطيط الماء الخاثر أسفل الحوض لأنه يتمطط أي يمتد فيه وفي الحديث: إذا مشيت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم فقد جعل بأسهم بينهم وفي كتب اللغة: ومن المجاز تمطي الليل إذا طال قال امرؤ القيس: فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف إعجازا وناء بكلكل وقال بيهس: كلما قلت قد تقضّى تمطّى ... حالك اللون دامسا يحموما (سُدىً) هملا لا يكلف بالشرائع يقال إبل سدى أي مهملة وأسديت حاجتي أي ضيعتها ومعنى أسدى إليه معروفا أنه جعله بمعنى الضائع عند المسدى إليه لا يذكره ولا يمنّ به عليه، وفي المصباح «والسدى وزان الحصى من الثوب خلاف اللحمة وهو ما يمدّ طولا في النسج وأسديت الثوب أقمت سداه والسدى أيضا ندى الليل وبه يعيش الزرع وسديت الأرض فهي سدية من باب تعب كثر سداها وسدا الرجل سدوا من باب قال: مدّ يده نحو الشيء وسدّ البعير سدوا مدّ يده في السير وأسديته بالألف تركته سدى أي مهملا وأسديت إليه معروفا اتخذته عنده» . وفي اللسان والأساس وغيرهما: «جمل سدى وإبل سدى مهملة وقوم سدى وأرض سدى لا تعمر ووقع السندي والسدى وهو ما يقع باليل وهذا الثوب سداه حرير، وأسديته وأسدى الحائك الثوب وسدّاه ومن المجاز: قد أسديت فألحم، وأسرجت فألجم وأسدى إليه معروفا وسدّى منطقا حسنا وسدّى عليه الوشاة، قال عمر بن أبي ربيعة: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 303 وإنّا لمحقوقون أن لا تردّنا ... أقاويل ما سدّوا علينا ولصّقوا وأسدى بين القوم: أصلح وما أنت بلحمة ولا سداة: لا تضرّ ولا تنفع والريح تسدي المعالم وتنيرها، قال عمر بن أبي ربيعة: لمن الديار كأنهنّ سطور ... تسدي معالمها الصبا وتنير وتسداه: علاه وأخذه من فوقه كما يفعل سدى الليل قال: وما أبو سمرة بالرث ألوان ... يوم تسدى الحكم بن مروان وذلك أنه أخذ بناصيته وهو على فرس. (تَمَنَّى) تصب في الرحم، والمني: ما يخرج عن الجماع من الماء الدافق. الإعراب: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) حرف ردع وزجر وبل إضراب انتقالي وتحبون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والخطاب لكفّار قريش والإنسان عموما وقرىء بالتاء على سبيل الالتفات وبالياء على طريق الغيبة والعاجلة مفعول به أي الدنيا (وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) عطف على الجملة السابقة وقرىء بالتاء والياء أيضا على ما تقدم (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) وجوه مبتدأ وناضرة نعت له ويومئذ منصوب على الظرفية بناضرة وإلى ربها متعلقان بناظرة وناظرة خبر وجوه والمعنى أن الوجوه الحسنة يوم القيامة ناظرة إلى ربها وهذا معنى صحيح وتخريج سهل، ويجوز أن يكون وجوه مبتدأ أيضا وناضرة خبره ويومئذ ظرف منصوب بناضرة وسوّغ الابتداء بالنكرة هنا كون الموضع موضع تفصيل ويكون ناظرة نعتا لوجوه أو خبرا ثانيا أو خبرا لمبتدأ محذوف وإلى ربها متعلقان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 304 بناظرة ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله والتنوين عوض عن جملة أي يوم إذ تقوم القيامة، وسيأتي مزيد من الكلام على هاتين الآيتين في باب الفوائد (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) عطف على ما تقدم وقد تقدم القول في الإعراب ولا بدّ من التنبيه إلى أن يومئذ ليست تخصيصا للنكرة فيسوغ الابتداء بها لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة وإنما هو معمول لباسرة كما ذكرنا أنه معمول لناضرة فيما تقدم وجملة تظن يجوز أن تكون خبرا على الوجه الأول أو خبرا بعد خبر وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي تظن وبها متعلقان بيفعل وفاقرة نائب فاعل ليفعل ومعنى الظن هنا الإيقان أو التوقع مع غلبة الاعتقاد وذلك لأنه وقت رفع الشكوك (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) كلا ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة وتذكير لهم بما يئولون إليه من الموت الذي تنقطع العاجلة عنده وينتقل منها إلى الآجلة، وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة بلغت في محل جر بإضافة الظرف إليها وفاعل بلغت مستتر تقديره هي يعود إلى النفس الدّال عليها سياق الكلام وإن لم يجر لها ذكر كما قال حاتم: أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر وتقول العرب أرسلت يريدون جاء المطر ولا تكاد تسمعهم يذكرون السماء. والتراقي مفعول به (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) الواو عاطفة وقيل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو أي من حوله ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وراق خبره وهو مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين وجملة من راق مقول القول ولا أدري معنى قول السمين «وهذه الجملة هي القائمة مقام الفاعل» (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) الواو عاطفة وظن فعل ماض معناه أيقن وسمي اليقين ظنا لأن الإنسان ما دامت روحه في بدنه فإنه يطمع في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 305 ديمومة الحياة لشدة حبه لها وتعلقه بها، وأن واسمها والظرف خبرها وأن وما في حيّزها في موضع نصب سدّت مسدّ مفعولي ظن (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) عطف أيضا، وسيأتي المزيد من معناه في باب البلاغة (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم ويومئذ ظرف متعلق بالمساق وقد أضيف إلى مثله والتنوين عوض عن جمل أربع: وهي بلغت الروح التراقي، وقيل من راق، وظن أنه الفراق، والتفّت الساق بالساق. والمساق مبتدأ مؤخر وجواب إذا الذي هو العامل فيها يدل على قوله إلى ربك يومئذ المساق أي تساق إلى حكم ربها ومشيئته والمساق مفعل من السوق فهو اسم مصدر (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) عطف على قوله أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ولا نافية وصدق فعل ماض وهو دليل على جواز دخول لا النافية على الماضي وفاعله مستتر تقديره هو أي الإنسان ولا صلّى عطف على فلا صدق وقيل عطف على جملة يسأل أيّان يوم القيامة (وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) عطف أيضا ولكن مخففة مهملة وكذب فعل ماض أي الإنسان وتولى عطف عليه (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي والسر الاستبعاد لأن من صدر عنه مثل ذلك ينبغي أن يخاف من حلول غضب الله فيمشي خائفا متطأمنا ولكن هذا يمشي متبخترا متعجرفا يطاول أعنان السماء وهو أهون قدرا وأخسّ مكانا، وإلى أهله متعلقان بذهب وجملة يتمطى حالية من فاعل ذهب (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) تقدم الكلام مطولا حول إعراب هذه الكلمة في سورة القتال (ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) عطف على ما تقدم والتكرير للتأكيد وزيادة التهديد، وقد تشبثت الخنساء بأهداب هذا التكرير فقالت: هممت بنفسي كل الهموم ... فأولى لنفسي أولى لها (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) الهمزة للاستفهام الإنكاري الجزء: 10 ¦ الصفحة: 306 ويحسب الإنسان فعل وفاعل وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي يحسب ونائب الفاعل مستتر تقديره وهو سدى حال من الضمير في يترك (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) الهمزة للاستفهام التقريري الإنكاري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويك فعل مضارع ناقص مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون المقدّرة على النون المحذوفة للتخفيف واسم يك مستتر تقديره هو أي الإنسان ونطفة خبرها ومن مني نعت وجملة يمنى بالبناء للمجهول نعت لمني وقرىء بالتاء (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) عطف على ما تقدّم وعطف بثم للتراخي وامتداد المدة لأن بين الخلق الثاني الذي هو خلق النسل وبين الخلق الأول تراخيا وأمدا بعيدا فوجب عطفه بثم، وكان واسمها المستتر وعلقة خبرها والفاءان للترتيب مع التعقيب (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) عطف أيضا وفيه التعقيب وجعل فعل ماض ومنه في موضع المفعول الثاني والزوجين مفعول جعل الأول والذكر بدل والأنثى عطف عليه (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) الهمزة للاستفهام الإنكاري التقريري وذلك اسم ليس أي الفعال والباء حرف جر زائد وقادر مجرور لفظا منصوب محلا خبر ليس وعلى أن يحيي الموتى متعلقان بقادر. البلاغة: 1- الاستعارة التمثيلية في قوله: «والتفّت الساق بالساق» استعارة تمثيلية لشدة كرب الدنيا في آخر يوم منها وشدة كرب الآخرة في أول يوم منها لأنهما يومان قد التفا ببعضهما واختلطا بالكرب كما تلتف الساق على الساق كما يقال شمّرت الحرب عن ساق استعارة لشدّتها وقيل التفافهما لشدّة المرض لأنه يقبض ويبسط ويركب هذه على هذه، وعبارة الزمخشري: «والتفّت ساقه بساقه والتوت عليها عند علز الموت» وهو الرعدة تأخذ المريض. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 307 2- وفي قوله: «والتفّت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق» التجنيس الناقص المسمى أيضا جناس التبديل وهو الذي يوجد في إحدى كلمتيه حرف لا يوجد في الأخرى وجميع حروف الأخرى يوجد في أختها على استقامتها وهو ثلاثة أقسام: قسم تقع الزيادة منه في أول الكلمة كزيادة الميم في المساق وقسم تقع الزيادة وسط الكلمة كقوله تعالى: وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد، وقسم تقع الزيادة منه في آخر الكلمة كقوله تعالى: ثم كلي من كل الثمرات. الفوائد: لا نطيل في مسألة رؤية الله تعالى يوم القيامة فهي مسألة مذكورة في أصول الدين، ودلائل الطريقين أهل السنّة وأهل الاعتزال معروفة، ولما كان الزمخشري من المعتزلة ومذهبه أن تقديم المفعول به يدل على الاختصاص قال في صدد قوله تعالى «إلى ربها ناظرة» : «ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ولا تدخل تحت العدد في محشر يجتمع فيه الخلائق كلهم فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظورا إليه محال فوجب حمله على معنى يصحّ معه الاختصاص والذي يصحّ معه أن يكون من قول الناس: أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي يريد معنى التوقع والرجاء ومنه قول القائل: وإذا نظرت إليك من ملك ... والبحر دونك زدتني نعما وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهيرة حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول: عيينتي ناظرة إلى الله وإليكم والمعنى أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم كما كانوا في الدنيا ولا يخشون ولا يرجون إلا إياه» قال ابن عطية: «ذهبوا يعني المعتزلة إلى أن المعنى إلى رحمة ربها ناظرة أو إلى ثوابه أو ملكه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 308 فقدّروا مضافا محذوفا وهذا وجه سائغ في العربية كما تقول فلان ناظر إليك في كذا أي إلى صنعك» . وقد عقب ابن المنير كعادته على الزمخشري فقال: «ما أقصر لسانه عند هذه الآية فكم له يدندن ويطيل في جحد الرؤية ويشقق القباء ويكثر ويتعمق فلما فغرت هذه الآية فاه صنع في مصامتها بالاستدلال على أنه لو كان المراد الرؤية لما انحصرت بتقديم المفعول لأنها حينئذ غير منحصرة على تقدير رؤية الله تعالى وما يعلم أن المتمتع برؤية جمال وجه الله تعالى لا يصرفه عنه طرفه، ولا يؤثر عليه غيره، ولا يعدل به عزّ وجلّ منظورا سواه، وحقيق له أن يحصر رؤيته إلى من ليس كمثله شيء، ونحن نشاهد العاشق في الدنيا إذا أظفرته برؤية محبوبه لم يصرف عنه لحظة ولم يؤثر عليه فكيف بالمحب لله عزّ وجلّ إذا أخطأه النظر إلى وجهه الكريم نسأل الله العظيم أن لا يصرف عنّا وجهه وأن يعيذنا من مزالق البدعة ومزلّات الشبهة وهو حسبنا ونعم الوكيل» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 309 (76) سورة الإنسان مدنية وآياتها احدى وثلاثون [سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 310 اللغة: (أَمْشاجٍ) أخلاط أي من ماء الرجل وماء المرأة المختلطين الممتزجين، ووقع الجمع صفة لمفرد أي لنطفة لأنه في معنى الجمع أو جعل كل جزء من النطفة نطفة فاعتبر ذلك فوصف بالجمع وفي المختار: «مشج بينهما خلط وبابه ضرب والشيء مشيج والجمع أمشاج كيتيم وأيتام ويقال نطفة أمشاج لماء الرجل يختلط بماء المرأة ودمها» وعبارة الزمخشري: «نطفة أمشاج كبرمة أعشار وبرد أكباش وهي ألفاظ مفردة غير جموع ولذلك وقعت صفات للأفراد ويقال أيضا نطفة مشج قال الشماخ: طوت أحشاء مرتجة لوقت ... على مشج سلالته مهين ولا يصحّ أمشاج أن يكون تكسيرا له بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما ومشجه ومزجه بمعنى، والمعنى: من نطفة امتزج فيها الماءان» . (كافُوراً) الكافور: نبت طيب وكأن اشتقاقه من الكفر وهو الستر لأنه يغطي الأشياء براحته والكافور أيضا كمام الشجر التي تغطي ثمرتها. (مُسْتَطِيراً) : فاشيا منتشرا بالغا أقصى المبالغ من استطار الحريق واستطار الفجر وهو من طار بمنزلة استنفر من نفر يقال: استطار يستطير استطارة فهو مستطير وهو استفعل من الطيران وقال الفراء: «المستطير: المستطيل» كأنه يريد أنه مثله في المعنى إلا أنه أبدل من اللام راءه، والفجر فجران مستطيل كذنب السرحان وهو الكاذب ومستطير وهو الصادق لانتشاره في الأفق. (قَمْطَرِيراً) القمطرير: الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه قال الزجّاج: يقال قمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها وزقت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 311 بأنفها فاشتقته من القطر وجعل الميم زائدة، وقال أسد بن ناعصة: واصطليت الحروب في كل يوم ... باسل الشر قمطرير الصباح وفي القاموس: «ويوم قماطر كعلابط وقمطرير شديد واقمطرّ اشتد» . الإعراب: (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) في هل وجهان: أحدهما هي بمعنى قد والثاني هي استفهام على بابها والاستفهام هنا للتقرير وللتوبيخ. وعبارة السمين: «في هل هذه وجهان: أحدهما أنها على بابها من الاستفهام المحض وقال مكّي في تقرير كونها على بابها من الاستفهام الذي معناه التقرير: وهو تقرير لمن أنكر البعث فلا بدّ أن يقول نعم قد مضى دهر طويل لا إنسان فيه فيقال له: من أحدثه بعد أن لم يكن وكونه بعد عدمه كيف يمتنع عليه بعثه وإحياؤه بعد موته؟ وهو معنى قوله: ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون أي فهلّا تذكرون فتعلمون أن من أنشأ شيئا بعد أن لم يكن قادرا على إعادته بعد موته وعدمه فقد جعلها للاستفهام التقريري لا للاستفهام المحض وهذا هو الذي يجب أن يكون لأن الاستفهام لا يرد من الله تعالى ألا على هذا النحو وما أشبهه، الثاني أنها بمعنى قد» . أما الزمخشري فقال: «هل بمعنى قد في الاستفهام خاصة والأصل أهل بدليل قوله: «أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم» فالمعنى قد أتى على التقرير والتقريب جميعا أي أتى على الإنسان قبل زمان قريب» أما شطر البيت الذي أورده الزمخشري فهو عجز البيت: سائل فوارس يربوع بشدتنا ... أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 312 والبيت لزيد الخيل الذي سمّاه النبي صلّى الله عليه وسلم زيد الخير، وسائل فعل أمر بمعنى اسألهم وراجعهم في السؤال لتتيقن حقيقة الحال ويربوع أبو حي، والباء بمعنى عن أي سلهم عن قوتنا والأصل في الاستفهام الهمزة ولذلك كان لها تمام التصدير في الكلام وأصل هل بمعنى قد لكن لكثرة الاستعمال فيه صارت الهمزة نسيا منسيا في حيز الإهمال والاستفهام هنا للتقرير. وأتى فعل ماض وعلى الإنسان متعلقان بأتى وحين فاعل ومن الدهر نعت لحين، وجملة لم يكن فيها وجهان أحدهما أنها في موضع نصب على الحال من الإنسان أي هل أتى عليه حين في هذه الحالة والثاني أنها في موضع رفع نعتا لحين بعد نعت وعلى هذا فالعائد محذوف تقديره حين لم يكن فيه شيئا مذكورا والأول أرجح، وعبارة الزمخشري «فإن قلت: ما محل لم يكن شيئا مذكورا قلت محله النصب على الحال من الإنسان كأنه قيل: هل أتى عليه حين من الدهر غير مذكور أو الرفع على الوصف لحين كقوله يوما لا يجزي والد عن ولده» ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم واسمها مستتر تقديره هو يعود على الإنسان وشيئا خبرها ومذكورا نعت لشيئا (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان كيفية خلق الإنسان وإن واسمها وجملة خلقنا الإنسان خبرها ومن نطفة متعلقان بخلقنا وأمشاج نعت لنطفة، وقد تقدم في باب اللغة سر وقوع الجمع صفة لمفرد على أن أبا البقاء أجاز أن تكون بدلا من نطفة، وجملة نبتليه فيها وجهان أحدهما أنها حال من فاعل خلقنا أي خلقناه حال كوننا مبتلين له والثاني أنها حال من الإنسان وصحّ ذلك لأن في الجملة ضميرين كلّ منهما يعود على ذي الحال ثم هذه الحال يجوز أن تكون مقارنة إن كان المعنى نبتليه بتصريفه في بطن أمه نطفة ثم علقة وأن تكون مقدّرة إن كان المعنى نبتليه نختبره بالتكليف لأنه وقت خلقه غير مكلّف (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 313 بَصِيراً) الفاء عاطفة للترتيب مع التعقيب وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به وسميعا بصيرا مفعول به ثان، وقد نزلت الكلمتان منزلة الكلمة الواحدة لأنهما كناية عن التمييز والفهم إذ آلتهما سبب لذلك وهما أشرف الحواس تدرك بهما أعظم المدركات أي جعلناه بسبب الابتلاء حين تأهله له سميعا بصيرا ليتمكن من مشاهدة الدلائل واستماع الآيات فالعطف على إرادة الابتلاء لا الابتلاء فيه فلا يرد السؤال الآتي: كيف عطف على نبتليه ما بعده بالفاء مع أن الابتلاء متأخر عنه (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) الجملة تعليل للابتلاء وإن واسمها وجملة هديناه من الفعل والفاعل والمفعول خبر إنّا والسبيل مفعول به ثان أو في محل نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بهديناه وإما حرف شرط وتفصيل وشاكرا وكفورا حالان من الهاء في هديناه أي مكّناه وأقدرناه على حالتيه جميعا أو دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع وكان معلوما أنه يؤمن أو يكفر لإلزام الحجة، ويجوز أن يكونا حالين من السبيل أي عرفناه إما سبيلا شاكرا وإما سبيلا كفورا كقوله وهديناه النجدين ويكون وصف السبيل بالشكر والكفر مجازا، وسيأتي سر المخالفة بين اسم الفاعل وصيغة المبالغة في باب البلاغة (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً) الجملة تعليل أيضا لأنه لما ذكر الفريقين اتبعهما الوعيد والوعد، وإن واسمها وجملة أعتدنا خبرها وللكافرين متعلقان بأعتدنا وسلاسل مفعول به ومنع من الصرف لأنه جمع على وزن مفاعل وقرئ بالصرف للمناسبة مع أغلالا وهما قراءتان سبعيتان. وعبارة أبي حيان: «وقرأ طلحة وعمرو بن عبيد وابن كثير وأبو عمرو وحمزة سلاسل ممنوع الصرف وقفا ووصلا وقيل عن حمزة وأبي عمرو الوقف بالألف وقرأ حفص وابن ذكوان بمنع الصرف واختلف عنهم في الوقف وكذا عن البزّي وقرأ باقي السبعة بالتنوين وصلا وبالألف المبدلة منه وقفا وهي قراءة الأعمش، قيل: وهذا على ما حكاه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 314 الأخفش من لغة من يصرف كلّ ما لا ينصرف إلا أفعل وهي لغة الشعراء ثم كثر حتى جرى في كلامهم وعلّل ذلك بأن هذا الجمع لما كان يجمع فقالوا صواحبات يوسف ونواكسي الأبصار أشبه المفرد فجرى فيه الصرف وقال بعض الرجّاز: والصرف في الجمع أتى كثيرا ... حتى ادّعى قوم به التخييرا (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً) إن واسمها وجملة يشربون خبرها ومن كأس متعلقان بيشربون ومفعول يشربون محذوف أي خمرا من كأس، والكأس الزجاجة إذا كانت فيها خمر وتسمى الخمر نفسها كأسا، قال الأعشى: وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها وجملة كان مزاجها كافورا نعت لكأس وكان واسمها وخبرها (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) عينا أفاض النحاة في أوجه إعرابها والأوجه التي أوردوها تتناهى إلى السبعة ونوردها فيما يلي باختصار ثم نعمد إلى الترجيح: 1- بدل من كافورا لأن ماءها في بياض الكافور وفي رائحته وبرودته 2- بدل من محل من كأس، وقدّر الزمخشري على هذا الوجه حذف مضاف قال: «كأنه قيل يشربون فيها خمرا خمر عين» وأما أبو البقاء فجعل المضاف مقدّرا على وجه البدل من كافورا فقال: «والثاني بدل من كافورا أي ماء عين أو خمر عين» 3- مفعول يشربون أي يشربون عينا من كأس 4- النصب على الاختصاص 5- منصوب بيشربون مقدّرا يفسّره ما بعده قاله أبو البقاء أيضا 6- منصوب بإضمار فعل تقديره يعطون 7- منصوب على الحال من الضمير في مزاجها قاله مكّي. ونرى أن الأول والرابع أرجح الأوجه وأدناها إلى السهولة على أن ذلك لا يمنع الاعتراف بصحة الأوجه التي أوردناها كلها. وجملة يشرب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 315 صفة لعينا وبها جار ومجرور متعلقان بيشرب والضمير يعود على الكأس أي يشربون العين بتلك الكأس والباء للإلصاق، قال الزمخشري: «فإن قلت لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أولا وبحرف الإلصاق أخيرا؟ قلت: لأن الكأس مبدأ شربهم وأول غايته وأما العين فبها يمزجون شرابهم فكأن المعنى يشرب عباد الله بها الخمر كما تقول شربت الماء بالعسل» وقيل: الباء زائدة أي يشربها ويدل له قراءة يشربها معدى إلى الضمير بنفسه وإنها بمعنى من فتكون للتبعيض أثبته الأصمعي وابن مالك والفارسي والقتبي وجعلوا منه هذه الآية وقوله تعالى فامسحوا برءوسكم وعليها بنى الشافعي مذهبه في مسح بعض الرأس في الوضوء لما قام عنده من الأدلة ويجوز أن تكون في موضع نصب على الحال أي ممزوجة ويجوز أن يتضمن يشربون معنى يلتذون بها شاربين أو يتضمن معنى يرتوي أي يرتوي بها عباد الله. وجملة يفجرونها في موضع نصب على الحال أي يجرونها حيث شاءوا من منازلهم فهي سهلة لا تمتنع عليهم أو نعت ثان لعينا وتفجيرا مفعول مطلق (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) كلام مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل: بم استحقوا هذا النعيم؟ فقيل يوفون، ويوفون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وبالنذر متعلقان بيوفون ويوما مفعول به وجملة كان صفة ليوم وشره اسم كان ومستطيرا خبرها (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) عطف على يوفون ويخافون، والطعام مفعول به وعلى حبه متعلقان بمحذوف حال أي محبين له وعلى بمعنى مع أي للمصاحبة وحبه مصدر أضيف للمفعول فالضمير للطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه ونحوه «وآتى المال على حبه» ويصحّ رجوع الضمير لله أي على حب الله أي لوجه وابتغاء مرضاته والأول أمدح أن فيه الإيثار على النفس والطعام محبوب للفقراء والأغنياء وأما على الثاني فقد يفعله الأغنياء أكثر ومسكينا مفعول به ثان وما بعده عطف عليه وخصّ هؤلاء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 316 بالذكر لسر يأتي في باب البلاغة (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) الجملة تعليل لبيان سبب الإطعام وإنما كافّة ومكفوفة ونطعمكم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره نحن ومفعول به ولوجه الله متعلقان بنطعمكم وجملة لا نريد إلخ حالية ولا نافية ونريد فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ومنكم متعلقان بنريد وجزاء مفعول به ولا شكورا عطف عليه (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) تعليل لقوله إنما نطعمكم وإن واسمها وجملة نخاف خبرها وفاعل نخاف ضمير مستتر تقديره نحن ومن ربنا متعلقان بنخاف ويوما مفعول به وعبوسا نعت وقمطريرا نعت ثان ليوما (فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) الفاء عاطفة لبيان السبب أي فبسبب خوفهم وقاهم الله أي دفع عنهم شرّ ذلك اليوم ووطأته، ووقاهم فعل ماض ومفعول به مقدّم والله فاعل مؤخر وشر مفعول به ثان وذلك مضاف إليه واليوم بدل من اسم الإشارة ولقاهم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به ونضرة مفعول به ثان وسرورا عطف على نضرة (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) وجزاهم عطف أيضا وجزاهم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وبما متعلقان بجزاهم وما مصدرية أي بصبرهم وجنة مفعول به ثان وحريرا عطف على جنة. البلاغة: 1- في قوله: «إنّا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا» لما كان الشكر قلّ من يتّصف به قال شاكرا فعبّر عنه باسم الفاعل للدلالة على قلته، ولما كان الكفر كثيرا من يتّصف به ويكثر وقوعه من الإنسان قال كفورا فعبّر عنه بصيغة المبالغة. 2- وفي قوله: «ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 317 خصّ هؤلاء الثلاثة بالذكر لأن المسكين عاجز عن اكتساب قوته بنفسه واليتيم مات أبواه وهما اللذان يكتسبان وبقي عاجزا عن الكسب لصغره والأسير لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا ولا نصرا ولا حيلة، قال عطاء: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب وذلك أنه أجّر نفسه ليلة ليسقي نخلا بشيء من شعير حتى أصبح وقبض الشعير وطحنوا ثلثه فجعلوا منه شيئا ليأكلوه فلما تمّ نضجه أتى مسكين فأخرجوا له الطعام ثم صنع الثلث الباقي فلما تمّ نضجه أتى يتيم فأطعموه ثم الثالث فلما تمّ نضجه أتى أسير من المشركين فسأل فأطعموه وطووا يومهم ذلك فأنزل الله فيهم هذه الآيات. 3- في قوله «إنّا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا» مجاز إسنادي وقد تقدمت له نظائر كثيرة في هذا الكتاب، لأن وصف اليوم بالعبوس مجاز كما يقال نهاره صائم وليله قائم والمراد أهلهما. الفوائد: 1- «كان» في القرآن على خمسة أوجه: 1- بمعنى الأول والأبد نحو «وكان الله عليما حكيما» . 2- بمعنى المضي المنقطع نحو «وكان في المدينة تسعة رهط» . 3- بمعنى الحال نحو «كنتم خير أمة» . 4- بمعنى الاستقبال نحو «ويخافون يوما كان شره مستطيرا» . 5- بمعنى صار نحو «وكان من الكافرين» . 2- ولإما خمسة معان: 1- الشك نحو: جاءني إما زيد وإما عمرو إذا لم تعلم الجائي منهما. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 318 2- الإبهام نحو «وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم» أي إن الله تعالى عالم بحقيقة حالهم، وقصد الإبهام على السامع. 3- التخيير نحو «إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا» ولا يكون إلا بعد الطلب فيقدّر في الآية والأصل: يا ذا القرنين افعل فإما أن تعذب إلخ. 4- الإباحة نحو تعلّم إما فقها وإما نحوا. 5- التفصيل نحو: «إنّا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا» . [سورة الإنسان (76) : الآيات 13 الى 22] مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 319 اللغة: (زَمْهَرِيراً) في المختار: «الزمهرير: شدة البرد قلت: قال ثعلب الزمهرير أيضا القمر في لغة طيء وبه فسّر قوله تعالى: لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا أي فيها من الضياء والنور ما لا يحتاجون معه إلى شمس ولا قمر» . وعبارة أبي حيّان: «الزمهرير أشد البرد وقال ثعلب هو القمر بلغة طيء وأنشد قول الراجز: وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزمهرير ما ظهر وعبارة الزمخشري: «يعني أن هواءها معتدل لا حرّ شمس يحمي ولا شدّة برد تؤذي وفي الحديث: هواء الجنة سجسج لا حرّ ولا قرّ» . (قَوارِيرَا) القارورة إناء صاف توضع فيه الأشربة قيل ويكون من الزجاج. (زَنْجَبِيلًا) الزنجبيل قال الدينوري: نبت في أرض عمان عروق تسري وليس بشجر يؤكل رطبا وأجوده ما يحمل من بلاد الصين كانت العرب تحبه لأنه يوجب لذعا في اللسان إذا مزج بالشراب فيتلذذون به، قال الشاعر: كأن القرنفل والزنجبي ... ل باتا بفيها وأريا مشورا وقال المسيب بن علس: وكأن طعم الزنجبيل به ... إذ ذقته وسلافة الخمر والضمير في به يعود للفم وإذ ذقته أي حين ذقت ريقه فهو مجاز الجزء: 10 ¦ الصفحة: 320 وسلافة الخمر أول ما يعصر من العنب وقال آخرون: الزنجبيل: نبات له عروق تسري في الأرض ويتولد فيها عقد حريفة الطعم وتتفرع هذه العروق من نبت كالقصب. (سَلْسَبِيلًا) السلسبيل: ما سهل انحداره في الحلق وقال الزجّاج: «هو في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة» وقال الزمخشري: «يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية ودلّت على غاية السلاسة» وقال ابن الأعرابي: «لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن» وقال مكّي: «هو اسم أعجمي نكرة فلذلك صرف» ووزن سلسبيل مثل دردبيس وقيل فعفليل لأن الفاء مكررة وقرأ طلحة سلسبيل دون تنوين ومنعت من الصرف للعلمية والتأنيث لأنها اسم لعين بعينها وعلى هذا فكيف صرفت في قراءة العامة ويجاب بأنها سمّيت بذلك لا على جهة العلمية بل على جهة الإطلاق المجرد أو يكون من باب تنوين سلاسل وقوارير كما تقدم وكما سيأتي. (سُندُسٍ) السندس ما رقّ من الحرير ويكون أخضر وغير أخضر. (إِسْتَبْرَقٌ) الإستبرق: ما غلظ من الديباج فهو البطائن والسندس الظهائر. الإعراب: (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) متكئين حال من مفعول جزاهم ووهم أبو البقاء فأجاز أن تكون صفة لجنة ولا أدري كيف سبق هذا إلى وهمه وازداد عجبي عند ما رأيت الزمخشري يجيز ذلك قال: «ويجوز أن تجعل متكئين ولا يرون ودانية كلها صفات لجنة» وذلك مردود لعدم بروز الضمير ليكون نعتا سببيا فلم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 321 يقل متكئين هم فيها وفيها حال أي في الجنة وعلى الأرائك متعلقان بمتكئين وجملة لا يرون حال ثانية من مفعول جزاهم ولك أن تجعلها حالا من الضمير في متكئين فتكون حالا متداخلة كما يجوز لك أن تجعلها صفة لجنة كما قرر أبو البقاء والزمخشري وفيها متعلقان بيرون وشمسا مفعول ولا زمهريرا عطف على شمسا (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا) عطف على متكئين فيكون فيها ما فيها ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين يجتمعان لهم كأنه قيل وجزاهم جنة جامعين فيها بين السلامة من الحرّ والقرّ وبين دنو الظلال عليهم ولك أن تجعلها منصوبة عطفا على محل لا يرون وقال الزجّاج صفة لجنة الملفوظ بها أما أبو البقاء فأغرب إذ أعربها صفة لجنة محذوفة أي وجنة دانية وهو تكلّف وتحكم لا مبرر لهما. وعليهم متعلقان بدانية، ولا بدّ من تضمين على معنى من لأن الدنو لا يتعدى بعلى وإنما لم يقل منهم لأن الظلال عالية عليهم، والواو عاطفة وذللت فعل ماض مبني للمجهول وعطف على دانية وإنما خولف بعطف الفعلية على الاسمية للإشارة إلى أن التظليل أمر دائم لا يزول لأنها لا شمس فيها بخلاف التذليل فإنه أمر متجدد طارئ، وقطوفها نائب فاعل وتذليلا مفعول مطلق (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا) الواو عاطفة ويطاف فعل مضارع مبني للمجهول وعليهم متعلقان بيطاف وبآنية نائب مفعول لأنه هو المفعول به في المعنى ويجوز أن تكون عليهم هي النائبة وبآنية متعلقان بيطاف والآنية جمع إناء والأصل أأنية بهمزتين الأولى مزيدة للجمع والثانية فاء الكلمة فقلبت الثانية ألفا وجوبا وهذا نظير كساء وأكسية وغطاء وأغطية، ونظيره في الصحيح اللام حمار وأحمرة. ومن فضة نعت لآنية وأكواب عطف على آنية من عطف الخاص على العام وجملة كانت نعت لأكواب واسم كانت مستتر يعود على الأكواب وقواريرا خبر كانت ويجوز أن تكون كانت تامة فيكون قواريرا حالا أي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 322 كونت، وعبارة أبي البقاء: «ويقرأان بالتنوين وبغير التنوين والأكثرون يقفون على الأول بالألف لأنه رأس آية (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً) قوارير بدل من قواريرا الأولى وقد منعت من الصرف ومن فضة نعت لقوارير وجملة قدّرت نعت ثان وتقديرا مفعول مطلق وقرئ قوارير بالرفع على إضمار مبتدأ أي هي قوارير ومعنى التقدير أنها هيئت على قدر ريّ الشاربين أي شهوتهم لأنه لا ظمأ في الجنة من غير زيادة ولا نقص وذلك ألذ الشراب (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا) الواو عاطفة ويسقون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وفيها متعلقان بيسقون وكأسا مفعول به ثان وجملة كان صفة لكأسا ومزاجها اسم كان وزنجبيلا خبرها (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا) عينا بدل من زنجبيلا وقيل تمزج كأسهم بالزنجبيل بعينه أو يخلق الله طعمه فيها وعينا على هذا القول مبدلة من كأسا أو منصوبة على الاختصاص ولعلّ هذا هو الأرجح وعلى كل حال تطبق عليها الأوجه المطبقة على عينا الأولى وفيها نعت لعينا وجملة تسمى نعت ثان ونائب الفاعل مستتر تقديره هي وسلسبيلا مفعول به ثان (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) الواو عاطفة ويطوف فعل مضارع وعليهم متعلقان بيطوف وولدان فاعل ومخلدون نعت لولدان وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة رأيتهم في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة حسبتهم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وحسبتهم فعل ماض وفاعل ومفعول به ولؤلؤا مفعول به ثان ومنثورا نعت أي متفرقا، وفي المصباح «نثرته نثرا من بابي قتل وضرب رميت به متفرقا فانتثر» (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) الواو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط وجملة رأيت في محل جر بإضافة الظرف إليه ورأيت فعل وفاعل وليس له مفعول ظاهر ولا مقدّر لإشاعة الرؤية وتعميمها كأنه قيل: وإذا أوجدت الرؤية ثم، وثم ظرف مكان مختص الجزء: 10 ¦ الصفحة: 323 بالعبد متعلق بثم والمعنى وإذا صدرت منك الرؤية في ذلك المكان رأيت وجملة رأيت لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ونعيما مفعول رأيت الثانية وملكا كبيرا عطف على نعيما وقال الفراء ثم مفعول به لرأيت والتقدير وإذا رأيت ما ثم فحذفت ما وقامت ثم مقامها ولا داعي لهذا التكلّف (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) عاليهم: في إعرابه وجهان أحدهما أنه ظرف مكان لأنه بمعنى فوقهم وقد اعترض أبو حيان على هذا الإعراب فقال: «وعال وعالية اسم فاعل فيحتاج في كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولا من كلام العرب عاليك أو عاليتك ثوب» وهذا اعتراض مردود لأنه وردت ألفاظ من صيغ أسماء الفاعلين ظروفا نحو خارج الدار وداخلها وباطنها وظاهرها تقول جلست خارج الدار وكذا البواقي فكذلك هذا وإذا تقرر هذا فإن الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدّم وثياب سندس مبتدأ مؤخر وخضر نعت لثياب وإستبرق عطف على ثياب على حذف مضاف أي ثياب إستبرق وقرئ بجر إستبرق بالعطف على سندس لأن المعنى ثياب من سندس وثياب من إستبرق. والوجه الثاني وهو الذي جرى عليه الأكثرون أنه حال من الضمير في يطوف عليهم أو من مفعول حسبتهم أو من مضاف مقدّر أي رأيت أهل نعيم وملك كبير عاليهم، فعاليهم حال من أهل المقدّر، وقد ذكر الزمخشري هذا القول وعبارته: «وعاليهم بالنصب على أنه حال من الضمير في يطوف عليهم أو في حسبتهم أي يطوف عليهم ولدان عاليا للمطوف عليهم ثياب أو حسبتهم لؤلؤا عاليا لهم ثياب ويجوز أن يراد أهل نعيم» وقرئ عاليهم بسكون الياء وكسر الهاء على أنها خبر مقدّم وثياب مبتدأ مؤخر كأنه قيل فوقهم ثياب. أما نص إعراب أبي البقاء فهو «قوله تعالى: عاليهم فيه قولان أحدهما هو فاعل وانتصب على الحال من المجرور في عليهم وثياب سندس مرفوع به أي يطوف عليهم في حال علو السندس ولم يؤنث عاليهم لأن تأنيث الثياب غير حقيقي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 324 والقول الثاني هو ظرف لأن عاليهم جلودهم وفي هذا القول ضعف ويقرأ بسكون الياء إما على تخفيف المفتوح المنقوص أو على الابتداء والخبر ويقرأ عاليتهم بالتاء وهو ظاهر وخضر بالجر صفة لسندس وبالرفع لثياب وإستبرق بالجر عطف على سندس وبالرفع على ثياب» . ولا أدري كيف استساغ أبو البقاء أن يستضعف وجه الظرف والخطب فيه أهون من الحال لوروده معرفة مهما قيل في تأويله (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) عطف على ويطوف عليهم وساغ عطف الماضي على المضارع لأنه مستقبل المعنى وللإيذان بتحقيقه وحلّوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل وأساور مفعول به ثان وقيل نصب بنزع الخافض لأنهم يعدّونه إلى واحد ومن فضة نعت لأساور وسقاهم عطف على حلّوا وربهم فاعل وشرابا مفعول به ثان وطهورا نعت لشرابا (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) الجملة مقول قول محذوف أي يقال لأهل الجنة وإن واسمها وجملة كان خبرها ولكم متعلقان بجزاء واسم كان مستتر تقديره هو وجزاء خبرها وكان عطف على كان الأولى وسعيكم اسمها ومشكورا خبرها. [سورة الإنسان (76) : الآيات 23 الى 31] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 325 الإعراب: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا) إن واسمها ونحن ضمير فصل أو تأكيد لاسم إن وجملة نزلنا خبر إنّا وعليك متعلقان بنزلنا والقرآن مفعول به وتنزيلا مفعول مطلق ولك أن تجعل نحن مبتدأ فتكون جملة نزلنا خبر نحن والجملة خبر إن (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) الفاء الفصيحة أي إن عرفت هذا فاصبر، واصبر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولحكم ربك متعلقان باصبر والواو حرف عطف ولا ناهية وتطع فعل مضارع مجزوم بلا وفاعله مستتر تقديره أنت ومنهم حال وآثما مفعول به وأو حرف عطف وكفورا عطف على آثما وإنما جنح إلى «أو» دون الواو لإفهام النهي عن طاعتهما معا ولو عطف بالواو لأفهم جواز طاعة أحدهما وليس مرادا وعبارة الزجّاج: «أو هنا أوكد من الواو لأنك لو قلت لا تطع زيدا وعمرا فأطاع أحدهما كان غير عاص فإذا أبدلتها بأو فقد دللت على أن كل واحد منهما أهل أن يعصى» وعبارة أبي حيان: «والنهي عن طاعة كل واحد منهما أبلغ من النهي عن طاعتهما لأنه يستلزم النهي عن أحدهما لأن في طاعتهما طاعة أحدهما ولو قال لا تضرب زيدا وعمرا لجاز أن يكون نهيا عن ضربهما جميعا لا عن ضرب أحدهما، وقال أبو عبيدة «أو» بمعنى الواو والكفور وإن كان آثما فإن فيه مبالغة في الكفر ولما كان وصف الكفور مباينا للموصوف لمجرد الإثم صلح التغاير فحسن العطف» (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) عطف على ما تقدم واذكر فعل أمر واسم ربك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 326 مفعول به وبكرة وأصيلا ظرفان متعلقان باذكر والمراد الدوام على الصلاة في أوقاتها (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) ومن الليل متعلقان باسجد ومعنى من التبعيض أي اسجد وصل له بعض الليل، واسجد فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وله متعلقان باسجد أيضا وسبّحه فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وليلا ظرف متعلق بسبّحه وطويلا نعت (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا) الجملة تعليل لما قبلها من النهي والأمر وعبارة الشهاب الخفاجي: «هذا التعليل لما قبله من النهي والأمر في قوله ولا تطع إلى هنا فكأنه قال: لا تطعهم واشتغل بالأهمّ من العبادة لأن هؤلاء تركوا الآخرة للدنيا فاترك أنت الدنيا وأهلها للآخرة فالأول علّة للنهي عن طاعة الآثم والكفور والثاني علّة للأمر بالطاعة، وإن حرف مشبّه بالفعل وهؤلاء اسم إشارة مبني على الكسر في محل نصب اسمها وجملة يحبون خبرها والعاجلة مفعول به ويذرون عطف على يحبون ووراءهم ظرف مكان بمعنى قدّام متعلق بمحذوف حال من المفعول مقدم عليه ويوما مفعول به وثقيلا ظرف، وسيأتي معنى الثقل في باب البلاغة (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) نحن مبتدأ وجملة خلقناهم خبر وشددنا عطف على خلقناهم وأسرهم مفعول به أي قوينا أسرهم والأسر كما في القاموس «الشدة والغضب وشدة الخلق والخلق وشددنا أسرهم أي مفاصلهم» وفي المختار: «أسره من باب ضرب أي شدّه بالإسار بوزن الإزار وهو القدّ بالكسر وهو سير يقدّ من جلد غير مدبوغ ومنه سمي الأسير لأنهم كانوا يشدّونه بالقدّ فسمي كل مأخوذ أسيرا وإن لم يشدّ به وأسره الله خلقه وبابه ضرب ومنه: وشددنا أسرهم أي خلقهم والأسر بالضم احتباس البول كالحصر في الغائط وأسرة الرجل أهله لأنه يتقوى بهم» (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة شئنا في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة بدّلنا لا محل لها لأنها جواب شرط غير الجزء: 10 ¦ الصفحة: 327 جازم وأمثالهم مفعول به وتبديلا مفعول مطلق، ومفعول بدّلنا الثاني لأنها بمعنى جعلنا محذوف تقديره بدلا منهم. هذا وقد تورط الزمخشري ورطة كان له مندوحة عنها ذلك أنه قال «وحقه أن يؤتى بإن لا بإذا كقوله: وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم، إن يشأ يذهبكم» ولم يعقب على ذلك بشيء فأوهم أنه يعني ورود القرآن في تعبيره بإذا على خلاف الحق والواقع أن إذا وإن تتعاوران فقد قالوا: إن إذا للمحقق وإن للممكن وهو تعالى لم يشأ فالظاهر أن تستعمل إن لكنه قد توضع إذا موضع إن وإن موضع إذا كقوله: أفإن متّ فهم الخالدون (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا) إن واسمها والإشارة إلى السورة وتذكرة خبرها والفاء عاطفة ومن شرطية مبتدأ وشاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ومفعول شاء محذوف أي الخير لنفسه وحسن العاقبة واتخذ فعل ماض في محل جزم جواب الشرط وإلى ربه في موضع المفعول الثاني وسبيلا مفعول اتخذ الأول (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) الواو عاطفة وما نافية وتشاءون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والمفعول به محذوف أي الطاعة وإلا أداة حصر وأن يشاء الله المصدر المؤول في موضع نصب على الظرفية لأنه استثناء من أعمّ الظروف وأصله إلا وقت مشيئة الله وأجاز أبو البقاء أن يكون الاستثناء من أعمّ الأحوال فيكون المصدر حالا وإن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر وعليما خبرها الأول وحكيما خبرها الثاني (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) الجملة حالية من الله ويدخل فعل مضارع مرفوع وفاعله هو ومن مفعول به وجملة يشاء صلة من وفي رحمته متعلقان بيدخل، والظالمين: الواو عاطفة والظالمين منصوب بفعل مقدّر يفسّره ما بعده وقدّره أبو البقاء: ويعذب الظالمين، وجملة أعدّ مفسّرة ولهم متعلقان بأعدّ وعذابا مفعول به وأليما نعت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 328 البلاغة: في قوله «يوما ثقيلا» استعارة تصريحية، فقد استعير الثقل لشدة ذلك اليوم وهوله من الشيء الثقيل الباهظ لحامله ونحوه ثقلت في السموات والأرض. خطأ وقياس في غير محله: هذا ومن المضحك أن بعضهم علّق على قوله «وسبّحه ليلا طويلا» فقال هذه الآية رد على عدم ما قاله أهل علم المعاني والبيان إن الجمع بين الحاء والهاء مثلا يخرج الكلمة من فصاحتها وجعلوا من ذلك قول أبي تمام: كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي وإذا ما لمته لمته وحدي وهذا خطأ من الناقد الذي ظن أنه يبرئ القرآن الكريم من العيوب المخلّة بالفصاحة بشجبه لما قرره علماء البلاغة وقياس في غير محله فالفرق واضح بين الآية والشعر وهو أن تكرار أمدحه هو الذي أخرجه عن مهيع الفصاحة لا مجرد اجتماع الحاء والهاء، وإذن فالآية سليمة من تنافر الحروف قال الشيخ مخلوف الميناوي في حاشيته على شرح الشيخ أحمد الدمنهوري لمتن الإمام الأخضري: «فإن منشأ الثقل هو تكرار أمدحه دون مجرد الجمع لوقوعه بين الحاء والهاء في التنزيل نحو فسبّحه» . الفوائد: «إن» و «إذا» يشتركان في إفادة تعليق حصول الجزاء في المستقبل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 329 بحصول الشرط فيه، لكن أصل إن، أي موضع استعمالها الحقيقي، الشك في وقوع الشرط، قيل والتوهم وقيل وكذا المظنون. وأصل إذا الجزم بوقوعه، ولا تستعمل إن في غير الشك وإذا في غير الجزم إلا لنكتة، كما أنهما لا يدخلان على ماض من شرط أو جزاء إلا لنكتة ولو لتعليق حصول مضمون الجزاء بحصول مضمون الشرط. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 330 (77) سورة المرسلات مكيّة وآياتها خمسون [سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 19] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) الإعراب: (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) قال أبو حيان في النهر: «هذه السورة مكية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 331 ومناسبتها لما قبلها ظاهرة جدا وهي أنه ذكر أنه تعالى يرحم من يشاء ويعذب الظالمين وهذا وعد منه صادق فأقسم على وقوعه فقال إن ما توعدون لواقع ولما كان للمقسم به موصوفات قد حذفت وأقيمت صفاتها مقامها وقع الخلاف في تلك الموصوفات والذي يظهر أن المقسم به شيئان ولذلك جاء العطف بالواو في والناشرات والعطف بالواو يشعر بالتغاير وأما العطف بالفاء إذا كان في الصفات فيدل على أنها راجعة لموصوف واحد وإذا تقرر هذا فالظاهر أنه أقسم أولا بالرياح ويدل عليه عطف الصفة بالفاء والقسم الثاني فيه ترق إلى أشرف من المقسم به الأول وهم الملائكة ويكون قوله فالفارقات فالملقيات من صفاتهم وإلقاؤهم للذكر وهو ما أنزل الله تعالى صحيح إسناده إليهم وما ذكر من اختلاف المفسرين في المراد بهذه الأوصاف ينبغي أن يحمل على التمثيل لا على التعيين وجواب القسم وما عطف عليه إن ما توعدون وما موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف أي إن الذي توعدونه وهي اسم إن وقوله لواقع خبرها» وقد وطأنا بهذه اللمحة المفيدة جلاء للحقيقة ودفعا للالتباس الذي قد ينشأ عن اختلاف المفسرين ونعود بعدها إلى الإعراب. الواو للقسم والمرسلات مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم، وعرفا إما أن يكون من عرف الفرس وهو بضم العين أي شعر العنق للفرس فيعرب حالا من الضمير المستكن في المرسلات والمعنى على التشبيه أي حال كونها عرفا أي شبيهة بعرف الفرس من حيث تلاحقها وتتابعها كما أنه كذلك أو على أنه مصدر كأنه قال والمرسلات إرسالا أي متتابعة، وإما أن يكون من العرف وهو المعروف على حدّ قول الحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس وانتصابه على أنه مفعول من أجله أي أرسلت للإحسان والمعروف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 332 أو منصوب بنزع الخافض (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) الفاء عاطفة للتعقيب والعاصفات عطف على المرسلات وهي اسم فاعل من العصف بمعنى الشدّة وفي المصباح: «عصفت الريح عصفا من باب ضرب وعصوفا أيضا اشتدت» وعصفا مصدر مؤكد فهو مفعول مطلق (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) والناشرات عطف أيضا ونشرا مفعول مطلق، فالفارقات عطف أيضا وفرقا مفعول مطلق فالملقيات عطف أيضا وذكرا مفعول به للملقيات أي للملائكة تنزل بالوحي إلى الأنبياء (عُذْراً أَوْ نُذْراً) هما مصدران من عذر إذا محا الإساءة ومن أنذر إذا خوف على الكفر كالكفر والشكر، وهما منصوبان على أنهما مفعول من أجله، وأجاز الزمخشري أن ينتصبا على البدل من ذكرا، وعبارة أبي البقاء: «وفي عذرا أو نذرا وجهان أحدهما: هما مصدران يسكن أوسطهما ويضم والثاني هما جمع عذير ونذير فعلى الأول ينتصبان على المفعول له أو على البدل من ذكرا وعلى الثاني هما حالان من الضمير في الملقيات أي معذرين ومنذرين» (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) الجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وإن حرف مشبّه بالفعل وما اسم موصول اسم إن وجملة توعدون صلة واللام المزحلقة وواقع خبر إن والعائد محذوف أي إن الذي توعدونه (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) الفاء استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط والنجوم نائب فاعل لفعل محذوف يفسره ما بعده وجملة طمست مفسّرة لا محل لها وفي جواب إذا قولان: أحدهما أنه محذوف تقديره فإذا طمست النجوم وقع ما توعدون لدلالة قوله إنما توعدون لواقع والثاني أنه لأي يوم أجلت على إضمار القول أي يقال لأي يوم أجلت فالفعل في الحقيقة هو الجواب، ومعنى طمست محيت ومحقت وذهب نورها (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) جمل معطوفة على جملة فإذا النجوم طمست ومعنى فرجت فتحت فكانت أبوابا ومعنى نسفت تفتتت كالرمل السائل ثم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 333 يطيرها الريح، وفي المصباح «نسفت الريح التراب نسفا من باب ضرب اقتلعته وفرقته» ومعنى أقتت وقتت وقد قرئ بهما أي جمعت لوقت معلوم قال الزجاج المراد بهذا التأقيت أو التوقيت تبيين الوقت الذي فيه يحضرون للشهادة على أممهم والواو إذا انضمت جاز جعلها همزة، وقال المبرد في كامله «قال الله عزّ وجلّ: وإذا الرسل أقتت والأصل وقتت ولو كان في غير القرآن لجاز إظهار الواو إن شئت» (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ) لأي يوم متعلق بأجلت أي أجلت لأي يوم والجملة مقول قول محذوف في محل نصب على الحال من مرفوع أقتت أي يقال لأي يوم أجلت أو لا محل لها لأنها جواب إذا كما تقدم وليوم الفصل بدل من لأي يوم بإعادة العامل ولك أن تعلقه بفعل محذوف أي أجلت ليوم الفصل (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) الواو عاطفة وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة أدراك خبرها والكاف مفعول به أول وقوله ما يوم الفصل جملة من مبتدأ وهو ما الاستفهامية وخبر وهو يوم الفصل سادّة مسدّ المفعول الثاني لإدراك المعلقة بالاستفهام والاستفهام الأول معناه الاستبعاد والإنكار والثاني للتعظيم والتهويل (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ويل مبتدأ سوّغ الابتداء به ما فيه من معنى الدعاء، وعبارة الزمخشري: «فإن قلت كيف وقع النكرة مبتدأ في قوله ويل يومئذ للمكذبين؟ قلت هو في أصله مصدر منصوب سادّ مسدّ فعله ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على ثبات معنى الهلاك ودوامه للمدعوّ عليهم، ونحوه سلام عليكم ويجوز ويلا بالنصب ولكنه لم يقرأ به» ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله وهو متعلق بويل أو صفة له والتنوين عوض عن جمل محذوفة تقتبس من السياق والتقدير يوم إذ طمست نجوم وكان ما بعدها، وللمكذبين خبر ويل (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) الهمزة للاستفهام التقريري لأن الاستفهام في الأصل إنكاري وقد دخل على نفي ونفي النفي إثبات ويعبّر عنه بالاستفهام التقريري الجزء: 10 ¦ الصفحة: 334 ولم حرف نفي وقلب وجزم ونهلك فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره نحن والأولين مفعول به وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ونتبعهم فعل مضارع مرفوع استئنافا أي ثم نحن نتبعهم والآخرين مفعول به ثان (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) كذلك نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الفعل الفظيع نفعل وبالمجرمين متعلقان بنفعل وويل يومئذ للمكذبين تقدم إعرابها وسيأتي سر تكرارها في باب البلاغة. البلاغة: تكررت آية «ويل يومئذ للمكذبين» في هذه السورة عشر مرات والسر فيها زيادة الترهيب، والتكرار في مقام الترغيب والترهيب مستساغ حسن لا سيما إذا تغايرت الآيات السابقات على المرات المكررة كما هنا. الفوائد: لا يجوز عطف «نتبعهم» على «نهلك» لأن العطف يوجب أن يكون أهلكنا الأولين لأن لم حرف نفي وقلب وجزم فيكون المعنى ثم أتبعناهم الآخرين في الهلاك وليس الأمر كذلك لأن هلاك الآخرين لم يقع بعد. [سورة المرسلات (77) : الآيات 20 الى 34] أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 335 اللغة: (فَقَدَرْنا) بالتخفيف من القدرة وقرئ بالتشديد من التقدير ويدل على الأول فنعم القادرون وفي القرطبي: «قرأ نافع والكسائي فقدرنا بالتشديد وخفّف الباقون وهما لغتان بمعنى فقدرنا بالتخفيف» وفي المصباح «قدرت الشيء قدرا من بابي ضرب وقتل وقدّرته تقديرا بمعنى والاسم القدر بفتحتين» وقوله فاقدروا له أي قدروا عدد الشهر فكملوا شعبان ثلاثين يوما. (كِفاتاً) قال الجلال «مصدر كفت بمعنى ضم» قال في القاموس: «كفته يكفته صرفه عن وجهه فانكفت والشيء إليه ضمّه وقبضه ككفّته والطائر وغيره كفتا وكفاتا وكفيتا وكفتانا أسرع في الطيران والعدو» فهل كانت كفاتا مصدر كفت بمعنى ضم المتعدية أم مصدر كفت الطائر اللازمة؟! إن كلام صاحب القاموس موهم، وقال في القاموس بعد ذلك: «والكفات بالكسر الموضع يكفت فيه الشيء أي يضم ويجمع والأرض كفات لنا» وعلى هذا جرى الزمخشري وأبو حيان، وقد ردّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 336 المفسرون على الجلال لأن كفت من باب ضرب فالحق أنه اسم مكان وفي المختار: «كفته ضمّه إليه وبابه ضرب والكفات بالكسر الموضع الذي يكفت فيه شيء أي يضم ويجمع والأرض كفات لنا» وعبارة السمين «الكفات اسم للوعاء الذي يكفت فيه الشيء أي يجمع يقال كفته يكفته أي جمعه وضمه» إلى أن قال: «وقيل كفاتا جمع كافت كصيام وقيام في جمع صائم وقائم وقيل بل هو مصدر كالكتاب والحساب» وسيأتي مزيد من هذا التقرير في باب الإعراب. (كَالْقَصْرِ) من البناء في عظمه وارتفاعه. (جِمالَتٌ) بكسر الجيم جمع جمل والتاء لتأنيث الجمع يقال جمل وجمال وجمالة نحو ذكر وذكار وذكارة وحجر وحجار وحجارة وقيل هو اسم جمع كالذكارة والحجارة وقرئ جمالات ويجوز أن يكون جمعا لجمالة وأن يكون جمعا لجمال فيكون جمع الجمع ويجوز أن يكون جمعا لجمل كقوله: رجالات قريش، وسيأتي مزيد من هذا التقرير في باب البلاغة. الإعراب: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ونخلقكم فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به ومن ماء متعلقان بنخلقكم ومهين نعت لماء ومن الابتدائية إشارة إلى أنه تعالى قادر على الابتداء والقادر على الابتداء قادر على الإعادة (فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) الفاء عاطفة وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به وفي قرار في موضع المفعول الثاني ومكين نعت لقرار أي مكان يحفظ فيه المني من الآفات المفسدة له الجزء: 10 ¦ الصفحة: 337 كالهواء، والقرار هو الرحم (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) إلى قدر الجار والمجرور في موضع الحال أي مؤخرا إلى قدر معلوم، ومعلوم نعت لقدر (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) الفاء عاطفة وقدرنا فعل وفاعل والفاء عاطفة ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح والقادرون فاعل والمخصوص بالمدح محذوف أي نحن (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تقدم إعرابها (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً) الهمزة للاستفهام الإنكاري التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ونجعل فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره نحن والأرض مفعول به أول وكفاتا مفعول به ثان لنجعل لأنها للتصيير وأحياء وأمواتا منصوبان على أنهما مفعولان به لكفاتا إن تقرر أن كفاتا مصدر، أو جمع كافت لأنه اسم فاعل، وإن لم يكن مصدرا بل اسم موضع فيكون نصبهما بفعل مضمر يدل عليه كفاتا تقديره تكفت والمعنى تكفت أحياء على ظهرها وأمواتا في بطنها وعبارة أبي حيان: «وانتصب أحياء وأمواتا بفعل يدل عليه ما قبله أي يكفت أحياء على ظهرها وأمواتا في بطنها» وقال الزمخشري «ويجوز أن يكون المعنى تكفتكم أحياء وأمواتا فينتصبا على الحال من الضمير لأنه قد علم أنها كفات الإنس» (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) الواو حرف عطف وجعلنا فعل وفاعل وفيها متعلقان بجعلنا إن كانت بمعنى خلقنا وفي موضع المفعول الثاني إن كانت جعلنا بمعنى صيّرنا ورواسي مفعول جعلنا وشامخات صفة لرواسي وأسقيناكم عطف على جعلنا وماء مفعول به ثان وفراتا نعت لماء، والفرات العذب (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تقدم إعرابها (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) الجملة مقول قول محذوف مستأنف وانطلقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وإلى ما متعلقان بانطلقوا وجملة كنتم لا محل لها لأنها صلة ما وكان واسمها وبه متعلقان بتكذبون وجملة تكذبون خبر كنتم والعائد الضمير في به (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) انطلقوا توكيد لانطلقوا الأول الجزء: 10 ¦ الصفحة: 338 وإلى ظل متعلقان بانطلقوا وذي ثلاث شعب نعت لظل، وسيأتي مزيد من هذا المعنى في باب البلاغة (لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ) لا نافية وظليل نعت منفي لأن الظل لا يكون إلا ظليلا فنفيه عنه للدلالة على أنه جعله ظلا تهكما بهم وسخرية منهم، ولا يغني من اللهب عطف على المنفي، ويغني فعل مضارع وفاعله هو الظل ومن اللهب متعلقان بيغني والجملة في محل جر أي غير مغن عنهم من حرّ اللهب شيئا (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) الجملة بمثابة التعليل لعدم غناء الظل غير الظليل وإن واسمها والضمير يعود إلى جهنم لأن الحديث عنها وجملة ترمي خبر إن وبشرر متعلقان بترمي والشرر ما تطاير منها تقول: نار ذات شرار وشرر وطارت منها شرارة وشررة، وكالقصر نعت لشرر أي كل شررة كالقصر من القصور في عظمها، وسيأتي المزيد من هذا التشبيه في باب البلاغة (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) الجملة نعت ثان لشرر وكأن واسمها وجمالة خبرها وصفر نعت لجمالة (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تقدم إعرابها. البلاغة: 1- في قوله «أحياء وأمواتا» التنكير، فقد نكرهما مع أنها تكفت الأحياء والأموات جميعا للتفخيم كأنه قيل أحياء لا يعدّون وأمواتا لا يحصون على أن أحياء الإنس وأمواتهم ليسوا بجميع الأحياء والأموات. 2- ونكر رواسي شامخات وماء فراتا لإفادة التبعيض لأن في السماء جبالا قال الله تعالى: «وينزل من السماء من جبال فيها من برد» وفيها ماء فرات كثير بل هي منبعه ومصبّه. 3- وفي قوله: «انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب» فن طريف من فنون البلاغة أطلق عليه الأقدمون اسم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 339 «العنوان» وقد تقدمت الإشارة إليه في هذا الكتاب وأنه عبارة عن أن يأخذ المتكلم في غرض له من وصف أو فخر أو مدح أو عتاب أو هجاء أو غير ذلك من الفنون ثم يأتي بقصد تكميله بأمثلة من ألفاظ تكون عنوانا لأخبار متقدمة وقصص سالفة، ومن نوع عظيم جدا وهو ما يكون عنوانا للعلوم وذلك أن تذكر في الكلام ألفاظ تكون بمثابة مفاتيح لعلوم ومداخل لها، وهذه الآية التي نحن بصددها من أصدق الدلائل على ذلك فإن قوله: «ظل ذي ثلاث شعب» عنوان للعلم المنسوب إلى إقليدس وهو فيلسوف يوناني وضع كتابا في علم الهيئة والهندسة والحساب ونقله إلى العربية الحجاج بن يوسف الكوفي وعلم الهندسة في الإسكندرية على أيام بطليموس ووضع مبادئ علم الهندسة السطحية وله كتاب الأصول أيضا شرحه ناصر الدين الطوسي وتوفي سنة 283 فإن الشكل المثلث أول الأشكال وهو أصلها ومنه تتركب بقية الأشكال وهو شكل إذا نصب في الشمس كيفما نصب على أي ضلع كان من أضلاعه لا يكون له ظل لتحديد رؤوس زواياه، فأمر الله سبحانه هؤلاء الجهنميين بالانطلاق إلى ظل هذا الشكل تهكما بهم وسخرية منهم. 4- التشبيه، فقد شبّه سبحانه الشرر بالقصر في عظمه وكبره وشبّهه ثانيا بالجمالة الصفر في الهيئة واللون والكثرة والتتابع وسرعة الحركة، وننقل هنا فصلا طريفا للزمخشري ثم نعقب عليه بإيجاز، قال في الكشاف: «شبّهت بالقصور ثم بالجمال لبيان التشبيه، ألا تراهم يشبّهون الإبل بالأفدان والمجادل» أي القصور جمع فدن ومجدل وكلاهما بمعنى القصر كما في الصحاح ثم قال: «وقرئ جمالات بالضم وهي قلوس الجسور وقيل قلوس سفن البحر الواحدة جمالة» والقلوس جمع قلس وهو حبل ضخم من قلوس السفن ثم قال: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 340 «وقيل: صفر لإرادة الجنس وقيل صفر سود تضرب إلى الصفرة وفي شعر عمران بن حطّان الخارجي: دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم ... بمثل الجمال الصفر نزاعة للشوى وقال أبو العلاء: حمراء ساطعة الذوائب في الدجى ... ترمي بكل شرارة كطراف فشبّهها بالطراف وهو بيت الأدم، في العظم والحمرة، وكأنه قصد بخبثه أن يزيد على تشبيه القرآن، ولتبجحه بما سوّل له من توهم الزيادة جاء في صدر بيته بقوله «حمراء» توطئة لها ومناداة عليها، وتنبيها للسامعين على مكانها، ولقد عمي، جمع الله له عمى الدارين، عن قوله عزّ وجلّ: «كأنه جمالات صفر» فإنه بمنزلة قوله: كبيت أحمر، على أن في التشبيه بالقصر وهو الحصن تشبيها من جهتين: من جهة العظم، ومن جهة الطول في الهواء، وفي التشبيه بالجمالات وهي القلوس تشبيه من ثلاث جهات من جهة العظم، والطول، والصفرة، فأبعد الله إغرابه في طرافه، وما نفخ به شدقيه من استطرافه» . وذكر صاحب نسمة السحر عن الزمخشري عند قوله تعالى: «إنها ترمي بشرر كالقصر» أنه ذكر بيت أبي العلاء في صفة نار القرى من القصيدة الفائية التي رثى بها النقيب أبا أحمد الموسوي والد الشريف الرضي والمرتضى وهو: حمراء ساطعة الذوائب في الدجى ... ترمي بكلّ شرارة كطراف وحمي عليه وقال: إنه أراد وقصد الزيادة على تشبيه القرآن العظيم بالقصر، قال: ولا أدري من أين له أنه قصد الزيادة على تشبيه القرآن فمن المعلوم أن القصر أعظم من الطراف، وهي خيمة من الأدم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 341 الأحمر يتخذها الأتراك البادون ومياسير العرب ولكن الزمخشري مع فضله كان حديد المزاج كثيرا» . أقول: والزمخشري- رحمه الله- يتحكك بأبي العلاء في مواطن كثيرة وهو- كما نرى في نقده لبيت المعرّي الجميل- ظاهر التجانف والميل وقد تعودنا من الزمخشري أن يعرض لخصوم المعتزلة، وليس أبو العلاء منهم، ولكن الزمخشري كان رجلا أديبا قرأ رسائل المعرّي ووطن لموقفه من النحاة فحمله كرهه على التحرّش به. وهذه الخصومة النحوية قد جنت على أبي العلاء فإن النحاة أهملوا شعره وندر جدا أن تعرضوا له بشرح أو استشهاد أو نقد وقد عنوا بشعر أبي تمام والمتنبي لما فيهما من تصرّف في اللغة وفي الأساليب النحوية وقد كان في شعر أبي العلاء وما يغريهم بدرسه ولكنهم أعرضوا عنه، وقد مرّ في هذا الكتاب نقد أبي العلاء للنحاة فجدّد به عهدا. فأما تشبيه الإبل بالأفدان وهي القصور فكثير جدا في شعرهم قال عنترة: فوقفت فيها ناقتي فكأنها ... فدن لأقضي حاجة المتلوم والمعرّي استهواه وصف الإبل فحاول اقتفاء آثارهم ولكنه أغرب في ذلك إغرابا شديدا كقوله من قصيدة له في سقط الزند يخاطب بها خازن دار العلم ببغداد: وحرف كدال تحت ميم ولم يكن ... براء يؤم الرسم غيره النقط فالحرف الناقة والدال تشبيه لها والميم الراكب المنحني من جهة التشبيه لا من جهة التفسير اللغوي والرائي ضارب الرئة من رآه إذا أصاب رئته والرسم أثر الديار والنقط المطر وإنما استطردنا إلى هذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 342 لنعرض لإغراب المعري الذي لم يعد الزمخشري الحقيقة في نقده. [سورة المرسلات (77) : الآيات 35 الى 50] هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) الإعراب: (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان الحالة في ذلك اليوم وهذا مبتدأ ويوم خبره وجملة لا ينطقون في محل جر بإضافة الظرف إليها وقرئ بفتح الميم وهو نصب على الظرف وهو متعلق بمحذوف خبر هذا والواو حرف عطف ولا نافية ويؤذن فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو ولهم متعلقان بيؤذن والفاء حرف عطف ويعتذرون فعل مضارع معطوف على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 343 يؤذن منتظم في سلك النفي من غير تسبب عنه ولهذا لم ينصب لأنه لو نصب لكان مسببا عنه لا محالة، وعبارة السمين: «وفي رفع فيعتذرون وجهان: أحدهما أنه مستأنف أي فهم يعتذرون، قال أبو البقاء: ويكون المعنى أنهم لا ينطقون نطقا ينفعهم أو ينطقون في بعض المواقف ولا ينطقون في بعضها والثاني أنه معطوف على يؤذن فيكون منفيا ولو نصب لكان مسببا عنه» وقال البيضاوي: عطف يعتذرون على يؤذن ليدل على نفي الإذن والاعتذار عقبه مطلقا ولو جعله جوابا لدلّ على أن عدم اعتذارهم لعدم الإذن وأوهم ذلك أن لهم عذرا لكن لم يؤذن لهم فيه (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تقدم إعرابها (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) الجملة مقول قول محذوف أي ويقال لهم هذا، وهذا مبتدأ، ويوم الفصل خبره وجملة جمعناكم مفسّرة موضّحة لقوله هذا يوم الفصل لأنه إذا كان يوم الفصل بين السعداء والأشقياء وبين الأنبياء وأممهم فلا بدّ من جمع الأولين والآخرين حتى يقع ذلك الفصل بينهم والواو عاطفة أو للمعية والأولين معطوف على الكاف أو مفعول معه (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) الفاء عاطفة وإن شرطية وكان فعل ماض ناقص ولكم خبرها المقدم وكيد اسمها المؤخر والفاء رابطة لجواب الشرطية لأنه جملة طلبية وكيدون فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية وياء المتكلم المحذوفة مفعول به (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تقدم إعرابها (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) كلام مستأنف مسوق لذكر أحوال المؤمنين على سبيل الإيجاز بعد أن ذكر أحوال الكفّار على سبيل الإطناب ليتم التعادل بين هذه السورة والسورة التي قبلها وهي هل أتى على الإنسان فقد ذكر في تلك السورة أحوال الكفار على سبيل الإيجاز وأطنب في ذكر أحوال المؤمنين، وإن واسمها وفي ظلال خبرها وعيون عطف على ظلال (وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) عطف على ظلال وعيون ومما نعت لفواكه وجملة يشتهون لا محل لها لأنها صلة (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 344 بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الجملة مقول قول محذوف وهذا المقول في محل نصب على الحال من ضمير المتقين في الظرف الذي هو في ظلال أي هم مستقرون في ظلال مقولا لهم ذلك وهنيئا تقدم إعرابها كثيرا أي حال أي متهنئين وبما متعلقان بهنيئا والباء سببية وما موصولة وجملة كنتم صلة وكان واسمها وجملة تعملون خبرها (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) تعليل للأمر بالأكل والشرب أي أن ذلك ديدننا ودأبنا نكافىء المحسن على إحسانه كما نجزي المسيء على مساءته، وإن واسمها وكذلك نعت مقدّم لمصدر محذوف وجملة نجزي خبر إنّا والمحسنين مفعول به (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تقدم إعرابها (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) الجملة مقول قول محذوف وهذا المحذوف في محل نصب على الحال من المكذبين أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم كلوا وتمتعوا وكلوا فعل أمر مبني على حذف النون وتمتعوا عطف عليه وقليلا منصوب على الظرف الزمانية والتي لا تلبث أن تنتهي بموتكم ودثوركم وهو على كل حال ومهما امتد وأنسئ فيه قليل زائل، ووشيك مسرع، إذا ما قيس إلى مدد الآخرة وأيامها الطويلة، وجملة إنكم مجرمون تعليل للتهديد المفهوم من الأمر بالأكل والتمتع بظل زائل، ولون حائل، وسراب غرار، وإن واسمها ومجرمون خبرها. وعبارة الكشاف: «فإن قلت: كيف يصحّ أن يقال لهم ذلك في الآخرة؟ قلت: يقال لهم ذلك في الآخرة إيذانا بأنهم كانوا في الدنيا أحقاء بأن يقال لهم وكانوا من أهله تذكيرا بحالتهم السمجة وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم والملك الخالد وفي طريقته قوله: إخوتي لا تبعدوا أبدا ... وبلى والله قد بعدوا يريد كنتم أحقاء في حياتكم بأن يدعى لكم بذلك وعلّل ذلك بكونهم مجرمين دلالة على أن كل مجرم ما له إلا الأكل والتمتع أياما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 345 قلائل ثم البقاء في الهلاك أبدا ويجوز أن يكون كلوا وتمتعوا كلاما مستأنفا خطابا للمكذبين في الدنيا» أي فيكون راجعا إلى ما قبل قوله إن المتقين وإلى هذا ذهب الجلال وأيده القرطبي وأبو حيان (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تقدم إعرابها (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) الواو عاطفة متصلة بقوله للمكذبين كأنه قيل ويل للذين كذبوا والذين إذا قيل لهم اركعوا أو بقوله إنكم مجرمون على طريق الالتفات كأنه قيل هم أحرياء بأن يقال لهم كلوا وتمتعوا ثم بكونهم مجرمين وبكونهم إذا قيل لهم صلّوا لا يصلّون. وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة قيل في محل جر بإضافة الظرف إليها ولهم متعلقان بقيل وجملة اركعوا مقول القول وجملة لا يركعون لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تقدم إعرابها (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) الفاء الفصيحة أي إن لم يؤمنوا بالقرآن فيؤمنون بأي شيء؟ وبأي متعلقان بيؤمنون وحديث مضاف إليه وبعده ظرف متعلق بمحذوف نعت لحديث ويؤمنون فعل مضارع مرفوع. البلاغة: 1- في قوله: «إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون» مجاز مرسل علاقته المحلية وهي الجنة لأن الظلال تمتد والعيون تجري والفواكه تنضج فيها. 2- وفي قوله: «وإذا قيل لهم اركعوا» مجاز مرسل أيضا علاقته البعضية لأنه سمّى الصلاة باسم جزء من أجزائها وهو الركوع وإنما خصّ الركوع بالذكر مع أن الصلاة تشتمل على أفعال كثيرة لأن العرب كانوا يأنفون من الركوع والسجود، قال مقاتل: نزلت في ثقيف قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم حطّ عنّا الصلاة فإنّا لا ننحني إنها مسبّة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 346 فأبى وقال: لا خير في دين لا صلاة فيه، وفي رواية لا ركوع فيه ولا سجود. الفوائد: قال النحاة: في نحو «ما تأتينا فتحدّثنا» يجوز في الثاني النصب والرفع فالنصب من وجهين يجمعهما أن الثاني مخالف للأول فأحد المعنيين ما تأتينا محدّثا والوجه الآخر ما تأتينا فكيف تحدّثنا، وأما الرفع فعلى وجهين أحدهما أن يكون الفعل شريكا للأول داخلا معه في النفي كأنك قلت: ما تأتينا وما تحدّثنا فهما جملتان منفيتان والوجه الثاني أن يكون معنى ما تأتينا فتحدّثنا أي ما تأتينا فأنت تحدّثنا، قال تعالى: هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون أي فلا يعتذرون، ومنه قول جميل بن معمر العذري: ألم تسأل الربع القواء فينطق ... وهل يخبرنك اليوم بيداء سملق فقد قطع ينطق مما بعده ورفعه على الاستئناف أي فهو ينطق على كل حال قال سيبويه: «لم يجعل الأول سبب الآخر ولكنه جعله ينطق على كل حال» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 347 (78) سورد النبإ مكيّة وآياتها أربعون [سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) اللغة: (سُباتاً) راحة لأبدانكم وفي المختار: «السبات النوم وأصله الراحة ومنه قوله تعالى: وجعلنا نومكم سباتا وبابه نصر» وفي المصباح: «والسبات بالضم كغراب: النوم الثقيل وأصله الراحة يقال منه سبت يسبت من باب قتل وسبت بالبناء للمفعول غشي عليه وأيضا مات» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 348 وعبارة الزمخشري: «سباتا موتا والمسبوت الميت من السبت وهو القطع لأنه مقطوع عن الحركة والنوم أحد التوفيين وهو على بناء الأدواء» أما أبو حيان فقال «والسبات علّة معروفة يفرط على الإنسان السكوت حتى يصير قاتلا» . (الْمُعْصِراتِ) المعصر: قال الفراء: السحاب الذي يجلب المطر ولما يجتمع مثل الجارية المعصر قد كادت تحيض ولما تحض، وقال نحوه ابن قتيبة وقال أبو النجم العجلي: تمشي الهوينى مائلا خمارها ... قد أعصرت أو قد دنا إعصارها وقال عمر بن أبي ربيعة: فكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر (ثَجَّاجاً) الثج: الانصباب بكثرة وشدة وفي الحديث: «أحب العمل إلى الله العج والثج فالعج رفع الصوت بالتلبية والثج إراقة دماء الهدي، ويقال ثج الماء بنفسه أي انصبّ وثججته أنا أي صببته ثجا وثجوجا فيكون لازما ومتعديا، وفي المختار: «ثج الماء والدم سال وبابه رد ومطر ثجاج أي منصب جدا والثج أيضا سيلان دماء الهدي وهو لازم تقول منه: ثج الدم يثج بالكسر ثجا بالفتح، قلت: وقد نقل الأزهري عن أبي عبيدة مثل هذا» . (أَلْفافاً) ملتفة وفي الأساس «لفّ الثوب وغيره ولفّ الشيء في ثوبه ولففه ولفّ رأسه في ثيابه والتفّ في ثيابه وتلفف والتفّ النبت وفي الأرض تلافيف من عشب، وجنات ألفافا: ملتفة وبه لفف من الأشجار قال الطرماح: ولقد عرتني منك جدوى أنبتت ... خضرا إلى لفف من الأشجار الجزء: 10 ¦ الصفحة: 349 ورجل ألف وامرأة لفّاء وقد لفّت تلفّ لففا وهو تداني الفخذين من السمن وهو عيب في الرجل مدح في المرأة، قال نصر بن سيار ملك خراسان: ولو كنت القتيل وكان حيّا ... تشمّر لا ألفّ ولا سؤوم وقال يصف نساء: عراض القطا ملتفة ربلاتها ... وما اللفّ أفخاذا بتاركة عقلا» وقال الزمخشري: «ألفافا: ملتفة لا واحد له وقيل الواحد لفّ بكسر اللام» فيكون نحو سر وأسرار وقيل أنه جمع لفيف قاله الكسائي ومثله شريف وأشراف وشهيد وأشهاد. الإعراب: (عَمَّ يَتَساءَلُونَ، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) عن حرف جر وما اسم استفهام مجرور بعن وقد تقدم حذف ألف ما في الاستفهام إذا دخل عليها حرف جر في الأكثر وقرئ عمّا بإثبات الألف وقد تقدم أنه يجوز ضرورة أو في قليل من الكلام، وعليه قول حسان بن ثابت: على ما قام يشتمني لئيم ... كخنزير تمرغ في رماد والظاهر أن عمّ متعلق بيتساءلون والاستفهام لتفخيم الشأن كأنه قال عن أيّ شيء يتساءلون ونحوه كقوله زيد ما زيد جعلته لانقطاع نظيره كأنه شيء خفي عليك فأنت تسأل عن جنسه وتفحص عن كنهه وجوهره تقول: ما الغول وما العنقاء؟ تريد أي شيء من الأشياء هذا ثم جرد للعبارة عن التفخيم حتى وقع في كلام الله تعالى الذي لا تخفى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 350 عليه خافية، وعن النبإ العظيم كلام مستأنف مسوق لبيان ذلك الشيء فهو متعلق بمحذوف دلّ عليه يتساءلون وليس صلة ليتساءلون لأن عم صلة أي يتساءلون عن النبإ العظيم فهو عطف بيان نحوي والذي صفة ثانية للنبإ وهم مبتدأ وفيه متعلقان بمختلفون ومختلفون خبر هم والجملة صلة الذي (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) ردع ووعيد للمتسائلين هزؤا وفيه معنى الوعيد والتهديد فالردع بكلمة كلا والوعيد بكلمة سيعلمون ومفعول سيعلمون محذوف تقديره ما يحلّ بهم وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وكلا سيعلمون تأكيد لفظي للجملة السابقة ولا يضر توسط حرف العطف، والنحويون يأبون إلا أن يكون عطفا وإن أفاد التأكيد ويمكن أن يجاب بأن ثمة تغايرا ملحوظا وهو أن الوعيد الثاني أشد من الأول وبهذا الاعتبار صار مغايرا لما قبله ولذا عطف بثم (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً) كلام مستأنف مسوق لبيان قدرته سبحانه على البعث وإيراد الدلائل عليه وذكر منها تسعة والوجه فيها أنه إذا كان قادرا على هذه الأشياء فهو بحكم البديهة قادر على البعث، والهمزة للاستفهام التقريري أي جعلنا الأرض مهادا ولم حرف نفي وقلب وجزم ونجعل فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره نحن والأرض مفعول به أول ومهادا مفعول به ثان لأن الجعل بمعنى التصيير ويجوز أن يكون بمعنى الخلق فيكون مهادا حالا مقدرة والجبال أوتادا عطف على الأرض مهادا (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) عطف على ما تقدم وخلقناكم فعل وفاعل ومفعول به وأزواجا حال أي متجانسين متشابهين ذكورا وإناثا (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) عطف أيضا وجعلنا فعل ماض وفاعل ونومكم مفعول جعلنا الأول وسباتا مفعول جعلنا الثاني (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) عطف أيضا والجملة مماثلة لما قبلها في الإعراب (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) عطف أيضا وهي مماثلة لما قبلها أيضا ومعاشا مصدر ميمي بمعنى المعيشة وقد وقع هنا ظرفا للزمان أي وقت معاش (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 351 سَبْعاً شِداداً) عطف أيضا وبنينا فعل ماض وفاعل وفوقكم ظرف متعلق ببنينا وسبعا مفعول به أي سبع سموات وشدادا صفة (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) عطف أيضا وسراجا مفعول جعلنا ووهاجا صفة والجعل هنا بمعنى الخلق (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) عطف أيضا وأنزلنا فعل وفاعل ومن المعصرات متعلقان بأنزلنا وماء مفعول به وثجاجا صفة (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً) اللام لام التعليل ونخرج فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وهي متعلقة بأنزلنا أيضا وبه متعلقان بنخرج وحبا مفعول نخرج ونباتا عطف على حبا (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) عطف على حبا وعلامة نصبه الكسرة لأنه جمع مؤنث سالم وألفافا نعت لجنان أي بساتين ملتفة. البلاغة: في قوله «وجعلنا الليل لباسا» تشبيه بليغ، ووجه الشبه الستر لأن كلّا من اللباس والليل يستر المتلبس به أي يستركم عن العيون إذا أردتم النجاة بأنفسكم من عدو يلاحقكم أو بياتا له إذا أردتم إنزال الوقيعة به في منأى عن العيون أو يعينكم على إخفاء ما لا ترغبون في أن يطّلع عليه أحد، وقد رمق أبو الطيب هذه السماء العالية كعادته فقال: وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبر أن المانوية تكذب وقال رد الأعداء تسري إليهم ... وزارك فيه ذو الدلال المحجب والمانوية نسبة إلى ماني مؤسّس مذهب المانوية بمبدأين بالوجود مبدأ الخير ومبدأ الشر: النور والظلام، دخل ماني في التصوير الفارسي ونسق التصوير الصيني ورسم الملائكة والشياطين وتوفي سنة 276 م وإيضاح مسألة المانوية أنهم قالوا: تجد في العالم خيرا كثيرا وشرا كثيرا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 352 والواحد لا يكون خيّرا شريرا، فكلّ من الخير والشر فاعل مستقل، قالوا فاعل الخير هو النور وفاعل الشر هو الظلمة فاعتقدوا أنهما جسمان قديمان حسّاسان سميعان بصيران وكل ذلك ظاهر البطلان. وقال أبو الطيب أيضا متشبثا بأهداب هذه البلاغة العالية: أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري وقال ابن زيدون: سرّان في خاطر الظلماء يكتمان ... حتى يكاد لسان الصبح يغشينا [سورة النبإ (78) : الآيات 17 الى 40] إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 353 اللغة: (سَراباً) السراب: ما يشاهد نصف النهار من اشتداد الحر كأن ماء تنعكس فيه البيوت والأشجار وغيرها، ويضرب به المثل في الكذب والخداع يقال «هو أخدع من السراب» يعني أنها تصير شيئا كلا شيء لتفرّق أجزائها وانبثاث جواهرها كقوله تعالى: «فانت هباء منبثا» ، وسيأتي المزيد من معناه في باب البلاغة. (أَحْقاباً) جمع حقب بضم الحاء ويجمع أيضا على أحقب: ثمانون سنة أو أكثر والدهر والسنة أو السنون وسيأتي مزيد من المراد به في باب الإعراب. (بَرْداً) البرد هو مسّ الهواء القرّ أي لا يمسّهم منه ما يستلذ أو ينفس حرّ النهار عنهم وقال أبو عبيدة والكسائي والفضل بن خالد ومعاذ النحوي البرد هنا: النوم والعرب تسمّيه بذلك لأنه يبرد سورة العطش ومن كلامهم منع البرد البرد وقال الشاعر: فلو شئت حرّمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقّاخا ولا بردا النقاخ: الماء البارد والبرد النوم وفي كتاب اللغات في القرآن أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 354 البرد هو النوم بلغة هذيل، وقد أوردت المعاجم اللغوية البرد بمعنى النوم ولكن وروده بهذا المعنى في الآية تكلّف والصواب ما قاله الجمهور من أن البرد هو الشراب البارد وهو مناسب لكلمة الذوق ومنه قوله: أماني من سعدى حسان كأنما ... سقتك بها سعدى على ظمأ بردا منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى ... وإلّا فقد عشنا بها زمنا رغدا والذوق على هذا حقيقة لا مجاز. (غَسَّاقاً) قرئ بالتخفيف والتشديد وقد تقدم ذكره وأنه ما يسيل من صديد أهل النار. الإعراب: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) كلام مستأنف مسوق للرد على سؤال قد يرد بعد أن أثبت الله البعث بالأدلة المتقدمة وهو: ما وقت البعث فقال: إن يوم إلخ، وإنّ واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وميقاتا خبرها (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) يوم بدل من يوم الفصل وأجاز أبو البقاء أن يكون بدلا من ميقاتا أو منصوب بفعل محذوف تقديره أعني وجملة ينفخ في محل جر بإضافة الظرف إليها ونفخ فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو يعود على إسرافيل الذي ينفخ في الصور، فتأتون عطف على ينفخ وأفواجا حال من الواو (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) عطف على فتأتون وإنما عدل عن المضي إلى المضارع لتحقق الوقوع وقيل الواو حالية والجملة في محل نصب على الحال أي فتأتون والحال أن السماء قد فتحت والسماء نائب فاعل، فكانت عطف على فتحت واسم كان مستتر تقديره الجزء: 10 ¦ الصفحة: 355 هي وأبوابا خبرها وقرئ فتحت بالتشديد (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) عطف أيضا وسيّرت فعل ماض مبني للمجهول والجبال نائب فاعل، فكانت عطف على سيّرت وسرابا خبر كانت (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) كلام مستأنف مسوق للشروع في وصف أهوال جهنم بعد أن فرغ من وصف الأحوال العامة ليوم القيامة، وإن واسمها وجملة كانت خبرها واسم كانت مستتر تقديره هي أي جهنم ومرصادا خبر كانت أي راصدة للمعذبين فيها مترقبة لهم أو مرصدة بمعنى معدّة لهم فهي إما من رصد الثلاثي بمعنى ترقب وإما من أرصد الرباعي أي أعدّ، والمرصاد في معاجم اللغة: الطريق والممر، وعبارة الزمخشري: المرصاد الحدّ الذي يكون فيه الرصد (لِلطَّاغِينَ مَآباً) للطاغين متعلقان بمرصادا ومآبا خبر ثان لكانت أي مثابة لهم ومرجعا يثوبون ويرجعون إليها ويجوز تعلق للطاغين بمرصاد (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) لابثين حال مقدّرة من الضمير المستكن في للطاغين وأحقابا ظرف متعلق بلابثين، فإن قيل: إن الأحقاب مهما امتدت وتراخى بها الزمن فهي متناهية على كل حال وعذاب الكفّار غير متناد قيل في الجواب عن هذا السؤال وجوه منها: 1- ما روي عن الحسن قال: «إن الله تعالى لم يجعل لأهل النار مدة بل قال: لابثين فيها أحقابا فو الله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل حقب إلى الأبد وليس للأحقاب مدة إلا الخلود» . 2- إن لفظ الأحقاب لا يدل على نهاية والحقب الواحد متناه والمعنى أنهم يلبثون فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا، فالتوقيت لأنواع العذاب لا توقيت للّبث والمكوث. (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً) جملة لا يذوقون حال من الضمير في لابثين أي لابثين غير ذائقين فهي حال متداخلة أو صفة لأحقابا وقيل مستأنفة ولا نافية ويذوقون فعل مضارع مرفوع وفيها متعلقان بيذوقون وبردا مفعول به والواو حرف عطف ولا نافية وشرابا عطف على بردا (إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) إلا أداة حصر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 356 وحميما بدل من شرابا لأن الكلام غير موجب وغساقا عطف عليه، وهذا أسهل مما سلكه المفسرون فقد قال بعضهم أنه استثناء منقطع وعليه جرى في الكشاف قال: «لا يذوقون فيها بردا ينفّس عنهم حرّ النار ولا شرابا يسكن عطشهم ولكن يذوقون فيها حميما» وتبعه الجلال، وقال أبو حيان: «الظاهر أنه متصل من قوله ولا شرابا» (جَزاءً وِفاقاً) جزاء مصدر منصوب بفعل محذوف أي جوّزوا بذلك جزاء ووفاقا نعت لجزاء فتكون الجملة مستأنفة (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) الجملة تعليل لقوله جزاء وإن واسمها وجملة كانوا خبر إنهم وكان اسمها وجملة لا يرجون خبرها وحسابا مفعول يرجون أي محاسبة (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) الواو عاطفة وكذبوا فعل وفاعل وبآياتنا متعلقان بكذبوا وكذابا مفعول مطلق أي تكذيبا وفعّال في باب فعّل كله فاش في كلام فصحاء العرب لا يكادون يقولون غيره، قال الزمخشري: «وسمعني بعضهم أفسّر آية فقال: لقد فسّرتها فسارا ما سمع بمثله وقرىء بالتخفيف وهو مصدر كذب بدليل قوله: فصدقتها وكذّبتها ... والمرء ينفعه كذابه» (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) الواو عاطفة وكل شيء منصوب على الاشتغال أي وأحصينا كل شيء أحصيناه وهذه الجملة معترضة بين السبب ومسبّبه فإن قوله الآتي: فذوقوا مسبّب عن تكذيبهم وفائدة الاعتراض تقرير ما ادّعاه من قوله جزاء وفاقا، وجملة أحصيناه مفسّرة لا محل لها وأحصيناه فعل ماض وفاعل ومفعول به وكتابا يجوز أن يكون مصدرا من معنى أحصيناه أي إحصاء وأحصيناه بمعنى كتبنا لالتقاء الإحصاء والكتبة في معنى الضبط والتحصيل أو يكون مصدر لأحصينا ويجوز أن يكون حالا بمعنى مكتوبا (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) الفاء تعليلية لأنه- كما قلنا- مسبّب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 357 وذوقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ومعنى الأمر الإهانة والتحقير، والفاء عاطفة ولن حرف نفي ونصب واستقبال ونزيدكم فعل مضارع منصوب بلن والكاف مفعول به أول وإلا أداة حصر وعذابا مفعول به ثان (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) كلام مستأنف مسوق لبيان أحوال أهل الجنة وللمتقين خبر إن المقدم ومفازا اسم إن المؤخر والمفاز مصدر ميمي أو اسم مكان لموضع الفوز، وفي المختار «الفوز النجاة والظفر بالخير وهو الهلاك أيضا وبابهما قال» وعلى هذا فإطلاق المفازة على الفلاة الخالية من الماء حقيقي لأنها مهلكة لأن من معاني الفوز الهلاك كما رأيت، وفي القاموس: «الفوز: النجاة والظفر بالخير والهلاك ضد فاز مات وبه ظفر ومنه نجا» (حَدائِقَ وَأَعْناباً وَكَواعِبَ أَتْراباً وَكَأْساً دِهاقاً) حدائق جمع حديقة وهي القطعة المستديرة من الأرض ذات النخل والماء، وهي بدل بعض من كل من مفازا، وأعنابا وما بعده عطف على حدائق ولا معنى لعطفها على مفازا بحجة أنها ذكرت بعد الحدائق تنويها بشأنها فذلك بعيد عن سهولة القرآن وعدم تعسّف الكلام فيه (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) الجملة حال من المتقين ولا نافية ويسمعون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وفيها متعلقان بيسمعون ولغوا مفعول به ولا كذابا عطف على لغوا (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) جزاء مفعول مطلق لفعل محذوف أي جزاهم الله بذلك جزاء ومن ربك نعت لجزاء وعطاء بدل من جزاء وفي هذا البدل سر لطيف وهو الإلماع إلى أن ذلك تفضّل وعطاء وجزاء مبني على الاستحقاق، وأعربه الزمخشري منصوبا بجزاء نصب المفعول به أي جزاهم عطاء، وحسابا نعت لعطاء والمعنى كافيا فهو مصدر أقيم مقام الوصف أو باق على مصدريته مبالغة (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) رب بالجر على أنه بدل من ربك وقرىء بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هو رب وما عطف على السموات والأرض وبينهما ظرف مكان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 358 متعلق بمحذوف صلة ما والرحمن بدل أو نعت لرب أيضا وجملة لا يملكون مستأنفة ومنه متعلقان بيملكون وخطابا مفعول وقرىء برفع الرحمن فيكون مبتدأ وجملة لا يملكون خبره (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) يوم ظرف متعلق بلا يملكون أو بلا يتكلمون وجملة يقوم الروح والملائكة في محل جر بإضافة الظرف إليها وصفا حال أي مصطفّين وجملة لا يتكلمون تأكيد لقوله لا يملكون أو مستأنفة وإلا أداة حصر ومن بدل من الواو في يتكلمون أو نصب على الاستثناء لأن الكلام غير موجب وجملة أذن صلة من وله متعلقان بأذن والرحمن فاعل وقال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وصوابا صفة لمصدر محذوف أي قولا صوابا (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) ذلك مبتدأ واليوم بدل والحق خبر ذلك ولك أن تجعل اليوم خبرا والحق نعتا للخبر، فمن الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط محذوف كأنه قيل وإذا كان الأمر بهذه المثابة وكما ذكر من تحقق اليوم المذكور فمن، ومن شرطية مبتدأ وشاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ومفعول المشيئة محذوف واتخذ فعل ماض في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من وإلى ربه متعلقان بمآبا ومآبا مفعول اتخذِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) إن واسمها وجملة أنذرناكم خبرها وأنذرناكم فعل وفاعل ومفعول به أول وعذابا مفعول به ثان وقريبا نعتَ وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) يوم ظرف متعلق بعذابا وجملة ينظر المرء في محل جر بإضافة الظرف إليها وما مفعول به وجملة قدّمت يداه صلة ما ويقول الكافر عطف على ينظر المرء ولك أن تجعلها مستأنفة أو حالية ويا حرف تنبيه أو المنادى محذوف وليتني ليت واسمها وجملة كنت خبرها وترابا خبر كنت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 359 البلاغة: التشبيه كثير في هذه السورة ونشير هنا إلى قوله «وسيّرت الجبال فكانت سرابا» وهو تشبيه بليغ حذفت منه الأداة وحذف وجه الشبه أيضا وهو أن المرئي خلاف الواقع فكما يرى السراب من بعيد للظامىء الملتاح كأنه ماء فيستبشر به ويخفّ إليه حتى إذا أدركه بعد طول الأين لم يجده شيئا، وكذلك ترى الجبال كأنها جبال وليست كذلك في نفس الأمر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 360 (79) سورة النّازعات مكيّة وآياتها ستّ وأربعون [سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) اللغة: (الرَّاجِفَةُ) في المختار: «الرجفة الزلزلة وقد رجفت الأرض من باب نصر» وسيأتي مزيد من معناها في باب البلاغة. (الرَّادِفَةُ) التابعة، وفي القاموس: «ردفه كسمعه ونصره تبعه كأردفه» . (الْحافِرَةِ) الحالة الأولى يعنون الحياة بعد الموت قال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 361 الزمخشري: «فإن قلت: ما حقيقة هذه الكلمة؟ قلت: يقال: رجع فلان في حافرته أي في طريقه التي جاء فيها فحفرها أي أثر بمشيه فيها جعل أثر قدميه حفرا كما قيل حفرت أسنانه حفرا إذا أثر الأكال في أسناخها والخط المحفور في الصخر، وقيل حافرة كما قيل عيشة راضية أي منسوبة إلى الحفر والرضا أو كقولهم نهارك صائم ثم قيل لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه: رجع إلى حافرته أي إلى طريقته وحالته الأولى قال: أحافرة على صلع وشيب ... معاذ الله من سفه وعار» أنشده ابن الأعرابي والهمزة للإنكار والحافرة في الأصل الطريق المحفور بالسير فتسميته حافرة مجاز عقلي أو على معنى النسب أي ذات حفر ثم استعملت في كل حال كنت فيه ثم رجعت إليه وهي نصب بمحذوف أي أأرجع حافرة أي في طريقتي الأولى من الشباب والصبا أو على نزع الخافض أي أأرجع إليها والصلع انحسار شعر الجبهة ويغلب في الهرم. (الساهرة) الأرض البيضاء المستوية سمّيت بذلك لأن السراب يجري فيها، من قولهم عن ساهرة جارية الماء وفي ضدها نائمة، قال الأشعث بن قيس: وساهرة يضحي السراب مجللا ... لأقطارها قد جئتها متلثما الإعراب: (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً، وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً، وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً، فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) الواو واو القسم أقسم تعالى بطوائف الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد وجواب القسم بهذه الأمور التي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 362 أقسم الله بها محذوف أي والنازعات وكذا وكذا لتبعثنّ، وغرقا يجوز فيه أن يكون مصدرا على حذف الزوائد بمعنى إغراقا وانتصابه بما قبله لملاقاته له في المعنى أو بفعل محذوف وإما على الحال أي ذوات إغراق، وعبارة أبي البقاء «غرقا مصدر على المعنى لأن النازع هو المغرق في نزع السهم أو في جذب الروح وهو مصدر محذوف الزيادة أي إغراقا» وعبارة الزمخشري «أقسم سبحانه بطوائف الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد» إلى أن يقول «غرقا: إغراقا في النزع أي تنزعها من أقاصي الأجساد» وقيل النازعات الخيل أقسم بخيل الغزاة التي تنزع في أعنتها نزعا تغرق فيه الأعنّة لطول أعناقها لأنها عراب، والناشطات نشطا عطف على والنازعات غرقا وكذلك قوله والسابحات سبحا، وفي المختار: «السباحة بالكسر العوم وقد سبح يسبح بالفتح والسبح الفراغ والسبح أيضا التصرّف في المعاش وبابه قطع وقتل» فالسابقات سبقا عطف على ما تقدم وكذلك فالمدبرات أمرا، والفاء فيهما للدلالة على ترتبهما بغير مهلة وأمرا مفعول به بالمدبرات وجواب هذه الأقسام محذوف كما تقدم (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) يوم ظرف زمان متعلق بالجواب المحذوف ولك أن تعلّقه بما دلّ عليه قوله الآتي «قلوب يومئذ واجفة» أي يوم ترجف وجفت القلوب، وجملة ترجف الراجفة في محل جر بإضافة الظرف إليها (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) الجملة في محل نصب حال من الراجفة أي ترجف تابعة لها الرادفة والرادفة فاعل تتبعها (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أَبْصارُها خاشِعَةٌ) قلوب مبتدأ وسوّغ الابتداء بالنكرة أنه موصوف ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله متعلق بواجفة وواجفة صفة لقلوب وأبصارها مبتدأ وخاشعة خبر أبصارها والجملة الاسمية خبر قلوب، وأضيفت الأبصار إلى القلوب على حذف مضاف أي أبصار أصحابها (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) الجملة خبر لمبتدأ مضمر أي هم يقولون، ويقولون فعل مضارع مرفوع وفاعل والهمزة للاستفهام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 363 الإنكاري لأنهم أنكروا الرد ونفوه، وإن واسمها واللام المزحلقة ومردودون خبر إنّا وفي الحافرة متعلقان بمردودون وفي بمعنى إلى أي إلى الحافرة، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال وتكون «في» باقية على معناها ويكون معنى الحافرة الأرض التي قبورهم فيها والمعنى أإنا لمردودون ونحن في الحافرة وفيما يلي عبارة الراغب عن الحافرة: «وقوله في الحافرة مثل لمن يرد من حيث جاء أي أنرد إلى الحياة بعد أن نموت وقيل الحافرة الأرض التي قبورهم فيها ومعناه أإنا لمردودون ونحن في الحافرة أي في القبور وقوله في الحافرة على هذا في موضع الحال، وقيل رجع فلان على حافرته ورجع الشيخ إلى حافرته أي هرم كقوله تعالى: ومنكم من يرد إلى أرذل العمر، والحافرة قيل فاعلة بمعنى مفعولة وقيل على النسب أي ذات حفر والمراد الأرض، والمعنى: أإنا لمردودون في قبورنا أحياء، وقيل: الحافرة جمع حافر بمعنى القدم أي أنمشي أحياء على أقدامنا ونطأ بها الأرض» (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) الاستفهام تأكيد لمضمون إنكار الرد ونفيه بنسبته إلى حال منافية له، وإذا ظرف مستقبل والعامل فيه يدل عليه مردودون أي أئذا كنّا عظاما بالية نردّ ونبعث مع كوننا أبعد شيء عن الحياة (قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) كلام مستأنف مسوق لحكاية كفر آخر متفرع على كفرهم السابق، وتلك مبتدأ والإشارة إلى الرجعة والردّة في الحافرة وإذا حرف جواب وجزاء لا عمل لها جيء بها لإفادة تأكيد الرجعة الخاسرة وكرة خبر تلك وخاسرة نعت لكرة (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) الفاء متعلقة بمحذوف معناه لا تستصعبوها فإنما هي زجرة واحدة بمعنى لا تحسبوا الكرة صعبة على الله تعالى فإنما هي سهلة هينة بقدرته تعالى. وإنما كافّة ومكفوفة وهي مبتدأ وزجرة خبر وواحدة نعت لزجرة أي نفخة واحدة وسمّيت النفحة زجرة لأنه يفهم منها النهي عن المنع والتخلّف عنه (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 364 شرط مقدّر أي فإذا نفخت وإذا فجائية وقد تقدم القول فيها وهم مبتدأ وبالساهرة خبر. البلاغة: 1- في قوله: «يوم ترجف الراجفة» مجاز إسنادي، فقد جعل سبب الرجف راجفا وفي القرطبي: «وأصل الرجفة الحركة قال الله تعالى: يوم ترجف الأرض، وليست الرجفة هاهنا من الحركة فقط بل من قولهم: رجف الرعد يرجف رجفا ورجيفا أي أظهر الصوت والحركة ومنه سمّيت الأراجيف لاضطراب الأصوات بها وإفاضة الناس إليها» . 2- وفي قوله «تلك إذا كرة خاسرة» مجاز إسنادي، فقد أسند الخسار للكرة والمراد أصحابها والمعنى إن كان رجوعنا إلى القيامة حقا فتلك الرجعة رجعة خاسرة. 3- وكذلك في قوله «فإذا هم بالساهرة» أسند السهر إلى الأرض البيضاء مجازا كما أسندوا إليها النوم في ضدها، قال الأشعث بن قيس: وساهرة يضحي السراب مجللا ... لأقطارها قد جبتها متلثما والساهرة الأرض البيضاء لأن السراب يجري فيها ووصفت بالسهر لأن السائر فيها ساهر لا ينام خوف الهلكة فهو مجاز عقلي ومجللا خبر يضحي أي ساترا لأقطارها وجوانبها يقول: رب مفازة يسترها النهار بسراب يشبه حبل الفرس قد أتيتها لابسا اللثام خوف الحر والريح. [سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 26] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 365 الإعراب: (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) كلام مستأنف مسوق لتسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلم على تكذيب قومه له، وهل بمعنى قد وقيل هي للاستفهام التقريري والمعنى أليس قد أتاك حديث موسى وأتاك فعل ماض ومفعول به وحديث موسى فاعل (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بحديث موسى لا بأتاك كما يتوهم لاختلاف وقتيهما وجملة ناداه في محل جر بإضافة الظرف إليها وناداه فعل ماض ومفعول به وربه فاعل وبالواد متعلقان بناداه وحذفت ياء الوادي اتباعا لرسم المصحف، والمقدس صفة للوادي وطوى بدل وقد تقدم الكلام فيه مطوّلا، وقد قرىء بالتنوين وتركه قال الجوهري: «وطوى اسم موضع بالشام تكسر طاؤه وتضم ويصرف ولا يصرف فمن صرفه جعله اسم واد ومكان وجعله نكرة ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة» (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) الجملة مقول قول محذوف تقديره فقال اذهب ويجوز أن تكون جملة مفسّرة للنداء وإلى فرعون متعلقان باذهب وإن واسمها وجملة طغى خبرها وجملة إنه طغى تعليل للأمر بالذهاب (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) الفاء عاطفة وقل فعل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 366 أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وهل حرف استفهام معناه العرض لاستدعائه بالملاطفة والملاينة والمداراة ولك خبر لمبتدأ محذوف تقديره رغبة وإلى أن تزكى متعلقان بالمبتدأ المضمر أي هل لك رغبة في التزكية ومثله هل لك في الخير أي هل لك رغبة في الخير، وأصل تزكي تتزكى حذفت إحدى التاءين أي تتطهر من الشرك وجملة الاستفهام مقول القول وأن وما بعدها في تأويل مصدر مجرور بإلى كما تقدم (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) الواو حرف عطف وأهديك عطف على تزكى والكاف مفعول به وإلى ربك متعلقان بأهديك، فتخشى عطف على أهديك، جعل الخشية غاية للهداية لأنها ملاك الأمر وجمّاع التقوى ومتى خشي الإنسان ربه لم يصدر عنه إلا الخير (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) الفاء عاطفة على محذوف يعني فذهب فأراه، وأراه فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو والهاء مفعول أرى الأول والآية مفعول أرى الثاني والكبرى صفة للآية وهي قلب العصا حيّة أو اليد (فَكَذَّبَ وَعَصى) عطف على ما تقدم (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وأتى بها لأن إبطال الإيمان ونقضه يقتضي زمانا طويلا وجملة يسعى حال من الضمير في أدبر (فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) عطف أيضا وجملة أنا ربكم الأعلى مقول القول (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) الفاء عاطفة وأخذه الله فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ونكال الآخرة والأولى مفعول مطلق فهو مصدر لأخذ والتجوّز إما في الفعل أي نكل بالأخذ نكال الآخرة والأولى وإما في المصدر أي أخذه أخذ نكال ويجوز أن يكون مفعولا لأجله أي لأجل نكاله، واقتصر الزمخشري على المصدرية المؤكدة قال: «هو مصدر مؤكد كوعد الله وصبغة الله كأنه قيل نكل الله به نكال الآخرة والأولى» ويجوز أن يكون انتصاب نكال بنزع الخافض أي بنكال، ورجح الزجّاج أنه مصدر مؤكد وفي المصباح «ونكل به ينكل من باب قتل نكلة قبيحة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 367 أصابه بنازلة ونكل به بالتشديد مبالغة والاسم النكال» والآخرة والأولى صفتان لكلمتي فرعون. فالكلمة الآخرة هي قوله أنا ربكم الأعلى والكلمة الأولى قوله قبلها: ما علمت لكم من إله غيري، وكان بين الكلمتين- على ما قيل- أربعون سنة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبر إن المقدم واللام لام الابتداء المؤكدة وعبرة اسم إن المؤخر ولمن صفة لعبرة وجملة يخشى صلة من. [سورة النازعات (79) : الآيات 27 الى 46] أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 368 اللغة: (سَمْكَها) رفعها يقال سمك يسمك من باب نصر الشيء رفعه ويقال سمك الله السماء، وقال الفرزدق: إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعزّ وأطول والسمك مصدر سمك والسقف أو من أعلى البيت إلى أسفله والقامة من كل شيء. (فَسَوَّاها) جعلها مستوية ملساء ليس فيها ارتفاع ولا انخفاض. (وَأَغْطَشَ) في القاموس: «غطش الليل يغطش من باب ضرب أظلم كأغطش وأغطشه الله» وقال الراغب: «وأصله من الأغطش وهو الذي في عينه عمش والتغاطش التعامي» ويقال أغطش الليل قاصرا كأظلم فأفعل فيه متعدّ ولازم. (دَحاها) دحا الأرض يدحوها دحوا ودحى يدحى أي بسطها ومدّها فهو من ذوات الواو والياء فيكتب بالألف والياء. الإعراب: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) الهمزة للاستفهام التقريعي والتوبيخي وأنتم مبتدأ وأشد خبر وخلقا تمييز وأم حرف عطف والسماء عطف على أنتم وجملة بناها حالية كأنها بيان لكيفية خلقها ويجوز أن تكون مفسّرة لا محل لها ويجوز أن تعرب السماء مبتدأ خبره محذوف تقديره أشد خلقا (رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) الجملة بدل من جملة بناها تابعة لها ورفع سمكها فعل ماض ومفعول به وفاعل مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى، فسوّاها عطف على رفع (وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 369 ضُحاها) عطف على ما تقدم وليلها مفعول أغطش وضحاها مفعول أخرج (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) الواو عاطفة والأرض منصوب على الاشتغال بفعل محذوف يفسّره ما بعده وبعد ذلك ظرف متعلق بدحاها وجملة دحاها مفسّرة (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) الجملة مفسّرة لما لا بدّ منه في تأتي سكناها من تسوية أمر المأكل والمشرب وإمكان القرار عليها، ويجوز أن تكون حالية بإضمار قد أي مخرجا وهو قول الأكثرين وإن كنت أميل إلى القول الأول ومنها متعلقان بأخرج وماءها مفعول به ومرعاها عطف على ماءها والمرعى هنا مصدر ميمي بمعنى المفعول (وَالْجِبالَ أَرْساها) الواو عاطفة والجبال نصب على الاشتغال أيضا كما تقدم والجملة معطوفة على الأولى (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) متاعا مفعول لأجله أي فعل ذلك تمتيعا لكم واختار زاده في حاشيته على البيضاوي أن يكون مصدرا لفعله المحذوف المدلول عليه بسياق الكلام أي متّعناكم بها تمتيعا وليس ببعيد، ولكم متعلقان بمتاعا ولأنعامكم عطف على لكم (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) الفاء عاطفة للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها كما ينبىء عليه لفظ المتاع وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط وجملة جاءت في محل جر بإضافة الظرف إليها والطامة فاعل والكبرى نعت للطامة والطامة القيامة وفي المختار: «جاء سيل فطم الركية أي دفنها وسوّاها وكل شيء كثر حتى علا وغلب فقد طمّ من باب ردّ يقال فوق كل طامّة طامّة، ومنه سمّيت القيامة طامة والطم بالكسر الجرّ يقال جاء بالطم والرّم أي بالماء الكثير» وعبارة الزمخشري «الطامة: الداهية التي تطم على الدواهي أي تعلو وتغلب وفي أمثالهم: جرى الوادي فطم على القرى» وهي القيامة لطمومها على كل هائلة وقيل هي النفخة الثانية» وجواب إذا محذوف يدل عليه التفصيل المذكور والتقدير كان من عظائم الأمور ما لا يخطر في بال ولا تراه عين ولا تسمع به أذن. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 370 (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) يوم بدل من إذا بدل بعض من كل وجملة يتذكر في محل جر بالإضافة والعائد محذوف تقديره يتذكر الإنسان فيه ولك أن تجعله بدلا مطابقا أو كلّا من كل يعني إذا رأى أعماله مدوّنة في كتابه تذكرها وكان قد نسيها والإنسان فاعل يتذكر وما موصولة أو مصدرية (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) عطف على جاءت وبرزت فعل ماض مبني للمجهول والجحيم نائب فاعل ولمن متعلقان ببرزت وجملة يرى لا محل لها لأنها صلة من (فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) الفاء استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبيان حال الناس في الدنيا ولهذا كان جعل الفاء جوابا لإذا متهافتا غير وارد وأما حرف شرط وتفصيل ومن اسم موصول في محل رفع مبتدأ وجملة طغى لا محل لها وآثر عطف على طغى والحياة مفعول به والدنيا نعت للحياة والفاء واقعة في جواب أما وإن حرف مشبّه بالفعل والجحيم اسمها وهي ضمير فصل أو مبتدأ والمأوى خبر إن والجملة خبر من وأل في المأوى عوض عن الضمير العائد على من وقيل العائد محذوف أي هي المأوى له والأول مذهب الكوفيين والثاني مذهب البصريين (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) الجملة عطف على الجملة السابقة وعبارة الرازي: «وهذان الوصفان مضادّان للوصفين المتقدمين فقوله: وأما من خاف مقام ربه ضد قوله: فأما من طغى وقوله ونهى النفس عن الهوى ضد قوله وآثر الحياة الدنيا فكما دخل في ذينك الوصفين جميع القبائح دخل في هذين جميع الطاعات» (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) الجملة مستأنفة مسوقة لحكاية نوع آخر من تعنتهم، ويسألونك فعل مضارع وفاعل ومفعول به وعن الساعة متعلقان بيسألونك وأيان اسم استفهام في محل نصب على الظرف الزماني متعلق بمحذوف خبر مقدم ومرساها مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية لا محل لها لأنها تفسير لسؤالهم عن الساعة أي متى إرساؤها أي إقامتها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 371 وإثباتها أو منتهاها ومستقرها من مرسى السفينة وهو حيث تنتهي إليه وتستقر عنده (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) فيم خبر مقدّم وتقدم حذف ألف ما الاستفهامية إذا سبقت بحرف جر وأنت مبتدأ مؤخر ومن ذكراها متعلقان بما تعلق به الخبر والمعنى أنت في أي شيء من ذكراها والجملة لا محل لها كأنها إنكار وردّ لسؤالهم عن الساعة وبيان لبطلان السؤال وقيل: فيم إنكار لسؤالهم وما بعده من الاستئناف تعليل للإنكار أي فيم هذا السؤال ثم ابتدئ فقيل أنت من ذكراها أي ففيم ليس خبرا مقدما لما بعده بل هو خبر مبتدأ محذوف أي فيم هذا السؤال الواقع من الكفرة فتم الكلام عنده ثم استأنف بجملة أنت من ذكراها بيانا لسبب الإنكار عن سؤالهم كأنه قيل إنها قريبة غير بعيدة لأنك علامة من علاماتها فإرسالك يكفيهم دليلا على دنوها والاهتمام بتحصيل الاعتداد لها فلا معنى لسؤالهم عنها فمعنى أنت من ذكراها أنت من علاماتها ومذكراتها (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) إلى ربك خبر مقدّم ومنتهاها مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) إنما كافّة ومكفوفة وأنت مبتدأ ومنذر خبر ومن مضاف إليه وجملة يخشاها صلة من لا محل لها (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) كأن واسمها ويوم ظرف زمان متعلق بما في كأن من معنى التشبيه وجملة يرونها في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة لم يلبثوا خبر كأنهم وإلا أداة حصر وعشية ظرف زمان متعلق بيلبثوا وأو حرف عطف وضحاها عطف على عشية وعبارة الزمخشري «فإن قلت كيف صحّت إضافة الضحى إلى العشية؟ قلت: لما بينهما من الملابسة لاجتماعهما في نهار واحد فإن قلت: فهلّا قيل إلا عشية أو ضحى وما فائدة الإضافة؟ قلت: للدلالة على أن مدة لبثهم كأنها لم تبلغ يوما كاملا ولكن ساعة منه عشيته أو ضحاه فلما ترك اليوم أضافه إلى عشيته فهو كقوله: لم يلبثوا إلا ساعة من نهار» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 372 البلاغة: 1- في قوله: «أخرج منها ماءها ومرعاها» مجاز مرسل لأنه أطلق المرعى على ما يأكله الناس فاستعمل المرعى في مطلق المأكول للإنسان وغيره والعلاقة استعمال المقيد في المطلق، ويجوز أن يكون استعارة تصريحية حيث شبّه أكل الناس برعي الدواب وإلى هذا جنح الزمخشري فقال: «وأراد بمرعاها ما يأكل الناس والأنعام واستعير الرعي للإنسان كما استعير الرتع في قوله نرتع ونلعب» . 2- في قوله: «فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى» فن المقابلة وقد تقدمت عبارة الرازي في هذا الصدد. 3- في قوله «أيان مرساها» استعارة تصريحية فقد استعار الإرساء وهو لا يستعمل إلا فيما له ثقل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 373 (80) سورة عبس مكيّة وآياتها ثنتان وأربعون [سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 17] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) اللغة: (تَصَدَّى) أصلها تتصدى أي تتعرض بالإقبال عليه والمصاداة المعارضة ويقال: تصدى أي تعرض وأصله تصدد من الصدد وهو ما استقبلك وصار قبالتك فأبدل أحد الأمثال حرف علّة وقيل هو من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 374 الصدى وهو الصوت المسموع في الأماكن الخالية والأجرام الصلبة وقيل من الصدى وهو العطش والمعنى على التعرّض. الإعراب: (عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) عبس وتولى فعلان ماضيان مبنيان على الفتح وفاعلهما مستتر تقديره هو وإنما جيء في هذين الموضعين وفي موضع ثالث بعدهما إجلالا له عليه الصلاة والسلام ولطفا به لما في المشافهة والمجابهة بتاء الخطاب ما لا يخفى، وأن جاءه في موضع نصب مفعول لأجله وناصبه إما عبس وإما تولى، وجاءه فعل ماض ومفعول به والأعمى فاعل والأولى أن يقال أن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بعبس لأن المجيء ليس من أفعال القلوب فاحتل شرط من شروط نصب المفعول لأجله (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) الواو عاطفة وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة يدريك خبر والكاف في موضع المفعول الأول ليدري وجملة الترجّي في موضع المفعول الثاني، ولعله لعلّ واسمها وجملة يزّكّى أي يتطهر خبر لعل وقيل مفعول يدريك الثاني محذوف مقدّر والتقدير وما يدريك أمره ومغبة حاله وجملة لعله يزكّى ابتدائية وأو حرف عطف ويذكر عطف على يزّكّى والفاء هي فاء السببية وتنفعه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية والهاء مفعول به والذكرى فاعل، وقرىء فتنفعه بالرفع على أن الفاء عاطفة وتنفعه بالرفع عطف على أو يذكر (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) أما حرف شرط وتفصيل ومن اسم موصول مبتدأ وجملة استغنى صلة لا محل لها والفاء رابطة وأنت ضمير بارز منفصل في محل رفع مبتدأ وله متعلقان بتصدى وجملة تصدى خبر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 375 أنت والجملة الاسمية خبر من والواو حالية وما نافية وعليك خبر مقدم وأن وما في حيّزها مبتدأ مؤخر أي ليس عليك بأس في عدم تزكيته بالإسلام، واختار أبو حيان أن تكون ما استفهامية للإنكار فتكون مبتدأ وعليك خبرها وألا يزكّى منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بما تعلق به عليك أي الاستقرار والجملة حال من الضمير في تصدى (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى، وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) الواو عاطفة وأما حرف شرط وتفصيل ومن اسم موصول في محل رفع مبتدأ وجملة جاءك لا محل لها لأنها صلة من وجملة يسعى حال من فاعل جاءك والواو حالية وهو مبتدأ وجملة يخشى خبر والجملة حال من فاعل يسعى فهي حال متداخلة والفاء رابطة لجواب أما وأنت مبتدأ وعنه متعلقان بتلهى وتلهى أي تتلهى فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة خبر وجملة أنت عنه تلهى خبر من أي تتشاغل أي هو من لهى بكذا يلهى أي تشاغل به وليس هو من اللهو في شيء لأنه مسند إلى ضمير النبي ولا يليق بمنصبه الكريم أن ينسب إليه الفعل من اللهو بخلاف الاشتغال فإنه يجوز أن يصدر عنه في بعض الأحيان، وفي القاموس «لها لهوا لعب كالتهى وألهاه ذلك ولهي به كرضي أحبه، وعنه سلا وغفل وترك ذكره ولها كدعا لهّيا ولهيانا وتلهى» (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) كلا حرف ردع وزجر لكل إنسان عن ارتكاب مثل المعاتب عليه، روي أنه عليه السلام ما عبس بعد ذلك في وجه فقير قطّ ولا تصدى لغني، وإن واسمها وتذكرة خبر إن والضمير للموعظة أو السورة والفاء اعتراضية ومن اسم شرط جازم مبتدأ وشاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله هو والمفعول محذوف أي الاتعاظ وذكره فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وهو في محل جزم جواب الشرط والجملة اعتراضية لا محل لها (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ) في صحف خبر ثان لإنها ومكرمة وما بعدها نعت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 376 لصحف وبأيدي نعت أيضا أو خبر لمبتدأ محذوف وسفرة مضاف إليه وما بعده نعت والسفرة جمع سافر وهو الكاتب ومثله كاتب وكتبة وسفرت بين القوم أسفر سفارة أصلحت بينهم وفي المختار: «وسفر الكتاب كتبه وبابه ضرب» . (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) الجملة دعائية لا محل لها ومعنى قتل لعن وعذب والإنسان نائب فاعل وما نكرة تامة بمعنى شيء في محل رفع مبتدأ وأكفر فعل ماض وفاعله مستتر وجوبا تقديره هو «هنا خاصة» والهاء مفعول به، قالوا: قاتله الله ما أخبثه وأخزاه الله ما أظلمه والمعنى أعجبوا من كفر الإنسان بجميع ما ذكرنا بعد هذا، وقيل ما استفهامية مبتدأ وجملة أكفره خبر أي أيّ شيء دعاه إلى الكفر وهو استفهام توبيخ ولا داعي لهذا لأنه تعجب من إفراطه في كفره والتعجب بالنسبة إلى المخلوقين إذ هو مستحيل في حق الله تعالى أي هو ممن يقال فيه ما أكفره وللزمخشري عبارة مستحسنة قال «ما أكفره تعجب من إفراطه في كفران النعمة ولا ترى أسلوبا أغلظ منه ولا أخشن مسّا ولا أدلّ على سخط ولا أبعد شوطا في المذمّة مع تقارب طرفيه ولا أجمع للأئمة على قصر متنه» . الفوائد: روى التاريخ: أن عبد الله بن أم مكتوم بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي، وأم مكتوم أم أبيه واسمها عاتكة بنت عامر المخزومي وهو ابن خالة خديجة بنت خويلد، الذي في النووي على مسلم أن ابن أم مكتوم اسمه عبد الله بن عمرو وأم مكتوم زوجة عمرو فهي أم عبد الله وقيل اسمه عمرو واسم أبيه زائد، جاءه وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 377 الإسلام رجاء أن يسلم أولئك الأشراف الذين كان يخاطبهم فيتأيّد بهم الإسلام ويسلم بإسلامهم أتباعهم فتعلو كلمة الله تعالى فقال: يا رسول الله أقرئني وعلّمني مما علّمك الله تعالى وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكرمه ويقول إذا رآه: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ويقول له: هل لك من حاجة واستخلفه على المدينة مرتين. قال القرطبي: «وهذا كله غلط من المفسرين لأن أمية والوليد كانا بمكة وابن أم مكتوم كان بالمدينة ما حضر معهما وماتا كافرين أحدهما قبل الهجرة والآخر في بدر ولم يقصد قطّ أمية المدينة ولا حضر معه مفردا ولا مع أحد» . وقال أبو حيان: «والغلط من القرطبي كيف ينفي حضور ابن أم مكتوم معهما وهو وهم منه وكلهم من قريش وكان ابن أم مكتوم بها والسورة مكية كلها بالإجماع وكيف يقول: وابن أم مكتوم بالمدينة كان أولا بمكة ثم هاجر إلى المدينة وكانوا جميعا بمكة حين نزول هذه الآية» . وهناك رواية أخرى ذهب إليها بعضهم وهي أن المحدّث عنه بالعبوس ليس النبي صلّى الله عليه وسلم بل هو رجل من بني أمية وهو الذي عبس لما أتى ابن أم مكتوم لأن العبوس كما يقول الشريف المرتضى ليس من صفاته صلّى الله عليه وسلم مع الأعداء المباينين فضلا عن المؤمنين المسترشدين. وهذا كله يراه القارئ في المطولات فليرجع إليها إن شاء. [سورة عبس (80) : الآيات 18 الى 42] مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 378 اللغة: (غُلْباً) جمع أغلب كحمر في أحمر وحمراء يقال: حديقة غلباء أي غليظة الشجر ملتفة الحدائق فالحدائق ذات أشجار غلاظ فهو مجاز مرسل كالمرسن بمعنى الغليظ مطلقا وفيه تجوّز في الإسناد أيضا لأن الحدائق نفسها ليست غليظة بل الغليظ أشجارها، وعبارة الزمخشري: «ويحتمل أن يجعل كل حديقة غلباء فيريد تكاتفها وكثرة أشجارها وعظمها كما تقول: حديقة ضخمة وأن يجعل شجرها غلبا أي عظاما غلاظا والأصل في الوصف بالغلب الرقاب فاستعير: قال عمرو بن معد يكرب: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 379 يمشي بها غلب الرقاب كأنهم ... بزل كسّين من الكحيل جلالا» ويقال أسد أغلب أي غليظ العنق والقلب جمعه ثم استعير لكل غليظ، والبزل جمع بازل للمذكر والمؤنث من الإبل إذا انفطر نابه وذلك في السنة التاسعة، والكحيل القطران، والجلال جمع جلّ، يصف مفازة تمشي فيها أسود غلاظ الأعناق كأنها فتيات من الإبل دهنت بالقطران حتى صار عليها كالجلال، فكسين استعارة مصرّحة والجلال ترشيح ويروى كأنهم باستعارة ضمير العقلاء لغيرهم. وفي الأساس واللسان ما خلاصته: «بينهما غلاب أي مغالبة وتغالبوا على البلد وغلبته على الشيء: أخذته منه وهو مغلوب عليه وأ يغلب أحدكم أن يصاحب الناس معروفا بمعنى أيعجز وهو رجل حر وقد أبى أفنغلبه على نفسه: أفنكرهه، وشاعر مغلّب: غلب كثيرا أو غلّب فهو ذم ومدح، قال امرؤ القيس: فإنك لم يفخر عليك كعاجز ... ضعيف ولم يغلبك مغلّب ومن المجاز: هضبة غلباء وعزة غلباء واغلولب العشب وحدائق غلبا» . (أَبًّا) في المصباح: «الأبّ: المرعى الذي لم يزرعه الناس مما تأكله الدواب والأنعام» ويبدو أنه مأخوذ من أبه إذا قصده لأنه يؤم وينتجع له أو من أب لكذا إذا تهيأ له لأنه متهيىء للرعي وعبارة الزمخشري: «والأب المرعى لأنه يؤب أي يؤم وينتجع والأب والأم أخوان، قال: جذمنا قيس ونجد دارنا ... ولنا الأبّ به والمكرع» والجذم بالكسر وقد يفتح الأصل الذي يقتطع منه غيره والأب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 380 والأم بالفتح والتشديد بمعنى المرعى لأنه يؤبّ ويؤمّ أي يقصد والمكرع: المنهل. يقول: نحن من قبيلة قيس ونجد هي دارنا ولنا به أي في نجد المرعى والمروي وفيه تمدح بالشرف والشجاعة. وقيل إن الصحابة وهم أهل الحجاز وأصحاب اللغة التي نزل بها القرآن لم يفهموا بعض الغريب في آيات الكتاب، من ذلك ما أخرجه أبو عبيد في الفضائل عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله تعالى: «وفاكهة وأبا» فقال: أي سماء تظلّني وأي أرض تقلّني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم. ونقل عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر «وفاكهة وأبا» فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو الكلف يا عمر، وفي رواية ثم رفض عصا كانت بيده وقال: هذا لعمر الله التكلف وما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأبّ ثم قال: اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب وما لا فدعوه. وقد علّق الزمخشري على كلمة عمر تعليقا بديعا نورده فيما يلي: «فإن قلت فهذا يشبه النهي عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته قلت: لم يذهب إلى ذلك ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفا عندهم فأراد أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطعمه واستدعاء شكره وقد علم من فحوى الآية أن الأب بعض ما أنبته الله للإنسان متاعا له ولأنعامه فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر لله على ما تبين لك ولم يشكل مما عدّد من نعمه، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأبّ ومعرفة البنات الخاص الذي هو اسم له واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت، ثم وصّى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 381 كيف بدأ تفسير القرآن؟ ونرى استيفاء لهذا البحث الهام أن نعرض لهذا الموضوع بشيء من التفصيل لعلاقته التامة بالمنهج الذي جرينا عليه في هذا الكتاب فالواقع أن القرآن شغل طوائف كثيرة من الناس فترة من الزمن، شغل به أهل الإيمان، وتتبعه أهل الكفر كلّ من ناحية اهتمامه، وأول ما بدأت دراسات القرآن وتفسيره زمن الرسول صلّى الله عليه وسلم ففي عهده نرى أعرابيا يسأله في معنى بعض ألفاظ القرآن في مثل قوله تعالى «ولم يلبسوا إيمانهم بظلم» قائلا: وأيّنا لم يظلم نفسه؟ وفسّره النبي صلّى الله عليه وسلم بالشرك واستشهد عليه بقوله تعالى: «إن الشرك لظلم عظيم» وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم في كتب الحديث كالبخاري ومسلم وغيرها كثير من الأحاديث التي تتعلق بتفسير القرآن وبعضها ينحصر في ذكر فضائله وتفسير بعض آياته تفسيرا مختصرا يبيّن وجه التشريع أو الموعظة في الآية وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة اقرءوا إن شئتم: فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا» على أنه قد لا يوضع موضع الاعتبار كل ما جاء من الحديث في التفسير، فأحمد بن حنبل- في القرن الثالث الهجري- يقول: ثلاثة أشياء لا أصل لها: التفسير والملاحم والمغازي، ولعلّه يقصد بالتفسير الذي خلط فيه الناس بين الصحيح وغير الصحيح من الحديث مما كان مدار أخذ وردّ وقول كثيرين في عصره. على أن الصحابة وقفوا في صدر الإسلام موقفين: متحرّج من القول في القرآن ومن هؤلاء أبو بكر وعمر وعبد الله بن عمر وغيرهم وكان عبد الله يأخذ على ابن عباس تفسيره القرآن بالشعر والقسم الثاني الذين لم يتحرّجوا وفسّروا القرآن حسب ما فهموا من الرسول أو حسب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 382 فهمهم الخاص بالمقارنة إلى الشعر العربي وكلام العرب ومن هؤلاء علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس ومن أخذ عنهما وقد وقف ابن عباس على رأس المفسرين بالرأي المتخذين شعر العرب وسيلة إلى كشف معاني القرآن وكان علي بن أبي طالب يثني على ابن عباس ويقول: كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق. وفي كامل المبرد وأغاني أبي الفرج الأصبهاني أنه دخل عمر بن أبي ربيعة وهو غلام على ابن عباس وعنده نافع بن الأرزق فقال له ابن عباس: ألا تنشدنا شيئا من شعرك يا ابن أخي؟ فأنشده: أمن آل نعم أنت غاد فمبكر ... غداة غد أوم رائح فمهجر حتى أتمّها وهي ثمانون بيتا فقال له الأزرق: لله أنت يا ابن عباس أنضرب إليك أكباد الإبل نسألك عن الدين ويأتيك غلام من قريش ينشدك سفها فتسمعه فقال: تالله ما سمعت سفها فقال: أما أنشدك؟ رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت ... فيخزى وأما بالعشي فيخسر فقال: ما هكذا قال إنما قال: فيضحى وأما بالعشي فيخصر، قال: أو تحفظ الذي قال؟ فقال والله ما سمعتها إلا ساعتي هذه ثم أنشدها من أولها إلى آخرها فقيل له: ما رأينا أروى منك فقال: ما سمعت شيئا قطّ فنسيته وإني لأسمع صوت النائحة فأسدّ أذني كراهة أن أحفظ ما تقول، ثم إن نافعا اتفق له أنه سأل ابن عباس عن قوله تعالى «لا تظمأ فيها ولا تضحى» قال: لا تعرق فيها من شدة حرّ الشمس قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت قول الشاعر «فيضحى» ومن هؤلاء الصحابة الذين يذهبون هذا المذهب ابن مسعود وأبيّ بن كعب وغيرهما وتبعهم الحسن البصري وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 383 (الصَّاخَّةُ) في المختار: «الصاخة: الصيحة تصمّ بشدتها تقول صخ الصوت من باب ردّ ومنه سمّيت القيامة الصاخة» وقال الزمخشري: «صخ لحديثه مثل أصاخ له فوصفت النفخة بالصاخة مجازا لأن الناس يصخون لها» وقال أبو بكر بن العربي: «الصاخة هي التي تورث الصمم وإنها لمسمعة وهذا من بديع الفصاحة كقوله: أصمّهم سرّهم أيام فرقتهم ... فهل سمعتم بسر يورث الصمما وقول أبي تمام: أصم بك الناعي وإن كان اسمعا ... وأصبح مغنى الجود بعدك بلقعا ولعمر الله أن صيحة القيامة مسمعة تصمّ عن الدنيا وتسمع أمور الآخرة. (تَرْهَقُها) في المختار: «رهقه غشيه باب طرب ومنه قوله تعالى: ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلّة، وفي الحديث: إذا صلّى أحدكم على الشيء فليرهقه أي فليغشه ولا يبعد عنه» . (قَتَرَةٌ) سواد كالدخان ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه. الإعراب: (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) جملة مستأنفة مسوقة للشروع في بيان ما أنعم عليه بعد المبالغة في وصفه بكفران نعم خالقه، ومن أيّ شيء متعلقان بخلقه والاستفهام للتقرير مع التحقير جمع بينهما بعض المفسرين فقال: «هنا الاستفهام لتقرير التحقير، ومن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 384 نطفة بدل بإعادة الجار من قوله من أي شيء خلقه والفاء للترتيب في الذكر وقدّره فعل ماض وفاعل مستتر جوازا تقديره هو ومفعول به (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي والسبيل منصوب على الاشتغال بفعل مقدّر تقديره ثم يسّر السبيل يسّره والتعريف لإفادة العموم، وجملة يسّره مفسّرة، وعبارة السمين: قوله ثم السبيل يسّره يجوز أن يكون الضمير للإنسان والسبيل ظرف أي يسّر للإنسان الطريق أي طريق الخير أو الشر كقوله وهديناه النجدين، وقال أبو البقاء: ويجوز أن ينتصب بأنه مفعول ثان ليسّره والهاء للإنسان أي يسّره للسبيل أي هداه له قلت فلا بدّ من تضمينه معنى أعطى حتى ينصب اثنين أو يحذف حرف الجر أي يسّره للسبيل أي هداه له. وما بعده عطف عليه، وقال فأقبره ولم يقل فقبره لأن القابر هو الدافن بيده والمقبر هو الله تعالى يقال: قبر الميت إذا دفنه بيده وأقبره إذا أمر غيره أن يجعله في قبر، ومفعول المشيئة محذوف والتقدير إذا شاء إنشاره (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) ردع وزجر للإنسان المسترسل في عمايته المغترّ باغتراره المتطاول تيها بعجبه ولما حرف نفي جازم ويقض فعل مضارع مجزوم بلما وعلامة جزمه حذف حرف العلة وجزم بلما للدلالة على أن العجب والكبر ما زالا يلازمان الإنسان حتى الساعة التي هو فيها وما مفعول به وجملة أمره صلة والعائد محذوف أي به (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في تعداد النعم المترادفة على الإنسان واللام لام الأمر وينظر فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والإنسان فاعل وإلى طعامه متعلقان بينظر (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) أنّا بفتح الهمزة وهي وما بعدها في تأويل مصدر في محل جر بدل اشتمال من طعامه والمعنى أن صبّ الماء سبب في إخراج الطعام فهو مشتمل عليه وقرىء بكسر الهمزة على الاستئناف المبين لكيفية إحداث الطعام وأن واسمها وجملة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 385 صببنا فعل وفاعل والماء مفعول به وصبا مفعول مطلق (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) عطف على الجملة السابقة مماثلة لها في إعرابها، وسيأتي سرّ إسناد الشقّ له تعالى في باب البلاغة (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا) الفاء عاطفة وأنبتنا فعل وفاعل وفيها متعلقان بأنبتنا وحبا مفعول به وما بعده عطف عليه. والقضب والقضبة: الرطبة (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) متاعا مصدر مؤكد لأنبتنا لأن إنباته الأشياء إمتاع لجميع الكائنات الحيّة أو مفعول لأجله والعامل فيه محذوف تقديره فعل ذلك متاعا لكم، ولكم متعلقان بمتاعا ولأنعامكم عطف على لكم (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) الفاء استئنافية والكلام مستأنف مسوق للشروع في بيان أحوالهم يوم المعاد ولك أن تجعل الفاء عاطفة والكلام معطوف لترتيب ما بعدها على ما قبلها من النعم السوابغ والآلاء المترادفة، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب المحذوف المفهوم من قوله لكل امرئ والتقدير اشتغل كل واحد بنفسه، وجملة جاءت في محل جر بإضافة الظرف إليها والصاخة فاعل ويوم بدل من إذا أي يفرّ فيه وجملة يفرّ في محل جر بإضافة الظرف إليها والمرء فاعل ومن أخيه متعلقان بيفر وما بعده عطف على أخيه ولكل امرئ خبر مقدّم ومنهم نعت لامرىء ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله وهو متعلق بيفنيه والتنوين عوض عن أي يوم إذ حصلت هذه الأمور المتعددة وشأن مبتدأ مؤخر وجملة يغنيه نعت لشأن (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) وجوه مبتدأ سوّغ الابتداء به مع أنه نكرة التنويع ويومئذ ظرف أضيف لمثله متعلق بمسفرة والتنوين عوض عن جملة ومسفرة خبر وجوه وضاحكة ومستبشرة خبران آخران لوجوه (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) الواو عاطفة ووجوه مبتدأ ويومئذ ظرف أضيف لمثله متعلق بترهقها وعليها خبر مقدم وغبرة مبتدأ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 386 مؤخر والجملة خبر وجوه وجملة ترهقها قترة خبر ثان لوجوه وترهقها فعل مضارع ومفعول به مقدم وقترة مبتدأ مؤخر (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) أولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان والكفرة الفجرة خبران لأولئك أو لهم والجملة خبر أولئك. البلاغة: الإسناد المجازي في قوله: (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) إسناد مجازي، فقد أسند تعالى الشق إلى نفسه من باب إسناد الفعل إلى السبب وقيل الإسناد حقيقي وإن القول بمجازيته هو من أقوال المعتزلة، ولكن البيضاوي نفسه يتبع الزمخشري في مجازية الإسناد فيقول: أسند الشق إلى نفسه تعالى إسناد الفعل إلى السبب، والحق مع الزمخشري في هذا فإن مجازيته لا تعني أن أفعال العباد مخلوقة لهم لأن الفعل إنما يسند حقيقة لمن قام به لا لمن أوجده فالاعتراض عليه تعسّف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 387 (81) سورة التّكوير مكيّة وآياتها تسع وعشرون [سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14) اللغة: (كُوِّرَتْ) لفّت وذهب بضوئها وفي المصباح: «كار الرجل العمامة كورا من باب قال أدارها على رأسه وكل دور كور تسميته بالمصدر والجمع أكوار مثل ثوب وأثواب، وكوّرها بالتشديد مبالغة ومنه يقال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 388 كورت الشيء إذا لففته على وجه الاستدارة وقوله تعالى: إذا الشمس كوّرت المراد به طويت كطي السجل» وعبارة الزمخشري: «في التكوير وجهان: أن يكون من كورت العمامة إذا لففتها أي يلف ضوءها لفّا فيذهب انبساطه وانتشاره في الآفاق وهو عبارة عن إزالتها والذهاب بها لأنها ما دامت باقية كان ضياؤها منبسطا غير ملفوف أو يكون لفّها عبارة عن رفعها وسترها لأن الثوب إذا أريد رفعه لفّ وطوي ونحوه قوله: يوم نطوي السماء، وأن يكون من طعنه فجوّره وكوّره إذا ألقاه أي تلقى وتطرح عن فلكها كما وصفت النجوم بالانكدار» ويتلخص مما أوردته معاجم اللغة ما يلي: «كار يكور كورا العمامة على رأس لفّها وأدارها وكور الله الليل على النهار: أدخل هذا في هذا وكورت الشمس جمع ضوءها ولفّ كما تلف العمامة قيل: اضمحلت وذهبت» . (انْكَدَرَتْ) انقضت وتساقطت على الأرض والأصل في الانكدار الانصباب، وقال أبو عبيدة: انكدرت انصبّت كما تنصبّ العقاب إذا كسرت، قال العجاج يصف صقرا: أبصر حرمات فلاة فانكدر ... تقصي البازي إذا البازي كسر (الْعِشارُ) النوق الحوامل جمع عشراء كالنفاس جمع نفساء وهي التي أتى على حملها عشرة أشهر ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة وهي أنفس ما يكون عند أهلها، وروي أنه صلّى الله عليه وسلم مرّ في أصحابه بعشار من النوق فغضّ بصره فقيل له: هذه أنفس أموالنا فلم لا تنظر إليها فقال: قد نهاني الله عن ذلك ثم تلا: ولا تمدنّ عينيك الآية. (سُجِّرَتْ) سجر يسجر سجرا من باب نصر التنور ملأه وقودا وأحماه وسجر الماء النهر ملأه وسجر البحر فاض وسجر الماء في حلقه صبّه وسجر الكلب شدّه بالساجور وسجر الشيء أرسله، هذا ما ذكرته الجزء: 10 ¦ الصفحة: 389 معاجم اللغة بصدد هذه المادة وفي الأساس: «كلب مسجور ومسجّر ومسوجر وقد سجرته وسجّرته وسوجرته: طوقته الساجور وهو طوق من حديد مسمّر بمسامير حديدة الأطراف، وبحر مسجور ومسجّر، وعين مسجورة ومسجّرة: مفعمة وسجر السيل الآبار والأحساء ومررنا بكل حاجر وساجر وهو كل مكان مرّ به السيل فملأه وسجر التنور ملأه سجورا وهو وقوده وسجره بالمسجرة وهي المسعر. ومن المجاز: سجرت الناقة سجرا وسجّرت تسجيرا: مدّت حنينتها في إثر ولدها وملأت به فاها قال: حنّت إلى برك فقلت لها: قرّي ... بعض الحنين فإن سجرك شائقي ومنه ساجرته مساجرة وهي المخالّة والمخالطة وهو سجيري وهم سجرائي لأن كل واحد منهما يسجر إلى صاحبه: يحنّ ومنه ماء أسجر وهو الذي خالطته كدرة وحمرة من ماء السماء يقال: إن فيه لسجرة وإنه لأسجر وقطرة سجراء وعين سجراء قال الحويدرة: بغريض سارية أدرّته الصبا ... من ماء أسجر أطيب المستنقع وعين سجراء: خالطت بياضها حمرة وإن في عينك لسجرة وفي أعناقهم السواجير أي الأغلال» وقد مرّ شيء من معنى هذه المادة في الطور وعلى هذا كثرت الأقوال في المراد بها هنا وقد أحصى القرطبي كعادته الأقوال فيه ونشير إليها بإيجاز: 1- وإذا البحار سجرت: أي ملئت من الماء فيفيض بعضها إلى بعض فتصير شيئا واحدا. 2- وقيل أرسل عذبها على مالحها حتى امتلأت. 3- وقيل صارت بحرا واحدا. 4- وقيل يبست فلا يبقى من مائها قطرة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 390 5- وقيل أوقدت فصارت نارا. 6- وقيل: هي حمرة مائها حتى تصير كأنها الدم. (الْمَوْؤُدَةُ) قال في الأساس: وأد ابنته أثقلها بالتراب «وإذا الموءودة سئلت» وقال الفرزدق: وجدي الذي منع الوائدات ... وأحيا الوئيد فلم يوأد» ووأد ابنته يئدها من باب ضرب: دفنها في التراب وهي حيّة فالابنة وئيد ووئيدة وموءودة. وقال الزمخشري في الكشاف: «وأد يئد مقلوب من آد يئود إذا أثقل، قال الله تعالى: ولا يئوده حفظهما لأنه إثقال بالتراب» وتعقبه أبو حيان في البحر فقال: لا يدعى في وأد أنه مقلوب من آد لأن كلّا منهما كامل التصرّف في الماضي والأمر والمضارع والمصدر واسم الفاعل واسم المفعول وليس فيه شيء من مسوّغات ادّعاء القلب والذي تعلم به الأصالة من القلب أن يكون أحد النظمين فيه حكم يشهد له بالأصالة والآخر ليس كذلك أو كونه مجردا من حروف الزيادة والآخر فيه مزيد أو كونه أكثر تصرفا والآخر ليس كذلك أو أكثر استعمالا من الآخر وهذا على ما قرر وأحكم في علم التصريف فالأول كيئس وأيس والثاني كطأمن واطمأن والثالث كشوائع وشواع والرابع كلعمري ورعملي» . الإعراب: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) إذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجوابها في الإثني عشر موضعا التي وقعت فيها قوله: علمت نفس كما سيأتي وهي متعلقة بجوابها والشمس نائب فاعل بفعل مقدّر يفسره ما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 391 بعده وإلى هذا جنح الزمخشري ومنع أن يرتفع بالابتداء لأن إذا تتقاضى الفعل لما فيها من معنى الشرط ولكن ما منعه الزمخشري من وقوع المبتدأ بعدها أجازه الكوفيون والأخفش من البصريين وجملة كورت مفسرة لا محل لها (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) عطف على ما تقدم مماثلة لها في الإعراب ولكن النجوم هنا فاعل بفعل يفسّره قوله «انكدرت» (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ، وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) عطف أيضا والجبال والعشار نائبا فاعل بفعل محذوف ومعنى تعطيلها تركها بلا راع ولا حلب لما دهاهم من الأمر (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) عطف أيضا (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) عطف أيضا والمعنى ردّت الأرواح إلى أجسادها وهذا بناء على أن التزويج بمعنى جعل الشيء زوجا والنفوس على هذا بمعنى الأرواح، وقيل: يقرن كل امرئ بشيعته وكل مشاكل بمشاكله فيقرن بين الرجل الصالح والرجل الصالح في الجنة (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) عطف أيضا وبأي متعلقان بقتلت والجملة سدّت مسدّ مفعول سئلت الثاني وكان العرب إذا ولد لأحدهم بنت واستحياها ألبسها جبّة من صوف أو شعر وتركها ترعى الإبل والغنم وإذا أراد قتلها تركها حتى إذا صارت سداسية قال لأمها: طيّبيها وزيّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر حفرة أو بئرا في الصحراء فيذهب بها إليها ويقول لها: انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض، وقد افتخر الفرزدق وهو أبو فراس همّام بن غالب بن صعصعة بجدّه صعصعة إذ كان منع وأد البنات كما تقدم (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) عطف على ما تقدم أيضا (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) الجملة لا محل لها لأنها جواب إذا كما تقدم وعلمت نفس فعل ماض وفاعل وما مفعول به وجملة أحضرت لا محل لها لأنها صلة ما. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 392 البلاغة: التنكير: في قوله «علمت نفس ما أحضرت» التنكير في نفس وفائدته العموم، وقد يعترض معترض بأن النكرة لا تفيد العموم إلا إذا كانت في سياق النفي، وعلى هذا فهي هنا واقعة في سياق الإثبات وهي فيه تكون للإفراد أو النوعية فكيف يتفق الإفراد والنوعية مع المقام الذي يناسبه العموم، والجواب عن هذا الاعتراض أن ما ذكر من كونها في سياق النفي والإثبات أكثري لا كلّي فلا ينافي أنه قد يقصد بها العموم بمعونة المقام وثمّة جواب آخر عن هذا الاعتراض وهو أن النكرة هنا وقعت في سياق الشرط وسياق الشرط كسياق النكرة في أن النكرة للعموم إذا وقعت في كلّ منهما. [سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 29] فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) اللغة: (بِالْخُنَّسِ) الخنس: الكواكب كلها والسيارات منها فقط أو بعضها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 393 من الخنس وهو الرجوع لأنها ترجع في مجراها وراءها والفعل خنس يخنس من باب دخل، وفي الصحاح: الخنس الكواكب كلها لأنها تخنس في المغيب ولأنها تخفى نهارا ويقال: هي الكواكب السيّارة منها دون الثابتة، وقال الفرّاء في قوله تعالى فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس أنها النجوم الخمسة زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد لأنها تخنس في مجراها وتكنس كما تكنس الظباء في المغار، والخنس أيضا مأوى الظباء والظباء نفسها والبقر الوحشية. (الْكُنَّسِ) في المصباح: وكناس الظبي بالكسر بيته وكنس الظبي كنوسا من باب نزل دخل كناسه، وتكنس الظبي تغيب واستتر في كناسه وتكنس الرجل: دخل في الخيمة وتكنست المرأة دخلت في الهودج. (عَسْعَسَ) أقبل بظلامه أو أدبر قال العجاج: حتى إذا الصبح لها تنفسا ... وانجاب عنها ليلها وعسعسا الإعراب: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ، وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) الفاء استئنافية ولا تقدم القول فيها فجدد به عهدا وأقسم فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا وبالخنس متعلق بأقسم والجواري نعت أو بدل والكنس نعت للجواري، والليل: الواو للقسم أيضا والليل مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وإذا ظرف متعلق بفعل القسم وجملة عسعس في محل جر بإضافة الظرف إليها، والصبح إذا تنفس عطف على الجملة السابقة وإنما لم نعطف الليل على الخنس لأن الواو ابتداء قسم فإن قيل فقد خالفتم سيبويه فإنه لا يرى الواو المتعقبة للقسم ابتداء قسم بل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 394 عاطفة وقد جعلتم الواو الأولى وهي متعقبة للقسم ابتداء قسم؟ قلنا إنما تكلم سيبويه في الواو وأما الآية فالقسم الأول فيها بالباء والفعل فجعلنا الواو بعد ذلك قسما وتبعا وهو أبلغ كأنه أقسم بشيئين مختلفين فإن قيل أجل إنما تكلم سيبويه على الواو المتعقبة للقسم فما الفرق بين الواو المتعقبة للقسم بالواو والواو المتعقبة للقسم بالباء وما هما إلا سواء فإن كل واحد منهما آلة له والتاء تدل على الباء فحكمهما واحد قلنا ليستا سواء فإن القسم متى صدر بالواو ولم تله واو أخرى فجعلها قسما الآخر فيه تكرار مستكره إذ الآلة واحدة ولا كذلك الآية إذ اختلفت الآلة فإن عاملة التكرار مأمونة إذا ألا ترى أنه لو صدر القسم بالواو ثم تلاه قسم بالباء لتحتم جعلهما قسمين مستقلين فكذلك لو خولف هذا الترتيب وأيضا فإنه إن كان المانع لسيبويه من جعل الواو الثانية قسما مستقلا فجيء الجواب واحدا واحتياج الواو الأولى إلى محذوف فالعطف يغني عن تقدير محذوف فلا يلزم اطّراد الباء لأنها أصل القسم لا سيما مع التصريح بفعل القسم ثم تأكيده بزيادة لا فإن في مجموع ذلك ما يغني عن إفراده بجواب مذكور ولا كذلك الواو فإنها ضعيفة المكنة في القسم بالنسبة إلى الباء فلا يلزم من حذف جواب تمكنت الدلالة عليه حذف جواب دونه في الوضوح. ونختم الكلام على هذا السؤال بنكتة بديعة: وهي أنه إنما خصصت إيراد السؤال بالواو الثانية في قوله والليل إذا عسعس دون الثالثة لأنه غير متوجه عليها، ألا تراك لو جعلتها عاطفة لم يلزمك العطف على عاملين لأنك تجعلها نائبة عن الباء وتجعل إذا فيها منصوبة بالفعل مباشرة إذا لم يتقدم في جملة الفعل ظرف تعطف عليه إذا فتصير بمثابة قولك مررت بزيد وعمرو اليوم فاليوم منصوب بالفعل مباشرة وفهم من المثال أن مرورك بزيد مطلق غير مقيد بظرف وإنما المقيد باليوم مرورك بعمرو خاصة لكن يطابق الآية فإن الظرف فيها وإن عمل فيه الفعل مباشرة فهو مقيد للقسم بالليل لا للقسم بالخنس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 395 (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) الجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وإن واسمها واللام المزحلقة وقول خبرها ورسول مضاف إليه وكريم نعت، وسيأتي المراد به في باب الفوائد (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) ذي قوة صفة ثانية لرسول وعند ذي العرش حال من مسكين لأنه كان في الأصل صفة له فلما قدم نصب حالا، ومكين صفة ثالثة ومطاع صفة رابعة وثم ظرف بمعنى هناك متعلق بمطاع وأمين صفة خامسة (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) الواو عاطفة والجملة عطف على إنه لقول رسول كريم وما نافية حجازية وصاحبكم اسمها والباء حرف جر زائد ومجنون مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) عطف على قوله إنه لقول إلخ فهو داخل في حيز المقسم به واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ورآه فعل ماض وفاعل مستتر وبالأفق متعلقان برآه والمبين نعت للأفق (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) عطف أيضا وما نافية حجازية وهو اسمها وعلى الغيب متعلقان بضنين والباء حرف جر زائد وضنين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما وعلى بمعنى الباء أي فلا يبخل به عليكم بل يخبركم به وقرىء بظنين بالظاء المعجمة أي بمتهم، وفي المصباح: «والظنة بالكسر التهمة وهي اسم من ظننته من باب قتل إذا اتهمته فهو ظنين فعيل بمعنى مفعول وفي السبعة وما هو على الغيب بظنين أي بمتهم» وفي المصباح أيضا: «ضن بالشيء يضنّ من باب تعب ضنا وضنّة بالكسر وضنانة بالفتح بخل فهو بخيل ومن باب ضرب لغة فيه» (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) عطف أيضا وهو نفي لقولهم أنه كهانة وسحر (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) الفاء عاطفة وأين اسم استفهام في محل نصب ظرف مكان مبهم لا مختص متعلق بتذهبون، وتذهبون فعل مضارع مرفوع وفاعل أي فأي طريق تسلكون (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) إن نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر وذكر خبر وللعالمين متعلقان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 396 بذكر أو نعت له ولمن بدل من قوله للعالمين بإعادة العامل وهو اللام وجملة شاء لا محل لها لأنها صلة من ومنكم حال وأن وما في حيّزها مفعول به لشاء (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) الواو عاطفة وما نافية وتشاءون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وإلا أداة حصر وأن وما بعدها في موضع نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بتشاءون والله فاعل ورب العالمين بدل أو نعت لله واختار البيضاوي نصب المصدر المؤول على الظرفية وعبارته: «وما تشاءون الاستقامة يا من تشاءونها إلا أن يشاء الله أي إلا وقت أن يشاء الله مشيئتكم فله الفضل والحق عليكم باستقامتكم» . الفوائد: اختلف أهل التفسير فذهب منهم الجمّ الغفير إلى أن المراد بالرسول الكريم هاهنا إلى آخر النعوت محمد صلّى الله عليه وسلم، فإن يكن الأمر كذلك فذلك فضل الله المعتاد على نبيّه، وذهب منهم الجم الغفير أيضا إلى أن المراد به جبريل عليه السلام، وقد شجر الخلاف حول المفاضلة بين الملائكة والرسل، والمشهور عن أبي الحسن الأشعري تفضيل الرسل، ومذهب المعتزلة تفضيل الملائكة إلا أن المختلفين أجمعوا على أنه لا يسوغ تفضيل أحد القبيلين الجليلين بما يتضمن تنقيص معين من الملائكة ومعين من الرسل لأن التفضيل وإن كان ثابتا إلا أن في التعيين إيذاء للمفضول، وعليه حمل الحذّاق قوله صلّى الله عليه وسلم: لا تفضّلوني على يونس بن متى أي لا تعينوا مفضولا على التخصيص لأن التفضيل على التعميم ثابت بإجماع المسلمين، أي تفضيل النبي صلّى الله عليه وسلم على جميع النبيين أجمعين. وكان ابن فارس، رحمه الله، يوضّح ذلك بمثال فيقول: لو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 397 قلت بحضرة جماعة من الفقهاء: فلان أفضل أهل عصره لكان في الجماعة احتمال لهذا التفضيل وإن لزم اندراجهم في المفضولين ولو عينت واحدا منهم وقلت: فلان أفضل منك لأسرع به الأذى إلى بعضك. وقال القاضي البيضاوي: «واستدل به على فضل جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام حيث عدّ فضائل جبريل واقتصر على نفي الجنون عنه صلّى الله عليه وسلم وهو ضعيف إذ المراد منه ردّ قولهم إنما يعلّمه بشر افترى على الله كذبا أم به جنة، لا تعداد فضلهما والموازنة بينهما» . أما الكرخي فقال: «ثم إنك إذا أمعنت النظر وقفت على أن إجراء تلك الصفات على جبريل في هذا المقام إدماج لتعظيم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنه بلغ من المكانة وعلو المنزلة عند ذي العرش بأن جعل السفير بينه وبينه مثل هذا الملك المقرّب المطاع الأمين فالقول في هذه الصفات بالنسبة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم رفعة منزلة له كالقول في قوله ذي العرش بالنسبة إلى رفعة منزلة جبريل عليه السلام» . أما الزمخشري فقد أتى بما لعل جبريل صلوات الله عليه ما كان ليرضى به من تقصير في حق البشير النذير بقوله: «وناهيك بهذا دليلا على مكانة جبريل عليه السلام وفضله على الملائكة ومباينة لمنزلة أفضل الإنس محمد صلّى الله عليه وسلم إذا وازنت بين الذكرين حين قرن بينهما وقايست بين قوله: إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين وبين قوله: وما صاحبكم بمجنون» . وقد ردّ ابن المنير كعادته على الزمخشري فقال: «ثم يعود الكلام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 398 على الآية بعد تسلم أن المراد جبريل وبعد أن نكله في تعيينه النبي صلّى الله عليه وسلم وعدّه مفضولا إلى الله فنقول: لم يذكر فيها نعت إلا وللنبي صلّى الله عليه وسلم مثله أو لها رسول كريم فقد قال في حقه صلّى الله عليه وسلم في آخر سورة الحاقة إنه لقول رسول كريم وقد قيل أيضا أن المراد جبريل إلا أنه يأباه قوله: وما هو بقول شاعر وقد وافق الزمخشري على ذلك فيما تقدم فهذا أول الفوت وأعظمها وأما قوله ذي قوة فليس محل الخلاف إذ لا نزاع في أن لجبريل عليه السلام فضل القوة الجسمية ومن يقتلع المدائن بريشة من جناحه لا مراء في فضل قوته على قوة البشر وقد قيل هذا في تفسير قوله: ذو مرة فاستوى وقوله عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين فقد نبتت طاعة الملائكة أيضا لنبيّنا صلّى الله عليه وسلم وورد أن جبريل عليه السلام قال للنبي: إن الله يقرئك السلام وقد أمر ملك الجبال يطيعك عند ما آذته قريش فسلم عليه الملك وقال: إن أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت فصبر النبي صلّى الله عليه وسلم واحتسب، وأعظم ذلك وأشرف مقامه المحمود في الشفاعة الكبرى يوم لا يتقدمه أحد إذ يقول الله تعالى له: ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع وأما أمين فقد قال والله إني لأمين في الأرض أمين في السماء وحسبك قوله: وما هو على الغيب بظنين إن قرأته بالظاء فمعناه أنه صلّى الله عليه وسلم أمين على الغيب غير متهم وإن قرأته بالضاد رجع إلى الكرم فكيف يذهب إلى التفضيل بالنعوت المشتركة بين الفاضل والمفضول سواء» . البلاغة: 1- في قوله: «والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس» استعارة مكنية، فقد شبّه الليل بإنسان يقبل ويدبر ثم حذف المشبه وأخذ منه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 399 شيئا من لوازمه وهي لفظة عسعس أي أقبل وأدبر كما شبّه الصبح بكائن حي يتنفس فحذف المشبه وأتى بشيء من لوازمه وهو التنفس أي خروج النفس من الجوف، أو يقال أنه شبّه الليل بالمكروب الحزين الذي حبس بحيث لا يتحرك فإذا تنفس وجد راحته وهنا لما طلع الصبح فكأنه تخلص من الحزن كلية فعبّر عن ذلك بالتنفس. 2- وفي قوله «فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس» فن الالتزام فقد لزمت النون قبل السين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 400 (82) سورة الانفطار مكيّة وآياتها تسع عشرة [سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 19] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 401 اللغة: (بُعْثِرَتْ) قال الزمخشري: «بعثر وبحثر بمعنى وهما مركبان من البعث والبحث مع راء مضمومة إليهما والمعنى بحثت وأخرج موتاها وقيل لبراءة المبعثرة لأنها بعثرت أسرار المنافقين» وفي المختار: «بحثره فتبحثر أي بدده فتبدد وقال الفراء: بحثر متاعه وبعثره أي فرّقه وقلب بعضه على بعض وقال أبو الجراح: بحثر الشيء وبعثره أي استخرجه وكشفه» . الإعراب: (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه والسماء فاعل لفعل محذوف يدل عليه المذكور وجملة انفطرت مفسّرة وجملة انفطرت السماء في محل جر بإضافة الظرف إليها والظرف متعلق بالجواب وهو علمت وما بعده عطف عليه والبحار والقبور نائب فاعل لفعل محذوف وجملة علمت لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعلمت نفس فعل وفاعل وما مفعول به وجملة أخّرت لا محل لها لأنها صلة ما (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) يا حرف نداء وأيّها منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب بيا والهاء للتنبيه والإنسان بدل وما اسم استفهام مبتدأ وجملة غرّك خبره وبربك متعلقان بغرّك والكريم صفة لربك، وقرأ ابن جبير والأعمش ما أغرّك فاحتمل أن تكون أن استفهامية وأن تكون تعجبية. وإنما قال سبحانه: الكريم دون غيره من أسمائه الحسنى وصفاته لأنه تعالى كأنه لقنه الإجابة حتى يقول: غرّني كرم الكريم (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) الذي صفة ثانية لربك مقرّة بالربوبية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 402 وجملة خلقك صلة الذي، فسوّاك عطف على خلقك وكذلك فعدلك (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) الجار والمجرور متعلقان بركبك وما زائدة وجملة شاء صفة لصورة والمفعول به محذوف أي شاءها والمعنى وصفك في أيّ صورة اقتضتها مشيئته من حسن ودمامة وطول وقصر وذكورة وأنوثة، وعدلك أي صيّرك معتدل القامة متناسب الخلقة من غير تفاوت. ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال أي ركّبك حال كونك حاصلا في بعض الصور وقال الزمخشري: «ويجوز أن يتعلق بعدلك ويكون في أيّ معنى التعجب أي فعدلك في صورة عجيبة» (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) كلا حرف ردع وزجر وبل حرف إضراب انتقالي إلى بيان السبب الأصيل في اغترارهم، وعبارة الراغب: «بل هنا لتصحيح الثاني وإبطال الأول كأنه قيل ليس هنا ما يقتضي أن يغرّهم به تعالى شيء ولكن تكذيبهم هو الذي حملهم على ما ارتكبوه» وتكذبون فعل مضارع مرفوع وفاعل وبالدين متعلقان بتكذبون (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ) الواو حالية مقررة للإنكار والجملة حالية من الواو في تكذبون أي تكذبون والكتبة يكتبون كل ما يصدر عنكم ويجوز أن تكون الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لإخبارهم بذلك ليرتدعوا عما هم عليه وإن حرف مشبّه بالفعل، وعليكم خبرها المقدّم واللام للتأكيد وحافظين اسم إن أو هو صفة لاسمها أي ملائكة، وكراما نعت لحافظين وكاتبين نعت ثان (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) الجملة نعت ثالث ويعلمون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وما مفعول به وجملة تفعلون صلة والعائد محذوف أي تفعلونه (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) الجملة مستأنفة مسوقة للإجابة عن سؤال مقدّر تقديره لم يكتبون ذلك فكأنه قيل ليجازي الأبرار بالنعيم والفجّار بالجحيم. وإن واسمها واللام المزحلقة وفي نعيم خبرها وجملة وإن الفجّار إلخ عطف على الجملة السابقة مماثلة لها في إعرابها (يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) الجملة حال من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 403 الضمير من الجار والمجرور وهو لفي جحيم، ويصلونها فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والهاء مفعول به ويوم الدين ظرف متعلق بيصلونها، ويجوز أن تكون جملة يصلونها مستأنفة مسوقة للإجابة عن سؤال مقدّر تقديره وماذا يئول إليه أمرهم في الجحيم (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) أراد يصلون النار يوم الدين وما يغيبون عنها قبل ذلك أي في قبورهم (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) الواو عاطفة وما اسم استفهام إنكاري في محل رفع مبتدأ وجملة أدراك خبر وأدراك فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره هو والكاف مفعول به أول وما اسم استفهام معناه التهويل والتعظيم في محل رفع مبتدأ ويوم الدين خبره والجملة المعلقة بالاستفهام سدّت مسدّ مفعول أدراك الثاني قال ابن عباس: «كلّ ما في القرآن من قوله ما أدراك فقد أدراه وكل ما فيه من قوله وما يدريك فقد طوى عنه» (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) يوم مفعول به لفعل محذوف تقديره اذكر وجعله أبو البقاء ظرفا متعلقا بمحذوف تقديره يجازون، وقرىء بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو بدل من يوم الدين، وجملة لا تملك في محل جر بإضافة الظرف إليها ونفس فاعل والتنوين للتعميم أي كل نفس وشيئا مفعول به والأمر مبتدأ ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله متعلق بمحذوف حال والتنوين عوض عن جملة ولله خبر الأمر. البلاغة: 1- في قوله «إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجّار لفي جحيم» الوصل وقد تقدم القول في الوصل والفصل وفيه من مقتضيات الوصل اتفاق الجملتين في الخبرية والإنشائية مع الاتصال أي الجامع بينهما وهو هنا التضاد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 404 2- وفي هاتين الآيتين أيضا فن الترجيع وهو ضرب من السجع وذلك أن تكون كل لفظة في صدر البيت أو فقرة النثر موافقة لنظيرتها في الوزن والروي والإعراب ومما ورد منه شعرا قول أبي فراس: وأفعالنا للراغبين كريمة ... وأموالنا للطالبين نهاب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 405 (83) سورة المطفّفين مكيّة وآياتها ستّ وثلاثون [سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 13] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) اللغة: (لِلْمُطَفِّفِينَ) التطفيف: البخس في الكيل والوزن لأن ما يبخس شيء طفيف حقير، وطفف المكيال نقصه قليلا وقال الزجّاج: «وإنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفف لأنه يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 406 (اكْتالُوا) قال الفرّاء يقال اكتلت على الناس استوفيت منهم واكتلت منهم: أخذت ما عليهم فعلى بمعنى من. (سِجِّينٍ) قال الزمخشري: «فإن قلت قد أخبر الله عن كتاب الفجار إنه في سجين وفسّر سجينا بكتاب مرقوم فكأنه قيل: إن كتابهم في كتاب مرقوم فما معناه؟ قلت: سجين كتاب جامع هو ديوان الشر دوّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجن والإنس وهو كتاب مرقوم مسطور بيّن الكتابة أو معلّم يعلم من رآه أنه لا خير فيه، فالمعنى أن ما كتب من أعمال الفجّار مثبت في ذلك الديوان، وسمي سجينا فعيلا من السجن وهو الحبس والتضييق لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم» إلى أن يقول: «فإن قلت: فما سجين أصفة هو أم اسم؟ قلت بل هو اسم علم منقول من وصف كحاتم وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف» . وعبارة أبي حيان: «وسجين قال الجمهور فعيل من السجن كسكير أو في موضع ساجن فجاء بناء مبالغة في سجين على هذا صفة لموضع محذوف قال ابن مقبل: ورفقة يضربون البيض ضاحية ... ضربا تواصت به الأبطال سجينا» ثم أورد ما قاله الزمخشري قال: «واختلفوا في سجين إذا كان مكانا اختلافا مضطربا حذفنا ذكره والظاهر أن سجينا هو كتاب ولذلك أبدل منه كتاب مرقوم وقال عكرمة: سجين عبارة عن الخسار والهوان كما تقول بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الجمود وقال بعض اللغويين سجين نونه بدل من لام وهو من السجل فتلخص من أقوالهم أن سجينا نونه أصلية أو بدل من لام وإذا كانت أصلية فاشتقاقه من السجن» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 407 وأورد صاحب القاموس في مادة سجن ما نصّه: «وكسكين الدائم الشديد موضع فيه كتاب الفجّار وواد في جهنم أعاذنا الله تعالى منها أو حجر في الأرض السابعة» . (مَرْقُومٌ) مكتوب مسطور وأصل الرقم الكتابة، ومنه قول الشاعر: سأرقم في الماء القراح إليكم ... على بعدكم إن كان للماء راقم الإعراب: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) ويل مبتدأ وسوّغ الابتداء به كونه دعاء وللمطففين خبره، ولو نصب لجاز وقيل: «والمختار في ويل وشبهه إذا كان غير مضاف الرفع ويجوز فيه النصب فإن كان مضافا أو معرّفا كان الاختيار فيه النصب نحو ويلكم لا تغترّوا» ، (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) الذين صفة للمطففين وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط وهو متعلق بالجواب المحذوف وتقديره قبضوا منهم وجملة اكتالوا في محل جر بإضافة الظرف إليها وعلى الناس متعلقان باكتالوا وقيل متعلقان بيستوفون وإنما قدّم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية قال الزمخشري: «لما كان اكتيالهم اكتيالا يضرّهم ويتحامل فيه عليهم أبدل على مكان من للدلالة على ذلك ويجوز أن يتعلق بيستوفون وقدّم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية أي يستوفون على الناس خاصة فأما أنفسهم فيستوفون لها» وقد جعل ابن هشام «على» بمعنى «من» موافقا بذلك الزمخشري. وجملة يستوفون في موضع نصب على الحال من فاعل الجواب المحذوف أي قبضوا منهم مستوفين (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) الواو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متعلق بالجواب المحذوف وتقديره استوفوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 408 لها وجملة كالوهم في محل جر بإضافة الظرف إليها وكالوهم فعل ماض وفاعل والهاء منصوب بنزع الخافض أي كالوا لهم الطعام وأو حرف عطف ووزنوهم عطف على كالوهم موازن له في إعرابه وعبارة الزمخشري «والضمير في كالوهم أو وزنوهم ضمير منصوب راجع إلى الناس وفيه وجهان: أن يراد كالوا لهم أو وزنوا لهم فحذف الجار وأوصل الفعل كما قال: ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن نبات الأوبر فجنى لا يتعدى إلا لواحد وللثاني باللام فالأصل جنيت لك فحذف الجار وأوصل الضمير أو ضمنه معنى انجتك فعدّاه لهما، والأكمؤ جمع كمء كأفلس وهو واحد الكمأة وهي لنوع كبير من نبات يسمى شحمة الأرض سمي كمأة لاشتهاره بها والعساقل جمع عسقول كعصفور وكان حقه عساقيل فحذفت الياء للوزن وقيل أنه جمع عسقل وهو نوع صغير منها جيد أبيض ونبات أوبر نوع رديء منها أسود مزغب كأن عليه وبرا وقيل هو جنس يشبه القلقاس أو اللفت ونبات أوبر جمع ابن أوبر لأنه علم لما لا يعقل وأل فيه زائدة وقال المبرد: هو اسم جنس، والبيت هو من باب التمثيل لحال من اغري على الطيب فعدل إلى الخبيث ثم رجع يتندم على عاقبته. ونعود إلى ما نحن بصدده فنقول ومن أمثلة المنصوب بنزع الخافض قولهم الحريص يصيدك لا الجواد والأصل يصيد لك وما قيل من أن هم ضمير رفع مؤكد للواو في كالوهم خطأ. وأو حرف عطف ووزنوهم معطوف على كالوهم ويقال في إعرابه ما قيل في كلوهم أي وزنوا لهم، وعبارة أبي حيان: «وكال ووزن مما يتعدى بحرف الجر فتقول كلت لك ووزنت لك ويجوز حذف اللام كقولك نصحت لك ونصحتك وشكرت لك وشكرتك والضمير ضمير نصب أي كالوا لهم ووزنوا لهم فحذف حرف الجر ووصل الفعل بنفسه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 409 والمفعول محذوف وهو المكيل والموزون» وجملة يخسرون حال من الجواب المحذوف (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري ولا نافية ويظن فعل مضارع مرفوع والظن هنا بمعنى اليقين أي ألا يوقن أولئك ولو أيقنوا ما نقصوا في الكيل والوزن، وأولئك فاعل والإشارة للمطففين وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي يظن وأن واسمها ومبعوثون خبرها وليوم متعلقان بمبعوثون أو هو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف وإنما بني على الفتح لإضافته إلى الفعل وعظيم نعت ويوم بدل من ليوم تابع له على المحل ومحله النصب بمبعوثون المذكور أو بمقدّر مثله لأن البدل على نية تكرير العامل وجملة يقوم الناس في محل جر بإضافة الظرف إليها ولرب العالمين متعلقان بيقوم، وعن ابن عمران قرأ هذه السورة فلما بلغ قوله يوم يقوم الناس لرب العالمين بكى نحيبا وامتنع من قراءة ما بعده، وعن عبد الملك بن مروان أن أعرابيا قال له: قد سمعت ما قال الله في المطففين أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ) كلا ردع وزجر لهم عن التطفيف والغفلة عن الحساب والبعث وإن واسمها واللام المزحلقة وفي سجين خبر إن وما اسم استفهام مبتدأ وجملة أدراك خبر وما اسم استفهام مبتدأ وسجين خبر والجملة الاسمية المعلقة بالاستفهام سدّت مسدّ مفعول أدراك الثاني وكتاب بدل من سجين أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو كتاب مرقوم ومرقوم صفة كتاب، وإذا اعتبر سجين اسم موضع فالأرجح الخبرية أو تقدير مضاف من سجين ليندفع الاعتراض بأن سجينا اسم موضع فكيف يفسّر بكتاب مرقوم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) ويل مبتدأ كما تقدم ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله متعلق بويل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 410 وللمكذبين خبر والذين نعت للمكذبين وجملة يكذبون لا محل لها لأنها صلة الذين وبيوم الدين متعلقان بيكذبون (وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) الواو عاطفة أو حالية وما نافية ويكذب فعل مضارع مرفوع وبه متعلق بيكذب وإلا أداة حصر وكل معتد أثيم فاعل يكذب (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) إذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بجوابه وهو قال وجملة تتلى في محل جر بإضافة الظرف إليها وعليه متعلقان بتتلى وآياتنا نائب فاعل تتلى وجملة قال لا محل لها لأنها جواب إذا وأساطير الأولين خبر لمبتدأ محذوف أي هي. وتقدم أن الأساطير جمع أسطورة أو أساطرة بالكسر وهي الحكاية التي سطرت قديما. البلاغة: في قوله «الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون» مقابلة أتت على أحسن وجه وأنظمه أي إذا كان الكيل من جهة غيرهم استوفوه وإذا كان الكيل من جهتهم خاصة أخسروه سواء باشروه أو لا، فالضمير لا يدل على مباشرة ولا إشعار أيضا بذلك والذي يدلك على أن الضمير لا يعطي مباشرة الفعل إن لك أن تقول: الأمراء هم الذين يقيمون الحدود لا السوقة لست تعني أنهم يباشرون ذلك بأنفسهم وإنما معناه أن فعل ذلك من جهتهم خاصة، قيل كان أهل المدينة تجّارا يطففون وكانت بياعاتهم المنابزة والملامسة والمخاطرة فنزلت فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقرأها عليهم وقال: خمس بخمس قيل: يا رسول الله: وما خمس بخمس؟ قال: ما نقض قوم العهد إلا سلّط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 411 ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر. وقيل نزلت في رجل يعرف بأبي جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر، أي يأخذ بواحد ويعطي بآخر. [سورة المطففين (83) : الآيات 14 الى 36] كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 412 اللغة: (رانَ) غلب وأحاط وغطى تغطية الغيم للسماء وفي المختار: «الرين الطبع والدنس يقال ران ذنبه على قلبه من باب باع وريونا أيضا غلب وقال أبو عبيدة: كل ما غلبك فقد ران بك ورانك وران عليك ورين الرجل إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه ولا قبل له به» وعبارة الزمخشري: «ران على قلوبهم: ركبها كما يركب الصدأ وغلب عليها وهو أن يصرّ على الكبائر ويسوف التوبة حتى يطبع على قلبه فلا يقبل الخير ولا يميل إليه وعن الحسن: الذنب بعد الذنب حتى يسودّ القلب، يقال ران عليه الذنب وغان عليه رينا وغينا والذين الغيم ويقال ران فيه النوم رسخ فيه ورانت به الخمر ذهبت به» قلت: وران يائية وواوية وهي هنا يائية، يقال: ران يرين رينا وريونا الشيء فلانا وعليه وبه: غلب عليه تقول: ران هواه على قلبه أي غلب عليه ورانت نفسه: خبثت وغشت وران الموت عليه وبه ذهب ورين به: وقع فيما لا يستطيع الخروج منه ولا طاقة له به ومات ووقع في غم وأران إرانة القوم هلكت ماشيتهم فهم مرينون والران حذاء كالخف إلا أنه أطول منه والرّينة: الخمر لغلبتها على العقل. أما الواوية فيقال: ران يرون رونا من باب دخل الأمر: اشتد ورانت الليلة اشتد هولها أو غمّها والرّون بضم الراء المشددة الشدة والجمع رءون ورونة الشيء بالضم معظمه وشدته يقال كشف الله عنك رونة هذا الأمر أي شدّته وغمته والأرونان الصعب ويقال الأرونان والأروناني الشديد في كل شيء من حرّ وبرد وجلبة وصياح وحزن وفرح ومؤنثه أرونانة وأرونانية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 413 (عِلِّيُّونَ) قال الزمخشري: «وعليون علم لديوان الخير الذي دوّن فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين منقول من جمع عليّ فعيل من العلو كسجين من السجن سمي بذلك إما لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة وإما لأنه مرفوع في السماء السابعة حيث يسكن الكروبيون تكريما له وتعظيما» وعبارة أبي حيان: عليون جمع واحده عليّ مشتق من العلو وهو المبالغة قاله يونس وابن جنّي قال أبو الفتح وسبيله أن يقال عليّة كما قالوا للغرفة عليّة فلما حذفت التاء عوّضوا منها الجمع بالواو والنون وقيل هو وصف للملائكة فلذلك جمع بالواو والنون، وقال الفراء: هو اسم موضوع على صيغة الجمع ولا واحد له من لفظه كقوله عشرين وثلاثين والعرب إذا جمعت جمعا ولم يكن له بناء من واحده ولا تثنية قالوا في المذكر والمؤنث بالواو والنون، وقال الزجّاج أعرب هذا الاسم كإعراب الجمع هذه قنسرون ورأيت قنسرين وقال ابن هشام في بحث ما ألحق بجمع المذكر السالم «والرابع ما سمي به من هذه الجمع وما ألحق به كعليون» أي فإنه ملحق بهذا الجمع ومسمى به أعلى الجنة، وقال الراغب: قيل هو اسم أشرف الجنان كما أن سجين هو أشرف النيران وقيل بل ذلك في الحقيقة اسم سكانها وهذا أقرب إلى العربية إذا كان هذا الجمع يخصّ الناطقين والواحد عليّ ومعناه أن الأبرار في جملة هؤلاء. الإعراب: (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) كلا حرف ردع وزجر للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل وتكذيب له فيه، وبل حرف عطف وإضراب وران فعل ماض مبني على الفتح وعلى قلوبهم متعلقان بران وما فاعل وجملة كانوا لا محل لها لأنها صلة وكان واسمها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 414 وجملة يكسبون خبر كانوا (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) كلا حرف ردع وزجر أيضا عن الكسب الرائن على قلوبهم وإن واسمها وعن ربهم متعلقان بمحجوبون ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله متعلق بمحجوبون أيضا ومحجوبون خبر إن والتنوين في إذ عوض عن جملة تقديرها يوم إذ يقوم الناس، وسيأتي معنى قوله محجوبون في باب البلاغة (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) ثم حرف عطف لتراخي الرتبة فإن صلي الجحيم أشد من الإهانة والحرمان من الرحمة والكرامة، وإن واسمها واللام المزحلقة وصالوا الجحيم خبر إن (ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) ثم حرف عطف للترتب والتراخي أيضا ويقال فعل مضارع مبني للمجهول ونائب لفاعل مستتر تقديره هو وهذا مبتدأ والذي خبره وجملة كنتم صلة وكان واسمها وبه متعلقان بتكذبون وجملة تكذبون خبر كنتم (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) كلا تأكيد للردع ووجوب الارتداع وإن واسمها واللام المزحلقة وفي عليين خبرها وعلامة جر عليين الياء نيابة عن الكسرة لأنه ملحق بجمع المذكر السالم والواو حرف عطف وما اسم استفهام مبتدأ وجملة أدراك خبر وما اسم استفهام للتفخيم والتعظيم مبتدأ وعليون خبر وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة لأنه ملحق بجمع المذكر السالم والجملة المعلقة بالاستفهام سدّت مسدّ مفعول أدراك الثاني (كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) كتاب بدل من عليون أو خبر لمبتدأ محذوف وهو الأولى ومرقوم نعت لكتاب وجملة يشهده نعت ثان والهاء مفعول به والمقربون فاعل (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) كلام مستأنف مسوق للشروع في محاسن أحوالهم، وإن واسمها واللام المزحلقة وفي نعيم خبرها وعلى الأرائك متعلقان بينظرون وجملة ينظرون حالية من الضمير المستكن في خبر إن أو مستأنفة والمراد بالأرائك السرر في الحجال والحجال كما يقول الجوهري جمع حجلة بالتحريك واحده حجال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 415 العروس وهو بيت يزيّن بالثياب والأسرّة، وقال الشهاب: الحجلة بفتحتين بيت مربع من الثياب الفاخرة يرخى على السرير يسمى في عرف الناس بالناموسية أي الكلة (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) كلام مستأنف مسوق لإيذان المخاطب بالالتفات إليهم والتأمل في آثار النعيم على وجوههم وقرىء بالبناء للمجهول فتكون نضرة النعيم نائب فاعل وفي وجوههم متعلقان بتعرف ونضرة النعيم مفعول به (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) يسقون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل ومن رحيق متعلقان بيسقون ومختوم نعت، أي خمر خالصة من كل شائبة أو غش، وختامه مسك مبتدأ وخبر والجملة نعت ثان لرحيق والظاهر أن الرحيق ختم عليه لتوفير النظافة والرائحة المسكية كما فسّره بعد، وفي الصحاح: «الختام الطين الذي يختم به وكذا قال مجاهد وابن زيد ختم إناؤه بالمسك بدل الطين قال: كأن مشعشعا من خمر بصرى ... نمته البحت مشدود الختام» والواو حرف عطف وفي ذلك متعلقان بقوله فليتنافس والفاء عاطفة لزيادة الاهتمام واللام لام الأمر ويتنافس فعل مضارع مجزوم باللام والمتنافسون فاعل، وفي المختار: «ونفس الشيء من باب ظرف صار مرغوبا فيه ونافس في الشيء منافسة ونفاسا بالكسر إذا رغب فيه على وجه المباراة في الكرم وتنافسوا فيه أي رغبوا» (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) الواو عاطفة ومزاجه مبتدأ ومن تسنيم خبر وهو علم لعين بعينها سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه لأنها تأتيهم من فوق على ما روي أنها تجري في الهواء فيشربونها صرفا للمقربين وممزوجة لسائر أهل الجنة وقيل سميت بالتسنيم لأنها أرفع شراب في الجنة، وعينا منصوب على المدح بفعل محذوف تقديره أمدح، وقال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 416 الزجّاج: نصب على الحال من تسنيم بوصفها علما، قال أبو البقاء: «وقيل تسنيم مصدر وهو الناصب عينا» وقال الأخفش يسقون عينا. وجملة يشرب نعت عينا وبها متعلقان بيشرب أي منها على أن التضمين في الحرف أو يكون التضمين بالفعل أي يلتذ بها، والمقربون فاعل يشرب (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) كلام مستأنف مسوق لتسلية المؤمنين وتقوية قلوبهم بما أعدّ للأبرار في الجنة. وإن واسمها وجملة أجرموا لا محل لها لأنها صلة الذين وجملة كانوا خبر إن وكان واسمها ومن الذين متعلقان بيضحكون وجملة يضحكون خبر كانوا فقد كان مشركو مكة كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأشياعهم يضحكون من عمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم من فقراء المؤمنين ويستهزئون بهم وقيل جاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من المؤمنين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا رأينا اليوم الأصلع فضحكوا منه (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بيتغامزون وجملة مروا بهم في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة يتغامزون لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وإذا ظرف مستقبل أيضا وجملة انقلبوا في محل جر بإضافة الظرف إليها وإلى أهلهم متعلقان بانقلبوا وجملة انقلبوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وفكهين حال أي معجبين وقرىء فاكهين أي فرحين ناعمين (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) الواو عاطفة أيضا وإذا ظرف مستقبل وجملة رأوهم في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة قالوا لا محل لها والضمير المرفوع عائد على المؤمنين والمنصوب على المجرمين أي إذا رأى المؤمنون المجرمين ينسبونهم إلى الضلال ويجوز العكس، وإن واسمها وخبرها والجملة مقول قولهم (وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) الواو حالية والجملة حال من الواو في قالوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 417 وما نافية وأرسلوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل وعليهم متعلقان بحافظين وحافظين حال (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) الفاء عاطفة للتفريع واليوم ظرف متعلق بيضحكون والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة ومن الكفّار متعلقان بيضحكون أيضا وجملة يضحكون خبر الذين وعلى الأرائك متعلقان بينظرون وجملة ينظرون حالية من الضمير في يضحكون أي يضحكون حال كونهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من التردّي والهوان (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) الجملة مقول قول محذوف أي يقولون هل ثوب وأجازوا أن تكون الجملة معلقة بالاستفهام في محل نصب بنزع الخافض وثوب فعل ماض مبني للمجهول والكفار نائب فاعل وثوب هنا بمعنى الجزاء أي هل أثيبوا أو هو من ثاب بمعنى رجع لأن الثواب هو ما يرجع على الإنسان في مقابل عمله وما في موضع نصب مفعول به ثان وجملة كانوا صلة ما وجملة يفعلون خبر كانوا قال أوس: سأجزيك أو يجزيك عنّي مثوب ... وحسبك أن يثني عليك وتحمدي البلاغة: في قوله «كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم لأنه لا يؤذن على ذوي العلية والمراتب السامية إلا للمقربين المكرمين لديهم ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء الموسومون بالمهانة والقماءة والصغار، وقد رمق أبو تمام سماء هذا المعنى فقال مبررا احتجاب المعتصم عن الرعية: ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا ... إن السماء ترجى حين تحتجب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 418 (84) سورة الانشقاق مكيّة وآياتها خمس وعشرون [سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) اللغة: (وَأَذِنَتْ) استمعت أمره يقال أذنت لك أي استمعت كلامك، وفي الحديث: «ما أذن الله لشيء إذنه لنبي يتغنى بالقرآن» وقال الشاعر: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 419 صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا وفي المختار: «وأذن له استمع وبابه طرب ومنه قوله تعالى: وأذنت لربها وحقّت» ويقال: أذن يأذن أذنا إليه وله استمع له معجبا أو عام ولرائحة الطعام اشتهاه وأذن بالشيء كسمع إذنا بالكسر ويحرّك وأذانا وأذانة علم به، فأذنوا بحرب أي كونوا على علم وآذنه الأمر وبه أعلمه وأذّن تأذينا أكثر الإعلام وفلانا عرك أذنه ورده عن الشرب فلم يسقه والنعل وغيرها جعل لها أذنا، وفعله بإذني وأذيني: بعلمي، وأذن له في الشيء كسمع إذنا بالكسر وأذينا أباحه له، واستأذنه: طلب منه الإذن إلى آخر هذه المادة العجيبة. (كادِحٌ) جاهد في عملك والكدح جهد النفس في العمل والكد فيه حتى يؤثر فيها من كدح جلده إذا خدشه وفي المختار: «الكدح العمل والسعي والكد والكسب وهو الخدش أيضا وباب الكل قطع وقوله تعالى: إنك كادح إلى ربك أي ساع وبوجهه كدوح أي خدوش وهو يكدح لعياله ويكتدح أي يكتسب» ومن طريف أمر الكاف والدال إذا وقعا فاء وعينا للكلمة دلّت على الجهد والدأب والتأثير يقال فلان كدود: يكدّ نفسه في العمل ويتعبها. ومن المجاز كدّ لسانه بالكلام وقلبه بالفكر وكدّت الدواب الأرض بالحوافر وهي الكديد وكردت رأسي وجلدي بالأظفار إذا حككته حكا بإلحاح ومنه قول كثير: غنيت فلم أرددكم عن بغيّة ... وجعت فلم أكددكم بالأصابع أي لم ألح عليكم في السؤال وبئر كدود لا ينال ماؤها إلا بجهد وناقة كدود ورجل كدود: لا ينال درّها وخيره إلا بعد عسر، وكان ابن هبيرة يقول: كدوني فإني مكد أي سلوني فإني أعطي على السؤال، وكدر الماء عن ابن الأعرابي فيه اللغات الثلاث وماء أكدر وكدر بين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 420 الكدر ومن المجاز كدر عينه وتكدر وخذ ما ضفا ودع ما كدر وكدر عليّ فلان وهو كدر الفؤاد عليّ قال: وإني لمشتاق إلى ظل صاحب ... يرق ويصفو إن كدرت عليه وله كدس من الطعام وأكداس قال المتلمس: لم تدر بصرى بما آليت من قسم ... ولا دمشق إذا ديس الكداديس أراد الأكداس وهو اسم جمع وكدس الطعام فتكدس ولا يخفى ما فيه من الثقل والجهد. وكدمه عضّه بأدنى الفم وحمار مكدّم معضض. وإنه لذو كدنة وعبالة وهي غلظ وثقله ومنه الكودن وهو البرذون التركي. وأكدى الحافر بلغ الكدية وهي صلابة الأرض فمنعته كقولهم أجبل الحافر، ومن المجاز أكدى الرجل: أخفق ولم يظفر بحاجته وفلان مكد لا ينمى ماله إلى آخر ما جاء من هذه المادة. (ثُبُوراً) الثبور الهلاك وفي المصباح: «وثبر الله الكافر ثبورا من باب قعد أهلكه وثبر هو ثبورا هلك يتعدى ولا يتعدى» . (يَحُورَ) يرجع، قال الراغب: الحور التردد في الأمر ومنه نعوذ بالله من الحور بعد الكور أي من التردد في الأمر بعد المضي فيه ومحاورة الكلام مراجعته، والحور العود الذي تجري فيه البكرة لترددها عليه، وفي المختار: «حار رجع وبابه قال ودخل» فالمصدر بوزن قول ودخول يقال حورا وحئورا ومحارا ومحارة. هذا وتأتي حار بمعنى صار فترفع الاسم وتنصب الخبر. الإعراب: (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) إذا ظرف لما يستقبل من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 421 الزمن والسماء فاعل بفعل محذوف يفسّره ما بعده والتقدير إذا انشقّت السماء انشقت لأن إذا الشرطية يختص دخولها بالجمل الفعلية وما جاء من هذا ونحوه فمؤول محافظة على قاعدة الاختصاص وقد تقدم القول مفصلا فيه في سورة التكوير، وجملة انشقت مفسّرة لا محل لها وجملة انشقت المحذوفة في محل جر بإضافة الظرف إليها وجواب إذا محذوف وإنما حذف تنبيها على أنه شيء لا يحيط به الوصف أو ليذهب المقدّر كل مذهب وقيل جوابها ما دلّ عليه فملاقيه أي إذا السماء انشقت لاقى الإنسان كدحه وقيل لا جواب لها إذ هي قد نصبت باذكر نصب المفعول به فليست شرطا، والواو حرف عطف وأذنت فعل ماض ولربها متعلقان بأذنت أي استمعت له وحقّت فعل ماض مبني للمجهول، واعلم أن الفاعل في هذا التركيب هو الله تعالى أي حقّ الله عليها ذلك أي سمعه وطاعته يقال هو حقيق بكذا وتحقق به والمعنى وحقّ لها أن تفعل ذلك فالفاعل إذن محذوف وهو الله تعالى والمفعول به هو سمعها وطاعتها وهو غير مذكور بل الإسناد في الآية إنما هو للسماء نفسها فيحتاج إلى تقدير والتقدير وحقّت هي أي حقّ سمعها وطاعتها أي حقّه الله تعالى عليها وأوجبه وألزمها به هذا هو الظاهر، وأجاز البيضاوي أن يكون نائب الفاعل هو ضمير السماء المستكن في الفعل من غير تقدير ونص عبارته «وحقّت أي جعلت حقيقة بالاستماع والانقياد» (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) عطف على ما تقدم مماثل له في إعرابه (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) يا حرف نداء وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب والهاء للتنبيه والإنسان بدل وإن واسمها وكادح خبرها وإلى ربك متعلقان بكادح، و «إلى» هنا معناها الغاية أي غاية كدحك في الخير والشر تنتهي بلقاء ربك وهو الموت، وكدحا مفعول مطلق والفاء حرف عطف وملاقيه عطف على كادح ويجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوف أي فأنت ملاقيه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 422 فعلى الأول يكون من عطف المفرد على المفرد وعلى الثاني يكون من باب عطف الجمل (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) الفاء استئنافية وأما حرف شرط وتفصيل ومن اسم موصول مبتدأ وجملة أوتي صلة لا محل لها ونائب الفاعل مستتر يعود على من وكتابه مفعول به ثان وبيمينه متعلقان بأوتي (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) الفاء رابطة لجواب أما وسوف حرف استقبال ويحاسب فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وحسابا مفعول مطلق ويسيرا نعت حسابا (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) الواو حرف عطف وينقلب فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو وإلى أهله متعلقان بينقلب ومسرورا حال وجملة سوف يحاسب خبر من (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) عطف على الجملة السابقة مماثل له في إعرابه ووراء ظهره منصوب بنزع الخافض أي يؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره والفاء رابطة وجملة سوف يدعو ثبورا خبر من وثبورا مفعول يدعو أي ينادي هلاكه بقوله يا ثبوراه لأن نداء ما لا يعقل يراد به التمنّي فالدعاء بمعنى الطلب بالنداء (وَيَصْلى سَعِيراً) عطف على يدعو وسعيرا مفعول يصلّى (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) تعليل لما يلاقيه وإن واسمها وجملة كان خبرها وفي أهله حال ومسرورا خبر كان (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) تعليل ثان وإن واسمها وجملة ظن خبرها والظن هنا بمعنى العلم والتيقن وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويحور فعل مضارع منصوب بلن وجملة لن يحور خبر أن وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي ظن (بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) بلى حرف جواب لإيجاب ما بعد النفي وإن واسمها وجملة كان خبرها وبه متعلقان ببصيرا وبصيرا خبر كان وجملة إن وما في حيّزها جواب قسم مقدّر أو تعليل لما أفادته بلى من إيجاب لما بعد لن. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 423 البلاغة: 1- في قوله «وأذنت لربها وحقّت» استعارة مكنيّة فقد شبّهت حال السماء في انقيادها لتأثير قدرة الله تعالى حيث أراد انشقاقها بانقياد المستمع المطواع للأمر ثم حذف المشبه به واستعير لفظ الإذن والاستماع المستعمل في غايته. 2- في قوله «وألقت ما فيها وتخلت» استعارة مكنية فقد شبّهت حال الأرض بحال المرأة الحامل تلقي ما في بطنها عند الشدّة والهول ثم حذف المشبه به واستعير لفظ الإلقاء. [سورة الانشقاق (84) : الآيات 16 الى 25] فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) اللغة: (الشفق) قال الزمخشري «الشفق الحمرة التي ترى في المغرب بعد سقوط الشمس وبسقوطه يخرج وقت المغرب ويدخل وقت العتمة عند عامة العلماء إلا ما يروى عن أبي حنيفة في إحدى الروايتين أنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 424 البياض وروى أسد بن عمرو أنه رجع عنه. وسمي شفقا لرقته ومنه الشفقة على الإنسان وهي رقة القلب عليه» وقال الراغب: «الشفق اختلاط ضوء النهار بسواد الليل عند غروب الشمس والإشفاق عناية مختلطة بخوف لأن المشفق يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه فإذا عدّي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر وإذا عدّي بعلى فمعنى العناية فيه أظهر» وقال السمين: «والشفق شفقان: الشفق الأحمر والشفق الأبيض والشفق والشفقة اسمان للاشفاق» وقال أبو حيان: «الشفق الحمرة بعد مغيب الشمس حين تأتي صلاة العشاء الآخرة قيل أصله من رقة الشيء يقال شيء مشفق أي لا يتماسك لرقته ومنه أشفق عليه رقّ قلبه والشفقة الاسم من الشفاق وكذلك الشفق قال الشاعر: تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا ... والموت أكرم نزال على الحرم» وعبارة القاموس: «الشفق محركة الحمرة في الأفق من الغروب إلى العشاء الآخرة أو إلى قربها أو إلى قريب العتمة» وهذا هو الصحيح، ومنه قول الشاعر: قم يا غلام أعنّي غير مرتبك ... على الزمان بكأس حشوها شفق (وَسَقَ) جمع وضم يقال وسقه فانشق واستوسق ونظيره في وقوع افتعل واستفعل مطاوعين اتسع واستوسع وفي القاموس: «وسقه يسقه من باب ضرب جمعه وحمله ومنه والليل وما وسق» . (اتَّسَقَ) اجتمع واستوى ليلة أربع عشرة، قال الفراء «وهو امتلاؤه واستواؤه ليالي البدر» وهو افتعل من الوسق وهو الضم والجمع كما تقدم وأمر فلان متسق أي مجتمع على ما يسر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 425 الإعراب: (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) الفاء الفصيحة لأنها في جواب شرط مقدم أي إذا عرفت هذا أو إذا تحققت الرجوع بالبعث فلا أقسم وقد تقدم القول في لا أقسم فجدّد به عهدا، وبالشفق متعلقان بأقسم والليل عطف على الشفق والواو حرف عطف وما يجوز أن تكون موصولة اسمية ويجوز أن تكون نكرة موصوفة ويجوز أن تكون مصدرية وعلى كونها موصولة أو نكرة موصوفة فعائد الصلة أو الصفة محذوف أي وسقه أي جمعه والمعنى ضم ما كان ساربا بالنهار من أصناف الخلق وأنواع الكائنات لأن كل شيء منها في الليل يعود إلى مأواه، والقمر عطف أيضا وإذا ظرف خال من معنى الشرط متعلق بفعل القسم أي وقت اتّساقه واستوائه واللام جواب القسم وتركبن فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال لأنه من الأفعال الخمسة والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والنون نون التوكيد الثقيلة وطبقا حال أو مفعول به وعن طبق أي أمة من الناس صفة لطبقا أي طبقا مجاوزا الطبق وعلى كون طبقا مفعولا به يكون على حذف مضاف أي لتركبن سنن أو طريقة طبقة بعد طبق، وعبارة الزمخشري: «فإن قلت ما محل عن طبق؟ قلت: النصب على أنه صفة لطبقا أي طبقا مجاوزا لطبق أو حال من الضمير في لتركبن أي لتركبن طبقا مجاوزين لطبق أو مجاوزا أو مجاوزة على حسب القراءة» وقال الزمخشري أيضا: «قرىء لتركبن على خطاب الإنسان في يا أيها الإنسان ولتركبن بالضم على خطاب الجنس لأن النداء للجنس ولتركبن بالكسر على خطاب النفس وليركبن بالياء على ليركبن الإنسان والطبق: ما طابق غيره يقال: ما هذا بطبق لذا أي لا يطابقه ومنه قيل للغطاء الطبق وإطباق الثرى ما تطابق منه ثم قيل للحال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 426 المطابقة لغيرها طبق ومنه قوله عزّ وجلّ: طبقا عن طبق، أي حالا بعد حال كل واحدة مطابقة لأختها في الشدّة والهول ويجوز أن يكون جمع طبقة وهي المرتبة من قولهم هو على طبقات ومنه طبق الظهر لفقاره الواحدة طبقة على معنى لتركبنّ أحوالا بعد أحوال هي طبقات في الشدّة بعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها» قلت ومن ورود الطبق بمعنى الأمة قول العباس بن عبد المطلب في رسول الله صلّى الله عليه وسلم: وأنت لما ولدت أشرقت الأر ... ض وضاءت بنورك الأفق تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) الفاء الفصيحة وما اسم استفهام مبتدأ ولهم خبر وجملة لا يؤمنون حال (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) الجملة معطوفة على الجملة الحالية السابقة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة قرىء في محل جر بإضافة الظرف إليها والقرآن نائب فاعل وجملة لا يسجدون لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) حرف إضراب انتقالي والذين مبتدأ وجملة كفروا لا محل لها لأنها صلة الذين وجملة يكذبون خبر الذين (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) الواو حرف عطف والله مبتدأ واعلم خبره وبما متعلقان بأعلم وجملة يوعون لا محل لها لأنها صلة ما أي يضمرون في قلوبهم من التكذيب (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وبعذاب متعلقان ببشرهم وأليم نعت (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) إلا حرف استثناء والاستثناء منقطع فهو بمعنى لكن والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على الصلة داخل في حيّزها ولهم خبر مقدّم وأجر مبتدأ مؤخر وغير ممنون نعت أي غير مقطوع ولا منقوص والجملة الاسمية خبر الذين، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 427 هذا ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا فيكون الذين مستثنى. البلاغة: في قوله «والليل وما وسق والقمر إذا اتسق» فن الالتزام أو لزوم ما لا يلزم، ومنهم من يسمّيه الاعنات وقد تقدمت الإشارة إليه وهو أن يلتزم الشاعر في شعره والناثر في نثره حرفا أو حرفين فصاعدا قبل حرف الروي على قدر طاقته مشروطا بعدم الكلفة، وقلنا أن لأبي العلاء المعري ديوانا التزم فيه ما لا يلزم. أما في الآية فقد التزمت النون قبل القاف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 428 (85) سورة البروج مكيّة وآياتها ثنتان وعشرون [سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) اللغة: (الْبُرُوجِ) جمع برج وهو في الأصل الركن والحصن والقصر وكل بناء مرتفع على شكل مستدير أو مربع يكون منفردا أو قسما من بناية عظيمة والبرج أيضا أحد بروج السماء وهي حسب تعبير اللغويين اثنا عشر: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، وأصل التركيب للظهور الجزء: 10 ¦ الصفحة: 429 يعني أن أصل معنى البرج الأمر الظاهر من التبرّج ثم صار حقيقة في العرف للقصر العالي لظهوره ويقال لما ارتفع من سور المدينة برج أيضا. (الْأُخْدُودِ) مفرد وجمعه أخاديد والخد بفتح الخاء بمعنى الأخدود وجمعه خدود وهو الشق في الأرض أو حفرة مستطيلة فيها ويجمع على أخاديد، والأخاديد أيضا: آثار الضرب بالسوط ومنه أخاديد الأرشية في البئر وهي تأثير جرّها فيه. ويقال للشيخ: قد تخدّد ويراد قد تشنج جلده. الإعراب: (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) الواو حرف قسم وجر والسماء مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وذات البروج نعت للسماء واليوم الموعود عطف على السماء أو قسم برأسه والمراد به يوم القيامة وقيل غير ذلك وارجع إلى المطولات، وشاهد ومشهود عطف أيضا والمراد به محمد صلّى الله عليه وسلم وقيل غير ذلك أيضا وجواب القسم محذوف واختلف فيه فقيل دلّ عليه قوله قتل أصحاب الأخدود كأنه قيل أقسم بهذه الأشياء أنهم ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود وقيل محذوف صدره والتقدير لقد قتل وإنما احتيج لهذا الحذف لأن المشهور عند النحاة أن الماضي المثبت المتصرّف الذي لم يتقدم معموله إذا وقع جوابا للقسم تلزمه اللام وقد لا يجوز الاقتصار على أحدهما إلا عند طول الكلام والتقدير لقد قتل فالجملة على ذلك خبرية لا دعائية (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) قتل فعل ماض مبني للمجهول وأصحاب الأخدود نائب فاعل والنار بدل اشتمال من الأخدود لأن الأخدود مشتمل على النار الجزء: 10 ¦ الصفحة: 430 ولا بدّ من تقدير ضمير بدل الاشتمال والتقدير النار فيه وذات الوقود نعت للنار وقد اختلف في الرابط لأنهم اشترطوا في بدل الاشتمال أن يتصل بضمير يرجع إلى المبدل منه كما اشترطوا ذلك في بدل البعض من الكل ليربط البعض بكله فقيل الرابط محذوف متصل بغير البدل أي النار فيه وهو قول البصريين وقيل لا تقدير والأصل ناره ثم نابت أل عن الضمير وهو قول الكوفيين (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بقتل أي لعنوا حين أحرقوا بالنار قاعدين عليها في مكان مشرف عليها من حافات الأخدود، وهم مبتدأ وعليها متعلق بقعود وقعود جمع قاعد خبر هم والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها وهم مبتدأ وعلى ما يفعلون متعلقان بشهود وشهود خبرهم أي يشهدون بما فعلوا بالمؤمنين يوم القيامة وقيل على بمعنى مع وشهود بمعنى حضور والمعنى وهم على ما يفعلون بالمؤمنين من العذاب حضور لا يرقون لهم لقسوة قلوبهم وهذا التقدير أكثر ملاءمة لنظم القرآن وقد جرى عليه أبو نواس فقال: أنت على ما بك من قدرة ... فلست مثل الفضل بالواجد وعندئذ تكون في محل نصب على الحال أي حال فعلهم بالمؤمنين (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) الواو عاطفة أو حالية وما نافية ونقموا فعل ماض وفاعل ومنهم متعلقان بنقموا وإلا أداة حصر وأن يؤمنوا مصدر مؤول في محل نصب مفعول نقموا أي ما عابوا منهم وما أنكروا إلا الإيمان، وسيأتي مزيد بسط لهذا المعنى في باب البلاغة، وعبروا بالمستقبل بقوله يؤمنوا مع أن الإيمان وجد منهم في الماضي لأن تعذيبهم إياهم وإنكارهم عليهم ليس للإيمان الماضي وإنما لديمومته متمكنا فيهم مركوزا في صدورهم فكأنه قيل إلا استمرارهم على إيمانهم. وبالله متعلقان بيؤمنون والعزيز الحميد صفتان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 431 لله ذكر الأوصاف التي يستحق بها أن يعبد وأن يؤمن به كل مخلوق ومنها العزّة والأنعام الذي يستحق عليه الحمد (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) الذي نعت ثالث وله خبر مقدّم وملك السموات والأرض مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية لا محل لها لأنها صلة والله مبتدأ وشهيد خبره وعلى كل شيء متعلقان بشهيد. البلاغة: في قوله: «وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد» فن توكيد المدح بما يشبه الذم، وقد تقدمت الإشارة إليه في المائدة وهو أن يستثني من صفة ذم منفية صفة مدح أو أن يثبت لشيء صفة مدح ويؤتى بعدها بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى، ومن الأول بيت النابغة في مديح الغسانيين: ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلول من قرع الكتائب وقول ابن الرقيات وقد اقتبس لفظ القرآن ورمق سماء بلاغته: ما نقموا من أمية إلا ... أنهم يحملون إن غضبوا ومنه قول ابن نباتة المصري: ولا عيب فيه غير أني قصدته ... فأنستني الأيام أهلا وموطنا وقول المعرّي: تعدّ ذنوبي عند قوم كثيرة ... ولا ذنب لي إلا العلا والفضائل وأما الثاني فقليل في الشعر ومنه قول بعضهم: ما فيك من الجمال سوى ... أنك من أقبح القبيحات الجزء: 10 ¦ الصفحة: 432 [سورة البروج (85) : الآيات 10 الى 22] إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) اللغة: (فَتَنُوا) عذبوا والمراد هنا حرقوهم بالنار، يقال فتنت الشيء إذا حرقته بالنار والعرب تقول: فتن فلان الدينار إذا أدخله الكور لينظر جودته وفي المختار: «الفتنة الاختبار والامتحان تقول: فتن الذهب يفتنه بالكسر فتنة ومفتونا أيضا إذا أدخله النار لينظر جودته ودينار مفتون، قال الله تعالى: إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات أي حرقوهم ويسمّى الصائغ الفتّان وكذا الشيطان وقال الخليل: الفتن الإحراق قال الله تعالى: يوم هم على النار يفتنون» وعبارة القاموس: «الفتن بالفتح الفن والحال ومنه العيش فتنان أي لونان حلو ومر، والإحراق ومنه «على النار الجزء: 10 ¦ الصفحة: 433 يفتنون» والفتنة بالكسر الخبرة كالمفتون ومنه بأيّكم المفتون وإعجابك بالشيء، وفتنه يفتنه فتنا وفتونا وأفتنه، والضلال والإثم والكفر والفضيحة والعذاب وإذابة الذهب والفضة والإضلال والجنون والمحنة والمال والأولاد واختلاف الناس في الآراء، وفتنه يفتنه أوقعه في الفتنة كفتّنه وأفتنه فهو مفتن ومفتون ووقع فيها لازم ومتعدّ كافتتن فيهما وإلى النساء فتونا وفتن إليهنّ بالضم أراد الفجور بهنّ وكأمير الأرض الحرّة السوداء والجمع ككتب والفتان اللص والشيطان كالفاتن والصائع والفتانان الدرهم والدينار ومنكر ونكير والفتين النجار وفاتون خباز فرعون قتيل موسى والفتنان الغدوة والعشيّ والفتان ككتاب غشاء للرحل من أدم وكصاحب وزبير اسمان والمفتون المجنون» قال شارحه: «والمفتون المجنون وبه فسّر قوله تعالى: بأيّكم المفتون» وقال الجوهري: «الباء زائدة والمفتون الفتنة وهو مصدر كالمعقود والمجلود والمخلوف» . قال ابن برّي: «إذا كانت الباء زائدة فالمفتون الإنسان وليس بمصدر فإن جعلت غير زائدة فالمفتون مصدر» وإنما نقلنا المادة كلها لننفي وهما تورط به الشيخ الجمل في حاشيته على الجلالين إذا قال: «وفي القاموس: إن فتن بهذا المعنى من باب كتب فعلى هذا يكون له بابان» ومن مطالعة ما كتبناه ونقلناه عن القاموس يتضح هذا الوهم. الإعراب: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) كلام مستأنف مسوق لذكر وعيد المجرمين أولا ثم يردفه بذكر ما أعد للمؤمنين. وإن حرف مشبّه بالفعل والذين اسمها وجملة فتنوا صلة الذين لا محل لها والمؤمنين مفعول به والمؤمنات عطف على المؤمنين وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 434 ولم حرف نفي وقلب وجزم ويتوبوا فعل مضارع مجزوم بلم والجملة عطف على فتنوا وإنما استعمل ثم لأن التوبة مقبولة مهما يتراخ بها الزمن ويمتد، فلهم: الفاء رابطة لشرط مقدّر مفهوم من المبتدأ ولهم خبر مقدّم وعذاب جهنم مبتدأ مؤخر ولهم خبر مقدّم وعذاب الحريق مبتدأ مؤخر وجملة فلهم عذاب جهنم خبر إن الذين فتنوا (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) كلام مستأنف كما تقدم مسوق لذكر ما أعدّ للمؤمنين، وإن واسمها وجملة آمنوا صلة الذين وجملة وعملوا الصالحات عطف على الصلة داخلة في حيّزها ولهم خبر مقدّم وجنات مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر إن الذين آمنوا وجملة تجري نعت لجنات ومن تحتها متعلقان بتجري والأنهار فاعل وذلك مبتدأ والفوز خبر والكبير نعت، وتذكير الإشارة للتنبيه للمذكور من حيازتهم للجنة واستحقاقهم إيّاها ولام البعد جيء بها للإيذان بعلو درجته في الفضل (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) كلام مستأنف أيضا مسوق لتسلية النبي عمّا يكابده من كفّار قومه وإن أمرهم مغلول، ومكرهم سيزول. وإن واسمها واللام المزحلقة وشديد خبرها (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) إن واسمها وهو مبتدأ وجملة يبدىء خبر هو والجملة خبر إن ويجوز أن يكون هو ضمير فصل وجملة يبدىء خبر إنه ويعيد عطف على يبدىء أي من كان قادرا على الإبداء والإيجاد قادر بحكم الطبع والبداهة على الإعادة (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) الواو عاطفة وهو مبتدأ والغفور وما بعده أخبار، وبهذه الآية يستدل النحاة على تعدّد الخبر، وسلك الزمخشري طريقا آخر فقال: «فعال خبر مبتدأ محذوف وإنما قيل فعال لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة» وقال الفرّاء: هو رفع على التكرير والاستئناف لأنه نكرة محضة (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ؟ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ؟ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) كلام مستأنف مسوق لتقرير بطشه تعالى وفيه تسلية لرسول الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 435 صلّى الله عليه وسلم أي هل أتاك يا محمد خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم وهل قيل هي بمعنى قد وقيل هي استفهام تقريري تعجبي وأتاك فعل ماض ومفعول به وحديث الجنود فاعل وفرعون وثمود بدل من الجنود على حذف مضاف لأنه أراد بفرعون إياه وآله وبل إضراب انتقالي للأشد والذين مبتدأ وفي تكذيب خبره وسيأتي مزيد من معناه في باب البلاغة (وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) الواو عاطفة والله مبتدأ ومن ورائهم متعلقان بمحيط ومحيط خبر الله (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) بل إضراب انتقالي عن شدة كفرهم إلى وصف القرآن وهو مبتدأ وقرآن خبر ومجيد صفة أي يسبح وحده في البلاغة والبيان وفي لوح صفة ثانية ومحفوظ صفة للوح. البلاغة: 1- في قوله «إن بطش ربك لشديد» أورد الخبر الإنكاري وهو تأكيد الكلام وجوبا للمنكر، وقد أكد الكلام بأن واللام. 2- وفي قوله «بل الذين كفروا في تكذيب» مجاز مرسل علاقته الحالية لأن التكذيب معنى من المعاني ولا يحلّ الإنسان فيه وإنما يحلّ في مكانه فاستعمال التكذيب في مكانه مجاز أطلق فيه الحال وأريد المحل فعلاقته الحالية وعدل عن يكذبون إلى جعلهم في التكذيب وأنه لشدته أحاط بهم إحاطة البحر بالغريق والسوار بالمعصم وفي الوقت نفسه جاء بالتكذيب نكرة للدلالة على تعظيمه وتهويل أمره. الفوائد: قد يتعدد خبر المبتدأ الواحد فيكون أكثر من واحد لأن الخبر كالنعت فيجوز تعدده، وإلى ذلك أشار ابن مالك في الخلاصة قال: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 436 وأخبروا باثنين أو بأكثرا ... عن واحد كهم سراة شعرا ويطّرد ذلك في وجهين: أحدهما أن يتعدد لفظا لا معنى نحو الرمان حلو حامض لأن معنى الخبرين راجع إلى شيء واحد إذ معناهما مز فهما بمنزلة اسم واحد، والثاني أن يتعدد لفظا ومعنى نحو زيد كاتب شاعر، وضابط الأول أنه لا يجوز عطف أحد الخبرين على الآخر لأنهما بمثابة اسم واحد، وضابط الثاني أنه يجوز أن يعطف الثاني على الأول وأن لا يعطف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 437 (86) سورة الطارق مكيّة وآياتها سبع عشرة [سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 17] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) اللغة: (وَالطَّارِقِ) أصله كل آت ليلا ومنه النجوم لطلوعها ليلا ومنه قول جرير: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 438 طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام وقد نقدته سكينة بنت الحسين إذ قالت لرواية جرير قبح الله صاحبك وقبح الله شعره وأي وقت أشهى من الطروق وهو اسم فاعل من طرق طرقا وطروقا إذا جاء ليلا والمراد به هنا النجم وإنما سمي طارقا لطلوعه ليلا وكل من آتاك ليلا فقد طرقك ولا يكون الطروق إلا بالليل، قالت هند بنت عتبة: نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق تريد أن أبانا كالنجم في علوّه وشرفه وأصل الطرق الدق ومنه سمّيت المطرقة وإنما سمي قاصد الليل طارقا لاحتياجه إلى طرق الباب أي دقّه غالبا ثم اتسع به في كل ما ظهر بالليل كائنا ما كان ثم اتسع كل التوسع حتى أطلق على الآتي نهارا وفي المصباح: «طرقت الباب طرقا من باب قتل وطرقت الحديدة مددتها وطرقتها بالتثقيل مبالغة وطرق النجم طروقا من باب قعد طلع وكل ما أتى ليلا فقد طرق وهو طارق والمطرقة بالكسر ما يطرق به الحديد» أما ابن جنّي فقد منع أن يأتي الطروق نهارا قال: «وأما قول العامة: نعوذ بالله من طوارق الليل والنهار فغلط لأن الطروق لا يكون إلا بالليل والصواب أن يقال نعوذ بالله من طوارق الليل وجوارح النهار لأن العرب تقول طرقه إذا أتاه ليلا وجرحه إذا أتاه نهارا» . وفي الصحاح: «الطارق: النجم الذي يقال له كوكب الصبح» . (الثَّاقِبُ) المضيء لثقبه الظلام، قال أبو عبيدة: العرب تقول: أثقب نارك أي أضئها وقيل الثاقب العالي يقال ثقب الطائر إذا علا في الهواء وأسف إذا دنا من الأرض ودوّم إذا سكن جناحيه ليستقل وعبارة الأساس واللسان: ثقب الشيء بالمثقب وثقب القداح عينه ليخرج الماء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 439 النازل وثقّب اللّآل الدرّ ودرّ مثقّب وعنده در عذارى لم يثقّبن وثقبن البراقع لعيونهنّ قال المثقّب العبدي: أرين محاسنا وكننّ أخرى ... وثقبن الوصاوص للعيون وبه سمي المثقب. ومن المجاز كوكب ثاقب ودرّيّ شديد الإضاءة والتلألؤ كأنه يثقب بالظلمة فينفذ فيها ويدرؤها ورجل ثاقب الرأي إذا كان جزلا نظارا وثقب الطائر إذا حلق كأنه يثقب السكّاك وثقّب الشيب في اللحية: أخذ في نواصيها وباب الجميع دخل. (الصُّلْبِ) الشديد يقال هو صلب في دينه وراع صلب العصا إذا كان يعنّف الإبل وعظم في الظهر ذو فقار يمتد من الكاهل إلى العجب أو أسفل الظهر ويجمع على أصلاب وأصلب وصلبة وهو المراد هنا ويقال هو من صلب فلان أي من نسله وولده وفيه أربع لغات بضم الصاد وسكون اللام والصلب بفتحتين والصلب بضمتين وقد قرىء بها جميعا وثمة لغة رابعة وهي الصالب. (وَالتَّرائِبِ) الترائب عظام الصدر حيث تكون القلادة، وعن عكرمة الترائب ما بين ثديي المرأة وحكى الزجّاج أن الترائب أربعة أضلاع من يمنة الصدر وأربعة أضلاع من يسرة الصدرة، وفي الحديث «إن الولد يخلق من ماء الرجل يخرج من صلبه العظم والعصب ومن ماء المرأة يخرج من ترائبها اللحم والدم» ، وفي المختار: «والترائب جمع تريبة كصحيفة وصحائف» قال امرؤ القيس: مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل يعني المرآة ويقال تريب بغير هاء، وأنشد للمثقب العبدي: ومن ذهب يلوح على تريب ... كلون العاج ليس بذي غضون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 440 وسيأتي مزيد من معناه في باب البلاغة. (السَّرائِرُ) ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيّات وما أخفي من الأعمال وبلاؤها تعرفها وتصفحها والتمييز بين ما طاب منها وما خبث، وعن الحسن أنه سمع رجلا ينشد: سيبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ودّ يوم تبلى السرائر فقال: ما أغفله عمّا في السماء والطارق، وفي المختار «السر الذي يكتم وجمعه أسرار والسريرة مثله والجمع سرائر» . (الرَّجْعِ) المطر لأنه يعود كل حين فالسحاب تحمل الماء من الأمطار ثم ترجعه إلى الأرض ويسمى أوبا لأنه يئوب أي يرجع، قال المتنخل الهذلي: رباء شماء لا يأوي لقلتها ... إلا السحاب وإلا الأوب والسبل يرثي ابنه أو يصف رجلا بأنه رباء أي طلاع من ربأ وارتبأ إذا طلع لينظر إلى أمر ومنه الربيئة وإضافته إلى شماء من إضافة الوصف لمفعوله وهي القلعة المرتفعة من الشمم وهو الارتفاع والقلة أعلى الجبل وقنته والأوب المطر سمي به بذلك لأن أصله من مياه البحار ثم يئوب إليها والسبل بالتحريك المطر من أسبلت الستر إذا أرسلته وأرخيته. وقال الواحدي: «الرجع المطر في قول جميع المفسرين» . (الصَّدْعِ) الشق لأنه يصدع الأرض فتنصدع به وفي الأساس: «وانصدعت الأرض بالنبات وصدعها الله تعالى: والأرض ذات الصدع» . الإعراب: (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 441 لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) الواو حرف قسم وجر والسماء مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف والطارق قسم أيضا منسوق على ما قبله والواو حرف عطف وما اسم استفهام مبتدأ وجملة أدراك خبرها وما اسم استفهام والطارق خبرها والجملة المعلقة بالاستفهام سدّت مسدّ مفعول أدراك الثاني والنجم بدل من الطارق أو خبر لمبتدأ محذوف كأنه جواب للاستفهام الوارد قبله تفخيما له وجملة إن كل نفس لما عليها حافظ لا محل لها من الإعراب لأنها جواب القسم وما بين القسم وجوابه اعتراض وإن بالتخفيف نافية وكل نفس مبتدأ ولما بالتشديد بمعنى إلا وعليها خبر مقدّم وحافظ مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر كل، وقرئت لما بالتخفيف فاللام الفارقة وإن مخففة من الثقيلة مهملة وما زائدة وإلى هذا أشار ابن مالك في الخلاصة فقال: وخففت إن فقل العمل ... وتلزم اللام إذا ما تهمل وقد تقدم نظيرها في يس (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ؟ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) الفاء الفصيحة واللام لام الأمر وينظر فعل مضارع مجزوم باللام والإنسان فاعل، وممّ: من حرف جر وما اسم استفهام في محل جر بمن وقد تقدم أن ما الاستفهامية قد يحذف ألفها إن سبقها حرف جر والجار والمجرور متعلقان بخلق وجملة خلق في موضع نصب بقوله فلينظر المعلّق عنها بالاستفهام وجواب الاستفهام خلق من ماء وجملة خلق من ماء دافق مستأنفة كأنها جواب سؤال مقدّر وخلق فعل ماض مبني للمجهول ومن ماء متعلق بخلق ودافق نعت لماء أي مدفوق أو هي من صيغ النسب كلابن وتامر أو هو مجاز بالإسناد فقد أسند إلى الماء ما لصاحبه مبالغة وجملة يخرج نعت ثان أو حالية ومن بين الصلب متعلقان بيخرج والترائب عطف على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 442 الصلب (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) إن واسمها وعلى رجعه متعلقان بقادر والضمير في إنه يعود على الله واللام المزحلقة وقادر خبر إن ويوم بظرف متعلق برجعه ولا يصحّ تعليقه بقادر لأنه تعالى قادر على رجعه في كل وقت من الأوقات ولا تختص قدرته بوقت دون وقت، وقيل هي معمول لمحذوف تقديره يرجعه يوم أو اذكر يوم ولعله أولى، وقال بعضهم متعلق بناصر وهو فاسد لأن ما بعد ما النافية وما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلهما. والفاء عاطفة وما نافية وله خبر مقدّم ومن حرف جر زائد وقوة مجرور بمن لفظا مرفوع محلا لأنه مبتدأ مؤخر والواو حرف عطف ولا نافية وناصر عطف على قوة وجملة تبلى السرائر في محل جر بإضافة الظرف إليها والسرائر نائب فاعل تبلى (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) الواو حرف قسم وجر والسماء مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف وذات الرجع نعت للسماء والأرض ذات الصدع عطف على الجملة المتقدمة (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) الجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وإن واسمها واللام المزحلقة وهي للتوكيد وقول خبر إن فصل نعت لقول والواو حرف عطف وما حجازية تعمل عمل ليس وهو اسمها والباء حرف جر زائد والهزل مجرور لفظا منصوب محلا لأنه خبر ما (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) كلام مستأنف مسوق للإجابة عن سؤال نشأ من فحوى الكلام كأنه قيل وماذا تتسمى مكابرتهم وعنادهم فقيل انهم، وإن واسمها وجملة يكيدون خبرها وكيدا مفعول مطلق والفاء فصيحة أي إن شئت أن ترى مغبة أمرهم فلا تستعجل بالانتقام منهم، ومهل فعل أمر والكافرين مفعول به وأمهلهم كرر فعل الأمر تأكيدا لرسوله وزاد في الصيغة لزيادة تسكين قلبه وتصبيره ورويدا نصب على المصدر والأصل إروادا فهو تصغير ترخيم بحذف الزوائد وفي المختار: «وفلان على رود بوزن عود أي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 443 على مهل وتصغيره رويد ويقال أرود في السير إروادا ومرودا بضم الميم وفتحها أي رفق وتقول رويدك عمرا أي أمهله وهو مصغر تصغير ترخيم من إرواد مصدر أرود يرود» وعبارة السمين: «اعلم أن رويدا يستعمل مصدرا بدلا من اللفظ بفعله فيضاف تارة كقوله فضرب الرقاب ولا يضاف أخرى نحو رويدا زيدا ويقع حالا نحو ساروا رويدا أي متمهلين ونعتا لمصدر محذوف نحو ساروا رويدا أي سيرا رويدا» هذا وتأتي رويد زيدا اسم فعل بمعنى أمهله وهو مشتق من مسمّاه الذي هو أرود وأصله المصدر الذي هو إرواد وصغّر بحذف الزوائد تصغير الترخيم ومثله تيد زيدا في معنى رويد زيدا، والذي نراه أنه إن أضيف فهو اسم فعل أمر مبني على الفتح ولا محل له من الإعراب وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت فإن نوّنته نحو رويدا أخاك أو أضفتهما نحو رويد أخيك فهو حينئذ منصوب على المفعولية المطلقة. البلاغة: 1- في قوله «من بين الصلب والترائب» طباق، فقد طابق بين عظم الظهر وعظم الصدر وأفرد الأول وجمع الآخر لأن صدر المرأة هو تريبتها فيقال للمرأة ترائب يعني بها التريبة وما حواليها وما أحاط بها وكذلك تقول العرب: رأيت خلاخيل المرأة وثديها وإنما لها ثديان وخلخالان أو يقال أنه تعالى أراد: يخرج من بين الأصلاب والترائب، فاكتفى بالواحد عن الجماعة كما قال تعالى: أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما، ولم يقل والأرضين هذا وقد رمق أبو الطيب سماء هذه الآية فنقلها نقلا خفيا ينمّ على قدرة وألمعية فقال متغزلا وأجاد: بأبي الشموس الجانحات غواربا ... اللابسات من الحرير جلاببا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 444 المنهبات قلوبنا وعقولنا ... وجناتهنّ الناهبات الناهبا الناعمات القاتلات المحييا ... ت المبديات من الدلال غرائبا حاولن تفديتي وخفن مراقبا ... فوضعن أيديهنّ فوق ترائبا وبسمن عن برد خشيت أذيبه ... من حر أنفاسي فكنت الذائبا وإنما أوردنا القطعة لنفاستها، والشاهد في البيت الرابع حيث اقتبس مكان شهوة المرأة فجعلها تضع أيديها عليها ولهذا لم يستطع أحد من شرّاح ديوان أبي الطيب فهم البيت على حقيقته وخلطوا خلطا عجيبا فقال ابن جنّي: «أشرن إليّ من بعيد ولم يجهرن بالسلام والتحية خوف الرقباء والوشاة» وهذا كلام غير مفهوم فإن الخوف من الوشاة والرقباء يستدعي وضع الأيدي على الوجوه لا على الترائب وقال الواحدي وخاض في بيداء من الوهم: «طلبن أن يقلن نفديك بأنفسنا وخفن الرقيب فنقلن التفدية من القول إلى الإشارة أي أنفسنا تفديك» وهذا يحتمل للكلام ما لا يحتمله، ولعل ابن فورجة كان أذكى من صاحبيه فقال: «وضع اليد على الصدر لا يكون إشارة بالسلام وإنما أراد وضعن أيديهنّ فوق ترائبهنّ تسكينا للقلوب من الوجيب» ، على أنه رغم نفاسته منقوض بصدر البيت. 2- وفي قوله «النجم الثاقب» الفصل، وسياق الكلام يقتضي الوصل لأنه قصد إشراكهما في الحكم واتفقا فيه وإنما عدل عنه تفخيما لشأنه فأقسم أولا بما يشترك فيه هو وغيره وهو الطارق ثم سأل عنه بالاستفهام تفخيما لشأنه ثانيا ثم فسّره بالنجم إزالة لذلك الإبهام الحاصل بالاستفهام، روي أن أبا طالب كان عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فانحطّ نجم فجزع أبو طالب وقال أيّ شيء هذا؟ فقال عليه السلام: هذا نجم رمي به وهو آية من آيات الله. 3- وفي قوله «والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 445 الثاقب إن كل نفس لما عليها حافظ» فن المماثلة وهو تماثل ألفاظ الكلام كلها أو بعضها في الزنة دون التقفية فالطارق والثاقب وحافظ متماثلة في الزنة دون التقفية، وقد تأتي بعض ألفاظ المماثلة مقفّاة من غير قصد كقول امرئ القيس: كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى ونشر العطر وأورد الشيخ عبد الغني النابلسي للقاضي يحيى بن أكثم بيتين في المماثلة: إنما الدنيا طعام ... ومدام وغلام فإذا فاتك هذا ... فعلى الدنيا السلام وأورد لابن الصائغ أيضا: زار الحبيب بليلة ... ووشاته لم يشعروا فضممته ولثمته ... وفعلت ما لا يذكر ولهذا قال ابن حجة عن فن المماثلة: أنه نوع سافل بالنسبة إلى غيره. الفوائد: أجوبة القسم: أجوبة القسم أربعة: إنّ وما واللام ولا، فحرفان يوجبان وهما إن واللام، وحرفان ينفيان وهما ما ولا كقولك والله ما قام زيد ولقد قام زيد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 446 (87) سورة الأعلى مكيّة وآياتها تسع عشرة [سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 19] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19) اللغة: (غُثاءً) في القاموس: «الغثاء كغراب وكزنار: القمش والزبد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 447 والهالك البالي من ورق الشجر» وفيه أيضا: «القمش جمع قماش وهو ما على وجه الأرض من فتات الأشياء حتى يقال لرذالة الناس قماش وما أعطاني إلا قماشا أي أردأ ما وجده» وفي المصباح: «غثاء السيل حميله وغثا الوادي غثوّا من باب قعد امتلأ من الغثاء وغثت نفسه تغثى غثيا من باب رمى وغثيانا وهو اضطرابها حتى تكاد تتقيأ من خلط ينصب إلى فم المعدة» . (أَحْوى) الأحوى أفعل من الحوة وهي سواد يضرب إلى خضرة وقيل الأحوى خضرة عليها سواد والأحوى الظبي لأن في ظهره خطين ويقال رجل أحوى وامرأة حواء وجمعها حو نحو أحمر وحمر، وفي القاموس «الحوة بالضم سواد إلى الخضرة أو حمرة إلى السواد وحوي كرضي حوى» وقال ابن جني: والحوة حمرة تضرب إلى السواد وتكون في الشفة والعرب تستحب ذلك، قال ذو الرمة: لمياء في شفتيها حوّة لعس ... وفي اللّثات وفي أنيابها شنب صفراء في نعج بيضاء في دعج ... كأنها فضة قد مسّها ذهب وأنشد أبو عبيدة لذي الرمّة أيضا في المرعى الأحوى: حوّاء قرحاء أشراطيّة وكفت ... فيها الذهاب وحفتها البراعيم والقرحاء: البيضاء يقال للغرة القرحة وأشراطية مطرت بنوء الشّرطين والذهاب بكسر الذال المطر الخفيف والبراعيم جمع برعومة وهي الوردة قبل أن تتفتح ويقال لها الكم والجمع أكمام. الإعراب: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) سبّح فعل أمر أي نزّه وقد تقدم وفاعله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 448 مستتر تقديره أنت واسم ربك مفعوله، وجعله الجلال مقحما على حدّ قول لبيد: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر ولا داعي لهذا التكلف فإن التنزيه يقع على الاسم أي نزّه اسم ربك عن أن يسمي به صنم أو وثن فيقال له رب أو إله. والأعلى صفة لربك، وأجاز ابن هشام أن يكون صفة لاسم (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) الذي صفة ثانية للرب وجملة خلق صلة ومفعول خلق محذوف أي كل شيء والفاء عاطفة وسوّى عطف على خلق والمراد بالتسوية أنه خلق ما أراد على أتم وجه وأكمله ووفق نظام موصوف بالإحكام والإتقان مبرأ من الشوائب والاختلال (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) عطف أيضا منسوق على ما تقدم (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) عطف على ما قبله أيضا وجملة أخرج صلة الذي والمرعى مفعول به، فجعله عطف على أخرج والهاء مفعول به أول وغثاء مفعول به ثان وأحوى صفة لغثاء لكن يشكل أن الغثاء هو اليابس والحوة خضرة دائمة فيتناقضان فالأولى أن يعرب أحوى حالا من المرعى أي أخرجه أحوى أسود من شدّة الخضرة فجعله غثاء بعد حوّته. وقال الزمخشري: «ويجوز أن يكون أحوى حالا من المرعى أي أخرجه من المرعى أسود من شدة الخضرة والريّ فجعله غثاء بعد حوّته» . وقال أبو البقاء: «قوله تعالى أحوى قيل هو نعت لغثاء وقيل هو حال من المرعى أي أخرج المرعى أخضر ثم صيّره غثاء فقدم بعض الصلة» . وقال أبو حيان: «والظاهر أن أحوى صفة لغثاء، قال ابن عباس المعنى فجعله غثاء أحوى أي أسود لأن الغثاء إذا قدم وأصابته الأمطار اسودّ وتعفّن فصار أحوى، وقيل أحوى حال من المرعى أي أخرج المرعى أحوى أي للسواد من شدّة خضرته ونضارته لكثرة ريّه، وحسن تأخير أحوى لأجل الفواصل قال: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 449 وغيث من الوسمي حوّ تلاعه ... تبطنته بشيظم صلّتان» وقال ابن خالويه في كتابه: «إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم» : «فجعله غثاء أحوى أي جعل الله المرعى أحوى والأحوى شديد الخضرة يضرب إلى السواد لريّه ثم صيّره غثاء بعد ما يبس فمعناه تقديم وتأخير» . وقال ابن هشام في كتابه المغني في ذكر الجهات التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها: «الرابع عشر قول بعضهم في أحوى إنه صفة لغثاء وهذا ليس بصحيح على الإطلاق بل إذا فسّر الأحوى بالأسود من الجفاف واليبس وأما إذا فسّر بالأسود من شدّة الخضرة لكثرة الريّ كما فسّر «مدهامتان» فجعله صفة لغثاء كجعل قيما صفة لعوجا وإنما الواجب أن تكون حالا من المرعى وآخر لتناسب الفواصل» ولعمري لقد حسم الخلاف فيما قرره (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) السين حرف استقبال ونقرئك فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به والفاء حرف عطف ولا نافية وتنسى فعل مضارع مرفوع، وعبارة أبي السعود: «سنقرئك فلا تنسى: بيان لهداية الله تعالى الخاصة برسوله صلّى الله عليه وسلم إثر بيان هداية الله العامة لكافة مخلوقاته وهي هدايته عليه السلام لتلقي الوحي وحفظ القرآن وهدايته للناس أجمعين، والسين إما للتأكيد وإما لأن المراد إقراء ما أوحى الله إليه حينئذ وما سيوحي إليه بعد ذلك فهو وعد باستمرار الوحي في ضمن الوعد بالإقراء أي سنقرئك ما نوحي إليك وفيما بعده على لسان جبريل أو سنجعلك قارئا بإلهام القراءة فلا تنسى أصلا من قسوة الحفظ والإتقان مع أنك أمي لا تدري ما الكتابة وما القراءة فيكون ذلك آية أخرى لك مع ما في تضاعيف ما تقرؤه من الآيات البيّنات من حيث الإعجاز ومن حيث الإخبار بالمغيّبات» والفاء عاطفة ولا نافية، أخبر الله تعالى نبيّه أنه لا ينسى، وتنسى فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 450 المقدرة على الألف وقيل لا ناهية وتنسى فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف حرف العلة ثم أتي بالألف دعامة لفتح السين ليوافق رؤوس الآي كقوله: السبيلا، وقد أحسن أبو حيان عند ما شجب هذا الوجه قال «وهذا قول ضعيف ومفهوم الآية في غاية الظهور وقد تعسفوا في فهمها» ، (إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) إلا أداة حصر وما مفعول تنسى والاستثناء مفرّغ من أعمّ المفاعيل وجملة شاء الله صلة ما وجملة إن وما في حيّزها تعليل لما قبله وإن واسمها وجملة يعلم خبرها والجهر مفعول به والواو حرف عطف وما موصولة منسوقة على الجهر وجملة يخفى صلة، قال السمين: «ولا يجوز أن تكون مصدرية لئلا يلزم خلو الفعل من فاعل ولولا ذلك لكان كونها مصدرية أحسن ليعطف مصدر مؤول على مثله صريح» (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) الواو حرف عطف ونيسرك عطف على سنقرئك وهو فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به ولليسرى متعلقان بنيسرك أي للشريعة الإسلامية السمحاء والفاء الفصيحة أي إن علمت أنك من أرباب الفيوضات الكمالية بهدايتنا وتوفيقنا فذكر، وإن شرطية ونفعت فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والذكرى فاعل وفي إن معنى الاستبعاد كأنما هو واثق من عدم جنوحهم إلى الهدى وإصرارهم على ركوب متن الشطط وجواب إن محذوف دلّ عليه ما قبله وللزمخشري سؤال لطيف وإجابة ألطف قال: «فإن قلت: كان الرسول صلّى الله عليه وسلم مأمورا بالذكرى نفعت أو لم تنفع فما معنى اشتراط النفع؟ قلت: هو على وجهين: أحدهما أن رسول الله قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم وما كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلا عتوّا وطغيانا وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يتلظى حسرة وتلهفا ويزداد وجدا في تذكيرهم وحرصا عليه فقيل له: وما أنت عليهم بجبّار فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد، وأعرض عنهم وقل سلام، وذكّر إن نفعت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 451 الذكرى، وذلك بعد إلزام الحجة بتكرير التذكير، والثاني أن يكون ظاهره شرطا ومعناه ذمّا للمذكرين وإخبارا عن حالهم واستبعادا لتأثير الذكرى فيهم وتسجيلا عليهم بالطبع على قلوبهم كما تقول للواعظ غظّ المكّاسين إن سمعوا منك قاصدا بهذا الشرط استبعاد ذلك وأنه لن يكون» أما ابن خالويه فبعد أن أورد الوجه الذي أوردناه قال: «ويقول آخرون: إن بمعنى قد أي فذكر قد نفعت الذكرى وهو بعيد جدا ولا يليق بأسلوب القرآن الافتراض والمجازفة» أما أبو حيان فقد قال: «والظاهر أن أمره بالتذكير مشروط بنفع الذكرى وهذا الشرط إنما جيء به توبيخا لقريش أي إن نفعت الذكرى في هؤلاء الطغاة العتاة ومعناه استبعاد انتفاعهم بالذكرى فهو كما قال الشاعر: لقد أسمعت لو ناديت حيّا ... ولكن لا حياة لمن تنادي وقال الفراء والنحّاس والزهراوي والجرجاني: معناه وإن لم تنفع فاقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) السين حرف استقبال ويذكر فعل مضارع مرفوع ومن موصول فاعل وجملة يخشى صلة لا محل لها ويتجنبها منسوق على سيذكّر والهاء مفعول به والضمير يعود على الذكرى والأشقى فاعل، قال ابن خالويه: «يقال زيد الأشقى والمرأة الشقيا مثل الأعلى والعليا ويقال: كلّم الأشقى الشقيا وكلم الأشقيان الشقيين وكلم الأشقون الأشقين وكلمت الشقييات الشقييات» والذي نعت للأشقى وجملة يصلّى لا محل لها لأنها صلة الذي وفاعل يصلّى مستتر يعود على الأشقى والنار مفعول به والكبرى نعت للنار وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ولا نافية ويموت فعل مضارع مرفوع وفيها متعلقان بيموت، ولا يحيا عطف على لا يموت ومعنى التراخي أن الترجح بين الحياة والموت أشدّ هولا من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 452 الصلي فهو متراخ عنه في مراتب الشدة ومن يمت يسترح أما هؤلاء فلا هم أموات فيستريحوا ولا هم أحياء فيجدوا متنفسا من العذاب (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) قد حرف تحقيق وأفلح فعل ماض ومن فاعل وجملة تزكى أي تطهر لا محل لها لأنها صلة من وذكر عطف على تزكى واسم ربه مفعول به، فصلّى عطف على ذكّر (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) إضراب عن مقدّر ينساق إليه الكلام والتقدير أنتم لا تفعلون ما فيه صلاح أمركم بل تؤثرون، وتؤثرون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والحياة مفعول به والدنيا نعت للحياة والمراد بإيثار الحياة الدنيا الركون إليها والاغترار بزخارفها واستجلاء أفاويقها، والواو حالية والآخرة مبتدأ وخير خبر وأبقى عطف على خير ففيها لذات الدنيا وما لا يتصور العقل من زيادة عليها ولها بعد ذلك صفة الديمومة والخلود (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) إن حرف مشبه بالفعل وهذا اسمها والإشارة إلى إفلاح من تزكى وما تلاه من كلام، واللام المزحلقة وفي الصحف خبر إن والأولى نعت للصحف وصحف إبراهيم وموسى بدل من الصحف. الفوائد: لمحة عن صحف إبراهيم وموسى: جاء في الخازن ما يلي: عن أبي ذر قال: دخلت المسجد فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن للمسجد تحية فقلت وما تحيته يا رسول الله قال: ركعتان تركعهما قلت: يا رسول الله هل أنزل الله عليك شيئا مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال يا أبا ذر اقرأ: قد أفلح من تزكّى وذكر اسم ربه فصلّى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى، قلت يا رسول الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 453 فما كانت صحف موسى؟ قال كانت عبرا كلها: «عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح؟ عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك، عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ عجبت لمن أيقن بالقدر ثم يغضب، عجبت لمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل» . وجاء في القرطبي ما يلي: «وروى الآجري عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم قال: كانت أمثالا كلها: أيها الملك المسلط المبتلى المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ولكني بعثتك لتردّ عنّي دعوة المظلوم فإني لا أردّها ولو كانت من فم كافر، وكان فيها أمثال: وعلى العاقل أن يكون له ساعة يناجي فيها ربه وساعة يفكّر فيها في صنع الله عزّ وجلّ وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب وعلى العاقل أن لا يكون طامعا إلا في ثلاث: تزود لمعاد ومرحة لمعاش ولذة في غير محرم وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه ومن عدّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما يعنيه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 454 (88) سورة لغاشية مكيّة وآياتها ستّ وعشرون [سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 26] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 455 اللغة: (الْغاشِيَةِ) القيامة لأنها تغشى الخلائق، وفي المختار: «الغشاء: الغطاء وجعل على بصره غشاوة بضم الغين وفتحها وكسرها» وفي المصباح: «ويقال إن الغشي تعطل القوى المحرّكة والأوردة الحسّاسة لضعف القلب بسبب وجع شديد أو برد أو جوع مفرط وقيل الغشي هو الإغماء، وقيل الإغماء امتلاء بطون الدماغ من بلغم بارد غليظ وقيل الإغماء سهو يلحق الإنسان مع فتور الأعضاء لعلة، وغشيته أغشاه من باب تعب أتيته والاسم الغشيان بالكسر» . (آنِيَةٍ) بلغت إناها في الحرارة وفي القاموس: «وأنى الحميم انتهى حرّه فهو آن وبلغ هذا أناه ويكسر أي غايته» . (ضَرِيعٍ) في القاموس «والضريع كأمير الشّبرق أو يبيسه أو نبات رطبه يسمّى الشبرق ويابسه الضريع لا تقربه دابة لخبثه، والسّلّاء والعوسج الرطب أو نبات في الماء الآجن له عروق لا تصل إلى الأرض، أو شيء من جهنم أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة وأحرّ من النار، ونبات منتن يرمي به البحر، ويبيس كلّ شجر، والخمر أو رقيقها، والجلدة على العظم تحت اللحم» وفي الكشاف: «الضريع يبيس الشبرق وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطبا فإذا يبس تحامته الإبل وهو سمّ قاتل قال أبو ذؤيب: رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى ... وعاد ضريعا بان عنه النحائص وقال: وحبسن في هزم الضريع فكلها ... حدباء دامية اليدين حرود» (نَمارِقُ) جمع نمرقة بضم النون وكسرها لغتان أشهرهما الأولى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 456 وهي وسادة صغيرة، وفي القاموس «والنمرقة مثلثة الوسادة الصغيرة أو المثيرة أو الطنفسة فوق الرحل» . (زَرابِيُّ) في القاموس: «الزرابي النمارق والبسط أو كل ما يبسط ويتكأ عليها الواحدة زربي بالكسر ويضم» والطنافس أيضا جمع طنفسة بتثليث الطاء والفاء ففيه تسع لغات، وهي المسمّاة الآن بالسجادة. (مَبْثُوثَةٌ) مفرقة في المجلس. (بِمُصَيْطِرٍ) بمسلط عليهم ومسيطر اسم جاء مصغرا ولا مكبّر له كقولهم: رويدا والثريا وكميت ومبيقر ومبيطر ومهيمن، وفي قراءة بمسيطر بفتح الطاء وغريبة هذه القراءة فقد جاء في تاج العروس: سيطر جاء على فيعل فهو مسيطر ولم يستعمل مجهولا فعله، وننتهي في كلام العرب إلى ما انتهوا إليه، وسيأتي مزيد بحث عن التصغير في باب الفوائد. الإعراب: (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) هل حرف استفهام ومعناه التعجب والتشويق إلى استماع حديث الغاشية وجعلها بعضهم بمعنى قد وجعلها ابن خالويه مطّردة في كل ما في القرآن من هل أتاك قال «فهو بمعنى قد أتاك» وأتاك فعل ماض ومفعول به وحديث الغاشية فاعل (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) وجوه مبتدأ وساغ الابتداء به لوجود التنويع والوصف كما سيأتي ويومئذ ظرف متعلق بخاشعة والتنوين في إذ عوض عن جملة لم يتقدم ما يدلّ عليها إلا قوله الغاشية فيمكن استنتاج الجملة منها أي يوم إذ غشيت الغاشية وخاشعة خبر وعاملة ناصبة خبران آخران وقيل خاشعة وعاملة وناصبة صفات الجزء: 10 ¦ الصفحة: 457 للمبتدأ والخبر هو جملة تصلى وعلى الأول جملة تصلى خبر رابع وكلا الوجهين مستقيم وحسن، ونارا مفعول به وقرىء بضم التاء فتكون نارا مفعولا ثانيا ونائب الفاعل مستتر وحامية نعت للنار وتسقى فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هي أي وجوه والمراد أصحابها، ومن عين متعلقان بتسقى وآنية صفة لعين (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) كلام مستأنف مسوق للإجابة عن سؤال مترتب على ما سبق كأنه قيل وما هو طعامهم بعد ما ذكر شرابهم فقيل ليس لهم ... ، وليس فعل ماض ناقص ولهم خبرها المقدّم وطعام اسمها المؤخر وإلا أداة حصر ومن ضريع صفة لطعام أو بدل منه على القاعدة ويجوز أن يكون في محل نصب على الاستثناء (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) الجملتان صفتان لضريع لا لطعام لأن الضريع هو المثبت وقد نفى عنه الاسمان والإغناء من الجوع، ولا نافية ويسمن فعل مضارع وفاعله هو ولا يغني عطف على لا يسمن ومن جوع متعلقان بيغني، وجعل الشهاب في حاشيته على البيضاوي من زائدة وجوع على هذا يكون في موضع نصب مفعول يغني (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ، لِسَعْيِها راضِيَةٌ) وجوه مبتدأ وساغ الابتداء بالنكرة للتنويع، وسيأتي سر عدم اقترانها بالواو كما يقتضي ظاهر السياق في باب البلاغة، ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله متعلق بناعمة وناعمة خبر وجوه ولسعيها متعلقان براضية وراضية خبر ثان لوجوه (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ، لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) في جنة خبر ثان لوجوه وعالية نعت لوجوه وجملة لا تسمع إلخ صفة ثانية لجنة ولا نافية وتسمع فعل مضارع مرفوع وفاعله أنت وقرىء بالتاء وفيها متعلقان بتسمع ولاغية مفعول به وهي على معنى النسب أي كلمة ذات لغو أو على إسناد اللغو إليها مجازا (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) الجملة نعت ثالث لجنة وفيها خبر مقدّم وعين مبتدأ مؤخر وجارية نعت لعين (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) الجملة صفة رابعة لجنة وفيها خبر مقدّم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 458 وعين مبتدأ مؤخر وجارية نعت لعين وما بعده عطف عليه (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما مضى من حديث الغاشية والهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء للعطف على مقدّر يستحقه المقام والتقدير أينكرون البعث فلا ينظرون، ولا نافية وينظرون فعل مضارع مرفوع وإلى الإبل متعلقان به وكيف اسم استفهام في محل نصب حال وخلقت فعل ماض مبني للمجهول وفاعله مستتر تقديره هي والجملة بدل اشتمال من الإبل. وينظرون تعدّى إلى الإبل بواسطة إلى وتعدى إلى كيف على سبيل التعليق وقد تبدل الجملة وفيها الاستفهام من الاسم الذي قبلها وإن لم يكن فيه استفهام على خلاف في ذلك كقولهم عرفت زيدا أبو من هو والعرب يدخلون إلى على كيف فيقولون إلى كيف يصنع. وكيف سؤال عن حال والعامل فيها خلقت وإذا علق العامل عمّا فيه من الاستفهام لم يبق الاستفهام على حقيقته، وللزمخشري كلام جميل نورده فيما يلي: «أفلا ينظرون إلى الإبل نظر اعتبار كيف خلقت خلقا عجيبا دالّا على تقدير مقدّر شاهدا بتدبير مدبر حيث خلقها للنهوض بالأثقال وجرّها إلى البلاد الشاحطة فجعلها تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر ثم تنهض بما حملت وسخّرها منقادة لكل من اقتادها بأزمّتها لا تعاز ضعيفا ولا تمانع صغيرا وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار، وعن بعض الحكماء أنه حدّث عن البعير وبديع خلقه وقد نشأ في بلاد لا إبل بها ففكر ثم قال يوشك أن تكون طوال الأعناق وحين أراد بها أن تكون سفائن البر صبّرها على احتمال العطش حتى أن أظماءها لترتفع إلى العشر فصاعدا وجعلها ترعها كل شيء نابت في البراري والمفاوز مما لا يرعاه سائر البهائم» هذا والإبل اسم جمع لا واحد له من لفظه وإنما واحده بعير وناقة وجمل، وعبارة القاموس: «الإبل بكسرتين وتسكين الباء مؤنث واحد يقع على الجمع ليس بجمع ولا اسم جمع وجمعه آبال وتصغيرها إبيلة والسحاب الذي يحمل ماء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 459 المطر» وعلى هذا يصحّ أن يراد بها السحاب لينتظمها الذكر على حسب النظم على أن هذا لا يتفق مع سهولة بيان القرآن ونظمه وإنما أوردها منتظمة مع السماء والأرض والجبال لأن العرب في بواديهم وأوديتهم يألفون رؤيتها جميعا فانتظمها الذكر مع هذه الأشياء (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) كلام منسوق على ما تقدم مماثل له في إعرابه، قال ابن خالويه نقلا عن الزمخشري: «وروي عن هارون الرشيد أنه قرأ: كيف سطحت بالتشديد والقراءة بتخفيفها لاجتماع الكافّة عليها» (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) الفاء الفصيحة أي إن كانوا لا ينظرون إلى هذه الأشياء نظر اعتبار وتدبر وتأمل فذكرهم. وذكر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ومفعوله محذوف أي فذكّرهم ولا تلحّ عليهم إذ ليس عليك هداهم، وإنما كافّة ومكفوفة وأنت مبتدأ ومذكّر خبر وجملة أنما أنت تعليلية للأمر بالتذكير ولست ليس واسمها وعليهم متعلقان بمسيطر والباء حرف جر زائد ومسيطر مجرور بالباء لفظا منصوب محلا لأنه خبر ليس (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) إلا أداة استثناء ومن مستثنى على الاستثناء متصل من مفعول فذكر أو من الهاء في عليهم وقيل الاستثناء منقطع وإلا بمعنى لكن ألغي عملها ومن مبتدأ خبره جملة فيعذبه وكلاهما جيد محتمل، وجملة تولى صلة من وكفر عطف على الصلة وجملة إلا من تولى وكفر في محل نصب على الاستثناء المنقطع وهذه جملة تضاف إلى الجمل التي لها محل من الإعراب والفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط ويعذبه فعل مضارع مرفوع والهاء مفعول به والله فاعل والعذاب مفعول مطلق، ومن الغريب أن ابن خالويه أعربها مفعولا به ثانيا، وصدق ابن هشام عند ما قرر أن ابن خالويه من ضعفاء النحويين، والأكبر نعت للعذاب (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) الجملة لا محل لها لأنها تعليل للعذاب الأكبر وإن حرف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 460 مشبّه بالفعل وإلينا خبر مقدّم لإن وإيابهم اسمها المؤخر وثم حرف عطف للتراخي، وسيأتي سره في باب البلاغة، وما بعده عطف على ما قبله مماثل له في إعرابه. البلاغة: 1- في قوله «لا يسمن ولا يغني من جوع» فن التتميم، وقد تقدم مرارا فقوله ولا يغني من جوع جملة لا يمكن طرحها من الكلام لأنه لما قال لا يسمن ساغ لمتوهم أن يتوهم أن هذا الطعام الذي ليس من جنس طعام البشر انتفت عنه صفة الاسمان ولكن بقيت له صفة الإغناء فجاءت جملة ولا يغني من جوع تتميما للمعنى المراد وهو أن هذا الطعام انتفت عنه صفة إفادة السمن والقوة كما انتفت عنه صفة إماطة الجوع وإزالته، وجعله بعضهم من باب نفي الشيء بإيجابه على حدّ قول امرئ القيس «على لاحب لا يهتدى بمناره» أي أنه لا منار له أصلا وكما تقول ليس لفلان ظل إلا الشمس تريد نفي الظل على التوكيد وليس ببعيد والأول أرصن وأبعد عن التكلّف. 2- الحذف: تكلمنا في هذا الكتاب كثيرا عن الحذف وسنخصّص هنا لمعة عن حذف المفعول به خاصة لزيادة الفائدة وذلك بمناسبة قوله تعالى «فذكّر إنما أنت مذكّر» فنقول: يجوز حذف المفعول به لغرض إما لفظي كتناسب الفواصل أي رؤوس الآي وذلك في نحو قوله تعالى: «ما ودعك ربك وما قلى» والأصل وما قلاك فحذف المفعول ليناسب قوله: «والضحى والليل إذا سجى» وكالإيجاز في نحو قوله تعالى: «فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا» والأصل فإن لم تفعلوه ولن تفعلوه أي الإتيان بسورة من مثله وإما معنوي كاحتقاره نحو «كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي» أي لأغلبنّ الكافرين فحذف المفعول زيادة في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 461 امتهانه واحتقاره أو لاستهجانه واستقباح التصريح به كقول عائشة رضي الله عنها: ما رأى منّي ولا رأيت منه، أي العورة. 3- وفي قوله «إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم» تقديم الجار والمجرور، والسر فيه التشديد بالوعيد وأن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام وأن حسابهم ليس إلا عليه، وفي العطف بثم للدلالة على التراخي في الرتبة لا في الزمان أي أنه قد يكون مباشرة بعد الإياب ولكن التفاوت بين الموقفين أمر لا تكتنه أهواله ولا يدري أحد مداه ولا يتصوره العقل على الإطلاق ولا يخفى أن الخبر جاء مؤكدا بإن فأتى طلبيا كأنهم، وقد ترددوا، بحاجة إلى تأكيد هذا الأمر الذي أشاحوا عنه ولم يتدبروه. الفوائد: 1- التصغير ومراميه: أول من تكلم على التصغير الخليل بن أحمد رحمه الله، ويكون للتحقير والتعظيم والترحم والتحبّب ولتقليل العدد ولتقريب الزمان وقد جمعها بعضهم بقوله: فعظم وحقر وقرب زماني ... ترحم تحبب رزقت الأماني وأقلل بتصغيرهم يا فتى ... فما زلت في محفل من معاني قال ابن خالويه: «العرب تصغّر الاسم على المدح لا تريد به التحقير كقولهم فلان صديّقي إذا كان من أصدق أصدقائه ومن ذلك قول عمر في ابن مسعود «كنيّف ملىء علما» مدحه بذلك، وقال الأنصاري: «أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجّب وحجيرها المؤام» ومن ذلك أن رجلا قال: رأيت الأصيلع عمر بن الخطاب يقبّل الحجر يريد مدحه بذلك» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 462 واختلف في قول عمر بن أبي ربيعة في رائيته المشهورة: وغاب قمير كنت أهوى غروبه ... وروّح رعيان ونوّم سمّر فقال سعيد بن المسيب لما سمع هذا البيت: ما له قاتله الله صغّر ما كبر الله قال الله تعالى «والقمر قدّرناه منازل» قال ابن خالويه: «فيجوز أن يكون ابن أبي ربيعة صغّر قميرا على المدح لما ذكرت، ومع ذلك فإن ابن أبي ربيعة قد أنشد هذه القصيدة لابن عباس فما أنكر عليه شيئا، ومن ذلك قول الرجل لابنه: يا بنيّ لا يريد تحقيره فاعرف ذلك ولابن أبي ربيعة حجة أخرى وذلك أن العرب تقول للقمر في آخر الشهر وأوله شفا قمير فيصغّرونه» وهذا الذي ذكرناه من معاني التصغير يردّه البصريون وجميع ما ذكرناه عندهم راجع إلى معنى التحقير. هذا ونضرب على سبيل المثال مثلا بيت لبيد بن ربيعة وهو: وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفرّ منها الأنامل فالكوفيون ذهبوا إلى أن التصغير في قوله دويهية للتعظيم وبيان هذا أن الشاعر أراد بها الموت ولا داهية أعظم منها، فأما كونه أراد بها الموت فيدل لذلك وصفها بقوله «تصفر منها الأنامل» والأنامل هنا الأظفار وهي إنما تصفر بالموت، قال الطوسي في شرح ديوان لبيد: إذا مات الرجل أو قتل اصفرّت أنامله واسودّت أظافره» وقد ردّ البصريون أن التصغير يأتي للتعظيم وجرى على مذهبهم الرضي المحقق فقال: «قيل مجيء التصغير للتعظيم يكون من باب الكناية يكنى بالصغر عن بلوغ الغاية لأن الشيء إذا جاوز حدّه جانس ضده ورد بأن تصغيرها على حسب احتقار الناس لها وتهاونهم بها إذ المراد بها الموت أي يجيئهم ما يحتقرونه مع أنه عظيم في نفسه تصفر منه الأنامل» وقال البصريون عن بيت لبيد: «فأما قوله دويهية فالمراد أن أصغر الأشياء قد يفسد الأصول الجزء: 10 ¦ الصفحة: 463 العظام فحتف النفوس قد يكون الأمر الذي لا يؤبه له» ولا يخفى ما في هذا القول من الرصانة والقوة فتنبّه لهذا الفصل الذي وإن طال بعض الطول فهو كالحسن ليس بمملول. 2- الخيال: تختلف الخياليات باختلاف الأسباب والعادات والعرف العام فتتفاوت بالأمم فلا يستنكر قوله تعالى في هدايتهم إلى الاستدلال على الصانع الحكيم «أفلا ينظرون إلى الأمم كيف خلقت» إلخ إلا من يجهل أن الخطاب مع العرب وما في خيالهم إلا الإبل لأن معظم انتفاعهم في مطاعمهم وملابسهم ومتاجرهم منه وإلا أرض ترعاها الإبل وإلا سماء تسقيهم وإياها وإلا جبال هي معاقلهم عند شنّ الغارات، فظهر أن من وقف على أحوال العربي البدوي يعرف وجه تقارن الصور المذكورة في أذهانهم ووجه وقوعها في القرآن العظيم على المنهج المذكور، ومن أنكره من أهل الحضر فذلك لجهله بمقتضى الحال، ولقد أحسن المتنبي إذ قال: وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 464 (89) سورة الفجر مكيّة وآياتها ثلاثون [سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) اللغة: (الشَّفْعِ) الزوج من العدد يقال: أشفع هو أم وتر أي أزوج أم فرد ويجمع على أشفاع وشفاع، ومصدر شفع يشفع من باب فتح شفعا الشيء أي صيّره شفعا أي زوجا بأن يضيف إليه مثله يقال: كان وترا فشفعه بآخر أي قرنه به، وفي القاموس: «الشفع خلاف الوتر وهو الزوج وقد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 465 شفعه كمنعه ويوم الأضحى وقيل في قوله تعالى: والشفع والوتر هو الخلق لقوله تعالى ومن كل شيء خلقنا زوجين أو هو الله عزّ وجلّ لقوله تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم» . (الْوَتْرِ) في القاموس «الوتر بالكسر ويفتح الفرد أو ما لم يتشفع من العدد ويوم عرفة» . وقال أبو حيان: «والشفع والوتر ذكر في كتاب التحرير والتحبير فيها ستة وثلاثين قولا ضجرنا من قراءتها فضلا عن كتابتها في كتابنا هذا» . وقال الزمخشري: «وقد أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون معظم ما يقعان فيه وذلك قليل الطائل جدير بالتلهي عنه» . (حِجْرٍ) عقل، وسمّي العقل بذلك لأنه يحجر صاحبه عمّا لا يحلّ ولا ينبغي كما سمي عقلا لأنه يعقل صاحبه عن القبائح وينهاه ولأنه ينهى عمّا لا يحلّ ولا ينبغي، وأصل الحجر المنع وقد تقدم القول في هذه المادة، وقال ابن خالويه: «هل في ذلك حجر أي لذي عقل ولذي لب» والحجر ديار ثمود وحجر الكعبة والفرس الأنثى. (جابُوا) قطعوا وفي المختار «وجاب خرق وقطع وبابه قال ومنه قوله تعالى وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وجبت البلاد بضم الجيم من باب قال وباع وأجبتها قطعتها» . الإعراب: (وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ) الواو حرف قسم وجر والفجر مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بأقسم والواو حرف عطف وليال عطف على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 466 الفجر مجرور وعلامة جرّه الفتحة نيابة عن الكسرة المقدّرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين. وقد أشار ابن مالك إلى هذه القاعدة الهامة بقوله: وكن لجمع مشبه مفاعلا ... أو المفاعيل بمنع كافلا أي إن الجمع المشبه مفاعيل أو المفاعيل في كونه مفتوح الفاء وثالثه ألف بعدها حرفان كمفاعل أو ثلاثة أحرف أوسطها ساكن كمفاعيل يمتنع صرفه لقيام الجمع فيه مقام علتين وهي الجمع وعدم النظير في الواحد وشمل قوله مفاعل ما أوله الميم كمساجد أو ما أوله غيرها كدراهم وشمل قوله المفاعيل ما أوله ميم كمصابيح أو ما أوله غيرها كدنانير ثم أن من هذا الجمع ما يجيء معتل اللام وهو قسمان أحدهما ما قلبت فيه الكسرة التي بعد الألف فتحة فانقلبت الياء ألفا نحو عذارى ولا إشكال في منع التنوين والآخر ما استثقلت في بابه الفتحة فحذفت ولحقها التنوين وإلى ذلك أشار بقوله: وذا اعتلال منه كالجواري ... رفعا وجرّا أجره كساري يعني أن ما كان من الجمع المعتل اللام مثل جوار في كونه على ما ذكر من حذف الحركة يجري مجرى سار في لحاق التنوين بآخره في حالة الرفع والجر فتقول هذه جوار ومررت بجوار، وسكت عن حالة النصب ففهم أنه على الأصل كالصحيح فتقول رأيت جواري. وعشر نعت لليال، قالوا وأراد بالليالي العشر عشر ذي الحجة وجاءت منكرة لفضيلتها على غيرها من ليالي السنة وقيل هي العشر الأواخر من رمضان وقيل العشر الأول من المحرم (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) منسوق على الفجر وليال وكذلك الوتر والليل وإذا ظرف متعلق بفعل القسم المحذوف أو بفعل قسم مقدر وعلى ذلك جرى أبو البقاء، أي أقسم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 467 بالليل وقت سراه، ويسري فعل مضارع مأخوذ من السرى وهو خاص بسير الليل وقد تقدم وقال في المصباح: «سريت الليل وسريت به سرى والاسم السراية إذا قطعته بالسير وأسريت بالألف لغة حجازية ويستعملان متعديين بالباء إلى مفعول فيقال سريت بزيد وأسريت به والسرية بضم السين وفتحها أخصّ يقال سرينا سرية من الليل وسرية والجمع السّرى مثل مدية ومدى، قال أبو زيد ويكون السرى أول الليل وأوسطه وآخره وقد استعملت العرب سرى في المعاني تشبيها لها بالأجسام مجازا واتساعا قال الله تعالى: والليل إذا يسر والمعنى إذا يمضي، وقال البغوي: إذا سار وذهب وقال الفارابي: سرى فيه السم والخمر ونحوهما وقال السرقسطي: سرى عرق السوء في الإنسان وزاد ابن القطاع على ذلك، وسرى عليه الهمّ آتاه ليلا وسرى همّه: ذهب، وإسناد الفعل إلى المعاني كثير في كلامهم نحو: طاف الخيال وذهب الهم وأخذه الكسل والنشاط وقول الفقهاء سرى الجرح إلى النفس معناه دام ألمه حتى حدث منه الموت وقطع كفّه فسرى إلى ساعده أي تعدّى أثر الجرح وسرى التحريم وسرى العتق بمعنى التعدية وهذه الألفاظ جارية على ألسنة الفقهاء وليس لها ذكر في الكتب المشهورة لكنها موافقة لما تقدم» هذا وقد حذف بعض القرّاء ياء يسر وقفا وأثبتوها وصلا وأثبتها بعضهم في الحالين وحذفها بعضهم في الحالين لسقوطها في خط المصحف الكريم وموافقة رؤوس الآي، وعبارة ابن خالويه: «وكان الأصل يسري فخزلوا الياء لأن تشبه رؤوس الآي التي قبلها فمن القراء من يثبت الياء على الأصل ومنهم من يحذفها اتباعا للمصحف» (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) معنى الاستفهام هنا التفخيم والتعظيم للأمور المقسم بها وفي ذلك خبر مقدم وقسم مبتدأ مؤخر ولذي حجر نعت وعلى ذلك تكون هل وما في حيّزها جواب القسم وقيل هي للتقرير كقولك ألم أنعم عليك إذا كنت قد أنعمت والجواب على هذا محذوف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 468 مضمر وتقديره لنجازينّ كل أحد بما عمل وقدّره الزمخشري لتعذبنّ وقيل الجواب مذكور وهو إن ربك لبالمرصاد، وعبارة السمين: «وقال مقاتل هل هنا في موضع إن تقديره إن في ذلك قسما لذي حجر فهل على هذا في موضع جواب القسم، وهذا قول باطل لأنه لا يصلح أن يكون مقسما عليه على تقدير تسليم أن التركيب هكذا وإنما ذكرته للتنبيه على سقوطه» (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) الهمزة للاستفهام التقريري أي قد رأيت لأن المراد بالرؤية هنا رؤية القلب وهي العلم، عبّر عنه بالرؤية لكونه علما ضروريا مساويا في الجلاء والبيان للمشاهدة والعيان، ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وكيف اسم استفهام في موضع نصب بفعل على أنه مصدر واختاره الزمخشري وابن هشام في المغني والمعنى أي فعل فعل ربك وأعربه ابن خالويه حالا قال «كيف استفهام عن الحال» ولكنه ممتنع لأنه إذا أعرب حالا يكون من الفاعل ووصفه تعالى بالكيفية مستحيل وغير جائز والجملة المعلقة بكيف الاستفهامية سدّت مسدّ مفعولي تر. وفعل ربك فعل ماض وفاعل وبعاد متعلقان بفعل وإرم بدل أو عطف بيان من عاد ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث وهذا الابدال إيذان بأنهم عاد الأولى القديمة وقيل إرم بلدتهم أو أرضهم التي كانوا فيها، وعبارة أبي البقاء: «إرم لا ينصرف للتعريف والتأنيث قيل هو اسم قبيلة فعلى هذا يكون التقدير إرم صاحب ذات العماد لأن ذات العماد مدينة وقيل ذات العماد وصف كما تقول القبيلة ذات الملك وقيل إرم مدينة فعلى هذا يكون التقدير بعاد صاحب إرم ويقرأ بعاد إرم بالإضافة فلا يحتاج إلى تقدير ويقرأ إرم ذات العماد بالجر على الإضافة» وذات العماد نعت لإرم أي الطول، قال الزمخشري: «وذات العماد إذا كانت صفة للقبيلة فالمعنى أنهم كانوا بدويين أهل عمد أو طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة ومنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 469 قوله رجل معمد وعمّدان إذا كان طويلا وقيل ذات البناء الرفيع وإن كانت صفة للبلدة فالمعنى أنها ذات أساطين» وسيأتي تلخيص لقصتها الرائعة في باب الفوائد والتي صفة ثانية لإرم وجملة لم يخلق صلة التي ومثلها نائب فاعل يخلق وفي البلاد متعلقان بيخلق وقرىء يخلق بالبناء للمعلوم فتكون مثلها مفعولا به (وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) الواو عاطفة وثمود عطف على عاد والذين نعت لثمود وجملة جابوا صلة الذين والصخر مفعول به وبالوادي متعلقان بجابوا والباء للظرفية فهي بمعنى في وحذفت الياء لأنها من ياءات الزوائد (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) عطف على عاد وذي الأوتاد نعت لفرعون كان يدق للمعذب أربعة أوتاد ويشدّه بها مسطوحا على الأرض ثم يعذبه بما يريد من ضرب وإحراق وغيرهما، وفي المصباح: «الوتد بكسر التاء في لغة الحجاز وهي الفصحى وجمعه أوتاد وفتح التاء لغة وأهل نجد يسكنون التاء فيدغمون بعد القلب فيبقى ود ووتد الوتد أتده وتدا من باب وعد أثبته بحائط أو بالأرض وأوتدته بالألف لغة» (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) الذين إما مجرور على أنه صفة للمذكورين أو منصوب على الذم، قال الزمخشري: «أحسن الوجوه فيه أن يكون في محل النصب على الذم ويجوز أن يكون مرفوعا على هم الذين طغوا أو مجرورا على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون» وجملة طغوا صلة الذين وفي البلاد متعلقان بطغوا (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) الفاء عاطفة وصبّ فعل ماض مبني على الفتح وعليهم متعلقان بصبّ وربك فاعل وسوط عذاب مفعول به، وسيأتي معنى هذا التعبير في باب البلاغة (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) الجملة لا محل لها لأنها تعليل لما قبلها وإن واسمها واللام المزحلقة وبالمرصاد متعلقان بمحذوف خبر إن وسيأتي معناها أيضا في باب البلاغة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 470 البلاغة: 1- في قوله «فصبّ عليهم ربك سوط عذاب» استعارة مكنية، فقد استعمل الصب وهو خاص بالماء لاقتضائه السرعة في النزول على المضروب قال: فصبّ عليهم محصرات كأنها ... شآبيب ليست من سحاب ولا قطر وقال آخر في وصف الخيل: صببنا عليهم ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل واستعار السوط للعذاب لأنه يقتضي من التكرار والترداد ما لا يقتضيه السيف ولا غيره، وعبارة الزمخشري جميلة في بابها قال: «يقال صبّ عليه السوط وغشاه وقنعه، وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحلّه بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعدّ لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به» والسوط كما في القاموس هو الخلط أو أن تخلط شيئين في إنائك ثم تضربهما بيدك حتى يختلطا كالتسويط والمقرعة لأنها تخلط اللحم بالدم والجمع سياط وأسواط وقال الفراء: «هي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب وأصل ذلك أن السوط هو عذابهم الذي يعذبون به فجرى لكل عذاب إذا كان في غاية العذاب» . 2- وفي قوله «إن ربك لبالمرصاد» استعارة تمثيلية، شبّه كونه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 471 تعالى حافظا لأعمال العباد مراقبا عليها ومجازيا على ما دقّ وجلّ منها بحيث لا ينجو منه بحال من قعد على الطريق مترصدا لمن يسلكها ليأخذه فيوقع به ما يريد ثم أطلق لفظ أحدهما على الآخر. الفوائد: خضعت القصة القرآنية في موضوعها وطريقة عرضها وإرادة حوادثها وتسلسل مشاهدها لمقتضيات الأغراض الدينية، وظهرت آثار هذا الخضوع في سمات متعددة، ولكن هذا الخضوع الكامل للأغراض الدينية ووفاءها بهذا الغرض تمام الوفاء لم يمنعا بروز الخصائص الفنية في عرضها ولا سيما في التصوير وهو أبرز خصائص القرآن، وقد كنّا نودّ لو نقلنا لك قصة ذات العماد كما نقلها الرواة والمفسرون ولكن الأمر يطول فحسبنا أن ننقل لك خلاصتها لتلمح على ضوء تلك الخلاصة خصائصها الفنية ثم نحيلك على المطوّلات فقد رووا أنه كان لعاد ابنان وهما شداد وشديد فملكا وقهرا ثم مات شديد فخلص الأمر لشداد وملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال: سأبني مثلها فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلاثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة أضفى عليها الخيال تهاويل من الوصف الرائع فقصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطّردة، ولما تمّ بناؤها سار إليها بأهل مملكته فلما كان على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا، وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها فحمل ما قدر عليه مما ثم وبلغ خبره معاوية فاستحضره فقصّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 472 عليه فبعث إلى كعب فسأله فقال هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج في طلب إبل له ثم التفت فأبصر ابن أبي قلابة فقال: هذا والله ذلك الرجل. وعلى كل حال ليس لهذه أصل ديني تستند إليه، وقد أدخلت خرافات مختلفة ونسجت أقاصيص منحولة وأساطير مفتعلة في تفسير كتاب الله سبحانه. [سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 30] فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 473 اللغة: (التُّراثَ) الميراث والتاء بدل من الواو لأنه من الوراثة كما قالوا في تجاه وتخمة وتكأة. (لَمًّا) جمعا وفي المختار: «أكلا لما فعله من باب رد يقال: لم الله شعثه أي أصلح وجمع ما تفرق من أمره» وقال أبو عبيدة: لممت ما على الخوان إذا أكلت جميع ما عليه بأسره وقال الحطيئة: إذا كان لما يتبع الذّم ربه ... فلا قدّس الرحمن تلك الطواحنا ومنه لممت الشعث، قال النابغة الذبياني: ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أيّ الرجال المهذب (وَثاقَهُ) في المصباح: «وثق الشيء بالضم وثاقه قوي وثبت فهو وثيق ثابت وأوثقته جعلته وثيقا والوثاق بفتح الواو وكسرها القيد والحبل ونحوه والجمع وثق مثل رباط وربط» . الإعراب: (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) الفاء استئنافية ومفهوم كلام الزمخشري أنها عاطفة قال: «فإن قلت بم اتصل قوله فأما الإنسان؟ قلت بقوله: إن ربك بالمرصاد كأنه قيل إن الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة والسعي للعاقبة وهو مرصد بالعقوبة للعاصي فأما الإنسان فلا يريد ذلك ولا يهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها» وفي كلامه نفحة اعتزالية واضحة. وأما حرف شرط وتفصيل والإنسان مبتدأ وإذا ظرف متعلق بيقول وما زائدة وجملة ابتلاه في محل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 474 جر بإضافة الظرف إليها وربه فاعل، فأكرمه عطف على ابتلاه ونعمه عطف أيضا والفاء رابطة لما في أما من معنى الشرط وجملة يقول خبر الإنسان ولا يمتنع تعلق الظرف بيقول الواقعة خبرا لأن الظرف في نيّة التأخير والتقدير فأما الإنسان فقائل ربي أكرمني وقت الابتلاء وربي مبتدأ وجملة أكرمني خبر وحذفوا الياء من أكرمن اختصارا (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) عظف على الجملة السابقة وإعرابها كإعرابها (كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) كلا حرف ردع وزجر للإنسان عن قوله وبل حرف إضراب من قبيح إلى أقبح للترقي في ذمّهم، ولا نافية وتكرمون اليتيم فعل مضارع مرفوع وفاعل ومفعول به ولا تحاضّون عطف على لا تكرمون وعلى طعام المسكين متعلقان بتحاضّون (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) عطف أيضا والتراث مفعول تأكلون وأكلا مفعول مطلق ولما صفة، وتحبون المال حبّا جمّا عطف أيضا مماثل للجملة السابقة في الإعراب (كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) كلا حرف ردع وزجر لهم عن ذلك كله وإذا ظرف متعلق بيتذكر وجملة دكّت في محل جر بإضافة الظرف إليها والأرض نائب فاعل ودكّا دكّا مصدران في موضع الحال على رأي أبي حيان والزمخشري وليس الثاني تأكيدا بل التكرار للدلالة على الاستيعاب كقرأت النحو بابا بابا، وأعرب ابن خالويه دكّا الأول مصدرا والثاني تأكيدا وليس بعيدا (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) عطف على ما تقدم وجاء ربك فعل وفاعل والملك عطف على ربك وصفّا صفّا حال أي مصطفين أو ذوي صفوف وهو المسوغ لمجيء الحال جامدا هو الترتيب وضابطه أن يأتي التفصيل بعد ذكر المجموع بجزأيه مكررا، قال الرضي: وفي نصب الجزء الثاني خلاف ذهب الزجّاج إلى أنه توكيد وذهب ابن جنّي إلى أنه صفة وذهب الفارسي إلى أنه منصوب بالأول لأنه لما وقع موقع الحال جاز أن يعمل قال المرادي والمختار أنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 475 وما قبله منصوبان بالعامل الأول لأن مجموعهما هو الحال ونظيره في الخبر هذا حلو حامض ولو ذهب ذاهب إلى أن نصبه بالعطف على تقدير حذف الفاء والمعنى بابا فبابا وصفّا فصفّا لكان مذهبا حسنا، ونص أبو الحسن على أنه لا يجوز أن يدخل حرف العطف في شيء من المكررات إلا الفاء وخاصة (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) الواو عاطفة وجيء فعل ماض مبني للمجهول ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله متعلق بجيء وبجهنم في موضع رفع نائب فاعل ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله وهو بدل من إذا وجملة يتذكر الإنسان لا محل لها لأنها جواب إذا والواو حالية وأنى اسم استفهام معناه النفي في محل نصب ظرف مكان وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم وله متعلقان بما تعلق به الظرف والذكرى مبتدأ مؤخر ولا بدّ من تقدير حذف المضاف أي ومن أين له منفعة الذكرى وإلا فبين يتذكر وأنى له الذكرى تناف وتناقض (يَقُولُ: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) الجملة بدل اشتمال من جملة يتذكر أو استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ منه كأنه قيل ماذا يقول عند تذكره فقيل يقول، ويا حرف تنبيه أو المنادى محذوف وليتني ليت واسمها وجملة قدمت خبرها ولحياتي متعلقان بقدمت وجملة النداء مقول القول (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) الفاء عاطفة ويومئذ ظرف متعلق بيعذب والتنوين عوض عن جملة تفيد ما تقدم من هول الموقف ولا نافية ويعذب فعل مضارع مبني للمعلوم وعذابه مفعول مطلق والضمير في عذابه يعود إلى الله ، والعجب من ابن خالويه فقد أعربها مفعولا به ولا أدري ما هي وجهة نظره، وأحد فاعل يعذب وقرىء يعذب بالبناء للمجهول فيكون أحد نائب فاعل والضمير في عذابه يعود على الكافر وعبارة القرطبي بهذا الصدد هي: «فيومئذ لا يعذب عذابه أحد» أي لا يعذب كعذاب الله أحد ولا يوثق لوثاقه أحد والكناية ترجع إلى الله تعالى وهو قول ابن عباس والحسن وقرأ الكسائي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 476 لا يعذب ولا يوثق بفتح الذال والتاء أي لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الله الكافر يومئذ ولا يوثق كما يوثق الكافر. وقوله ولا يوثق إلخ عطف على الجملة السابقة ويقال في إعرابها ما قيل في الأولى وقد أورد ابن خالويه بحثا طريفا ننقله فيما يلي: «ولا يوثق نسق على يعذب والمصدر أوثق يوثق إيثاقا فهو موثق فإن قال قائل: هل يجوز همز يوثق كما همز يؤمن فقل ذلك غير جائز لأن أوثق فاء الفعل منه مثل أوفض يوفض وأسرع يسرع وأورى يوري وأوقد يوقد كل ذلك غير مهموز قال الله عزّ وجلّ: إلى نصب يوفضون والنار التي تورون وإنما يهمز من هذا ما كانت فاء الفعل منه همزة نحو آمن يؤمن لأن الأصل أأمن فاستثقلوا همزتين في أول كلمة فلينت الثانية فاعرف ذلك وإن كانت فاء الفعل ياء مثل أيسر وأيقن وأيفع الغلام انقلبت الياء واوا في المضارع لانضمام ما قبلها وسكونها ولم يجز أيضا همزها نحو يوقنون ويوفع الغلام ويوسر، وحدّثني أبو الحسن المقرئ قال: روى أبو خليفة البصري عن المازني عن الأخفش قال سمعت أباحية النميري يقول: يؤقنون مهموزة وأبو حيّة الذي يقول: إذا مضغت بعد امتناع من الضحى ... أنابيب من عود الأراك المخلّق سقت شعب المسواك ماء غمامة ... فضيضا بجادي العراق المروّق غير أن من العرب من يهمز ما لا يهمز تشبيها بما يهمز كقولهم حلأت السويق ورثأت الميت، وحدّثني أحمد عن علي عن أبي عبيدة قال: قرأ الحسن ولا أدرأكم به مهموزا وهو غلط عند أهل النحو لأنه من دريت» (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) الجملة في موضع نصب بقول محذوف أي يقول الله للمؤمن، ويا حرف نداء وأية منادى نكرة مقصودة مبني على الضم وقد مرّت نظائره كثيرا والهاء للتنبيه والنفس بدل والمطمئنة نعت للنفس وارجعي فعل أمر مبني الجزء: 10 ¦ الصفحة: 477 على حذف النون والياء فاعل وإلى ربك متعلقان بارجعي وراضية مرضية حالان (فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) نسق على ارجعي وفي عبادي متعلقان بادخلي وادخلي في جنتي عطف أيضا أي انتظمي في سلكهم وادخلي جنتي معهم. البلاغة: في قوله «وجاء ربك والملك صفّا صفّا» فن الإفراط في الصفة كما سمّاه ابن المعتز، وسمّاه قدامة المبالغة، وسمّاه غيرهما التبليغ، والمشهورة تسمية قدامة وعرّفه بقوله: هو أن يذكر المتكلم حالا لو وقف عندها لأجزأت فلا يقف عندها حتى يزيد في كلامه ما يكون أبلغ في معنى قصده، وهي على ضروب شتى ومنها إخراج الكلام مخرج الإخبار عن الأعظم الأكبر للمبالغة والإخبار عنه مجاز كقول من رأى موكبا عظيما أو جيشا خضما جاء الملك نفسه وهو يعلم أن ما جاء جيشه فقد جعل في الآية مجيء جلائل آياته مجيئا له سبحانه. الفوائد: 1- أيها وأيتها: قرأ الجمهور «يا أيتها النفس» بتاء التأنيث وقرأ زيد بن علي يا أيها بغير تاء ولا نعلم أحدا ذكر أنها تذكّر وإن كان المنادى مؤنثا إلا صاحب البديع، وهذه الآية شاهدة بذلك، ولذلك وجه من القياس وذلك أنه لم يثن ولم يجمع في نداء المثنى والمجموع فكذلك لم يذكّر في نداء المؤنث، وأي وأية مبنيان على الضم لكون كلّ منهما منادى مفردا وهاء التنبيه فيهما زائدة لازمة للفظ أي وأية عوضا عن المضاف إليه مفتوحة الهاء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 478 2- كيف يتعدى «دخل» : إذا كان المدخول فيه غير ظرف حقيقي تعدّت إليه «دخل» بفي نحو دخلت في الأمر ودخلت في غمار الناس ومنه فادخلي في عبادي أي في جملة عبادي الصالحين وإذا كان المدخول فيه ظرفا حقيقيا تعدّت إليه في الغالب بغير وساطة «في» ومنه: وادخلي جنتي، وعلى كل حال تعرب جنتي مفعولا به على السعة لأنه في الأصل لا يتعدى بنفسه كما تقدم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 479 (90) سورة البلد مكيّة وآياتها عشرون [سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 20] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 480 اللغة: (الْبَلَدِ) في القاموس: «البلد والبلدة مكة شرّفها الله تعالى وكل قطعة من الأرض مستحيزة عامرة أو غامرة والتراب، والبلد القبر والمقبرة والدار والأثر وأدحي النعام» إلى أن يقول: وبلد بالمكان بلودا أقام ولزمه أو اتخذه بلدا» . (حِلٌّ) يقال: حلّ وحلال وحرم وحرام بمعنى واحد، وحلّ في المكان إذا نزل فيه يحل بضم الحاء حلولا فهو حال والمكان محلول فيه، وسيأتي المزيد من معناه في باب الإعراب. (كَبَدٍ) نصب ومشقة يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة وفي المصباح: «والكبد بفتحتين المشقة من المكابدة للشيء وهو تحمّل المشاق في فعله» وعبارة الزمخشري: «وأصله من كبد الرجل كبد من باب طرب فهو أكبد إذا وجعته كبده وانتفخت فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقّة ومنه اشتقت المكابدة كما قيل كبته الله بمعنى أهلكه وأصله كبده أي أصاب كبده قال لبيد يرثي أخاه رابد: يا عين هلّا بكيت اربد إذ ... قمنا وقام الخصوم في كبد أي في شدّة الأمر وصعوبة الخطب» هذا ومن غريب أمر الكاف والباء أنهما إذا وقعتا فاء وعينا للكلمة دلّتا على الشدّة والمعاناة والقهر، يقال كببته في الهوّة وكبكبته وكببته وكذلك إذا رمى به من رأس جبل أو حائط والفارس يكبّ الوحوش وهم يكبون العشار قال: يكبّون العشار لمن أتاهم ... إذا لم تسكت المائة الوليدا ومن المجاز أكبّ على عمله وهو مكب عليه لازم له لا يفارقه قال لبيد: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 481 جنوح الهالكيّ على يديه ... مكبّا يجتلي نقب النصال وكبت الله عدوّك كبه وأهلكه وتقول: لا زال خصمك مكبوتا وعدوّك مكبوتا. وكبح فرسه جذب عنانه حتى يصير منتصب الرأس ولهذا قيل أيضا: «في كبد أي منتصبا ولم يجعله يمشي على أربع فيتناول الشيء بفيه ولا على بطنه لأن الله تبارك وتعالى كرّم بني آدم بأشياء هذه إحداها» وقال أعرابي آخر: ما للصقر يحبّ الأرنب ما لا يحب الخرب؟ قال لأنه يكبح سبلته ويردّه أي يصيب سبلته بذرقه فيلثقه. وكبر الأمر وخطب كبير وكبر علي ذلك إذا شق عليك «كبر على المشركين ما تدعوهم إليه» وكبر الرجل في قدر وكبر في سنّه وشيخ كبير وذو كبر وكبر، وعلة الكبرة والمكبرة: علو السن وما تقتضيه من معاناة وجهد قال: عجوز عليها كبرة في ملاحة ... أقاتلتي يا للرجال عجوز وكبس الحفرة طمها وكبس رأسه في جيب قميصه أدخله فيه وهو عابس كابس ووقع عليه الكابوس. وانتطحت الكباش وهو كبش كتيبة وهم كباش الكتائب قال: وإنّا لمما نضرب الكبش ضربة ... على رأسه تلقي اللسان من الفم وفلان مكلّب مكبل مأسور بالكلب وهو القدّ مقيّد بالكبل وهو القيد وكبلت الأسير وكبّلته واكتبلته وفي ساقيه كبل وكبول قال جرير: ومكتبلا في القدّ ليس بنازع ... له من مراس القدّ رجلا ولا يدا وكبا لوجهه وتقول: الحدّ ينبو والجدّ يكبو، إلى آخر هذه المادة العجيبة في لغتنا الحبيبة. (لُبَداً) كثيرا تكدس بعضه على بعض ولا يخاف فناؤه من كثرته الجزء: 10 ¦ الصفحة: 482 وما له سبد ولا لبد وهو المراد هنا ولبد أيضا آخر نسور لقمان قيل: بعثته عاد إلى الحرم يستسقي لها فلما أهلكوا خيّر لقمان بين بقاء سبع بعرات من أظب عفر في جبل وعر لا يمسّها القطر أو بقاء سبعة أنسر كلما هلك نسر خلف بعده نسر فاختار النسور وكان آخرها لبدا فلما مات مات لقمان وذلك في عصر الحارث الرائش أحد ملوك اليمن، وقد ذكره الشعراء فقال النابغة: أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد (النَّجْدَيْنِ) الطريقين يعني طريق الخير وطريق الشر والنجد الطريق في ارتفاع وقيل الثديين، روي عن ابن عباس وعلي: لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه فالنجد العلو وجمعه نجود ومنه سمّيت نجد لارتفاعها عن انخفاض تهامة وفي القاموس «النجد: ما أشرف من الأرض وجمعه أنجد وأنجاد ونجاد ونجود ونجد وجمع النجود أنجدة والطريق الواضح المرتفع وما خالف الغور أي تهامة وتضم جيمه مذكر أعلاه تهامة واليمن وأسفله العراق والشام وأوله من جهة الحجاز ذات عرق، وما ينجّد به البيت من بسط وفرش ووسائد والجمع نجود ونجاد والدليل الماهر والمكان لا شجر فيه» إلى أن يقول «والثدي» . (الْعَقَبَةَ) الطريق الصعب في الجبل، واقتحامها مجاوزتها، وسيأتي المزيد من هذا البحث في باب البلاغة. (مَسْغَبَةٍ) مصدر ميمي من سغب يسغب سغبا من باب فرح: جاع وفي القاموس «سغب كفرح ونصر سغبا وسغبا وسغابة وسغوبة ومسغبة جاع فهو ساغب وسغبان وسغب وهي سغبى وجمعها سغاب والسغب العطش وليس بمستعمل» . (مَتْرَبَةٍ) في المختار: «وترب الشيء أصابه التراب وبابه طرب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 483 ومنه ترب الرجل أي افتقر كأنه لصق بالتراب وتربت يداه دعاء عليه أي لا أصاب خيرا وتربه تتريبا فتترّب أي لطخه بالتراب فتلطخ وأتربه: جعل عليه التراب وفي الحديث «أتربوا الكتاب فإنه أنجح للحاجة» وأترب الرجل: استغنى كأنه صار له من المال بقدر التراب والمتربة المسكنة والفاقة ومسكين ذو متربة أي لاصق بالتراب» وقال ابن خالويه: «أخبرنا أبو عبد الله نفطويه عن ثعلب قال: يقال: ترب الرجل إذا افتقر وأترب إذا استغنى ومعناه صار ماله كالتراب كثرة فإن سأله سائل فقال: إذا كان الأمر كما زعمت فما وجه قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم للرجل الذي استشاره في التزويج فقال له: «عليك بذات الدين تربت يداك» والنبي لا يدعو على أحد من المؤمنين؟ ففي ذلك أجوبة والمختار منها جوابان: أحدهما أن يكون أراد عليه السلام الدعاء الذي لا يراد به الوقوع كقولهم للرجل إذا مدحوه: قاتله الله ما أشعره وأخزاه الله ما أعلمه قال الشاعر في امرأة يهواها وهو جميل بثينة: رمى الله في عيني بثينة بالقذى ... وفي الغر من أنيابها بالقوادح وفي وجهها الصافي المليح بقتمة ... وفي قلبها القاسي بودّ مماتح والجواب الثاني أن هذا الكلام مخرجه من الرسول صلّى الله عليه وسلم مخرج الشرط كأنه قال: عليك بذات البين تربت يداك إن لم تفعل ما أمرتك به وهذا حسن وهو اختيار ثعلب والمبرد» . (مُؤْصَدَةٌ) مطبقة بالهمز وهي قراءة حفص وأبي عمرو وحمزة وبالواو الساكنة وهي قراءة الباقين وهما لغتان يقال: أصدت الباب وآصدته وأوصدته إذا أغلقته وأطبقته وقيل معنى المهموز المطبقة ومعنى غير المهموز المغلقة ولم يفرق بينهما في القاموس. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 484 الإعراب: (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) تقدم إعراب لا أقسم والقول بزيادتها كثيرا فجدد به عهدا وبهذا متعلقان بأقسم والبلد بدل من هذا والواو حالية أو اعتراضية وأنت مبتدأ وحلّ خبر وبهذا متعلقان بحل والبلد بدل واختار الزمخشري أن تكون الواو اعتراضية والجملة معترضة وردّه أبو حيان وفيما يلي عبارة الزمخشري وردّ أبي حيان: قال الزمخشري: «أقسم سبحانه بالبلد الحرام وما بعده على أن الإنسان خلق مغمورا في مكابدة المشاق والشدائد واعتراض بين القسم والمقسم عليه بقوله: وأنت حلّ بهذا البلد يعني ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحلّ بهذا البلد الحرام كما يستحلّ الصيد في غير الحرم» إلى أن يقول: «أو سلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالقسم ببلده على أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد واعترض بأن وعده بفتح مكة تتميما للتسلية والتنفيس عنه فقال: وأنت حل بهذا البلد يعني وأنت حلّ به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر» إلى أن يقول: «فإن قلت: أين نظير قوله وأنت حلّ في معنى الاستقبال؟ قلت قوله عزّ وجلّ: إنك ميت وإنهم ميّتون ومثله واسع في كلام العباد تقول لمن تعده بالإكرام والحباء: أنت مكرم محبو وهو في كلام العرب أوسع لأن الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال وأن تفسيره بالحال محال أن السورة بالاتفاق مكيّة وأين الهجرة من وقت نزولها فما بال الفتح؟» . وقال أبو حيان: «وحمله على أن الجملة اعتراضية لا يتعين وقد ذكرنا أولا أنها جملة حالية وبينّا حسن موقعها وهو إفادة تعظيم المقسم به وهي حال مقارنة لا مقدرة ولا محكية فليست من الإخبار بالمستقبل وأما سؤاله والجواب فهذا لا يسأله من له أدنى تعلق بعلم النحو لأن الإخبار قد يكون بالمستقبلات وأن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 485 اسم الفاعل وما جرى مجراه حالة إسناده أو الوصف به لا يتعين حمله على الحال بل يكون للماضي تارة وللحال أخرى وللمستقبل أخرى وهذا من مبادئ علم النحو وأما قوله وكفاك دليلا قاطعا إلخ فليس بشيء لأنّا لم نحمل وأنت حل على أنه يحلّ لك ما تصنع في مكة من الأسر والقتل وقت نزولها بمكة فتنافيا بل حملناه على أنه مقيم بها خاصة وهو وقت النزول كان مقيما بها ضرورة وأيضا فما حكاه من الاتفاق على أنها نزلت بمكة ليس بصحيح وقد يحكى الخلاف فيها عن قوم» وإنما أوردنا هذا النقاش وقوة الحجة لدى المتناقشين مما حدا بالمفسرين جميعا على وجه التقريب التزام الحياء في هذا النزاع ولهذا لم نشأ نحن الترجيح أيضا، على أن الكرخي أيّد وجهة نظر الزمخشري إذ قال: «أقسم الله بالبلد الحرام على أنه خلق الإنسان في كبد واعترض بينهما بأن وعده فتح مكة تتميما للتسلية لقوله وأنت حلّ أي به في المستقبل تصنع ما تريد من القتل والأسر» وكذلك أيّد الجلال في تفسيره الزمخشري فقال «فالجملة اعتراض بين المقسم والمقسم عليه» وتعقبه السمين فأورد كلامه وقال: «وقيل إنها حالية ولا نافية أي لا أقسم بهذا البلد وأنت حال مقيم به لعظيم قدرك أي لا أقسم بشيء وأنت أحقّ بالإقسام بك منه» وأيّد ابن خالويه أبا حيان (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) عطف على القسم السابق والمراد بالوالد آدم وما عطف على والد وجملة ولد صلة أي ذريته، وأحسن من ذلك ما قاله أبو حيان: «والظاهر أن قوله ووالد وما ولد لا يراد به معين بل ينطلق على كل والد» أما الزمخشري فقد جنح إلى رأي آخر فقال: «فإن قلت: ما المراد بوالد وما ولد؟ قلت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن ولده أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه وحرم أبيه إبراهيم ومنشأ أبيه إسماعيل عليهما السلام وبمن ولده وبه فإن قلت لم نكر؟ قلت للإبهام المستقل بالمدح والتعجب فإن قلت فهلّا قيل ومن ولد؟ قلت فيه ما في قوله: والله أعلم بما وضعت يعني الجزء: 10 ¦ الصفحة: 486 موضوعا عجيب الشأن» وقال الفراء وما للناس كقوله: ما طاب لكم «وما خلق الذكر والأنثى وهو الخالق للذكر والأنثى» (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) الجملة جواب القسم واللام واقعة في الجواب وقد حرف تحقيق وخلقنا فعل وفاعل والإنسان مفعول به وأل فيه للجنس لأنه أراد جنس الإنسان وفي كبد متعلقان بمحذوف على أنها حال من الإنسان أي مكابدا للمشاق منتصبا على قدميه يؤدي دوره في بناء مجتمعه لا كالحيوان الذي يتناول طعامه بفمه (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) الهمزة للإنكار والتوبيخ ويحسب فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر يعود على الإنسان أو على بعض صناديد قريش الذين كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكابد منهم ما يكابد، وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويقدر فعل مضارع منصوب بلن وعليه متعلقان بيقدر وأحد فاعل يقدر، ومن العجيب أن يقول ابن خالويه ما نصّه: «أن حرف ناصب ولن حرف نصب ويقدر منصوب بلن والعرب إذا جمعت بين حرفين عاملين ألغت أحدهما» فهذا هو الهراء الذي ما بعده هراء وهذا هو الخرق الفاضح لإجماع النحاة على استشهادهم بالآية المذكورة لأنه يشترط في أن المفتوحة إذا خفّفت أن يكون اسمها ضميرا للشأن ولم يسمع ذكره إلا في ضرورة الشعر كقول جنوب أخت عمرو ذي الكلب: وقد علم الضيف والمرملون ... إذا اغبرّ أفق وهبت شمالا بأنك ربيع وغيث مريع ... وأنك هناك تكون الثمالا فقد أتى اسمها ضميرا مذكورا وليس للشأن وأما خبرها فيجب أن يكون جملة، ثم إن كانت الجملة اسمية أو فعلية فعلها جامد أو دعاء لم تحتج إلى فاصل فالاسمية نحو وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين والفعلية التي فعلها جامد نحو وأن ليس للإنسان إلا ما سعى والفعلية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 487 التي فعلها دعاء نحو والخامسة أن غضب الله عليها، ويحب الفصل في غيرهنّ ليكون عوضا مما حذفوا من أنه وهو أحد النونين والاسم أو لئلا يلتبس بأن المصدرية والفصل إما بقد لأنها تقرّب الماضي من الحال نحو ونعلم أن قد صدقتنا، أو تنفيس نحو علم أن سيكون، أو نفي بلا أو لن أو لم، فمثال لن أيحسب أن لن يقدر عليه أحد، فإن قيل قد أوجبوا أن تكون مخفّفة بعد فعل العلم أما بعد فعل الظن فقد أجازوا أن تكون مخففة ومصدرية قلت: ما كان أرفع أسلوب القرآن عن إقحام عاملين بمعنى واحد واضطرارنا إلى إلغاء أحدهما وهذا ما يترفع عنه أسلوب القرآن العظيم (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً) الجملة حالية أو استئنافية والقول على سبيل الفخر والمباهاة وجملة أهلكت مقول القول ومالا مفعول به ولبدا نعت (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) الاستفهام للإنكار والتوبيخ أيضا وإعرابها كإعراب سابقتها (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ونجعل فعل مضارع مجزوم بلم وله متعلقان بنجعل لأنها بمعنى نخلق وعينين مفعول به ولسانا وشفتين عطف على عينين والشفة محذوفة اللام والأصل شفهة بدليل تصغيرها على شفيهه وجمعها على شفاه ونظيره سنة ولا تجمع بالألف والتاء استغناء بتكسيرها على شفاه، وهديناه فعل ماض وفاعل ومفعول به والنجدين مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض كما تقدم (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) الفاء عاطفة ولا نافية وهو قول أبي عبيدة والفراء والزجّاج كأنه قال: ووهبنا له الجوارح ودللناه على السبيل فما فعل خيرا أي فلم يقتحم، وقال الفراء والزجّاج: ذكر لا مرة واحدة والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي حتى تعيدها كقوله تعالى فلا صدق ولا صلّى وإنما أفردها لدلالة آخر الكلام على معناه فيجوز أن يكون قوله الآتي ثم كان إلخ قائما مقام التكرير كأنه قال اقتحم العقبة ولا آمن وقيل هو جار مجرى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 488 الدعاء كقوله لا نجا ولا سلم دعاء عليه أن لا يفعل خيرا، وقال الزمخشري بعد أن تنحل مقالة الفراء والزجّاج وأبي عبيدة «هي بمعنى لا متكررة في المعنى لأن معنى فلا اقتحم العقبة فلا فكّ رقبة ولا أطعم مسكينا، ألا ترى أنه فسّر اقتحام العقبة بذلك» ولا يتمّ له هذا إلا على قراءة من قرأ فكّ فعلا ماضيا، على أن أغرب ما قرأناه هو قول الشيخ الجلال أن لا بمعنى هلّا أي حرف تحضيض وقد ارتكن الجلال على رواية لأبي زيد ولكننا لم نسمع أن لا وحدها تكون للتحضيض وليس معها الهمزة، وعبارة ابن هشام في المغني: «وأما قوله سبحانه وتعالى: فلا اقتحم العقبة فإن لا فيه مكررة في المعنى لأن المعنى فلا فكّ رقبة ولا أطعم مسكينا لأن ذلك تفسير للعقبة قاله الزمخشري، وقال الزجّاج: إنما جاز لأن ثم كان من الذين آمنوا معطوف عليه وداخل في النفي فكأنه قيل: فلا اقتحم ولا آمن. ولو صحّ لجاز لا أكل زيد وشرب، وقال بعضهم لا دعائية دعا عليه أن لا يفعل خيرا، وقال آخر: تحضيض والأصل فألّا اقتحم ثم حذفت الهمزة وهو ضعيف» . ومن مراجعة هذه الأقوال يتبين أن جعلها دعائية هو الأرجح والأمثل بأسلوب القرآن الكريم، قال الدماميني: «هذا وجه ظاهر الحسن لا غبار عليه فكان الأولى تقديمه على غيره من الأقوال» . واقتحم العقبة فعل ماض وفاعل مستتر تقديره هو أي القائل ومفعول به وسيأتي المزيد من معنى اقتحام العقبة في باب البلاغة والواو اعتراضية وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة أدراك خبر ما وما اسم استفهام مبتدأ والعقبة خبر والجملة الاسمية المعلقة بالاستفهام في محل نصب سدّت مسدّ مفعول أدراك الثاني والجملة معترضة مقحمة لبيان العقبة مقررة لمعنى الإبهام، والتفسير: فإن قوله وما أدراك ما العقبة عين تلك العقبة لأن المعرّف بالألف واللام إذا أعيد كان الثاني عين الأول (فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) فكّ رقبة خبر لمبتدأ مضمر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 489 أي هو فكّ والتقدير وما هو اقتحام العقبة هو فك رقبة أو إطعام إلخ وإنما احتيج إلى تقدير هذا المضاف ليتطابق المفسّر والمفسّر، ألا ترى أن المفسر بكسر السين مصدر والمفسر بفتح السين وهو العقبة غير مصدر فلو لم يقدّر المضاف لكان المصدر وهو فكّ مفسّرا للعين وهي العقبة وقرىء فكّ رقبة على أنه فعل ماض وفاعله هو ورقبة مفعول والجملة الفعلية عندئذ بدل من قوله اقتحم العقبة المنفي بلا فكأنه قيل فلا فكّ رقبة ولا أطعم وهذا يؤيد ما ذهب إليه الزمخشري. أو إطعام عطف على فكّ رقبة على القراءة الأولى وفي يوم متعلقان بإطعام وذي مسغبة نعت يوم ويتيما مفعول لإطعام على أنه مصدر استوفى شروط النصب أو مفعول أطعم على القراءة وذا مقربة نعت ليتيما وأو حرف عطف ومسكينا عطف على يتيما وذا متربة نعت لمسكينا (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) ثم حرف عطف يفيد التراخي في الرتبة لأن الإيمان هو الأصل والأسبق ولا يتم عمل إلا به، وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر يعود عليه ومن الذين خبرها وجملة آمنوا صلة وتواصوا عطف على الصلة داخل في حيّزها وبالصبر متعلقان بتواصوا وتواصوا بالمرحمة عطف أيضا (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) أولئك مبتدأ وأصحاب الميمنة خبر والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة وبآياتنا متعلقان بكفروا وهم مبتدأ وأصحاب المشأمة خبره والجملة خبر الذين، وسيأتي بحث قيّم عن اختلاف صيغ التعبير في باب البلاغة وعليهم خبر مقدّم ونار مبتدأ مؤخر ومؤصدة صفة لنار والجملة خبر ثان ولك أن تجعلها استئنافية. البلاغة: 1- في قوله «وهديناه النجدين» استعارة تصريحية فقد استعار الجزء: 10 ¦ الصفحة: 490 النجدين للخير والشر وحذف المشبه وهو الخير والشر وأبقى المشبه به فإن قلت أما تشبيه الخير بالنجد وهو المرتفع من الطريق فلا غبار عليه لأنه ظاهر بخلاف الشر فإنه هبوط وارتكاس من ذروة الفطرة إلى حضيض الابتذال قلنا: إنه جمع بينهما إما على سبيل التغليب وإما على توهم المخيلة أن فيه صعودا وارتكاسا وإسفافا وهذا من أبلغ الكلام وأروعه. 2- وفي قوله «فلا اقتحم العقبة» ترشيح للاستعارة بذكر ما يلائم المشبه وقد مرّت أمثلتها ونضيف هنا أن مبنى الترشيح تناسي التشبيه وتقوّله الادّعاء والمبالغة ولهذا كان الترشيح أبلغ من التجريد وهو ذكر ما يلائم المشبه دون المشبّه به لأن فيه اعترافا بالتشبيه حتى يبنى على علو القدر المشبه بالعلو المكاني ما يبنى على العلو المكاني كما قال أبو تمام: ويصعد حتى يظن الجهول ... بأن له حاجة في السماء استعار الصعود لعلو القدر ثم بنى عليه ما يبنى على علو المكان فلولا أن قصده أن يتناسى التشبيه ويصرّ على إنكاره فيجعله صاعدا في السماء لما كان لهذا الكلام وجه ثم إنهم يفعلون ذلك التناسي مع التصريح بالتشبيه والاعتراف بالأصل فمع جحد الأصل والإصرار عليه كما في الاستعارة أولى فأولى كقول العباس بن الأحنف: هي الشمس مسكنها في السماء ... فعزّ الفؤاد عزاء طويلا فلن تستطيع إليها الطلوع ... ولن تستطيع إليك النزولا ولا يخفى أن هذا التناسي وقع مع الاعتراف بالأصل وهو: هي في قوله هي الشمس لأنها راجعة إلى الحبيبة وهذا واضح وجعله ضمير القصة كما توهمه بعضهم تكلف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 491 ومن أمثلة الاستعارة المجردة أيضا قول الشاعر: فإن يهلك فكل عمود قوم ... من الدنيا إلى هلك يصير ففي قوله عمود استعارة تصريحية أصلية شبّه رئيس القوم بالعمود بجامع أن كلاهما يحمل والقرينة يهلك وفي إلى هلك يصير تجريد وقد يجتمع الترشيح مع التجريد لجواز أن يتناسى التشبيه في بعض الصفات دون بعض، ومن أمثلته قول أبي الطيب: سقاك وحيّانا بك الله إنما ... على العيس نور والخدور كمائمه فالنور الزهر أو الأبيض منه والمراد به هنا النساء والجامع الحسن فالاستعارة تصريحية أصلية وفي ذكر الخدور تجريد وفي ذكر الكمائم ترشيح وتسمى الاستعارة عندئذ مطلقة. 3- وفي قوله «أولئك أصحاب الميمنة والذين كفروا هم أصحاب المشأمة» خولف في التعبير، فقد أشار إلى المؤمنين تكريما لهم وأنهم حاضرون عنده تعالى في مقام كرامته وبمثابة الجالسين أمامه لا يعدو الأمر أكثر من الإشارة إليهم بالبنان ثم استعمل لفظ الإشارة الدّال على البعد فلم يقل هؤلاء إيذانا ببعد منزلتهم عنده ونيلهم شرف الحظوة والقرب منه أما الكافرون فقد ذكرهم بضمير الغيبة إشارة إلى أنهم غائبون عن مقام تجلياته وسبحات فيوضاته وأنهم لا يستأهلون أن يمتّوا إليه ولو بأوهن الأسباب، وهذا من العجب العجاب فتدبره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 492 (91) سورة الشّمس مكيّة وآياتها خمس عشرة [سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15) اللغة: (وَضُحاها) قال القرطبي: «الضحى مؤنثة يقال ارتفعت الضحى فوق الضحو وقد تذكر فمن أنّث ذهب إلى أنها جمع ضحوة ومن ذكر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 493 ذهب إلى أنها اسم على فعل نحو صرد» وقال ابن خالويه: «الضحى مقصور مثل هدى والضحى مؤنثة تصغيرها ضحية والأجود أن تقول في تصغيرها ضحيّ بغير هاء لئلا يشبه تصغيرها تصغير ضحوة والضحى وجه النهار ويقال ليلة اضحيان إذا كان القمر فيها مضيئا من أولها إلى آخرها وقد أضحى النهار إذا ارتفع ويقال: ضحي فلان للشمس يضحى إذا برز لها وظهر قال الله تعالى: وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى، ورأى ابن عمر رجلا يلبي وقد أخفى صوته فقال له أضح لمن لبّيت له أي اظهر وقال عمر بن أبي ربيعة: رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأيما بالعشيّ فيخصر» وفي القاموس: «الضّحو والضحوة والضّحية كعشيّة ارتفاع النهار والضحى فويقة ويذكر ويصغر ضحيّا بلا هاء والضحاء بالمدّ إذا قرب انتصاف النهار وبالضم والقصر وأتيتك ضحوة وضحى وأضحى صار فيها والشيء أظهره وضاحاه أتاه فيها» . (جَلَّاها) أظهرها وكشفها. (طَحاها) بسطها لأن ما يظهر للرائي فيها يكون كالبساط فلا ينافي كرويتها وفي المختار «طحاه: بسطه مثل دحاه وبابه عدا» وفي القاموس «وطحا يطحو بعد وهلك وألقى إنسانا على وجهه والطحا المنبسط من الأرض وطحى كسعى وبسط وانبسط واضطجع وذهب في الأرض وطحا به قلبه ذهب به في كل شيء» . (دَسَّاها) التدسية: النقص والإخفاء بالفجور وأصل دسى دسس كما قيل في تقضض تقضى وكما قيل قصيت أظفاري وأصله قصصت أظفاري. (فَدَمْدَمَ) أطبق عليهم العذاب بذنبهم فأهلكهم قال الفراء: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 494 «وحقيقة الدمدمة تضعيف العذاب وترديده ويقال دمدمت على الشيء أطبقت عليه» وفي الصحاح «ودمدمت الشيء إذا ألزقته بالأرض ودمدم الله عليهم أي أهلكهم ويقال: دمدمت على الميت التراب أي سوّيته عليه» وقال ابن الأنباري: «دمدم أي غضب والدمدمة الكلام الذي يزعج الرجل» وفي القاموس: «ودمم الأرض سواها وفلانا عذبه عذابا تاما والقوم أهلكهم كدهدم ودمدم عليهم» . (عُقْباها) تبعتها وعاقبتها، وفي القاموس: «وأعقبه الله بطاعته جازاه والعقبى جزاء الأمر» . الإعراب: (وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) الواو حرف قسم وجر والشمس مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف وضحاها عطف على الشمس والقمر عطف أيضا وإذا لمجرد الظرفية متعلقة بفعل القسم المحذوف وقد استشكل بأن فعل القسم إنشاء وزمانه الحال فلا يعمل في إذا لأنها للاستقبال والإلزام اختلاف العامل والمعمول في الزمان وهو محال وأجيب بأنه يجوز أن يقسم الآن بطلوع النجم في المستقبل فالقسم في الحال والطلوع في المستقبل ويجوز أن يقسم بالشيء المستقبل كما تقول: أقسم بالله إذا طلعت الشمس فالقسم متحتّم عند طلوع الشمس وإنما يكون فعل القسم للحال إذا لم يكن معتمدا على شرط، هذا وقد بسطنا القول بسطا مفيدا ووافيا عند الكلام على سورة التكوير وجملة تلاها في محل جر بإضافة الظرف إليها (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) الجملتان منسوقتان على ما تقدم مماثلتان له في الإعراب (وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) عطف أيضا و «ما» في الجمل الثلاث مصدرية أو بمعنى من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 495 وعلى كل حال فهي معطوفة على الاسم قبلها أو المصدر المنسبك منها ومن الفعل معطوف عليه، وشجب الزمخشري كونها مصدرية. (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) منسوق أيضا على ما تقدم والتنكير في نفس لإرادة الجنس كأنه قال وواحدة من النفوس (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) الفاء عاطفة وألهمها فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وفجورها مفعول به ثان وتقواها عطف على فجورها، وقد اختلفوا في معنى الإلهام قال ابن جبير ألزمها، وقال ابن عباس عرفها، وقال ابن زيد: بين لها، وقال الزجّاج وفّقها للتقوى وألهمها فجورها أي خذلها وقيل عرفها وجعل لها قوة يصحّ معها اكتساب الفجور واكتساب التقوى، وقال الزمخشري: «ومعنى إلهام الفجور والتقوى إفهامها وإعقالها وأن أحدهما حسن والآخر قبيح وتمكينه من اختيار ما شاء منهما» وفيه تلميح إلى مذهب المعتزلة القائل بالتحسين والتقبيح العقليين أي إن الحسن والقبح مدركان بالعقل، أما أهل السنّة فيقولون بالتحسين والتقبيح الشرعيين أي إن الحسن والقبح لا يدركان إلا بالسمع لأنهما راجعان إلى الأحكام الشرعية مع عدم إلغاء خط العقل من إدراك الأحكام الشرعية وعندهم أنه لا بدّ في علم كل حكم شرعي من مقدمتين عقلية وهي الموصلة إلى العقيدة وسمعية مفرغة عليها وهي الدالّة على خصوص الحكم. هذا والإلهام في اللغة إلقاء الشيء في الروع، قال الراغب: ويختص بما يكون من جهته تعالى وجهة الملأ الأعلى، قال تعالى: فألهمها فجورها وتقواها، فعلم أنه غير مختص بالخير بل يعمّه والشر، وفي الاصطلاح إلقاء معنى في القلب بطريق الفيض من غير كسب فيختصّ بالخير لعدم إطلاق الفيض في الشرّ بل يطلق فيه الوسوسة (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) الجملة جواب القسم وحذفت اللام لطول الكلام وقيل الجواب محذوف تقديره لتبعثنّ وقال الزمخشري: «تقديره ليدمدمنّ الله عليهم أي على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلّى الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 496 عليه وسلم كما دمدم على ثمود لأنهم كذبوا صالحا وأما قد أفلح فكلام تابع لقوله فألهمها فجورها وتقواها على سبيل الاستطراد وليس من جواب القسم في شيء» وقد حرف تحقيق وأفلح فعل ماض ومن موصول فاعل وجملة زكّاها صلة وفاعل زكاها ضمير يعود على من وقيل ضمير الله تعالى أي قد أفلح من زكّاها الله تعالى بالطاعة وقد خاب من دسّاها عطف على الجملة السابقة مماثلة لها (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما ذكر من فلاح من زكى نفسه أو زكّاها الله ومن دسى نفسه أو دساها الله. وكذبت ثمود فعل ماض وفاعل وبطغواها متعلقان بكذبت ومعنى الباء السببية أي بسبب طغيانهم وجعلها في الكشاف للاستعانة مجازا كقولك كتبت بالقلم يعني فعلت التكذيب بطغيانها، وكل من الطغوى والطغيان مصدر لكن اختير التعبير بالطغوى لأنه أشبه برءوس الآي، قال في المختار: «طغى يطغى بفتح الغين فيهما ويطغو طغيانا وطغوانا أي جاوز الحدّ وطغي بالكسر مثله والطغوى بالفتح مثل الطغيان» أما الزمخشري فقال «والطغوى من الطغيان فصلوا بين الاسم والصفة في فعلى من بنات الياء بأن قلبوا الياء واوا في الاسم وتركوا القلب في الصفة فقالوا: امرأة خزيا وصديا» وإذا ظرف لما مضى من الزمن متعلق بكذبت أو بالطغوى وجملة انبعث في محل جر بإضافة الظرف إليها، وأشقاها فاعل انبعث والمراد به قدار بن سالف بضم القاف ويضرب به المثل في الشؤم فيقال أشأم من قدار ويلقب بأحمر ثمود ويجوز أن يكونوا جماعة والإفراد لتسويتك في التفضيل إذا أضفته بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وعبارة ابن خالويه وقد خلط بها خلطا عجيبا: «فإذا كان المذكر أشقى فالمرأة شقواء لأنه من ذوات الواو كقوله: «ربنا غلبت علينا شقوتنا» وشقاوتنا و «ها» جرّ بالإضافة وجمع أشقى شقو مثل حمر وصفر فإن جمعت جمع سلامة قلت في المذكر أشقون وفي المؤنث شقواوات مثل حمراوات» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 497 قال ابن هشام معقّبا: «قوله: إذا كان المذكر أشقى فالمؤنث شقواء والجمع شقو ليس بجيد إذ لم يفرّق بين أفعل الذي يكون نعتا للنكرة وبين أفعل الذي يجري مجرى الأسماء ولا يكون نعتا للنكرة إلا بمن وإنما يكون مضافا أو مقرونا بأل وإنما الأنثى في هذا الشقيا وجمع المذكر الأشقون والأشاقي في القياس جائز وكما تقول الأكبر والأكبرون والأكابر وجمع الأنثى الشّقى والشقييات كما تقول الكبرى والكبر والكبريات» (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها) الفاء عاطفة وقال فعل ماض مبني على الفتح ولهم متعلقان بقال ورسول الله فاعل وناقة الله منصوب على التحذير على حذف مضاف أي ذروا عقرها واحذروا سقياها، وسيأتي بحث عن التحذير في باب الفوائد، وسقياها عطف على ناقة الله أي وشربها (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها وَلا يَخافُ عُقْباها) الفاء عاطفة وكذبوه فعل وفاعل ومفعول به، فعقروها عطف على فكذبوه أي عقرها قدار في رجليها فأوقعها فذبحوها وتقاسموا لحمها، فدمدم عطف أيضا وعليهم متعلقان بدمدم وربهم فاعل وبذنبهم متعلقان بدمدم أيضا والباء للسببية أي بسبب ذنبهم، فسوّاها عطف على دمدم والواو حرف عطف ولا نافية ويخاف عقباها فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وإنما جعلنا الواو عاطفة لتلائم قراءة الفاء وهي سبعية أيضا، على أن المعربين والمفسرين يقولون إن الواو حالية أو استئنافية وممّن قال بأنها عاطفة ابن خالويه. البلاغة: في قوله «ولا يخاف عقباها» استعارة تمثيلية على اعتبار أن الضمير في يخاف لله عزّ وجلّ وهو الظاهر أي أنه سبحانه لا يخاف عاقبتها كما تخاف الملوك عاقبة أفعالها، والمقصود من الاستعارة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 498 إهانتهم وإذلالهم، ويجوز أن يعود الضمير على الرسول أي أنه لا يخاف عاقبة إنذاره لهم وتبقى الاستعارة، وقال السدّي ومقاتل والزجّاج وأبو علي: الواو واو الحال والضمير في يخاف عائد على أشقاها أي انبعث لعقرها وهو لا يخاف عقبى فعله لكفره وطغيانه والعقبى خاتمة الشيء وما يجيء من الأمور بعقبه، وهذا فيه يعد لطول الفصل بين الحال وصاحبها. الفوائد: التحذير: هو نصب الاسم بفعل محذوف يفيد التنبيه والتحذير ويقدّر بحسب ما يناسب المقام كاحذر وباعد وتجنب وق وتوق ونحوها، ويكون التحذير: 1- تارة بلفظ إياك وفروعه، نحو إياك والكذب فإياك ضمير بارز منفصل في محل نصب مفعول لفعل محذوف تقديره باعد أو ق أو احذر والكذب معطوف على إياك أو مفعول به لفعل محذوف أيضا كما تقدم، ولك أن تجعل الواو للمعية والكذب مفعولا معه. 2- وتارة بدون إياك وفروعه نحو نفسك والشر والأسد الأسد وإعرابها كما تقدم. 3- وتارة بلفظ إياه وإياي وفروعهما إذا عطف على المحذّر كقوله: فلا تصحب أخا الجهل ... وإياك وإياه والعامل في التحذير يضمر وجوبا في ثلاثة مواضع: 1- أن يكون المحذّر به نفس إياك وفروعه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 499 2- أن يكون هناك عطف. 3- أن يكون هناك تكرار كقولك: الأسد الأسد. ومن العجيب أن النسفي ذكر في تفسيره أن قوله تعالى: ناقة الله وسقياها، إغراء، ولا شك في إشكاله بحسب الظاهر لأن الإغراء لا يصدق عليه بحسب الظاهر بل الصادق عليه إنما هو التحذير. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 500 (92) سورة اللّيل مكيّة وآياتها احدى وعشرون [سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 21] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) الإعراب: (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى إِنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 501 سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) الواو حرف قسم وجر والليل مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره أقسم وإذا ظرف لمجرد الظرفية المجردة عن الشرط وهو متعلق بفعل القسم وقد تقدم البحث فيه، وجملة يغشى في محل جر بإضافة الظرف إليها، والنهار إذا تجلى عطف على الجملة السابقة، وما خلق: ما مصدرية أو موصولة عطف على ما تقدم، وإن سعيكم لشتى جواب القسم أقسم سبحانه على أن أعمال عباده شتى جمع شتيت وقيل للمختلف المتباين شتى لتباعد ما بين بعضه وبعضه والشتات الافتراق وفي المصباح «شت شتا من باب ضرب إذا تفرق والاسم الشتات وشيء شتيت وزان كريم متفرق وقوم شتى فعلى متفرقون وجاءوا أشتاتا كذلك وشتان ما بينهما أي بعد» وإن واسمها واللام المزحلقة وشتى خبر إن (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) الفاء استئنافية وأما حرف شرط وتفصيل ومن اسم موصول مبتدأ وجملة أعطى صلة واتقى عطف على أعطى وصدّق بالحسنى عطف أيضا، فسنيسّره الفاء رابطة لجواب الشرط والسين للتسويف ونيسره فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به ولليسرى متعلقان بنيسّره (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) عطف على ما تقدم مماثل له في إعرابه (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) الواو عاطفة وما نافية ويجوز أن تكون استفهامية في معنى الإنكار في محل نصب مفعول مطلق ليغني أي أيّ إغناء يغني، وبعضهم يعربها مفعولا مقدّما ويقدّر أي شيء يغني، ويغني فعل مضارع مرفوع وعنه متعلقان بيغني وماله فاعل وإذا ظرف لمجرد الظرفية متعلق بيغني وجملة تردى في محل جر بإضافة الظرف إليها، ولابن خالويه في تردى بحث لطيف قال: «تردّى فعل ماض والمصدر تردّى يتردّى تردّيا فهو متردّ ومنه قوله تعالى والمتردية والنطيحة، يقال: تردّى في بئر وفي أهوية وفي هلكة، إذا وقع فيها ويقال: ردي زيد يردى ردى إذا هلك وأرداه الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 502 يرديه إرداء ويقال ردى الفرس يردي رديانا، قال الأصمعي: سألت منتجع بن بنهان عن رديان الفرس فقال: هو عدوه بن آريّه ومتمعّكه الآري الآخيّة أي المعلف والمتمعّك الموضع الذي يتمرغ فيه والآري وزنه فاعول سمى بذلك لحبسه الدابة، يقال: تأريت بالمكان إذا لزمته وتحبست به» وقال المبرد: «قيل فيه قولان: أحدهما إذا تردى في النار والآخر إذا مات وهل تفعّل من الردى» (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) كلام مستأنف مسوق لإخبارهم بأن عليه سبحانه بمقتضى حكمته بيان الهدى من الضلال. وإن حرف مشبّه بالفعل وعلينا خبرها المقدّم واللام للتأكيد والهدى اسم إن المؤخر (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) الواو عاطفة وما بعدها عطف على ما تقدم مماثل له في الإعراب (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) الفاء عاطفة على مقدّر أي فمن طلب الدنيا والآخرة من غير مالكهما الحقيقي وهو الله فقد أخطأ الطريق وضلّ سواء السبيل، وأنذرتكم فعل ماض وفاعل ومفعول به ونارا مفعول به ثان وجملة تلظى نعت لنارا وتلظى فعل مضارع والأصل تتلظى، وعبارة ابن خالويه جيدة وهي: «تلظى فعل مضارع والأصل تتلظى وقد قرأ ابن مسعود بذلك وقرأ ابن كثير: نارا تّلظى بإدغام التاء يريد نارا تتلظى ولو كان تلظى فعلا ماضيا لقيل تلظت لأن النار مؤنثة والمصدر تلظّت تتلظى تلظّيا فهي متلظية ويقال في أسماء جهنم سقر وجهنم والجحيم ولظى نعوذ بالله منها وهذه الأسماء معارف لا تنصرف للتأنيث والمعرفة» (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) لا نافية ويصلاها فعل مضارع مرفوع والهاء مفعول به وإلا أداة حصر والأشقى فاعل يصلاها (الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) الذي نعت للأشقى وجملة كذب لا محل لها لأنها صلة وتولى عطف على كذب داخل في حيز الصلة (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) الواو عاطفة والسين حرف استقبال جيء به للتأكيد ويجنبها فعل مضارع مرفوع ومفعول به والأتقى فاعل والذي نعت وجملة يؤتي صلة وماله مفعول به ويتزكى فعل مضارع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 503 وفاعله مستتر والجملة إما بدل من يؤتي فتكون لا محل لها لأنها داخلة في حيز صلة الذي وإما حال من فاعل يؤتي أي متزكيا به عند الله (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) الواو حرف عطف وما نافية ولأحد الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم وعنده ظرف متعلق بمحذوف حال ومن حرف جر زائد ونعمة مجرور بمن لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ وإلا أداة استثناء بمعنى لكن وابتغاء مستثنى من غير الجنس لأنه منقطع لأن ابتغاء وجه ربه ليس من جنس النعمة أي ما لأحد عنده نعمة إلا ابتغاء وجه ربه والأحسن أن يعرب ابتغاء مفعولا لأجله لأن المعنى لا يؤتي ماله إلا لابتغاء وجه ربه لا لمكافأة نعمة وقرىء ابتغاء بالرفع على لغة من يقول ما في الدار أحد إلا حمار فتكون بدلا من محل من نعمة، قال: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس وقال بشر بن أبي حازم: أضحت خلاء قفارا لا أنيس بها ... إلا الجآذر والظلمان تختلف وسيأتي تفصيل هذه القاعدة في باب الفوائد (وَلَسَوْفَ يَرْضى) الواو عاطفة واللام جواب قسم مضمر أي والله لسوف يرضى، وسوف حرف تسويف ويرضى فعل مضارع وفاعله هو يعود على أبي بكر الذي نزلت فيه الآية لما اشترى بلالا المعذب على إيمانه من سيده أمية بن خلف وأعتقه فقال الكفار إنما فعل ذلك ليد كانت له عنده. الفوائد: إذا كان الاستثناء منقطعا وهو ما لا يكون المستثنى بعض المستثنى منه بشرط أن يكون ما قبل «إلا» دالّا على ما يستثنى فإن لم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 504 يمكن تسليط العامل على المستثنى وجب النصب في المستثنى اتفاقا نحو ما زاد هذا المال إلا ما نقص، فما مصدرية ونقص صلتها وموضعهما نصب على الاستثناء، ولا يجوز رفعه على الإبدال من الفاعل لأنه لا يصحّ تسليط العامل عليه إذ لا يقال زاد النقص، ومثله ما نفع زيد إلا ما ضرّ إذ لا يقال ما نفع الضرّ وإن أمكن تسليطه على المستثنى نحو ما قام القوم إلا حمارا إذ يصحّ أن يقال قام حمار فالحجازيون يوجبون النصب لأنه لا يصحّ فيه الإبدال حقيقة من جهة أن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه وعليه قراءة السبعة: ما لهم به من علم إلا اتباع الظن، وتميم ترجحه وتجيز الاتباع ويقرءون إلا اتباع الظن بالرفع على أنه بدل من العلم باعتبار الموضع ومنه قول جران العود عامر بن الحارث: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس فأبدل اليعافير والعيس من الأنيس، وإلا الثانية مؤكدة للأولى واليعافير جمع يعفور وهو ولد البقرة الوحشية والعيس بكسر العين جمع عيساء كالبيض جمع بيضاء وهي الإبل البيض يخالط بياضها شيء من الشقرة، وذكر سيبويه في توجيه الرفع وجهين: أحدهما أنهم حملوا ذلك على المعنى لأن المقصود هو المستثنى فالقائل ما في الدار أحد إلا حمار المعنى فيه ما في الدار إلا حمار وصار ذكر أحد توكيد ليعلم أنه ليس ثم آدمي ثم أبدل من أحد ما كان مقصوده من ذكر الحمار، الوجه الثاني أنه جعل الحمار إنسان الدار أي الذي يقوم مقامه في الإنس. وقال ابن يعيش: «ومن الاستثناء المنقطع قوله تعالى: وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى وبنو تميم يقرءونها بالرفع ويجعلون ابتغاء وجهه سبحانه نعمة لهم عنده» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 505 (93) سورة الضّحى مكيّة وآياتها إحدى عشرة [سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) اللغة: (سَجى) سكن وركد ظلامه وفي المختار: «وقد سجى الشيء من باب سما سكن ودام وقوله تعالى: والليل إذا سجى أي دام وسكن ومنه البحر الساجي وطرف ساج أي ساكن وسجّى الميت تسجية أي مدّ عليه ثوبا» قال الشاعر: يا حبذا القمراء والليل الساج ... وطرق مثل ملاء النسّاج والساج أيضا: الطيلسان الأخضر وجمعه سيجان، وسيأتي مزيد منه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 506 في باب البلاغة. (وَدَّعَكَ) قرأ العامة بتشديد الدال من التوديع وهو مبالغة في الودع لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك، روي أن الوحي تأخر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أياما فقال المشركون: إن محمدا ودعه ربه وقلاه وقيل إن أم جميل امرأة أبي لهب قالت له: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك فنزلت، وقرىء بالتخفيف من قولهم ودعه أي تركه. وقد اختلف في دع بمعنى اترك هل يتصرف فيأتي منه الماضي والمصدر واسم الفاعل واسم المفعول؟ قال الجوهري: أميت ماضيه وقال غيره: ربما جاء في الضرورة وهو المشهور ولكن حيث جاء في القرآن ما ودعك وفي الحديث «لينتهين قوم عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكوننّ من الغافلين» أي تركهم، وجاء اسم المفعول وغيره في الشعر فيجوز القول بقلة الاستعمال لا بالإماتة وقال الشاعر: ليت شعري عن خليلي ما الذي ... غاله في الحب حتى ودعه (قَلى) أبغض وفي المصباح: «قليته قليا وقلوته قلوا من بابي ضرب وقتل وهو الإنضاح في المقلى وهي مفعل بالكسر وقد يقال مقلاة بالهاء اللحم وغيره مقلى بالياء ومقلو بالواو والفاعل قلّاء بالتشديد لأنه صنعة كالعطّار والنجّار وقليت الرجل أقليه من باب رمى قلى بالكسر والقصر وقد يمدّ إذا أبغضته ومن باب تعب لغة» وفي حديث عن عائشة أن رجلا استأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: إيذنوا له فبئس رجل العشيرة فلما دخل ألان له القول فقالت عائشة: يا رسول الله قلت له الذي قلت فلما دخل ألنت له القول؟ فقال: يا عائشة إن شرّ الناس منزلة يوم القيامة من ودعه الناس- أو تركه الناس- اتّقاء فحشه. وقال ابن خالويه: «يقال قلاه يقلاه بفتح الماضي والمستقبل وليس في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 507 كلام العرب فعل بفتح الماضي والمستقبل فيه مما ليس فيه حرف من حروف الحلق إلا قلى يقلى وجبى يجبى وسلى يسلى وأبى يأبى وغسى يغسى وركن يركن عن الشيباني وأما قوله قلوب البسر والسويق فبالواو والمصدر القلو وأما القلو فالحمار» ولعل رواية الشيباني التي اعتمد عليها ابن خالويه مما انفرد به إذ لم يرد في جميع معاجم اللغة التي بأيدينا إلا ما أورده صاحب المصباح ونص عبارة التاج: على أن قليه في البغض كرضيه يرضاه وفي الحديث: «وجدت الناس أخبر تقله» بالهاء للسكت ولفظه لفظ الأمر ومعناه الناس أي من خبرهم أبغضهم والمعنى وجدت الناس مقولا فيهم هذا القول. (فَآوى) قرأ العامة آوى بألف بعد الهمزة رباعيا من آواه يؤويه، وقرأ أبو الأشهب: فأوى ثلاثيا، وفي المصباح: «أوى إلى منزله يأوي من باب ضرب أويا أقام وربما عدّي بنفسه فقيل أوى منزله والمأوى بفتح الواو لكل حيوان مسكنه وآويت زيدا بالمدّ في التعدّي ومنهم من يجعله مما يستعمل لازما ومتعديا فيقول: أويته وزان ضربته ومنهم من يستعمل الرباعي لازما أيضا وردّه جماعة» . (عائِلًا) فقيرا وهي قراءة العامة، يقال عال زيد من باب سار أي افتقر وأعال كثرت عياله وقرىء عيّلا بكسر الياء المشددة كسيّد وهذه المادة لها أصلان واوي ويائي، أما الواوي فقد قال في القاموس فيه: عال أي جار ومال عن الحق والميزان نقص وجار أو زاد يعول ويعيل وأمرهم اشتد وتفاقم والشيء فلانا غلبه وثقل عليه وأهمّه والفريضة في الحساب زادت وارتفعت وعلتها أنا وأعلتها وعال فلان عولا وعيالة كثر عياله كأعول وأعيل وعياله عولا وعئولا وعيالة كفاهم ومانهم كأعالهم وعيّلهم وأعول رفع صوته بالبكاء والصياح كعوّل والاسم العول والعولة والعويل وعليه أدلّ وحمل كعوّل وفلان حرص كأعال وأعيل والقوس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 508 صوّتت وعيل عوله ثكلته أمه وصبري غلب فهو معول كعال فيهما وعيل ما هو عائله غلب ما هو غالبه يضرب لمن يعجب من كلامه ونحوه والعول كل ما عالك والمستعان به وقوت العيال وعوّل عليه معوّلا اتكل واعتمد والاسم كعنب وعيّلك ككيّس وكتاب من تتكفل بهم واويه يائية والجمع عالة» واستدرك شارحه فقال: «قال الصاغاني في التكملة: العيال جمع عيّل كجياد جمع جيد وهو من يلزم الإنفاق عليه ويكون اسما للواحد كما ذكره الحريري في مقاماته وذكره المطرزي في شرحه» . وأما اليائي فقال صاحب القاموس: «عال يعيل عيلا وعيلة وعيولا ومعيلا افتقر فهو عائل والجمع عالة وعيّل وعيلى كسكرى والاسم العيلة والمعيل الأسد والنمر والذئب لأنه يعيل صيدا أي يلتمس وعالني الشيء عيلا ومعيلا أعوزني وفي مشيه تمايل واختال وتبختر كتعيّل» إلى آخر ما جاء في هذه المادة. الإعراب: (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) الواو حرف قسم وجر والضحى مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف والليل منسوق على الضحى وأجاز ابن هشام أن تكون الواو في والليل عاطفة أو قسمية قال «والصواب الأول وإلا لاحتاج كل إلى الجواب» وإذا ظرف لمجرد الظرفية متعلق بفعل القسم وقد تقدمت له نظائر وجملة سجى في محل جر بإضافة الظرف إليها وما حرف نفي وهو جواب القسم والجملة لا محل لها وودعك فعل ماض ومفعول به وربك فاعل، وما قلى عطف على ما ودعك (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) الواو عاطفة واللام لام الابتداء وهي مؤكدة لمضمون الجملة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 509 والآخرة مبتدأ وخير خير ولك متعلقان بخير ومن الأولى متعلقان بخير أيضا (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) الواو عاطفة واللام للابتداء وهي مؤكدة لمضمون الجملة أيضا وجملة سوف يعطيك خبر لمبتدأ محذوف تقديره أنت وإنما لم تكن واو قسم لأنها لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد فتعين أن تكون الابتداء، ولام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة المكوّنة من المبتدأ والخبر فتعين تقدير مبتدأ وأن يكون أصله ولأنت سوف يعطيك ربك فترضى، ومن المفيد أن ننقل لك سؤالا للزمخشري وجوابه قال: «فإن قلت ما معنى الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير؟ قلت معناه أن العطاء كائن لا محالة وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة» وسوف حرف استقبال ويعطيك ربك فعل مضارع مرفوع ومفعول مقدّم وفاعل مؤخر والفاء عاطفة وترضى فعل مضارع معطوف على يعطيك. وقيل اللام للقسم وأنه إذا حصل فصل بين اللام والفعل امتنعت النون وثبتت لام القسم (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى) كلام مستأنف مسوق لتعداد أياديه ونعمه عليه والغرض من تعدادها تقوية قلبه صلّى الله عليه وسلم وتشجيعه على السير في طريقه التي اختارها الله وهي طريق محمودة العواقب سليمة المغاب. والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويجدك فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله ضمير مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به أول ويتيما مفعول به ثان والفاء حرف عطف وآوى عطف على قوله ألم يجدك أي وجدك ويجوز أن يكون الوجود بمعنى المصادفة لا بمعنى العلم فتكون الكاف مفعولا به ويتيما تعرب حالا من المفعول به. وذلك أن أباه مات وهو جنين وقبل ولادته بشهرين وقيل بل بعد ولادته بشهرين وقيل بسبعة أشهر وقيل بتسعة وقيل بثمانية وعشرين شهرا والمشهور الأول، وتوفيت أمه وهو ابن أربع سنين وقيل خمس سنين وقيل ست الجزء: 10 ¦ الصفحة: 510 سنين وقيل سبع سنين وقيل ثمان سنين وقيل تسع سنين وقيل اثنتي عشرة سنة وشهر وعشرة أيام، ومات جدّه وهو ابن ثمان وكان عبد المطلب قد وصّى أبا طالب به لأن عبد الله وأبا طالب من أم واحدة فكان أبو طالب هو الذي كفل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد جده إلى أن بعثه الله نبيا. ووجدك معطوف وضالا مفعول به ثان أو حال، وأحسن ما قيل في معنى الضلال هو خلوّه من الشريعة فهداه بإنزالها إليه فالمراد بضلاله كونه من غير شريعة وليس المراد به الانحراف عن الحق والتعسف في مهامه الضلال ويؤيد هذا المعنى قوله «ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان» وهناك أقوال كثيرة أربت على العد ضربنا صفحا عنها ويرجع إليها في المطولات، وسيأتي مزيد من معنى الضلال في باب البلاغة، ووجدك عائلا فأغنى منسوق على ما تقدم مماثل له في إعرابه، قال الفراء «لم يكن غناه عن كثرة المال ولكن الله تعالى أرضاه بما أعطاه وتلك حقيقة الغنى» . وفي الحديث «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس» وقال صلّى الله عليه وسلم: «جعل رزقي تحت ظل رمحي» (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) الفاء الفصيحة وأما حرف شرط وتفصيل واليتيم مفعول به مقدم لتقهر والفاء رابطة لجواب الشرط ولا ناهية وتقهر فعل مضارع مجزوم بلا وفاعله مستتر تقديره أنت أي لا تقهره على ماله فتذهب بحقه لضعفه وهذا تعليم سام أكده النبي بقوله: «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه، ثم قال بإصبعيه: أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين» (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) منسوق على ما قبله والأولى أن يكون السائل أعم من أن يسأل المال أو العلم ليوافق التفصيل التعديد ويطابقه (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) منسوق أيضا وبنعمة متعلقان بحدّث والفاء غير مانعة لأنها بمثابة الزائدة والنعمة أعمّ من أن تشمل الدين والغنى والإيواء وما أفاء عليه من الغنائم وأتاح له من النصر والتحدّث بها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 511 مندوب إليه لحفز الهمم ودفع النفوس إلى التأسّي والاقتداء، وما أجمل ما يروى عنه صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله جميل يحب الجمال» ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده، وروي أن شخصا كان جالسا عند النبي صلّى الله عليه وسلم فرآه رثّ الثياب فقال له صلّى الله عليه وسلم: ألك مال؟ قال: نعم فقال له صلّى الله عليه وسلم: «إذا آتاك الله مالا فلير أثره عليك» وفي الحديث أيضا «إن رجلا سأله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أعمل البرّ وأخفيه عن المخلوقين ثم يطلع عليه فهل لي في ذلك من أجر؟ فقال: لك في ذلك أجران أجر السر وأجر العلانية» . البلاغة: 1- في قوله: «والليل إذا سجى» مجاز عقلي حيث أسند السكون إلى الليل، وقد تقدم في المجاز العقلي أنه إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة الإسناد الحقيقي، ومن روائعه قول أبي الطيب في مديح كافور: أبا المسك أرجو منك نصرا على العدا ... وآمل عزا يخضب البيض بالدم ويوما يغيظ الحاسدين وحالة ... أقيم الشقا فيها مقام التنعم فإسناد خضب السيوف بالدم إلى ضمير العز غير حقيقي لأن العز لا يخضب السيوف ولكنه سبب القوة وجمع الأبطال الذين يخضبون السيوف بالدم ففي العبارة مجاز عقلي علاقته السببية وفي الآية إسناد السجو إلى ضمير الليل غير حقيقي وإنما المراد أصحابه فهم الذين يسكنون. 2- وفي قوله «وجدك ضالا فهدى» استعارة تصريحية شبّه الشريعة بالهدى وعدم وجودها بالضلال وحذف المشبه وأبقى المشبه به الجزء: 10 ¦ الصفحة: 512 وهو الضلال من ضلّ في طريقه إذا سلك طريقا غير موصلة لمقصده والمقصد هنا العلوم النافعة التي تسمو بالعقل والروح معا. 3- وفي قوله «فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر» فن الالتزام أو لزوم ما لا يلزم فقد لزمت الهاء قبل الراء، وفي هاتين الفاصلتين مع الالتزام تنكيت عجيب فإنه يقال: هل يجوز التبديل في القرينتين فتأتي كل واحدة مكان أختها؟ فيقال لا يجوز ذلك لأن النكتة في ترجيح مجيئهما على ما جاءتا عليه أن اليتيم مأمور بأدبه وأقل ما يؤدب به الانتهار فلا يجوز أن ينهى عن انتهاره وإنما الذي ينهى عنه قهره وغلبته لانكساره باليتم وعدم ناصره فمن هاهنا ترجح مجيء كل قرينة على ما جاءت عليه ولم يجز التبديل. وأدرجه بعضهم في باب التخيير من فنون البلاغة وقد تقدمت الإشارة إليه. 4- وفي قوله «ولسوف يعطيك ربك فترضى» فن الحذف، فقد حذف مفعول يعطيك الثاني تهويلا لأمره واستعظاما لشأنه، وإن هذه المعطيات أجلّ من أن تذكر، وأكبر من أن تدرج أي الشيء الكثير من توارد الوحي عليك بما فيه إرشاد لك ولقومك ومن ظهور دينك وعلو كلمتك وإسعاد قومك بما تشرع لهم وإعلائك وإعلائهم على الأمم في الدنيا والآخرة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 513 (94) سورة الشّرح مكيّة وآياتها ثمان [سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) اللغة: (وِزْرَكَ) الوزر الذنب أو الحمل الثقيل وقد تقدم شرح هذه المادة. (أَنْقَضَ) أثقل، وفي المختار: «وأصل الإنقاض صوت مثل النقر» وقال أبو حيان: «وقال أهل اللغة: أنقض الحمل ظهر الناقة إذا سمعت له صريرا من شدّة الحمل وسمعت نقيض المرجل أي صريره، قال عباس بن مرداس: وانقض ظهري ما تطويت منهم ... وكنت عليهم مشفقا متحننا وقال جميل: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 514 وحتى تداعت بالنقيض حباله ... وهمت بوأي زورة أن تحطما» والنقيض صوت الانقضاض والانفكاك. وعبارة ابن خالويه: «والمصدر أنقض ينقض إنقاضا فهو منقض ومعناه أثقل ظهرك، والعرب تقول: أنقضت الفراريج إذا صوّتت، قال ذو الرمة: كأن أصوات من إيغالهنّ بنا ... أواخر الميس إنقاض الفراريج والنّقض الجمل المهزول وجمعه أنقاض» . والميس شجر تتخذ منه الرحال والمراد به هنا الرحال، وقد فصل ذو الرمة بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور. (فَانْصَبْ) فاتعب في الدعاء وفي المختار «ونصب تعب وبابه طرب» وفيه أيضا «فرغ من الشغل من باب دخل وفراغا أيضا» وفيه أيضا: «رغب فيه أراده وبابه طرب ورغبة أيضا وارتغب فيه مثله ورغب عنه لم يرده ويقال: رغبه فيه ترغيبا وأرغبه فيه أيضا» . الإعراب: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) الهمزة للاستفهام التقريري أي شرحنا ولذلك عطف عليه الماضي قال الراغب: «أصل الشرح بسط اللحم ونحوه يقال شرحت اللحم وشرّحته ومنه شرح الصدر وهو بسطه بنور إلهي وسكينة من جهة الله وروح منه» ونشرح فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره نحن ولك متعلقان بشرح وصدرك مفعول به، قال ابن خالويه: «وهذه السورة أيضا مما عدّد الله تعالى نعمه على نبيّه صلّى الله عليه وسلم وذكره إياها فلما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 515 أنزل الله تبارك وتعالى: «فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام» قال عبد الله بن مسعود: يا رسول الله أو يشرح الصدر؟ قال: نعم بنور يدخله الله فيه قال: وما أمارة ذلك يا رسول الله؟ قال: التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار القرار والاستعداد للموت قبل الفوت» وجاء في الحديث: «اذكروا الموت فإنكم لا تكونون في كثير إلا قلة ولا في قليل إلا كثرة» والمصدر شرح يشرح شرحا فهو شارح والمفعول به مشروح ويقال «شرح الرجل الجارية إذا افتضّها» ولك متعلقان بنشرح وصدرك مفعول به ووضعنا معطوف على ألم نشرح وعنك متعلقان بوضعنا ووزرك مفعول به والذي نعت للوزر وجملة أنقض لا محل لها لأنها صلة الذي وظهرك مفعول به، قال ابن خالويه: «يقال الظهر والمطا والجوز والمتن والمتنة والقرا كله الظهر قال عقبة بن سابق: ومتنتان خظاتان ... كزحلوق من الهضب ويقال للحم المتن الذّنوب ويقال لأسفل الظهر القطاة ويقال: إن فلانا من حمقه ورطاته، لا يعرف لطاته من قطاته، اللطاة الجبهة والقطاة أسفل الظهر» (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) عطف على ما تقدم ولك متعلقان برفعنا وذكرك مفعول به، وفي تقديم الجار والمجرور هنا وفيما تقدم على المفعول به الصريح مع أن حقه التأخر عنه لتعجيل المسرّة والتشويق، وعبارة ابن خالويه جميلة حيث يقول: «وكان مشركو العرب يقولون: إن محمدا صنبور أي فرد لا ولد له فإذا مات انقطع ذكره فقال الله تعالى: إن شانئك هو الأبتر أي مبغضك هو الأبتر الذي لا ولد له ولا ذكر فأما أنت يا محمد فذكرك مقرون بذكري إلى يوم القيامة إذا قال المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله قال أشهد أن محمدا رسول الله» (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) الفاء عاطفة على كلام محذوف لا بدّ من تقديره والتقدير خوّلناك ما خوّلناك فلا يخامرك اليأس فإن مع العسر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 516 يسرا، وإن حرف مشبه بالفعل ومع العسر ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدّم ويسرا اسمها المؤخر وقرن اليسر مع العسر زيادة في التسلية وتقوية القلب، وإن مع العسر يسرا جملة مستأنفة لتقرير أن العسر متبوع بيسر والألف واللام في العسر لتعريف الجنس وفي الثاني للعهد ولذلك روي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما: «لن يغلب عسر يسرين» والسبب فيه أن العرب إذا أتت باسم ثم أعادته مع الألف واللام كان هو الأول نحو جاء رجل فأكرمت الرجل وكقوله تعالى كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول ولو أعدته بغير ألف ولام كان غير الأول فقوله إن مع العسر يسرا لما أعاد العسر الثاني أعاده بالألف واللام ولما كان اليسر الثاني غير الأول لم يعدو بالألف واللام. وعبارة الزمخشري: «فإن قلت ما معنى قول ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما لن يغلب عسر يسرين وقد روي مرفوعا أنه خرج صلّى الله عليه وسلم ذات يوم وهو يضحك ويقول لن يغلب عسر يسرين؟ قلت هذا حمل على الظاهر وبناء على قوة الرجاء وإن موعد الله لا يحمل إلا على أو في ما يحتمله اللفظ وأبلغه والقول فيه أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تكريرا للأولى كما كرر قوله ويل يومئذ للمكذبين لتقرير معناها في النفوس وتمكينها في القلوب وكما يكرر المفرد في قولك جاءني زيد زيد، وأن تكون الأولى عدة بأن العسر مردوف بيسر لا محالة والثانية عدة مستأنفة بأن العسر متبوع بيسر فهما يسران على تقدير الاستئناف وإنما كان العسر واحدا لأنه لا يخلو إما أن يكون تعريفه للعهد وهو العسر الذي كانوا فيه فهو هو لأن حكمه حكم زيد في قولك إن مع زيد مالا إن مع زيد مالا وإما أن يكون للجنس الذي يعلمه كل أحد فهو هو أيضا وأما اليسر فنكرة متناولة بعض الجنس وإذا كان الكلام الثاني مستأنفا غير مكرر فقد تناول بعضا غير البعض الأول بغير إشكال فإن قلت: فما المراد باليسرين؟ قلت يجوز أن يراد بهما ما تيسر لهم من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 517 الفتوح في أيام رسول الله صلّى الله عليه وسلم وما تيسر لهم في أيام الخلفاء وأن يراد يسر الدنيا ويسر الآخرة كقوله تعالى: قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين وهما حسنى الظفر وحسنى الثواب فإن قلت ما معنى هذا التنكير؟ قلت التفخيم كأنه قيل: إن مع العسر يسرا عظيما» . وقال أبو البقاء: «العسر في الموضعين واحد لأن الألف واللام توجب تكرير الأول وأما يسرا في الموضعين فاثنان لأن النكرة إذا أريد تكريرها جيء بضميرها أو بالألف واللام ومن هنا قيل لن يغلب عسر يسرين» . وعبارة ابن خالويه: «قال ابن عباس: لا يغلب عسر يسرين تفسير ذلك أن في ألم نشرح عسرا واحدا ويسرين وإن كان مكررا في اللفظ لأن العسر الثاني هو العسر الأول واليسر الثاني غير الأول لأنه نكرة والنكرة إذا أعيدت أعيدت بألف ولام كقولك جاءني رجل فأكرمت الرجل فلما ذكر اليسر مرتين ولم يدخل في الثاني ألفا ولاما علم أن الثاني غير الأول» . وقال ابن هشام في كتابه الممتع مغني اللبيب في الباب السادس من الكتاب في التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين والصواب خلافها «الرابع عشر قولهم إن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى وإذا أعيدت معرفة أو أعيدت المعرفة معرفة أو نكرة كان الثاني عين الأولى، وحملوا على ذلك ما روي: لن يغلب عسر يسرين، قال الزجاج: ذكر العسر مع الألف واللام ثم ثنى ذكره فصار المعنى إن مع العسر يسرين. ويشهد للصورتين الأوليين أنك تقول: اشتريت فرسا ثم بعت فرسا فيكون الثاني غير الأول ولو قلت: ثم بعت الفرس لكان الثاني عين الأول وللرابع قول الحماسي: صفحنا عن بني ذهل ... وقلنا القوم إخوان عسى الأيام أن يرجعن ... قوما كالذي كانوا ويشكل على ذلك أمور ثلاثة: أحدها أن الظاهر في آية ألم نشرح أن الجملة الثانية تكرار للأولى كما تقول: إن لزيد دارا إن لزيد دارا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 518 وعلى هذا فالثانية عين الأولى والثاني: أن ابن مسعود قال: لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه، إنه لن يغلب عسر يسرين، مع أن الآية في قراءته وفي مصحفه مرة واحدة فدل على ما ادّعينا من التأكيد وعلى أنه لم يستفد تكرر اليسر من تكرره بل هو من غير ذلك كأن يكون فهمه مما في التنكير من التفخيم فتأوله بيسر الدارين، والثالث: أن في التنزيل آيات تردّ هذه الأحكام الأربعة فيشكل على الأول قوله تعالى: الله الذي خلقكم من ضعف. الآية، وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله، والله إله واحد سبحانه وعلى الثاني قوله تعالى: فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير، فالصلح الأول خاص وهو الصلح بين الزوجين والثاني عام ولهذا يستدل بها على استحباب كل صلح جائز ومثله زدناهم عذابا فوق العذاب، والشيء لا يكون فوق نفسه .... وعلى الرابع: يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم مائدة من السماء وقوله: «إذا الناس ناس والزمان زمان» فإن الثاني لو ساوى الأول في مفهومه لم يكن في الإخبار عنه فائدة وإنما هذا من باب قوله: «أنا أبو النجم وشعري شعري» أي وشعري لم يتغير عن حالته، فإن ادعي أن القاعدة فيهنّ إنما هي مستمرة مع عدم القرينة فأما إن وجدت قرينة فالتعويل عليها سهل» ثم أورد ابن هشام كلمة الزمخشري المذكورة آنفا. وقال التفتازاني في التلويح: «واعلم أن المراد أن هذا هو الأصل عند الإطلاق وخلو المقام عن القرينة وإلا فقد تعاد النكرة نكرة مع عدم المغايرة كقوله تعالى: وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله، وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية، الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا، وشيبة يعني قوة الشباب ومنه باب التأكيد اللفظي، وقد تعاد النكرة معرفة مع المغايرة كقوله تعالى: وهذا كتاب أنزلناه مبارك، ثم قال أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 519 من قبلنا وقد تعاد المعرفة نكرة مع عدم المغايرة كقوله تعالى: إنما إلهكم إله واحد ومثله في الكلام كثير كقولهم العلم علم كذا ودخلت الدار فرأيت دار كذا وكذا ومنه بيت الحماسي» . وبعد أن أوردنا أقوال الأئمة في هذه المسألة نلخصها لك تلخيصا مفيدا فنقول: 1- إن الاسم إذا كرر مرتين فإن كانا نكرتين فالثاني غير الأول. 2- أو معرفتين أو الثاني فقط فهو عينه. 3- أو الأول معرفة والثاني نكرة ففيه قولان: فالأول والثاني كالعسر واليسر في قوله تعالى «فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا» والثالث نحو فيها «مصباح المصباح» والرابع كقوله: صفحنا عن بني ذهل «البيتين» . وهذه القاعدة أغلبية كما دلّت عليه كلمات الأئمة الواردة آنفا. على أن ابن السبكي جلا هذا الإشكال بعبارة وقعت علينا وقوع الظمآن على القطر وهذا نصها: «الظاهر أن هذه القاعدة غير محررة لانتقاضها بأمثلة كثيرة منها في المعرفتين: «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان» فإن الأول العمل والثاني الثواب وفي تعريف الثاني وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني» فإن المراد بالثاني عموم الظن دون الأول وفي النكرتين «يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير» فإن الثاني هو الأول» . وبعد أن كتبنا ما تقدم وكدنا نقنع بحل ابن السبكي عنّ لنا تعليق على هذه الاعتراضات وهو: الظاهر أن هذه الآيات لا تخرج عن القاعدة عند التأمّل بها فإن اللام في الإحسان فيما يبدو للجنس لا للعهد كما قال ابن السبكي وحينئذ يكون في المعنى كالنكرة بخلاف آية العسر فإن أل فيها إما لمعهود ذهني وهو ما حصل له صلّى الله عليه وسلم وللمسلمين من الشدة من الكفار أو للاستغراق كما يفيده الحديث وقد تقدم ذلك وكذا آية الظن لا نسلم فيها بأن الثاني غير الأول بل هو عين الأول قطعا إذ ليس كل ظن مذموما كيف وأحكام الشريعة ظنية وكذا آية الصلح لا مانع من أن يكون المراد بها الصلح المذكور وهو الذي بين الزوجين واستحسان الصلح في جميع الأمور الجزء: 10 ¦ الصفحة: 520 لا يكون مأخوذا من السنّة أو من الآية بطريق القياس بل لا يجوز القول بعموم الآية وإن كل صلح خير لأن ما أحلّ حراما من الصلح أو حرّم حلالا فهو ممنوع وكذا آية القتال ليس الثاني فيها عين الأول بلا شك لأن المراد بالقتال المسئول عنه هو القتال الذي وقع في سرية ابن الحضرمي سنة اثنتين من الهجرة لأنه سبب نزول الآية والمراد بالثاني جنس القتال لا ذاك القتال بعينه فتأمل هذا وخرج ما أشكل عليك. فإن قلت: فما تصنع بآية «وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله» ألا تراك قد أغفلت الكلام عليها؟ قلت: قال ابن السبكي نفسه: إن قوله إله في الآية بمعنى معبود والاسم المشتق إنما يقصد به ما تضمنه من الصفة فأنت إذا قلت: زيد ضارب عمرا وضارب بكرا لا يتخيل أن الثاني هو الأول وإن أخبر بهما عن ذات واحدة فإن المذكور بالحقيقة إنما هو الضربان لا الضاربان ولا شك في أن الضربين مختلفان، ونستنتج من هنا أن النكرتين في الآية لم يقصد منهما سوى الصفة وهي العبادة ولا شك في أن العبادتين متغايرتان فالنكرة الثانية غير الأولى باعتبار المقصود وإن وقعتا على ذات واحدة فلم تخرج الآية أيضا عن القاعدة (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) الفاء عاطفة على مقدّر يستحقه المقام ولك أن تجعلها استئنافية كأنها جواب لسؤال نشأ وهو ماذا بعد الشكر والعبادة والاجتهاد فيهما فقال فإذا فرغت أي من الصلاة وغيرها من أنواع العبادات وعن الحسن فإذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة ولكن هذا يتعارض مع كون السورة مكية والأمر بالجهاد إنما كان بعد الهجرة فلعله تفسير ابن عباس الذاهب إلى أن السورة مدنيّة، وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب وجملة فرغت في محل جر بإضافة الظرف إليها والفاء رابطة وانصب فعل أمر وفاعل مستتر والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 521 وإلى ربك متعلقان بارغب ولا تمنع الفاء من ذلك وارغب فعل أمر والجملة عطف على ما قبلها. البلاغة: في قوله تعالى: «ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك» استعارة تمثيلية المراد منها عصمته صلّى الله عليه وسلم من الوزر حيث لا وزر، فشبّه حاله وهو ينوء تحت ما يتخيله وزرا وليس بوزر بحال من آداه الحمل الثقيل وبرح به الجهد والحر اللافح فهو يمشي مجهودا مكدورا يكاد يسقط من ثقل ما ينوء بحمله فوضع الوزر كناية عن عصمته وتطهيره صلّى الله عليه وسلم من دنس الأوزار، ونقول في إجراء هذه الاستعارة شبّه حاله بحال من آده الحمل وكلله العرق وبرح به الجهد حتى إذا انحطّ عنه الحمل تنفس الصعداء وانزاحت عنه الكروب والأهوال بجامع أن كلا منهما مجهود مكروب مما يحمل يتبرم به ويتذمر منه ويربو أن ينحطّ عن كاهله ثم استعير التركيب الدال على حال المشبّه به للمشبه على سبيل الاستعارة التمثيلية والقرينة حالية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 522 (95) سورة التّين مكيّة وآياتها ثمان [سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) الإعراب: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ) الواو حرف قسم وجر والتين مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف والزيتون نسق أيضا وطور سينين نسق أيضا وقد تقدم القول فيه ونقول هنا أن الطور وهو الجبل أضيف إلى سينين وهي البقعة المباركة فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة ويجوز أن يعرف إعراب جمع المذكر السالم ويجوز أن تلزمه الياء في جميع الأحوال وتحرّك النون بحركات الإعراب ولم ينصرف سينين كما لا ينصرف سيناء لأنه جعل اسما للبقعة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 523 أو الأرض فهو علم أعجمي ولو جعل اسما للمكان أو المنزل لانصرف لأنك سمّيت به مذكرا وقرأ عمر بن الخطاب وعبيد الله والحسن وطلحة سيناء بالكسر والمد وعمر أيضا وزيد بن علي بفتحها والمدّ وقد ذكر في سورة «المؤمنون» وهذه لغات اختلفت في هذا الاسم السرياني على عادة العرب في تلاعبها بالأسماء الأعجمية، هذا وقد أقسم الله تعالى بالتين والزيتون لأنهما عجيبان من بين أصناف الأشجار المثمرة وفي الكشاف «أنه أهدي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه: كلوا فلو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس» ومرّ معاذ بن جبل بشجرة الزيتون فأخذ منها قضيبا واستاك به وقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيّب الفم ويذهب بالحفرة» وقال الجاحظ في كتاب الحيوان: «والتين والزيتون دمشق وفلسطين» والخلاف حول ذلك كثير وإن أردت المزيد فارجع إلى المطولات (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) نسق على ما قبله والبلد بدل من اسم الإشارة والأمين نعت والمراد به مكة سمّيت أمينا لأن من دخلها كان آمنا قبل الإسلام، أما سمعت قوله تعالى «أولم يروا أنّا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم» فأما في الإسلام فمن أصاب حدّا ثم أوى إلى الحرم يقام عليه الحدّ إن كان من أهله وإن لم يكن من أهله لم يشار ولم يبايع وضيّق عليه حتى يخرج من الحرم ثم يقام عليه الحدّ (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) اللام جواب القسم وقد حرف تحقيق وخلقنا فعل وفاعل والإنسان مفعول به وفي أحسن متعلقان بمحذوف حال من الإنسان وتقويم مضاف إليه، وعبارة الزمخشري في هذا الصدد طريفة جدا وهي من الإنشاء العالي لذلك اقتبسناها: «في أحسن تقويم: في أحسن تعديل لشكله وصورته وتسوية لأعضائه ثم كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 524 الخلقة الحسنة القويمة السوية أن رددناه أسفل من سفل خلقا وتركيبا يعني أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة وهم أصحاب النار أو أسفل من سفل من أهل الدركات أو ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل حيث نكسناه في خلقه فتقوّس ظهره بعد اعتداله وابيضّ شعره بعد سواده وتشنّن جلده وكان بضّا وكلّ سمعه وبصره وكانا حديدين وتغير منه كل شيء فمشيه دليف وصوته خفات وقوته ضعف وشهامته خرف» ومن العجيب أن يقول أبو حيان: «وقد أخذ الزمخشري أقوال السلف وحسنها ببلاغته وانتقاء ألفاظه» وبعد أن يورد عبارته بنصها يقول: «وهذا فيه تكثير» (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ورددناه فعل ماض وفاعل ومفعول به وأسفل سافلين حال من المفعول واختار آخرون أن يكون صفة لمكان محذوف أي مكانا أسفل سافلين فهو ظرف مكان ولا أدري لم غاب عن بال المعربين أنه مفعول ثان لرددناه لأن ردّ تنصب مفعولين قال تعالى: «لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّار حسدا» فالكاف والميم مفعول أول وكفّارا مفعول ثان وحسدا مفعول لأجله لا سيما وقد استوفت شرطها في نصب المفعولين وهو أن تكون بمعنى رجع قال: فردّ شعورهنّ السود بيضا ... وردّ شعورهنّ البيض سودا (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) إلا أداة استثناء والذين في محل نصب على الاستثناء المتصل إذا اعتبرنا المعنى الأول الذي أورده الزمخشري أو على الاستثناء المنقطع إذا اعتبرنا المعنى الثاني وعندئذ تكون إلا بمعنى لكن والذين مبتدأ خبره جملة فلهم أجر، وجملة آمنوا لا محل لها لأنها صلة الذين وعملوا الصالحات عطف على الصلة داخل في حيّزها والفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط ولهم خبر مقدّم وأجر مبتدأ مؤخر وغير ممنون نعت لأجر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 525 أي غير مقطوع (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) الفاء الفصيحة أي إن علمت هذا أيها الإنسان فما يكذبك، وما اسم استفهام إنكاري في محل رفع مبتدأ وجملة يكذبك خبر، وسيأتي سر هذا الالتفات في باب البلاغة، وبعد ظرف مبني على الضم لانقطاعه عن الإضافة لفظا لا معنى أي بعد هذه العبر والعظات وظهور هذه الدلائل الدالة على وجوب الإيمان ويجوز أن يكون الخطاب للنبي فتكون ما بمعنى من والمعنى فمن يكذبك أيها الرسول بما جئت به، والهمزة للاستفهام التقريري وليس فعل ماض ناقص والله اسمها والباء حرف جر زائد وأحكم الحاكمين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس. البلاغة: في قوله: «فما يكذبك بعد بالدين» التفات من الغيبة إلى الخطاب لما سبق من قوله لقد خلقنا الإنسان والسرّ فيه تشديد الإنكار على الإنسان بمشافهته بالخطاب كأنه قيل له: فأيّ شيء يضطرك إلى أن تكون كاذبا بعد هذه الدلائل بسبب تكذيب الجزاء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 526 (96) سورة العلق مكيّة وآياتها تسع عشرة [سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 19] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 527 اللغة: (العلق) : الدم وهو اسم جنس جمعي وأطلق المفسرون عليه الجمع إما تسمحا وهو جمع لغوي وفي المصباح: «والعلق المني فينتقل طورا بعد طور فيصير دما غليظا متجمدا ثم ينتقل طورا آخر فيصير لحما وهو المضغة» وعبارة القاموس «العلق محركة الدم عامة أو الشديد الحمرة أو الغليظ أو الجامد القطعة منه بهاء وكل ما علق والطين الذي يعلق باليد والخصومة والمحبة اللازمتان وذو علق جبل لبني أسد لهم فيه يوم على ربيعة بن مالك ودويبة في الماء تمتص الدم» إلى آخر ما جاء في هذه المادة المطوّلة. (لَنَسْفَعاً) السفع: الأخذ والقبض على الشيء وجذبه بشدة وفي المختار: «سفع بناصيته أي أخذ ومنه قوله تعالى: لنسفعا بالناصية وسفعته النار والسموم إذا لفحته لفحا يسيرا فغيرت لون البشرة وبابهما قطع» . (الزَّبانِيَةَ) : الملائكة الغلاظ الشداد واحدها زبنية بكسر أوله وسكون ثانيه وكسر ثالثه وتخفيف الياء من الزبن وهو الدفع أو زبني على النسب وأصله زباني بتشديد الواو فالتاء عوض عن الواو وفي المختار «وأحد الزبانية زبان أو زابان قال الأخفش واحدهم زباني وقال بعضهم زابي وقال بعضهم زبنية مثل عفرية» وفي القاموس: «والزبنية كهبرية متمرد الجن والإنس والشديد والشرطي والجمع زبانية أو واحدها زبّني» . الإعراب: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) اقرأ فعل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 528 أمر مبني على السكون وفاعله مستتر تقديره أنت وباسم متعلق بمحذوف حال من ضمير الفاعل أي مفتتحا، وأعربها ابن خالويه زائدة تابعا في ذلك لأبي عبيدة قال: الباء زائدة والمعنى اقرأ اسم ربك كما قال سبّح اسم ربك وأنشد: «سود المحاجر لا يقرأن بالسور» والمعنى على زيادة الباء أي لا يقرأن السور، وقد تقدم بحث زيادة الباء وعبارة أبي البقاء «قوله تعالى باسم ربك قيل الباء زائدة كقول الشاعر: «سود المحاجر لا يقرأن بالسور» وقيل دخلت لتنبّه على البداية باسمه في كل شيء كما قال تعالى بسم الله الرحمن الرحيم فعلى هذا يجوز أن يكون حالا أي مبتدئا باسم ربك. والذي نعت للرب وهو في محل جر وجملة خلق لا محل لها لأنها صلة الذي والضمير فيه يعود على الذي وخلق الإنسان بدل منه ويجوز أن يكون تأكيدا لفظيا فيكون قد أكد الصلة وحدها والإنسان مفعول به ومن علق متعلقان بخلق (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) اقرأ فعل أمر تأكيد لاقرأ الأول والواو استئنافية ويجوز أن تكون للحال وربك مبتدأ والأكرم خبره وهذا ما رأيناه وأعربها ابن خالويه نعتا فتكون جملة علّم الإنسان هي الخبر، والأول أولى، والذي خبر ثان وأعربها ابن خالويه نعتا ثانيا ولسنا نرى هذا الرأي، وجملة علّم صلة وفاعل علم مستتر يعود على الله ومفعولاه محذوفان أي علّم الإنسان الحظ بالقلم وبالقلم متعلقان بعلم والواقع أنها متعلقة بالخط (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) جملة علّم الإنسان تأكيد لعلم الأولى أو بدل أو خبر كما تقدم والإنسان مفعول به أول وما اسم موصول مفعول به ثان وجملة لم يعلم صلة ما والعائد محذوف أي لم يعلمه (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) كلا ردع وزجر لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه وإن واسمها واللام المزحلقة وجملة يطغى خبر إن ولا أدري لم تهرب المعربون من الردع وهو أوضح من كل ما قدّروه وإليه ذهب الزمخشري أما الجلال فإنه تبع الكسائي فجعلها بمعنى حقا قال الكرخي «قوله- أي الجلال- الجزء: 10 ¦ الصفحة: 529 حقا هو مذهب الكسائي ومن تبعه لأنه ليس قبله ولا بعده شيء يكون كلا ردا له كما قالوا: كلا والقمر فإنهم قالوا معناه إي والقمر ومذهب أبي حيان أنها بمعنى ألا الاستفتاحية وصوّبه ابن هشام لكسر همزة إن بعدها أي لكونه مظنة جملة كما بعد حرف التنبيه نحو ألا إنهم هم المفسدون ولو كانت بمعنى حقا لما كسرت إن بعدها لكونها مظنة مفرد، أما الكواشي فأجاز في كلا أن تكون تنبيها فيقف على ما قبلها وردعا فيقف عليها، أما ابن خالويه فقد لفّق تلفيقا عجيبا مضحكا قال: «كلا يبتدأ به هاهنا لأنه بمعنى نعم حقا وليس ردا» وهذا كلام لا مفهوم له، والحق أن كلا حرف ردع وزجر كما قال سيبويه وقال الزجّاج كلا ردع وتنبيه وذلك قولك كلا لمن قال لك شيئا تنكره نحو فلان يبغضك وشبّهه أي ارتدع عن هذا وتنبه عن الخطأ فيه قال الله تعالى بعد قوله: ربي أهانن كلا أي ليس الأمر كذلك لأنه قد يوسع في الدنيا على من لا يكرمه من الكفار وقد يضيق على الأنبياء والصالحين للاستصلاح (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) أن حرف مصدري ونصب وهي مع مدخولها في تأويل مصدر مفعول لأجله ورآه فعل ماض والفاعل هو والهاء مفعول به أول وجملة استغنى مفعول به ثان والهاء تعود على الإنسان ومعناه أن رأى نفسه، وعبارة ابن خالويه جيدة قال: فإن قيل لك: فهل يجوز أن تقول زيد ضربه والهاء لزيد؟ فقل ذلك غير جائز إنما الصواب ضرب زيد نفسه لأن الفاعل بالكلية لا يكون مفعولا بالكلية وإنما جاز ذلك في أن رآه لأنه من أفعال الشك والعلم نحو ظننتني فإذا ثنّيت هذا الحرف قلت إن الإنسانين ليطغيان أن رأياهما استغنيا وكلا إن الأناسي ليطغون أن رأوهم استغنوا وتقول للمرأة إذا خاطبتها كلا إنك لتطغين أن رأيتك استغنيت وكلا إنكما لتطغيان أن رأيتما كما استغنيتما وكلا إنكنّ لتطغين أن رأيتنّكنّ استغنيتنّ» (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) كلام مستأنف مسوق لمخاطبة الإنسان الطاغي بطريق الالتفات وإن حرف مشبه بالفعل وإلى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 530 ربك خبر إنّ المقدم والرجعى اسمها المؤخر (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم فقيل نعم فقال واللات والعزّى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته ولأعفرنّ وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته قال فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبه ويتقي بيديه فقيل له ما لك؟ قال إن بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة فقال النبي صلّى الله عليه وسلم لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوا عضوا. أرأيت: تقدم القول أنها إذا كانت بمعنى أخبرني كما هنا فإنها تتعدى إلى مفعولين ثانيهما جملة استفهامية وقد تقدم هذا غير مرة وهنا قد ذكرت ثلاث مرات وقد صرح بعد الثالثة منها بجملة استفهامية فتكون في موضع المفعول الثاني لها ومفعولها الأول محذوف وهو ضمير يعود على الذي ينهى عبدا الواقع مفعولا أول لأرأيت الأولى وأما أرأيت الأولى فمفعولها الأول الذي ومفعولها الثاني محذوف وهو جملة استفهامية كالجملة الواقعة بعد أرأيت الثالثة وأما أرأيت الثانية فلم يذكر لها مفعول لا أول ولا ثان فحذف الأول لدلالة المفعول الأول من أرأيت الأولى عليه وحذف الثاني لدلالة مفعول أرأيت الثالثة فقد حذف الثاني من أرأيت الأولى والأول من الثالثة والاثنان من الثالثة وليس ذلك من باب التنازع لأن التنازع يستدعي إضمارا والجمل لا تضمر إنما تضمر المفردات وإنما ذلك من باب الحذف للدلالة وجملة ينهى صلة لا محل لها وعبدا مفعول ينهى وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن لمجرد الظرفية متعلق بنهي (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) أرأيت الهمزة للاستفهام ورأيت فعل وفاعل ومعناه أخبرني وإن شرطية وكان فعل ماض ناقص وهو في محل جزم فعل الشرط وسيأتي الكلام على الجواب واسمها مستتر تقديره هو وعلى الهدى خبره وأو حرف عطف وأمر فعل ماض وفاعله هو عطف على كان على الهدى وبالتقوى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 531 متعلقان بأمر (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى) أرأيت: أخبرني، وإن شرطية وكذب فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وتولى عطف على كذب وسيأتي الكلام على الجواب أيضا، والهمزة للاستفهام للتقرير والتعجب ولم حرف نفي وقلب وجزم ويعلم فعل مضارع مجزوم بلم والباء حرف جر زائد وأن واسمها وجملة يرى خبرها وأن وما بعدها سدّت مسدّ مفعولي يعلم، أما جواب الشرط الذي في حيز الثانية والثالثة فمحذوف يدل عليه الجملة الاستفهامية والتقدير إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أفلم يعلم ذلك الناهي بأن الله يرى وتقديره في الثالثة إن كذب وتولى أفلم يعلم بأن الله يرى أي على تقدير الفاء. ونحا الزمخشري في إعراب هذه الآيات نحوا آخر ننقله لك لننقل بعده ردّ أبي حيان فترى كيف يشتجر الخلاف حول الإعراب وفي ذلك مصقلة للعقل ومجلاة له وملخص إعراب الزمخشري: إن أرأيت الأولى مفعولها الموصول وإن الثانية زائدة مكررة لتوكيد الأولى وإن المفعول الثاني للأولى هو جملة الشرط الذي في حيّز الثانية مع جوابه المحذوف الذي يقدّر جملة استفهامية وهي التي صرح بها في حيّز الثالثة وإن مفعول الثالثة الأول محذوف تقديره أرأيته وجملة الشرط الذي بعدها وجوابه وهو جملة الاستفهام المصرّح بها سادّة مسدّ المفعول الثاني، وقال في تقرير هذا الإعراب: «فإن قلت كيف صحّ أن يكون ألم يعلم جوابا للشرط قلت كما صحّ في قولك: إن أكرمتك أتكرمني وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه؟» . وسخر أبو حيان من هذا الإعراب وقال: «وما قرره الزمخشري هنا ليس بجار على ما قررناه فمن ذلك أنه ادّعى أن جملة الشرط في موضع المفعول الواحد والموصول هو الآخر وعندنا أن المفعول الثاني لا يكون إلا جملة استفهامية كقوله: أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى أعنده علم الغيب، أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال: لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب، أفرأيتم ما تمنون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 532 أأنتم تخلقونه، وهو كثير في القرآن فتخريج هذه الآية على ذلك القانون، ويجعل مفعول أرأيت الأولى هو الموصول وجاء بعده أرأيت وهي تطلب مفعولين وأ رأيت الثانية كذلك فمفعول أرأيت الثانية والثالثة محذوف يعود على الذي ينهى فيهما أو على عبدا في الثانية وعلى الذي ينهى في الثالثة على الاختلاف السابق في عود الضمير، والجملة الاستفهامية توالى عليها ثلاثة طوالب فنقول حذف المفعول الثاني لأرأيت وهو جملة الاستفهام الدّال عليه الاستفهام المتأخر لدلالته وحذف مفعول أرأيت الأخير لدلالة مفعول أرأيت الأولى عليه وحذفا معا لأرأيت الثانية لدلالة الأولى على مفعولها ولدلالة الآخر لأرأيت الثالثة على مفعولها الآخر، وهؤلاء الطوالب ليس على طريق التنازع لأن الجمل لا يصحّ إضمارها فإنما ذلك من باب الحذف في غير التنازع، وأما تجويز الزمخشري وقوع جملة الاستفهام جوابا للشرط بغير فاء فلا أعلم أحدا أجازه بل نصّوا على وجوب الفاء في كل ما اقتضى طلبا بوجه ما ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورة شعر» أما ابن خالويه فقد كان إعرابه مضحكا للغاية لأنه نسي أو تناسى أن هنالك مفاعيل محذوفة أو جوابا للشرط واكتفى باللفظ الظاهر وما أبعد هذا عن الإعراب لا سيما في مثل هذه الآيات (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) كلا ردع وزجر لأبي جهل واللام موطئة للقسم لأنها داخلة على أداة شرط للإيذان بأن الجواب بعدها مبني على قسم قبلها لا على الشرط ومن ثم تسمى اللام المؤذنة أو الموطئة لأنها وطأت الجواب للقسم أي مهّدته له وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وينته فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة، ولنسفعا اللام جواب القسم جريا على القاعدة المقررة من اجتماع قسم وشرط ونسفعا فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة وكتبت بالألف في المصحف على حكم الوقف والفاعل مستتر تقديره الجزء: 10 ¦ الصفحة: 533 نحن وبالناصية متعلقان بنسفعا وناصية بدل من الناصية وجاز إبدالها من المعرفة وهي نكرة لأنها وصفت والبصريون لا يشترطون في البدل المطابقة وقرىء بالرفع على تقدير هي وبالنصب على الذم وكاذبة وخاطئة نعتان، وسيأتي معنى وصفها بالكذب والخطأ في باب البلاغة (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) الفاء الفصيحة أي إن استمر في غلوائه وإن أصرّ على المعاندة والمكابرة فليدع، واللام لام الأمر ويدع فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وعلامة الجزم حذف الواو والفاعل مستتر تقديره هو، وسيأتي معنى دعوة النادي في باب البلاغة، والسين حرف استقبال وندعو فعل مضارع مرفوع، وقد أسقطت الواو من المصحف في كل واو ساكنة استقبلتها اللام الساكنة، والزبانية مفعول به وكلا تأكيد للردع والزجر لأبي جهل ولا ناهية وتطعه فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به واسجد فعل أمر واقترب عطف على واسجد. البلاغة: 1- في قوله: «ناصية كاذبة خاطئة» مجاز عقلي فقد وصف الناصية بالكذب والخطأ والحقيقة صاحبها وذلك أبلغ من أن يضاف فيقال ناصية كاذب خاطى لأنها هي المحدّث عنها. 2- وفي قوله «فليدع ناديه» مجاز مرسل والمراد أهل النادي، فالنادي لا يدعى وإنما يدعى أهله فأطلق المحل وأريد الحال فالمجاز مرسل علاقته المحلية والنادي هو المجلس الذي ينتدي فيه القوم ولا يسمى المكان ناديا حتى يكون فيه أهله، وفي المصباح: «ندا القوم ندوا من باب غزا اجتمعوا ومنه اشتق النادي وهو مجلس القوم للتحدّث» وفي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 534 المختار: «وناداه جالسه في النادي وتنادوا تجالسوا في النادي والندي على فعيل مجلس القوم ومتحدّثهم وكذا الندوة والنادي والمنتدى فإن تفرق القوم عنه فليس بندي ومنه سمّيت دار الندوة التي بناها قصيّ بمكة لأنهم كانوا يندون فيها أي يجتمعون للمشاورة» وكان أبو جهل قد قال للنبي صلّى الله عليه وسلم لما انتهره حيث نهاه عن الصلاة لقد علمت ما بها أي مكة رجل أكثر ناديا مني لأملأن عليك هذا الوادي إن شئت خيلا جردا ورجالا مردا. الفوائد: 1- زيادة الباء في مفعول علم: تطّرد زيادة الباء في مفعول عرفت ونحوه وتقلّ في مفعول ما يتعدى لاثنين ولكنها بعد علم تكاد تكون مطّردة، قال عمرو بن كلثوم: وقد علم القبائل من معد ... إذا قبب بأبطحها بنينا بأنّا المطعمون إذا قدرنا ... وأنّا المهلكون إذا ابتلينا 2- هل يتطابق البدل والمبدل منه تعريفا وتنكيرا: قال الزمخشري في المفصل: «وليس بمشروط أن يتطابق البدل والمبدل منه تعريفا وتنكيرا بل لك أن تبدل أيّ النوعين شئت من الآخر، قال الله عزّ وجلّ: «اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم» وقال: «بالناصية ناصية كاذبة خاطئة» خلا أنه لا يحسن إبدال النكرة من المعرفة إلا موصوفة كناصبة» أما بدل النكرة من النكرة فمثاله قوله تعالى: «إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا» فقوله مفازا نكرة وقد أبدل من النكرة وهو حدائق ومثله قول الشاعر: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 535 وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلّت فأبدل قوله رجل صحيحة من قوله رجلين وكلاهما نكرة ومثال بدل المعرفة من النكرة قولك مررت برجل زيد قال الله تعالى «وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله» فالثاني معرفة بالإضافة وقد أبدله من الأول وهو نكرة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 536 (97) سورة القدر مكيّة وآياتها خمس [سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) الإعراب: (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) إن واسمها وجملة أنزلناه خبرها أي نجوما متفرقة بحسب الوقائع والحاجة الماسّة إليه في مدى ثلاث وعشرين سنة وفي إضمار القرآن وإن لم يتقدم له ذكر شهادة له بالتشريف وأسنده إليه تعالى وجعله مختصّا به دون غيره ورفع مدة الوقت الذي أنزل فيه فهذه ثلاثة أوجه لتعظيم القرآن، وفي ليلة القدر متعلقان بأنزلناه، وسيأتي الكلام عليها في باب الفوائد، والواو حرف عطف وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة أدراك خبر وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وليلة القدر خبر ما والجملة المعلقة بالاستفهام سدّت مسدّ مفعول أدراك الثاني (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 537 شَهْرٍ) ليلة القدر مبتدأ وخير خبر ومن ألف شهر متعلقان بخير والجملة مستأنفة كأنها جواب لسؤال نشأ عن تفخيم ليلة القدر تقديره وما فضائلها (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) استئناف ثان مسوق للإجابة عن السؤال نفسه وتنزل فعل مضارع مرفوع أصله تتنزل والملائكة فاعل والروح نسق على الملائكة، وإنما أفرد جبريل بالذكر تنويها بفضله على حدّ قوله تعالى فيها فاكهة ونخل ورمان والنخل والرمان من الفاكهة وفيها متعلقان بتنزل ولك أن تعلقه بمحذوف حال من الملائكة أي ملتبسين وبإذن ربهم متعلقان بتنزل ومن كل أمر أي من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة متعلق بتنزل (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) سلام خبر مقدّم وهي مبتدأ مؤخر وحتى حرف غاية وجر ومطلع الفجر مجرور بحتى والجار والمجرور متعلقان بسلام وفيه إشكال وهو الفصل بين المصدر ومعموله بالمبتدأ والجواب أن الظروف والجار والمجرور يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها والأحسن كما قال الخطيب أن يتعلقا بمحذوف قدّره الخطيب يستمرون على التسليم من غروب الشمس حتى مطلع الفجر. الفوائد: قال القرطبي: ليلة القدر سلامة وخير كلها لا شرّ فيها حتى مطلع الفجر وقد شاء الله إخفاءها أن يحيي مريدها الليالي الكثيرة فتكثر عبادته ويتضاعف ثوابه وأن لا يتكل الناس عند إظهارها على إصابة الفضل فيها فيفرطوا في غيرها» وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه رواه البخاري ومسلم وقوله إيمانا واحتسابا أي نيّة وعزيمة وهو أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 538 يصومه على التصديق والرغبة في ثوابه طيبة به نفسه غير كاره له ولا مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه لكن يغتنم طول أيامه لعظم الثواب فالاحتساب من الحسب كالاعتداد من العد وإنما قيل لمن ينوي بعمله وجه الله احتسبه لأن له حينئذ أن يعتدّ بعمله فجعل في حال مباشرة الفعل كأنه معتدّ به. وقال البغوي: قوله احتسابا: أي طلبا لوجه الله تعالى وثوابه ويقال فلان يحتسب الأخبار ويتحسبها أي يتطلبها. هذا ومن أراد التوسّع فعليه بالمطولات ففيها من أخبار هذه الليلة وفضائلها ما تضيق به الصحائف والأجلاد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 539 (98) سورة البيّنة مدنيّة وآياتها ثمان [سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 540 اللغة: (مُنْفَكِّينَ) انفكاك الشيء عن الشيء أن يزايله بعد التحامه به كالعظم إذا انفكّ من مفصله والمعنى أنهم متعلقون بدينهم لا يتركونه ولا يرومون عنه انفكاكا، قال الأزهري: «ليس هو من باب ما انفك وما برح وإنما هو من باب انفكاك الشيء عن الشيء أي انفصاله عنه» . (حُنَفاءَ) مائلين إلى الخير، قال أهل اللغة وأصل الحنف في اللغة الميل، وخصّه العرف بالميل إلى الخير وسمّوا الميل إلى الشرّ إلحادا وفي القاموس: «الحنف محرّكة: الاستقامة والاعوجاج في الرجل أو أن يقدّم إحدى إبهاميّ رجليه على الأخرى أو أن يمشي على ظهر قدميه من شق الخنصر أو ميل في صدر القدم وقد حنف كفرح وكرم فهو أحنف ورجل حنفاء وكضرب مال وصخر أبو بحر الأحنف بن قيس تابعي كبير والسيوف الحنيفية تنسب له لأنه أول من أمر باتخاذها والقياس أحنفيّ والحنفاء القوس والموسى وفرس حذيفة بن بدر وماء لبني معاوية وشجرة والأمة المتلوّنة تكسل مرة وتنشط أخرى والحرباء والسلحفاة والأطوم لسمكة بحرية والحنيف كأمير الصحيح الميل إلى الإسلام الثابت عليه وكل من حجّ أو كان على دين إبراهيم صلّى الله عليه وسلم والفقير والحذاء» إلى أن يقول: «وأبو حنيفة كنية عشرين من الفقهاء أشهرهم إمام الفقهاء النعمان» وعبارة ابن خالويه جيدة وهي «حنفاء نصب على الحال مثل ظريف وظرفاء والحنيف في اللغة المستقيم فإن قيل لك: لم سمّي المعوج الرجل أحنف؟ فقل تطيّروا من الاعوجاج إلى الاستقامة كما يقال للديغ سليم وللأعمى أبو بصير الجزء: 10 ¦ الصفحة: 541 وللأسود أبو البيضاء وللمهلكة مفازة، هذا قول أكثر النحويين فأما ابن الأعرابي فزعم أن المفازة ليست مقلوبة لأن العرب تقول: فوّز الرجل إذا مات ومثله جنّص قال الشاعر: فمن للقوافي بعدها من يحوكها إذا ما ثوى كعب وفوّز جرول يريد كعب بن زهير وجرول والحطيئة والحنيف ستة أشياء: المستقيم والمعوج والمسلم والمخلص والمختون والحاج إلى بيت الله ومن عمل بسنة إبراهيم صلوات الله عليه سمّي حنيفا» . الإعراب: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) لم حرف نفي وقلب وجزم ويكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلن والذين اسمها وجملة كفروا صلة ومن أهل الكتاب والمشركين متعلق بمحذوف حال والأرجح أن معنى من هنا التبعيض كما قرره الماتريدي ومنفكين خبر يكن وحتى حرف غاية وجر تأتيهم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والهاء مفعول به والبيّنة فاعل أي الحجة الواضحة (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) رسول بدل من البيّنة بدل كل من كل على سبيل المبالغة، جعل الرسول نفس البيّنة، ومن الله صفة لرسول وجملة يتلو صفة ثانية أو حال حسب القاعدة وصحفا مفعول به ومطهرة صفة لصحفا (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) الجملة صفة ثانية لصحفا وفيها خبر مقدّم وكتب مبتدأ مؤخر وقيمة نعت لكتب أي مستقيمة ناطقة بالحق والعدل (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) الواو استئنافية وما نافية وتفرق الذين فعل ماض وفاعل وجملة أوتوا لا محل لها لأنها صلة الذين والواو في أوتوا نائب فاعل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 542 والكتاب مفعول به ثان وإلا أداة حصر ومن بعد متعلقان بتفرق وما مصدرية وجاءتهم البيّنة فعل ماض ومفعول به وفاعل مؤخر وما في حيّزها في محل جر بإضافة بعد إليها، ومن العجيب البالغ العجب أن يعرب ابن خالويه ما موصولة ولا مبرر لهذا الإعراب على الإطلاق وعبارته المضحكة «وما بمعنى الذي وهو جر ببعد» (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) الواو للحال والجملة حالية مسوقة لبيان قبح ما فعلوا واستسماجه وهو التفرق بعد مجيء البيّنة التي يجب أن يصدع بها كل من له مسكة من عقل، وما نافية وأمروا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل ومتعلقه محذوف أي بما أمرناهم به من شرائع وأحكام وإلا أداة حصر وليعبدوا اللام لام التعليل ويعبدوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والواو فاعل والجار والمجرور متعلقان بأمروا على أنه في محل نصب مفعول لأجله وإنما امتنع نصبه لاختلاف الفاعل، ولعلّ هذا الوجه خير مما اختاره الجلال وعبارته «إلا ليعبدوا الله أي أن يعبدوه فحذفت أن وزيدت اللام» وزاد الكرخي في الطين بلّة فقال: «وقوله زيدت اللام الأولى أن تكون بمعنى الباء أي إلا بأن يعبدوا الله» وهذا تكلّف وتمحّل لا يليقان بأسلوب القرآن العظيم ولعلّ هذا التوهّم تسرب إليهما عن قراءة ابن مسعود «وما أمروا إلا أن يعبدوا» وعلى هذه القراءة يكون قولهما سائفا وواردا فتكون أن وما في حيّزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض وهو الباء، والجار والمجرور متعلقان بأمروا أي بأن يعبدوا. ومخلصين حال من ضمير يعبدوا وله متعلقان بمخلصين والدين مفعول به لمخلصين لأنه اسم فاعل وحنفاء حال ثانية كما تقدم أو حال من الحال قبلها أو من الضمير المستكن فيها فهي حال متداخلة ويقيموا الصلاة عطف على ليعبدوا الله ويؤتوا الزكاة عطف أيضا والواو عاطفة أو حالية وذلك مبتدأ والإشارة إلى ما ذكر من عبادة الله وإقامة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 543 الصلاة وإيتاء الزكاة ودين خبر والقيمة مضاف إليه، وقال الفرّاء: «أضاف الدين إلى القيمة وهي نعته لاختلاف اللفظين أو هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه ودخلت الهاء للمدح والمبالغة وما في الإشارة من معنى البعد للإشعار بعلو رتبته وبعد منزلته» وعبارة ابن خالويه جيدة وهي: «فإن قيل لك: الدين هو القيمة فلم لم يقل وذلك الدين القيمة؟ فقل: العرب تضيف الشيء إلى نعته نحو قولهم صلاة الظهر وحبّ الحصيد قال الشاعر: أتمدح فقعسا وتذمّ عبسا ... ألا لله أمك من هجين ولو أقوت عليك ديار عبس ... عرفت الذلّ عرفان اليقين فأضاف العرفان إلى اليقين وهو أراد عرفانا يقينا وقال آخرون وذلك دين الملّة القيمة وذلك دين الحنيفية القيمة فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه كما قال الله عزّ وجلّ: واسأل القرية التي كنّا فيها أي اسأل أهلها» (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان مقر الأشقياء وجزاء السعداء، وإن واسمها وجملة كفروا صلة لا محل لها ومن أهل الكتاب والمشركين حال وفي نار جهنم خبر إن وخالدين حال مقدّرة من الضمير المستكن في الخبر وفيها متعلقان بخالدين وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ ثان أو ضمير فصل وشرّ البرية خبر هم والجملة خبر إن أو خبر أولئك وقرىء البرئية في الموضعين فقيل الهمز هو الأصل من برأ الله الخلق أي ابتدعه واخترعه فبرئية فعيلة بمعنى مفعوله وقيل البرية بلا همز مشتقة من البرى وهو التراب لأنهم خلقوا منه، قال المعرّي: ولرب أجساد جديرات البرى ... بالصون صارت في طلاء جدار الجزء: 10 ¦ الصفحة: 544 وقيل البرية مخفّفة من المهموز، وعبارة ابن خالويه: «البرية جر بالإضافة والأصل البرئية فتركوا الهمزة تخفيفا وهو من برأ الله الخلق والله البارئ المصور، حدّثنا إبراهيم بن عرفة قال حدّثنا أحمد بن محمد بن عيسى قال: حدّثنا محمد بن كثير عن سفيان عن المختار بن فلفل عن أنس قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وآله فقال له: يا خير البرية فقال: ذلك إبراهيم خليل الرحمن وإنما قاله تواضعا صلّى الله عليه وسلم» (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) الجملة مماثلة للأولى في إعرابها تماما، ولابن خالويه كلام نافع في البرية ننقله فيما يلي: «البرية جر بالإضافة قال العجير لنافع بن علقمة: يا نافعا يا أكرم البريّة ... والله لا أكذبك العشيّه إنّا لقينا سنة قسيّه ... ثم مطرنا مطرة رويّه فنبت البقل ولا رعيّه ... فانظر بنا القرابة العليّه والعرب مما ولدت صفيّه فأمر له بألف شاة، وقال آخرون من ترك الهمزة من البرية أخذه من البرى وهو التراب» . أنشدنا ابن مجاهد: «بغيك من سار إلى قومك البرى» وكلام العرب ترك الهمز قال الشاعر: امرر على جدث الحسين فقل لأعظمه الزكيّة قبر تضمن طيّبا ... آباؤه خير البريّة آباؤه أهل الخلا ... فة والرياسة والعطية هذا ما أورده ابن خالويه وفيه مشكل لا بدّ من الإلماع إليه وهو قول العجير لنافع بن علقمة يا نافعا فقد نصب المنادى وهو مفرد علم ونوّنه وحقّه البناء على الضم ولم نجد ما يبرره، فقد ذكر النحاة أنه إذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 545 كان المنادى مفردا علما موصوفا بابن ولا فاصل بينهما والابن مضاف إلى علم جاز في المنادى وجهان ضمّه للبناء ونصبه نحويا عمرو بن هند ويا عمرو بن هند والفتح أولى أما ضمّه فعلى القاعدة لأنه مفرد علم وأما نصبه فعلى اعتبار كلمة ابن زائدة فيكون عمرو مضافا وهند مضافا إليه وابن الشخص يضاف إليه لمكان المناسبة بينهما والوصف بابنة كالوصف بابن نحو يا هند بنة خالد ويا هند بنة خالد أما الوصف بالبنت فلا يغيّر بناء المفرد العلم فلا يجوز معها إلا البناء على الضم نحو يا هند بنت خالد وعلى كل حال، فبيت العجير ليس من هذا الباب ولا يجدي معه القول أنه موصوف بقوله أكرم البرية على تقدير زيادة يا لأن الوصف ليس كلمة ابن وابنة وهبه نوّنه للضرورة فهلّا أبقاه مضموما كقول الأحوص: سلام الله يا مطر عليها ... وليس عليك يا مطر السلام وقد اهتم النحاة بهذا البيت فأطلقوا على التنوين فيه تنوين الضرورة وليس بذاك، وارجع إن شئت إلى كتبهم. (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) جزاؤهم مبتدأ وعند ربهم ظرف متعلق بمحذوف حال من الضمير في جزاؤهم وجنات عدن خبر وجملة تجري من تحتها الأنهار نعت لجنات وخالدين حال من عامل محذوف تقديره دخولها، ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في جزاؤهم لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي وفيها متعلقان بخالدين وأبدا ظرف زمان لاستغراق المعنى منصوب بخالدين أيضا وجملة رضي الله عنهم ورضوا عنه يجوز أن تكون دعائية لا محل لها ويجوز أن تكون خبرا ثانيا وذلك مبتدأ ولمن خبره وجملة خشي ربه صلة لا محل لها أيضا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 546 الفوائد: لعلّ من المفيد أن نشير هنا إلى معنى رضا العبد عن الله وقد أجملها الراغب فقال: «رضا العبد عن الله أن لا يكره ما يجري به قضاؤه ورضا الله عن العبد هو أن يراه مؤتمرا بأمره ومنتهيا عن نهيه» أما الجنيد فقال: «الرضا يكون على قدر قوة العلم والرسوخ في المعرفة، والرضا حال يصحب العبد في الدنيا والآخرة وليس محلّه محلّ الخوف والرجاء والصبر والإشفاق وسائر الأحوال التي تزول عن العبد في الآخرة بل العبد يتنعم في الجنة بالرضا ويسأل الله تعالى حتى يقول لهم: برضائي أحلّكم داري أي برضائي عنكم» وقال محمد بن الفضل: «الروح والراحة في الرضا واليقين والرضا باب الله الأعظم ومحل استرواح العابدين» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 547 (99) سورة الزّلزلة مدنيّة وآياتها ثمان [سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) الإعراب: (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط متعلق بتحدث وهو الجواب وجملة زلزلت في محل جر بإضافة الظرف إليها وزلزلت فعل ماض مبني للمجهول والأرض نائب فاعل وزلزالها مفعول مطلق وهو مصدر مضاف لفاعله والمعنى زلزالها الذي تستحقه ويقتضيه جرمها وعظمتها، وقيل إذا لمجرد الظرفية والعامل فيها محذوف أي يحشرون وقيل اذكر فهي مفعول به وقراءة العامة بكسر الزاي وقرىء بفتحها فقيل هما مصدران الجزء: 10 ¦ الصفحة: 548 بمعنى واحد وقيل المصدر مكسور والاسم مفتوح قال الزمخشري: «قرىء بكسر الزاي وفتحها فالمكسور مصدر والمفتوح اسم وليس في الأبنية فعلال بالفتح إلا في المضاعف» وهذا في الغالب وإلا فقد ورد ناقة خزعال قال في القاموس «خزعل الضبع عرج وخمع والماشي نفض رجليه وناقة بها خزعال: ظلع وليس فعلال من غير المضاعف سواه وقسطال وخرطال» وفيه أيضا «وزلزله زلزلة وزلزالا مثلثة حركه والزلازل البلايا» وقال ابن عرفة: الزلزلة والتلتلة واحد والزلازل والتلاتل وأنشد للراعي: فأبوك سيدها وأنت أشدّها ... زمن الزلازل في التلاتل جولا (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) نسق على ما تقدم، وأخرجت الأرض فعل ماض وفاعل وأثقالها مفعول به، ووضع الظاهر موضع المضمر لزيادة التقرير وتفخيم هول الساعة، وأثقالها مفعول به وهو جمع ثقل بالكسر كحمل وأحمال كما في المختار وعبارة الزمخشري «جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالا لها» (وَقالَ الْإِنْسانُ: ما لَها) الواو عاطفة وقال الإنسان فعل وفاعل وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ ولها خبر، وفي الإنسان قولان: أحدهما أنه اسم جنس يعمّ المؤمن والكافر أي يقول الجميع ذلك لما يبهرهم من الأمر الفظيع كما يقولون: من بعثنا من مرقدنا والثاني أنه الكافر خاصة لأنه كان لا يؤمن بالبعث فأما المؤمن فيقول: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) يومئذ ظرف أضيف إلى مثله ومحله النصب على أنه بدل من إذا والعامل فيه هو العامل في المبدل منه والتنوين عوض عن جملة أي يوم إذ تزلزل الأرض زلزالها وتخرج الأرض أثقالها ويقول الإنسان ما لها فحذفت هذه الجمل الثلاث وناب منابها التنوين فاجتمع ساكنان وهما الذال والتنوين فكسرت الذال لالتقاء الساكنين وليست هذه الكسرة في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 549 الذال بكسرة إعراب وإن كانت إذ في موضع جر بإضافة ما قبلها إليها وإنما الكسرة فيها لالتقاء الساكنين وهذا التنوين يسمى تنوين العوض. وتحدث فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هي أي الأرض ومفعول تحدث الأول محذوف أي الخلق (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) الباء حرف جر وأن وما في حيّزها في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان بتحدث والمعنى تحدث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها وأمره إياها بالتحديث وأن واسمها وجملة أوحى خبرها ولها متعلقان بأوحى واللام بمعنى إلى وإنما أوثرت على إلى لمراعاة الفواصل وما يتعدى بإلى يجوز أن يتعدى باللام ولا عكس (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) يومئذ ظرف أضيف إلى مثله بدل من يومئذ قبله أو متعلق بيصدر أو هو مفعول لأذكر مقدرا ويصدر الناس فعل مضارع وفاعل وأشتاتا حال من الناس جمع شت أي متفرقين يقال أمر شت وشتات متشتت ومتفرق وهو وصف بالمصدر ويقال جاءوا أشتاتا وجاءوا شتات شتات أي متفرقين والنصب على الحالية، وقال عدي بن زيد: قد هراق الماء في أجوافها ... وتطايرن بأشتات شقق وليروا اللام للتعليل ويروا فعل مضارع مبني للمجهول منصوب بأن مضمرة بعد اللام والواو نائب فاعل وأعمالهم مفعول به ثان والرؤية بصرية ولذلك عدّيت إلى اثنين لأن أرى يتعدى إلى ثلاث ولام التعليل ومدخولها متعلقان بيصدر (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) الفاء تفريعية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويعمل فعل الشرط وفاعله هو يعود على من ومثقال ذرة مفعول به وخيرا تمييز أو بدل من مثقال ويره جواب الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والهاء مفعول ير وفعل الشرط وجوابه خبر من والجملة الثانية عطف على الأولى وإعرابها مماثل لإعرابها، وفي ابن خالويه: «وقدم جدّ الفرزدق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 550 على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أسمعني شيئا مما أنزل الله عليك فقرأ عليه إذا زلزلت فلما انتهى إلى قوله فمن يعمل مثقال ذرة إلخ قال: حسبي يا رسول الله، وحدّثني أبو عبد الله عن أبي العيناء عن الأصمعي قال: قرأ أعرابي فمن يعمل مثقال ذرة شرّا يره فقدّم وأخّر فقلت له: قدّمت وأخّرت فقال: خذا جنب هرشى أو قفاها فإنه ... كلا جانبي هرشى لهنّ طريق» وروى هذه النادرة الزمخشري في كشافه أيضا وأضاف: «والذرة: النملة الصغيرة وقيل الذر ما يرى في شعاع الشمس من الهباء» وهرشى كسكرى ثنية في طريق مكة عند الجحفة. أي اسلكا أمام تلك الثنية أو خلفها فإنه أي الحال والشأن كلّ من جانبيها طريق للإبل التي تطلبانها، وتكرير لفظ هرشى لتقريرها في ذهن السامع خوف غفلته عنها والمقام كان مقام هداية فحسن فيه ذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 551 (100) سورة العاديات مكيّة وآياتها إحدى عشرة [سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) اللغة: (الْعادِياتِ) الخيل تعدو في الغزو بسرعة والياء من الواو لكسر ما قبلها. (ضَبْحاً) هو صوت أجوافها وفي المختار: «ضبحت الخيل من باب قطع والضبح صوت أنفاسها إذا عدت» وفي القاموس: «ضبحت الخيل ضبحا وضباحا أسمعت من أفواهها صوتا ليس بصهيل ولا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 552 حمحمة أو عدت دون التقريب» وقال الفراء: «الضبح صوت الخيل إذا عدت قال ابن عباس: ليس شيء من الدواب يضبح غير الفرس والكلب والثعلب وقيل كانت تكعم لئلا تصهل فيعلم العدو بهم فكانت تتنفس في هذه الحالة بقوة وإنما تضبح هذه الحيوانات إذا تغيرت حالها من فزع أو تعب» وفي القاموس: «كعمت البصير كمنع فهو مكعوم وكعيم: شددت فاه لئلا يعضّ أو يأكل وما كعم به يقال له كعام ككتاب» وقال الزمخشري: «أقسم بخيل الغزاة تعدو فتضبح والضبح صوت أنفاسها إذا عدون، وعن ابن عباس أنه حكاه فقال: أح أح، قال عنترة: والخيل تكدح حين تضب ... ح في حياض الموت ضبحا» والكدح الجدّ في العدو، وشبّه عنترة الموت بالسيل على طريق الاستعارة المكنية والحياض تخييل ذلك. (فَالْمُورِياتِ) الخيل توري النار بسنابكها أي تقدح كما توري الزندة وهي نار الحباحب والمصدر أورى يوري إراء فهو مور قال النابغة: تقد السلوقي المضاعف نسجه ... وتوقد بالصفاح نار الحباحب والحباحب كما في الصحاح: اسم رجل بخيل كان لا يوقد إلا نارا ضعيفة مخافة الضيفان فضربوا به المثل حتى قالوا نار الحباحب لما تقدحه الخيل بحوافرها. وفي المصباح: «ورى الزند يرى من باب وعد وفي لغة وري يري بكسرهما وأورى بالألف وذلك إذا أخرج ناره» وفي المختار: «وأوراه غيره» فاستفيد مما في المصباح والمختار أنه يستعمل ثلاثيا لازما ورباعيا لازما ومتعديا وما في الآية من قبيل المتعدي الرباعي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 553 (قَدْحاً) مصدر قدح يقال: قدحت الحجر بالحجر أي صككته به وأصل القدح الاستخراج ومنه قدحت العين إذا أخرجت منها الماء الفاسد واقتدحت الزند واقتدحت المرق غرفته والمقدحة بكسر الميم ما تقدح به النار والقداحة والقداح الحجر الذي يوري النار. (فَالْمُغِيراتِ) الخيل تغير على العدو وفي المصباح: «وأغار الفرس إغارة والاسم الغارة مثل أطاع إطاعة والاسم الطاعة إذا أسرع في العدو وأغار القوم إغارة أسرعوا في السير» وفي القاموس: «وأغار على القوم غارة وإغارة دفع عليهم الخيل وأغار الفرس اشتد عدوه في الغارة وغيرها» قال: أغار على العدو بكل طرف ... وسلهبة تجول بلا حزام (فَأَثَرْنَ) هيجن يقال: ثار يثور ثورا وثورانا وثؤور أهاج ومنه ثارت الفتنة بينهم وثار الغبار أو الدخان ارتفع وثار الجراد ظهر وثارت نفسه جشأت وثار إليه. وبه: وثب عليه. (نَقْعاً) غبارا والنقع أيضا أن يروى الإنسان من شرب الماء يقال نقعت غلّي بشربة ماء، وقال بشار: كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (فَوَسَطْنَ) توسطن وفي المصباح: «يقال: وسطت القوم والمكان أسط وسطا من باب وعد إذا توسطت بين ذلك والفاعل واسط وبه سمي البلد المشهور بالعراق لأنه توسط الإقليم» وفي المختار: تقول: جلست وسط القوم بالتسكين لأنه ظرف وجلست وسط الدار بالتحريك لأنه اسم لما يكتنفه غيره من جهاته وكل موضع صلح فيه «بين» فهو وسط بالسكون وإن لم يصلح فيه «بين» فهو وسط بالتحريك وربما سكن وليس بالوجه» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 554 وعبارة القاموس: «ووسطهم كوعد وسطا وسطة جلس وسطهم كتوسطهم وهو وسيط فيهم أي أوسطهم نسبا وأرفعهم محلا والوسيط بين المتخاصمين وكصبور بيت من الشّعر أو هو أصغرها والناقة تملأ الإناء والتي تحمل على رؤوسها وظهورها لا تعقل ولا تقيد والتي تجر أربعين يوما بعد السنة ووسطان بلد للأكراد ووسط محركة جبل ودارة واسط موضع ووسط محركة: ما بين طرفيه كأوسطه فإذا سكنت كانت ظرفا أو هما فيما هو مصمت كالحلقة فإذا كانت أجزاؤه متباينة فبالإسكان فقط أو كل موضع صلح فيه بين فهو بالتسكين وإلا فهو بالتحريك» . (لَكَنُودٌ) الكنود: الكفور وكند النعمة كنودا ومنه سمي كندة لأنه كند أباه ففارقه، وعن الكلبي: الكنود بلسان كندة: العاصي وبلسان بني مالك: البخيل وبلسان مضر وربيعة: الكفور وفي المختار: «كند: كفر النعمة وبابه دخل فهو كنود وامرأة كنود أيضا» وروى أبو أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الكنود: الذي يأكل وحده ويمنع رفده أي عطاءه ويضرب عبده» وعبارة ابن خالويه: الكنود: الكفور قال الحسن في قوله عزّ وجلّ: إن الإنسان لربه لكنود قال: يذكر المصائب وينسى النعم، وقال النمر بن تولب: كنود لا تمنّ ولا تغادي ... إذا علقت حبائلها برهن لها ما تشتهي عسل مصفّى ... إذا شاءت وحوّارى بسمن (بُعْثِرَ) تقدم شرحها كثيرا والبعثرة والبحثرة بالحاء استخراج الشيء واستكشافه. الإعراب: (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً فَالْمُورِياتِ قَدْحاً فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) الواو حرف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 555 قسم وجر والعاديات مجرور بواو القسم والجار المجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف وضبحا مفعول مطلق لفعل محذوف أي يضبحن ضبحا وهذا الفعل المقدّر حال من العاديات ويجوز أن تعرب حالا أي ضابحات وقال الخطيب «وانتصاب ضبحا على تقدير فعل أي يضبحن ضبحا أو بالعاديات كأنه قيل والضابحات ضبحا لأن الضبح لا يكون إلا مع العدو أو على الحال أي ضابحات، والفاء عاطفة والموريات عطف على العاديات وقدحا فيه الأوجه الثلاثة التي في ضبحا، قال الزمخشري «وانتصب قدحا بما انتصب به ضبحا» والفاء عاطفة والمغيرات نسق أيضا على العاديات وضبحا نصب على الظرفية أي التي تغير في وقت الصبح وهو متعلق بالمغيرات قال أبو حيان وأجاد: «وفي هذا دليل على أن هذه الأوصاف لذات واحدة لعطفها بالفاء التي تقتضي التعقيب والظاهر أنها الخيل التي يجاهد عليها العدو من الكفار ولا يستدل على أنها الإبل بوقعة بدر وإن لم يكن فيها إلا فرسان اثنان لأنه لم يذكر أن سبب نزول هذه السورة هو وقعة بدر ثم بعد ذلك لا يكاد يوجد أن الإبل جوهد عليها في سبيل الله بل المعلوم أنه لا يجاهد في سبيل الله تعالى إلا على الخيل في شرق البلاد وغربها» قال هذا في معرض ردّه على من فسّر العاديات بالإبل (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) الفاء حرف عطف وأثرن فعل ماض مبني على السكون والنون فاعل والعطف على فعل ومنع اسم الفاعل موضعه لأن المعنى واللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن، وبه متعلقان بأثرن ونقعا مفعول به والضمير في به يعود على الوادي وإن لم يتقدم له ذكر وهو مكان العدو وقيل يعود على الصبح أي فأثرن به في وقت الصبح، قال أبو حيان: «وهذا أحسن من الأول لأنه مذكور بالصريح» وعلى كلّ من التفسيرين فالباء من به بمعنى في وكل ما يتعدى بفي يتعدى بالباء ولا عكس. والفاء عاطفة ووسطن فعل ماض مبني على السكون ونون النسوة فاعل وبه متعلقان بوسطن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 556 والضمير يعود على الصبح كما تقدم أو على النقع فالباء للتعدية وعلى الأول للظرفية وقيل إن الباء حالية أي فتوسطن ملتبسات بالغبار فتكون متعلقة بمحذوف على أنه حال، ونقل أبو البقاء وجها غريبا لم أجد له مبررا وهو أنها زائدة وجمعا مفعول أثرن وأغرب أبو البقاء أيضا فجعلها حالا لأنه جعل الباء زائدة في المفعول به وليس بذاك، وأسف ابن خالويه فأعرب جمعا ظرفا ولست أدري ولا المنجّم يدري كيف استقام له (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) الجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب القسم وإن حرف مشبّه بالفعل والإنسان اسمها ولربه متعلقان بكنود واللام المزحلقة وكنود خبر إن والألف واللام في الإنسان للجنس وقيل للكافر والأول أولى لأن طبع الإنسان مجبول على ذلك يهيب به إلى الشر إلا من عصمه الله (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) عطف على الجملة السابقة وهو المقسم عليه الثاني وإن واسمها وعلى ذلك متعلقان بشديد واللام المزحلقة وشديد خبر إن أي يشهد على نفسه بصنعه والشهادة بالقوة التي تبد في آثار أعماله الواضحة وشواهدها الفاضحة، وأجاز الزمخشري أن يعود الضمير على الله فقال: «وقيل وإن الله على كنوده لشاهد على سبيل الوعيد» (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) منسوق على ما تقدم وهو المقسم عليه الثالث وإن واسمها ولحب الخير متعلقان بشديد واللام للتقوية والمعنى إنه لقوي مطيق لحب الخير، يقال هو شديد لهذا الأمر أي مطيق له وقيل اللام للتعليل أي وأنه لأجل حب المال لشديد واللام المزحلقة وشديد خبرها وأراد بالخير المال والشديد البخيل الممسك يقال: فلان شديد ومتشدّد قال طرفة: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدّد وعبارة ابن خالويه: «والخير المال هاهنا كما قال تعالى: إن ترك خيرا أي مالا والخير الخيل من قوله تعالى: إني أحببت حبّ الخير عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 557 ذكر ربي يعني الخيل والخير الخمر تقول العرب ما عنده خل ولا خمر أي لا شر ولا خير ويجمع الخير خيورا والشر شرورا» قلت: لم أر في ما لدي من المعاجم هذا المعنى للخير أي الخمر وما كنت لأسجّل هذه الملاحظة لأن ابن خالويه من الأئمة المشهود لهم بالحفظ ولكني سجلت ملاحظتي تعليقا على إيراده المثل فالسياق الذي أورده فيه يدل على أن الخير قد يراد به الخمر ولكن المثل لم يرد ذلك قطعا وإنما جعل الشر خلا والخير خمرا على سبيل التشبيه فقولهم في المثل ما عنده خل ولا خمر يريدون به ما عنده خير ولا شر وقولهم: ما أنت بخل ولا خمر المراد به ما أشار إليه الميداني وغيره من أنه كان بعض العرب يجعلون الخير خمرا للذتها والخل شرا لحموضته ولأنه لا يقدر الإنسان على شربه (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء للعطف على مقدّر يقتضيه المقام أي أيفعل ما يفعل من المقابح فلا يعلم، ولا نافية ويعلم فعل مضارع مرفوع وإذا ظرف لمجرد الظرفية، قال زاده: «لا يجوز أن يكون ظرفا ليعلم لأن الإنسان لا يراد منه العلم في ذلك الوقت وإنما يراد منه ذلك وهو في الدنيا، ولا يجوز أن يكون ظرفا لبعثر لأن المضاف إليه لا يعمل في المضاف ولا لقوله خبير لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها فتعين أن يكون العامل فيه ما دلّ عليه قوله: إن ربهم بهم يومئذ لخبير، أي أفلا يعلم الإنسان في الدنيا أنه تعالى يجازيه إذا بعثر ومعنى علم الله تعالى بهم يوم القيامة مجازاته لهم» وجملة بعثر في محل جر بإضافة الظرف إليها وما موصول نائب فاعل بعثر وفي القبور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة ما (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) منسوق على بعثر ما في القبور وحصل فعل ماض مبني للمجهول أي جمع في الصحف وأظهر مفصلا مجموعا وقيل ميّز بين خيره وشره وسمينه وغثّه، قال زاده: «وخصّ أعمال القلوب بالذكر وترك ذكر أعمال الجوارح لأنها تابعة لأعمال القلوب فإنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 558 لولا تحقق البواعث والإرادات في القلوب لما حصلت أفعال الجوارح» وهذا كلام جيد فتدبره (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) الجملة تعليل لعامل إذا المحذوف وهو مفعول يعلم أي أفلا يعلم أنّا نجازيه وقت ما ذكر ثم علّل ذلك بقوله إن ربهم إلخ وإن واسمها وبهم متعلقان بخبير ويومئذ ظرف متعلق بخبير أيضا واللام المزحلقة وخبير خبر إن. البلاغة: 1- في المخالفة بين المعطوف والمعطوف عليه بقوله «فأثرن به نقعا» إذ عطف الفعل على الاسم الذي هو العاديات وما بعده لأنها أسماء فاعلين تعطي معنى الفعل سر بديع، وهو تصوير هذه الأفعال في النفس وتجسيدها أمام العين، فإن التصوير يحصل بإيراد الفعل بعد الاسم لما بينهما من التخالف وهو أبلغ من التصوير والتجسيد بالأسماء المتناسقة وكذلك التصوير بالمضارع بعد الماضي وقد تقدمت له شواهد أقربها قول عمرو بن معد يكرب: بأني قد لقيت الغول تهوي ... بسهب كالصحيفة صحصحان فأضربها بلا دهش فخرت ... صريعا لليدين وللجران 2- وفي قوله «فالموريات قدحا» استعارة في الخيل تشعل الحرب فهي استعارة تصريحية شبّه الحرب بالنار المشتعلة وحذف المشبه وأبقى المشبه به قال تعالى: كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله، ويقال حمى الوطيس إذا اشتدت الحرب. 3- وفي قوله «إن ربهم بهم يومئذ لخبير» تجنيس التحريف وبعضهم يسمّيه «الجناس المحرّف» وهو الذي يكون الضبط فيه فارقا بين الكلمتين أو بعضهما، وهو أيضا ما اتفق ركناه في أعداد الحروف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 559 واختلفا في الحركات سواء كانا من اسمين أو فعلين أو اسم وفعل أو من غير ذلك والغاية فيه قوله تعالى: «ولقد أرسلنا فيهم منذرين، فانظر كيف كان عاقبة المنذرين» ولا يقال إن اللفظين متّحدان في المعنى فلا يكون بينهما تجانس لأنّا نقول المراد بالأول اسم الفاعل وبالثاني اسم المفعول فالاختلاف ظاهر ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم: «اللهمّ كما حسنت خلقي فحسّن خلقي» ومثله قولهم جبة البرد جنة البرد ومنه قولهم: رطب الرطب ضرب من الضرب، ومن الشعر قول أبي تمام: هنّ الحمام فإن كسرت عيافة ... من خائهنّ فإنهنّ حمام ومثله قول المعرّي: والحسن يظهر في شيئين رونقه ... بيت من الشعر أو بيت من الشعر وله أيضا: لغيري زكاة من جمال فإن تكن ... زكاة جمال فاذكري ابن سبيل 4- في قوله «وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد» الجناس اللاحق وهو الذي أبدل أحد ركنيه حرف واحد بغيره من غير مخرجه سواء كان الإبدال في الأول أو الوسط أو الآخر وإن كان ما أبدل منه من مخرجه سمي مضارعا، فمثال الإبدال من الأول قوله تعالى: «ويل لكل همزة لمزة» والآية التي نحن بصددها مثال الإبدال من الوسط، ومثال الإبدال من الآخر قوله تعالى: «وإذا جاءهم أمر من الأمن» ومن الأحاديث على هذا النمط أيضا من الأول قوله عليه السلام: «الحمد لله الذي حسّن خلقي وزان منّي ما شان من غيري» ومن الثاني حديث الطبراني «لولا رجال ركّع وصبيان رضّع وبهائم رتّع» ومن الثالث حديث الطبراني أيضا «لن تفنى أمتي حتى يظهر فيهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 560 التمايز والتمايل» وحديث الديلمي أيضا «أحب المؤمنين إلى الله من نصّب نفسه في طاعة الله ونصح لأمة محمد» ومن الأمثلة الشعرية على هذا الترتيب المذكور أيضا قول أبي فراس: إن الغني هو الغني بنفسه ... ولو أنه عاري المناكب حافي ما كل ما فوق البسيطة كافيا ... وإذا قنعت فكل شيء كافي ومن الثاني قول البحتري: وقعودي عن التقلب والأر ... ض لمثلي رحيبة الأكناف ليس عن ثروة بلغت مداها ... غير أنّي امرؤ كفاني كفافي ومن الثالث قول بعضهم: شوقي لذاك المحيا الزاهر الزاهي ... شوق شديد وجسمي الواهن الواهي أسهرت طرفي وولهت الفؤاد هوى ... فالقلب والطرف بين الساهر الساهي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 561 (101) سورة القارعة مكيّة وآياتها إحدى عشرة [سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11) اللغة: (الْقارِعَةُ) القيامة التي تقرع القلوب بأهوالها وفي المختار: «وقرع من باب قطع والقارعة الشديدة من شدائد الدهر وهي الداهية» وفي المصباح: «قرعت الباب قرعا بمعنى طرقته ونقرت عليه» . (الفراش) في القاموس: «والفراشة التي تهافت في السراج والجمع فراش ومن القفل ما ينشب فيه وكل عظم رقيق والماء القليل والرجل الخفيف وقرية بين بغداد والحلّة وموضع بالبادية وعلم ودرب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 562 فراشة محله ببغداد والفراش كسحاب: ما يبس بعد الماء من الطين على الأرض ومن النبيذ الحبب الذي يبقى عليه وعرقان أخضران تحت اللسان والحديدتان يربط بهما العذران في اللجام وبالكسر ما يفرش والجمع فرش وزوجة الرجل قيل ومنه وفرش مرفوعة وعش الطائر وموقع اللسان في قعر الفم» وقد خلط صاحب المنجد فمزج الفراشة والفراش في مادة واحدة وجعل من معاني الفراش الرجل الخفيف وإنما هو فراشة، وسيأتي المزيد من معنى هذا التشبيه في باب البلاغة. (الْمَبْثُوثِ) المتفرق المنتشر يقال قد بسط فلان خيره وبثّه وبقّه إذا وسعه قال: وبسط الخير لنا وبقّه ... فالناس طرا يأكلون رزقه (العهن) الصوف الأحمر واحدها عهنه. (الْمَنْفُوشِ) اسم مفعول من النفش وهو- كما في القاموس- تشعيث الشيء بأصابعك حتى ينتشر كالتنفيش، والنفش بالتحريك الصوف، وعبارة ابن خالويه: «يقال: نفشت الصوف والقطن وسبّخته إذا نفشته وخففته كما يفعل النادف، ويقال: لقطع القطن وما يتساقط عند الندف السبيخة وجمعها سبائخ ويقال: سبخ الله عنك الحمّى أي خففها وسلها عنك ومن ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى عائشة تدعو على سارق سرقها فقال: لا تسبّخي عنه بدعائك عليه» . الإعراب: (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) تقدم إعرابها في الحاقة ما الحاقة (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) تقدم إعرابها في ما أدراك ما الحاقة، فجدد بها عهدا (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) الظرف نصب بمضمر دلّت عليه القارعة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 563 أي تقرع القلوب بأهوالها يوم القيامة، ولا يجوز أن يكون معلقا بالقارعة الأول للفصل بينهما بالخبر ولا بالثاني والثالث لعدم التئام الظرف معهما من حيث المعنى وجملة يكون في محل جر بإضافة الظرف إليها والناس اسم يكون وكالفراش خبرها والمبثوث نعت للفراش ويجوز أن تكون يكون تامة فيكون الناس فاعلا وكالفراش حال من فاعل يكون التامة أي يوجدون ويحشرون حال كونهم كالفراش (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) عطف على الآية السابقة مماثلة لها في إعرابها (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) الفاء تفريعية وأما حرف شرط وتفصيل ومن اسم موصول مبتدأ وجملة ثقلت موازينه صلة لمن لا محل لها والفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط وهو مبتدأ ثان وفي عيشة خبره وراضية صفة والمبتدأ الثاني وخبره خبر الأول وهو من، وسيأتي معنى راضية في باب البلاغة (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) عطف على الجملة السابقة وأمه مبتدأ وهاوية خبر أمه والجملة خبر من (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) الواو عاطفة وما اسم استفهام مبتدأ وجملة أدراك خبر والكاف مفعول به أول وما اسم استفهام مبتدأ وهي خبر والهاء للسكت وجملة ما هيه المعلقة بالاستفهام سدّت مسدّ مفعول أدراك الثاني. والهاوية اسم من أسماء جهنم وهي المهواة التي لا يدرك قعرها ولا يسبر غورها، وقال قتادة: هي كلمة عربية كان الرجل إذا وقع في أمر شديد يقال هوت أمه وقيل أراد أم رأسه يعني أنهم يهوون في النار على رؤوسهم وعبارة الزمخشري: «فأمه هاوية، من قولهم إذا دعوا على الرجل بالهلكة هوت أمه لأنه إذا هوى أي سقط وهلك فقد هوت أمه ثكلا وحزنا قال: هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا ... وماذا يردّ الليل حين يئوب» والبيت لكعب في مرثية أخيه، وهوت أمه دعاء لا يراد به الوقوع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 564 بل التعجب وما اسم استفهام مبتدأ وما بعده خبر والمعنى أي شيء يبعثه الصبح منه وأي شيء يردّه الليل ولا بدّ من تقدير منه التجريدية يعني أنه كان يغدو في طلب الغارة ويرجع في الليل ظافرا وما في الموضعين من الاستفهام معناه التعجب والاستعظام وإسناد الفعل للصبح والليل مجاز (نارٌ حامِيَةٌ) نار خبر لمبتدأ محذوف أي هي وحامية نعت. هذا ويكثر حذف المبتدأ في جواب الاستفهام وبعد فاء الجواب وبعد القول. البلاغة: 1- في قوله «القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة» فن التكرير والمراد به تهويل شأنها وتفخيم لفظاعتها، وقد تقدم بحثه كثيرا. 2- وفي قوله «يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش» تشبيهان رائعان وهو تشبيه مرسل مجمل لأن وجه الشبه حذف ففي الأول وجوه الشبه كثيرة منها: 1- الطيش الذي لحقهم 2- وانتشارهم في الأرض 3- وركوب بعضهم بعضا 4- الكثرة التي لا غناء فيها 5- والضعف والتذلل وإجابة الداعي من كل جهة 6- والتطاير إلى النار للاحتراق من حيث لا تريد الاحتراق. أما تشبيه الجبال بالعهن المنفوش فهو أيضا تشبيه مرسل مجمل، وأوجه الشبه كثيرة أيضا منها: 1- تفتتها وانهيارها 2- وصيرورتها كالعهن 3- ثم صيرورتها كالهباء. وقد تشبث الشعراء بهذه المعاني فقال جرير يهجو الفرزدق: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 565 أبلغ بني وقبان أن حلومهم ... خفّت فما يزنون حبة خردل أزرى بحلمكم الفياش فأنتم ... مثل الفراش غشين نار المصطلي وقال أبو العلاء المعرّي في رثاء والده: فيا ليت شعري هل يخف وقاره ... إذا صار أحد في القيامة كالعهن وهل يرد الحوض الرويّ مبادرا ... مع الناس أم يأبى الزحام فيستأني وأولها: نقمت الرضا حتى على ضاحك المزن ... فلا جادني إلا عبوس من الدّجن وليت فمي إن شاء سنى تبسمي ... فم الطعنة النجلاء تدمى بلا سن 3- وفي قوله «فهو في عيشة راضية» مجاز مرسل لأن الذي يرضى بها الذي يعيش فيها فهو مجاز مرسل علاقته المحلية وقيل راضية بمعنى مرضية، وأول من ألّف في مجازات القرآن في أواخر القرن الثاني الهجري أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه «مجاز القرآن» وقد أشرنا إليه في هذا الكتاب وهو يقدّم لكتابه بمقدمة في بحوث لغوية عامة في القرآن يبدؤها ببحث كلمة قرآن وله رأي خاص في اشتقاق هذه الكلمة ينقله عنه المتأخرون وهو قوله: «إنما سمي قرآنا لأنه يجمع السور فيضمها وتفسير ذلك آية في القرآن قال الله جلّ ثناؤه: إن علينا جمعه وقرآنه» ويستشهد عليه من كلام العرب ويدلف بعد ذلك إلى نص القرآن وما يتضمنه من فنون الكلام منبّها إلى أن القرآن يشابه في نظمه كلام العرب فيقول: «وفي القرآن مثل ما في كلام العرب من وجوه الإعراب والمعاني» ويذكر تلك الوجوه مع أمثلة لها ويتعرض لها بالتفصيل منبّها وبصدد الآية قال «ومن مجاز ما يقع المفعول إلى الفاعل قال: كالذي ينعق بما لا يسمع المعنى على الشاة المنعوق بها وحول على الراعي الذي ينعق بالشاة وقال: كالنهار مبصرا له مجازان أحدهما أن العرب وضعوا أشياء من كلامهم في موضع الفاعل والمعنى أنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 566 مفعول لأنه ظرف يفعل فيه غيره ولأن النهار لا يبصر ولكنه يبصر فيه الذي ينظر وفي القرآن: في عيشة راضية وإنما يرضى بها الذي يعيش فيها» وخلاصة القول في كتاب المجاز أنه كان خطوة في سبيل الكلام في طرق القول أو المجاز بمعناه العام وقد حاول أن يكشف عن بعض ما جاء من ذلك في أسلوب القرآن مع مقارنته بما جاء في الأدب العربي وساعد عليه محصوله الغزير فيه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 567 (102) سورة التكاثر مكيّة وآياتها ثمان [سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) الإعراب: (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) ألهاكم التكاثر فعل ماض ومفعول به مقدّم وفاعل مؤخر والتكاثر التباري في الكثرة والتباهي بها وال في التكاثر للعهد وهو التكاثر في الدنيا ولذاتها وما يبدو فيها من تعاجيب وتهاويل تستهوي الناظر وتخدعه إلى حين، وحتى يجوز أن تكون عاطفة ويجوز أن تكون حرف غاية وجر وعلى كل حال هي بمثابة الغاية للإلهاء وزرتم المقابر فعل ماض وفاعل ومفعول به والمراد بالزيارة التفاخر بالموتى أي أبلغ منكم الطيش والبله حدّا دعاكم إلى زيارة القبور أو أضفتم إلى التكاثر بالأموال زيارة القبور لتتكاثروا بالموتى، ويجوز أن يكون المعنى ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 568 أن متّم وقبرتم وقد أضعتم أعماركم فيما لا طائل تحته وأغفلتم وضيعتم ما هو الأهم والأجدى من السعي لأخراكم فتكون زيارة القبور عبارة عن الموت وتتعين حتى الغائية الجارّة (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) كلا حرف ردع وزجر عن التشاغل عن الطاعات والجنوح إلى الزخارف والظواهر وسوف حرف استقبال وتعلمون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل وثم حرف عطف وسوف تعلمون عطف على الجملة الأولى وجعله ابن مالك من باب التوكيد اللفظي مع توسط حرف العطف وقال الزمخشري: «والتكرير تأكيد للردع والإنذار وثم دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول وأشدّ كما تقول للمنصوح: أقول لك ثم أقول لك لا تفعل» وجواب لو محذوف يعني لو تعلمون ما أمامكم من هول لفعلتم ما لا يمكن وصفه واكتناهه ولكنهم جهلة ضلّال. وتعلمون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والمفعول محذوف تقديره عاقبة التلهّي والتفاخر والتكاثر، وعلم اليقين مصدر قيل وأصله العلم اليقين فهو من باب إضافة الموصوف إلى صفته وعبارة أبي البقاء «وعين اليقين مصدر على المعنى لأن رأى وعاين بمعنى واحد» ولا يصحّ أن يكون قوله لترون هو الجواب لأنه محقق الوقوع فلا يعلق واللام جواب قسم محذوف وترون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال وأصله لترأيون فلما تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفا وحذفت لسكونها وسكون الواو بعدها ثم ألقيت حركة الهمزة التي هي عين الكلمة على الراء وحذفت لثقلها ثم دخلت النون المشددة التي هي للتوكيد فحذفت نون الرفع لتوالي الأمثال كما قدّمنا وحرّكت الواو بالضم لالتقاء الساكنين ولم تحذف لأنها لو حذفت لاختلّ الفعل بحذف عينه ولامه وواو الضمير (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) عطف على ما تقدم وعين اليقين نصب على أنها صفة لمصدر محذوف أي لترونها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 569 رؤية عين اليقين وصفت الرؤية التي هي سبب اليقين بكونها عين اليقين (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) عطف أيضا وتسألن فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال وواو الفاعل حذفت لالتقاء الساكنين والنون نون التوكيد الثقيلة ويومئذ وعن النعيم متعلقان بتسألن فالمبالغات ست ستأتي في باب البلاغة. البلاغة: اشتملت هذه السورة على مبالغة من وجوه ستة نوردها فيما يلي: 1- تكرير الإنذار للدلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول في قوله «ثم كلا سوف تعلمون» . 2- تكرير التنبيه فقال: «لو تعلمون» محذوف الجواب ليذهب الخيال في تقديره كل مذهب وقد أوردناه لك في الإعراب. 3- القسم في قوله «لترون الجحيم» لتوكيد الوعيد. 4- وكرر القسم معطوفا بثم بقوله «ثم لترونها عين اليقين» تغليظا في التهديد، وزيادة في الوعيد. 5- جعل الرؤية «عين اليقين» وخالصته مبالغة خاصة. 6- كرر القسم معطوفا بثم بقوله «ثم لتسألن يومئذ عن النعيم» فإن قلت ما هو النعيم الذي يسأل عنه الإنسان ويعاتب عليه فما من أحد إلا له نعيم؟ قلت: هو نعيم المتبطلين المتبجحين الذين جنحوا إلى اللذات وأوضعوا في الآثام، واستنزفوا أوقاتهم باللهو والطرب ومنادح اللذة لا يبغون عنها بديلا ولا يقدمون شيئا لدنياهم وأخراهم، فأل في النعيم للاستغراق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 570 (103) سورة العصر مكيّة وآياتها ثلاث [سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) اللغة: (الْعَصْرِ) قال في القاموس «العصر مثلثة وبضمتين الدهر والجمع أعصار وعصور وأعصر وعصر والعصر اليوم والليلة والعشي إلى احمرار الشمس ويحرّك والغداة والحبس والرهط والعشيرة والمطر من المعصرات والمنع والعطية، عصره يعصره وبالتحريك الملجأ والمنجاة كالعصر بالضم» إلى آخر هذه المادة الطويلة فإن قلت ما المراد به هنا؟ قال ابن عباس: هو الدهر، أقسم به تعالى لما في مروره من أصناف العجائب وقال قتادة العصر العشي أقسم به كما أقسم بالضحى لما فيهما من دلائل القدرة وقيل العصر اليوم والليلة ومنه قول حميد بن ثور: ولن يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 571 وقال مقاتل العصر الصلاة الوسطى أقسم بها وبهذا القول بدأ الزمخشري قال «لفضلها» قال ابن خالويه: «وقرأ سلام أبو المنذر والعصر بكسر الصاد والراء وهذا إنما يكون في نقل الحركة عند الوقف كقولك مررت ببكر تعلو كسرة الراء إلى الكاف عند الوقف وكذلك يفعلون في المرفوع ولا ينقلون في المنصوب إلا في ضرورة شاعر. قال سيبويه: الوقف على الاسم بستة أشياء: بالإشمام والإشباع، وروم الحركة، ونقل الحركة، والتشديد، والإسكان» ونقول الإشمام ضم الشفتين بعد الإسكان في المرفوع والمضموم للإشارة إلى الحركة من صوت والغرض به الفرق الساكن والمسكن في الوقف، والروم هو أن تأتي بالحركة مع إضعاف صوتها والغرض به هو الغرض بالإشمام إلا أنه أتم في البيان من الإشمام فإنه يدركه الأعمى والبصير والإشمام لا يدركه إلا البصير. (الْإِنْسانَ) لفظ يقع للذكر والأنثى من بني آدم وربما أنّثت العرب فقالوا إنسان وإنسانة قال: إنسانة تسقيك من إنسانها ... خمرا حلالا مقلتاها عنبه وال فيه لاستغراق الجنس فيشمل المؤمن والكافر بدليل الاستثناء. (خُسْرٍ) غبن، والخسر والخسران سواء قال في المصباح: «خسر في تجارته خسارة بالفتح وخسرا وخسرانا ويتعدى بالهمزة فيقال أخسرته فيها وخسر خسرا وخسرانا أيضا: هلك» . الإعراب: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) الواو حرف قسم وجر والعصر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 572 مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف وجملة إن الإنسان إلخ جواب القسم لا محل لها وإن واسمها واللام المزحلقة وفي خسر خبر إن (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) إلا أداة استثناء والذين مستثنى من الإنسان لأنه اسم جنس كما تقدم وجملة آمنوا صلة لا محل لها وعملوا الصالحات عطف على آمنوا وتواصوا بالحق عطف أيضا أي أوصى بعضهم بعضا وهو فعل ماض مبني على الفتح المقدّر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والواو فاعل، وتواصوا بالصبر عطف أيضا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 573 (104) سورة الهمزة مكيّة وآياتها تسع [سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) اللغة: (هُمَزَةٍ) في المختار: «الهمز كاللمز وزنا ومعنى وبابه ضرب» وفيه أيضا «واللمز: العيب وأصله الإشارة بالعين ونحوها وبابه ضرب ونصر» والتاء فيهما للمبالغة في الوصف وقد تقدم أن بناء فعلة بضم الفاء وفتح العين لمبالغة الفاعل أي المكثرة لمأخذ الاشتقاق وبناء فعلة بضم الفاء وسكون العين لمبالغة المفعول يقال: رجل لعنة بضم اللام وفتح العين لمن كان يكثر لعن غيره ولعنة بضم اللام وسكون العين إذا كان ملعونا للناس يكثرون لعنه وعبارة السمين: «والعامة على فتح ميميهما على أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 574 المراد الشخص الذي يكثر منه ذلك الفعل، وقرأ الباقون بالسكون وهو الذي يهمز ويلمز أي يأتي بما يهمز به ويلمز كالضحكة لمن يكثر ضحكه والضحكة لمن يأتي بما يضحك منه وهو مطّرد أعني أن فعله بفتح العين لمن يكثر منه الفعل وبسكونها لمن يكثر الفعل بسببه» . وعبارة ابن خالويه «والهاء في همزة دخلت للمبالغة في الذم كقولهم رجل همزة لمزة أي عياب مغتاب ورجل فروقة صخابة جخّابة: كثير الكلام والخصومات نقّاقة مهذارة هلباجة. قال الأصمعي: سألت أعرابيا عن الهلباجة فقال: هو الطويل الضخم الأحمق الكثير الفضول الكثير الأكل السيّء الأدب وإن وقفت نعتّه إلى غد فليس في العيوب شيء أسوأ من الهلباجة. فلما دخلت الهاء لذلك استوى المذكر والمؤنث فقيل امرأة همزة ورجل همزة وامرأة فروقة ورجل فروقة ولا يثنى ولا يجمع يقال: رجال همزة ونساء همزة، قال النحويون: إذا أدخلوا الهاء في الممدوح ذهبوا به مذهب الداهية ذي الإربة وهو العقل كما قيل رجل علّامة ونسّابة فإذا أدخلوا الهاء في المذموم ذهبوا به مذهب البهيمة ومثله قوله «بل الإنسان على نفسه بصيرة» الهاء للمبالغة ومثله قوله تعالى: ولا تزال تطلع على خائنة منهم، الهاء للمبالغة وأنشد: تدلي بودّي إذا لاقيتني كذبا ... وإن أغيب فأنت الهافر اللمزه فالهافر المغتاب واللامز العيّاب قال الله تعالى: ومنهم من يلمزك في الصدقات، أي يصيبك» والذي استخلصناه من كتب اللغة هو التصريف التالي لكليهما. يقال: همزه يهمزه بضم الميم وبكسرها همزا غمزه وضغطه ونخسه ودفعه وضربه وعضّه واغتابه في غيبته فهو همّاز وهمزة كسرة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 575 وهمز الشيطان الإنسان: همس في قلبه وسواسا وهمز به الأرض صرعه وهمز الفرس: نخسه بالمهماز ليعدو وهمز العنب أو رأسه عصره وهمز الكلمة أو الحرف نطق بها بالهمز أو وضع لها علامة الهمز. ويقال: لمزه يلمزه بضم الميم وبكسرها لمزا: عابه وأشار إليه بعينه ونحوها مع كلام خفي ودفعه وضربه ولمزه الشيب: ظهر فيه وقال سعيد بن جبير: «الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضربهم واللمزة الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم. وقال ابن كيسان: الهمزة الذي يؤذي جليسه بسوء اللفظ واللمزة الذي يكسر عينه ويشير برأسه ويرمز بحاجبه، وهناك أقوال أخرى ترجع كلها إلى أصل واحد وهو الطعن وإظهار العيب. (عَدَّدَهُ) قال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين: «العامة على تثقيل الدال الأولى وهو أيضا للمبالغة وقرأ الحسن والكلبي بتخفيفها فمن شدّد ميمه نظر للمبالغة والتكثير ومن خفف ميمه جعله محتملا للتكثير وعدمه» والمعنى جمعه وضبط عدده وأحصاه. (لَيُنْبَذَنَّ) ليطرحنّ وعبارة ابن خالويه «ومعنى ينبذن يتركن في جهنم قال الله تعالى: فنبذوه وراء ظهورهم أي تركوه والصبيّ المنبوذ المتروك وهو ولد الحركة والمدغدغ وابن الليل وهو ولد الخبيثة وهو النّفل وابن المساعاة كله ولد الزناء. (الْحُطَمَةِ) من أسماء النار أي التي تحطم كل ما ألقي فيها، وفي المختار: «حطمه من باب ضرب أي كسره فانحطم وتحطم والتحطيم التكسير والحطمة من أسماء النار لأنها تحطم ما تلتقم» . (مُؤْصَدَةٌ) مطبقة قال: تحنّ إلى جبال مكة ناقتي ... ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 576 (عَمَدٍ) قرىء بفتحتين وبضمتين وبضم فسكون أما الأولان فهما جمعان لعمود، ففي كتب اللغة: العمود ما يقوم عليه البيت وغيره وقضيب الحديد والجمع أعمدة وعمد وعمد وأما الثالث فهو تخفيف لقراءة عمد بضمتين، وعبارة ابن خالويه: «والعمد جمع عمود ولم يأت في كلام العرب على هذا الوزن إلا أحرف أربعة: أديم وأدم وعمود وعمد وأفيق وأفق وإهاب وأهب، وزاد الفراء خامسا قضيم وقضم يعني الصحكاك والجلود وقرأ أهل الكوفة في عمد بضمتين وهو أيضا جمع عمود مثل رسول ورسل وروى هارون عن أبي عمرو في عمد بسكون الميم تخفيفا مثل رسول ورسل» . الإعراب: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ) ويل مبتدأ ولكل همزة خبره وسوّغ الابتداء به مع أنه نكرة ما تضمنه من معنى الدعاء عليهم بالهلكة، وعبارة ابن خالويه «فإن سأل سائل: فقال: ويل نكرة والنكرة لا يبتدأ بها فما وجه الرفع؟ فقل النكرة إذا قربت من المعرفة صلح الابتداء بها نحو خير من زيد رجل من بني تميم ورجل في الدار قائم وكذلك ألف الاستفهام مسهلة الابتداء بالنكرة نحو قوله أمنطلق أخوك هذا قول، وقال آخرون: ويل معرفة لأنه اسم واد في جهنم نعوذ بالله منه فإن قيل: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقل إن ألفاظ القرآن تجيء لفظا عربيا مستعارا كما سمى الله تعالى الصنم بعلا حيث اتخذ ربا والصنم عذابا ورجزا. فقال: والرجز فاهجر لأن من عبد الصنم أصابه الرجز فسمي باسم مسبّبه فلما كان الويل هلاكا وثبورا ومن دخل النار فقد هلك جاز أن يسمّى المصير إلى الويل ويلا وكذلك فسوف يلقون غيا قيل واد في جهنم نعوذ بالله منه. ويجوز في النحو ويلا لكل همزة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 577 على الدعاء أي ألزمه الله ويلا قال جرير: كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها ... فويلا لتيم من سرابيلها الخضر بالنصب الرواية الصحيحة وأجاز الكوفيون: ويل وويل وويل وويلا على حسم الإضافة على إرادتها والويس كلمة أخف من الويل والويح كلمة أخفّ من الويس والويب كلمة أخف من الويح. ويل لزيد وويله وويحه وويسه ويبه فمتى انفرد جاز فيه الرفع والنصب ومتى أضيف لم يكن إلا منصوبا لأنه يبقى بلا خبر ومتى انفصل جعلت اللام خبرا وقال الحسن: ويح كلمة رحمة فإن قيل: كيف تصرف الفعل من ويح وويس وويل؟ فقل: ما صرّفت العرب منها فعلا، فأما هذا البيت المعمول: فما وال وما واح ... وما واس أبو زيد فلا تلتفتنّ إليه فإنه مصنوع خبيث» ولمزة بدل من همزة وهذه عبارة ابن خالويه «لمزة بدل منه والمهمزة عصا في رأسها حديدة تكون مع الرائض يهمز بها الدابة والجمع مهامز، قال عدي يصف فرسا: نصفه جوزه نصير شواه ... مكرم من مهامز الرّوّاض وأنشد أبو محلّم: هل غير همز ولمز للصديق ولا ... ينكي عدوكم منكم أظافير» وقيل تأكيد لهمزة تأكيدا لفظيا بالمرادف والذي بدل من كل بدل المعرفة من النكرة أو نصب بفعل محذوف على الذم وأعربها ابن خالويه نعتا لكل همزة لمزة وليس ببعيد، وجملة جمع صلة للذي لا محل له وفاعل جمع مستتر تقديره هو يعود على كل همزة لمزة ومالا مفعول به وعدده عطف على جمع وعبارة ابن خالويه «وعدده نسق عليه والمصدر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 578 عدّد يعدّد تعديدا فهو معدّد والهاء مفعول به وقرأ الحسن: جمع مالا وعدّده بالتخفيف أي جمع مالا وعرف عدده وأحصاه فمن خفّف جعل العدد مصدرا واسما ومن شدّد جعله فعلا ماضيا» وهذا قول في معنى التخفيف وقيل وجمع عدد نفسه من عشيرته وأقاربه وعدده وهي على هذا التأويل اسم أيضا معطوف على مالا أي وجمع عدد المال أو عدد نفسه وقيل أيضا إن عدده فعل ماض بمعنى عدّه إلا أنه شذّ في إظهاره والقياس الإدغام كما شذّ الشاعر في قوله: «إني أجود لأقوام وإن ضنّوا» أي بخلوا (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) الجملة حال من فاعل جمع أي حاسبا ظانّا أن المال سيخلده أي يوصله إلى رتبة الخلود فلا يموت ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا واقعا في سؤال كأنه قيل: ما باله يجمع المال ويهتم به، وأن واسمها وجملة أخلده خبرها وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي يحسب وفي المختار: «الخلد بالضم البقاء وبابه دخل وأخلده الله وخلد تخليدا» (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ) كلا ردع وزجر له عن حسبانه أي ليس الأمر كما دار في خلده من أن المال يخلده واللام جواب قسم محذوف وينبذنّ فعل مضارع مبني للمجهول ومبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة ونائب الفاعل مستتر تقديره هو والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وفي الحطمة متعلقان بينبذنّ والواو حرف عطف وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة أدراك جملة فعلية في محل رفع خبر وما اسم استفهام مبتدأ والحطمة خبر والجملة الاسمية المعلقة بالاستفهام سدّت مسدّ مفعول أدراك الثاني وقد تقدمت له نظائر كثيرة ونار الله خبر لمبتدأ محذوف أي هي نار الله والموقدة نعت للنار، وأجاز ابن خالويه أن تكون بدلا من الحطمة والموقدة نعت لنار الله وعبارته: «نار الله الموقدة: إن شئت جعلت النار بدلا وإن شئت رفعتها بخبر مبتدأ مضمر أي هي نار الله واسم الله تعالى جر بالإضافة والموقدة نعت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 579 للنار وزنها مفعلة من أوقدت أوقد إيقادا فأنا موقد والنار موقدة وقد وقدت النار نفسها تقد وقدا ووقودا بضم الواو فهي واقدة قال الله تعالى: وقودها الناس والحجارة، يعني حجارة الكبريت والوقود بالفتح الحطب وقرأ طلحة وقودها بضم الواو جعله مصدرا قال الشاعر- حاتم الطائي-: ليلك يا موقد ليل قرّ ... والريح مع ذلك ريح صرّ أوقد يرى نارك من يمرّ ... إن جلبت ضيفا فأنت حر وهذا أحسن ما قيل في معناه» . (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) التي نعت للنار ويجوز أن تكون في محل رفع أيضا خبرا لمبتدأ محذوف وجملة تطّلع صلة التي لا محل لها وفاعل تطّلع هي يعود على النار وعلى الأفئدة متعلقان بتطّلع ووزن تطّلع تفتعل أبدلت تاء الافتعال طاء لوقوعها بعد طاء وكذلك تبدل طاء إذا وقعت صاد أو ضاد أو ظاء قال عروة بن أدينة: عاود القلب خيال ردعه ... كلما قلت تناهى اطلعه يا له داء ترى صاحبه ... ساهم الوجه له ممتقعه (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) إن واسمها وعليهم متعلقان بمؤصدة وفي عمد صفة لمؤصدة وإليه ذهب أبو البقاء فتكون النار داخل العمد وقيل بمحذوف خبر لمبتدأ مضمر ورجح السمين أن يكون حالا من الضمير في عليهم أي موثقين وممددة نعت للعمد. البلاغة: في قوله «لينبذنّ في الحطمة» بعد «ويل لكل همزة لمزة» مقابلة لفظية رائعة البلاغة فإنه لما وسمه بهذه السمة بصيغة دلّت على أنها راسخة فيه ومتمكنة منه اتبع المبالغة المتكررة في الهمزة واللمزة بوعيده الجزء: 10 ¦ الصفحة: 580 بالنار التي سمّاها الحطمة لما يكابد فيها من هول ويلقى فيها من عذاب واختار في تعيينها صيغة مبالغة على وزن الصيغة التي ضمنها الذنب المقترف حتى يحصل التعادل بين الذنب والجزاء فهذا الذي ضري بالذنب جزاؤه هذه الحطمة التي هي ضارية أيضا تحطم كل ما يلقى فيها، قيل نزلت هذه السورة في الأخنس بن شريق وكان من عادته الغيبة والوقيعة وقيل في أمية بن خلف وقيل في الوليد بن المغيرة واغتيابه لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وغضّه منه ولئن كان السبب خاصّا فإن الوعيد كان عامّا يتناول كلّ من اتّسم بهذه السمة الموهونة ليكون جاريا مجرى التعريض بالوارد فيه فإن ذلك أزجر له وأنكى فيه وقد مرّ بحث التعريض وهو عبارة عن أن يكني الإنسان بشيء عن آخر ولا يصرّح به لئلا يأخذه السامع لنفسه ويعلم المقصود منه كقول القائل ما أقبح البخل فيعلم أنك أردت أن تقول له: أنت بخيل، وكقول بعضهم للآخر: لم تكن أمّي زانية، يعرض بأن أمه زانية. والتعريض على كل حال نوع من الكناية ومن أمثلته الشعرية قول الحجّاج يعرض بمن تقدمه من الأمراء: لست براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 581 (105) سورة الفيل مكيّة وآياتها خمس [سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) اللغة: (الْفِيلِ) حيوان من أضخم الحيوانات له خرطوم طويل يرفع به العلف والماء إلى فمه ويضرب به، ويجمع على أفيال وفيلة وفيول ومؤنثه فيلة، والفيل أيضا: الخسيس الثقيل وداء الفيل مرض يحدث منه غلظ كثيف في القدم والساق تتخلله عجر صغيرة ناتئة، والفيّال صاحب الفيل والجمع فيّالة وفال الرأي وفائله وفيله: ضعيفه والفيالة ضعف الرأي. (تَضْلِيلٍ) ضياع وخسار وهلاك وقيل لامرىء القيس الملك الضليل لأنه ضلّل ملك أبيه أي ضيّعه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 582 (طَيْراً) الطير اسم جنس يذكّر ويؤنّث، وأنشد محمد بن القاسم في تذكير الطير: لقد تركت فؤادك مستهاما ... مطوّقة على فنن تغنّى تميل به وتركبه بلحن ... إذا ما عنّ للمحزون أنا فلا يغررك أيام تولّى ... بذكراها ولا طير أرنّا (أَبابِيلَ) قال ابن خالويه: «أبابيل نعت للطير أي جماعات واحدها إبّول مثل عجّول وعجاجيل، وقال أبو جعفر الرؤاسي: واحدتها إبّيل وقال آخرون: أبابيل لا واحد لها ومثلها أساطير وذهب القوم شماطيط وعبابيد وعباديد كل ذلك لم يسمع واحده وقال آخرون: واحد الأساطير أسطورة والأبيل في غير هذا الراهب والوبيل العصا يقال: رأيت أبيلا أي راهبا متكئا على وبيل يسوق أفيلا. الأفيل ولد الناقة، قال عدي: أبلغ النعمان عنّي مالكا ... قول من خاف اظّنانا واعتذر إنني والله، فاقبل حلفتي ... بأبيل كلما صلّى جأر» وعبارة الزمخشري: «أبابيل: خرائق الواحدة إبّاله وفي أمثالهم: ضغث على إبالة وهي الحزمة الكبيرة شبهت الخرقة من الطير في تضامها بالإبالة وقيل أبابيل مثل عباديد وشماطيط لا واحد لها» وفي القاموس: «وأبابيل فرق جمع بلا واحد والإبالة كإجّانة ويخفف وكسكّيت وعجّول ودينار القطعة من الطير والخيل والإبل أو المتتابعة منها» . (سِجِّيلٍ) طين مطبوخ محرق كالآجر، وعبارة الزمخشري: «وسجيل كأنه علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفّار كما أن سجينا علم لديوان أعمالهم كأنه قيل بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدوّن واشتقاقه من الإسجال وهو الإرسال لأن العذاب موصوف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 583 بذلك، وأرسل عليهم طيرا، فأرسلنا عليهم الطوفان، وعن ابن عباس رضي الله عنهما من طين مطبوخ كما يطبخ الآجر وقيل هو معرب من سنككل وقيل من شديد عذابه ورووا بيت ابن مقبل «ضربا تواصت به الأبطال سجيلا» وإنما هو سجينا والقصيدة نونية مشهورة في ديوانه» قلت وهي قصيدة جيدة وجاء في أولها: طاف الخيال بنا ركبا يمانينا ... ودون ليلى عواد لو تعدينا وإن فينا صبوحا إن رأيت به ... ركبا مهيبا وآلاما هما فينا ورفقة يضربون البيض ضاحية ... ضربا تواصت به الأبطال سجينا وأراد بالخيال طيف محبوبته ليلى وركبا حال من ضمير بنا ويمانين جمع يمان وأصله يماني فهجرت الياء لبقاء الألف الدالّة على النسب والحال إن بيننا وبين ليلى مسافة بعيدة وعوادي عادية ثم التفت إليها وقال لو تعديتها لوجدتها كثيرة مانعة من زيارتك والحال إن فينا فرسانا مستلئمة بأسلحتها واستعار لها الصبوح وهو اسم للخمر وقت الصباح بجامع أن كلّا منها يأتي صباحا وفيه تهكم بأعدائه وركبا وإن رأيت أي إن أردت أن تعلمي به اعتراض حذف جوابه لدلالة الكلام عليه والمهيب اسم مفعول الذي تهابه الناس وتخشاه وألام جمع لأم كشجر وواحده لامة كشجرة وهي درع صغيرة تلبس في الحرب والمراد حقيقتها أو الفرسان اللابسة لها وهما أي الألام والركب فينا، ورفقة عطف على ركبا والبيض كناية عن السيوف وضاحية ظاهرة أي يضربون بها ويجوز قراءته بفتح الباء أي المغافر التي تلبس على الرءوس والمراد بها نفس الرءوس والسجين الشديد الذي يبطل حركة القتيل كأنه من السجن وهو الحبس وهكذا الرواية عن ابن مقبل وبعضهم رواه سجيلا باللام أي شديدا كأنه من التسجيل أي التقوية والتثبيت لكن القصيدة نونية كما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 584 رأيت. وقال البخاري في صحيحه: «سجين وسجيل واللام والنون أختان» ثم روى البيت. أما ابن خالويه فزعم أن السجيل الشديد قال «وقيل حجر وطين والأصل سنك وكل فعرّب» . (عصف) العصف تقدم شرحه وهو ورق الزرع ودقاق التبن. الإعراب: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة وفيما نص عبارة ابن خالويه فهي وافية بالغرض: «وتر وزنه من الفعل تفعل وقد حذف من آخره حرفان: الألف والهمزة فالألف سقطت للجزم وهي لام الفعل مبدلة من ياء والهمزة هي عين الفعل سقطت تخفيفا والأصل تر أي فانقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصارت ألفا لفظا وياء خطا ونقلوا فتحة الهمزة إلى الراء وأسقطوها تخفيفا لأن الماضي من ترى رأيت مهموزا والمصدر من ذلك رأيت زيدا بعيني أراه رؤية فأنا راء ووزان راء فاعل والأصل رائي فاستثقلوا الضمة على الياء المتطرفة فحذفوها فالتقى ساكنان الياء والتنوين فأسقطوا الياء لالتقاء الساكنين فصار راء مثل راع وقاض فالهمزة في راء بإزالة العين في راع فإن شئت أثبته خطا فجعلت بعد الألف ياء عوضا عن الهمزة وإن شئت كتبته بألف ولم تثبت الهمزة لأن الهمزة إذا جاءت بعد الألف تخفى وقفا فحذفوها خطا وكذلك جاء وشاء وساء ومراء جمع مرآة كل ذلك أنت فيه مخيّر في الحذف والإثبات فإذا أمرت من رأيت قلت: ريا زيد براء واحدة فإذا وقفت قلت: ره وإنما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 585 صار الأمر على حرف واحد والأصل ثلاثة لأن الهمزة سقطت تخفيفا والألف سقطت للجزم فبقي الأمر على حرف ومثله مما يعتلّ طرفاه فيبقى الأمر على حرف قول العرب: ع كلامي وش ثوبك وق زيدا ول الأمر وف بالوعد، وأصله من وفى يفي ووعى يعي ووشى يشي وولي يلي فذهبت الياء للجزم والواو لوقوعها بين ياء وكسرة فبقي الأمر على حرف، قال الله تعالى: وقنا عذاب النار والأصل اوقينا ذهبت الياء للجزم والواو لوقوعها بين كسرتين فبقيت قاف واحدة فتقول: ق يا زيد وقيا وقوا، قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم، وكذلك تقول: ريا زيد وريا للاثنين وروا للجماعة وري يا هند وريا مثل المذكرين ورين يا نسوة فإذا وقفت على كل ذلك قلت عه وقه بالهاء لا غير» . وكيف اسم استفهام في محل نصب على المصدرية أو الحالية واختار الأول ابن هشام في المغني قال وعندي بأنها تأتي في هذا النوع مفعولا مطلقا أيضا وإن منه: كيف فعل ربك إذ المعنى «أي فعل فعل ربك ولا يتجه فيه أن يكون حالا من الفاعل» أي وهو ربك لأنه يقتضي أن الفاعل وهو الرب متّصف بالكيفيات والأحوال لأن المعنى فعل ربك حال كونه على أي حالة وكيفية واتصافه بها محال والجملة المعلقة بالاستفهام سدّت مسدّ مفعولي تر لأن الرؤية قلبية تفيد العلم الضروري المساوي في القوة والجلاء للمشاهدة والعيان، وبأصحاب الفيل متعلقان بفعل (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويجعل فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى وكيدهم مفعول به أول وفي تضليل في موضع المفعول الثاني (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) الواو حرف عطف وأرسل عطف على ألم نجعل لأن الاستفهام فيه للتقرير فكان المعنى قد جعل ذلك وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وعليهم متعلقان بأرسل وطيرا مفعول به وأبابيل نعت لطيرا لأنه اسم جمع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 586 (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) الجملة نعت ثان لطيرا وترميهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وبحجارة متعلقان بترميهم ومن سجّيل نعت لحجارة (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) الفاء عاطفة وجعلهم فعل ماض وفاعل مستتر والهاء مفعول به أول وكعصف في موضع المفعول الثاني ومأكول نعت لعصف. الفوائد: قصة أصحاب الفيل من القصص العربي الممتاز وهي مطوّلة ذكرها أهل التفسير والسير مطوّلة ومختصرة وخلاصتها أن النجاشي ملك الحبشة وهو أصحمة جدّ النجاشي الذي آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلم كان بعث أبرهة أميرا على اليمن فأقام به واستقامت له الكلمة هناك وبنى كنيسة ليصرف إليها الحجاج من مكة فأحدث رجل من كنانة فيها فحلف أبرهة ليهدمنّ الكعبة فجاء مكة بجيشه على أفيال فحين توجهوا لهدم الكعبة أرسل الله عليهم ما قصته، وارجع إلى المطولات وكان ذلك عام مولد النبي صلّى الله عليه وسلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 587 (106) سورة قريش مكيّة وآياتها أربع [سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) الإعراب: (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) اضطربت أقوال المعربين والمفسرين في متعلق هذه اللام التي هي مستهل السورة اضطرابا شديدا لا نملك معه إمكانية البتّ في القول الحاسم ولكننا سنختار ما جنحنا إليه ثم نورد لك بعض أقوال المعربين لأنهم أفرغوا كل طاقاتهم العلمية وملكاتهم الذهنية في توجيه هذا المتعلق، فنقول: لإيلاف متعلق بقوله فيما بعد فليعبدوا كأنه قال: فإن لم يعبدوا الله لسائر نعمه السابغة المترادفة فليعبدوه لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف وهي نعمة سابغة أتاحت لهم الاتجار وضمنت لهم ميسور الرزق. وإيلاف مصدر آلف رباعيا بوزن أكرم يقال آلفته أولفه إيلافا، وكانت لقريش رحلتان يرحلون في الشتاء إلى اليمن وفي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 588 الصيف إلى الشام فيمتارون ويتجرون وكانوا في رحلتيهم آمنين لأنهم أهل حرم الله وسدنة بيته فيهابهم الناس ولا يتعرض لهم أحد بينما كان المتجرون وأرباب القوافل يستهدفون للمخاطر ويتخطفهم الناس. تقول آلفت المكان أولفه إيلافا إذا ألفته فأنا مولف قال: شددت إليك الرحيل فوق شملة ... من المؤلفات الرهو غير الأوارك والشملال بالتشديد الناقة الخفيفة السريعة السير أي شددت الرحل فوق ناقة سريعة السير ذاهبا إليك وتلك الناقة من النوق المؤلفات المعتادات الرهو أي السير السهل المستقيم، ويروى الزهو بالزاي وهو سيرها بعد ورودها الماء والأوارك جمع آركة وهي المقيمات موضع الأراك ترعاه أو ترعى نبتا آخر يقال له الحمض أي ليست ناقتي كذلك بل هي معلوفة ومعدّة للسفر، وينسب هذا القول الذي اخترناه إلى الخليل بن أحمد وناهيك به، وأورده الزمخشري فيما أورده من أوجه وبدأ به ولكن يرد عليه إشكال وهو دخول الفاء على فليعبدوا قال الزمخشري: «فإن قلت: «فلم دخلت الفاء؟ قلت لما في الكلام من معنى الشرط لأن المعنى إما لا فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة» . وبدأ الشهاب السمين بقوله: «في متعلق هذه الآية أوجه: أحدها أنه ما في السورة قبلها من قوله فجعلهم كعصف مأكول قال الزمخشري وهذا بمنزلة التضمين في الشعر وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقا لا يصحّ إلا به وهما في مصحف أبيّ سورة واحدة بلا فصل وعن عمر أنه قرأهما في الركعة الثانية من المغرب وقرأ في الأولى بسورة والتين، وإلى هذا ذهب أبو الحسن الأخفش إلا أن الحوفي قال: وردّ هذا القول جماعة بأنه لو كان كذلك لكان لإيلاف بعض سورة ألم تر، وفي إجماع الجميع على الفصل بينهما ما يدل على عدم ذلك» وأقول: لقد اتفق علماء البلاغة ونقّاد الشعر القدامى على أن التضمين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 589 من عيوب الشعر فكيف تحمل القراءة عليه وأسلوب القرآن أبلغ من أن يتسامى إليه النقد والتجريح، وقيل هي متعلقة بأعجبوا محذوفا وقد يكون في هذا الرأي مندوحة عن التقدير والتأويل هذا وكما اختلف المعربون في الإعراب اختلف القرّاء في القراءات مما يرجع إليه في المطولات. أما ابن خالويه فقد قال «وهو مصدر آلف يؤلف إيلافا فهو مؤلف مثل آمن يؤمن إيمانا فهو مؤمن ومن قرأ إلفهم جعله مصدرا لألف يألف إلفا فهو آلف مثل علم يعلم علما فهو عالم والأمر من الممدود آلف يا زيد ومن المقصور إيلف يا زيد، واختلف العلماء في لإيلاف فقال قوم هي وألم تر سورة واحدة، منهم الفراء وسفيان بن عيينة قالا: والتقدير فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش فعلى هذا تكون اللام لام الخفض متصلة ب ألم تر وقال الخليل والبصريون: اللام لام الإضافة متصلة ب فليعبدوا والتقدير: فليعبدوا رب هذا البيت لأن منّ عليهم بإيلاف قريش وصرف عنهم شرّ أصحاب الفيل، وحدّثني ابن مجاهد عن السّمّري عن الفراء قال: يجوز أن تكون اللام لام التعجب كأنه قال: أعجبنا محمد لإيلاف قريش كما قال الشاعر- النابغة الذبياني-: أتخذل ناصري وتعزّ عبسا ... أيربوع بن غيظ للمعنّي معناه أعجبوا للمعنّي» . وقريش مضاف إليه وهي قبيلة تمتّ إلى النضر بن كنانة سمّوا بتصغير القرش وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن ولا تطاق إلا بالنار، وعن معاوية أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما: بم سمّيت قريش قال بدابة البحر تأكل ولا تؤكل وتعلو ولا تعلى وأنشد: وقريش هي التي تسكن البح ... ر بها سمّيت قريش قريشا تأكل الغثّ والسمين ولا تت ... رك يوم لذي جناحين ريشا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 590 ولهم آخر الزمان نبي ... يكثر القتل فيهم والخموشا وقال ابن خالويه: وقيل سمّوا قريشا بتقارش الرماح. والتصغير للتعظيم وقيل من القرش وهو الكسب لأنهم كانوا يكتسبون بتجارتهم وضربهم في البلاد، وقد صرفت قريش لأنه أريد بها الحي ولو أريد القبيلة لامتنعت من الصرف، قال سيبويه في معد وثقيف وقريش وكنانة هذه للأحياء أكثر وإن جعلتها أسماء للقبائل فهو جائز وحسن (إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) إيلافهم بدل من لإيلاف بدل مقيد من مطلق أطلق الإيلاف في الأول وقيده في الثاني برحلتي الشتاء والصيف تفخيما لأمر الإيلاف وتعظيما له وتذكيرا بسوابغ النعم والهاء مضاف إليه ورحلة الشتاء والصيف مفعول به لإيلافهم لأنه مصدرَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) الفاء الفصيحة لأنها وقعت في جواب شرط مقدّر واللام لام الأمر ويعبدوا فعل مضارع مجزوم باللام والواو فاعل ورب مفعول به وهذا مضاف إليه والبيت بدل من هذا وأعربها ابن خالويه نعتا ولست أحب ذلك وإن قاله النحاة ولكني أرى أن الجامد بعد اسم الإشارة لا يسوغ إعرابه نعتا مطلقا فالأحسن أن يكون المشتق نعتا والجامد بدلا (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) الذي نعت لرب أو بدل منه وجملة أطعمهم صلة لا محل لها ومن جوع متعلق بأطعمهم ومن تعليلية أي أنعم عليهم وأطعمهم لإزالة الجوع عنهم فلا بدّ من تقدير مضاف أي من أجله، وكذلك آمنهم من خوف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 591 (107) سورة الماعون مكيّة وآياتها سبع [سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) اللغة: (يَدُعُّ) يدفع بعنف وجفوة وفي المختار: «دعّ من باب رد» قال ابن دريد: دعّه ودحّه بمعنى واحد وامرأة دعوع ودحوح وأنشد: قبيح بالعجوز إذا تغدّت ... من البرنيّ واللبن الصريح بتغّيها الرجال وفي صلاها ... مواقع كل فيشلة دحوح وأنشد ثعلب عن ابن الأعراب ي: قد أغتدي والليل في حريمه ... معسكرا في الغرّ من نجومه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 592 والصبح قد نسّم في أديمه ... يدعّه بضفّتي حيزومه دعّ الربيب لحيتي يتيمه (الْماعُونَ) في المختار: «الماعون اسم جامع لمنافع البيت كالقدر والفأس ونحوهما» وعبارة ابن خالويه: «والماعون: الطاعة والماعون الزكاة والماعون الماء والماعون الحال والماعون الدلو والقداحة والفأس والنار والملح وما أشبه ذلك من المحلّات، وإنما سمّيت المحلات ماعونا لأن المسافر إذا كانت معه هذه الأشياء حلّ حيث شاء قال الراعي: قوم على الإسلام لما يمنعوا ... ماعونهم ويضيعوا التهليلا» الإعراب: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) الهمزة للاستفهام وهي مع رأيت بمعنى أخبرني وقد تقدم ذلك كثيرا ويجوز أن تكون الرؤية قلبية فتتعدى لمفعولين أحدهما الموصول والثاني محذوف والمعنى هل عرفت الذي يكذب بالدين من هو وقيل الرؤية بصرية فلا حاجة إلى تقدير مفعول به (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) الفاء الفصيحة لأنها جواب شرط مقدّر والتقدير إن لم تعرفه فذلك، وقدّره السمين «إن طلبت علمه فذلك» وذلك مبتدأ والذي خبره وجملة يدعّ اليتيم صلة، ومن الغريب أن ابن خالويه أعرب الذي نعتا لذلك ولم يشر إلى الخبر مطلقا مع أنه قال إن ذلك مبتدأ، وهناك أقوال وأعاريب أخرى ذكرها المفسرون طوينا عنها صفحا لأنها مجرد تكلف (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) الواو عاطفة ولا نافية ويحضّ فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو أي الذي يدع اليتيم وعلى طعام المسكين متعلقان بيحضّ (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) الفاء الفصيحة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 593 أيضا أي إذا علمت أنه متّصف بهذه الصفات فويل أو فإذا كان الأمر كذلك فويل وهذا أولى من قول السمين إنها للسببية وقد فسّره بقوله: «والفاء للسببية أي إن الدعاء عليهم بالويل متسبّب عن هذه الصفات الذميمة» وويل مبتدأ وللمصلين خبره (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) الذين نعت للمصلّين وهم مبتدأ وعن صلاتهم متعلق بساهون والجملة الاسمية لا محل لها لأنها صلة الذين. ونستبعد قول من تأولوا السهو عن الصلاة في الآية بأنه سهو في الصلاة، فليس السهو فيها بخطيئة ولا منكر ينذر معه الساهي بويل وكل مؤمن عرضة لأن يسهو في صلاته فينجبر هذا السهو فيها بسجود السهو أو بالسنن والنوافل على ما هو مقرر في الفقه (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) الذين بدل من الذين الأولى وهم مبتدأ وجملة يراءون خبر والجملة صلة الذين وجملة يمنعون الماعون عطف على يراءون داخلة في حيّز الصلة ومفعول يمنعون الأول محذوف أي الناس أو الطالبين والماعون مفعوله الثاني. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 594 (108) سورة الكوثر مكيّة وآياتها ثلاث [سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) اللغة: (الْكَوْثَرَ) في القاموس: «والكوثر الكثير من كل شيء والكثير الملتف من الغبار والإسلام والنبوّة وقرية بالطائف كان الحجاج معلما بها والرجل الخير المعطاء كالكثير كصيقل والسيد والنهر ونهر في الجنة تتفجر منه جميع أنهارها» وعبارة الزمخشري: «والكوثر فوعل من الكثرة قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر بم آب ابنك؟ قالت آب بكوثر وقال: وأنت كثير يا ابن مروان طيب ... وكان أبوك ابن العقائل كوثرا» والبيت للكميت والعقائل خيار النساء والكوثر بليغ النهاية في الخير. وعبارة ابن خالويه: «والكوثر نهر في الجنة حافتاه الذهب وحصباؤه المرجان والدرّ وحاله المسك يعني الحمأة وماؤه أشد بياضا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 595 من الثلج وأحلى من العسل من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا وقيل الكوثر الخير الكثير ومنه القرآن وهو فوعل من الكثرة والواو زائدة مثل كوسج ونوفل، والكوثر في غير هذا الرجل السخي قال الشاعر: وأنت كثير يا ابن مروان (البيت) » وأورد القرطبي للكوثر ستة عشر قولا في الكوثر وقال وأصحّها الأول يعني أنه نهر في الجنة لأنه ثابت عن النبي صلّى الله عليه وسلم نصا. (شانِئَكَ) مبغضك وفي المصباح «شنئه كسمعه ومنعه شنئا مثل فلس وشنآنا بفتح النون وسكونها أبغضه والفاعل شانىء في المذكر وشانئة في المؤنث وشنئت بالأمر اعترفت به» وقال ابن خالويه: «الشانئ: المبغض قال الأعشى: ومن شانىء كاسف وجهه ... إذا ما انتسبت له أنكرن» (الْأَبْتَرُ) هو الذي لا عقب له وهو في الأصل الشيء المقطوع من بتره أي قطعه وحمار أبتر لا ذنب له ورجل أباتر بضم الهمزة أي قاطع رحمه، وعبارة ابن خالويه: «معناه إن مبغضك يا محمد هو الأبتر أي لا ولد له والأبتر الحقير والأبتر الذليل والأبتر من الحيات المقطوع الذنب والأبتر ذنب الفيل، كانت قريش والشانئون لرسول الله صلّى الله عليه وسلم يقولون: إن محمدا صنبور أي فرد لا ولد له فإذا مات انقطع ذكره فأكذبهم الله تعالى وأعلمهم أن ذكر محمد مقرون بذكره إلى يوم القيامة إذا قال المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله قال: أشهد أن محمدا رسول الله. والصنبور النخلة تبقى منفردة ويدق أسفلها، قال: ولقي رجل رجلا فسأله عن نخلة فقال صنبر أسفله وعشش أعلاه، والصنبور أيضا ما في فم الإداوة من حديد أو رصاص، والصنبور الصبي الصغير، قال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 596 أوس بن حجر: مخلّفون ويقضي الناس أمرهم ... غشّ الأمانة صنبور فصنبور» وفي المختار: «بتره قبل التمام وبابه نصر والانبتار الانقطاع والأبتر المقطوع الذنب وبابه طرب والأبتر أيضا الذي لا عقب له وكل أمر انقطع من الخير أثره فهو أبتر» . الإعراب: (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) إن واسمها وجملة أعطيناك خبرها وفي قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم إنّا أنطيناك بالنون قال التبريزي هي لغة للعرب العاربة وقال في الحديث «وأنطوا الثبجة» محركة المتوسطة بين الخيار والرذال والكوثر مفعول به ثان والفاء حرف عطف للتعقيب وصل فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله مستتر تقديره أنت ولربك متعلقان بصل ووضع الظاهر موضع المضمر وكان المقتضى أن يقول فصل لنا ولكنه انتقل من المضمر إلى المظهر على سبيل الالتفات اهتماما بذكر ربك وتعظيما له، وانحر عطف على صل أي صل صلاة عيد النحر وهذا يقتضي أن تكون السورة مدنيّة لا مكيّة وقيل الأمر عام في كل صلاة ونحر (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) الجملة مستأنفة مؤكدة وإن واسمها وهو مبتدأ ثان أو ضمير فصل والأبتر خبر هو والجملة خبر إن أو الأبتر خبر إن، ولا أدري كيف أجاز أبو البقاء أن يعرب هو تأكيدا لأن المظهر لا يؤكد بالمضمر وعبارة ابن هشام «ووهم أبو البقاء فأجاز في إن شانئك هو الأبتر التوكيد، وقد يريد أنه توكيد لضمير مستتر في شانئك لا لنفس شانئك، وذلك لأن شانىء اسم فاعل بمعنى مبغض. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 597 البلاغة: 1- في قوله تعالى: «إنّا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر» فن المذهب الكلامي وقد تقدمت الإشارة إليه كما تقدم أن منه نوعا منطقيا تستنتج فيه النتائج الصحيحة من المقدمات الصادقة، فإن هاتين الآيتين تضمنتا نتيجة من مقدمتين صادقتين، وبيان ذلك أنّا نقول: إن عطية الكوثر تعدل جميع العطيات وإنما قلنا ذلك لأن الشكر على مقادير النعم، وقد أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بأن يقابل هذه النعمة بجميع العبادات البدنية والمالية شكرا عليها، والصلاة جامعة لجميع العبادات فهي تعدل جميع العطيات وإنما قلنا إن المأمور به جميع العبادات البدنية لجمعها بين القيام والقعود والركوع والسجود وقراءة القرآن والأذكار والصمت عن غير ذلك من الكلام وتحريم الطعام والشراب والبقاء على الطهارة الكاملة والخضوع والخشوع والدعاء والابتهال، يحرم فيها ما يحرم على الصائم من الأكل والشرب والجماع والرفث وجميع الحركات والسكنات الخارجة عنها فهي جامعة لفضيلتي الصلاة والصيام وأعمال الظاهر وأعمال الباطن، ثم أمر عليه الصلاة والسلام مع الصلاة بالنحر ولا يخلو من أن يراد به الحج الجامع بين العبادتين أو يراد مطلق النحر الذي يدخل تحته نحر الهدي في الحج والنحر للضيفان وافتقاد الجيران والإطعام في الأزمات، فقد تبين أنه سبحانه أمر رسوله صلّى الله عليه وسلم بجميع العبادات شكرا على عطية الكوثر فدلّ ذلك على أن عطية الكوثر تعدل جميع العطيات وإنما كانت لهذه العطية هذه المزية لكونه صلّى الله عليه وسلم أعطي بها الفضل والفخر على جميع الأنبياء صلوات الله عليهم حيث تسأل الأمم أنبياءهم في الشفاعة لهم ليرووا من العطش الأكبر فيعتذرون عن ذلك بما ورد عنهم في حديث الشفاعة الصحيح المشهور فلا تجد جميع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 598 الأمم حينئذ من يشفع لها ولا يسقيها سوى محمد صلّى الله عليه وسلم. فالحظ ما تضمنته هاتان الآيتان على قصرهما من الإشارة التي دلّت بألفاظها القليلة على معان لو عبّر عنها بألفاظها الموضوعة لها بطريق البسط لملأت الصحائف والأجلاد. 2- وفي قوله «فصل لربك» التفات من التكلّم إلى الغيبة، والأصل فصّل لنا ولكنه عدل عن ذلك لأن في لفظ الرب حثّا على فعل المأمور به لأن من يربيك يستحق العبادة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 599 (109) سورة الكافرون مكيّة وآياتها ستّ [سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) الإعراب: (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) قال رهط من المشركين للنبي صلّى الله عليه وسلم: هلمّ فلتعبد ما نعبد ونعبد ما تعبد ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا كنّا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما بيدك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه فأنزلها الله عزّ وجلّ. وقل فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت ويا حرف نداء للمتوسط وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب وها للتنبيه والكافرون بدل من أي أو نعت لها، قال ابن خالويه: «فإن سأل سائل فقال: التنبيه يدخل قبل الاسم المبهم نحو هذا فلم دخل هاهنا بعد أي؟ فقال: لأن أيا تضاف إلى ما بعدها فلولا أن التنبيه فصل بين الكافرين وأي لذهب الوهم إلى أنه مضاف» (لا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 600 أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) لا نافية وأعبد فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا وما موصول بمعنى الذي في محل نصب مفعول به وجملة تعبدون صلة لا محل لها والعائد محذوف أي تعبدونه ويجوز أن تكون مصدرية فتكون مؤولة مع ما بعدها بمصدر مفعول مطلق (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) الواو عاطفة ولا نافية وأنتم مبتدأ وعابدون خبر وما اسم موصول ووقعت للعقلاء على سبيل التعظيم مفعول به وجملة أعبد صلة أو ما مصدرية فتكون مع ما في حيّزها مفعولا مطلقا (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) عطف أيضا ويتحصل مما أورده المعربون في ما أنها بمعنى الذي فإن ان المراد بها الأصنام كما في الأولى والثالثة فالأمر واضح لأنهم غير عقلاء وما أصلها أن تكون لغير العقلاء وإذا أريد بها البارئ تعالى كما في الثانية والرابعة فاستدل به من جوّز وقوعها على أولي العلم ومن منع جعلها مصدرية والتقدير ولا أنتم عابدون عبادتي وقال أبو مسلم: «ما في الأوليين بمعنى الذين والمقصود المعبود وما في الأخريين مصدرية أي لا أعبد عبادتكم المبنية على الشك وترك النظر ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي المبنية على اليقين فتحصل من مجموع ذلك ثلاثة أقوال: 1- أنها كلها بمعنى الذي 2- أنها كلها مصدرية 3- أو الأوليان بمعنى الذي والأخريان مصدريتان، ولقائل أن يقول لو قيل بأن الأولى والثالثة بمعنى الذي والثانية والرابعة مصدرية لكان حسنا حتى لا يلزم وقوع ما على أولي العلم. وسيأتي معنى التكرار في باب البلاغة (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) لكم خبر مقدّم ودينكم مبتدأ مؤخر ولي دين عطف على ما تقدم. البلاغة: اختلف علماء البلاغة والنحو: هل التكرار في هذه السورة للتأكيد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 601 أم لا وإذا لم يكن للتأكيد فبأي طريق حصلت المغايرة حتى انتفى التأكيد، وسنورد أقوالهم مع إلماع لا بدّ منه إليها. 1- فقال جماعة: التكرار للتأكيد فقوله: ولا أنا عابد ما عبدتم تأكيد لقوله: لا أعبد ما تعبدون، وقوله: ولا أنتم عابدون ما أعبد، تأكيد لقوله: ولا أنتم عابدون ما أعبد، ومثله: فبأي آلاء ربكما تكذبان، وويل يومئذ للمكذبين، وكلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون، وكلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون، وفائدة هذا التأكيد هنا قطع أطماع الكفار وتحقيق الإخبار بموافاتهم الكفر وأنهم لا يسلمون أبدا. 2- وقال جماعة: ليس التكرار للتوكيد، قال الأخفش: «لا أعبد الساعة ما تعبدون ولا أنتم عابدون الساعة ما أعبد ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد فزال التوكيد وحصل التأسيس حيث تقيدت كل جملة بزمان غير الزمان الآخر» وفي هذا القول نظر كيف يقيد رسول الله صلّى الله عليه وسلم نفي عبادته لما يعبدون، هذا مما لا يصحّ. 3- وقال ابن عطية: «لما كان قوله لا أعبد محتملا أن يراد به الآن ويبقى المستقبل منتظرا ما يكون فيه جاء البيان بقوله: ولا أنا عابد ما عبدتم أي أبدا ثم جاء قوله ولا أنتم عابدون ما أعبد الثاني حتما عليهم أنهم لا يؤمنون أبدا فهذا معنى الترديد في هذه السورة وهو بارع الفصاحة وليس بتكرار فقط بل فيه ما ذكرته» . 4- وقال الزمخشري: لا أعبد أريد به العبادة فيما يستقبل لأن «لا» لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الاستقبال كما أن «ما» لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الحال والمعنى لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلبه منكم من عبادة إلهي ولا أنا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 602 عابد ما عبدتم أي وما كنت قطّ عابدا فيما سلف ما عبدتم فيه يعني ما عهد منّي قطّ عبادة صنم في الجاهلية فكيف يرجى منّي في الإسلام، ولا أنتم عابدون ما أعبد أي وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته الآن. 5- وقال أبو حيان: والذي اختاره في هذه الجمل أنه نفى عبادته في المستقبل لأن الغالب في «لا» أن تنفي المستقبل ثم عطف عليه: ولا أنتم عابدون ما أعبد، نفيا للمستقبل على سبيل المقابلة ثم قال: ولا أنا عابد ما عبدتم نفيا للحال لأن اسم الفاعل العامل الحقيقة فيه دلالته على الحال ثم عطف عليه ولا أنتم عابدون ما أعبد نفيا للحال على سبيل المقابلة فانتظم المعنى أنه عليه الصلاة والسلام لا يعبد ما يعبدون حالا ولا مستقبلا وهم كذلك إذ ختم الله موافاتهم على الكفر، ولما قال: لا أعبد ما تعبدون وأطلق على الأصنام ما قابل الكلام بما في قوله ما أعبد وإن كان المراد بها الله تعالى لأن المقابلة يسوغ فيها ما لا يسوغ في الانفراد وهذا على مذهب من يقول إن ما لا تقع على آحاد أولي العلم أما من يجوّز ذلك وهو سيبويه فلا يحتاج إلى الاعتذار بالتقابل. 6- وقال القرطبي: «وقيل هذا أي التكرار مطابقة لقولهم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك فنجري على هذا أبدا سنة وسنة فأجيبوا عن كل ما قالوه بضده أي إن هذا لا يكون أبدا، وقال ابن عباس قالت قريش للنبي صلّى الله عليه وسلم نحن نعطيك من المال ما تكون به أغنى رجل بمكة ونزوّجك من شئت ونطأ عقبك أي نمشي خلفك وتكفّ عن شتم آلهتنا فإن لم تفعل فنحن نعرض عليك خصلة واحدة وهي لنا ولك صلاح تعبد آلهتنا اللّات والعزّى سنة ونحن نعبد إلهك سنة ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك فنجري على هذا أبدا سنة وسنة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 603 فنزلت السورة فكان التكرار في لا أعبد ما تعبدون لأن القوم كرروا مقالتهم مرة بعد مرة» . 7- وقال ابن الأثير في مثله السائر: «وقد ظن قوم أن هذه الآية تكرير لا فائدة فيه وليس الأمر كذلك فإن معنى قوله لا أعبد يعني في المستقبل من عبادة آلهتكم ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلبه منكم من عبادة إلهي ولا أنا عابد ما عبدتم أي وما كنت عابدا قطّ فيما سلف ما عبدتم فيه يعني أنه لم يعهد منّي عبادة صنم في الجاهلية في وقت ما فكيف يرجى ذلك منّي في الإسلام ولا أنتم عابدون في الماضي في وقت ما ما أنا على عبادته الآن» وهذا ترديد لما قاله الزمخشري بنصّه وفصه. 8- وقال ابن خالويه: «فإن سأل سائل فقال: ما وجه التكرير في هذه السورة فقل معناه أن قوما من كفّار قريش صاروا إلى النبي فقالوا أنت سيد بني هاشم وابن ساداتهم ولا ينبغي أن تسفّه أحلام قومك ولكن نعبد نحن ربك سنة وتعبد أنت آلهتنا سنة فأنزل قل يا أيّها الكافرون إلخ فإن قال قائل: فقد كان فيهم من أسلم بعد ذلك الوقت فلم قيل: ولا أنتم عابدون؟ فالجواب في ذلك أن هذا نزل في قوم بأعيانهم ماتوا على الكفر وعلم الله تعالى ذلك منهم فأخبر أنهم لا يؤمنون أبدا كما قال تعالى: سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون في قوم بأعيانهم وقد نفعت الموعظة قوما وفيه جواب آخر: أن يكون الخطاب عاما ويراد به الخاص لمن لا يؤمن وإن كان فيهم من قد آمن» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 604 (110) سورة النصر مدنيّة وآياتها ثلاث [سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) الإعراب: (إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) إذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بسبّح الذي هو جوابها وجملة جاء في محل جر بإضافة الظرف إليها ونصر الله فاعل جاء والفتح عطف على نصر والمصدر مضاف لفاعله ومفعوله محذوف أي إياك والمؤمنين. وقال أبو حيان: ولا يصح إعمال فسبّح في إذا لأجل الفاء لأن الفاء في جواب الشرط لا يتسلط الفعل الذي بعدها على اسم الشرط، فلا يعمل فيه بل العامل في إذا الفعل الذي بعدها على الصحيح (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً) الواو عاطفة ورأيت الناس فعل ماض وفاعل ومفعول به والرؤية يجوز أن تكون بصرية فتكون جملة يدخلون حالية ويجوز أن تكون علمية فتكون الجملة مفعولا به ثانيا لرأيت وفي دين الله متعلقان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 605 بيدخلون وأفواجا حال من الواو في يدخلون وهو جمع فوج بسكون الواو وقد تقدم شرحها (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) الفاء رابطة لجواب الشرط وسبّح فعل أمر وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره أنت وبحمد ربك حال، وقد اختلف في الباء فقيل: للمصاحبة والحمد مضاف للمفعول أي فسبّحه حامدا له أي نزهه عمّا لا يليق به وأثبت له ما يليق به فهي داخلة في حيّز الأمر، فإن قلت من أين يلزم بالحمد وهو إنما وقع حالا مقيدة للتسبيح ولا يلزم من الأمر بالشيء الأمر بحاله المقيد له وأجيب بأنه إنما يلزم ذلك إذا لم يكن الحال من نوع الفعل المأمور به ولا من فعل الشخص المأمور نحو اضرب هندا ضاحكة وإلا لزم نحو ادخل مكة محرما فهي مأمور بها وهنا من هذا القبيل وقيل للاستعانة والحمد مضاف إلى الفاعل أي سبّحه بما حمد به نفسه كقوله الحمد لله. واستغفره: الواو حرف عطف واستغفره فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وجملة إنه كان توّابا تعليلية وإن واسمها وجملة كان خبرها وتوّابا خبر كان. البلاغة: في قوله «إذا جاء نصر الله والفتح» استعارة مكنية تبعية شبّه المقدور وهو النصر والفتح بكائن حيّ يمشي متوجها من الأزل إلى وقته المحتوم، فشبّه الحصول بالمجيء وحذف المشبّه به وأخذ شيئا من خصائصه وهو المجيء. هذا وقد أورد الإمام الرازي فصلا ممتعا نورده لك فيما يلي لنفاسته وفائدته، قال: «اتفق الصحابة على أن هذه السورة دلّت على نعي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وذلك لوجوه: أولا: أنهم عرفوا ذلك لما خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 606 عقب السورة وذكر التخيير وهو قوله صلّى الله عليه وسلم في خطبته لما نزلت هذه السورة: إن عبدا خيّره الله تعالى بين الدنيا وبين لقائه فاختار لقاء الله تعالى فقال أبو بكر فدنياك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا. ثانيها: أنه لما ذكر حصور النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجا دلّ ذلك على حصول الكمال، والتمام يعقبه الزوال والنقصان كما قيل: إذا تمّ أمر بدا نقصه ... توقع زوالا إذا قيل تم ثالثها: أنه تعالى أمره بالتسبيح والحمد والاستغفار واشتغاله بذلك يمنعه من اشتغاله بأمر الأمة فكان هذا كالتنبيه على أن أمر التبليغ قد تمّ وكمل وذلك يقتضي إنجاز الأجل إذ لو بقي صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك لكان كالمعزول من الرسالة وذلك غير جائز» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 607 (111) سورة المسد مكيّة وآياتها خمس [سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) اللغة: (تَبَّتْ) خسرت قال الزمخشري «والتباب الهلاك ومنه قولهم: أشابة أم تابة أي هالكة من الهرم والتعجيز والمعنى هلكت يداه لأنه فيما يروى أخذ حجرا ليرمي به رسول الله صلّى الله عليه وسلم» وعبارة ابن خالويه «ومعناه خسرت يداه والمصدر تبّ يتبّ تبّا فهو تاب والمفعول به متبوب والأمر تبّ وإن شئت كسرت وللمرأة تبي وتبا وأتبين لما خرج التضعيف سكن أول الفعل فجئت بألف الوصل ويقال امرأة تابّه أي عجوز قد هلك شبابها والتباب الهلاك، قال الله: وما كيد فرعون إلا في تباب، قال عدي: اذهبي إنّ كل دنيا ضلال ... والأمانيّ عقرها للتباب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 608 لا يروقنك صائر لفناه ... كل دنيا مصيرها للتراب وقال جرير: عرادة من بقية قوم لوط ... ألا تبّا لما عملوا تبابا وقال كعب بن مالك يمدح النبي صلّى الله عليه وسلم: الحق منطقه والعدل سيرته ... فمن يعنه عليه ينج من تبب والتاء الثانية تاء التأنيث لأن اليد مؤنثة ومعن تبّت يداه أي تب هو لأن العرب تنسب الشدة والقوة والأفعال إلى اليدين إذ كان بهما يقع كل الأفعال» . (سَيَصْلى) أي يحترق بها وصلي من باب تعب، وعبارة ابن خالويه جيدة وهي: «ويقال: صليت الشاة إذا شويتها فأنا صال والشاة مصلية ومن ذلك حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه أهديت إليه شاة مصلية، وأجاز الفراء شاة مصلاة لأنك تقول أصليتها أيضا ويقال للشّواء: الصّلاء والمضهّب والرّشراش والرّوذق والمشنّط والمرموض والرّميض والمحنوذ والحنيذ والسّويد أو الشويذ والمحسوس والمحاش والسحساح والأنيض والمفلّس والمخدّع كله الشواء» . (جِيدِها) الجيد: العنق وجمعه أجياد والجيد بفتح الياء طول العنق. (مَسَدٍ) المسد الذي فتل من الحبال فتلا شديدا من ليف كان أو جلد أو غيرهما، وفي القاموس: «المسد بسكون السين مصدر بمعنى الفتل وبفتحها المحور من الحديد أو حبل من ليف أو كل حبل محكم الفتل والجمع مساد وأمساد يقال مسد حبله يمسده مسدا من باب نصر أي أجاد فتله» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 609 الإعراب: (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) تبت فعل ماض والتاء للتأنيث ويدا أبي لهب فاعل وتب عطف على تبت أي وكان ذلك وحصل كقوله: جزاني جزاه الله شرّ جزائه ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل والجملة دعائية لا محل لها، روي في الصحيحين وغيرهما واللفظ لمسلم عن ابن عباس قال: لما نزلت: وأنذر عشيرتك الأقربين خرج صلّى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف يا صباحاه فقالوا من هذا الذي يهتف؟ قالوا محمد فاجتمعوا إليه فقال: يا بني فلان يا بني عبد مناف يا بني عبد المطلب فاجتمعوا إليه فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح الجبل أكنتم مصدقيّ؟ قالوا ما جربنا عليك كذبا قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك ما جمعتنا إلا لهذا ثم قام فنزلت السورة، وقال الزمخشري: «فإن قلت: لم كناه والكنية تكرمة؟ قلت: فيه ثلاثة أوجه أحدها أن يكون مشتهرا بالكنية دون الاسم فقد يكون الرجل معروفا بأحدهما ولذلك تجري الكنية على الاسم والاسم على الكنية عطف بيان فلما أريد تشهيره بدعوة السوء وأن تبقى سمة له ذكر الأشهر من علميه ويؤيد ذلك قراءة من قرأ يدا أبو لهب كما قيل علي بن أبو طالب ومعاوية بن أبو سفيان لئلا يغيّر منه شيء فيشكل على السامع» إلى أن يقول: «والثاني أنه كان اسمه عبد العزّى فعدل عنه إلى كنيته والثالث أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب وافقت حاله كنيته فكان جديرا بأن يذكر بها، ويقال أبو لهب كما يقال أبو الشر للشرير وأبو الخير للخيّر وكما كنّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبا المهلب أبا صفرة بصفرة كانت في وجهه وقيل كني بذلك لتلهب وجنتيه وإشراقهما فيجوز أن يذكر ذلك تهكما به وبافتخاره بذلك» (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) ما يجوز فيها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 610 النفي والاستفهام وعلى الثاني تكون منصوبة المحل بما بعدها والتقدير أي شيء أغنى عنه المال ومن الغريب أن ابن خالويه أعربها رفعا على الابتداء، وعنه متعلقان بأغنى وماله فاعل والواو حرف عطف وما يجوز فيها أن تكون مصدرية أو موصولة بمعنى كسبه أو مكسوبه ويجوز أن تكون استفهامية منصوبة المحل بما بعدها أي أيّ شيء كسب؟ وعبارة ابن هشام «تحتمل ما الأولى النافية أي لم يغن والاستفهامية فتكون مفعولا مطلقا التقدير أي إغناء أغنى عنه ماله ويضعف كونه مبتدأ» (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) السين حرف استقبال ويصلى فعل مضارع وفاعله هو أي أبو لهب ونارا مفعول به وذات لهب نعت لنارا لأنها مآل كنيته ومثابتها (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) وامرأته عطف على ضمير يصلى سوغه الفصل بالمفعول وصفته وهي أم جميل أخت أبي سفيان بن حرب وكانت عوراء وماتت مخنوقة بحبلها، قالوا: «كانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعدان فتنثرها بالليل في طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقيل كانت تمشي بالنميمة ويقال للمشاء بالنمائم المفسد بين الناس يحمل الحطب بينهم أي يوقد النائرة بينهم ويؤرث الشر، قال: من البيض لم تصطد على ظهر لأمة ... ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب وجعل الحطب رطبا ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشر، وحمّالة الحطب قرىء بالنصب على الشتم، قال الزمخشري: «وأنا أستحب هذه القراءة» وقرىء بالرفع على النعت لامرأته وجاز ذلك لأن الإضافة حقيقته إذ المراد المضي أو على أنها بدل لأنها تشبه الجوامد بسبب تمحض الإضافة أو على أنها خبر لمبتدأ محذوف، وقال ابن خالويه: «وفي حرف ابن مسعود مريئته مصغرا والعرب تقول هذه مرأتي وامرأتي وزوجي وزوجتي وحنّتي وطلّتي وشاعتي وإزاري ومحل إزاري الجزء: 10 ¦ الصفحة: 611 وفضلتي وحرثي، قال الشاعر: إذا أكل الجراد حروث قوم ... فحرثي همّه أكل الجراد وتسمى المرأة بينا والعرب تكنّي عن المرأة باللؤلؤة والبيضة والسّرحة والأثلة والنخلة والشاة والبقرة والنعجة والودعة والعيبة والقوارير والرّبض والفراش والريحانة والظبية والدّمية وهي الصورة والنعل والغلّ والقباء والجارة والمزخّة والقومدّة، وكنى الفرزدق عن المرأة بالجفن فجعلها جفنا لسلاحه، وكانت ماتت وهي حبلى فقال: وجفن سلاح قد رزئت ولم أنح ... عليه ولم أبعث عليه البواكيا وفي جوفه من دارم ذو حفيظة ... لو أن المنايا أنسأته لياليا وكنى عنها آخر بموضع السرج من الفرس فقال يخاطب امرأته: فإما زال سرج عن معدّ ... فأجدر بالحوادث أن تكونا يقول: ربما متّ فزلت عنك فانظري كيف تكونين بعدي» . وفي جيدها خبر مقدّم وحبل مبتدأ مؤخر ومن مسد نعت لحبل. البلاغة: في قوله «في جيدها حبل من مسد» فن التهكم وقد تقدم ذكره، فقد صوّرها تصويرا فيه منتهى الخسّة والقماءة، والمعنى في جيدها حبل من مسد: من الحبال وأنها تحمل تلك الحزمة وتربطها في جيدها تخسيسا لحالها وتصويرا لها بصورة بعض الحطابات من المواهن جمع ماهن وهي الخادم لتمتعض من ذلك ويمتعض زوجها وهما في بيت العز والشرف وفي منصب الثروة والجدّة، وقد تعلق الشعراء بأذيال هذه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 612 السخرية فعيّر أحدهم الفضل بن العباس، ابن عتبة بن أبي لهب بحمالة الحطب فقال: ماذا أردت إلى شتمي ومنقصتي ... أم ما تعير من حمّالة الحطب غراء شادخة في المجد عزّتها ... كانت سليلة شيخ ثاقب الحسب والغراء البيضاء، والشادخة المتسعة وذلك مجاز عن الظهور وارتفاع المقدار، والسليلة من سلّ من غيره، والمراد بالشيخ أبوها حرب لأنها أم جميل أخت أبي سفيان بن حرب. وقيل حمل الحطب حقيقة وقيل مجاز عن إثارة الفتنة لأنها كانت نمّامة. وإلى شتمي متعلق بمحذوف أو بأردت على طريق التضمين أي أيّ شيء أردته مائلا أنت إلى شتمي أو منضما هو إلى شتمي أو ما الذي أردته من شتمي أو مع شتمي هل أردت أنك شريف لا عيب فيك ويجوز أن إلى بمعنى من كما قال النحاة ويمكن أنها للمصاحبة كما قالوا أيضا في قوله تعالى: ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم. وتعير أصله تتعير فحذف منه إحدى التاءين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 613 (112) سورة الإخلاص مكيّة وآياتها أربع [سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) اللغة: (أَحَدٌ) تقدم القول فيه ونضيف إليه ما أورده ابن خالويه وهو كلام لطيف قال: «والأصل في أحد وحد أي واحد فانقلبت الواو ألفا وليس في كلام العرب واو قلبت همزة وهي مفتوحة إلا حرفان أحد وقولهم امرأة أناة أي رزان لأن الواو إنما تستثقل عليها الكسرة والضمة فأما الفتحة فلا تستثقل وهذان الحرفان شاذّان وزاد ابن دريد ثالثا: إن المال إذا زكّي ذهبت أبلته أي وبلته» قلت: قال أبو عبيدة أراد وبلته أي فساده وثقله من قولهم كلأ وبيل أي لا يمرىء الراعية ثم قال: «وزاد محمد بن القاسم رابعا: واحد آلاء الله ألى والأصل ولى من أولاه الله معروفا فإن جمعت بين واوين قلبتها همزة وإن كان مفتوحة مثل قولك في فوعل من وعد أوعد وكان الأصل ووعد فقلبوا الأولى همزة كراهية لاجتماع واوين» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 614 (الصَّمَدُ) المقصود في الحوائج فهو فعل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى المقبوض وقيل الصمد هو الذي لا جوف له وفي القاموس: «والصمد بالتحريك السيد لأنه يقصد والدائم» وعبارة ابن خالويه «واختلف الناس في تفسير الصمد فأجود ما قيل في الصمد: السيد الذي قد انتهى سؤدده ويصمد إليه الناس في حوائجهم فهو قصد الناس والخلائق مفتقرون إلى رحمته وأنشد: ألا بكر الناعي بخيري بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصّمد وقال آخرون: الصمد الذي لا يطعم والصمد الذي لا يخرج منه شيء: من كان ذا خوف يخاف من الردى ... فإن خوفي صمد مصمت والصمد الباقي بعد فناء خلقه» وفي البخاري: «باب قوله «الله الصمد» والعرب تسمّي أشرافها الصمد قال أبو وائل: هو السيد الذي انتهى سؤدده» وفي العيني: أشار بهذا إلى أن المعنى الصمد عند العرب الشرف ولهذا يسمّون رؤساءهم الأشراف بالصمد، وعن ابن عباس: هو السيد الذي قد تكمل بأنواع الشرف والسؤدد وقيل هو السيد المقصود في الحوائج. (كُفُواً) وكفيئا على وزن فعيل وكفاء بالكسر على وزن فعال بمعنى واحد والكفء المثل والنظير وقال أبو حيان: بضم الكاف وكسرها وفتحها مع سكون الفاء وبضم الكاف مع ضم الفاء وقرأ حمزة وحفص بضم الكاف وهمز حمزة وأبدلها حفص واوا وباقي السبعة بضمها والهمز، وسهّل الهمزة الأعرج وأبو جعفر وشيبة ونافع وفي رواية عن نافع كفاء بكسر الكاف وفتح الفاء والمد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 615 الإعراب: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت يا محمد وهو فيه وجهان: 1- أنه ضمير الشأن لأنه موضع تعظيم كأنه قيل الشأن هو وهو أن الله واحد لا ثاني له والجملة بعده خبر مفسّرة له 2- أنه ضمير عائد على ما يفهم من السياق لأنه يروى في الأسباب التي دعت إلى نزولها أنهم قالوا صف لنا ربك وانسبه وقيل قالوا له أمن نحاس هو أم من حديد فنزلت وحينئذ يجوز أن يكون الله مبتدأ وأحد خبره والجملة خبر الأول ويجوز أن يكون أحد خبر مبتدأ محذوف أي هو أحد، وعبارة الزمخشري «هو ضمير الشأن كقولك هو زيد منطلق كأنه قيل: الشأن هذا وهو أن الله واحد لا ثاني له فإن قلت ما محل هو؟ قلت الرفع على الابتداء والخبر الجملة فإن قلت فالجملة الواقعة خبرا لا بدّ فيها من راجع إلى المبتدأ فأين الراجع قلت: حكم هذه الجملة حكم المفرد في قولك زيد غلامك في أنه هو المبتدأ في المعنى وذلك أن قوله الله أحد هو الشأن الذي هو عبارة عنه وليس كذلك زيد أبوه منطلق فإن زيدا والجملة يدلّان على معنيين مختلفين فلا بدّ مما يصل إليهما» وأحد بدل من قوله الله أو على هو أحد أو خبر ثان (اللَّهُ الصَّمَدُ) مبتدأ وخبر (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ارتبطت هذه الجمل الثلاث بالواو دون الثلاث الأولى لأن قوله الله الصمد محقق ومقرر لما قبله وكذلك ترك العطف في قوله لم يلد لأنه مؤكد للصمدية لأن الغنى عن كل شيء المحتاج إليه كل ما سواه لا يكون والدا ولا مولودا، وقد أشار صاحب الجوهر المكنون إلى مواضع الفصل بقوله: الفصل ترك عطف جملة أتت ... من بعد أخرى عكس وصل قد ثبت فافصل لدى التوكيد والإبدال ... لنكتة ونيّة السؤال وعدم التشريك في حكم جرى ... أو اختلاف طلبا وخبرا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 616 وفقد جامع ومع إيهام ... عطف سوى المقصود في الكلام ووصل بين الثلاث المتأخرة لأنها سيقت لغرض ومعنى واحد وهو نفي المماثلة والمناسبة عنه تعالى بوجه من الوجوه، قال صاحب الجوهر المكنون: وصل لدى التشريك في الإعراب ... وقصد رفع اللّبس في الجواب وفي اتفاق مع الاتصال ... في عقل أو في وهم أو خيال ولم حرف نفي وقلب وجزم ويلد فعل مضارع مجزوم بلم، ولم يولد عطف عليه، ولم عطف ويكن فعل مضارع مجزوم بلم وله حال أو متعلقان بكفوا وكفوا خبر يكن المقدم وأحد اسمها المؤخر، وفيما يلي مناظرة ممتعة بين الزمخشري وأبي حيان حول تقديم له، قال الزمخشري: «فإن قلت الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم وقد نصّ سيبويه على ذلك في كتابه فما باله مقدما في أفصح الكلام وأعربه قلت: هذا الكلام إنما سيق لنفي المكافأة عن ذات البارئ سبحانه وتعالى وهذا المعنى مصبه ومركزه هو هذا الظرف فكان لذلك أهم شيء وأغناه، وأحقّه بالتقديم وأحراه» وقال أبو حيان: «هذه الجملة ليست من هذا الباب وذلك أن قوله ولم يكن له كفوا أحد ليس الجار والمجرور فيه تاما إنما هو ناقص لا يصلح أن يكون خبرا لكان بل هو متعلق بكفوا وقدم عليه فالتقدير ولم يكن أحد كفوا له أي مكافئه فهو في معنى المفعول متعلق بكفوا وتقدم على كفوا للاهتمام به إذ فيه ضمير البارئ سبحانه وتوسط الخبر وإن كان الأصل التأخير لأن تأخر الاسم هو فاصلة فحسن ذلك وعلى هذا الذي قررنا يبطل إعراب مكّي وغيره أن له الخبر وكفوا حال من أحد لأنه ظرف ناقص لا يصلح أن يكون خبرا ويبطل سؤال الزمخشري وجوابه وسيبويه إنما تكلم في الظرف الذي يصلح أن يكون خبرا ويصلح أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 617 يكون غير خبر، قال سيبويه: وتقول ما كان فيها أحد خير منك وما كان أحد مثلك فيها وليس فيها أحد خير منك إذا جعلت فيها مستقرا ولم تجعله على قولك زيد قائم أجريت الصفة على الاسم فإن جعلته على فيها زيد قائم نصبت فتقول ما كان فيها أحد خيرا منك وما كان أحد خيرا منك فيها إلا أنك إذا أردت الإلغاء فكلما أخّرت الملغى كان أحسن وإذا أردت أن يكون مستقرا فكلما قدّمته كان أحسن والتقديم والتأخير والإلغاء والاستقرار عربي جيد كثير قال تعالى «ولم يكن له كفوا أحد» وقال الشاعر: «ما دام فيهنّ فصيل حيّا» انتهى، وما نقلناه ملخصا هو بألفاظ سيبويه فأنت ترى كلامه وتمثيله بالظرف الذي يصلح أن يكون خبرا، ومعنى قوله مستقرا أي خبرا للمبتدأ ولكان، فإن قلت فقد مثّل بالآية الكريمة قلت: هذا الذي أوقع مكيا والزمخشري وغيرهما فيما وقعوا فيه وإنما أراد سيبويه أن الظرف التام وهو في قوله: ما دام فيهنّ فصيل حيّا أجري فضلة لا خبرا كما أن له في الآية أجري فضلة فجعل الظرف القابل أن يكون خبرا كالظرف الناقص في كونه لم يستعمل خبرا ولا يشك من له ذهن صحيح أنه لا ينعقد من قوله: ولم يكن له أحد بل لو تأخر كفوا وارتفع على الصفة وجعل له خبرا لم ينعقد منه كلام بل أنت ترى أن النفي لم يتسلط إلا على الخبر الذي هو كفوا وله متعلق به والمعنى ولم يكن له أحد مكافئه» هذا وقد أورد ابن المنير بهذا الصدد نكتة عن سيبويه تدل على ألمعية هذا الرجل وثقوب ذهنه قال: «نقل عن سيبويه أن سمع بعض الجفاة من العرب يقرأ ولم يكن أحد كفوا له وجرى هذا الجلف على عادته فجفا طبعه عن لطف المعنى الذي لأجله اقتضى تقديم الظرف مع الخبر على الاسم وذلك أن الغرض الذي سيقت له الآية نفي المكافأة والمساواة عن ذات الله تعالى فكان تقديم المكافأة المقصود بأن يسلب عنه أولى ثم لما قدّمت لتسلب ذكر معها الظرف ليبيّن الذات المقدسة بسلب المكافأة» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 618 البلاغة: وأبرز ما تتميز به سورة الإخلاص هو الإيجاز وقد تقدمت أمثلة منه وسنحاول الآن جلاء الأغراض الكامنة في إيجازها وحصر متنها وتقارب طرفيها، وسنحاول أن نبسط ذلك بسطا يوضّح المقصود ويدرك به الهدف المنشود: 1- اشتملت هذه السورة على اسمين من أسماء الله تعالى يتضمنان جميع أوصاف الكمال وهما الأحد والصمد لأنهما يدلان على أحدية الذات المقدسة الموصوفة بجميع أوصاف الكمال وبيان ذلك أن الأحد يشعر بوجوده الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره والصمد يشعر بجميع أوصاف الكمال لأنه الذي انتهى إليه سؤدده فكان مرجع الطلب منه وإليه ولا يتم ذلك على وجه التحقيق إلا لمن حاز جميع صفات الكمال وذلك لا يصلح إلا لله تعالى. 2- تضمنت توجيه الاعتقاد وصدق المعرفة وما يجب إثباته لله من الأحدية المنافية لمطلق الشركة والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال الذي لا يلحقه نقص. 3- نفي الولد والوالد المقرر لكمال المعنى. 4- نفي الكفء المتضمن لنفي الشبيه والنظير. 5- قالوا: سورة الإخلاص ثلث القرآن لأن القرآن خبر وإنشاء والإنشاء أمر ونهي وإباحة والخبر خبر عن الخالق وخبر عن خلقه فأخلصت سورة الإخلاص الخبر عن الله وخلصت قارئها من الشرك الاعتقادي. 6- كثرت أسماؤها وزيادة الأسماء تدل على شرف المسمى وهذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 619 جدول بأسمائها العشرين مع شرح سريع لكل اسم: 1- الإخلاص: وقد تقدم معناه وأنها أخلصت الخبر عن الله وخلصت قارئها من الشرك. 2- التنزيل: لأنها أدّت أكمل الأغراض بتنزيلها. 3- التجريد: لأنها تجرد قارئها من الشرك وبواعثه ومن تعلق بها تجرد عن الانحياز. 4- التوحيد: لاحتوائها على صفات الله تعالى وعدله وتوحيده، وعلم التوحيد من الله بمكان وكيف لا يكون كذلك والعلم تابع للمعلوم يشرف بشرفه ويتضع بضعته، ومعلوم هذا العلم هو الله تعالى وصفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز وناهيك بشرف منزلته وجلالة محله وإنافته على كل علم واستيلائه على قصب السبق. 5- النجاة: لأنها تنجي قائلها من النار. 6- الولاية: لأن من تعلق بها أعطاه الله الولاية. 7- الجمال: لدلالتها على جمال الله تعالى أي اتصافه بالكمالات وتنزيهه عن النقائص. 8- المعرفة: لأن من فهمها وسبر أغوارها عرف الله تعالى حق المعرفة. 9- المقشقشة: من قشقشه من الجرب أو الجدري أبرأه فبرىء وسمّيت بذلك لأنها تبرئ قارئها من الأوضار ومن جميع دواعي الشرك والنفاق. 10- المعوذة: لأنها تحصن قارئها من فتن الدنيا والآخرة. 11- الصمد: وقد تقدم القول فيه مطولا. 12- النسبة: لقول المشركين انسب لنا ربك. 13- الأساس: لأنها أصل الدين وعماده. 14- المانعة: لأنها تمنع فتنة القبر وعذاب النار. 15- المحتضر: لأن الملائكة تحضر لاستماعها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 620 16- المنفرة: لأن الشياطين تنفر عند قراءتها. 17- البراءة: لأنها براءة من الشرك. 18- المذكرة: لأنها تذكر العبد خالص التوجيه. 19- النور: لأنها تنوّر القلب. 20- الإنسان: لأنه لا غنى للإنسان عنها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 621 (113) سورة الفلق مكيّة وآياتها خمس [سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) اللغة: (الْفَلَقِ) : الصبح قال الزمخشري: «الفلق والفرق: الصبح لأن الليل يفلق عنه ويفرق فعل بمعنى مفعول يقال في المثل: هو أبين من فلق الصبح ومن فرق الصبح ومنه قولهم سطح الفرقان إذا طلع الفجر» وقال الشاعر: يا ليلة لم أنمها بتّ مرتقبا ... أرعى النجوم إلى أن قدر الفلق وقال آخر يصف الثور الوحشي: حتى إذا ما انجلى عن وجهه فلق ... هاديه في أخريات الليل منتصب وهناك أقوال أخرى في المراد به يرجع فيها إلى المطولات، والأول أولى ولهذا ضربنا صفحا عنها. (غاسِقٍ) الغاسق: الليل إذا اعتكر ظلامه قال الشاعر: يا طيف هند لقد أبقيت لي أرقا ... إذ جئتنا طارقا والليل قد غسقا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 622 (وَقَبَ) دخل ظلامه كل شيء ويقال وقبت الشمس إذا غابت وفي الحديث «لما رأى الشمس قد وقبت» قال هذا حين حلّها يعني صلاة المغرب وهناك أقوال أخرى ليس هذا موضعها. (النَّفَّاثاتِ) السواحر اللواتي تنفث في العقد التي تعقدها والنفث كما في المختار «شبيه بالنفخ وهو أقل من التفل وقد نفث الراقي من باب ضرب ونصر والنفاثات في العقد السواحر» وسيأتي المزيد من معناها في باب الفوائد. الإعراب: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وجملة أعوذ مقول القول وأعوذ فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا وبرب الفلق متعلقان بأعوذ ومن شر متعلقان بأعوذ وما اسم موصول مضاف إليه وجملة خلق صلة والعائد محذوف أي خلقه ويجوز أن تكون مصدرية (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) عطف على ما تقدم وإذا ظرف لمجرد الظرفية وجملة وقب في محل جر بإضافة الظرف إليها (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) عطف على ما تقدم أيضا وفي العقد متعلقان بالنفاثات (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) عطف على ما تقدم وإعرابه ظاهر. الفوائد: عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه للتعميم والتخصيص، فكل نفاثة شريرة أما الحسد فمنه المحمود ومنه المذموم، قال صلى الله عليه وسلم لا حسد إلا في اثنتين وقال أبو تمام «إن العلا حسن في مثلها الحسد» وقال «وما حاسد في المكرمات بحاسد» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 623 (114) سورة النّاس مكيّة وآياتها ستّ [سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) اللغة: (الْوَسْواسِ) اسم بمعنى الوسوسة، كالزلزال بمعنى الزلزلة وأما المصدر فوسواس بالكسر كزلزال والمراد به الشيطان سمّي بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه لأنه صنعته وشغله وأريد ذو الوسواس. وفي المصباح أنه يطلق أيضا على ما يخطر بالقلب من الشر وكلّ ما لا خير فيه. وفي المختار: حديث النفس يقال: وسوست إليه نفسه وسوسة ووسواسا بالكسر والوسواس بالفتح الاسم. (الْخَنَّاسِ) في المختار «خنس عنه تأخر وبابه دخل وأخنسه غيره الجزء: 10 ¦ الصفحة: 624 أي خلفه ومضى عنه، والخناس الشيطان لأنه يخنس إذا ذكر الله عزّ وجلّ» . قال في أساس البلاغة: «خنس الرجل من بين القوم خنوسا إذا تأخر واختفى وخنّسته أنا وأخنسته وأشار بأربع وخنس إبهامه ومنه الخناس وفي الحديث: «الشيطان يوسوس إلى العبد فإذا ذكر الله خنس» وفي أنفه خنس وهو انخفاض القصبة وعرض الأرنبة. والبقر خنس» . الإعراب: «قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس» قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وجملة أعوذ مقول القول وأعوذ فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر تقديره أنا وبرب الناس متعلقان بأعوذ وملك الناس وإله الناس بدلان أو صفتان أو عطفا بيان، وكرّر الإضافة فيهما زيادة للبيان. قال في الكشاف: «فإن قلت: فهلّا اكتفى بإظهار المضاف إليه الذي هو الناس مرة واحدة قلت: لأن عطف البيان للبيان، فكان مظنّة للاظهار دون الإضمار» (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ) جار ومجرور متعلقان بأعوذ والوسواس مضاف إليه والخناس صفة (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) الذي نعت لوسواس قال في الكشاف: «يجوز في محله الحركات الثلاث فالجرّ على الصفة والرفع والنصب على الشتم» ويوسوس فعل مضارع وفي صدور الناس متعلقان بيوسوس (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) بيان للذي يوسوس فمن بيانيّة، ويصحّ كونها ابتدائية متعلقة بيوسوس أي يوسوس في صدورهم من جهة الجنة ومن جهة الناس. ويصحّ كونها تبعيضية أي كائنا من الجنة والناس. وفي الخطيب قيل أنه بيان للناس الذي هو في صدورهم فقد قيل إن إبليس يوسوس في صدور الجن كما يوسوس في صدور الناس. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 625 الفوائد: 1- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد أنزلت عليّ سورتان ما أنزل مثلهما وإنك لن تقرأ سورتين أحبّ ولا أرضى عند الله منهما، يعني المعوّذتين ويقال للمعوذتين المقشقشتان. 2- أجمع جميع القرّاء في هذه السورة على إسقاط الألف من ملك بخلاف الفاتحة فاختلفوا فيها كما تقدّم. 3- روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه فنفث فيهما وقرأ قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس ثم مسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما رأسه ووجهه وما أقبل من جسده. يصنع ذلك ثلاث مرات. انتهى المجلد العاشر من كتاب إعراب القرآن الكريم وبيانه وبتمامه يتمّ الكتاب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 626